نهاية الحكمة - ج ٢

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

نهاية الحكمة - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-470-624-0
الصفحات: ٣٣٦

وقول بعضهم (١) : «إنّ علّة الإيجاد هي إرادة الواجب بالذات دون ذاته المتعالية» كلام لا محصّل له ، فإنّ الإرادة المذكورة عند هذا القائل إن كانت صفة ذاتيّة هي عين الذات كان إسناد الإيجاد إليها عين إسناده إلى الذات المتعالية ، فإسناده إليها ونفيه عن الذات تناقض ظاهر. وإن كانت صفة فعليّة منتزعة من مقام الفعل كان الفعل متقدّما عليها ، فكان إسناد إيجاد الفعل إليها قولا بتقدّم المعلول على العلّة وهو محال. على أنّ نسبة العلّيّة إلى إرادة الواجب بالذات ونفيها عن الذات تقضي بالمغايرة بين الواجب وإرادته. فهذه الإرادة إمّا مستغنية عن العلّة فلازمه أن تكون واجبة الوجود ولازمه تعدّد الواجب وهو محال ، وإمّا مفتقرة إلى العلّة ، فإن كانت علّتها الواجب كانت الإرادة علّة للعالم والواجب علّة لها وعلّة العلّة علّة فالواجب علّة العالم ، وإن كانت علّتها غير الواجب ولم ينته إليه استلزم واجبا آخر ينتهي إليه وهو محال.

وأمّا القول الثاني المنسوب إلى الأشاعرة ، وهو أنّ هذه الصفات ـ وهي على ما عدّوها سبع (٢) : الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والإرادة والكلام ـ زائدة على الذات ، لازمة لها ، قديمة بقدمها.

ففيه : أنّ هذه الصفات إن كانت في وجودها مستغنية عن العلّة قائمة بنفسها كان هناك واجبات ثمان هي الذات والصفات السبع ، وبراهين وحدانيّة الواجب تبطله وتحيله. وإن كانت في وجودها مفتقرة إلى علّة ، فإن كانت علّتها هي الذات كانت الذات علّة متقدّمة عليها فيّاضة لها وهي (٣) فاقدة لها (٤) وهو محال ، وإن

__________________

ـ وكمال معرفته التصديق به ، وكمال التصديق به توحيده ، وكمال توحيده الإخلاص له ، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ، لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف ، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة». نهج البلاغة : الخطبة ١.

(١) كما هو ظاهر كلام الأشاعرة ، راجع شرح المقاصد ٢ : ٩٤ ـ ٩٥.

(٢) قال الشهرستاني : «قال أبو الحسن : الباري تعالى عالم بعلم ، قادر بقدرة ، حيّ بحياة ، مريد بإرادة ، متكلّم بكلام ، سميع يسمع ، بصير يبصر». راجع الملل والنحل ١ : ٩٥.

(٣) أي : الذات.

(٤) فيلزم منه أن يكون معطي الشيء فاقدا له ، وهو محال بالضرورة.

٢٤١

كانت علّتها غير الذات كانت واجبة بالغير وينتهي وجوبها بالغير إلى واجب آخر غير الواجب المتّصف بها ، وبراهين وحدانيّة الواجب بالذات تبطله أيضا ، وأيضا كان لازم ذلك حاجة الواجب بالذات في اتّصافه بصفات الكمال إلى غيره ، والحاجة كيفما كانت تنافي وجوب الوجود بالذات ، وأيضا لازمه فقدان الواجب في ذاته صفات الكمال ، وقد تقدّم (١) أنّه صرف الوجود الّذي لا يفقد شيئا من الكمال الوجوديّ.

وأمّا القول الثالث المنسوب إلى الكراميّة ، وهو كون هذه الصفات زائدة حادثة.

ففيه : أنّ لازمه إمكانها واحتياجها إلى العلّة ، وعلّتها إمّا هي الذات ولازمه أن تفيض الذات لنفسها ما هي فاقدة له وقد تحقّقت استحالته ، وإمّا غير الذات ولازمه تحقّق جهة إمكانيّة فيها وانسلاب كمالات وجوديّة عنها وقد تحقّقت استحالته.

وأمّا القول الرابع المنسوب إلى المعتزلة ، وهو نيابة الذات عن الصفات.

ففيه : أنّ لازمه فقدان الذات للكمال وهي فيّاضة لكلّ كمال ، وهو محال.

وبهذا يبطل أيضا ما قيل (٢) : «إنّ معنى الصفات الذاتيّة الثبوتيّة سلب مقابلاتها ، فمعنى الحياة والعلم والقدرة نفي الموت ونفي الجهل ونفي العجز».

وأمّا ما قيل (٣) ـ من كون هذه الصفات عين الذات وهي مترادفة بمعنى واحد ـ فكأنّه من اشتباه المفهوم بالمصداق (٤) ، فالّذي يثبته البرهان أنّ مصداقها واحد ، وأمّا المفاهيم فمتغايرة لا تتّحد أصلا ، على أنّ اللغة والعرف يكذّبان الترادف.

__________________

(١) راجع الفصل الرابع من هذه المرحلة.

(٢) والقائل هو ضرار بن عمرو ، كما في مقالات الإسلاميّين ٢ : ١٥٩ ، والملل والنحل ١ : ٩٠.

(٣) والقائل كثير من العقلاء المدقّقين ، كما في الأسفار ٦ : ١٤٥.

(٤) كذا قال الحكيم السبزواريّ فيما علّق على الأسفار ٦ : ١٤٤ هامش ٢.

٢٤٢

الفصل العاشر

في الصفات الفعليّة

وأنّها زائدة على الذات

لا ريب أنّ للواجب بالذات صفات فعليّة مضافة إلى غيره ، كالخالق والرازق والمعطي والجواد والغفور والرحيم إلى غير ذلك ، وهي كثيرة جدّا تجمعها صفة القيّوم (١).

ولمّا كانت مضافة إلى غيره تعالى كانت متوقّفة في تحقّقها (٢) إلى تحقّق الغير المضاف إليه ، وحيث كان كلّ غير مفروض معلولا للذات المتعالية متأخّرا عنها كانت الصفة المتوقّفة عليه متأخّرة عن الذات زائدة عليها ، فهي منتزعة من مقام الفعل منسوبة إلى الذات المتعالية.

فالموجود الإمكانيّ ـ مثلا ـ له وجود لا بنفسه بل بغيره ، فإذا اعتبر بالنظر إلى نفسه كان وجودا ، وإذا اعتبر بالنظر إلى غيره كان إيجادا منه وصدق عليه (٣) أنّه

__________________

(١) كما في الأسفار ٦ : ١٠٧. وقال الحكيم السبزواريّ :

إنّ الحقيقيّ من المضاف

زيد على الذات بلا خلاف

لكن مباديها لقيّوميّه

ترجع ذي نسبة اشراقيّه

راجع شرح المنظومة ص ١٥٧ ـ ١٥٨.

