نهاية الحكمة - ج ٢

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

نهاية الحكمة - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-470-624-0
الصفحات: ٣٣٦

نعم ، يتّجه هذا القول بناء على ما نسب إلى أفلاطون (١) أنّ النفوس قديمة زمانا ، والعلوم ذاتيّة لها ، وقد سنح لها التعلّق التدبيريّ بالأبدان فأنساها التدبير علومها المرتكزة في ذواتها.

لكنّه فاسد بما تحقّق في علم النفس من حدوث النفوس بحدوث الأبدان على ما هو المشهور أو بحركة جواهر الأبدان بعد حدوثها (٢).

وربّما وجّه القول بقدمها بأنّ المراد به قدم نشأتها العقليّة المتقدّمة على نشأتها النفسانيّة (٣). لكن لا يثبت بذلك أيضا أنّ حصول العلم بالذكر لا بالانتقال الفكريّ من الأسباب إلى المسبّبات أو من بعض اللوازم العامّة إلى بعض آخر ، كما تقدّم (٤).

__________________

ـ تكون حاضرة في النفس بالفعل أو لا تكون ، فعلى الأوّل وجب أن تكون عالمة بها ، لأنّه لا معنى للعلم إلّا حضور المجرّد عند المجرّد ، وهو خلاف الوجدان. وعلى الثاني لم يكن تعقّلها أمرا ذاتيّا ، وهو المطلوب.

(١) راجع الأسفار ٨ : ٣٣١.

(٢) راجع الأسفار ٨ : ٣٣٠ ـ ٣٨٠.

(٣) كما في الأسفار ٣ : ٤٨٧ ـ ٤٨٨.

(٤) في الفصل السابق.

٢٠١

الفصل الخامس عشر

في انقسامات اخر للعلم

قال في الأسفار ما ملخّصه : «إنّ العلم عندنا نفس الوجود غير المادّيّ ، والوجود ليس في نفسه طبيعة كلّيّة جنسيّة أو نوعيّة حتّى ينقسم بالفصول إلى الأنواع ، أو بالمشخّصات إلى الأشخاص ، أو بالقيود العرضيّة إلى الأصناف ، بل كلّ علم هويّة شخصيّة بسيطة غير مندرجة تحت معنى كلّيّ ذاتيّ. فتقسيم العلم باعتبار عين تقسيم المعلوم ، لاتّحاده مع المعلوم اتّحاد الوجود مع الماهيّة.

فعلى هذا نقول : إنّ من العلم ما هو واجب الوجود بذاته وهو علم الأوّل تعالى بذاته الّذي هو عين ذاته بلا ماهيّة ، ومنه ما هو ممكن الوجود بذاته وهو علم جميع ما عداه. وينقسم إلى ما هو جوهر كعلوم الجواهر العقليّة بذواتها ، وإلى ما هو عرض ، وهو في المشهور جميع العلوم الحصوليّة المكتسبة لقيامها بالذهن عندهم ، وعندنا العلم العرضيّ هو صفات المعلومات الّتي تحضر صورها عند النفس ، وقد بيّنا أنّ العلم عقليّا كان أو خياليّا ليس بحلول المعلومات في العقل أو النفس ، بل على نحو المثول بين يدي العالم واتّحاد النفس بها.

قسمة اخرى ، قالوا : من العلم ما هو فعليّ ، ومنه ما هو انفعاليّ ، ومنه ما ليس بفعليّ ولا انفعاليّ. أمّا العلم الفعليّ فكعلم البارئ تعالى بما عدا ذاته وعلم سائر

٢٠٢

العلل بمعلولاتها. وأمّا العلم الانفعاليّ فكعلم ما عدا البارئ تعالى بما ليس بمعلول له ممّا لا يحصل إلّا بانفعال مّا وتغيّر مّا للعالم. وبالجملة : بارتسام صور تحدث في ذات النفس أو آلاتها. والعلم الّذي ليس بفعليّ ولا انفعاليّ فكعلم الذوات العاقلة بأنفسها وبالامور الّتي لا تغيب عنها (١). وقد يكون علم واحد فعليّا من وجه وانفعاليّا من وجه كالعلوم الحادثة الّتي لها آثار خارجيّة كتأثير الأوهام في الموادّ الخارجيّة» (٢).

وقال أيضا : «إنّ العلم يقع على مصاديقه بالتشكيك كالوجود ، فيختلف بالشدّة والضعف ، والأوّليّة والأولويّة وخلافهما ، والأقدميّة وغيرها. فإنّ العلم بذات الأوّل تعالى ـ وهو علمه تعالى بذاته الّذي هو عين ذاته ـ أولى في كونه علما من العلم بغيره ، وهو أقدم العلوم لكونه سبب سائر العلوم ، وهو أشدّها جلاءا وأقوى ظهورا في ذاته. وأمّا خفاؤه علينا فلما علمت من أنّه لغاية ظهوره وضعف بصائرنا عن إدراكه ، فجهة خفائه هي بعينها جهة وضوحه وجلائه. وهكذا كلّ علم بحقيقة علّة بالقياس إلى العلم بحقيقة معلولها. وكذا العلم بحقيقة كلّ جوهر هو أشدّ من العلم بحقيقة كلّ عرض ، وهو أولى وأقدم من العلم بحقيقة العرض القائم بذلك الجوهر ، لكونه علّة له ، لا بحقيقة سائر الأعراض غير القائمة به.

