نهاية الحكمة - ج ٢

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

نهاية الحكمة - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-470-624-0
الصفحات: ٣٣٦

وما أوردناه من البيان يجري في العقول المجرّدة أيضا.

فإن قلت : ما سلكتموه من الطريق لإثبات القدرة للواجب تعالى خلو عن إثبات الإرادة بما هي إرادة له ، والّذي ذكروه في تعريف القدرة ب «أنّها كون الشيء بحيث إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل» (١) يتضمّن إثبات الإرادة صفة ذاتيّة للواجب مقوّمة للقدرة ، غير أنّهم (٢) فسّروا الإرادة الواجبيّة ب «أنّها علم بالنظام الأصلح» (٣).

قلت : ما ذكروه في معنى القدرة يرجع إلى ما أوردناه في معناها المتضمّن للقيود الثلاثة : المبدئيّة والعلم والاختيار. فما ذكروه في معنى قدرته تعالى حقّ. وإنّما الشأن كلّ الشأن في أخذهم علمه تعالى مصداقا للإرادة (٤) ، ولا سبيل إلى إثبات ذلك ، فهو أشبه بالتسمية (٥).

__________________

ـ وعلم بالأصلح ـ أي بالشيء بما يترتّب عليه من المصلحة الّتي هي غاية وجوده ـ ويتحصّل به أنّ قدرته كون ذاته مبدأ لكلّ خير ومصلحة ، غير أنّ المصلحة المترتّبة خارجا على الفعل لا تكون غاية لذاته المتعالية وداعيا ذا دخل في فاعليّته ، بل هي المصلحة الّتي في علمه الّذي هو عين ذاته ، ولا معنى لجعل هذا العلم تابعا للمعلوم الخارجيّ ، وهو ظاهر. على أنّ مصلحة الفعل وجهة خيريّته مترتّبة على الفعل المترتّب على مبدئيّته الفاعليّة ، فلا تكون مؤثّرة فيها قاهرة عليها ، ولا قاهر أيضا غيرها ، فهو تعالى مختار على الإطلاق.

هذا ملخّص القول في التفسيرين ، وقد استبان أنّ القدرة على كلا التعريفين إطلاق الفاعل وعدم تقيّده بإيجاب يلحق به من ناحية الفعل أو الترك». إنتهى كلامه ملخّصا.

(١) راجع الأسفار ٦ : ٣٠٧ و ٤ : ١١٢ ، وشرح المنظومة : ١٧٧.

(٢) أي : الحكماء.

(٣) راجع الأسفار ٤ : ١١٤ ، والتعليقات للشيخ : ١٦ ـ ١٧.

(٤) بل صرّح بعضهم بوحدتهما مفهوما في الواجب تعالى ، كما قال الشيخ الرئيس : «ليست الإرادة مغايرة الذات لعلمه ولا مغايرة المفهوم لعلمه». راجع الفصل السابع من المقالة الثالثة من إلهيّات الشفاء.

(٥) وذلك لأنّه إن كان المراد من قولهم : «إنّ إرادته تعالى علمه» أنّ مصداق إرادته ليس إلّا مصداق علمه وكان كلّ منهما عين الآخر مصداقا فهذا وإن كان حقّا إلّا أنّه لا ينحصر في إرادته وعلمه ، بل جميع صفاته الكماليّة واحد مصداقا ، لاتّحادها مع الذات مصداقا ، ـ

٢٦١

فإن قلت : من الجائز أن يكون لوجود واحد مّا بحسب نشأته المختلفة ماهيّات مختلفة ومراتب متفاوتة ، كالعلم الّذي إذا تعلّق بالخارج منّا هو كيف نفسانيّ ، وإذا تعلّق بنفوسنا جوهر نفسانيّ ، وعلم العقل بذاته جوهر عقليّ وعلم الواجب بذاته واجب بالذات وعلم الممكن بذاته ممكن بالذات ، فكون الإرادة الّتي فينا كيفا نفسانيّا لا يدفع كون إرادة الواجب لفعله هو علمه الذاتيّ.

ثمّ إنّ من المسلّم أنّ الفاعل المختار لا يفعل ما يفعل إلّا بإرادة ومشيئة (١) ، والواجب تعالى فاعل مختار فله إرادة لفعله ، لكنّ الإرادة الّتي فينا ـ وهي الكيف النفسانيّ ـ غير متحقّقة هناك ، وليس هناك إلّا العلم وما يلزمه من الاختيار ، فعلمه تعالى هو إرادته ، فهو تعالى مريد بما أنّه عالم بعلمه الّذي هو عين ذاته.

قلت : الّذي نتسلّمه أنّ الفاعل المختار من الحيوان لا يفعل ما يفعل إلّا عن علم بمصلحة الفعل وإرادة بمعنى الكيف النفسانيّ ، وأنّ الواجب تعالى لا يفعل ما يفعل إلّا عن علم بمصلحة الفعل. وأمّا أنّ هذا العلم ـ الّذي هناك ـ وجوده وجود الإرادة والمشيئة (٢) وإن لم تكن ماهيّته هي الكيف النفسانيّ فغير مسلّم. نعم ، لنا أن ننتزع الإرادة من مقام الفعل كسائر الصفات الفعليّة ، كما تقدّمت الإشارة إليه في البحث عن صفات الفعل (٣) وسيجيء (٤).

وبالجملة : لا دليل على صدق مفهوم الإرادة على علم الواجب تعالى بالنظام

__________________

ـ فلا وجه لاختصاص هذا الاتّحاد بالإرادة والعلم. وإن كان المراد منه أنّ مفهوم الإرادة في الواجب عين مفهوم العلم فيه ، فيرد عليه أنّ مفهوم الإرادة غير مفهوم العلم ولو جرّدنا الإرادة من شوائب النقص ، كما أنّ مفاهيم غيرهما من الصفات متغايرة ، كيف ولو لم يتغاير مفهوم الإرادة مع مفهوم العلم فيه تعالى للزم أن يفهم من قولنا : «الله عالم» ما يفهم بعينه من قولنا : «الله مريد» ، لكن التالي باطل ـ أي : لم يفهم من الجملة الاولى ما يفهم من الثانية ـ فالمقدّم ـ وهو اتّحادهما مفهوما ـ مثله.