(٢) أي : في اتّصاف الواجب تعالى بها.

(٣) أي : على غيره.

٢٤٣

موجد له. ثمّ إنّ وجوده باعتبارات مختلفة إبداع وخلق وصنع ونعمة ورحمة ، فيصدق على موجده أنّه مبدع خالق صانع منعم رحيم.

ثمّ إنّ الشيء الّذي هو موجده ـ إذا كان ممّا لوجوده بقاء مّا ، فإنّ بين يديه ما يديم به بقاءه ويرفع به جهات نقصه وحاجته ـ إذا اعتبر في نفسه انتزع منه أنّه رزق يرتزق به ، وإذا اعتبر من حيث إنّه لا بنفسه بل بغيره ـ الّذي هو علّته الفيّاضة له ـ صدق على ذلك الغير أنّه رازق له ، ثمّ صدق على الرزق أنّه عطيّة ونعمة وموهبة وجود وكرم بعنايات اخر مختلفة ، وصدق على الرازق أنّه معط منعم وهّاب جواد كريم إلى غير ذلك ، وعلى هذا القياس سائر الصفات الفعليّة المتكثّرة بتكثّر جهات الكمال في الوجود.

وهذه الصفات الفعليّة صادقة عليه تعالى صدقا حقيقيّا ، لكن لا من حيث خصوصيّات حدوثها وتأخّرها عن الذات المتعالية حتّى يلزم التغيّر فيه تعالى وتقدّس وتركّب ذاته من حيثيّات متغايرة كثيرة ، بل من حيث إنّ لها أصلا في الذات ينبعث عنه كلّ كمال وخير ، فهو تعالى بحيث يقوم به كلّ كمال ممكن في موطنه الخاصّ به. فهو تعالى بحيث إذا أمكن شيء كان مرادا له ، وإذا أراد شيئا أوجده ، وإذا أوجده ربّاه ، وإذا ربّاه أكمله ، وهكذا ، فللواجب تعالى وجوبه وقدمه ، وللأشياء إمكانها وحدوثها.

٢٤٤

الفصل الحادي عشر

في علمه تعالى

قد تحقّق فيما تقدّم (١) أنّ لكلّ مجرّد علما بذاته ، لحضور ذاته المجرّدة عن المادّة لذاته ، وليس العلم إلّا حضور شيء لشيء ، والواجب تعالى منزّه عن المادّة والقوّة ، فذاته معلومة لذاته (٢).

وقد تقدّم أيضا (٣) أنّ ذاته المتعالية حقيقة الوجود الصرف البسيط الواحد بالوحدة الحقّة الّذي لا يداخله نقص ولا عدم ، فلا كمال وجوديّا في تفاصيل الخلقة بنظامها الوجوديّ إلّا وهي واجدة له بنحو أعلى وأشرف ، غير متميّز بعضها (٤) من بعض لمكان الصرافة والبساطة ، فما سواه من شيء فهو معلوم له

__________________

(١) في الفصل الأوّل والفصل الحادي عشر من المرحلة الحادية عشرة.

(٢) هذا البرهان مركّب من قياسين مترتّبين :

ألف) الواجب تعالى منزّه عن المادّة والقوّة ، وكلّ ما كان منزّها منهما مجرّد ، فالواجب تعالى مجرّد.

ب) ثمّ يجعل النتيجة صغرى قياس آخر ويقال : الواجب تعالى مجرّد ، وكلّ مجرّد عالم بذاته ، فالواجب تعالى عالم بذاته وذاته معلومة لذاته.

(٣) في الفصل الرابع من المرحلة الرابعة ، والفصل الرابع من هذه المرحلة.

(٤) أي : بعض الكمالات الوجوديّة.

٢٤٥

تعالى في مرتبة ذاته المتعالية علما تفصيليّا في عين الإجمال وإجماليّا في عين التفصيل.

وقد تقدّم أيضا (١) أنّ ما سواه من الموجودات معاليل له ، منتهية إليه بلا واسطة أو بواسطة أو وسائط ، قائمة الذوات به قيام الرابط بالمستقلّ ، حاضرة عنده بوجوداتها ، غير محجوبة عنه ، فهي معلومة له في مرتبة وجوداتها علما حضوريّا ، أمّا المجرّدة منها فبأنفسها ، وأمّا المادّيّة فبصورها المجرّدة.

فتبيّن بما مرّ أنّ للواجب تعالى علما بذاته في مرتبة ذاته ، وهو عين ذاته. وأنّ له تعالى علما بما سوى ذاته من الموجودات في مرتبة ذاته ، وهو المسمّى ب «العلم قبل الإيجاد». وأنّه علم إجماليّ في عين الكشف التفصيليّ. وأنّ له تعالى علما تفصيليّا بما سوى ذاته من الموجودات في مرتبة ذواتها خارجا من الذات المتعالية ، وهو «العلم بعد الإيجاد». وأنّ علمه حضوريّ كيفما صوّر. فهذه خمس مسائل.

ويتفرّع على ذلك أنّ كلّ علم متقرّر في مراتب الممكنات من العلل المجرّدة العقليّة والمثاليّة فإنّه علم له تعالى.

ويتفرّع أيضا أنّه سميع بصير كما أنّه عليم خبير ، لما أنّ حقيقة السمع والبصر هي العلم بالمسموعات والعلم بالمبصرات ، فهما من مطلق العلم ، وله تعالى كلّ علم (٢).

__________________

(١) راجع الفصل الخامس من المرحلة الثامنة ، والفصل التاسع من هذه المرحلة.

(٢) قوله : «من مطلق العلم وله (تعالى) كلّ علم» تعريض بما ذهب إليه صدر المتألّهين في معنى سمعه وبصره تعالى.

قال صدر المتألّهين : «التحقيق أنّ السمع والبصر مفهومهما غير مفهوم العلم ، وأنّهما علمان مخصوصان زائدان على مطلق العلم ... فإنّك بعد ما علمت أنّ مناط الجزئيّة والشخصيّة ليس مجرّد الإحساس ، بل مناطها هو نحو الوجود الخاصّ وأنّ الوجود والتشخّص شيء واحد بالحقيقة متغاير بالمفهوم ، وأنّك قد علمت أنّ الحقّ يعلم الهويّات الخارجيّة بشخصيّاتها على وجه يكون وجودها في نفسها هو حضورها عنده ومعلوميّتها له ، ـ

٢٤٦

وللباحثين في علمه تعالى اختلاف كثير حتّى أنكره بعضهم (١) من أصله ، وهو محجوج (٢) بما قام على ذلك من البرهان.