وأمّا إطلاق العلم على الفعل والانفعال والإضافة كالتعليم والتعلّم والعالميّة فعلى سبيل الاشتراك أو التجوّز» (٣) إنتهى.

__________________

(١) كحياتها وقدرتها وعلمها بعلمها ونحوها.

(٢) راجع الأسفار ٣ : ٣٨٢ ـ ٣٨٣.

(٣) راجع الأسفار ٣ : ٣٨٣ ـ ٣٨٤.

٢٠٣
٢٠٤

المرحلة الثانية عشرة

في ما يتعلّق بالواجب الوجود

عزّ اسمه من المباحث

وهي في الحقيقة مسائل متعلّقة بمرحلة الوجوب والإمكان ، أفردوا

للكلام فيها مرحلة مستقلّة اهتماما بها واعتناء بشرافة موضوعها

وفيها أربعة وعشرون فصلا

٢٠٥
٢٠٦

الفصل الأوّل

في إثبات الوجود الواجبيّ

البراهين الدالّة على وجوده تعالى كثيرة (١) متكاثرة (٢). وأوثقها وأمتنها هو البرهان المتضمّن للسلوك إليه من ناحية الوجود (٣) وقد سمّوه «برهان

__________________

(١) منها : برهان الحركة وبرهان الحدوث وبرهان الإمكان وبرهان النظم وغيرها. وإليه يلوح قوله تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ).

(٢) مبالغة في الكثرة وتلميح إلى قولهم : «الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق». وإن شئت تفصيلها فراجع الأسفار ٦ : ١٢ ـ ٤٧ ، وشرح الهداية الأثيريّة لصدر المتألّهين : ٢٧٩ ـ ٢٨٣ ، والتعليقات للشيخ الرئيس : ٧٠ ، وشرح الإشارات ٣ : ٢٠ ـ ٣٠ و ٦٦ ـ ٦٧ ، والمبدأ والمعاد للشيخ الرئيس : ٢٢ ، وكشف المراد : ٢٨٠ ، وشرح المقاصد ٢ : ٥٧ ـ ٦٠ ، وشرح المواقف : ٤٦٥ ـ ٤٧٠ ، ورسالة إثبات الواجب للمحقّق الدوانيّ ، وغيرها من المطوّلات.

(٣) هذا مذهب الحكماء الإلهيّين ، كما نسبه إليهم الشيخ الرئيس في رسالة الفصول حيث قال ـ بعد التعرّض لمسلك الطبيعيّين ـ : «والإلهيّون سلكوا غير هذا المسلك وتوصّلوا إلى إثباته من وجوب الوجود» انتهى كلامه في رسالة الفصول على ما نقل في شوارق الإلهام : ٤٩٥.

ومن هنا يظهر ضعف كلام من زعم أنّ الشيخ أوّل من سلك هذا المنهج ، فإنّ كلامه في رسالة الفصول صريح في أنّه تبع غيره من الإلهيّين. نعم ، أنّه أوّل من وسم الحكماء الإلهيّين بالصدّيقين ، كما قال المحقّق الطوسيّ : «ولمّا كان طريقة قومه أصدق الوجهين وسمهم بالصدّيقين ، فإنّ الصدّيق هو ملازم الصدق». راجع شرح الإشارات ٣ : ٦٧.

وقال الحكيم السبزواريّ : «أشرف الطرق وأوثقها طريقة الحكماء الإلهيّين ، بل المتألّهين ـ

٢٠٧

الصدّيقين» (١) لما أنّهم يعرّفونه تعالى به (٢) لا بغيره (٣). وهو كما ستقف عليه برهان إنّيّ يسلك فيه من لازم من لوازم الوجود إلى لازم آخر (٤).

وقد قرّر بغير واحد من التقرير (٥) :

وأوجز ما قيل أنّ حقيقة الوجود إمّا واجبة وإمّا تستلزمها ، فإذا الواجب بالذات موجود ، وهو المطلوب (٦).

__________________

ـ الّذين يستشهدون به لا بغيره عليه. وهي طريقة الوجود والموجود من حيث هو موجود». ثمّ قال في هامشه : «الفرق بين الطريقتين [طريقة الإلهيّين وطريقة المتألّهين] أنّ المتألّهين يعتقدون أصالة الوجود وأنّ الوجود العامّ البديهيّ عنوان لحقيقة بسيطة مبسوطة نوريّة ، ويقولون : «إن كانت واجبة فهو المطلوب» فهم ناظرون إلى حقيقة الوجود. والإلهيّون ناظرون إلى مفهوم الوجود وأنّ له فردا واجب الوجود وكونه من قبيل الاستدلال من ذاته على ذاته ، لأنّ وجه الشيء هو الشيء بوجه». راجع شرح دعاء الصباح : ٢٦.

(١) وأوّل من سمّاه ب «برهان الصدّيقين» هو الشيخ الرئيس ، حيث قال : «أقول : إنّ هذا حكم للصدّيقين الذين يستشهدون به لا عليه». راجع شرح الإشارات ٣ : ٦٦.

