نهاية الحكمة - ج ٢

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

نهاية الحكمة - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-470-624-0
الصفحات: ٣٣٦

لنفسه» أو المقدّم والتالي كقولنا : «العدد إمّا زوج وإمّا فرد».

واولى الأوّليّات بالقبول قضيّة «امتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما» الّتي يفصح عنها قولنا : «إمّا أن يصدق الإيجاب ويكذب السلب ، أو يصدق السلب ويكذب الإيجاب». وهي منفصلة حقيقيّة (١) لا تستغني عنها في إفادة العلم قضيّة نظريّة ولا بديهيّة حتّى الأوّليّات (٢) ، فإنّ قولنا : «الكلّ أعظم من جزئه» ـ مثلا ـ

__________________

(١) وهي قضيّة حكم فيها بتنافي طرفيها صدقا وكذبا في الإيجاب ، فلا يمكن اجتماعهما ولا ارتفاعهما في الإيجاب ، وعدم تنافي طرفيها صدقا وكذبا في السلب ، فيجتمعان ويرتفعان فيه.

(٢) لا يقال : لا ريب في عدم استغناء القضايا النظريّة عن قضيّة امتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما. إنّما الكلام في عدم استغناء القضايا البديهيّة عنها ، فإنّه ينافي بداهتها ، ضرورة أنّ البديهيّ ـ كما مرّ ـ هو ما لا يحتاج في حصوله إلى اكتساب ونظر ، كما أنّ النظريّ ما يحتاج في إفادة العلم إلى ضمّ ضميمة والنظر في قضيّة. فإذا لم تكن قضيّة مستغنية عن الضميمة كانت نظريّة ، فالقول بعدم استغناء القضايا البديهيّة عن قضيّة امتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما يستلزم أن تكون البديهيّة نظريّة ، وهذا خلف.

لأنّه يقال : التحقيق أنّ البديهيّ والنظريّ مفهومان إضافيّان ، فربّ متصوّر كان بديهيّا بالنسبة إلى متصوّر ونظريّا بالنسبة إلى متصوّر آخر ، وربّ قضيّة كانت بديهيّة بالنسبة إلى قضيّة ونظريّة بالنسبة إلى قضيّة اخرى. ولذا كان الأولى أن يقال في تعريفهما في باب التصوّرات : أنّ التصوّر النظريّ ما يجوز أن يسأل عنه ب «ما هو؟» حتّى يقع في جوابه ما يكون شرحا له. والتصوّر البديهيّ ما يقع في جواب السؤال عن الشيء ب «ما هو؟» فإن كان هو أيضا ممّا يجوز أن يسأل عنه ب «ما هو؟» يكون بديهيّا بالنسبة إلى ما قبله الّذي كان هذا شرحا له ، ونظريّا بالنسبة إلى ما يقع في الجواب عن السؤال عنه ب «ما هو؟» ولم ينقطع السؤال حتّى تنتهي السلسلة إلى ما لا يجوز أن يسأل عنه ب «ما هو؟» فهو أبده البديهيّات وأوّل الأوائل في التصوّرات ، وهو الوجود.

فالإنسان ـ مثلا ـ نظريّ ، أي يجوز أن يسأل عنه ب «ما هو؟» فيقال : «حيوان». وهذا بالنسبة إلى الإنسان بديهيّ ، ولكن لمّا كان يجوز أن يسأل عنه ب «ما هو؟» فهو نظريّ ويسأل عنه ب «ما هو؟» فيقال : «نام حسّاس متحرّك بالإرادة». وهذا الجواب بديهيّ من جهة أنّه وقع في جواب السؤال عن الحيوان ب «ما هو؟» ونظريّ من جهة أنّه يجوز أن يسأل عنه ب «ما هو؟» فيقال : «موجود». وهذا بديهيّ غير نظريّ ، لعدم جواز السؤال عنه ب «ما هو؟» ، بل إذا سئل عنه ب «ما هو؟» فيقال : «موجود». فهذا أوّل الأوائل في باب التصوّرات. ـ

١٨١

إنّما يفيد العلم إذا منع النقيض وكان نقيضه (١) كاذبا.

فهي أوّل قضيّة يتعلّق بها التصديق ، وإليها تنتهي جميع العلوم النظريّة والبديهيّة في قياس استثنائيّ (٢) يتمّ به العلم (٣). فلو فرض فيها شكّ سرى ذلك في جميع القضايا وبطل العلم من أصله.

ويتفرّع على ذلك :

أوّلا : أنّ لنا في كلّ قضيّة مفروضة قضيّة حقّة ، إمّا هي نفسها أو نقيضها.

وثانيا : أنّ نقيض الواحد واحد ، وأن لا واسطة بين النقيضين.

__________________

ـ وأيضا كان الأولى أن يقال في تعريفهما في باب التصديقات : أنّ التصديق النظريّ قضيّة يجوز أن يسأل عنها ب «لم هي؟» لكي يقع في الجواب قضيّة تتّضح بها وجه الحكم فيها.

والتصديق البديهيّ قضيّة تقع في جواب السؤال عن قضيّة ب «لم هي؟» وهذه القضيّة إن كانت بحيث يجوز أن يسأل عنها ب «لم هي؟» تكون بديهيّة بالنسبة إلى القضيّة السابقة ، ونظريّة بالنسبة الي القضيّة الّتي تقع في جواب السؤال عنها ب «لم هي؟». ولم ينقطع السؤال حتّى ينتهي الجواب إلى قضيّة لا يجوز أن يسأل عنها ب «لم هي؟» وهي قضيّة «اجتماع النقيضين وارتفاعهما محال» ، فهي اولى الأوّليات في التصديقات ، وإليها ينتهي كلّ قضيّة نظريّة أو بديهيّة.

وبما ذكرنا يرفع التنافي بين كون القضيّة بديهيّة وكونها غير مستغنية عن قضيّة اولى الأوائل.

وشبّه صدر المتألّهين نسبة هذه القضيّة إلى غيرها من القضايا بنسبة الوجود الواجبيّ إلى وجود الماهيّات ، فقال : «كلّ قضيّة غير اولى الأوّليّات ـ بديهيّة كانت أو نظريّة ـ فهي بالحقيقة هذه القضيّة مع قيد مخصوص». ثمّ صرّح برجوع كلّ القضايا إلى هذه القضيّة عند التحليل. راجع الأسفار ٣ : ٤٤٣ ـ ٤٤٥.