وللمثبتين مذاهب شتّى :

أحدها : أنّ له تعالى علما بذاته دون معلولاتها ، لأنّ الذات المتعالية أزليّة وكلّ معلول حادث (٣).

وفيه : أنّ العلم بالمعلول في الأزل لا يستوجب كونه موجودا في الأزل بوجوده الخاصّ به. على أنّه مبنيّ على انحصار العلم الحضوريّ في علم الشيء بنفسه ،

__________________

ـ وهذا الشهود الإشراقيّ المتعلّق بالمسموعات والمبصرات زائد على مطلق العلم بهما ولو على وجه كلّيّ كما في العلم الارتساميّ الكلّي ، فشهود المسموعات سمع وشهود المبصرات بصر ، فقد علمت ممّا ذكرنا أنّ سمعه وبصره ليسا بحيث يرجعان إلى مطلق العلم». الأسفار ٦ : ٤٢٢.

وأورد عليه المصنّف رحمه‌الله ـ تعليقا عليه ـ بما لفظه : «قد عرفت ممّا تقدّم أنّ هذا الشهود الإشراقيّ المتحقّق بحضور الموجودات بوجوداتها عنده تعالى غير منحصر في الكيفيّات المسموعة والمبصرة ، بل سائر الكيفيّات أعمّ من الملموسة والمشمومة والمذوقة وغيرها ، وكذلك الجواهر وسائر المقولات والامور الّتي لا تدخل تحت مقولة جميعا حاضرة عنده مشهودة له بالعلم الحضوريّ. بل قد عرفت أنّ علمه تعالى حضوريّ كلّه ولا سبيل إلى إثبات العلم الحصوليّ فيه تعالى. وعلى هذا فلا وجه لارجاع بصره وسمعه إلى الشهود الإشراقيّ والعلم الحضوريّ والقول بكونهما علمين مخصوصين زائدين على مطلق العلم ، لصحّة القول بأنّهما من مطلق العلم والمراد بهما العلم بالمبصرات والعلم بالمسموعات».

(١) وهو بعض الأقدمين من الفلاسفة على ما في الأسفار ٦ : ١٨٠ ، وشرح المنظومة : ١٦٤ ، والمباحث المشرقيّة ٢ : ٤٦٩ ـ ٤٧٥. وهم طائفتان : (الاولى) من نفى علمه تعالى. و (الثانية) من نفى علمه بغيره. قال المحقّق الطوسيّ في شرح رسالة مسألة العلم : ٢٧ : «وهذان المذهبان مذكوران في كتب المذاهب والآراء ، منقولان عنهم ـ أي القدماء ـ».

(٢) أي : مغلوب.

(٣) هذا القول منسوب إلى بعض الأقدمين من الفلاسفة كما مرّ ، فراجع الأسفار ٦ : ١٧٩ ـ ١٨٠ ، وشرح المنظومة : ١٦٤.

ونسبه الشهرستانيّ إلى هشام بن عمرو الفوطيّ وأبي بكر الأصمّ من أصحابه. راجع الملل والنحل ٢ : ٣١ و ٧٤.

٢٤٧

وأنّ ما دون ذلك حصوليّ تابع للمعلوم ، وهو ممنوع بما تقدّم إثباته (١) من أنّ للعلّة المجرّدة علما حضوريّا بمعلولها المجرّد ، وقد قام البرهان على أنّ له تعالى علما حضوريّا بمعلولاته قبل الإيجاد في مرتبة الذات وعلما حضوريّا بها بعد الإيجاد في مرتبة المعلولات.

الثاني : ما ينسب إلى أفلاطون (٢) أنّ علمه تعالى التفصيليّ هو العقول المجرّدة والمثل الإلهيّة الّتي تجتمع فيها كمالات الأنواع تفصيلا.

وفيه : أنّ ذلك من العلم بعد الإيجاد ، وهو في مرتبة وجوداتها الممكنة ، وانحصار علمه تعالى التفصيليّ بالأشياء فيها يستلزم خلوّ الذات المتعالية في ذاتها عن الكمال العلميّ ، وهو وجود صرف لا يشذّ عنه كمال من الكمالات الوجوديّة.

الثالث : ما ينسب إلى فرفوريوس (٣) أنّ علمه تعالى بالإتّحاد مع المعلوم.

وفيه : أنّ ذلك إنّما يكفي لبيان نحو تحقّق العلم (٤) ، وأنّ ذلك باتّحاد العاقل مع المعقول لا بالعرض (٥) ونحوه ، ولا يكفي لبيان ثبوت العلم بالأشياء قبل الإيجاد أو بعده.

الرابع : ما ينسب إلى شيخ الإشراق (٦) وتبعه جمع ممّن بعده من المحقّقين (٧)

__________________

(١) في الفصل الأوّل والفصل الحادي عشر من المرحلة الحادية عشرة.

(٢) نسب إليه في الملل والنحل ٢ : ٨٢ ـ ٨٩ ، والأسفار ٦ : ١٨١ ، وشرح المنظومة : ١٦٥ ، والجمع بين رأيي الحكيمين : ١٠٥.

(٣) نسب إليه في شوارق الإلهام : ٥١٦ ، والأسفار ٦ : ١٨٦ ، وشرح المنظومة : ١٦٧.

(٤) وفي النسخ : «لبيان تحقّق العلم» والصحيح ما أثبتناه كما في بداية الحكمة.

(٥) وفي النسخ : «بالعروض» والصحيح ما أثبتناه.

(٦) واستفاده بزعمه في خلوته الذوقيّة عن روحانية أرسطاطاليس ، كما في التلويحات : ٧٠ ـ ٧٤. وراجع حكمة الإشراق : ١٥٠ ـ ١٥٣ ، والمطارحات : ٤٨٨.

(٧) كالمحقّق الطوسيّ في شرح مسألة العلم : ٢٨ ـ ٢٩ ، والعلّامة الشيرازيّ في شرح حكمة الإشراق : ٣٥٨ ـ ٣٦٥ ، وابن كمّونة ومحمّد الشهرزوري ـ شارحي التلويحات ـ على ما نقل في الأسفار ٦ : ١٨١.

٢٤٨

أنّ الأشياء أعمّ من المجرّدات والمادّيّات حاضرة بوجودها العينيّ له تعالى ، غير غائبة ولا محجوبة عنه ، وهو علمه التفصيليّ بالأشياء بعد الإيجاد ، [وأمّا قبل الإيحاد] (١) فله تعالى علم إجماليّ بها بتبع علمه بذاته.

