نهاية الحكمة - ج ٢

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

نهاية الحكمة - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-470-624-0
الصفحات: ٣٣٦

وترتّب الآثار الّتي منها كون الوجود لنفسه أو لغيره ـ فلا الجوهر الذهنيّ من حيث هو ذهنيّ جوهر بالحمل الشائع موجود لنفسه ، ولا العرض الذهنيّ من حيث هو ذهنيّ عرض بالحمل الشائع موجود لغيره. وبالجملة : لا معنى لاتحاد العاقل وهو موجود خارجيّ مترتّب عليه الآثار بالمعقول الذهنيّ الّذي هو مفهوم ذهنيّ لا تترتّب عليه الآثار (١).

وأمّا العلم الحضوريّ فلا يخلو إمّا أن يكون المعلوم فيه نفس العالم كعلمنا بنفسنا أم لا. وعلى الثاني إمّا أن يكون المعلوم علّة للعالم أو معلولا للعالم أو هما معلولان لأمر ثالث. أمّا علم الشيء بنفسه فالمعلوم فيه عين العالم ولا كثرة هناك حتّى يصدق الاتّحاد ، وهو ظاهر. وأمّا علم العلّة بمعلولها أو علم المعلول بعلّته فلا ريب في وجوب المغايرة بين العلّة والمعلول ، وإلّا لزم تقدّم الشيء على نفسه بالوجود وتأخّره عن نفسه بالوجود ، وهو ضروريّ الاستحالة. وأمّا علم أحد معلولي علّة ثالثة بالآخر فوجوب المغايرة بينهما في الشخصيّة يأبى الاتّحاد.

على أنّ لازم الاتّحاد كون جميع المجرّدات ـ وكلّ واحد منها عاقلا للجميع ومعقولا للجميع (٢) ـ شخصا واحدا (٣).

قلنا : أمّا ما استشكل به في العلم الحصوليّ ، فيدفعه ما تقدّم (٤) أنّ كلّ علم حصوليّ ينتهي إلى علم حضوريّ ، إذ المعلوم الّذي يحضر للعالم حينئذ موجود مجرّد بوجوده الخارجيّ الّذي هو لنفسه أو لغيره.

__________________

(١) أي : الآثار الخارجيّة.

وحاصل الإشكال : أنّ البرهان المذكور إنّما يجري على القول بأنّ وجود العلم وجود لغيره ، وهو ممنوع ، لأنّ الوجود لغيره قسم من الوجود الخارجيّ الّذي وجوده في نفسه ، كالأعراض الخارجيّة الّتي يحمل عليها العرض بالحمل الشايع. وأمّا العرض الذهنيّ ـ كالعلم ـ فليس مندرجا تحت مقولة ، فلا يكون موجودا في نفسه حتّى يكون موجودا لنفسه أو لغيره ، فلا معنى لاتّحاد العالم بالمعلوم.

(٢) أي : كون كلّ واحد منها عاقلا للجميع ومعقولا للجميع.

(٣) خبر لقوله : «كون».

(٤) في الفصل السابق.

١٦١

وأمّا ما استشكل به في العلم الحضوريّ فليتذكّر أنّ للموجود المعلول اعتبارين : اعتباره في نفسه ـ أي مع الغضّ عن علّته ـ فيكون ذا ماهيّة ممكنة موجودا في نفسه طاردا للعدم عن ماهيّته يحمل عليه وبه ، واعتباره بقياس وجوده إلى وجود علّته. وقد تقدّم في مباحث العلّة والمعلول (١) أنّ وجود المعلول ـ بما أنّه مفتقر في حدّ ذاته ـ وجود رابط بالنسبة إلى علّته ، لا نفسيّة فيه ، وليس له إلّا التقوّم بوجود علّته من غير أن يحمل عليه بشيء أو يحمل به على شيء.

إذا تمهّد هذا ففيما كان العالم هو العلّة والمعلوم هو المعلول كانت النسبة بينهما نسبة الرابط والمستقلّ النفسيّ ، وظاهر أنّ الموجود الرابط يأبى الموجوديّة لشيء ، لأنّها فرع الوجود في نفسه وهو موجود في غيره ، ومن شرط كون الشيء معلوما أن يكون موجودا للعالم (٢) ، لكنّ المعلول رابط متقوّم بوجود العلّة ـ بمعنى ما ليس بخارج وليس بغائب عنها ـ فكون وجوده للعلّة إنّما يتمّ بمقوّمه الّذي هو وجود العلّة ، فمعلوم العلّة (٣) هو نفسها بما تقوّم وجود المعلول ، فالعلّة تعقل ذاتها والمعلول غير خارج منها ، لا بمعنى الجزئيّة والتركّب (٤). والحمل بينهما (٥) حمل المعلول متقوّما بالعلّة على العلّة ، وهو نوع من حمل الحقيقة والرقيقة. ونظير الكلام يجري في العلم بالرابط ، فكلّ معلوم رابط معلوم بالعلم بالمستقلّ الّذي يتقوّم به ذاك الرابط.

