نهاية الحكمة - ج ٢

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

نهاية الحكمة - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-470-624-0
الصفحات: ٣٣٦

برهان آخر : لو كان له جزء لكان متقدّما عليه في الوجود وتوقّف الواجب عليه في الوجود ، ضرورة تقدّم الجزء على الكلّ في الوجود وتوقّف الكلّ فيه عليه ، ومسبوقيّة الواجب وتوقّفه على غيره وهو واجب الوجود محال (١).

برهان آخر (٢) : لو تركّبت ذات الواجب تعالى من أجزاء لم يخل إمّا أن يكون جميع الأجزاء واجبات بذواتها ، وإمّا أن يكون بعضها واجبا بالذات وبعضها ممكنا ، وإمّا أن يكون جميعها ممكنات. والأوّل محال ، إذ لو كانت الأجزاء واجبات بذواتها كان بينها إمكان بالقياس كما تقدّم (٣) ، وهو ينافي كونها أجزاء حقيقيّة لمركّب حقيقيّ ذي وحدة حقيقيّة ، إذ من الواجب في التركيب أن يحصل بين الأجزاء تعلّق ذاتيّ يحصل به أمر جديد وراء المجموع ، له أثر وراء آثار كلّ واحد من الأجزاء (٤). والثاني محال ، للزوم افتقار الواجب بالذات إلى الممكن (٥) ؛ على أنّ لازمه دخول الماهيّة في حقيقة الواجب ، لما تقدّم في مرحلة الوجوب والإمكان أنّ كلّ ممكن فله ماهيّة (٦). والثالث أيضا محال بمثل

__________________

(١) قال في الأسفار ٦ : ١٠ : «وهذا البيان يجري فيما سوى الأجزاء المقداريّة ، لأنّ تلك الأجزاء ليست في الحقيقة متقدّمة ، بل نسبة الجزئيّة إليها بالمسامحة والتشبيه ، فلا بدّ في نفي تلك الأجزاء عنه من بيان آخر».

وقال المصنّف ـ تعليقا على الأسفار ٦ : ١٠١ : «والأولى الاعتماد في نفي الأجزاء المقداريّة على برهان نفي مطلق الحدّ عنه تعالى من جهة كونه واجب الوجود بالذات».

(٢) ذكره صدر المتألّهين في الأسفار ٦ : ١٠٢ ـ ١٠٣.

(٣) في الفصل الثاني من المرحلة الرابعة.

(٤) والحاصل : أنّ الأجزاء لو كانت واجبات بذواتها لم يخل إمّا أن يكون بينها تلازم وتعلّق فيركّب منها مركّب حقيقيّ ، وهذا ينافي كونها واجبات بذواتها ، لأنّ المتلازمين إمّا أن يكون أحدهما علّة والآخر معلولا فلا يكون ما هو المعلول واجبا بالذات ، أو يكونا معلولي علّة ثالثة فلا يكون شيء منهما واجبا وإلّا لزم تعدّد الواجبات المستقلّة وهو ينافي توحيد الواجب الثابت بالبراهين ، وإمّا أن لا يكون بينهما تلازم أصلا وهذا ينافي كونها أجزاء حقيقيّة لمركّب حقيقيّ ذي وحدة حقيقيّة.

(٥) لأنّ المفروض أنّ بعض أجزائه ممكن.

(٦) راجع الفصل الأوّل من المرحلة الرابعة.

٢٢١

ما تقدّم (١).

وهذه البراهين غير كافية في نفي الأجزاء المقداريّة ـ كما قالوا (٢) ـ ، لأنّها أجزاء بالقوّة لا بالفعل ـ كما تقدّم في بحث الكمّ من مرحلة الجواهر والأعراض (٣) ـ.

وقد قيل (٤) في نفيها (٥) : «إنّه لو كان للواجب جزء مقداريّ فهو إمّا ممكن فيلزم أن يخالف الجزء المقداريّ كلّه في الحقيقة وهو محال ، وإمّا واجب فيلزم أن يكون الواجب بالذات غير موجود بالفعل بل بالقوّة وهو محال».

ثمّ إنّ من التركّب ما يتّصف به الشيء بهويّته الوجوديّة من السلوب ، وهو منفيّ عن الواجب بالذات تعالى وتقدّس.

بيان ذلك : أنّ كلّ هويّة صحّ أن يسلب عنها شيء بالنظر إلى حدّ وجودها ، فهي متحصّلة من إيجاب وسلب ، كالإنسان ـ مثلا ـ هو إنسان وليس بفرس في حاقّ وجوده ، وكلّ ما كان كذلك فهو مركّب من إيجاب هو ثبوت نفسه له وسلب هو نفي غيره عنه ، ضرورة مغايرة الحيثيّتين (٦). فكلّ هويّة يسلب عنها شيء فهي مركّبة.

__________________

(١) لأنّه لو كان جميع أجزاء الواجب تعالى أجزاء ممكنة ـ والكلّ متوقّفا في وجوده على أجزاء ـ يلزم منه أن يكون الواجب متوقّفا في وجوده على أجزائه الممكنة ، وهو ينافي كونه تعالى واجبا ، فإنّ الواجب مستغن عن غيره.

(٢) في فاعل قوله : «قالوا» وجهان : (أحدهما) أن يكون فاعله من أثبت الأجزاء المقداريّة للواجب تعالى ، وهو المشبّهة كما في الأسفار ٦ : ١٠١. (ثانيهما) أن يكون فاعله من قال بعدم كفاية البراهين المذكورة في نفي الأجزاء المقداريّة عن الواجب تعالى ، كما قال به صدر المتألّهين.

(٣) راجع الفصل التاسع من المرحلة السادسة.

(٤) والقائل هو صدر المتألّهين في الأسفار ٦ : ١٠١ ـ ١٠٢.

(٥) أي نفي الأجزاء المقداريّة عن الواجب.

(٦) فحيثيّة كون الإنسان انسانا ليست بعينها حيثيّة كونه ليس بفرس ، وإلّا لكان مفهوم «الإنسان» نفس مفهوم «ليس بفرس» ، وهو باطل ، ضرورة أنّه ليس ما يفهم من كلمة «الإنسان» ما يفهم من كلمة «ليس بفرس».

٢٢٢

ومعنى دخول النفي في هويّة وجوديّة ـ والوجود مناقض للعدم ـ نقص وجوديّ في وجود مقيس إلى وجود آخر ، ويتحقّق بذلك مراتب التشكيك في حقيقة الوجود وخصوصيّاتها. وتنعكس النتيجة بعكس النقيض إلى أنّ كلّ ذات بسيطة الحقيقة فإنّها لا يسلب عنها كمال وجوديّ.