وفيه أوّلا : أنّ قوله ب «حضور المادّيّات له تعالى» ممنوع ، فالمادّيّة لا تجامع الحضور (٢) على ما بيّن في مباحث العاقل والمعقول (٣). وثانيا : أنّ قصر العلم التفصيليّ بالأشياء في مرتبة وجوداتها يوجب خلوّ الذات المتعالية الفيّاضة لكلّ كمال تفصيليّ في الأشياء عن تفصيلها ، وهي وجود صرف جامع لكلّ كمال وجوديّ بنحو أعلى وأشرف.

الخامس : ما ينسب إلى الملطيّ (٤) أنّه تعالى يعلم العقل الأوّل ـ وهو الصادر الأوّل ـ بحضوره عنده ، ويعلم سائر الأشياء ممّا دون العقل الأوّل بارتسام صورها في العقل الأوّل.

وفيه : أنّه يرد عليه ما يرد على القول السابق ـ من لزوم خلوّ الذات المتعالية

__________________

(١) وما بين المعقوفتين ليس في النسخ.

(٢) ويردّه ما ذكره الحكيم السبزواريّ ـ تعليقا على الأسفار ٦ : ١٦٥ ـ حيث قال : «وإن سألت عن الحقّ فأقول : عدم كون هذه المادّيّات والظلمات أنوارا علميّة إنّما هي بالنسبة إلينا. وأمّا بالنسبة إلى المبادئ العالية سيّما بالنسبة إلى مبدأ المبادئ ، فهي علوم حضوريّة فعليّة ومعلومات بالذات ، وإن لم تكن هذه المرتبة من العلم في مرتبة العلم العنائيّ الذاتيّ. فحصولها للمادّة ينافي العلم فينا ، إذ لسنا محيطين فلسنا مدركين نالين لها. وأمّا بالنسبة إلى المحيط بالمادّة وما فيها فحضورها للمادّة حضور له ، إذ لم يشذ المادّة عن حيطته ، بل حضورها له بنحو أشدّ ، لأنّ لها حضورا للفاعل بالوجود ، لأنّ نسبة المعلول إلى فاعله بالوجوب».

(٣) راجع الفصل الأوّل من المرحلة الحادية عشرة.

(٤) أي : ثاليس الملطيّ ، فإنّه قال : «إنّ علمه بالعقل بحضور ذاته وعلمه بالأشياء زائدة عليها مطابقة لها قائمة بذات المعلول الأوّل لا بذاته». راجع الملل والنحل ج ٢ ص ٦٢. ونسب إليه في شرح المنظومة : ١٦٦ ، وشوارق الإلهام : ٥١٥.

وأمّا انكسيمانس الملطيّ فقال : «إنّ علمه تعالى بالأشياء انّما هو بصور زائدة على الأشياء مطابقة لها قائمة بذاته تعالى». كذا نقل عنه في شوارق الإلهام : ٥١٥ ، وشرح المنظومة : ١٦٦.

٢٤٩

عن الكمال ، وهي واجدة لكلّ كمال ـ. على أنّه قد تقدّم في مباحث العاقل والمعقول (١) أنّ العقول المجرّدة لا علم ارتساميّا حصوليّا لها.

السادس : قول بعضهم (٢) : «إنّ لذاته (٣) المتعالية علم تفصيليّ بالمعلول الأوّل وإجماليّ بما دونه ، ولذات (٤) المعلول الأوّل علم تفصيليّ بالمعلول الثاني وإجماليّ بما دونه ، وعلى هذا القياس».

وفيه : محذور خلوّ الذات المتعالية عن كمال العلم بما دون المعلول الأوّل ، وهي وجود صرف لا يسلب عنه كمال.

السابع : ما ينسب إلى أكثر المتأخّرين (٥) أنّ له تعالى علما تفصيليّا بذاته وهو علم إجماليّ بالأشياء قبل الإيجاد ، وأما علمه التفصيليّ بالأشياء فهو بعد وجودها ، لأنّ العلم تابع للمعلوم ولا معلوم قبل الوجود العينيّ.

وفيه : محذور خلوّ الذات المتعالية عن الكمال العلميّ ـ كما في الوجوه السابقة ـ. على أنّ فيه إثبات العلم الارتساميّ الحصوليّ في الوجود المجرّد المحض.

الثامن : ما ينسب إلى المشّائين (٦) أنّ له تعالى علما حضوريّا بذاته المتعالية ، وعلما تفصيليّا حصوليّا بالأشياء قبل إيجادها بحضور ماهيّاتها على النظام الموجود في الخارج لذاته تعالى ، لا على وجه الدخول بعينيّة أو جزئيّة ، بل على نحو قيامها بها بالثبوت الذهنيّ على وجه الكلّيّة ، بمعنى عدم تغيّر العلم بتغيّر

__________________

(١) لا يخفى أنّه لم يصرّح به في هذا الكتاب ، بل إنّما أشار إليه في الفصل الخامس عشر من المرحلة السادسة ، والفصل الحادي عشر من المرحلة الحادية عشرة.

(٢) أي : بعض الحكماء. وتبعهم الحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة : ١٦٨.

(٣) وفي النسخ : «ذاته» والأولى ما أثبتناه.

(٤) وفي النسخ : «ذات» والأولى ما أثبتناه.

(٥) نسبه إليهم الحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة : ١٦٦.

(٦) كانكسيمانس الملطيّ من القدماء ، وأبي نصر الفارابيّ وأبي عليّ بن سينا وبهمنيار وغيرهم من المتأخّرين. راجع الأسفار ٦ : ١٨٠ ، وشرح المنظومة : ١٦٦ ، وشوارق الإلهام : ٥١٥ ، والتعليقات للفارابيّ : ٢٤ ، والجمع بين رأيي الحكيمين : ١٠٦ ، والتعليقات للشيخ الرئيس : ٢٦ ـ ٣٢ و ٦٦ و ٨١ ـ ٨٢ و ١١٦ و ١١٩ ـ ١٢٠ و ١٤٩ و ١٥٣ و ١٥٦.

٢٥٠

المعلوم ـ على ما اصطلح عليه في مباحث العلم ـ ، فهو علم عنائيّ يستتبع فيه حصول المعلوم علما حصوله عينا.

وفيه أوّلا : ما في سابقه من محذور خلوّ الذات عن الكمال. وثانيا : ما في سابقه أيضا من محذور ثبوت العلم الحصوليّ فيما هو مجرّد ذاتا وفعلا. وثالثا : أنّ لازمه ثبوت وجود ذهنيّ من غير عينيّ يقاس إليه ، ولازمه أن يعود وجودا آخر عينيّا للماهيّة قبل وجودها الخاصّ بها ، وهو منفصل الوجود عنه تعالى ، ويرجع بالدقّة إلى القول الثاني المنسوب إلى أفلاطون.