(١) وفي النسخ : «مشيّة» والصحيح ما أثبتناه.

(٢) وفي النسخ : «مشيّة» والصحيح ما أثبتناه.

(٣) راجع آخر الفصل العاشر من هذه المرحلة.

(٤) راجع آخر هذا الفصل.

٢٦٢

الأصلح ، فإنّ المراد بمفهومها إمّا هو الّذي عندنا فهو كيفيّة نفسانيّة مغايرة للعلم ، وإمّا مفهوم آخر يقبل الصدق على العلم بأنّ الفعل خير ، فلا نعرف للإرادة مفهوما كذلك ، ولذا قدّمنا (١) أنّ القول بأنّ علم الواجب تعالى بالنظام الأحسن إرادة منه (٢) أشبه بالتسمية (٣).

ولا ينبغي أن يقاس الإرادة بالعلم الّذي يقال إنّه كيفيّة نفسانيّة ، ثمّ يجرّد عن الماهيّة ويجعل حيثيّة وجوديّة عامّة موجودة للواجب تعالى وصفا ذاتيّا هو عين الذات. وذلك لأنّا ولو سلّمنا أنّ بعض مصاديق العلم ـ وهو العلم الحصوليّ ـ كيف نفسانيّ فبعض آخر من مصاديقه ـ وهو العلم الحضوريّ ـ جوهر أو غير ذلك ، وقد تحقّق أنّ المفهوم الصادق على أكثر من مقولة واحدة وصف وجوديّ غير مندرج تحت مقولة منتزع عن الوجود بما هو وجود ، فللعلم معنى جامع يهدي إليه التحليل وهو حضور شيء لشيء.

فإن قلت : لو كانت الإرادة لا يعرف لها معنى إلّا الكيفيّة النفسانيّة الّتي في الحيوان فما بالها (٤) أن تنتزع (٥) من مقام الفعل ولا كيفيّة نفسانيّة هناك؟ فهو الشاهد على أنّ لها معنى أوسع من الكيفيّة النفسانيّة وأنّها صفة وجوديّة كالعلم.

قلت : اللفظ كما يطلق ويراد به معناه الحقيقيّ كذلك يطلق ويراد به لوازم المعنى الحقيقيّ وآثاره المتفرّعة عليه توسّعا. والصفات المنتزعة من مقام الفعل ـ لمّا كانت قائمة بالفعل حادثة بحدوث الفعل متأخّرة بالذات عن الذات القديمة بالذات ـ استحال أن تتّصف بها (٦) الذات الواجبة بالذات ، سواء كان الاتّصاف

__________________

(١) حيث قال : «وإنّما الشأن كلّ الشأن في أخذهم ...».

(٢) هذا القول ذهب إليه الحكماء ، كما ذهب إليه الشيخ الرئيس في التعليقات : ١٠٣ ، والنجاة : ٢٥٠ ، والفصل السابع من المقالة الثامنة من إلهيّات الشفاء.

(٣) راجع ما مرّ منّا في التعليقة (٥) في الصفحة : ٢٦١.

(٤) أي : فما شأنها.

(٥) وفي النسخ : «فما بالها تنتزع» والصحيح ما أثبتناه.

(٦) وفي النسخ : «أن يتّصف به» والصحيح ما أثبتناه.

٢٦٣

بنحو العينيّة أو بنحو العرض (١) ـ كما تبيّن في ما تقدّم (٢) ـ إلّا أن يراد به لوازم المعنى الحقيقيّ وآثاره المتفرّعة عليه توسّعا ، فالرحمة ـ مثلا ـ فيما عندنا تأثّر وانفعال نفسانيّ من مشاهدة مسكين محتاج إلى كمال ، كالعافية والصحّة والبقاء ، ويترتّب عليه أن يرفع الراحم حاجته وفاقته ، فهي صفة محمودة كماليّة ، ويستحيل عليه تعالى التأثّر والانفعال ، فلا يتّصف بحقيقة معناها ، لكن تنتزع من ارتفاع الحاجة والتلبّس بالغنى ـ مثلا ـ أنّها رحمة ، لأنّه من لوازمها. وإذ كان رحمة لها نسبة إليه تعالى اشتقّ منه صفة الرحيم صفة فعل له تعالى ، والأمر على هذا القياس.

والإرادة المنسوبة إليه تعالى منتزعة من مقام الفعل ، إمّا من نفس الفعل الّذي يوجد في الخارج فهو إرادة ثمّ إيجاب ثمّ وجوب ثمّ إيجاد ثمّ وجود ، وإمّا من حضور العلّة التامّة للفعل كما يقال عند مشاهدة جمع الفاعل أسباب الفعل ليفعل : «إنّه يريد كذا فعلا».

__________________

(١) وفي النسخ : «العروض» والصحيح ما أثبتناه.

(٢) راجع الفصل العاشر من هذه المرحلة.

٢٦٤

الفصل الرابع عشر

في أنّ الواجب تعالى مبدأ لكلّ ممكن موجود

وهو المبحث المعنون عنه بشمول إرادته للأفعال (١)

الّذي حقّقته الاصول الماضية هو أنّ الأصيل من كلّ شيء وجوده (٢) ؛ وأنّ الموجود ينقسم إلى واجب بالذات وغيره (٣) ؛ وأنّ ما سوى الواجب بالذات ـ سواء كان جوهرا أو عرضا ، وبعبارة اخرى : سواء كان ذاتا أو صفة أو فعلا ـ له ماهيّة ممكنة بالذات متساوية النسبة إلى الوجود والعدم (٤) ؛ وأنّ ما شأنه ذلك (٥) يحتاج في تلبّسه بأحد الطرفين من الوجود والعدم إلى مرجّح يعيّن ذلك ويوجبه ، وهو العلّة الموجبة (٦). فما من موجود ممكن إلّا وهو محتاج في وجوده حدوثا

__________________

(١) قال صدر المتألّهين : «هذه المسألة من جملة المسائل الغامضة الشريفة ، قلّ من اهتدى إلى مغزاها وسلك سبيل جدواها ، واختلفت فيه الآراء ، وتشعّبت فيه المذاهب والأهواء وتحيّرت فيه الأفهام واضطربت فيه آراء الأنام». الأسفار ٦ : ٣٦٩.