والواجب بالذات وجود بحت لا سبيل للعدم إلى ذاته ولا يسلب عنه كمال وجوديّ ، لأنّ كلّ كمال وجوديّ ممكن فإنّه معلول مفاض من علّة ، والعلل منتهية إلى الواجب بالذات ، ومعطي الشيء لا يكون فاقدا له ، فله تعالى كلّ كمال وجوديّ من غير أن يداخله عدم ، فالحقيقة الواجبيّة بسيطة بحتة ، فلا يسلب عنها شيء (١) ، وهو المطلوب.

فإن قيل (٢) : إنّ له تعالى صفات سلبيّة بالبرهان ، ككونه ليس بجسم ولا جسمانيّ ولا بجوهر ولا بعرض.

قلنا : الصفات السلبيّة راجعة إلى سلب النقائص والأعدام ، وسلب السلب وجود ، وسلب النقص كمال وجود ـ كما قيل (٣) ـ.

فإن قيل : لازم ما تقدّم من البيان (٤) صحّة الحمل بينه تعالى وبين كلّ موجود

__________________

(١) فلا يتصوّر فيه التركيب الدقيق العقليّ ، وهو التركيب من الإيجاب والسلب.

والحكيم السبزواريّ تعرّض لإيراد آخر وقد أجاب عنه ، فينبغي ذكرهما في المقام :

أمّا الإيراد فحاصله : أنّ اللاكون نفي وسلب ، وليس شيء يحاذيه ، فلا يستدعي التركيب حتّى تنعكس النتيجة بعكس النقيض إلى أنّ كلّ ذات بسيطة الحقيقة ـ كالواجب ـ لا يسلب عنه كمال ، فلا تركيب فيه.

وأمّا الجواب ، فقال : «شرّ التراكيب هو التركيب من الإثبات والسلب إذا كان ذلك السلب سلب الكمال ـ كما هو المفروض ـ بل إن سألت الحقّ فلا تركيب إلّا هو ، إذ التركيب يستدعي سنخين : أحدهما الوجود والحقّيّة ، والآخر هو العدم والبطلان ، إذ الوجود والوجود ليسا سنخين ، حيث إنّ ما به الامتياز فيه عين ما به الاشتراك». راجع تعليقاته على الأسفار ٦ : ١١١ ـ ١١٢.

(٢) هذا الإشكال تعرّض له في الأسفار ٦ : ١١٤.

(٣) والقائل هو صدر المتألّهين في الأسفار ٦ : ١١٤.

(٤) من أنّ للحقيقة الواجبيّة كلّ كمال وجوديّ ، بل هو كلّ الأشياء وتمامها.

٢٢٣

وكمال وجوديّ (١) ، ولازمه عينيّة الواجب والممكن ، تعالى الله عن ذلك ، وهو خلاف الضرورة.

قلنا : كلّا ، ولو حمل الوجودات الممكنة عليه تعالى حملا شائعا صدقت عليه تعالى بكلتا جهتي إيجابها وسلبها وحيثيّتي كمالها ونقصها اللّتين تركّبت ذواتها منهما (٢) فكانت ذات الواجب مركّبة وقد فرضت بسيطة الحقيقة ، وهذا خلف. بل وجدانه تعالى بحقيقته البسيطة كمال كلّ موجود وجدانه له بنحو أعلى وأشرف ، من قبيل وجدان العلّة كمال المعلول ، مع ما بينهما من المباينة الموجبة لامتناع الحمل.

وهذا هو المراد بقولهم : «بسيط الحقيقة كلّ الأشياء» (٣) ، والحمل حمل الحقيقة والرقيقة (٤) دون الحمل الشائع (٥).

وقد تبيّن بما تقدّم أنّ الواجب لذاته تمام كلّ شيء.

__________________

(١) لأنّ كلّ كمال وجوديّ ممكن لا يسلب عنه ، فلا يسلب حمله عليه ، فيحمل عليه.

(٢) وفي النسخ : «منها» الصحيح ما أثبتناه.

(٣) راجع الأسفار ٦ : ١١٠ ـ ١١٤.

(٤) وهو حمل بعض مراتب الوجود المشكّك على بعض وليس شيء من مراتب الوجود عين الاخرى ، بل كلّ مرتبة عالية منها مقوّمة للمرتبة الدانية ، والدانية متقوّمة بالعالية ، والعالية واجدة لكمال نفسها وكمال الدانية.

(٥) قال المصنّف رحمه‌الله ـ تعليقا على الأسفار ٦ : ١١٠ ـ : «ليس من قبيل الحمل الشايع ، فإنّ الحمل الشايع (كقولنا : زيد إنسان وزيد قائم) يحمل فيه المحمول على موضوعه بكلتا حيثيتي إيجابه وسلبه اللّتين تركّبت ذاته منهما. ولو حمل شيء من الأشياء على بسيط الحقيقة بما هو مركّب صدق عليه ما فيه من السلب ، فكان مركّبا وقد فرض بسيط الحقيقة ، هذا خلف. فالمحمول عليه من الأشياء جهاتها الوجوديّة فحسب. وإن شئت فقل : إنّه واجد لكلّ كمال ، أو أنّه مهيمن على كلّ كمال. ومن هذا الحمل حمل المشوب على الصرف وحمل المحدود على المطلق».

٢٢٤

الفصل الخامس

في توحيد الواجب لذاته

و (١) أنّه لا شريك له في وجوب الوجود (٢)

قد تبيّن في الفصول السابقة (٣) أنّ ذات الواجب لذاته عين الوجود الّذي لا ماهيّة له ولا جزء عدميّ فيه ، فهو صرف الوجود ، وصرف الشيء واحد بالوحدة الحقّة الّتي لا تتثنّى ولا تتكرّر ، إذ لا تتحقّق كثرة إلّا بتميّز آحادها ، باختصاص كلّ منها بمعنى لا يوجد في غيره ، وهو ينافي الصرافة ، فكلّ ما فرضت له ثانيا عاد أوّلا ، فالواجب لذاته واحد لذاته ، كما أنّه موجود بذاته واجب لذاته ، وهو المطلوب. ولعلّ هذا هو مراد الشيخ بقوله في التعليقات : «وجود الواجب عين هويّته ، فكونه موجودا عين كونه هو ، فلا يوجد وجود الواجب لذاته لغيره» (٤) انتهى.

__________________

(١) الواو تفسيريّة.