واعلم أنّ أكثر المتكلّمين على هذا القول وإن طعنوا فيه من حيث عدّهم العلم قبل الإيجاد كلّيّا ، زعما منهم أنّ المراد بالكلّيّ ما اصطلح عليه في مبحث الكلّيّ والجزئيّ من المنطق (١). وذلك أنّهم اختاروا أنّ العلم التفصيليّ قبل الإيجاد حصوليّ ، وأنّه على حاله قبل وجود الأشياء وبعد وجودها من غير تغيير.

التاسع : قول المعتزلة (٢) أنّ للماهيّات ثبوتا عينيّا في العدم ، وهو الّذي تعلّق به علمه تعالى قبل الإيجاد.

وفيه : أنّه قد تقدّم (٣) بطلان القول بثبوت المعدومات.

العاشر : ما نسب إلى الصوفيّة (٤) أنّ للماهيّات ثبوتا علميّا بتبع الأسماء والصفات ، هو الّذي تعلّق به علمه تعالى قبل الإيجاد.

وفيه : أنّ أصالة الوجود واعتباريّة الماهيّة تنفي أيّ ثبوت مفروض للماهيّات قبل ثبوتها العينيّ الخاصّ بها.

__________________

(١) راجع شرح المنظومة (قسم المنطق) : ١٦ ، وشرح المطالع : ٤٨ ، وشرح الإشارات ١ : ٣٨ ، والتحصيل : ١٥ ـ ١٧ ، وشرح الشمسية : ٣٢ ـ ٣٣.

(٢) نسب إليهم في الأسفار ٦ : ١٨١ ـ ١٨٢ ، وشرح المنظومة : ١٦٥.

(٣) راجع الفصل الثاني من المرحلة الاولى.

(٤) كالشيخ العارف محيي الدين العربيّ في الفتوحات المكّيّة ١ : ٢٠٢ ، وفصوص الحكم : ٤٨ ـ ٥٨ ، والشيخ صدر الدين القونويّ في مفتاح غيب الجمع والوجود ، فراجع كلام الماتن في مصباح الانس : ٨٢ ـ ٨٣.

٢٥١

الفصل الثاني عشر

في العناية والقضاء والقدر

ذكروا (١) أنّ من مراتب علمه تعالى العناية والقضاء والقدر (٢) ، لصدق كلّ منها بمفهومه الخاصّ على خصوصيّة من خصوصيّات علمه تعالى.

أمّا العناية (٣) : وهي كون الصورة العلميّة علّة موجبة للمعلوم الّذي هو الفعل ،

__________________

(١) راجع شرح الإشارات ٣ : ٣١٦ ـ ٣١٨ ، والأسفار ٦ : ٢٩٠ ـ ٢٩٦ ، وشرح المنظومة : ١٧٥ ـ ١٧٧.

(٢) وتلك المراتب خمسة عند صدر المتألّهين : العناية والقلم واللوح والقضاء والقدر. وستّة عند الحكيم السبزواريّ ، هي الخمسة المذكورة ومرتبة سجلّ الكون. راجع الأسفار ٦ : ٢٩٠ ـ ٢٩١ ، وشرح المنظومة (قسم الحكمة) : ١٧٥.

(٣) واختلفوا فيه إثباتا ونفيا ، فذهب بعضهم إلى إنكاره وبعض آخر إلى إثباته ، كما اختلفوا المثبتون أيضا في معناها.

فذهب الشيخ الإشراقيّ وأتباعه إلى إنكارها ، فقال في حكمة الإشراق : ١٥٣ : «وأمّا العناية فلا حاصل لها».

وذهب الشيخ الرئيس وأتباعه إلى إثباتها ، فقال : «العناية هي احاطة علم الأوّل بالكلّ». راجع شرح الإشارات ٣ : ٣١٨ ، والمبدأ والمعاد : ٨٤ ، والنجاة : ٢٨٤ ، والتعليقات : ١٩.

وأثبتها أيضا صدر المتألّهين والحكيم السبزواريّ وصدر الدين القونويّ بعد اختلافهم في معناها.

فهي عند المشّائين عبارة عن الصور المرتسمة في الصقع الربوبيّ زائدة على ذاته على وجه العرض. ـ

٢٥٢

فإنّ علمه التفصيليّ بالأشياء ـ وهو عين ذاته ـ علّة لوجودها بما لها (١) من الخصوصيّات المعلومة ، فله تعالى عناية بخلقه.

وأمّا القضاء : فهو بمفهومه المعروف جعل النسبة الّتي بين موضوع ومحموله ضروريّة موجبة ، فقول القاضي مثلا في قضائه ـ فيما إذا تخاصم زيد وعمرو في مال أو حقّ ورفعا إليه الخصومة والنزاع وألقيا إليه حجّتهما ـ : «المال لزيد والحقّ لعمرو» إثبات المالكيّة لزيد وإثبات الحقّ لعمرو إثباتا ضروريّا يرتفع به التزلزل والتردّد الّذي أوجده التخاصم والنزاع قبل القضاء وفصل الخصومة. وبالجملة : قضاء القاضي إيجابه الأمر إيجابا علميّا يتبعه إيجابه الخارجيّ اعتبارا.

وإذا اخذ هذا المعنى حقيقيّا بالتحليل غير اعتباريّ انطبق على الوجوب الّذي يتلبّس به الموجودات الممكنة من حيث نسبتها إلى علّتها التامّة (٢) فإنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد ، وهذا الوجوب الغيريّ من حيث نسبته إلى العلّة التامّة إيجاب ، ولا شيء في سلسلة الوجود الإمكانيّ إلّا وهو واجب موجب بالغير ، والعلل تنتهي إلى الواجب بالذات ، فهو العلّة الموجبة لها ولمعلولاتها (٣).

__________________

ـ وعند صدر المتألّهين والحكيم السبزواريّ عبارة عن علمها بالأشياء في مرتبة ذاتها ، علما مقدّسا عن شوب الإمكان ، فليست زائدة على ذاته تعالى ، بل هي نفس ذاته تعالى. راجع الأسفار ٦ : ٢٩١ ، وشرح المنظومة (قسم الحكمة) : ١٧٦.

وعند صدر الدين القونويّ عبارة عن إفاضة نوره الوجوديّ على من انطبع في مرآة عينه الّتي هي نسبة معلوميّته واستعدّ لقبول حكم ايجاده ومطهّريّته. راجع مصباح الانس (كلام الماتن) : ٨٧.