ولكن أورد عليه المصنّف رحمه‌الله في تعليقته على الأسفار ٣ : ٤٤٥ وقال : «أمّا الرجوع بالتحليل بمعنى تحصيل الحدود الوسطى وتأليف المقدّمات فغير جار البتّة ، فإنّ أوّل الأوائل قضيّة منفصلة حقيقيّة لا ينحلّ إليها القضايا الحمليّة».

(١) وهو قولنا : «ليس الكلّ بأعظم من جزئه».

(٢) بأن يقال : إنّ هذه القضيّة إمّا أن تكون صادقة ونقيضها كاذبا ، وإمّا أن تكون كاذبة ونقيضها صادقا ، لكنّها صادقة فيكون نقيضها كاذبا بالضرورة ، فإنّ اجتماع النقيضين وارتفاعهما ممتنعان.

(٣) أي : العلم بصدق أصل القضيّة وكذب نقيضها.

١٨٢

وثالثا : أنّ التناقض بين التصوّرين مرجعه إلى التناقض بين التصديقين ، كالتناقض بين الإنسان واللاإنسان الراجعين إلى وجود الإنسان وعدمه الراجعين إلى قولنا : «الإنسان موجود ، وليس الإنسان بموجود».

تنبيه :

السوفسطيّ ـ وهو المنكر لوجود العلم مطلقا ـ لا يسلّم قضيّة أولى الأوائل (١) إذ لو سلّمها كان ذلك اعترافا منه بأنّ كلّ قضيّتين متناقضتين فإنّ إحداهما حقّة صادقة ، وفيه اعتراف بوجود علم مّا.

ثمّ إنّ السوفسطيّ ـ بما يظهر من الشكّ في كلّ عقد ـ إمّا أن يعترف بأنّه يعلم أنّه شاكّ ، وإمّا أن لا يعترف. فإن اعترف بعلمه بشكّه فقد اعترف بعلم مّا ، فيضاف إليه تسليمه لقضيّة اولى الأوائل ، ويتبعه العلم بأنّ كلّ قضيّتين متناقضتين فإنّ إحداهما حقّة صادقة ، وتعقّب ذلك علوم اخرى. وإن لم يعترف بعلمه بشكّه بل أظهر أنّه شاكّ في كلّ شيء وشاكّ في شكّه ليس يجزم بشيء لغت محاجّته ولم ينجع (٢) فيه برهان ، وهذا الإنسان إمّا مصاب بآفة اختلّ بها إدراكه فليراجع الطبيب ، وإمّا معاند للحقّ يظهر ما يظهر ليدحض به الحقّ فيتخلّص من لوازمه فليضرب وليعذّب وليمنع ممّا يحبّه وليجبر على ما يبغضه ، إذ كلّ شيء ونقيضه عنده سواء.

نعم ، بعض هؤلاء المظهرين للشكّ ممّن راجع العلوم العقليّة ـ وهو غير مسلّح بالاصول المنطقيّة ولا متدرّب في صناعة البرهان ـ فشاهد اختلاف الباحثين في المسائل بالإثبات والنفي ورأى الحجج الّتي أقاموها على طرفي النقيض ولم يقدر ـ لقلّة بضاعته ـ على تمييز الحقّ من الباطل فتسلّم طرفي النقيض في المسألة

__________________

(١) وللسوفسطيّين شبهات تعرّض لها وللإجابة عليها الشيخ الرئيس في الفصل الثامن من المقالة الاولى من إلهيّات الشفاء. وتبعه على ذلك غيره من المتأخّرين. وأشار إليها وإلى دفعها المصنّف رحمه‌الله هاهنا.

(٢) وفي النسخ : «لم ينجح» والصحيح ما أثبتناه ومعناه : لم يؤثّر فيه برهان.

١٨٣

ببعد المسألة (١) ، فأساء الظنّ بالمنطق ، وزعم أن لا طريق إلى إصابة الواقع يؤمن معه الخطأ في الفكر ولا سبيل إلى العلم بشيء على ما هو عليه. وهذا ـ كما ترى ـ قضاء بتّيّ منه بامور كثيرة ، كتباين أفكار الباحثين وحججهم من غير أن يترجّح بعضها على بعض ، واستلزام ذلك قصور الحجّة مطلقا عن إصابة الواقع ، فعسى أن يرجع بالتنبيه عن مزعمته ، فليعالج بإيضاح القوانين المنطقيّة وإراءة قضايا بديهيّة لا تقبل الشكّ في حال من الأحوال ، كضرورة ثبوت الشيء لنفسه وامتناع سلبه عن نفسه ، وليبالغ في تفهيم معاني أجزاء القضايا ، وليؤمر أن يتعلّم العلوم الرياضيّة.

وهناك طائفتان من الشكّاكين دون من تقدّم ذكرهم. فطائفة يسلّمون الإنسان وإدراكاته ويظهرون الشكّ فيما وراء ذلك ، وطائفة اخرى تفطّنوا بما في قولهم : «نحن وإدراكاتنا» من الاعتراف بأنّ للواحد منهم علما بوجود غيره من الأناسيّ وإدراكاتهم ، ولا فرق بين هذا العلم وبين غيره من الإدراكات في خاصّة الكشف عمّا في الخارج ، فبدّلوا الكلام من قولهم : «أنا وإدراكاتي».

ويدفعه : أنّ الإنسان ربّما يخطئ في إدراكاته ، كأخطاء الباصرة واللامسة وغيرها من أغلاط الفكر ، ولو لا أنّ هناك حقائق خارجيّة يطابقها الإدراك أو لا يطابقها لم يستقم ذلك. على أنّ كون إدراك النفس وإدراك إدراكاتها إدراكا علميّا ، وكون ما وراء ذلك من الإدراكات شكوكا مجازفة بيّنة.

ومن السفسطة قول القائل : «إنّ الّذي يفيده البحث التجربيّ أنّ المحسوسات بما لها من الوجود الخارجيّ ليست تطابق صورها الّتي في الحسّ ، وإذ كانت العلوم تنتهي إلى الحسّ فلا شيء من المعلوم يطابق الخارج بحيث يكشف عن حقيقته».

ويدفعه : أنّه إذا كان الحسّ لا يكشف عن حقيقة المحسوس على ما هو عليه

__________________

(١) ويحتمل أن تكون العبارة : «بعد المسألة» كما في بداية الحكمة.