(٢) أي : لا شريك له في الوجوب الذاتيّ ، وأمّا الشريك في الوجوب الغيريّ فينتفي بانتفاء موضوعه ، فإنّ الوجوب الغيريّ ينتفي عن الواجب ، فلا وجوب غيريّ له لكي يبحث عن وجود الشريك وعدمه له في الوجوب الغيريّ.

(٣) راجع الفصل الثالث من هذه المرحلة ، والفصل الثالث من المرحلة الرابعة.

(٤) راجع التعليقات للشيخ الرئيس : ١٨٣ ـ ١٨٤.

٢٢٥

برهان آخر (١) : لو تعدّد الواجب بالذات ، كأن يفرض واجبان بالذات وكان وجوب الوجود مشتركا بينهما ، وكان تميّزهما بأمر وراء المعنى المشترك بينهما (٢) ، فإن كان داخلا في الذات لزم التركّب (٣) ، وهو ينافي وجوب الوجود (٤) ، وإن كان خارجا منها كان عرضيّا معلّلا ، فإن كان معلولا للذات كانت الذات متقدّمة على تميّزها بالوجود ، ولا ذات قبل التميّز فهو محال ، وإن كان معلولا لغيره كانت الذات مفتقرة في تميّزها إلى غيرها وهو محال. فتعدّد واجب الوجود على جميع تقاديره محال (٥).

__________________

(١) هذا البرهان استدلّ به المشهور بتقرير آخر غير ما في المتن. راجع الأسفار ٦ : ٥٧ ، وشرح المقاصد ٢ : ٦١ ، والمباحث المشرقيّة ٢ : ٤٥١ ـ ٤٥٤.

(٢) فإنّ ما به الامتياز غير ما به الاشتراك بالضرورة.

(٣) في تفسير قوله : «فإن كان داخلا في الذات لزم التركّب» وجهان.

الأوّل : أن يكون معناه : فإن كان ذلك الأمر الّذي كان تميّزهما به داخلا في ذات كلّ منهما كما كان ما به الاشتراك ـ وهو وجوب الوجود ـ داخلا في ذات كلّ منهما لزم تركّب ذاتهما ممّا به الاشتراك وما به الاختلاف ، والتركّب يستلزم الحاجة إلى الأجزاء ، وهي تنافي الوجوب الذاتي الّذي هو مناط الغنى.

ويؤيّد هذا المعنى ما رامه المصنّف رحمه‌الله في تقرير البرهان في بداية الحكمة : ١٩٥.

الثاني : أن يكون معناه : فإن كان مميّز كلّ واحد منهما داخلا في ذاته كان الاختلاف بينهما بالنوع بأن يكون كلّ واحد منهما مغايرا مع النوع الآخر ، فيلزم أن يكون كلّ منهما مركّبا من الجنس والفصل ، ويكون ما به الاشتراك ـ وهو وجوب الوجود ـ محمولا عليهما بالحمل العرضي ، وكلاهما محال. أمّا الأوّل فلإنّ لازم التركّب هو الحاجة إلى الأجزاء وهي تنافي وجوب الوجود ، وأمّا الثاني فلأنّ كلّ عرضيّ معلّل ويحتاج إلى غيره وهو أيضا ينافي الوجوب الذاتيّ. وهذا المعنى هو المناسب لتقرير ذكره المشهور في بيان البرهان.

(٤) لأنّ المركّب يحتاج بعض أجزائه إلى بعض ، وكلّ محتاج ممكن. أو لأنّ المركّب من الجنس والفصل ماهيّة ، وكلّ ماهيّة ممكن.

(٥) ويمكن تقريب البرهان ببيان آخر ، هو : أنّه لو تعدّد الواجب لذاته فلا بدّ من امتياز كلّ منهما عن الآخر لكي يتمّ الاثنينيّة ، وحينئذ إمّا أن يكون ما به الامتياز في كلّ منهما داخلا في ذاته ، وإمّا أن يكون خارجا عنه ، وعلى التقديرين يلزم التركّب. أمّا على الأوّل فيكون الاختلاف بينهما بالنوع ، بأن يكون كلّ واحد منهما مغايرا مع النوع الآخر ، فيلزم أن يكون ـ

٢٢٦

واورد عليه الشبهة المنسوبة إلى ابن كمّونة (١) ـ وفي الأسفار (٢) أنّ أوّل من ذكرها الشيخ الإشراقيّ في المطارحات (٣) ثمّ ذكرها ابن كمّونة ، وهو من شرّاح كلامه في بعض مصنّفاته (٤) واشتهرت باسمه ـ بأنّه لم لا يجوز أن تكون هناك ماهيّتان بسيطتان مجهولتا الكنه متباينتان بتمام الذات ويكون قول واجب الوجود (٥) عليهما قولا عرضيّا؟! (٦)

وهذه الشبهة كما تجري على القول بأصالة الماهيّة المنسوب إلى الإشراقيّين تجري على القول بأصالة الوجود وكون الوجودات حقائق بسيطة متباينة بتمام الذات المنسوب إلى المشّائين (٧). والحجّة مبنيّة على أصالة الوجود وكونه حقيقة

__________________

ـ كلّ منهما مركّبا من الجنس والفصل. وأمّا على الثاني فيكون الاختلاف بينهما بالشخص ، بأن يكون كلّ منهما مركّبا ممّا يكون مشتركا بينهما وعارض شخصيّ يمتاز به كلّ واحد منهما عن الآخر ، والتركيب ينافي وجوب الوجود.

(١) قال : «الشبهة المنسوبة إلى ابن كمّونة» ولم يقل : «شبهة ابن كمّونة». والوجه في ذلك أنّ ابن كمّونة ليس أوّل من اعترته هذه الشبهة ، بل هو مقرّرها بأتمّ وجه فاشتهرت باسمه.

قال السيّد الداماد : «وهذا الإعضال معزيّ على ألسن هؤلاء المحدثة إلى رجل من المتفلسفين المحدثين يعرف بابن كمّونة. وليس أوّل من اعتراه هذا الشك ، كيف؟ والأقدمون كالعاقبين قد وكدوا الفصية عنه وبذلوا جهودهم في سبيل ذلك قرونا ودهورا». انتهى كلامه في التقديسات على ما نقله عنه الحكيم السبزواريّ في شرح الأسماء : ٣٧٣.

وقال صدر المتألّهين : «ما ينسب إلى ابن كمّونة وقد سمّاه بعضهم بافتخار الشياطين لاشتهاره بإبداء هذه الشبهة العويصة والعقدة العسيرة الحلّ ، فإنّي قد وجدت هذه الشبهة في كلام غيره ممّن تقدّمه زمانا». راجع الأسفار ١ : ١٣٢ ، وشرح الهداية الأثيريّة : ٢٩١. والمراد من قوله : «ممّن تقدّمه زمانا» هو الشيخ الإشراقيّ كما صرّح به في الأسفار ٦ : ٦٣.