ومن هنا يظهر أنّ المصنّف رحمه‌الله تبع صدر المتألّهين ، وصرّح بذلك في تعليقته على الأسفار ٦ : ٢٩١ حيث قال : «العلم العنائيّ هو علم الفاعل بغاية فعله ، فالمعتمد في إثباته فيه تعالى على وجوب تقدّر الغاية لكلّ فعل عند فاعله ، وكون غايته تعالى في أفعاله هي ذاته ، فغاية كلّ موجود أو نظام وجود ـ وهي كماله الأخير والمصلحة المطلوبة منه ـ لها نحو تقرّر عنده تعالى بما أنّ الفعل فعله ، فينتج ما ذكره رحمه‌الله أنّه العلم التفصيليّ الذاتيّ بالكمالات الوجوديّة والنظام الأتمّ الجاري فيها».

(١) وفي النسخ : «بماله» والاولى ما أثبتناه.

(٢) وفي النسخ : «عللها التامّة» والصحيح ما أثبتناه.

(٣) بل لا علّة بحقيقة معنى الكلمة إلّا الواجب تعالى.

٢٥٣

وإذ كانت الموجودات الممكنة ـ بما لها من النظام الأحسن ـ في مرتبة وجوداتها العينيّة علما فعليّا للواجب تعالى فما فيها من الإيجاب قضاء منه تعالى. وفوقه العلم الذاتيّ منه المنكشف له به كلّ شيء على ما هو عليه في الأعيان على التفصيل بنحو أعلى وأشرف.

فالقضاء قضاءان : قضاء ذاتيّ خارج من العالم ، وقضاء فعليّ داخل فيه.

ومن هنا يظهر ضعف ما نسب إلى المشهور (١) من أنّ القضاء هو ما عند المفارقات العقليّة من العلم بالموجودات الممكنة بما لها من النظام.

وكذا ما ذهب إليه صدر المتألّهين رحمه‌الله ، أنّ القضاء هو العلم الذاتيّ المتعلّق بتفاصيل الخلقة ، قال في الأسفار : «وأمّا القضاء فهو عندهم عبارة عن وجود الصور العقليّة لجميع الموجودات ، فائضة عنه تعالى على سبيل الإبداع دفعة بلا زمان ، لكونها عندهم من جملة العالم ومن أفعال الله المباينة ذواتها لذاته ، وعندنا صور علميّة لازمة لذاته بلا جعل ولا تأثير وتأثّر ، وليست من أجزاء العالم ، إذ ليست لها حيثيّة عدميّة ولا إمكانات واقعيّة. فالقضاء الربّانيّ ـ وهو صورة علم الله ـ قديم بالذات باق ببقاء الله» (٢) ـ إنتهى.

وينبغي أن يحمل قوله : «صور علميّة لازمة لذاته» على العلم الذاتيّ الّذي لا ينفكّ عن الذات ، وإلّا فلو كانت لازمة خارجة كانت من العالم ولم تكن قديمة بالذات ـ كما صرّح بذلك ـ. على أنّها لو كانت حضوريّة انطبقت على قول أفلاطون في العلم ، وهو (٣) لا يرتضيه ، ولو كانت حصوليّة انطبقت على قول المشّائين ، وهو (٤) لا يرتضيه أيضا.

ووجه الضعف في القولين (٥) أنّ صدق القضاء بمفهومه على إحدى المرتبتين من العلم ـ أعني العلم الذاتيّ والعلم الفعليّ ـ لا ينفي صدقه على الاخرى ، فالحقّ

__________________

(١) نسب إليهم في الأسفار ٦ : ٢٩١ ـ ٢٩٢.

(٢) راجع الأسفار ٦ : ٢٩١ ـ ٢٩٢.

(٣ و ٤) الضميران عائدان إلى صدر المتألّهين.

(٥) أي : قول المشهور وقول صدر المتألّهين.

٢٥٤

أنّ القضاء قضاءان : ذاتيّ وفعليّ ـ كما تقدّم بيانه ـ.

وأمّا القدر : فهو ما يلحق الشيء من كمّيّة أو حدّ في صفاته وآثاره. والتقدير تعيين ما يلحقه من الصفات والآثار تعيينا علميّا يتبعه العمل على حسب ما تسعه الأسباب والأدوات الموجودة ، كما أنّ الخيّاط يقدّر ما يخيطه من اللباس على الثوب الّذي بين يديه ثمّ يخيط على ما قدّر ، والبنّاء يقدّر ما يريده من البناء على القاعة (١) من الأرض على حسب ما تسعه وتعيّن عليه الأسباب والأدوات الموجودة عنده ، ثمّ يبني البناء على طبق ما قدّر لأسباب متجدّدة توجب عليه ذلك ، فالتقدير بالنسبة إلى الشيء المقدّر كالقالب الّذي يقلب به الشيء فيحدّ به الشيء بحدّ أو حدود لا يتعدّاها.

وإذا اخذ هذا المعنى بالتحليل حقيقيّا انطبق على الحدود الّتي تلحق الموجودات المادّيّة من ناحية عللها الناقصة بما لها من الصور العلميّة في النشأة الّتي فوقها ، فإنّ لكلّ واحدة من العلل الناقصة بما فيها من الحيثيّات المختلفة أثرا في المعلول يخصّص إطلاقه في صفته وأثره. فإذا تمّ التخصيص بتمام العلّة التامّة حصل له التعيّن والتشخّص بالوجود الّذي تقتضيه العلّة التامّة. فللإنسان ـ مثلا ـ خاصّة الرؤية ، لكن لا بكلّ وجوده ، بل من طريق بدنه ؛ ولا ببدنه كلّه ، بل بعضو منه مستقرّ في وجهه ، فلا يرى إلّا ما يواجهه ؛ ولا كلّ ما يواجهه ، بل الجسم ؛ ولا كلّ جسم ، بل الكثيف من الأجسام ذي اللون (٢) ؛ ولا نفس الجسم ، بل سطحه ؛ ولا كلّ سطوحه ، بل السطح المحاذي ؛ ولا في كلّ وضع ؛ ولا في كلّ حال ؛ ولا في كلّ مكان ؛ ولا في كلّ زمان. فلئن أحصيت الشرائط الحافّة حول رؤية واحدة شخصيّة ألفيت جمّا غفيرا لا يحيط به الإحصاء ، وما هي إلّا حدود ألحقتها (٣) بها العلل الناقصة الّتي تحدّ الرؤية المذكورة بما تضع فيها من أثر ومنها ما يمنعه الموانع من التأثير.

__________________

(١) وهي ساحة الدار.

(٢) وفي النسخ : «ذا اللون» والصحيح ما أثبتناه.

(٣) وفي النسخ : «ألحقها» والصحيح ما أثبتناه.

٢٥٥

وهذه الحدود جهات وجوديّة تلازمها سلوب كما تبيّن آنفا (١) ، ولها صور علميّة في نشأة المثال الّتي فوق نشأة المادّة تتقدّر بها صفات الأشياء وآثارها ، فلا سبيل لشيء منها إلّا إلى صفة أو أثر هداه إليه التقدير.