(٢) أي : بنفسه تعالى. فيستدلّون بذاته على ذاته من دون واسطة كالإمكان والحدوث وغيرهما ، وإليه الإشارة في قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) فصّلت : ٥٣ ، وقوله عليه‌السلام في دعاء الصباح «يا من دلّ على ذاته بذاته» ، وقوله عليه‌السلام في دعاء عرفة : «ألغيرك من الظهور ما ليس لك حتّى يكون هو المظهر لك؟! متى غبت حتّى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك؟!».

(٣) بخلاف المتكلّمين فإنّهم استدلّوا عليه بالحدوث ، والطبيعيّين حيث استدلّوا عليه تارة من طريق الحركة وتارة اخرى من طريق النفس الإنسانيّة ، وبعض الحكماء حيث استدلّوا عليه بالإمكان والماهيّة.

(٤) فيسلك ـ مثلا ـ من كون الوجود حقيقة مشكّكة ذات مراتب تامّة صرفة وناقصة مشوبة إلى كون المرتبة التامّة الصرفة منه واجب الوجود ، وكلاهما لازم الوجود. أو يسلك من أنّ لحقيقة الوجود سعة لا يشذّ شيء عن حيطتها إلى عدم العلّة لها ، وكلاهما لازم الوجود.

(٥) راجع شرح المنظومة : ١٤٥ ـ ١٤٦ ، والأسفار ٦ : ١٤ ـ ١٦ ، والمبدأ والمعاد للشيخ الرئيس : ٢٢ ، وكشف المراد : ٢٨٠ ، وشوارق الإلهام : ٤٩٤ ـ ٤٩٨ ، وتهافت التهافت : ٤٦٠.

(٦) وأوجز منه أن يقال : «الوجود الحقيقيّ إن كان واجبا فهو المطلوب ، وإلّا استلزمه لا محالة».

٢٠٨

وفي معناه ما قرّر (١) ـ بالبناء على أصالة الوجود ـ أنّ حقيقة الوجود الّتي هي عين الأعيان وحاقّ الواقع حقيقة مرسلة يمتنع عليها العدم ، إذ كلّ مقابل غير قابل لمقابله (٢) ، والحقيقة المرسلة الّتي يمتنع عليها العدم واجبة الوجود بالذات ، فحقيقة الوجود الكذائيّة واجبة بالذات ، وهو المطلوب (٣).

فإن قلت : امتناع العدم على الوجود لا يوجب كونه واجبا بالذات ، وإلّا كان وجود كلّ ممكن واجبا بالذات ، لمناقضته عدمه ، فكان الممكن واجبا وهو ممكن ، وهذا خلف.

__________________

(١) والمقرّر هو الحكيم السبزواريّ في حاشية الأسفار ٦ : ١٦ ـ ١٧ ، وحاشية شرح المنظومة : ١٤٦ ، وشرح دعاء الصباح : ٢٦ ـ ٢٧.

والتقرير المذكور يتشكّل من قياسين على نحو الشكل الأوّل ، فيقال : حقيقة الوجود حقيقة مرسلة ، والحقيقة المرسلة يمتنع عليها العدم ، فحقيقة الوجود يمتنع عليها العدم.

ثمّ يجعل النتيجة صغرى قياس آخر ويقال : حقيقة الوجود يمتنع عليها العدم ، وكلّ ما يمتنع عليه العدم واجب ، فحقيقة الوجود واجبة ، وهو المطلوب.

(٢) وإلّا لزم اجتماع المتقابلين ، وهو ممنوع. بيان ذلك : أنّ التقابل امتناع اجتماع شيئين في محلّ واحد من جهة واحدة في زمان واحد ، فالسواد لا يقبل البياض ولا العكس ، والاتّصال الحقيقي لا يقبل الانفصال ولا العكس ، والوجود لا يقبل العدم ولا العكس.

(٣) وجدير بالذكر كلام الحكيم السبزواريّ في تقرير البرهان ، حيث قال : «الوجود الحقيقيّ إن كان واجبا فهو المطلوب وإلّا استلزمه ، لا لأنّه إذا لم يكن واجبا كان ممكنا فيلزم إمّا الدور وإمّا التسلسل أو المطلوب ، بل لأنّه يلزم من الرفع الّذي في النظرة الاولى ـ وهي حمقاء ـ الوضع في النظرة الثانية بلا مؤونة زائدة ، لأنّ حقيقة الوجود لا يتطرّق إليها الإمكان بمعنى سلب الضرورتين ، ولا بمعنى جواز الطرفين ، ولا بمعنى تساوي النسبتين ، بناء على بطلان الأولويّة ، لأنّ ثبوت الشيء لنفسه ضروريّ وسلبه عن نفسه محال ، ونسبة الشيء إلى نفسه كيف تساوي نسبة نقيضه إليه؟! ولا يتطرّق إليها الافتقار والتعلّق بوجود ، لأنّه المفروض الحقيقة بقول مرسل ، وكلّ حقيقة جامعة لجميع ما هو من سنخها عريّة بذاتها عمّا هو من غرائبها ، وغرائب الوجود ما هو من سنخ العدم».

ثمّ قال : «فانظر أنّا لم نستدلّ في هذا المنهج القويم بغيره تعالى عليه ، فإنّ الوجود الّذي نستدلّ به على الوجوب ليس غريبا عنه ، بل الوجود الحقيقيّ كاشف عن الوجوب الذاتيّ ، بل هو هو». راجع شرح دعاء الصباح : ٢٦ ـ ٢٧.