(٢) راجع الفصل الثاني من المرحلة الاولى.

(٣) أي : وغير الواجب بالذات ، وهو الواجب بالغير والممكن بالذات والممتنع بالغير والممتنع بالذات والواجب بالقياس إلى الغير والممكن بالقياس إلى الغير والممتنع بالقياس إلى الغير. راجع الفصلين الأوّل والثاني من المرحلة الرابعة.

(٤) راجع الفصل الأوّل من المرحلة الرابعة.

(٥) أي : تساوي النسبة إلى الوجود والعدم.

(٦) راجع الفصل الخامس من المرحلة الرابعة.

٢٦٥

وبقاء إلى علّة توجب وجوده وتوجده واجبة بالذات أو منتهية إلى الواجب بالذات (١) ، وعلّة علّة الشيء علّة لذلك الشيء (٢) ، فما من شيء ممكن موجود سوى الواجب بالذات حتّى الأفعال الاختياريّة إلّا وهو فعل الواجب بالذات معلول له بلا واسطة أو بواسطة أو وسائط (٣).

ومن طريق آخر (٤) : قد تبيّن في مباحث العلّة والمعلول (٥) أنّ وجود المعلول بالنسبة إلى العلّة وجود رابط غير مستقلّ متقوّم بوجود العلّة ، فالوجودات الإمكانية ـ كائنة ما كانت ـ روابط بالنسبة إلى وجود الواجب بالذات غير مستقلّة منه محاطة له بمعنى ما ليس بخارج (٦). فما في الوجود (٧) إلّا ذات واحدة مستقلّة ، بها تتقوّم (٨) هذه الروابط ولم تستقلّ (٩). فالذوات وما لها من الصفات والأفعال

__________________

(١) قوله : «واجبة بالذات أو منتهية إلى الواجب بالذات» وصف لقوله : «علّة». والأولى أن يقول : «فما من موجود ممكن إلّا وهو محتاج في وجوبه ووجوده حدوثا وبقاء إلى علّة واجبة بالذات أو منتهية إليه».

(٢) راجع الفصل السادس من المرحلة الرابعة.

(٣) والحاصل : أنّ الله تعالى يوجد القدرة والإرادة في العبد ، وتوجبان صدور الأفعال الاختياريّة. فالواجب بالذات فاعل بعيد للأفعال الاختياريّة ، والعبد فاعل قريب لها.

وهذه الطريقة منسوبة إلى إمام الحرمين وأبي الحسين البصريّ من العامّة ، وإلى الحكماء وخواصّ أصحابنا ـ كالمحقّق الطوسيّ ـ من الإماميّة. راجع الأسفار ٦ : ٣٧١.

(٤) وهذا الطريق منسوب إلى الراسخين في العلم. راجع الأسفار ٦ : ٣٧٢.

(٥) راجع الفصل الأوّل من المرحلة الثامنة.

(٦) لا بمعنى أنّها داخلة فيه كإحاطة الفلك بما في جوفه ، فإنّه تعالى داخل في الأشياء لا بالممازجة وخارج عنها لا بالمزايلة ، بل الوجودات محاطة له ، بمعنى أنّ وجودات الأشياء متقوّمة بوجود الواجب تعالى. قال صدر المتألّهين : «إنّ تلك الحقيقة الإلهيّة مع أنّها في غاية البساطة والأحديّة ينفذ نوره في أقطار السماوات والأرضين ، ولا ذرّة من ذرّات الأكوان الوجوديّة إلّا ونور الأنوار محيط بها قاهر عليها ، وهو قائم على كلّ نفس بما كسبت ، وهو مع كلّ شيء لا بمقارنة وغير كلّ شيء لا بمزايلة». الأسفار ٦ : ٣٧٣.

(٧) كلمة «ما» نافية. أي : فليس في الوجود.

(٨) وفي النسخ : «به تتقوّم» والصحيح ما أثبتناه.

(٩) وفي النسخ : «وتستقلّ» والصحيح ما أثبتناه ، فإنّه لا استقلال لغير الواجب بالحقيقة. ـ

٢٦٦

أفعال له. فهو تعالى فاعل قريب لكلّ فعل ولفاعله ، وأمّا الاستقلال المتراءى من كلّ علّة إمكانيّة بالنسبة إلى معلولها فهو الاستقلال الواجبيّ (١) الّذي لا استقلال دونه بالحقيقة.

ولا منافاة بين كونه تعالى فاعلا قريبا ـ كما يفيده هذا البرهان ـ وبين كونه فاعلا بعيدا ـ كما يفيده البرهان السابق المبنيّ على ترتّب العلل وكون علّة علّة الشيء علّة لذلك الشيء ـ فإنّ لزوم البعد مقتضى اعتبار النفسيّة لوجود ماهيّات العلل والمعلولات على ما يفيده النظر البدويّ ، والقرب هو الّذي يفيده النظر الدقيق. ومن الواضح أن لا تدافع بين استناد الفعل إلى الفاعل الواجب بالذات والفاعل الّذي هو موضوعه كالإنسان ـ مثلا ـ فإنّ الفاعليّة طوليّة لا عرضيّة (٢).

__________________

ـ اللهمّ إلّا أن يصحّح بأن يقال : إنّ المراد أنّ هذه الروابط تستقلّ بها بالنسبة إلى معلولاتها ، كما يصرّح بذلك في السطر الآتي.

(١) أي : هو الاستقلال النسبيّ الحاصل من الواجب تعالى الّذي لا استقلال دونه بالحقيقة. وبتعبير آخر : وأمّا القوام الّذي يتراءى لكلّ علّة إمكانيّة بالنسبة إلى معلولها المتقوّم بها فهو القوام المتقوّم بقوام الواجب تعالى الّذي لا قوام لغيره بالحقيقة.

(٢) وجدير بالذكر ما علّق المصنّف رحمه‌الله على الأسفار في بيان الفرق بين البرهانين.