١٨٤

في الخارج وسائر العلوم منتهية إلى الحسّ حكمها حكمه فمن أين ظهر أنّ الحقائق الخارجيّة على خلاف ما يناله الحسّ؟ والمفروض أنّ كلّ إدراك حسّيّ أو منته إلى الحسّ ، ولا سبيل للحسّ إلى الخارج. فمآل هذا القول إلى السفسطة ، كما أنّ مآل القول بأنّ الصور الذهنيّة أشباح للامور الخارجيّة إلى السفسطة.

ومن السفسطة أيضا قول القائل : «إنّ ما نعدّه علوما ظنون ليست من العلم المانع من النقيض في شيء».

ويدفعه : أنّ هذا القول : «إنّ ما نعدّه علوما ظنون» بعينه قضيّة علميّة ، ولو كان ظنّيّا لم يفد أنّ العلوم ظنون ، بل أفاد الظنّ بأنّها ظنون ، فتأمّله واعتبر.

وكذا قول القائل : «إنّ علومنا نسبيّة مختلفة باختلاف شرائط الوجود ، فهناك بالنسبة إلى كلّ شرط علم ، وليس هناك علم مطلق ، ولا هناك علم دائم ، ولا كلّيّ ، ولا ضروريّ».

وهذه أقوال ناقضة لنفسها. فقولهم : «العلوم نسبيّة» إن كان نفسه قولا نسبيّا أثبت أنّ هناك قولا مطلقا فنقض نفسه ، ولو كان قولا مطلقا ثبت به قول مطلق فنقض نفسه. وكذا قولهم : «لا علم مطلقا» وقولهم : «لا علم كلّيّا» إن كان نفسه كلّيّا نقض نفسه ، وإن لم يكن كلّيّا ثبت به قول كلّيّ فنقض نفسه. وكذا قوله : «لا علم دائما» وقوله : «لا علم ضروريّا» ينقضان أنفسهما كيفما فرضا.

نعم ، في العلوم العمليّة شوب من النسبيّة ، ستأتي الإشارة إليه إن شاء الله تعالى (١).

__________________

(١) في الفصل الآتي.

١٨٥

الفصل العاشر

ينقسم العلم الحصوليّ إلى حقيقيّ واعتباريّ (١)

والحقيقيّ هو المفهوم الّذي يوجد تارة في الخارج فتترتّب عليه آثاره ، وتارة في الذهن فلا تترتّب عليه آثاره الخارجيّة ، كمفهوم الإنسان. ولازم ذلك أن تتساوى نسبته إلى الوجود والعدم. وهذا هو الماهيّة المقولة على الشيء في جواب ما هو.

والاعتباريّ خلاف الحقيقيّ (٢) ، وهو إمّا من المفاهيم الّتي حيثيّة مصداقها حيثيّة أنّه في الخارج مترتّبا عليه آثاره ، فلا يدخل الذهن الّذي حيثيّته حيثيّة عدم ترتّب الآثار الخارجيّة ، لاستلزام ذلك إنقلابه عمّا هو عليه ، كالوجود وصفاته

__________________

(١) لا يخفى أنّ مراده من العلم الحصوليّ هو العلم التصوّري ، فإنّه ينقسم إلى حقيقيّ واعتباريّ ، وأمّا التصديقات فلا تنقسم بهما ، وإنّما وصفت بهما باعتبار التصوّرات المتعلّقة بهما.

(٢) أي : هو المفهوم الّذي إمّا يوجد مصداقه في الخارج دون الذهن كمفهوم الوجود ، وإمّا يوجد في الذهن دون الخارج كمفهوم الكلّيّ.

ولا يخفى أنّ البحث التفصيليّ عن المفاهيم الاعتباريّة يحتاج إلى وضع رسالة خاصّة يبحث فيها عن تعريفها وأقسامها ودائرة شمولها والفرق بينها وبين المفاهيم الحقيقيّة وغيرها من المباحث الهامّة الّتي ذكر بعضها المصنّف رحمه‌الله في كتابيه : «اصول فلسفه وروش رئاليسم» و «الرسائل السبعة».

١٨٦

الحقيقيّة ـ كالوحدة والوجوب ونحوها ـ أو حيثيّة أنّه ليس في الخارج ، كالعدم (١) فلا يدخل الذهن وإلّا لانقلب إلى ما يقبل الوجود الخارجيّ ، فلا (٢) وجود ذهنيّا لما لا وجود خارجيّا له ؛ وإمّا من المفاهيم الّتي حيثيّة مصداقها حيثيّة أنّه في الذهن ، كمفهوم الكلّيّ والجنس والفصل ، فلا يوجد في الخارج وإلّا لانقلب.

فهذه مفاهيم ذهنيّة معلومة ، لكنّها مصداقا إمّا خارجيّة محضة لا تدخل الذهن كالوجود وما يلحق به ، أو بطلان محض كالعدم ؛ وإمّا ذهنيّة محضة لا سبيل لها إلى الخارج ، فليست بمنتزعة من الخارج ؛ فليست بماهيّات موجودة تارة بوجود خارجيّ واخرى ذهنيّ ، لكنّها منتزعة من مصاديق ، بشهادة كونها علوما حصوليّة لا تترتّب عليها الآثار ، فتنتزع من مصاديق في الذهن.

أمّا المعاني الّتي حيثيّة مصاديقها حيثيّة أنّها في الذهن فإنّه كان لأذهاننا أن تأخذ بعض ما تنتزعه من الخارج ـ وهو مفهوم ـ مصداقا تنظر إليه ، فيضطرّ العقل إلى أن يعتبر له خواصّ تناسبه ، كما أن تنتزع مفهوم الإنسان من عدّة من أفراد ـ كزيد وعمرو وبكر وغيرهم ـ ، فتأخذه وتنصبه مصداقا وهو مفهوم ، تنظر فيما تحفّه من الخواصّ ، فتجده تمام ماهيّة المصاديق وهو النوع ، أو جزء ماهيّتها وهو الجنس أو الفصل ، أو خارجا مساويا أو أعمّ وهو الخاصّة أو العرض العامّ ، وتجده تقبل الصدق على كثيرين ـ وهو الكلّيّة ـ. وعلى هذا المنهج.