٢٠٩

قلت : هذا في الوجودات الممكنة ، وهي محدودة بحدود ماهويّة لا تتعدّاها ، فينتزع عدمها ممّا وراء حدودها (١). وهو المراد بقولهم : «كلّ ممكن فهو زوج تركيبيّ» (٢). وأمّا حقيقة الوجود المرسلة ـ الّتي هي الأصيلة لا أصيل غيرها ، فلا حدّ يحدّها ولا قيد يقيّدها ـ فهي بسيطة صرفة تمانع العدم وتناقضه بالذات ، وهو الوجوب بالذات.

وقرّر صدر المتألّهين قدس‌سره البرهان على وجه آخر ، حيث قال : «وتقريره أنّ الوجود ـ كما مرّ ـ حقيقة عينيّة واحدة بسيطة ، لا اختلاف بين أفرادها لذاتها إلّا بالكمال والنقص والشدّة والضعف أو بامور زائدة ، كما في أفراد ماهيّة نوعيّة. وغاية كمالها ما لا أتمّ منه ، وهو الّذي لا يكون متعلّقا بغيره ، ولا يتصوّر ما هو أتمّ منه ، إذ كلّ ناقص متعلّق بغيره مفتقر إلى تمامه. وقد تبيّن فيما سبق أنّ التمام قبل النقص ، والفعل قبل القوّة ، والوجود قبل العدم ؛ وبيّن أيضا أنّ تمام الشيء هو الشيء وما يفضل عليه.

فإذا الوجود إمّا مستغن عن غيره وإمّا مفتقر بالذات (٣) إلى غيره. والأوّل هو واجب الوجود ، وهو صرف الوجود الّذي لا أتمّ منه ، ولا يشوبه عدم ولا نقص. والثاني هو ما سواه من أفعاله وآثاره ، ولا قوام لما سواه إلّا به ، لما مرّ أنّ حقيقة الوجود لا نقص لها وإنّما يلحقه النقص لأجل المعلوليّة ، وذلك لأنّ المعلول لا يمكن أن يكون في فضيلة الوجود مساويا لعلّته. فلو لم يكن الوجود مجعولا ذا قاهر يوجده ويحصّله كما يقتضيه لا يتصوّر أن يكون له نحو من القصور ، لأنّ حقيقة الوجود ـ كما علمت ـ بسيطة لا حدّ لها ولا تعيّن إلّا محض الفعليّة

__________________

(١) وبعبارة اخرى : ينتزع عدمها من وجود غيرها ، فإنّ كلّ وجود ممكن محدود بحدّ لا يتعدّاه ، فهو من حيث إنّه يترتّب عليه آثار خاصّة وجود ومن حيث إنّه لا يترتّب عليه الآثار المترتّبة على غيره فهو عدم غيره ، فعدمه ينتزع من وراء حدّه ، وليس وراء حدّه إلّا وجود محدود آخر.

(٢) راجع الفصل السابع من المقالة الاولى من إلهيّات الشفاء.

(٣) وفي المصدر : «لذاته».

٢١٠

والحصول ، وإلّا لكان فيه تركيب أو له ماهيّة غير الوجوديّة (١).

وقد مرّ أيضا أنّ الوجود إذا كان معلولا كان مجعولا بنفسه جعلا بسيطا وكان ذاته بذاته مفتقرا إلى جاعل وهو متعلّق الجوهر والذات بجاعله.

فإذا قد ثبت واتّضح أنّ الوجود إمّا تامّ الحقيقة واجب الهويّة وإمّا مفتقر الذات إليه متعلّق الجوهريّة. وعلى أيّ القسمين يثبت ويتبيّن أنّ وجود واجب الوجود غنيّ الهويّة عمّا سواه ، وهذا هو ما أردناه» (٢) إنتهى.

__________________

(١) وفي المصدر : «غير الموجوديّة». وهو الصحيح.

(٢) راجع الأسفار ٦ : ١٤ ـ ١٦.

٢١١

الفصل الثاني

في بعض آخر ممّا اقيم على وجود

الواجب تعالى من البراهين

من البراهين عليه (١) أنّه لا ريب أنّ هناك موجودا مّا ، فإن كان هو أو شيء منه واجبا بالذات فهو المطلوب ، وإن لم يكن واجبا بالذات ـ وهو موجود ـ فهو ممكن بالذات بالضرورة ، فرجّح وجوده على عدمه بأمر خارج من ذاته وهو العلّة ، وإلّا كان مرجّحا بنفسه فكان واجبا بالذات وقد فرض ممكنا ، وهذا خلف.

__________________

(١) هذا هو البرهان المنسوب إلى الإلهيّين. وهو نفس برهان الصدّيقين الّذي ذكره الشيخ الرئيس في الإشارات ، وتمسّك به المحقّق الطوسيّ ، وتبعه العلّامة الحلّيّ ، راجع كشف المراد : ٢٨٠ ، وشوارق الإلهام : ٤٩٤ ـ ٥٠٠ ، وشرح القوشجيّ : ٢١٠ ، والنافع يوم الحشر : ٨ ـ ٩ ، ومفتاح الباب ٨٣ ـ ٩٧.