(٢) راجع الأسفار ٦ : ٦٣.

(٣) راجع المطارحات : ٣٩٥.

(٤) وهو كتاب التلويحات ، فراجعه : ٣٧.

(٥) وفي النسخ : «قول الوجود» والصحيح ما أثبتناه أو «قول وجوب الوجود».

(٦) وبتعبير آخر : لم لا يجوز أن نعتقد أنّ كلّ واحد من الواجبين ممتاز عن الآخر بتمام ذاته البسيطة ، ويكون حمل واجب الوجود على كلّ منهما حملا عرضيّا؟!

(٧) وقد أكّد صدر المتألّهين أنّ هذه الشبهة شديدة الورود على القائلين بأصالة الماهيّة واعتباريّة الوجود ، حيث إنّ الأمر المشترك بين الموجودات ليس عندهم إلّا هذا الأمر ـ

٢٢٧

واحدة مشكّكة ذات مراتب مختلفة.

واجيب عن الشبهة بأنّها مبنيّة على انتزاع مفهوم واحد من مصاديق كثيرة متباينة بما هي كثيرة متباينة ، وهو محال (١).

__________________

ـ الانتزاعيّ ، وليس للوجود المشترك فرد حقيقيّ عندهم. راجع الأسفار ٦ : ٥٨ ـ ٥٩.

وقال الحكيم السبزواريّ ـ تعليقا على الأسفار ٦ : ٥٨ ـ ما حاصله : «شبهة ابن كمّونة شديدة الورود على طائفتين : (إحداهما) القائلون بأصالة الماهيّة ، فإنّهم لمّا قالوا بأصالتها والماهيّات مثار الكثرة والاختلاف كان الوجود المشترك بين الواجبين انتزاعيّا ، وجاز الاختلاف بتمام الذات بين ماهيّتيهما البسيطتين. (ثانيتهما) الّذين قالوا بعدم السنخيّة بين العلّة والمعلول ، بل بين وجود ووجود ، سواء قالوا بالاشتراك اللفظيّ في الوجود ـ حذرا من السنخيّة ـ أو بالاشتراك المعنويّ ، بل وإن قالوا بأصالة الوجود ولكن قالوا فيه بحقائق متباينة بذواتها البسيطة بحيث لا حيثيّة اتّفاق بينهما تكون عين ما به الاختلاف ، فإنّهم إذا جوّزوا عدم تلك السنخيّة بين العلّة والمعلول فليجوّزوا بين علّتين وواجبين».

(١) لا يخفى عليك : أنّ الاهتمام بالشبهة ـ حيث وصفوها بالشبهة العويصة والعقدة العسيرة الحلّ ـ يقتضي الجواب عنها تفصيلا ، كما أجاب عنه مؤسّس الحكمة المتعالية ومفسّرها.

قال صدر المتألّهين في دفع الشبهة ما حاصله : «إذا كان للشيء ثان في الوجود لم يكن صرفا ، والواجب تعالى لمّا كان بسيط الحقيقة وجب أن يكون جامعا لجميع الخيرات والكمالات ، وإلّا كان مصداقا لحصول شيء وفقد شيء ، فيلزم التركيب في ذاته ، فمن جهة وجوبيّة ومن جهة اخرى إمكانيّة أو امتناعيّة». الأسفار ١ : ١٣٥.

وقال في موضع آخر ما لفظه : «وجه الاندفاع أنّ مفهوم واجب الوجود لا يخلو إمّا أن يكون فهمه عن نفس ذات كلّ منهما من دون اعتبار حيثيّة خارجة عنها ـ أيّة حيثيّة كانت ـ أو مع اعتبار تلك الحيثيّة ، وكلا الشقّين مستحيلان. أمّا الثاني فلما مرّ أنّ كلّ ما لم يكن ذاته مجرّد حيثيّة انتزاع الوجود والوجوب والفعليّة والتمام فهو ممكن في حدّ ذاته ناقص في حريم نفسه. وأمّا الأوّل فلأنّ مصداق حمل مفهوم واحد ومطابق صدقه بالذات لا يمكن أن يكون حقائق مختلفة الذوات متباينة المعاني غير مشتركة في ذاتيّ أصلا». الأسفار ١ : ١٣٣.

وأجاب عنه الحكيم السبزواريّ أيضا ، فراجع شرح الأسماء الحسنى : ٣٧٧.

والمصنّف رحمه‌الله زاد جوابا في بداية الحكمة : ١٩٦ فقال : «على أنّ فيه إثبات الماهيّة للواجب ، وقد تقدّم أنّ ماهيّته وجوده».

ولكن يرد عليه : أنّه لعلّ المراد من الماهيّة هاهنا هو «ما به الشيء هو هو» فلا ينافي نفي الماهيّة عنه بمعنى «ما يقال في جواب ما هو».

٢٢٨

برهان آخر (١) : لو تعدّد الواجب بالذات وكان هناك واجبان بالذات ـ مثلا ـ كان بينهما الإمكان بالقياس من غير أن يكون بينهما علاقة ذاتيّة لزوميّة ، لأنّها لا تتحقّق بين الشيئين إلّا مع كون أحدهما علّة والآخر معلولا أو كونهما معلولين لعلّة ثالثة ، والمعلوليّة تنافي وجوب الوجود بالذات.

فإذا لكلّ واحد منهما حظّ من الوجود ومرتبة من الكمال ليس للآخر. فذات كلّ منهما بذاته واجد لشيء من الوجود وفاقد لشيء منه ، وقد تقدّم (٢) أنّه تركّب مستحيل على الواجب بالذات.

برهان آخر : ذكره الفارابيّ في الفصوص : «وجوب الوجود لا ينقسم بالحمل على كثيرين مختلفين بالعدد ، وإلّا لكان معلولا» (٣).

ولعلّ المراد أنّه لو تعدّد الواجب بالذات لم تكن الكثرة مقتضى ذاته ، لاستلزامه أن لا يوجد له (٤) مصداق ، إذ كلّ ما فرض مصداقا له كان كثيرا (٥) والكثير لا يتحقّق إلّا بآحاد ، وإذ لا واحد مصداقا له فلا كثير ، وإذ لا كثير فلا مصداق له ، والمفروض أنّه واجب بالذات. فبقي أن تكون الكثرة مقتضى غيره ، وهو محال ، لاستلزامه الافتقار إلى الغير الّذي لا يجامع الوجوب الذاتيّ.