وأمّا المفاهيم الّتي حيثيّة مصاديقها حيثيّة أنّها في الخارج أو ليست فيه (٣) فيشبه أن تكون منتزعة من الحكم الّذي في القضايا الموجبة وعدمه في السالبة.

__________________

(١) والأولى أن يقول : وإمّا من المفاهيم الّتي حيثيّة مصداقها المفروض أنّه ليس في الخارج كالعدم ، ضرورة أنّه لا مصداق للعدم حتّى يقال : «مفهوم العدم من المفاهيم الّتي حيثيّة مصداقها أنّه ليس في الخارج». ولعلّه لم يأت به المصنّف رحمه‌الله في بداية الحكمة : ١٨٦ ، بل قسّم المفاهيم الاعتباريّة إلى المفاهيم الّتي حيثيّة مصداقها حيثيّة أنّها في الخارج والمفاهيم الّتي حيثيّة مصداقها حيثيّة أنّها في الذهن.

(٢) استعملت الفاء للتعليل ، أي : فإنّه لا وجود ذهنيّا لما لا وجود خارجيّا له.

(٣) أي : أو المفاهيم الّتي حيثيّة مصاديقها المفروضة أنّها ليست في الخارج.

١٨٧

بيان ذلك (١) : أنّ النفس عند أوّل ما تنال من طريق الحسّ بعض الماهيّات المحسوسة أخذت ما نالته فاختزنته في الخيال ، وإذا نالته ثانيا أو في الآن الثاني وأخذته للاختزان وجدته عين ما نالته أوّلا ومنطبقا عليه. وهذا هو الحمل الّذي هو اتّحاد المفهومين وجودا (٢). ثمّ إذا أعادت النفس المفهوم مكرّرا بالإعادة بعد الإعادة ثمّ جعلتهما واحدا (٣) كان ذلك حكما منها وفعلا لها ، وهو مع ذلك محاك للخارج ، وفعله هذا نسبة وجوديّة ووجود رابط قائم بالطرفين اعتبارا.

ثمّ للنفس أن تتصوّر الحكم الّذي هو فعلها ، وتنظر إليه نظرا استقلاليّا مضافا إلى موصوفه بعد ما كان رابطا ، فتتصوّر وجود المفهوم ، ثمّ تجرّده فتتصوّر الوجود مفردا من غير إضافة. فبهذا يتحصّل انتزاع مفهوم الوجود (٤) من الحكم ويقع على مصداقه الخارجيّ ، وإن كانت حيثيّته حيثيّة أنّه في الخارج ، فهي مصاديق له ، وليست بأفراد مأخوذ فيها مفهومه أخذ الماهيّة في أفرادها ، ثمّ تنتزع من مصاديقه صفاته الخاصّة به ، كالوجوب والوحدة والكثرة والقوّة والفعل وغيرها.

ثمّ (٥) إذا نالت النفس شيئا من الماهيّات المحسوسة فاختزنته ثمّ نالت ماهيّة اخرى مباينة لها لم تجد الثانية عين الاولى منطبقة عليها (٦) ، كما كانت تجد ذلك

__________________

(١) وحاصل بيانه : أمّا في القضايا الموجبة فإنّ النفس تنشئ وجودا رابطا بين الموضوع والمحمول ، ثمّ تنتزع عنه مفهوم وجود المحمول ، ثمّ تجرّده عن الإضافة ، فيحصل مفهوم الوجود. فالنفس تنشئ وجودا رابطا بين «زيد» و «قائم» مثلا ، ثمّ تنتزع عنه مفهوم الوجود المضاف إلى القيام ، لكنّه معنى حرفيّ ولا يمكن أن يحكي عن الوجودات المستقلّة ، فتنظر إليه نظرا استقلاليّا وتجرّده عن الإضافة ، فتتصوّر مفهوم الوجود المستقلّ من دون الإضافة إلى المحمول.

وأمّا في القضايا السالبة فتنشئ النفس عدما رابطا بين الموضوع والمحمول ، ثمّ تنتزع عنه مفهوم عدم المضاف إلى المحمول ، ثمّ تجرّده عن الإضافة فتنال مفهوم العدم مفردا من غير إضافة.

(٢) أي الحمل الشائع.

(٣) وفي النسخ : «ثمّ جعلتها واحدا» والصحيح ما أثبتناه.

(٤) أي : الوجود على نعت الإطلاق.

(٥) شروع في بيان كيفيّة انتزاع المفاهيم الاعتباريّة من عدم الحكم في القضايا السالبة.

(٦) أي : ولم تجد الثانية منطبقة على الاولى.

١٨٨

في الصورة السابقة ، فإذا أحضرتهما بعد الاختزان لم تفعل فيهما ما كانت تفعله في الصورة السابقة في الماهيّة المكرّرة من الحكم ، لكنّها اعتبرت ذلك (١) فعلا لها ، وهو سلب الحمل المقابل للحمل ، ثمّ نظرت إليه (٢) مستقلّا (٣) مضافا (٤) فتصوّرته سلب المحمول عن الموضوع ، ثمّ مطلقا (٥) فتصوّرته سلبا وعدما ، ثمّ اعتبرت له خواصّ اضطرارا ، كعدم الميز بين الأعدام وتميّزها بالإضافة إلى الموجودات.

وقد تبيّن ممّا تقدّم :

أوّلا : أنّ ما كان من المفاهيم محمولا على الواجب والممكن معا ـ كالعلم والحياة ـ فهو اعتباريّ ، وإلّا كان الواجب ذا ماهيّة ، تعالى عن ذلك.

وثانيا : أنّ ما كان منها محمولا على أزيد من مقولة واحدة ـ كالحركة ـ فهو اعتباريّ ، وإلّا كان مجنّسا بأزيد من جنس واحد ، وهو محال.

وثالثا : أنّ المفاهيم الاعتباريّة لا حدّ لها ، ولا تؤخذ في حدّ ماهيّة جنسا لها ، وكذلك سائر الصفات الخاصّة بالماهيّات كالكلّيّة ، إلّا بنوع من التوسّع.

تنبيه

وللاعتباريّ فيما اصطلحوا عليه معان اخر غير ما تقدّم خارجة من بحثنا :

أحدها : ما يقابل الأصالة ـ بمعنى منشئيّة الآثار بالذات ـ المبحوث عنه في مبحث أصالة الوجود واعتباريّة الماهيّة (٦).