فإن قلت : لازم هذا البيان كون الإنسان مجبرا غير مختار في أفعاله.

قلت : كلّا ، فإنّ الاختيار أحد الشرائط الّتي يحدّ بها فعل الإنسان. وقد فصّلنا القول في دفع هذه الشبهة في مباحث الوجود (٢) وفي مباحث العلّة والمعلول (٣).

فإن قلت : هلّا عمّمتم القول في القدر ، وهو ضرب الحدود للشيء من حيث صفاته وآثاره في علم سابق يتبعه العين حتّى يعمّ الماهيّات الإمكانيّة ، فإنّ الماهيّات أيضا حدود لموضوعاتها تتميّز من غيرها وتلازمها سلوب لا تتعدّاها. وقد تقدّم أنّ كلّ ذي ماهيّة فهو ممكن (٤) وأنّ الممكن مركّب الذات من الإيجاب والسلب (٥) فيعمّ القدر كلّ ممكن ، سواء كان عقلا مجرّدا أو مثالا معلّقا أو طبيعة مادّيّة ، ويكون العلم السابق الّذي يتقدّر به الشيء علما ذاتيّا.

وبالجملة : يكون القدر بحسب العين هو التعيّن المنتزع من الوجود العينيّ ، والتقدير هو التعيين العلميّ الّذي يتبعه العين ـ كما أنّ المقضيّ هو الوجوب المنتزع من الوجود العينيّ ، والقضاء هو الإيجاب العلميّ الّذي يستتبعه ـ سواء كان من حيث الماهيّة والذات أو من حيث الصفات والآثار.

قلت : كون الماهيّة حدّا ذاتيّا للممكن لا ريب فيه ، لكنّهم راعوا في بحث القدر ظاهر مفهومه ، وهو الحدّ الّذي يلحق الشيء فيما هو موضوع له من الصفات والآثار دون أصل الذات ، فلا يعمّ ما وراء الطبائع الّتي لها تعلّق مّا بالمادّة.

وغرضهم من عقد هذا البحث بيان أنّ الممكن ليس مرخى العنان فيما يلحق به من الصفات والآثار مستقلّا عن الواجب تعالى فيما يتّصف به أو يفعل ، بل الأمر

__________________

(١) راجع الفصل الرابع من هذه المرحلة.

(٢) راجع الفصل الخامس من المرحلة الرابعة.

(٣) راجع الفصل الثالث من المرحلة الثامنة.

(٤) راجع الفصل الأوّل من المرحلة الرابعة.

(٥) راجع الفصل الرابع من هذه المرحلة.

٢٥٦

في ذلك إليه تعالى ، فلا يقع إلّا ما قدّره. وهذا قريب المعنى من قولهم : «علّة علّة الشيء علّة لذلك الشيء».

كما أنّ غرضهم من بحث القضاء بيان أنّ الممكن لا يقع إلّا بوجوب غيريّ ينتهي إليه تعالى في علم سابق (١) ، وهو قريب المعنى من قولهم : «الشيء ما لم يجب لم يوجد».

__________________

(١) إعلم أنّهم اختلفوا في الفرق بين القضاء والقدر :

فقال السيّد الداماد : «القضاء نسبة فاعليّة البارئ الحقّ سبحانه على حسب علمه وعنايته إلى الإنسان الكبير في مرتبة شخصيّته الوحدانيّة الجمليّة. والقدر نسبة فاعليّته سبحانه إلى هذا الانسان الكبير في مرتبة تشريح أعضائه وتفصيل أخلاطه وأركانه وأرواحه وقواه بحسب تأدية الأسباب المترتّبة المتأدّية إلى خصوصيّات تفاصيلها». القبسات : ٤١٨.

وقال الحكيم السبزواريّ : «الصور الكلّيّة القائمة بالعقل كانت قضاء. وكذلك الصور الجزئيّة القائمة بالنفس الجزئيّة المنطبعة الفلكيّة قدرا». شرح المنظومة (قسم الحكمة) : ١٧٧.

ويستفاد من كلام المصنّف رحمه‌الله في المقام وكلامه في تعليقته على الأسفار ٦ : ٢٩٢ أنّ الفرق بينهما من جهات ثلاث :

الاولى : أنّ القضاء هو العلم بالنسبة الوجوبيّة للشيء إلى فاعله التامّ ، والقدر هو العلم بنسبته الإمكانيّة إلى بعض أجزاء العلّة التامّة.

الثانية : أنّ موطن القدر هو عالم المادّة الّذي تتكثّر فيه العلل وتتعاون وتتزاحم ، بخلاف القضاء حيث عمّموه إلى المجرّدات أيضا.

الثالثة : أنّ القضاء لا يتغيّر ، بخلاف القدر ، فإنّه يتغيّر وربما يتخلّف عن مقتضاه.

٢٥٧

الفصل الثالث عشر

في قدرته تعالى

إنّ من المعاني الّتي نعدّها من الكمالات الوجوديّة القدرة. ولا تكون إلّا في الفعل دون الانفعال ، فلا نعدّ انفعال الشيء عن غيره ـ شديدا كان أو ضعيفا ـ قدرة ، ولا في كلّ فعل ، بل في الفعل الّذي لفاعله علم به ، فلا نسمّي مبدئيّة الفواعل الطبيعيّة العادمة للشهور قدرة لها ، ولا في كلّ فعل لفاعله علم به ، بل في الفعل العلميّ الّذي يبعث العلم به فاعله على الفعل ، فليست مبدئيّة الإنسان ـ مثلا ـ لأفعاله الطبيعيّة البدنيّة قدرة ، وإن كان له علم بها ، بل الفعل الّذي يعلم الفاعل أنّه خير له من حيث إنّه هذا الفاعل بأن يتصوّره ويصدّق أنّه خير له من حيث إنّه هذا الفاعل.

ولازم العلم بكون الفعل خيرا للفاعل أن يكون كمالا له يقتضيه بنفسه ، فإنّ خير كلّ نوع هو الكمال المترتّب عليه ، والطبيعة النوعيّة هي المبدأ المقتضي له ، وإذا فرض أنّه عالم بكونه خيرا له وكمالا يقتضيه انبعث الفاعل إليه بذاته.

لا بإيجاب مقتض غيره وتحميله عليه ، فلا قدرة مع الإجبار ، والقادر مختار ، بمعنى أنّ الفعل إنّما يتعيّن له بتعيين منه (١) ، لا بتعيين من غيره.

__________________

(١) أي : بتعيين من نفسه ، بأن يقتضيه ذاته.