والفرق بينه وبين البرهان السابق المنسوب إلى المتألّهين هو ما ذكره الحكيم السبزواريّ في شرح دعاء الصباح : ٢٦ من أنّ المتألّهين ناظرون إلى حقيقة الوجود والإلهيّون ناظرون إلى مفهوم الوجود.

وحاصل البرهان : أنّ النظر إلى مفهوم الوجود يعطي أنّه لا يمكن تحقّقه إلّا بالواجب ، فإنّ الموجود لا يمكن أن ينحصر في الممكن ، وإلّا لم يتحقّق موجود أصلا ، لأنّه على هذا التقدير إمّا تحقّق بنفسه وهو محال أو بغيره ، وذلك الغير إمّا يكون ممكنا فيلزم إمّا الدور أو التسلسل وكلاهما محال ، وإمّا يكون واجبا فثبت المطلوب.

٢١٢

وعلّته إمّا ممكنة مثله أو واجبة بالذات ، وعلى الثاني يثبت المطلوب ، وعلى الأوّل ينقل الكلام إلى علّته ، وهلمّ جرا ، فإمّا أن يدور أو يتسلسل وهما محالان ، أو ينتهي إلى علّة غير معلولة هي الواجب بالذات وهو المطلوب.

واعترض عليه (١) : بأنّه ليس بيانا برهانيّا مفيدا لليقين ، فإنّ البرهان إنّما يفيد اليقين إذا كان السلوك فيه من العلّة إلى المعلول ، وهو البرهان اللمّيّ (٢). وأمّا البرهان الإنّي المسلوك فيه من المعلول إلى العلّة فلا يفيد يقينا كما بيّن في المنطق. ولمّا كان الواجب تعالى علّة لكلّ ما سواه غير معلول لشيء بوجه كان السلوك إلى إثبات وجوده ـ من أيّ شيء كان ـ سلوكا من المعلول إلى العلّة غير مفيد لليقين ، وقد سلك في هذا البيان من الموجود الممكن الّذي هو معلوله إلى إثبات وجوده (٣).

والجواب عنه (٤) : أنّ برهان الإنّ لا ينحصر فيما يسلك فيه من المعلول إلى العلّة ، وهو لا يفيد اليقين ، بل ربّما يسلك فيه من بعض اللوازم العامّة الّتي للموجودات المطلقة (٥) إلى بعض آخر (٦) ، وهو يفيد اليقين ، كما بيّنه الشيخ في كتاب البرهان من منطق الشفاء (٧).

وقد سلك في البرهان السابق من حال لازمة لمفهوم موجود مّا (٨) ـ وهي كونه مساوقا (٩) للموجود من حيث هو موجود ـ إلى حال لازمة اخرى له ،

__________________

(١) هذا الاعتراض تعرّض له صدر المتألّهين في الأسفار ٦ : ٢٧.

(٢) والواجب تعالى ليس معلولا لشيء أصلا ، بل هو علّة لجميع ما عداه.

(٣) فالبرهان المذكور برهان إنّيّ غير مفيد لليقين.

(٤) كذا أجاب عنه المصنّف رحمه‌الله في تعليقته على الأسفار ٦ : ٦٧. وقال المحقّق اللاهيجيّ في شوارق الإلهام : ٤٩٨ : «وأيضا قالوا : من القياسات الآنيّة ما هو أقرب إلى اللمّ ، بل كاد أن يكون في مرتبته في الوثوق ، وهو ما يكون من اللوازم المنتزعة من حاقّ الملزوم وحقيقته من غير اعتبار أمر آخر على ما صرّح به الشيخ في الحكمة المشرقيّة» انتهى.

(٥) وهو كونها حقيقة ثابتة.

(٦) وهو كون بعضها واجبا بالذات.

(٧) راجع الفصل الثامن من المقالة الاولى من الفنّ الخامس من منطق الشفاء.

(٨) وفي النسخ : «لمفهوم وموجود مّا» والصحيح ما أثبتناه.

(٩) وفي النسخ : «وهو مساوق للموجود ...» والصحيح ما أثبتناه.

٢١٣

وهي (١) أنّ من مصاديقه وجود علّة غير معلولة يجب وجودها لذاتها (٢).

فقد تبيّن بذلك أنّ البيان المذكور برهان إنّيّ مفيد لليقين كسائر البراهين الموضوعة في الفلسفة لبيان خواصّ الموجود من حيث هو موجود المساوية للموجود العامّ.

تنبيه :

محصّل البيان السابق أنّ تحقّق موجود مّا ملازم لترجّح وجوده إمّا لذاته فيكون واجبا بالذات ، أو لغيره وينتهي إلى ما ترجّح بذاته ، وإلّا دار أو تسلسل وهما مستحيلان.

ويمكن تبديل ترجّح الوجود بوجوب الوجود ، فيكون سلوكا إنّيّا من مسلك آخر. تقريره : أنّه لا ريب أنّ هناك موجودا مّا ، وكلّ موجود فإنّه واجب ، لأنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد ، فإن كان هو أو شيء منه واجبا لذاته فهو المطلوب ، وإن كان واجبا لغيره ـ وهو علّته الموجودة الواجبة ـ فعلّته (٣) إمّا واجبة لذاتها فهو ، وإمّا واجبة لغيرها ، فننقل الكلام إلى علّة علّته ، وهلمّ جرا ، فإمّا أن يدور أو يتسلسل أو ينتهي إلى واجب لذاته ، والشقّان الأوّلان مستحيلان ، والثالث هو المطلوب.