قال ـ تعليقا على البرهان الثاني المنسوب إلى الراسخين في العلم ـ ما لفظه : «الفرق بينه وبين سابقه أنّ في المذهب السابق سلوكا من طريق الكثرة في الوحدة ، وفيه سلوك من طريق الوحدة في الكثرة.

فعلى الأوّل للفعل استناد إلى فاعله القريب وإلى فاعل فاعله بواسطته ومن طريقه ، والانتساب طوليّ لا عرضيّ ، فلا تبطل إحدى النسبتين الاخرى. ولا يلزم الجبر الباطل ، لأنّ العلّة الاولى إنّما تريد صدور الفعل الاختياريّ عن اختيار المختار ، فلا يقع إلّا اختيارا ، ولا يريد الفعل في نفسه ومن غير واسطة حتّى يبطل به اختيار فاعله وتسقط ارادته.

وعلى الثاني للفعل استناد إليه ـ تعالى ـ من غير واسطة من جهة إحاطته به في مقامه ، كما أنّ له استنادا إلى فاعله الممكن. ولا يلزم جبر ، لأنّ إحاطته تعالى بكلّ شيء إحاطة بما هو عليه. والفعل الاختياريّ في نفسه اختياريّ ، فهو المحاط المنسوب إليه تعالى وإلى العبد. هذا ، وقد ظهر بذلك أنّ المذهبين غير متدافعين». راجع تعليقته على الأسفار ٦ : ٣٧٢.

٢٦٧

وذهب جمع من المتكلّمين ـ وهم المعتزلة ومن تبعهم (١) ـ إلى أنّ الأفعال الاختياريّة مخلوقة للإنسان ، ليس للواجب تعالى فيها شأن ، بل الّذي له (٢) أن يقدر الإنسان على الفعل بأن يخلق له الأسباب الّتي يقدر بها على الفعل ، كالقوى والجوارح الّتي يتوصّل بها إلى الفعل باختياره الّذي يصحّح له الفعل والترك ، فله أن يترك الفعل ولو أراده الواجب تعالى ، وأن يأتي بالفعل ولو كرهه الواجب تعالى ، ولا صنع للواجب في فعله (٣). على أنّ الفعل لو كان مخلوقا للواجب تعالى كان هو الفاعل له دون الإنسان ، فلم يكن معنى لتكليفه بالأمر والنهي ، ولا للوعد والوعيد ، ولا لاستحقاق الثواب والعقاب على الطاعة والمعصية ، ولا فعل ولا ترك للانسان. على أنّ كونه تعالى فاعلا للأفعال الاختياريّة وفيها أنواع القبائح والشرور ـ كالكفر والجحود وأقسام المعاصي والذنوب ـ ينافي تنزّه ساحة العظمة والكبرياء عمّا لا يليق بها (٤).

ويدفعه : أنّ الأفعال الاختياريّة امور ممكنة ، وضرورة العقل قاضية أنّ الماهيّة الممكنة متساوية النسبة إلى الوجود والعدم ، لا تخرج من حاقّ الوسط إلى

__________________

(١) راجع المقالات والفرق : ١٣٨ ، والفرق بين الفرق : ٧٩ ، والفصل في الملل والنحل ١ : ٥٥ ـ ٥٦ ، ومقالات الإسلاميّين ١ : ٢٧٣ ، وشرح المواقف : ٥١٥ ـ ٥٢٠ ، وشرح المقاصد ٢ : ١٢٦ ، وكشف المراد : ٣٠٨ ـ ٣١٤ ، والشيعة بين الأشاعرة والمعتزلة : ١٣١.

(٢) أي : للواجب تعالى.

(٣) والمعتزلة يلقبّون ب «المفوّضة» ، لأنّهم ذهبوا إلى أنّ الله فوّض الأفعال إلى المخلوقين. راجع عقائد الإماميّة : ٦٥.

(٤) واستدلّوا أيضا بالآيات الشريفة ، كقوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ) فصّلت : ٢٦ ، وقوله تعالى : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) النساء : ١٢٣ ، وقوله تعالى : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) الكهف : ٢٩ ، وغيرها من الآيات الشريفة.

ولا يخفى ضعف الاستدلال بها ، فإنّها تعارض بالآيات الظاهرة في أنّ جميع الأفعّال مخلوق الله تعالى ، كقوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) الرعد : ١٦ ، وقوله عزوجل : (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) النساء : ٧٨.

٢٦٨

أحد الطرفين إلّا بمرجّح يوجب لها ذلك (١) وهو العلّة الموجبة. والفاعل من العلل ، ولا معنى لتساوي نسبة الفاعل التامّ الفاعليّة الّذي معه بقيّة أجزاء العلّة التامّة إلى الفعل والترك ، بل هو موجب للفعل ، وهذا الوجوب الغيريّ منته إلى الواجب بالذات. فهو العلّة الاولى للفعل. والعلّة الاولى علّة للمعلول الأخير ، لأنّ علّة علّة الشيء علّة لذلك الشيء.

فهذه اصول ثابتة مبيّنة في الأبحاث السابقة. والمستفاد منها أنّ للفعل نسبة إلى الواجب تعالى بالإيجاد ، وإلى الإنسان مثلا بأنّه فاعل مسخّر هو في عين علّيّته معلول ، وفاعليّة الواجب ـ تعالى ـ في طول فاعليّة الإنسان لا في عرضه حتّى تتدافعا ولا تجتمعا (٢).

وأمّا تعلّق الإرادة الواجبيّة بالفعل مع كون الإنسان مختارا فيه فإنّما تعلّقت الإرادة الواجبيّة بأن يفعل الإنسان باختياره فعلا كذا وكذا ، لا بالفعل من غير تقيّد بالاختيار ، فلا يلغو الاختيار ولا يبطل أثر الإرادة الإنسانيّة. على أنّ خروج الأفعال الإختياريّة عن سعة القدرة الواجبيّة ـ حتّى يريد فلا يكون ويكره فيكون ـ تقييد في القدرة المطلقة الّتي هي عين ذات الواجب ، والبرهان يدفعه (٣). على أنّ البرهان قائم على أنّ الإيجاد وجعل الوجود خاصّة للواجب تعالى لا شريك له فيه (٤). ونعم ما قال صدر المتألّهين قدس‌سره في مثل المقام : «ولا شبهة في أنّ مذهب من جعل أفراد الناس كلّهم خالقين لأفعالهم مستقلّين في إيجادها أشنع من مذهب من جعل الأصنام أو الكواكب شفعاء عند الله» (٥) ، انتهى.