الثاني : الاعتباريّ ـ بمعنى ما ليس له وجود منحاز عن غيره ـ قبال الحقيقيّ الّذي له وجود منحاز ، كاعتباريّة مقولة الإضافة الموجودة بوجود طرفيها ، على

__________________

(١) أي : عدم الحكم وعدم الانطباق.

(٢) أي : إلى سلب الحمل.

(٣) أي : نظرا استقلاليّا.

(٤) أي : المضاف إلى المحمول. فتنظر إلى سلب الحمل مضافا إلى المحمول ، بمعنى أنّها تنتزع مفهوم سلب حمل المحمول على الموضوع.

(٥) أي : ثمّ تنظر إلى سلب الحمل من غير إضافة إلى المحمول ، فتتصوّر السلب ـ وهو العدم ـ على نعت الإطلاق.

(٦) وفي النسخ : «أصالة الوجود والماهيّة» والصحيح ما أثبتناه.

١٨٩

خلاف الجوهر الموجود في نفسه.

الثالث : المعنى التصوّريّ أو التصديقيّ الّذي لا تحقّق له فيما وراء ظرف العمل. ومآل الاعتبار بهذا المعنى إلى استعارة المفاهيم النفس الأمريّة الحقيقيّة بحدودها لأنواع الأعمال ـ الّتي هي حركات مختلفة ـ ومتعلّقاتها للحصول على غايات حيويّة مطلوبة ، كاعتبار الرئاسة لرئيس القوم ليكون من الجماعة بمنزلة الرأس من البدن في تدبير اموره وهداية أعضائه إلى واجب العمل ؛ واعتبار المالكيّة لزيد ـ مثلا ـ بالنسبة الى ما حازه من المال ليكون له الاختصاص بالتصرّف فيه كيف شاء ، كما هو شأن المالك الحقيقيّ في ملكه ، كالنفس الإنسانيّة المالكة لقواها ؛ واعتبار الزوجيّة بين الرجل والمرأة ليشترك الزوجان فيما يترتّب على المجموع ، كما هو الشأن في الزوج العدديّ ، وعلى هذا القياس.

ومن هنا يظهر أنّ هذه المعاني الاعتباريّة لا حدّ لها ولا برهان عليها.

أمّا أنّها لا حدّ لها فلأنّها لا ماهيّة لها داخلة في شيء من المقولات ، فلا جنس لها ، فلا فصل لها ، فلا حدّ لها. نعم ، لها حدود مستعارة من الحقائق الّتي يستعار لها مفاهيمها (١).

وأمّا أنّها لا برهان عليها فلأنّ من الواجب في البرهان أن تكون مقدّماته (٢) ضروريّة دائمة كلّيّة. وهذه المعاني لا تتحقّق إلّا في قضايا حقّة تطابق نفس الأمر ، وأنّى للمقدّمات الاعتباريّة ذلك وهي لا تتعدّى حدّ الدعوى؟!

ويظهر أيضا أنّ القياس الجاري فيها جدل مؤلّف من المشهورات والمسلّمات ، والمقبول منها ما له أثر صالح بحسب الغايات ، والمردود منها اللغو الّذي لا أثر له.

__________________

(١) كما أنّ الوجوب المستعمل في هذا الباب مستعار من الوجوب بالغير الّذي هو من المعقولات الفلسفيّة. كذا قال المصنّف رحمه‌الله في مبحث الاعتباريّات من كتابه الموسوم ب :

«اصول فلسفه وروش رئاليسم» ٢ : ٣١٥ ـ ٣١٦ و ٣٦١.

(٢) وفي النسخ : «مقدّماتها» والصحيح ما أثبتناه.

١٩٠

الفصل الحادي عشر

في العلم الحضوريّ

وأنّه لا يختصّ بعلم الشيء بنفسه

قد تقدّم (١) أنّ كلّ جوهر مجرّد فهو لتمام ذاته حاضر لنفسه بنفسه وهويّته الخارجيّة ، فهو عالم بنفسه علما حضوريّا.

وهل يختصّ العلم الحضوريّ بعلم الشيء بنفسه أو يعمّه وعلم العلّة بمعلولها وعلم المعلول بعلّته؟ ذهب المشّاؤون (٢) إلى الأوّل (٣) ، والإشراقيّون إلى

__________________

(١) لا يخفى أنّه لم يقدّم في هذا الكتاب ، بل إنّما أشار إليه في الفصل الخامس عشر من المرحلة السادسة.

(٢) ومنهم الشيخان الفارابي وابن سينا ، وبهمنيار ، وأبو العباس اللوكريّ ، كما في الأسفار ٦ : ١٨٠.

(٣) راجع التحصيل : ٥٧٤ ـ ٥٧٥ ، وشرح الإشارات ٣ : ٣٠٤. ونسبه إليهم صدر المتألّهين في الأسفار ٦ : ١٨٠ ، والشواهد الربوبيّة : ٣٩.

وأمّا انتساب هذا القول إلى أفلاطون أمر خلاف الواقع ، كما في الشواهد الربوبيّة : ٥٥ ـ ٥٦. والحكيم السبزواريّ ـ بعد نسبته إيّاه إليهم في تعليقاته على الأسفار ٦ : ١٦٤ ـ ذهب في موضعين من تعليقاته على الأسفار ٦ : ١٦٠ و ٢٣٠ إلى أنّ العلم الحضوريّ منحصر في موردين : علم الشيء بنفسه وعلم الشيء بمعلوله. وذهب في موضع آخر من تعليقاته على الأسفار ٣ : ٣٨٨ إلى أنّ للعلم الحضوري ثلاثة موارد : علم الشيء بنفسه ، علمه بمعلوله ، وعلمه بما هو فان فيه.

١٩١

الثاني (١) وهو الحقّ ، وذلك لأنّ وجود المعلول وجود رابط بالنسبة إلى وجود علّته قائم به غير مستقلّ عنه (٢) بوجه. فهو ـ أعني المعلول ـ حاضر بتمام وجوده لعلّته غير محجوب عنها ، فهو بنفس وجوده معلوم لها علما حضوريّا إن كانا مجرّدين. وكذلك العلّة حاضرة بوجودها لمعلولها الرابط لها القائم بها المستقلّ باستقلالها ، فهي معلومة لمعلولها علما حضوريّا إذا كانا مجرّدين ، وهو المطلوب.