برهان آخر ، أقامه الطبيعيّون من طريق الحركة والتغيّر (٤). تقريره : أنّه قد ثبت فيما تقدّم ـ في مباحث القوّة والفعل (٥) ـ أنّ المحرّك غير المتحرّك ، فلكلّ متحرّك

__________________

(١) وفي النسخ : «وهو» والصحيح ما أثبتناه.

(٢) وقال الحكيم السبزواريّ ـ تعليقا على الأسفار ٦ : ٢٨ ـ : «هذه الحال كون الموجود إمّا واجبا وإمّا ممكنات متسلسلة وإمّا ممكنات دائرة وإمّا ممكنات مترجّحة الوجود من جهة ماهيّاتها على حال اخرى هي كون بعض منه واجبا وبعض آخر منه ممكنا على البتّ واليقين».

(٣) وفي النسخ : «فعليّته» والصحيح ما أثبتناه.

(٤) نسب إليهم في المباحث المشرقيّة ٢ : ٤٥١ ، وشوارق الإلهام : ٤٥٩ ، وشرح الإشارات ٣ : ٦٦ ، والأسفار ٦ : ٤٢.

(٥) راجع الفصل العاشر من المرحلة التاسعة.

٢١٤

محرّك غيره (١) ، ولو كان المحرّك متحرّكا فله محرّك أيضا غيره ، ولا محالة تنتهي سلسلة المحرّكات إلى محرّك غير متحرّك دفعا للدور والتسلسل. وهو لبراءته من المادّة والقوّة ، وتنزّهه عن التغيّر والتبدّل ، وثباته في وجوده (٢) واجب الوجود بالذات أو ينتهي إليه في سلسلة علله.

برهان آخر ، أقامه الطبيعيّون أيضا من طريق النفس الإنسانيّة (٣). تقريره : أنّ النفس الإنسانيّة مجرّدة عن المادّة ذاتا ، حادثة بما هي نفس بحدوث البدن ، لامتناع التمايز بدون الأبدان ، واستحالة التناسخ ـ كما بيّن في محلّه (٤) ـ. فهي ممكنة مفتقرة إلى علّة غير جسم ولا جسمانيّة ؛ أمّا عدم كونها جسما فلأنّها لو كانت جسما كان كلّ جسم ذا نفس ، وليس كذلك ؛ وأمّا عدم كونها جسمانيّة فلأنّها لو كانت جسمانيّة ـ سواء كانت نفسا اخرى أو صورة جسميّة أو عرضا جسمانيّا ـ كان تأثيرها بتوسّط الوضع ، ولا وضع للنفس مع كونها مجرّدة. على أنّ النفس لتجرّدها أقوى تجوهرا وأشرف وجودا من كلّ جسم وجسمانيّ ، ولا معنى لعلّيّة الأضعف الأخسّ للأقوى الأشرف. فالسبب الموجد للنفس أمر وراء عالم الطبيعة ، وهو الواجب تعالى بلا واسطة أو بواسطة علل مترتّبة تنتهي إليه.

__________________

(١) إذ المتحرّك لا يتحرّك عن نفسه.

(٢) وذلك لأنّ الحركة خروج الشيء من القوّة إلى الفعل ، والخروج كذلك ملازم للمادّة والتغيّر وعدم الثبات ، وإذا فرض أنّ شيئا غير متحرّك فهو بريء من المادّة والتغيّر وعدم الثبات ، بل هو بالفعل من جميع الجهات ، وهو إمّا واجب الوجود أو مجرّد ينتهي إلى واجب الوجود.

(٣) راجع الأسفار ٦ : ٤٤ ، والمطارحات : ٤٠٢ ـ ٤٠٣. ووصفه صدر المتألّهين بأنّه شريف جدّا. وقال الحكيم السبزواريّ ـ تعليقا على الأسفار ٦ : ٤٤ ـ : «ويجوز جعل هذا المسلك للإلهيّ جوازا متساوي الطرفين لو لم يكن راجحا بملاحظة ابتنائه بالنحو الأوثق الأشرف على معرفة النفس المستلزمة لمعرفة الربّ ، كما قال عليه‌السلام : «من عرف نفسه فقد عرف ربّه» وبملاحظة أخذ تجرّد النفس في الدليل وأنّ النفس السالكة عين المسلك ، بل بما هي مجرّدة عين المسلوك إليه ظهورا في مقام الفعل ، إذ لا آية كبرى من النفس المجرّدة بالفعل ، الكاملة علما وعملا ، والنفس بهذه الملاحظات موضوع من موضوعات الإلهيّ».

(٤) راجع تعليقات صدر المتألّهين على شرح حكمة الإشراق : ٤٧٦.

٢١٥

برهان آخر ، للمتكلّمين من طريق الحدوث (١). تقريره : أنّ الأجسام لا تخلو عن الحركة والسكون ، وهما حادثان ، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث ، فالأجسام كلّها حادثة ، وكلّ حادث مفتقر إلى محدث غير حادث ، دفعا للدور والتسلسل ، فمحدثها أمر غير جسم ولا جسمانيّ (٢) ، وهو الواجب تعالى (٣).