__________________

(١) أي : الخروج من حاقّ الوسط إلى أحد الطرفين.

(٢) بل مرّ في مبحث العلّة والمعلول أنّه لا فاعليّة بحقيقة معنى الكلمة إلّا للواجب تعالى ، وأمّا سائر العلل فهي ليست عللا حقيقيّة ، بل إنّما هي معدّات تقرّب المادّة إلى إفاضة الفاعل الحقيقيّ ، وهذه المعدّات أيضا نفسها ما أفاضها الفاعل الحقيقيّ ، فالإنسان واختياره أفاضهما الفاعل الحقيقيّ ، أي : تعلّقت مشيئته إلى كونه مختارا.

(٣) فإنّ تقييد قدرته تعالى يستلزم إثبات الشركاء له تعالى.

(٤) راجع الفصل الثامن من المرحلة الثامنة.

(٥) راجع الأسفار ٦ : ٣٧٠.

٢٦٩

وأمّا قولهم (١) : «إنّ كون الفعل الاختياريّ مخلوقا للواجب تعالى لا يجامع توجيه التكليف إلى الإنسان بالأمر والنهي ، ولا الوعد والوعيد على الفعل والترك ، ولا استحقاق الثواب والعقاب ، وليس له فعل ولا هو فاعل».

فيدفعه : أنّه إنّما يتمّ لو كان انتساب الفعل إلى الواجب تعالى لا يجامع انتسابه إلى الإنسان ، وقد عرفت (٢) أنّ الفاعليّة طوليّة وللفعل انتساب إلى الواجب بالفعل بمعنى الإيجاد ، وإلى الإنسان المختار بمعنى قيام العرض بموضوعه.

وأمّا قولهم (٣) : «إنّ كون أفعال الإنسان الاختياريّة مخلوقة للواجب تعالى ـ وفيها أنواع الشرور والمعاصي والقبائح ـ ينافي طهارة ساحته تعالى عن كلّ نقص وشين (٤)».

فيدفعه : أنّ الشرور الموجودة في العالم ـ على ما سيتّضح (٥) ـ ليست إلّا امورا فيها خير كثير وشرّ قليل ، ودخول شرّها القليل في الوجود بتبع خيرها الكثير ، فالشرّ مقصود بالقصد الثاني ولم يتعلّق القصد الأوّل إلّا بالخير. على أنّه سيتّضح أيضا (٦) أنّ الوجود ـ من حيث إنّه وجود ـ خير لا غير ، وإنّما الشرور ملحقة ببعض الوجودات ، فالذي يفيضه الواجب تعالى من الفعل وجوده الخير بذاته الطاهرة في نفسه ، وما يلازمه من النقص والعدم لوازم تميّزه في وجوده ، والتميّزات الوجوديّة لولاها لفسد نظام الوجود ، فكان في ترك الشرّ القليل بطلان الخير الكثير الّذي في أجزاء النظام.

وذهب جمع آخر من المتكلّمين ـ وهم الأشاعرة ومن تبعهم (٧) ـ إلى أنّ كلّ

__________________

(١ و ٣) أي : قول المعتزلة كما مرّ.

(٢) في ما مرّ آنفا حيث قال : «وفاعليّة الواجب تعالى في طول فاعليّة الإنسان».

(٤) الشين : العيب.

(٥ و ٦) في الفصل الثامن عشر من هذه المرحلة.

(٧) راجع الشيعة بين الأشاعرة والمعتزلة : ١٥٥ ، ومذاهب الاسلاميّين ١ : ٥٥٥ ، والفرق بين الفرق : ٢٧٥ ، والملل والنحل : ٩٦ ، واللمع : ٦٩ ـ ٩١. واستدلّوا عليه بوجوده ذكرها المحقّق الشريف تبعا للعلّامة الإيجيّ في شرح المواقف : ٥١٥ ـ ٥٢٠ ، والعلّامة التفتازانيّ في شرح المقاصد : ٢ ص ١٢٥ ـ ١٤٣. وتبعهم هشام بن الحكم ، راجع مقالات الاسلاميّين ١ : ١١٠ ، ـ

٢٧٠

ما هو موجود غير الواجب بالذات من ذات أو صفة أو فعل فهو بإرادة الواجب بالذات من غير واسطة ، فالكلّ أفعاله ، وهو الفاعل ، لا غير (١).

ولازم ذلك أوّلا : ارتفاع العلّيّة والمعلوليّة من بين الأشياء وكون استتباع الأسباب للمسبّبات لمجرّد العادة ، أي إنّ عادة الله جرت على الإتيان بالمسبّبات عقيب الأسباب من غير تأثير من الأسباب في المسبّبات ولا توقّف من المسبّبات على الأسباب. وثانيا : كون الأفعال الّتي تعدّ أفعالا اختياريّة أفعالا جبريّة لا تأثير لإرادة فواعلها ولا لاختيارهم فيها.

فيدفعه : أنّ انتساب الفعل إلى الواجب تعالى بالإيجاد لا ينافي انتسابه إلى غيره من الوسائط ، والانتساب طوليّ لا عرضيّ ـ كما تقدّم توضيحه (٢) ـ. وحقيقة وساطة الوسائط ترجع إلى تقيّد وجود المسبّب بقيود مخصّصة لوجوده ، فإنّ ارتباط الموجودات بعضها ببعض عرضا وطولا يجعل الجميع واحدا يتقيّد بعض أجزائه ببعض في وجوده. فإفاضة واحد منها إنّما يتمّ بإفاضة الكلّ ، فليست الإفاضة إلّا واحدة ينال كلّ منها ما في وسعه أن يناله.