__________________

(١) هذا البرهان ذكره صدر المتألّهين في الأسفار ١ : ١٣٦.

(٢) راجع الفصل السابق.

(٣) راجع الفصوص للفارابيّ : ٤.

(٤) أي : مفهوم واجب الوجود.

(٥) لأنّ المفروض أنّه لا واجب إلّا متعدّدا.

٢٢٩

الفصل السادس

في توحيد الواجب لذاته في ربوبيّته

وأنّه لا ربّ سواه

الفحص البالغ والتدبّر الدقيق العلميّ يعطي أنّ أجزاء عالمنا المشهود ـ وهو عالم الطبيعة ـ مرتبطة بعضها ببعض من أجزائها العلويّة والسفليّة وأفعالها وانفعالاتها والحوادث المترتّبة على ذلك ، فلا تجد خلالها موجودا لا يرتبط بغيره في كينونته وتأثيره وتأثّره ، وقد تقدّم في مباحث الحركة الجوهريّة ما يتأيدّ به ذلك (١).

فلكلّ حادث ـ من كينونة أو فعل أو انفعال ـ استناد إلى مجموع العالم. ويستنتج من ذلك أنّ بين أجزاء العالم نوعا من الوحدة ، والنظام الوسيع الجاري فيه واحد. فهذا أصل.

ثمّ إنّ المتحصّل ممّا تقدّم من المباحث وما سيأتي أنّ هذا العالم المادّيّ معلول لعالم نوريّ مجرّد عن المادّة متقدّس (٢) عن القوّة (٣) ، وأنّ بين العلّة والمعلول سنخيّة وجوديّة بها يحكي المعلول ـ بما له من الكمال الوجوديّ بحسب مرتبته ـ

__________________

(١) راجع الفصل الثامن من المرحلة التاسعة.

(٢) أي : متنزّه.

(٣) ولا يخفى أنّ هذا البيان لا يوافق ما تقدّم ويأتي من أنّ الفاعليّة والمؤثّريّة تختصّ بالواجب تعالى.

٢٣٠

الكمال الوجوديّ المتحقّق في العلّة بنحو أعلى وأشرف ، والحكم جار إن كان هناك علل عقليّة مجرّدة بعضها فوق بعض حتّى تنتهي إلى الواجب لذاته جلّ ذكره.

ويستنتج من ذلك أنّ فوق هذا النظام الجاري في العالم المشهود نظاما عقليّا نوريّا مسانخا له ، هو مبدأ هذا النظام ، وينتهي إلى نظام ربّانيّ في علمه تعالى هو مبدأ الكلّ ، وهذا أيضا أصل.

ومن الضروريّ أيضا أنّ علّة علّة الشيء علّة لذلك الشيء ، وأنّ معلول معلول الشيء معلول لذلك الشيء. وإذ كانت العلل (١) تنتهي إلى الواجب تعالى ، فكلّ موجود كيفما فرض فهو أثره ، وليس في العين إلّا وجود جواهر وآثارها والنسب والروابط الّتي بينها ، ولا مستقلّ في الوجود (٢) إلّا الواجب بالذات ، ولا مفيض للوجود إلّا هو.

فقد تبيّن بما تقدّم أنّ الواجب تعالى هو المجري لهذا النظام الجاري في نشأتنا المشهودة ، والمدبّر بهذا التدبير العامّ المظلّ على أجزاء العالم ، وكذا النظامات العقليّة النوريّة الّتي فوق هذا النظام وبحذائه على ما يليق بحال كلّ منها حسب ماله من مرتبة الوجود ، فالواجب لذاته ربّ للعالم مدبّر لأمره بالإيجاد بعد الإيجاد ، وليس للعلل المتوسطة (٣) إلّا أنّها مسخّرة للتوسّط من غير استقلال ، وهو المطلوب ، فمن المحال أن يكون في العالم ربّ غيره ، لا واحد ولا كثير.

على أنّه لو فرض كثرة الأرباب المدبّرين لأمر العالم ـ كما يقول به الثنويّة (٤) ـ

__________________

(١) أي : المعدّات ، فإنّه لا علّيّة بمعنى حقيقة الكلمة إلّا للواجب تعالى.

(٢) وفي النسخ : «في وجوده» والصحيح ما أثبتناه.

(٣) وهي المعدّات كما مرّ مرارا.

(٤) وفي النسخ : «والوثنيّة» والصحيح ما أثبتناه. والوجه في ذلك أنّ البحث عن نفي الشريك يقع في جهات أربع :

الجهة الاولى : نفي الشريك عن الله في الوجوب الذاتيّ. وهي ما مرّت في الفصل السابق.

الجهة الثانية : نفي الشريك عنه في استحقاق العبادة. والوثنيّة خالفتنا في هذه الجهة. ـ

٢٣١

أدّى ذلك إلى المحال من جهة اخرى وهي فساد النظام.

بيان ذلك : أنّ الكثرة لا تتحقّق إلّا بالآحاد ، ولا آحاد إلّا مع تميّز البعض من البعض ، ولا يتمّ تميّز إلّا باشتمال كلّ واحد من آحاد الكثرة على جهة ذاتيّة يفقدها الواحد الآخر ، فيغاير بذلك الآخر ويتمايزان ، كلّ ذلك بالضرورة ، والسنخيّة بين الفاعل وفعله تقضي بظهور المغايرة بين الفعلين حسب ما بين الفاعلين ، فلو كان هناك أرباب متفرّقون ـ سواء اجتمعوا على فعل واحد أو كان لكلّ جهة من جهات النظام العالميّ العامّ ربّ مستقلّ في ربوبيّته ، كربّ السماء والأرض وربّ الإنسان وغير ذلك ـ أدّى ذلك إلى فساد النظام والتدافع بين أجزائه ، ووحدة النظام والتلازم المستمرّ بين أجزائه تدفعه.

فإن قيل : إحكام النظام وإتقانه العجيب الحاكم بين أجزائه يشهد أنّ التدبير الجاري تدبير عن علم ، والاصول الحكميّة القاضية باستناد العالم المشهود إلى

__________________

ـ وهي خارجة عمّا يبحث عنها في هذا الفصل.

الجهة الثالثة : نفي الشريك عنه في الوجود الحقيقيّ والعلّيّة. وهي ما يبحث عنها في مبحث الوجود. وانعقد له فصل في الأسفار ٦ : ١١٠ عنوانه : «أنّ واجب الوجود تمام الأشياء ...».