والحجّة غير تامّة ، فإنّ المقدّمة القائلة : «إنّ ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث» لا بيّنة ولا مبيّنة ، وتغيّر أعراض الجوهر عندهم غير ملازم لتغيّر الجوهر الّذي هو موضوعها. نعم ، لو بنى على الحركة الجوهريّة تمّت المقدّمة ونجحت الحجّة.

وهذه الحجّة كما ترى ـ كالحجج الثلاث السابقة ـ مبنيّة على تناهي العلل وانتهائها إلى علّة غير معلولة هو الواجب تعالى.

__________________

(١) راجع شرح المواقف : ٤٦٦ ، وشرح المقاصد ٢ : ٥٧.

(٢) لأنّ كلّ جسم أو جسمانيّ حادث ، ولا يخلو عن الحركة والتغيّر.

(٣) وفي النسخ : «وكلّ حادث مفتقر إلى محدث ، فمحدثها أمر غير جسم ولا جسمانيّ ، وهو الواجب تعالى ، دفعا للدور والتسلسل». والصحيح ما أثبتناه.

٢١٦

الفصل الثالث

في أنّ الواجب لذاته لا ماهيّة (١) له (٢)

وقد تقدّمت المسألة في مرحلة الوجوب والإمكان (٣) وتبيّن هناك أنّ كلّ ما له ماهيّة فهو ممكن ، وينعكس إلى أنّ ما ليس بممكن فلا ماهيّة له ، فالواجب بالذات لا ماهيّة له ، وكذا الممتنع بالذات.

وأوردنا هناك أيضا الحجّة المشهورة الّتي أقاموها لنفي الماهيّة عن الواجب تعالى وتقدّس ، وهي : أنّه لو كانت للواجب تعالى ماهيّة وراء وجوده كانت في ذاتها لا موجودة ولا معدومة (٤) ، فتحتاج في تلبّسها بالوجود إلى سبب ، والسبب إمّا ذاتها أو أمر خارج منها ، وكلا الشقّين محال. أمّا كون ذاتها سببا لوجودها فلأنّ

__________________

(١) والمراد من الماهيّة هو الماهيّة بالمعنى الأخصّ ، أي ما يقال في جواب ما هو؟ فهذا لا ينافي قولهم : «إنّ الواجب الوجود بالذات ماهيّته إنّيّته» فإنّ المراد من الماهيّة هناك هو الماهيّة بالمعنى الأعمّ ، أي ما به الشيء هو هو.

(٢) لا يخفى أنّ هذه المسألة من مهمّات مسائل الإلهيّات ، فإنّه يبتني عليها كثير من المسائل الإلهيّة. منها : إثبات بساطة وجود الواجب تعالى. ومنها : عدم وجود جنس مشترك بينه وبين غيره من الموجودات. ومنها : إثبات أنّ كنهه في غاية الخفاء ولا يقدر العقل على معرفة كنهه. ومنها : إثبات توحيده.

(٣) راجع الفصل الثالث من المرحلة الرابعة.

(٤) لأنّ الماهيّة من حيث هي ليست إلّا هي ، لا موجودة ولا معدومة.

٢١٧

السبب متقدّم على مسبّبه وجودا بالضرورة ، فيلزم تقدّمها بوجودها على وجودها ، وهو محال. وأمّا كون غيرها سببا لوجودها فلأنّه يستلزم معلوليّة الواجب بالذات لذلك الغير فيكون ممكنا ، وقد فرض واجبا بالذات ، وهذا خلف ، فكون الواجب بالذات ذا ماهيّة وراء وجوده محال ، وهو المطلوب.

وهذه حجّة برهانيّة تامّة لا غبار عليها. ونقضها بالماهيّة الموجودة الّتي للممكنات (١) ـ بتقريب أنّ فرض كون الماهيّة المفروضة للواجب علّة فاعليّة لوجودها ، لو اقتضى تقدّم الماهيّة على وجودها المعلول لها لزم نظيره في الماهيّات الموجودة للممكنات ، فإنّ ماهيّة الممكن قابلة لوجوده والقابل كالفاعل في وجوب تقدّمه على ما يستند إليه ـ غير مستقيم ، لأنّ وجوب تقدّم القابل على مقبوله بالوجود إنّما هو في القابل الّذي هو علّة مادّيّة ، فهي المتقدّمة على معلولها الّذي هو المجموع من الصورة والمادّة (٢) ، وماهيّة الممكن ليست علّة مادّية بالنسبة إلى وجوده ولا بالنسبة إلى الماهيّة الموجودة ، وإنّما قابليّتها اعتبار عقليّ منشؤه تحليل العقل الممكن إلى الماهيّة ووجود واتّخاذه الماهيّة موضوعه والوجود محمولا لها.

وبالجملة : ليست الماهيّة علّة قابليّة للوجود ، لكن لو فرضت علّة فاعليّة لوجودها كانت علّة حقيقيّة واجبة التقدّم حقيقة ، فإنّ الحاجة إلى علّة الوجود حاجة حقيقيّة تستتبع علّة حقيقيّة ، بخلاف الحاجة إلى قابل ماهويّ يقبل الوجود ، فإنّها اعتبار عقليّ والماهيّة في الحقيقة عارضة للوجود لا معروضة له (٣).