وأمّا إنكار العلّيّة والمعلوليّة بين الأشياء ، فيكفي في دفعه ما تقدّم في مرحلة العلّة والمعلول من البرهان على ذلك (٣). على أنّه لو لم يكن بين الأشياء شيء من رابطة التأثير والتأثّر وكان ما نجده منها (٤) بين الأشياء باطلا لا حقيقة له لم يكن لنا سبيل إلى إثبات فاعل لها وراءها وهو الواجب الفاعل للكلّ.

وأمّا القول بالجبر وإنكار الاختيار في الأفعال ، بتقريب أنّ فاعليّة الواجب بالذات وتعلّق إرادته بالفعل المسمّى إختياريّا يجعل الفعل واجب التحقّق

__________________

ـ والحسين بن محمّد النجّار كما في الفرق بين الفرق : ١٥٥ ، ومقالات الإسلاميّين ١ : ٣١٥.

(١) والحاصل : أنّهم قالوا : إنّ إرادة الله تعالى متعلّقة بكلّ ما يدخل في الوجود من الامور القائمة بالذات أو الصفات التابعة لها من أفعال العباد وإراداتهم وحركاتهم وطاعاتهم ومعاصيهم.

(٢) حيث قال : «وفاعليّة الواجب تعالى في طول فاعليّة الإنسان».

(٣) راجع الفصل الأوّل من المرحلة الثامنة.

(٤) أي : الرابطة.

٢٧١

ضروريّ الوقوع ، ولا معنى لكون الفعل الضروريّ الوجود اختياريّا للإنسان له أن يفعل ويترك ، ولا لكون إرادته مؤثّرة في الفعل.

فيدفعه : أنّ فاعليّته تعالى طوليّة ، لا تنافي فاعليّة غيره أيضا إذا كانت طوليّة ، وإرادته إنّما تعلّقت بالفعل بوصف أنّه اختياريّ ، فأراد أن يفعل الإنسان باختياره وإرادته فعلا كذا وكذا ، فالفعل الاختياريّ واجب التحقّق بوصف أنّه اختياريّ.

واستدلّ بعضهم (١) على الجبر في الأفعال بأنّ فعل المعصية معلوم للواجب تعالى فهو واجب التحقّق ضروريّ الوقوع ، إذ لو لم يقع كان علمه جهلا ، وهو محال ، فالفعل ضروريّ ، ولا يجامع ضرورة الوقوع اختياريّة الفعل.

ويعارضه أنّ فعل المعصية معلوم للواجب تعالى بخصوصيّة وقوعه ، وهي أنّه صادر عن الإنسان باختياره ، فهو بخصوصيّة كونه اختياريّا واجب التحقّق ضروريّ الوقوع ، إذ لو لم يقع كان علمه تعالى جهلا ، وهو محال ، فالفعل بما أنّه اختياريّ ضروريّ التحقّق (٢).

تنبيه :

استدلالهم على الجبر في الأفعال بتعلّق علم الواجب تعالى بها وتعيّن وقوعها بذلك استناد منهم في الحقيقة إلى القضاء العلميّ الّذي يحتم ما يتعلّق به من الامور ، وأمّا الإرادة ـ الّتي هي صفة ثبوتيّة زائدة على الذات عندهم ـ فإنّهم لا يرونها مبدأ للفعل موجبا له ، زعما منهم أنّ وجوب الفعل يجعل الفاعل موجبا (بفتح الجيم) ، والواجب تعالى فاعل مختار ، بل شأن الإرادة أن يرجّح الفعل بالأولويّة من غير وجوب ، فللإرادة أن يخصّص أيّ طرف من طرفي الفعل

__________________

(١) أي : بعض الأشاعرة ، راجع اللمع : ٨١ ـ ٨٢.

(٢) وهذا هو المراد من الأمر بين الأمرين. وإن أردت تفصيل البحث عن بطلان مذهبي المعتزلة والأشاعرة من التفويض والجبر وإثبات مذهب الإماميّة من الأمر بين الأمرين فراجع الأسفار ٦ : ٣٦٩ ـ ٣٧٨ ، وشرح الأسماء الحسنى (للحكيم السبزواريّ) : ٣٢٤ ـ ٣٤٢.

٢٧٢

تعلّقت به.

وهذه آراء سخيفة تبيّن بطلانها بما تقدّم بيانه من الاصول الماضية (١). فالوجوب الّذي يلحق المعلول وجوب غيريّ منتزع من وجوده الّذي أفاضته علّته وهو أثرها ، فلو عاد هذا الوجوب وأثّر في العلّة بجعلها موجبة في فاعليّته لزم كون المتأخّر وجودا من حيث هو متأخّر متقدّما على المتقدّم وجودا من حيث هو متقدّم ، وهو محال ، على أنّ الفاعل المختار لو عاد موجبا (بالفتح) بسبب وجوب الفعل لم يكن في ذلك فرق بين أن يستند وجوب المعلول إلى علم سابق وقضاء متقدّم أو إلى إيجاب الفاعل للفعل الّذي هو مفاد قولنا : «الشيء ما لم يجب لم يوجد».

وأيضا قد ظهر ممّا تقدّم أنّ الترجيح بالأولويّة مرجعه إلى عدم حاجة الممكن في تعيّن أحد طرفي الوجود والعدم إلى المرجّح ، لبقاء الطرف المرجوح على حدّ الجواز مع وجود الأولويّة في الطرف الراجح وعدم انقطاع السؤال ب «لم» بعد.

وأيضا الترجيح بالإرادة مع فرض استواء نسبتها إلى طرفي الفعل والترك مرجعه إلى عدم الحاجة إلى المرجّح.

__________________

(١) راجع أوّل هذا الفصل.

٢٧٣

الفصل الخامس عشر

في حياته تعالى

الحياة فيما عندنا ـ من أقسام الحيوان ـ كون الشيء بحيث يدرك ويفعل (١). والإدراك العامّ في الحيوان كلّه هو الإدراك الحسّيّ الزائد عن الذات ، والفعل فعل محدود عن علم به وإدراك. فالعلم والقدرة من لوازم الحياة وليسا بها ، لأنّا نجوّز

__________________

(١) قال المحقّق القوشجيّ : «واختلفوا في معنى الحياة. فقال جمهور المتكلّمين : إنّها صفة توجب صحّة العلم والقدرة. وقال الحكماء وأبو الحسين البصريّ من المعتزلة : إنّها كونه بحيث يصحّ أن يعلم ويقدر». شرح التجريد للقوشجيّ : ٣١٤.