الجهة الرابعة : نفي الشريك عنه في الربوبيّة والمدبّريّة والخالقيّة. وهي ما يبحث عنها في هذا الفصل. ولم تكن الوثنيّة مخالفة لنا في هذه الجهة ، بل المخالف في هذه الجهة هم الثنويّة لا الوثنيّة. قال في شرح المواقف : «واعلم انّه لا مخالف في هذه المسألة إلّا الثنويّة دون الوثنيّة ، فإنّهم لا يقولون بوجود إلهين واجبي الوجود ، ولا يصفون الأوثان بصفات الإلهيّة ، وإن اطلقوا عليها اسم الآلهة ، بل اتّخذوها على أنّها تماثيل الأنبياء أو الزهّاد أو الملائكة أو الكواكب واشتغلوا بتعظيمها على وجه العبادة توصّلا بها إلى ما هو إله حقيقة. وأمّا الثنويّة فإنّهم قالوا : نجد في العالم خيرا كثيرا وشرّا كثيرا وأنّ الواحد لا يكون خيرا شريرا بالضرورة ، فلكلّ منهما فاعل على حدة ، فالمانويّة والديصانيّة من الثنويّة قالوا : فاعل الخير هو النور وفاعل الشر هو الظلمة ... والمجوس منهم ذهبوا إلى أنّ فاعل الخير هو يزدان وفاعل الشر هو اهرمن ، ويعنون به الشيطان». راجع شرح المواقف : ٤٧٩.

ومن هنا يظهر عدم صواب ما في النسخ من ذكر «الوثنيّة».

٢٣٢

علل مجرّدة عالمة يؤيّد ذلك ، فهب أنّ الأرباب المفروضين متكثّرة الذوات ومتغايرتها ، ويؤدّي ذلك بالطبع إلى اختلاف الأفعال وتدافعها ، لكن من الجائز أن يتواطؤا على التسالم ـ وهم عقلاء ـ ويتوافقوا على التلاؤم ، رعاية لمصلحة النظام الواحد وتحفّظا على بقائه.

قلت : لا ريب أنّ العلوم الّتي يبني عليها العقلاء أعمالهم صور علميّة وقوانين كلّيّة مأخوذة من النظام الخارجيّ الجاري في العالم ، فللنظام الخارجيّ نوع تقدّم على تلك الصور العلميّة والقوانين الكلّيّة وهي تابعة له. ثمّ هذا النظام الخارجيّ بوجوده الخارجيّ فعل اولئك الأرباب المفروضين ، ومن المستحيل أن يتأثّر الفاعل في فعله عن الصور العلميّة المنتزعة عن فعله المتأخّرة عن الفعل.

فإن قيل : هب أنّ الأرباب المفروضين الفاعلين للنظام الخارجيّ لا يتّبعون في فعلهم الصور العلميّة المنتزعة عن الفعل وهي علوم ذهنيّة حصوليّة تابعة للمعلوم لكنّ الأرباب المفروضين فواعل علميّة لهم علم بفعلهم في مرتبة ذواتهم قبل الفعل. فلم لا يجوز تواطؤهم على التسالم وتوافقهم على التلاؤم في العلم قبل الفعل؟

قلت : علم الفاعل العلميّ بفعله قبل الإيجاد ـ كما سيجيء (١) وقد تقدّمت الإشارة إليه (٢) ـ علم حضوريّ ، ملاكه وجدان العلّة كمال المعلول بنحو أعلى وأشرف ، والسنخيّة بين العلّة ومعلولها. وفرض تواطؤ الأرباب وتوافقهم في مرتبة هذا المعنى من العلم إلغاء منهم لما في وجوداتهم من التكثّر والتغاير ، وقد فرض أنّ وجوداتهم متكثّرة متغايرة ، وهذا خلف.

__________________

(١) في الفصل الحادي عشر من هذه المرحلة ، حيث قال : «وأنّ علمه حضوريّ كيفما صوّر».

(٢) راجع الفصل الأوّل من المرحلة الحادية عشرة ، حيث قال : «الّذي إليه النظر العميق أنّ الحصوليّ منه أيضا ينتهي إلى علم حضوريّ».

٢٣٣

الفصل السابع

في أنّ الواجب بالذات لا مشارك له في

شيء من المفاهيم من حيث المصداق (١)

المشاركة بين شيئين أو أزيد (٢) إنّما تتمّ فيما إذا كانا متغايرين متمايزين ، وكان هناك مفهوم واحد يتّصفان به ، كزيد وعمرو المتّحدين في الإنسانيّة ، والإنسان والفرس المتّحدين في الحيوانيّة ، فهي وحدة في كثرة. ولا تتحقّق الكثرة إلّا بآحاد متغايرة متمايزة ، كلّ منها مشتمل على ما يسلب به عنه غيره من الآحاد.

__________________

(١) وعنوان الفصل في الأسفار هكذا : «انّ واجب الوجود لا مشارك له في أيّ مفهوم كان». فزاد المصنّف رحمه‌الله هنا قيد «من حيث المصداق». ولعلّ الوجه في ذلك أنّ المفاهيم الّتي يحمل على الواجب على قسمين : إمّا يحمل عليه ولا يحمل على غيره ، كالخالقيّة والرازقيّة وغيرهما من الصفات المختصّة به ، فهي مفاهيم لا يشاركه غيره فيها. وإمّا يحمل عليه وعلى غيره بالاشتراك المعنويّ ، كالوجود والعلم ـ بناء على كونه حضوريّا مطلقا ـ وغيرهما ، فهي وإن كانت مفاهيم مشتركة بين الواجب والممكن إلّا أنّ الممكنات تختلف عن الواجب من حيث المصداق ، فإنّ الوجود الّذي مصداق الواجب هو الوجود الصرف الواجبيّ اللامتناهي ، والوجود الّذي مصداق الممكن هو الوجود المحدود المشوب بالعدم ، وبينهما بون بعيد.

والحاصل : أنّ المراد من العنوان المذكور أنّه لا مفهوم يشارك فيه الواجب الممكن مفهوما أو مصداقا ، بل كلّ مفهوم إمّا يحمل عليه ولا يحمل على غيره فلا مشاركة مفهوما ، وإمّا يحمل عليهما ولكن يختلفان مصداقا. ومع ذلك كلّه لا يخلو العنوان عن ابهام.

(٢) وفي النسخ : «وأزيد» والصحيح ما أثبتناه.