وقد تقدّم (٣) أنّ كلّ علم حصوليّ ينتهي إلى علم حضوريّ. ومن العلم الحصوليّ ما ليس بين العالم والمعلوم علّيّة ولا معلوليّة ، بل هما معلولا علّة ثالثة (٤).

__________________

(١) راجع المطارحات : ٤٨٨ ، والتلويحات : ٧٠ ـ ٧٤ ، وشرح حكمة الإشراق : ٣٥٨ ـ ٣٦٦.

(٢) أي : عن وجود علّته.

(٣) راجع الفصل الأوّل من هذه المرحلة.

(٤) فالعلم الحضوريّ عند المصنّف رحمه‌الله يعمّ علم الشيء بنفسه وعلم العلّة بمعلولها وعلم المعلول بعلّته وعلم المعلول بمعلول آخر اذا كانا معلولي علّة ثالثة.

١٩٢

الفصل الثاني عشر

كلّ مجرّد فإنّه عقل وعاقل ومعقول

أمّا أنّه عقل فلأنّه ـ لتمام ذاته وكونه فعليّة محضة لا قوّة معها ـ يمكن أن يوجد ويحضر لشيء بالإمكان ، وكلّ ما كان للمجرّد بالإمكان فهو له بالفعل ، فهو معقول بالفعل. وإذ كان العقل متّحدا مع المعقول فهو عقل (١). وإذ كانت ذاته موجودة لذاته فهو عاقل لذاته. فكلّ مجرّد عقل وعاقل ومعقول. وإن شئت فقل : إنّ العقل والعاقل والمعقول مفاهيم ثلاثة منتزعة من وجود واحد.

والبرهان المذكور آنفا كما يجري في كون كلّ مجرّد عقلا وعاقلا ومعقولا لنفسه يجري في كونه عقلا ومعقولا لغيره.

__________________

(١) هذا البرهان مركّب من قياسات أربعة مترتّبة :

ألف) هذا مجرّد ، وكلّ مجرّد بما هو مجرّد يكون أمرا بالفعل ، فهذا المجرّد يكون أمرا بالفعل.

ب) ثمّ نجعل النتيجة صغرى قياس آخر ، فيقال : هذا المجرّد يكون أمرا بالفعل ، وكلّ ما يكون بالفعل يمكن أن يكون معلوما ، فهذا المجرّد يمكن أن يكون معلوما.

ج) ثمّ نجعل النتيجة صغرى قياس آخر ، فيقال : هذا المجرّد يمكن أن يكون معلوما ، وكلّ ما كان للمجرّد بالإمكان فهو له بالفعل ، فهذا المجرّد معلوم بالفعل.

د) ثمّ نجعل النتيجة صغرى قياس آخر ، فيقال : هذا المجرّد معلوم بالفعل ، وكلّ علم متّحد مع معلومه ، فهذا المجرّد المعلوم متّحد مع العلم.

١٩٣

فإن قيل (١) : لازم ذلك أن تكون النفس الإنسانيّة لتجرّدها عاقلة لنفسها ولكلّ مجرّد مفروض (٢) وهو خلاف الضرورة.

قلنا (٣) : هو كذلك لو كانت النفس المجرّدة مجرّدة تجرّدا تامّا ذاتا وفعلا ، لكنّها مجرّدة ذاتا ومادّية فعلا ، فهي لتجرّدها ذاتا تعقل ذاتها بالفعل ، وأمّا تعقّلها لغيرها فيتوقّف على خروجها من القوّة إلى الفعل تدريجا بحسب الاستعدادات المختلفة الّتي تكتسبها. فلو تجرّدت تجرّدا تامّا ولم يشغلها تدبير البدن حصل لها (٤) جميع التعقّلات حصولا بالفعل بالعقل الإجماليّ وصارت عقلا مستفادا (٥).

__________________

(١) هذا الإشكال أورده بعض من عاصر الشيخ الرئيس عليه ، كما نقل في المباحث المشرقيّة ١ : ٣٧٣ والأسفار ٣ : ٤٥٨.

(٢) فكانت عالمة بجميع المعلومات ، وهو خلاف الوجدان.

(٣) كما أجاب عنه الشيخ الرئيس على ما في المباحث المشرقيّة ١ : ٣٧٣ ، والأسفار ٣ : ٤٥٨ ـ ٤٥٩.

(٤) وفي النسخ : «حصلت له» والصحيح ما أثبتناه.

(٥) وناقش فيه صدر المتألّهين ثمّ أجاب عن الاشكال بوجه آخر :

أمّا المناقشة فحاصلها : أنّ كلام الشيخ غير واف بالمقصود ، إذ يمكن أن يقال : إنّ النفس الناطقة عند الشيخ جوهر مجرّد موجود بالفعل بحسب ذاته الجوهريّة ولا يكتنفه شيء من العوارض المادّيّة. والبرهان المذكور ـ إن تمّ ـ جار في كلّ ذات مجرّدة ، فيجب أن تكون كلّ نفس ـ لو فرض زوال المادّة عنها ورفع شواغلها بالكلّيّة ـ عاقلة بجميع المعقولات دفعة واحدة بلا اكتساب ، لكن التالي باطل ، فإنّ من المعلوم أنّ نفوس الصبيان ـ لو فرض زوال المادّة عنها ورفع شواغلها بالكلّيّة عن ذواتهم ـ لا تكون عالمة بجميع المعقولات دفعة واحدة ، وإذا بطل التالي بطل المقدّم.

وأمّا الجواب عن الإشكال فقال : «إنّ النفس الإنسانيّة في أوائل نشأتها ليست عقلا بالفعل ، لأنّها وإن تجرّدت عن المادّة الطبيعيّة وصورها الطبيعيّة لكنّها غير مجرّدة عن الصورة الخياليّة. ودلائل اثبات تجرّدها إنّما يدلّ على تجرّدها عن العالم الطبيعيّ. فللنفوس غير النشأة الحسّيّة نشأتان اخريان : نشأة الخيال ونشأة العقل. فكلّ نفس إنسانيّة إذا استحكم فيه إدراك الصور الخياليّة حتّى يصير خيالا بالفعل ومتخيّلا. فحينئذ يتحقّق فيه أنّ ذاته مجرّدة عن هذا العالم الحسّيّ الوضعيّ. وجميع ما فيه من ذوات الجهات والأوضاع ـ

١٩٤

وليتنبّه أنّ هذا البيان إنّما يجري في الذوات المجرّدة الّتي وجودها في نفسها لنفسها (١). وأمّا الأعراض الّتي وجودها في نفسها لغيرها فالعاقل لها ـ الّذي يحصل له المعقول ـ موضوعها لا أنفسها. وكذلك الحكم في النسب والروابط الّتي وجوداتها في غيرها.