وقال الحكيم السبزواريّ : «ثمّ الحياة قد تطلق ويراد بها الوجود ، ولذا كان أحد أسماء الوجود المطلق المنبسط هو الحياة السارية في كلّ شيء ، وبهذا الاعتبار كلّما هو موجود فهو حيّ ، فالجمادات حيّة وتسبيحها بهذا الاعتبار. وكثيرا مّا تطلق ويراد به ما يقتضي الدرك والفعل ، وأقلّ ما يعتبر في الدرك الشعور اللمسيّ ، وأقلّ ما يعتبر في الفعل الحركة الإراديّة ، وأعلاهما كما يكون في الواجب تعالى من العلم الحضوريّ بذاته على وجه يستتبع انكشاف ماعدا ذاته على ذاته انكشافا حضوريّا إجماليّا في عين الكشف التفصيليّ ، ومن القدرة التامّة ـ بل فوق التمام ـ الّتي هي عين علمه الفعليّ الخالي عن الغرض الزائد على ذاته ، لأنّه تعالى فاعل بالعناية كما عند الحكيم ، لا بالقصد كما يظنّه المتكلّم ـ. فبهذا الاعتبار فالحيوان ولو كالخراطين وما فوقه حيّة ، والجمادات ليست حيّة ، إذ ليست درّاكة فعّالة ولو على سبيل أقلّ ما يعتبر في الدرك والفعل. وهو تعالى حيّ بكلا المعنيين ، إذ له أعلى مراتب الوجود وله أعلى مراتب العلم والقدرة كما علمت». شرح الأسماء الحسنى : ٦٣٨.

٢٧٤

مفارقة العلم الحياة ، وكذا مفارقة القدرة الحياة في بعض الأحيان.

فالحياة الّتي في الحيوان مبدأ وجوديّ يترتّب عليه العلم والقدرة.

وإذ كان الشيء الّذي له علم وقدرة زائدان على ذاته حيّا وحياته كمالا وجوديّا له ، فمن كان علمه وقدرته عين ذاته وله كلّ كمال وكلّ الكمال فهو أحقّ بأن يسمّى حيّا ، وهو الواجب بالذات تعالى ، فهو تعالى حيّ بذاته ، وحياته كونه بحيث يعلم ويقدر ، وعلمه بكلّ شيء من ذاته ، وقدرته مبدئيّته لكلّ شيء سواه بذاته.

٢٧٥

الفصل السادس عشر

في الإرادة والكلام

عدّو هما في المشهور من الصفات الذاتيّة للواجب تعالى (١).

أمّا الإرادة فقد تقدّم القول فيها في البحث عن القدرة (٢).

وأمّا الكلام فقد قيل (٣) : «إنّ الكلام في عرفنا لفظ دالّ بالدلالة الوضعيّة على ما في الضمير ، فهو موجود اعتباريّ يدلّ عند العارف بالوضع بدلالة وضعيّة اعتباريّة على ما في ذهن المتكلّم ، ولذلك يعدّ وجودا لفظيّا للمعنى الذهنيّ إعتبارا ، كما يعدّ المعنى الذهنيّ وجودا ذهنيّا ومصداقه الخارجيّ وجودا خارجيّا للشيء.

__________________

(١) قال في الأسفار ٦ : ٣٤٠ ـ ٣٤١ : «الإرادة والمحبّة معنى واحد كالعلم ، وهي في الواجب تعالى عين ذاته».

(٢) راجع الفصل الخامس عشر من المرحلة السادسة ، والفصل الثالث عشر من هذه المرحلة.

(٣) والقائل الحكيم السبزواريّ حيث قال :

اللفظ موضوعا لدى الأنام

ممّا هو المعروف بالكلام

فهو وجود معه وجود

ذهنا له بجعلنا شهود

فحيث في تأدية ذا أيسر

من غيره لاسم الكلام آثروا

ولو فرضت غيره بديله

إذ ذاك حاله يكون حاله

فالكلّ بالذات له دلاله

حاكية جماله جلاله

راجع شرح المنظومة ص ١٨٢.

٢٧٦

فلو كان هناك موجود حقيقيّ دالّ على شيء دلالة حقيقيّة غير اعتباريّة ـ كالأثر الدالّ على المؤثّر والمعلول الدالّ بما فيه من الكمال الوجوديّ على ما في علّته من الكمال بنحو أعلى وأشرف ـ كان أحقّ بأن يسمّى «كلاما» لأصالة وجوده وقوّة دلالته.

ولو كان هناك موجود بسيط الذات من كلّ وجه ، له كلّ كمال في الوجود بنحو أعلى وأشرف ، يكشف بتفاصيل صفاته الّتي هي عين ذاته المقدّسة عن إجمال ذاته ، كالواجب تعالى ، فهو كلام يدلّ بذاته على ذاته ، والإجمال فيه عين التفصيل».

أقول : فيه تحليل الكلام وإرجاع حقيقة معناه إلى نحو من معنى القدرة ، فلا ضرورة تدعو إلى إفراده من القدرة ، على أنّ جميع المعاني الوجوديّة وإن كانت متوغلّة في المادّيّة محفوفة بالأعدام والنقائص يمكن أن تعود بالتحليل وحذف النقائص والأعدام إلى صفة من صفاته الذاتيّة.

فإن قلت : هذا جار في السمع والبصر ، فهما وجهان من وجوه العلم مع أنّهما افردا من القدرة وعدّا صفتين من الصفات الذاتيّة.

قلت : ذلك لورودهما في الكتاب (١) والسنّة (٢). وأمّا الكلام فلم يرد منه في الكتاب الكريم إلّا ما كان صفة للفعل (٣).

__________________

(١) كقوله تعالى : (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) البقرة : ٢٢٤. وقوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) البقرة : ٢٢٧. وقوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) البقرة : ٢٤٤. وقوله تعالى : (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) البقرة : ٩٦.