٢٥٨

ثمّ إذا تمّ العلم بكون الفعل خيرا أعقب ذلك شوقا من الفاعل إلى الفعل ، فالخير محبوب له مطلقا مشتاق إليه إذا فقد. وهذا الشوق كيفيّة نفسانيّة غير العلم السابق قطعا ، وأعقب ذلك الإرادة ، وهي كيفيّة نفسانيّة غير العلم السابق وغير الشوق قطعا ، وبتحقّقها يتحقّق الفعل الّذي هو تحريك العضلات بواسطة القوّة العاملة المنبثّة فيها.

هذا ما يكشف البحث عن القدرة الّتي عندنا من القيود الّتي فيها (١) وهي المبدئيّة للفعل ، والعلم بأنّه خير للفاعل ـ علما يلازم كونه مختارا في فعله ـ والشوق إلى الفعل والإرادة له.

وقد تحقّق (٢) أنّ كلّ كمال وجوديّ في الوجود فإنّه موجود للواجب تعالى في حدّ ذاته ، فهو تعالى عين القدرة الواجبيّة (٣) لكن لا سبيل لتطرّق الشوق إليه ، لكونه كيفيّة نفسانيّة تلازم الفقد (٤) والفقد يلازم النقص ، وهو تعالى منزّه عن كلّ نقص وعدم. وكذلك الإرادة (٥) الّتي هي كيفيّة نفسانيّة غير العلم والشوق ، فإنّها ماهيّة ممكنة ، والواجب تعالى منزّه عن الماهيّة والإمكان ، على أنّ الإرادة بهذا المعنى هي مع المراد ـ إذا كان (٦) من الامور الكائنة الفاسدة ـ لا توجد قبله ولا تبقى بعده ، فاتّصاف الواجب تعالى بها مستلزم لتغيّر الموصوف ، وهو محال.

فتحصّل : أنّ القدرة المجرّدة عن النواقص والأعدام هي كون الشيء مبدأ فاعليّا للفعل عن علم بكونه خيرا واختيار في ترجيحه ، والواجب تعالى مبدأ فاعليّ لكلّ موجود بذاته ، له علم بالنظام الأصلح في الأشياء بذاته ، وهو مختار

__________________

(١) قوله : «من القيود الّتي فيها» متعلّق بقوله : «يكشف» أي : هذه القيود الّتي ذكرناها في القدرة ما يكشفها البحث عن القدرة الّتي للانسان.

(٢) في الفصل السادس من هذه المرحلة.

(٣) لأنّها من الكمالات الوجوديّة.

(٤) فإنّ الكيفيّات النفسانيّة قسم من الكيفيّات ، وهي قسم من الأعراض ، وكلّ عرض ماهيّة ، وكلّ ماهيّة محدودة ، وكلّ محدود يلازم الفقد بالضرورة.

(٥) أي : ولا سبيل لتطرّق الإرادة إليه.

(٦) أي : المراد.

٢٥٩

في فعله بذاته ، إذ لا مؤثّر غيره يؤثّر فيه ، فهو تعالى قادر بذاته (١).

__________________

(١) إعلم أنّ للقدرة تعريفين مشهورين :

أحدهما : ما ذهب إليه المتكلّمون من أنّ القدرة صحّة صدور الفعل ولا صدوره ـ أي الترك ـ وثانيهما : ما ذهب إليه الفلاسفة من أنّ القدرة هي : كون الفاعل في ذاته بحيث إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل.

أمّا التعريف الأوّل فإن كان المراد من الصحّة هو الجواز العقليّ الّذي مرجعه إلى الإمكان الذاتيّ ـ أي يكون معنى صحّة الفعل والترك أنّ كلّ واحد من طرفي الفعل والترك بالقياس إلى ذات الفاعل ممكن بالامكان الذاتيّ بحيث إنّ ذات الفاعل قطع النظر عمّا هو خارج عن ذاته لا يقتضي صدور الفعل ولا تركه ، فيكون الفعل في حدّ الاستواء ـ فالقدرة بهذا المعنى إنّما يتصوّر في من كان فعله الصادر عنه متوقّفا على امور خارجة من ذاته ، كالعلم والإرادة الزائدتين على ذاته ، وأمّا في الواجب تعالى الّذي يكون علمه وإرادته عين ذاته فلا يتصوّر.

وأمّا التعريف الثاني فهو يرجع إلى تقييد فاعليّة الفاعل بالإرادة. وإذا كان المراد من الإرادة صفة نفسانيّة تتبع العلم بمصلحة الفعل الملزمة فلا يتصوّر في الواجب تعالى.

والمصنّف رحمه‌الله فسّر القولين ـ في تعليقته على الأسفار ٦ : ٣٠٧ ـ ٣٠٨ ـ بما يتصوّر في الممكن والواجب معا. فقال : «أمّا تفسيرها بصحّة الفعل والترك ـ والصحّة على ما نفهم من معناها هو الجواز ، أي : كون النسبة بين الفاعل وبين كلّ من الفعل والترك نسبة الإمكان ، فلا يكون الفعل ممتنعا حتّى يتقيّد المبدأ الفاعليّ بالترك ، ولا الترك ممتنعا حتّى يتقيّد بالفعل ـ فيعود الأمر إلى كون الفاعل مطلقا غير مقيّد بشيء من الفعل والترك. هذا ، وليس في حدّ القدرة أن تكون غير الفاعل القادر ولا عينه ، وإن كانت القدرة الّتي فينا خارجة عن ذاتنا.

ثمّ إنّ الواجب تعالى وجود لا يشوبه عدم ، ومطلق غير متقيّد بقيد ولا محدود بحدّ ، وفاعل لكلّ بنفس ذاته لا بأمر يلحقه من خارج. فإذا كانت ذاته مبدأ الفعل ـ وهو مطلق غير مقيّد ـ فلا يكون مقيّدا بالفعل لامتناع الترك ، ولا بالترك لامتناع الفعل ، بل مبدأ فعله الّذي هو ذاته مطلق غير مقيّد بالفعل أو الترك. وهذه هي القدرة الواجبيّة ، وهي عين الذات.

وأمّا تفسيرها بكون الفاعل بحيث إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل فيرجع إلى تقييد فاعليّة الفاعل بالإرادة. وهي فينا صفة نفسانيّة تتبع العلم بمصلحة الفعل الملزمة ، فالمبدأ الفاعليّ فينا متقيّد بالعلم بما يكون داعيا إلى الفعل.

ثمّ لو أثبت صفة الإرادة في الذات المتعالية (ولتكن بمعنى العلم بالأصلح) ـ والمفروض أنّ فاعليّته تعالى بنفس ذاته وأنّ علمه عين ذاته ـ صارت الإرادة والعلم اللّذان هما قيدان لفاعليّتنا عين الذات المطلقة هناك ، وصدق عليه تعريف القادر ، لكونه فاعلا عن إرادة ـ

٢٦٠