__________________

ـ لصيرورتها عين الصور الخياليّة الّتي وجودها ليس في هذا العالم ، لعدم كونها من ذوات الأوضاع القابلة للإشارة الوضعيّة. وإذا استحكم فيه إدراك الصورة العقليّة فعند ذلك يصير عقلا ومعقولا بالفعل ، فيتحقّق تجرّده عن الكونين ، فله أن يعقل كلّ حقيقة وماهيّة متى شاء وأراد لصيرورتها عين الصور العقليّة بالفعل بعد ما كان كذلك بالقوّة عند كونه صورة خياليّة». انتهى كلامه ملخّصا ، فراجع الأسفار ٣ : ٤٥٩ ـ ٤٦١.

(١) وهي الذوات المجرّدة الجوهريّة.

١٩٥

الفصل الثالث عشر

في أنّ العلم بذي السبب لا يحصل

إلّا من طريق العلم بسببه وما يتّصل بذلك السبب (١)

ونعني به العلّة الموجبة للمعلول بخصوصيّة علّيّته ، سواء كانت علّة بماهيّتها كالأربعة الّتي هي علّة للزوجيّة (٢) أو كانت علّة بوجودها الخارجيّ ، وهي الأمر

__________________

(١) الغرض من عقد هذه المسألة بيان البرهان المفيد لليقين. قال المصنّف رحمه‌الله ـ تعليقا على الأسفار ٣ : ٣٩٦ ـ : «هذه المسألة أوردوها في كتاب البرهان من المنطق (راجع الفصلين الثامن والتاسع من المقالة الأولى من كتاب البرهان من منطق الشفاء) وهي : أنّ اليقين بما له سبب لا يحصل إلّا من جهة اليقين بسببه. وبيّنوه بأنّه لو تحقّق العلم بوجود ذي سبب وجب تحقّق العلم بوجود سببه قبله ، وإلّا جاز عدمه ، وهو مساوق لجواز عدم السبب ، وقد فرض العلم بأنّه موجود بالضرورة ، هذا خلف. وفرّعوا على ذلك عدم إفادة أحد قسمي البرهان الإنّيّ للعلم ، وهو القياس الّذي أوسطه علّة لوجود الأصغر ، وذلك أنّ العلم بالمعلول لا يتمّ إلّا مع العلم بوجود علّته قبله ، فيكون إثبات وجود العلّة به ثانيا لغوا لا أثر له ، فينحصر البرهان ـ وهو القياس المفيد لليقين ـ في قسمين : (أحدهما) البرهان اللمّيّ الّذي يسلك فيه من إثبات العلّة إلى إثبات المعلول. و (ثانيهما) البرهان الإنّيّ الّذي يسلك فيه من بعض اللوازم العامّة إلى بعضها ، كالبراهين الإنّية المستعملة في الفلسفة الاولى» انتهى كلامه ملخّصا.

(٢) ولا يخفى أنّ الماهيّة من أسباب القوام ، لا أسباب الوجود. ومن هنا يظهر أنّ المراد من السبب الّذي لا يحصل العلم بذي السبب إلّا من طريق العلم به هو ما يعمّ سبب القوام وسبب الوجود.

١٩٦

الّذي يستند إليه وجود المعلول ، ممتنعا استناده إلى غيره ، وإلّا لكان لمعلول واحد علّتان مستقلّتان (١). ولمّا كان العلم مطابقا للمعلوم بعينه (٢) كانت النسبة بين العلم بالمعلول والعلم بالعلّة هي النسبة بين نفس المعلول ونفس العلّة. ولازم ذلك توقّف العلم بالمعلول وترتّبه على العلم بعلّته. ولو ترتّب على شيء آخر غير العلم بعلّته (٣) كان لشيء واحد أكثر من علّة واحدة (٤) وهو محال (٥).

وظاهر من هذا البيان أنّ هذا حكم العلم بذات المسبّب مع العلم بذات السبب (٦)

__________________

(١) وصدور الواحد عن الكثير ممتنع لقاعدة الواحد لا يصدر إلّا من الواحد ، أو امتناع توارد علّتين على معلول واحد.

(٢) بل كان متّحدا به.

(٣) وفي النسخ : «غير علّته» والصحيح ما أثبتناه.

(٤) أي : لو ترتّب العلم بالمعلول على شيء آخر غير العلم بعلّته كان للمعلوم الواحد من جهة واحدة علّتان مستقلّتان إحداهما علّة يحصل بها وجوده وثانيتهما علّة يحصل بها العلم بوجوده.

(٥) لأنّ المفروض أنّ العلم بالمعلوم مطابق للمعلوم بعينه بل متّحد به.

ولكن يرد عليه : أنّ العلم بالعلّة الموجبة للمعلول إمّا يكون من حيث إنّها علّة لذلك المعلول أولا. فإن كان العلم بها من حيث إنّها نفسها ـ من دون لحاظ أنّها علّة المعلول ـ فلا يكون العلم بها مستلزما للعلم بالمعلول ، كما أنّ العلم بالمعلول من حيث إنّه شيء لا من حيث إنّه معلول للعلّة لا يستلزم العلم بالعلّة. وإن كان من حيث إنّها علّة لذلك المعلول فالعلم بالعلّة ـ من هذه الحيثيّة ـ وإن كان مستلزما للعلم بالمعلول إلّا أنّه لا وجه لاختصاص هذا الحكم بالعلم بالعلّة ، بل العلم بالمعلوم أيضا من حيث إنّه معلول لتلك العلّة مستلزم للعلم بالعلّة ، فإنّ المعلول أثر من آثار العلّة ، ولمّا كان بين الأثر والمؤثّر سنخيّة فالعلم بالأثر يستلزم العلم بمؤثّره.

نعم ، يمكن أن يقال : العلم بالعلّة من حيث إنّها علّة يستلزم العلم بالمعلول علما تفصيليّا ، وأمّا العلم بالمعلول من حيث إنّه معلول يستلزم العلم بالعلّة علما إجماليّا ، وذلك لأنّ العلّة تعطي المعلول وتوجده بتمام حقيقته ومحيطة عليه ، والعلم بالمعطي والمحيط يستلزم العلم بالعطاء والمحاط. وأمّا المعلول فهو أثر من آثار العلّة ومظهر من مظاهرها وجهة من جهاتها ، فالعلم به لا يوجب إلّا العلم بالعلّة بوجه مّا.