(٢) عن أبي بصير قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «لم يزل الله عزوجل ربّنا والعلم ذاته ولا معلوم ، والسمع ذاته ولا مسموع ، والبصر ذاته ولا مبصر ...» راجع اصول الكافي ١ : ١٤٣.

(٣) كقوله تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) النساء : ١٦٤. وقوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) الأعراف : ١٤٣.

٢٧٧

الفصل السابع عشر

في العناية الإلهيّة بخلقه وأنّ النظام الكوني

في غاية ما يمكن من الحسن والإتقان

الفاعل العلميّ ـ الّذي لعلمه دخل في تمام علّيّته الموجبة ـ إذا كان ناقصا في نفسه مستكملا بفعله فهو بحيث كلّما قويت الحاجة إلى الكمال الّذي يتوخّاه (١) بفعله زاد اهتمامه بالفعل وأمعن في إتيان الفعل بحيث يتضمّن جميع الخصوصيّات الممكنة اللحاظ في إتقان صنعه واستقصاء منافعه ، بخلاف ما لو كان الكمال المطلوب بالفعل حقيرا غير ضروريّ عند الفاعل جائز الإهمال في منافعه ، وهذا المعنى هو المسمّى ب «العناية».

والواجب تعالى غنيّ الذات ، له كلّ كمال في الوجود ، فلا يستكمل بشيء من فعله ، وكلّ موجود فعله ، ولا غاية له في أفعاله خارجة من ذاته ، لكن لمّا كان له علم ذاتيّ بكلّ شيء ممكن يستقرّ فيه (٢) ، وعلمه الّذي هو عين ذاته علّة لما سواه ، فيقع فعله على ما علم من غير إهمال في شيء ممّا علم من خصوصيّاته ، والكلّ معلوم ، فله تعالى عناية بخلقه.

والمشهود من النظام العامّ الجاري في الخلق والنظام الخاصّ الجاري في كلّ

__________________

(١) أي : يتطلّبه دون سواه.

(٢) أي : في الخارج.

٢٧٨

نوع والنظم والترتيب الّذي هو مستقرّ في أشخاص الأنواع يصدّق ذلك ، فإذا تأمّلنا في شيء من ذلك وجدنا مصالح ومنافع في خلقه ، نقضي منها عجبا (١) ، وكلّما أمعنّا وتعمّقنا فيه بدت لنا منافع جديدة وروابط عجيبة تدهش اللبّ وتكشف عن دقّة الأمر وإتقان الصنع.

وما تقدّم من البيان جار في العلل العالية والعقول المجرّدة الّتي ذواتها تامّة ووجوداتها كاملة ، منزّهة عن القوّة والاستعداد ، فليس صدور أفعالها منها لغرض وغاية تعود إليها من أفعالها ، ولم تكن حاصلة لها قبل الفعل لفرض تمام ذواتها ، فغايتها في فعلها ذواتها الّتي هي أظلال لذات الواجب تعالى ، وبالحقيقة غايتها في فعلها الواجب عزّ اسمه.

ويظهر ممّا تقدّم أنّ النظام الجاري في الخلقة أتقن نظام وأحكمه ، لأنّه رقيقة العلم الّذي لا سبيل للضعف والفتور إليه بوجه من الوجوه.

توضيحه : أنّ عوالم الوجود الكلّيّة ـ على ما سبقت إليها الإشارة (٢) ـ ثلاثة عوالم ، لا رابع لها عقلا ، فإنّها إمّا وجود فيه وصمة القوّة والاستعداد لا اجتماع لكمالاته الأوّليّة والثانويّة الممكنة في أوّل كينونته (٣) وإمّا وجود تجتمع كمالاته الأوّليّة والثانويّة الممكنة في أوّل كينونته ، فلا يتصوّر فيه طروّ شيء من الكمال بعد ما لم يكن. والأوّل «عالم المادّة والقوّة» والثاني إمّا أن يكون مجرّدا من المادّة دون آثارها من كيف وكمّ وسائر الأعراض الطارية للأجسام المادّيّة ، وإمّا أن يكون عاريا من المادّة وآثار المادّة جميعا. والأوّل «عالم المثال» والثاني «عالم العقل».

__________________

(١) أي : تتعجّب منها غاية التعجّب.

(٢) راجع الفرع الثالث من الفروع المذكورة في الفصل الثالث من المرحلة الحادية عشرة.

(٣) والمراد من الكمالات الأوّليّة هي الكمالات الذاتيّة كالجوهريّة والنموّ والنطق ، ومن الكمالات الثانية هي الكمالات العرضيّة كاللون والريح وغيرهما.

٢٧٩

فالعوالم الكلّيّة ثلاثة ، وهي مترتّبة من حيث شدّة الوجود وضعفه ، وهو ترتّب طوليّ بالعلّيّة والمعلوليّة. فمرتبة الوجود العقليّ معلولة للواجب تعالى بلا واسطة وعلّة متوسّطة لما دونها من المثال ، ومرتبة المثال معلولة للعقل وعلّة لمرتبة المادّة والمادّيّات ، وقد تقدّمت إلى ذلك إشارة (١) وسيجيء توضيحه (٢).

فمرتبة الوجود العقليّ أعلى مراتب الوجود الإمكانيّ وأقربها من الواجب تعالى. والنوع العقليّ منحصر في فرد. فالوجود العقليّ ـ بما له من النظام ـ ظلّ للنظام الربّانيّ الّذي في العالم الربوبيّ الّذي فيه كلّ جمال وكمال.

فالنظام العقليّ أحسن نظام ممكن وأتقنه ، ثمّ النظام المثاليّ الّذي هو ظلّ للنظام العقليّ ، ثمّ النظام المادّيّ الّذي هو ظلّ للمثال. فالنظام العالميّ العامّ أحسن نظام ممكن (٣) وأتقنه (٤).

__________________

(١) راجع الفرع الثالث من الفصل الثالث من المرحلة الحادية عشرة.

(٢) في الفصل التاسع عشر من هذه المرحلة.

(٣) إشارة إلى قوله تعالى : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) السجدة : ٧.

(٤) إشارة إلى قوله تعالى : (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) النمل : ٨٨.

٢٨٠