حجّة اخرى (٤) وهي : أنّ الوجود إذا كان زائدا على الماهيّة تقع الماهيّة

__________________

(١) هذا النقض أورده الفخر الرازيّ في المباحث المشرقيّة ١ : ٣٧ ، وقرّره على ذلك صدر المتألّهين في الأسفار ٦ : ٤٨.

(٢) وفيه ما مرّ في بعض تعليقاتنا على الفصل السادس من المرحلة السادسة ، فراجع.

(٣) وفي النسخ : «لا معروضته لها» والصحيح ما أثبتناه.

(٤) هذه الحجّة أقامها الشيخ الإشراقيّ في المطارحات : ٣٩١ ـ ٣٩٢ ، والتلويحات : ٣٩.

٢١٨

لا محالة تحت إحدى المقولات ، وهي لا محالة مقولة الجوهر دون مقولات الأعراض ، سواء انحصرت المقولات في عدد معيّن مشهور أو غير مشهور أو زادت عليه ، لأنّ الأعراض ـ أيّامّا كانت ـ قائمة بغيرها (١) ، فإذا كانت الماهيّة المفروضة تحت مقولة الجوهر فلا بدّ أن يتخصّص بفصل بعد اشتراكها مع غيرها من الأنواع الجوهريّة ، فتحتاج إلى المخصّص. وأيضا لا شبهة في حاجة بعض الأنواع الجوهريّة إلى المخصّص والمرجّح ، وإذا صحّ الإمكان على بعض ما تحت الجنس من الأنواع صحّ على الجنس ، فالجائز على بعض الأنواع الّتي تحت الجنس جائز على الجنس ، والممتنع أو الواجب على الجنس ممتنع أو واجب على كلّ نوع تحته ، فلو دخل واجب الوجود تعالى تحت المقولة لزم فيه جهة إمكانيّة باعتبار الجنس ، فلم يكن واجبا بل ممكنا ، وهذا خلف ، وإذا استحال دخول الماهيّة المفروضة تحت مقولة الجوهر استحال كون الواجب ذا ماهيّة ، وهو المطلوب (٢).

وقد تبيّن ممّا تقدّم أنّ ضرورة الوجود ووجوبه في الواجب تعالى أزليّة هي منتزعة من حاقّ الذات الّتي هي وجود لا ماهيّة له (٣).

__________________

(١) والمفروض أنّه الوجود الواجبيّ غير القائم بغيره.

(٢) واستدلّ المصنّف رحمه‌الله على إثبات المطلوب ـ تعليقا على الأسفار ٦ : ٥٥ ـ بوجه آخر. حاصله : أنّه لازم فرض وجوب الواجب بالذات ثبوت الوجود له على أيّ تقدير ، فأيّ موجود مفروض ـ كيفما فرض ـ موجود معه ، كما أنّه لو لم نفرض شيئا فهو موجود أيضا ، فله الوجود من دون قيد أو شرط ، فهو مطلق غير محدود ، فلا ماهيّة له ، إذ لو كانت له ماهيّة لامتازت عن سائر الماهيّات وارتفعت بالضرورة مع ثبوتها ، والمفروض ثبوته على أيّ تقدير ، وهذا خلف. فواجب الوجود بالذات لا ماهيّة له.

(٣) فهو واجب الوجود بالذات من دون حاجة إلى انضمام حيثيّة تعليليّة أو تقييديّة ، بخلاف الماهيّات الممكنة ، فإنّها تحتاج في عرض الوجوب لها إلى الواسطة في العرض. وبخلاف الوجودات الخاصّة الإمكانيّة ، فإنّها تحتاج في ثبوت الوجوب لها إلى الواسطة في الثبوت.

٢١٩

الفصل الرابع

في أنّ الواجب تعالى بسيط غير مركّب

من أجزاء خارجيّة ولا ذهنيّة (١)

وقد تقدّم أنّ الواجب تعالى لا ماهيّة له (٢) ، فليس له حدّ (٣) ، وإذ لا حدّ له فلا أجزاء حدّيّة له من الجنس والفصل ، وإذ لا جنس ولا فصل له فلا أجزاء خارجيّة له من المادّة والصورة الخارجيّتين ، لأنّ المادّة هي الجنس بشرط لا والصورة هي الفصل بشرط لا ، وكذا لا أجزاء ذهنيّة له من المادّة والصورة العقليّتين ، وهما الجنس والفصل المأخوذان بشرط لا في البسائط الخارجيّة كالأعراض.

وبالجملة : لا أجزاء حدّيّة له من الجنس والفصل ، ولا خارجيّة من المادّة والصورة الخارجيّتين ، ولا ذهنيّة عقليّة من المادّة والصورة العقليّتين.

__________________

(١) ولا من الأجزاء الحمليّة ، ولا من الأجزاء المقداريّة. أمّا الأجزاء الخارجيّة فهي المادّة والصورة الخارجيّتين ، والذهنيّة هي المادّة والصورة الذهنيّتين ، والحمليّة «الحدّيّة» هي الأجزاء لا بشرط كالجنس والفصل ، والمقداريّة هي الأجزاء المتباينة في الوضع الموجودة بالقوّة.

(٢) راجع الفصل الثالث من المرحلة الرابعة ، والفصل السابق من هذه المرحلة.

(٣) فإنّ الماهيّات منتزعة من حدود الوجودات.

٢٢٠