(٦) وفيه : أنّه إن كان المراد من ذاتي السبب والمسبّب هو ذاتهما من جهة أنّ المسبّب شيء والسبب شيء آخر فلا نسلّم أنّ العلم بالسبب يستلزم العلم بالمسبّب ، وإن كان المراد منهما ـ

١٩٧

دون العلم بوصفي العلّيّة والمعلوليّة المتضائفتين (١) ، فإنّ ذلك ـ مضافا إلى أنّه لا جدوى فيه ، لجريانه في كلّ متضائفين مفروضين من غير اختصاص بالعلم بالسبب (٢) ـ إنّما يفيد المعيّة دون توقّف العلم بالمعلول على العلم بالعلّة ، لأنّ المتضائفين معان قوّة وفعلا وذهنا وخارجا.

فإن قلت : نحن كثيرا مّا ندرك امورا من طريق الحسّ ، نقضي بتحقّقها الخارجيّ ونصدّق بوجودها ، مع الجهل بعلّتها ، فهناك علم حاصل بالمعلول مع الجهل بالعلّة. نعم ، يكشف ذلك إجمالا أنّ علّتها موجودة.

قلنا : الّذي يناله الحسّ هو صور الأعراض الخارجيّة من غير تصديق بثبوتها أو ثبوت آثارها ، وإنّما التصديق للعقل. فالعقل يرى أنّ الّذي يناله الإنسان بالحسّ وله آثار خارجة منه لا صنع له فيه ، وكلّ ما كان كذلك كان موجودا في خارج النفس الإنسانيّة. وهذا سلوك علميّ من أحد المتلازمين إلى الآخر.

والّذي تقدّم هو توقّف العلم بذي السبب على سببه ، وأمّا ما لا سبب له فإنّما يعلم ثبوته من طريق الملازمات العامّة (٣) كما حقّق في صناعة البرهان (٤).

فكون الشيء مستقلّا عن شيء آخر ولا صنع له فيه وكونه مغايرا لذلك وخارجا عنه صفتان عامّتان متلازمتان لا سبب لهما ، بل الملازمة ذاتيّة كسائر

__________________

ـ هو ذاتهما من جهة أنّ أحدهما سبب والآخر مسبّب منه وكان العلم بهما بوصفي السببيّة والمسبّبيّة والعلّيّة والمعلوليّة فحينئذ وإن كان العلم بالسبب يستلزم العلم بالمسبّب إلّا أنّه لا وجه لاختصاص هذا الحكم بالعلم بالسبب ، بل العلم بالمسبّب أيضا يستلزم العلم بالسبب.

ومن هنا يظهر أنّه لا معنى لقوله الآتي : «دون العلم بوصفي العلّيّة والمعلوليّة المتضائفين».

(١) وفي النسخ : «المتضائفين» والصحيح ما أثبتناه.

(٢) وفي النسخ : «من غير اختصاص بالعلم» والصحيح ما أثبتناه.

(٣) فيستدلّ بما هو بيّن منها على ما ليس ببيّن. ويسمّى بالبرهان الإنّيّ المطلق.

(٤) راجع الفصل الثامن من المقالة الاولى من الفن الخامس من منطق الشفاء.

١٩٨

موضوعات الحكمة الإلهيّة. ووجود المحسوس في الخارج من النفس من مصاديق هاتين المتلازمتين ، ينتقل العقل من أحدهما إلى الآخر. وهذا كما أنّ الملازمة بين الشيء وبين ثبوته لنفسه ذاتيّة ، وثبوت هذا الشيء لنفسه من مصاديقه ، والعلم به لا يتوقّف على سبب.

فقد ظهر ممّا تقدّم أنّ البحث عن المطلوب إنّما يفيد العلم به بالسلوك إليه عن طريق سببه إن كان ذا سبب (١) ، أو من طريق الملازمات العامّة (٢) إن كان ممّا لا سبب له. وأمّا السلوك إلى العلّة من طريق المعلول (٣) فلا يفيد علما البتّة (٤).

__________________

(١) وهذا يسمّى : «البرهان اللمّيّ».

(٢) وهذا يسمّى : «البرهان الإنّيّ المطلق».

(٣) وهذا يسمّى : «البرهان الإنّيّ» أو «الدليل».

(٤) مرّ ما فيه.

١٩٩

الفصل الرابع عشر

في أنّ العلوم ليست بذاتيّة للنفس

قيل (١) : «إنّ ما تناله النفس من العلوم ذاتيّة لها ، موجودة فيها بالفعل في بدء كينونتها».

ولمّا اورد عليهم أنّ ذلك ينافي الجهل المشهود من الإنسان ببعض العلوم والحاجة في فعليّتها إلى الاكتساب ؛ أجابوا (٢) بأنّها ذاتيّة فطريّة لها ، لكنّ اشتغال النفس بتدبير البدن أغفلها عن علومها (٣) وشغلها عن التوجّه إليها.

وفيه : أنّ نحو وجود النفس ـ بما أنّها نفس ـ أنّها صورة مدبّرة للبدن ، فتدبير البدن ذاتيّ لها حيثما فرضت نفسا (٤). فلا يؤول الجمع بين ذاتيّة العلوم لها وبين شاغليّة تدبير البدن لها عن علومها إلّا إلى المناقضة (٥).

__________________

(١) والقائل بعض القائلين بقدم النفوس البشريّة على ما نقل في المباحث المشرقيّة ١ : ٣٥٧ ، والأسفار ٣ : ٤٨٧.

(٢) وتعرّض له الفخر الرازيّ ونقده في المباحث المشرقيّة ١ : ٣٧٥. وتبعه على ذلك صدر المتألّهين في الأسفار ٣ : ٤٨٩ ـ ٤٩٠.

(٣) وفي النسخ : «أغفلها علومها» والصحيح ما أثبتناه.

(٤) لا يخفى عليك أنّه ينافي القول ببقاء النفس بعد مفارقة البدن.

(٥) وأورد عليهم صدر المتألّهين في الأسفار ٣ : ٤٩٠ بما حاصله : أنّ الصور العقليّة إمّا أن ـ

٢٠٠