٢٣٤

فكلّ من المتشاركين مركّب من النفي والإثبات بحسب الوجود (١). وإذ كان وجود الواجب بالذات حقيقة الوجود الصرف البسيط ـ لا سبيل للتركيب إليه ولا مجال للنفي فيه ـ فلا يشاركه شيء في معنى من المعاني.

وأيضا المفهوم المشترك فيه إمّا شيء من الماهيّات أو ما يرجع إليها. فلا سبيل للماهيّات الباطلة الذوات إلى حقيقة الواجب بالذات الّتي هي حقّة محضة ، فلا مجانس للواجب بالذات إذ لا جنس له ، ولا مماثل له إذ لا نوع له ، ولا مشابه له إذا لا كيف له ، ولا مساوي له إذ لا كمّ له ، ولا مطابق له إذ لا وضع له ، ولا محاذي له إذ لا أين له ، ولا مناسب له إذ لا إضافة لذاته (٢).

والصفات الإضافيّة الزائدة على الذات ـ كالخلق والرزق والإحياء والإماتة وغيرها ـ منتزعة من مقام الفعل كما سيأتي إن شاء الله تعالى (٣). على أنّ الصفات الإضافيّة ترجع جميعا إلى القيّوميّة ، وإذ لا موجد ولا مؤثّر سواه فلا مشارك له في القيّوميّة (٤).

وأمّا شيء من المفاهيم المنتزعة من الوجود ، فالّذي للواجب بالذات منها أعلى المراتب غير المتناهي شدّة الّذي لا يخالطه نقص ولا عدم ، والّذي لغيره بعض مراتب الحقيقة المشكّكة غير الخالي من نقص وتركيب ، فلا مشاركة.

وأمّا حمل بعض المفاهيم على الواجب بالذات وغيره ـ كالوجود المحمول عليه وعلى غيره باشتراكه المعنويّ (٥) ، مع الغضّ عن خصوصيّة المصداق ، وكذا سائر صفات الواجب المشتركة بمفاهيمها فحسب (٦) ، كالعلم والحياة والرحمة ، مع الغضّ عن الخصوصيّات الإمكانيّة ـ فليس من الاشتراك المبحوث عنه في شيء.

__________________

(١) فالإنسان ـ مثلا ـ حيوان وليس بفرس.

(٢) هذا الدليل ذكره صدر المتألّهين في الأسفار ٦ : ١٠٧.

(٣) في الفصل الآتي والفصل العاشر من هذه المرحلة.

(٤) هكذا في الأسفار ٦ : ١٠٧ ـ ١٠٨.

(٥) وفي النسخ : «كالوجود المحمول باشتراكه المعنويّ عليه وعلى غيره» والأولى ما أثبتناه.

(٦) وفي النسخ : «صفات الواجب بمفاهيمها فحسب» والصحيح ما أثبتناه.

٢٣٥

الفصل الثامن

في صفات الواجب بالذات

على وجه كلّي (١) وانقسامها (٢)

قد تقدّم (٣) أنّ الوجود الواجبيّ لا يسلب عنه كمال وجوديّ قطّ ، فما في الوجود من كمال ـ كالعلم والقدرة ـ فالوجود الواجبيّ واجد له بنحو أعلى وأشرف ، وهو محمول عليه على ما يليق بساحة عزّته وكبريائه ، وهذا هو المراد بالاتّصاف.

ثمّ إنّ الصفة تنقسم انقساما أوّليّا إلى ثبوتيّة تفيد معنى إيجابيّا كالعلم والقدرة ، وسلبيّة تفيد معنى سلبيّا ، ولا تكون إلّا سلب سلب الكمال ، فيرجع إلى إيجاب الكمال ، لأنّ نفي النفي إثبات ، كقولنا : «من ليس بجاهل» و «من ليس بعاجز» الراجعين إلى العالم والقادر. وأمّا سلب الكمال فقد اتّضح في المباحث السابقة (٤) أن لا سبيل لسلب شيء من الكمال إليه تعالى. فالصفات السلبيّة راجعة بالحقيقة إلى الصفات الثبوتيّة.

__________________

(١) أي : على وجه العموم والإطلاق.

(٢) وإن شئت تفصيل أقسام صفات الواجب بالذات فراجع الأسفار ٦ : ١١٨ ـ ١٢٥ ، وشرح المنظومة : ١٥٧.

(٣) في الفصل الرابع من هذه المرحلة.

(٤) راجع الفصل الرابع من هذه المرحلة.

٢٣٦

والصفات الثبوتيّة تنقسم إلى حقيقيّة كالحيّ ، وإضافيّة كالعالميّة والقادريّة. والحقيقيّة تنقسم إلى حقيقيّة محضة كالحيّ ، وحقيقيّة ذات إضافة كالخالق والرازق.

ومن وجه آخر ، تنقسم الصفات إلى صفات الذات وهي الّتي يكفي في انتزاعها فرض الذات فحسب ، وصفات الفعل وهي الّتي يتوقّف انتزاعها على فرض الغير ، وإذ لا موجود غيره تعالى إلّا فعله فالصفات الفعليّة هي المنتزعة من مقام الفعل.

٢٣٧

الفصل التاسع

في الصفات الذاتيّة

وأنّها عين الذات المتعالية

اختلفت كلمات الباحثين في الصفات الذاتيّة المنتزعة عن الذات الواجبة المقطوعة النظر عمّا عداها على أقوال :

الأوّل : أنّها عين الذات المتعالية ، وكلّ واحدة منها عين الاخرى (١). وهو منسوب إلى الحكماء (٢).

الثاني : أنّها معان زائدة على الذات لازمة لها ، فهي قديمة بقدمها. وهو منسوب إلى الأشاعرة (٣).

الثالث : أنّها زائدة على الذات حادثة ، على ما نسب إلى الكراميّة (٤).

__________________

(١) عينا ومصداقا ، مع أنّها كثيرة مختلفة مفهوما.

(٢) نسب إليهم في شرح المواقف : ٤٧٩ ، وشرح المقاصد ٢ : ٧٢. وذهب إليه صدر المتألّهين في الأسفار ٦ : ١٣٣ ، والحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة : ١٥٨ ـ ١٥٩.

(٣) ومنهم العلّامة التفتازانيّ في شرح المقاصد ٢ : ٧٢ ، والعلّامة الإيجي والمحقّق الشريف في شرح المواقف : ٤٧٩ ـ ٤٨٠. وهذا القول نسب إليهم في الملل والنحل ٢ : ٩٥.

(٤) راجع الملل والنحل ١ : ١٠٩ ـ ١١٠ ، وشرح المقاصد ٢ : ٩٥ ، وشرح المواقف : ٤٧٦.

٢٣٨

الرابع : أنّ معنى اتّصاف الذات بها كون الفعل الصادر منها فعل من تلبّس بالصفة. فمعنى كون الذات المتعالية عالمة أنّ الفعل الصادر منها متقن محكم ذو غاية عقلائيّة ، كما يفعل العالم. ومعنى كونها قادرة أنّ الفعل الصادر منها كفعل القادر ، فالذات نائبة مناب الصفات (١).

وربّما يظهر من بعضهم (٢) الميل إلى قول آخر ، وهو : أنّ معنى إثبات الصفات نفي ما يقابلها ، فمعنى إثبات الحياة والعلم والقدرة مثلا نفي الموت والجهل والعجز.

ويظهر من بعضهم (٣) أنّ الصفات الذاتيّة عين الذات ، لكنّها جميعا بمعنى واحد والألفاظ مترادفة.

والحقّ هو القول الأوّل (٤). وذلك لما تحقّق (٥) أنّ الواجب بالذات علّة تامّة ينتهي إليها (٦) كلّ موجود ممكن بلا واسطة أو بواسطة أو وسائط ، بمعنى أنّ الحقيقة الواجبيّة هي العلّة بعينها. وتحقّق أيضا (٧) أنّ كلّ كمال وجوديّ في المعلول فعلّته في مقام علّيّته واجدة له بنحو أعلى وأشرف ، فللواجب بالذات كلّ كمال وجوديّ مفروض على أنّه وجود صرف لا يخالطه عدم. وتحقّق (٨) أنّ وجوده صرف بسيط

__________________

(١) هذا القول منسوب إلى المعتزلة ، راجع الفرق بين الفرق : ٧٨.

والمراد من قولهم : «الذات نائبة مناب الصفات» أنّ ما يترتّب من الآثار الكماليّة يترتّب على ذاته ، فالعلم ـ مثلا ـ يترتّب عليه الإحكام والإتقان ، وهما مترتّبان على ذاته تعالى من غير أن تكون فيه صفة العلم. فذاته تعالى تقوم مقام العلم. وكذا إيجاد العالم من آثار القدرة ، وهو مترتّب على ذاته من غير أن تكون له صفة القدرة ، فتقوم ذاته تعالى مقام القدرة. وهكذا في سائر الصفات.

(٢) وهو ضرار بن عمرو. راجع مقالات الإسلاميّين ١ : ٢٢٦ ، و ٢ : ١٥٩ ، والملل والنحل ١ : ٩٠.

(٣) نسبه صدر المتألّهين إلى كثير من العقلاء المدقّقين ، راجع الأسفار ٦ : ١٤٥.

(٤) أي : قول الحكماء.

(٥) في الفصل الخامس من المرحلة الثامنة.

(٦) وفي النسخ : «إليه» والصحيح ما أثبتناه.

(٧) راجع الفصل الثالث من المرحلة الاولى ، وآخر الفصل السادس من هذه المرحلة.

(٨) راجع الفصل الثالث من المرحلة الرابعة ، والفصل الثالث والفصل الرابع من هذه المرحلة.

٢٣٩

واحد بالوحدة الحقّة ؛ فليس في ذاته تعدّد جهة ولا تغاير حيثيّة ؛ فكلّ كمال وجوديّ مفروض فيه عين ذاته وعين الكمال الآخر المفروض له ؛ فالصفات الذاتية الّتي للواجب بالذات كثيرة مختلفة مفهوما ، واحدة عينا ومصداقا ، وهو المطلوب (١).

__________________

(١) واستدلّوا عليه بوجوه كثيرة ، ولا بأس بالإشارة إلى بعضها ملخّصا :

الأوّل : ما أشار إليه الحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة : ١٥٩ بقوله : «إذ ذاته مطابق للحمل». وحاصله : أنّه تعالى لو كان معروضا للكمال بأن كان ذاته شيئا وكماله العارض عليه شيئا آخر مغايرا معه لكان في مرتبة ذاته خاليا عن الكمال ، وحينئذ إمّا يكون مصداقا لما يقابل الكمال أو يكون خاليا عنه أيضا ، فعلى الأوّل يلزم منه أن يكون في مرتبة ذاته عين الجهل ـ مثلا ـ المقابل للعلم ، وهذا ـ مضافا إلى كونه محالا في نفسه ـ يستلزم امتناع عرض الكمالات عليه في المرتبة المتأخّرة عن ذاته ، وإلّا يلزم الانقلاب الذاتي ، وهو محال بالضرورة. وعلى الثاني كان الخلوّ إمكانا ، والإمكان إمّا ذاتيّ موضوعه الماهيّة وإمّا استعداديّ حامله المادّة ، ولمّا لم يكن للواجب ماهيّة ولا مادّة فلا يتصوّر أن يكون الكمال ممكنا له.

الثاني : أنّه لو كانت صفاته تعالى زائدة على ذاته فإمّا أن تكون قديمة أو تكون حادثة.

فالأوّل يستلزم تعدّد القدماء وتنفيه براهين التوحيد ، والثاني يستلزم كونه محلّا للحوادث وهو محال.

الثالث : أنّه لو كانت صفاته تعالى زائدة على ذاته يلزم منه أن يكون الواجب تعالى في مرتبة ذاته عاريا عن الكمال ، والعراء عن الكمال نقص ، وكلّ ناقص يحتاج إلى غيره ، فيلزم منه أن يكون الواجب تعالى محتاجا ، وهو محال.

ويدلّ على المطلوب أيضا كثير من الروايات المنقولة عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام :

منها : ما رواه أبو بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «لم يزل الله عزوجل ربّنا والعلم ذاته ولا معلوم ، والسمع ذاته ولا مسموع ، والبصر ذاته ولا مبصر ، والقدرة ذاته ولا مقدور ، فلمّا أحدث الأشياء وكان المعلول وقع العلم منه على المعلوم والسمع على المسموع والبصر على المبصر والقدرة على المقدور». اصول الكافي ١ : ١٤٣.

ومنها : ما روي عن الإمام الباقر عليه‌السلام : «أنّه سميع بصير ، يسمع بما يبصر ، ويبصر بما يسمع». اصول الكافي ١ : ١٤٧.

ومنها : ما عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «هو سميع بصير ، سميع بغير جارحة ، وبصير بغير آلة ، بل يسمع بنفسه ويبصر بنفسه». اصول الكافي ١ : ١٤٧.

ومنها : ما عن أمير المؤمنين الإمام عليّ عليه‌السلام في خطبته المشهورة : «أوّل الدين معرفته ، ـ

٢٤٠