وفيما كان العالم هو المعلول والمعلوم هو العلّة ـ لمّا كان من الواجب وجود المعلوم للعالم ويستحيل في الوجود الرابط أن يوجد له شيء ـ إنّما يتمّ وجود العلّة للمعلول بتقوّمه بالعلّة ، فالعلّة بنفسها موجودة لنفسها ـ والحال أنّ المعلول غير

__________________

(١) راجع الفصل الأوّل من المرحلة الثامنة.

(٢) أي : موجودا لغيره ، وهو فرع كونه موجودا في نفسه.

(٣) أي : معلوم العالم الّذي هو العلّة.

(٤) بل بمعنى أنّ المعلول مرتبة دانية لوجود العلّة ، والعلّة مرتبة عالية لوجود المعلول.

(٥) أي : بين العالم والمعلوم.

١٦٢

خارج منها ـ عالمة بالعلّة نفسها ، وينسب إلى المعلول بما أنّه غير خارج منها ، ولا ينال من العلم بها إلّا ما يسعه من وجودها (١) ، والحمل بينهما حمل العلّة على المعلول متقوّما بالعلّة ، والحمل أيضا نوع من حمل الحقيقة والرقيقة.

فمآل علم المعلول بعلّته إلى علم العلّة ـ وهي مأخوذة مع معلولها ـ بنفسها وهي مأخوذة وحدها. ومآل علم العلّة بمعلولها إلى علم العلّة ـ وهي مأخوذة في نفسها ـ بنفسها وهي مأخوذة مع معلولها.

وفيما كان العالم والمعلوم معلولين لعلّة ثالثة فليس المراد من اتّحاد العالم والمعلوم انقلاب الشخصين شخصا واحدا ، بل انتزاع ماهيّتي العالم والمعلوم من العالم.

وأمّا عدّ علم الشيء بنفسه من اتّحاد العالم والمعلوم فهو باعتبار انتزاع مفهومي العالم والمعلوم منه ، وهما مفهومان متغايران ، فسمّي ذلك : «اتّحادا» ، وإن كان في نفسه واحدا.

وبما تقدّم يظهر فساد الاعتراض بلزوم كون جميع المجرّدات شخصا واحدا لما ظهر أنّ شخصيّة العالم أو المعلوم لا تبطل بسبب الاتّحاد المذكور.

__________________

(١) وفي النسخ : «وجوده» والصحيح ما أثبتناه.

١٦٣

الفصل الثالث

في انقسام العلم الحصوليّ إلى كلّيّ وجزئيّ

وما يتّصل به

ينقسم العلم الحصوليّ (١) إلى كلّيّ وجزئيّ. والكلّيّ ما لا يمتنع العقل من فرض صدقه على كثيرين ، كالإنسان المعقول ، حيث يجوّز العقل صدقه على كثيرين في الخارج. والجزئيّ ما يمتنع العقل من تجويز صدقه على كثيرين ، كالعلم بهذا الإنسان الحاصل بنوع من الاتّصال بمادّته الحاضرة ، ويسمّى : «علما حسّيّا وإحساسيّا» ، وكالعلم بالإنسان المفرد من غير حضور مادّته ويسمّى : «علما خياليّا» (٢).

__________________

(١) والمراد من العلم الحصوليّ هو التصوّر ، فكان الأولى أن يقدّم انقسام العلم الحصوليّ إلى التصوّر والتصديق.

(٢) المشهور أنّ أقسام العلم الحصوليّ أربعة ، فزادوا على الثلاثة التوهّم. وذهب المصنّف فى المقام ـ تبعا لصدر المتألّهين في الأسفار ٣ : ٣٦٢ ـ إلى أنّها ثلاثة : الإحساس والتخيّل والتعقّل. ولكنّه ذهب في تعليقته على الأسفار ٣ : ٣٦٢ إلى أنّ العلم الحصوليّ ينقسم إلى قسمين : العلم الحصوليّ العقليّ ، والعلم الحصوليّ الخياليّ ؛ فقال ـ بعد إسقاط الوهم بأنّ الوهم إنّما ينال امورا جزئيّة موجودة في باطن الإنسان ، كالمحبّة والعداوة ، ولا مانع من نسبة ـ

١٦٤

وعدّ هذين القسمين من العلم جزئيّا ممتنع الصدق على كثيرين إنّما هو من جهة اتّصال أدوات الحسّ بمادّة المعلوم الخارجيّ في العلم الحسّيّ وتوقّف العلم الخياليّ على سبق العلم الحسّيّ [في العلم الخياليّ] (١) وإلّا فالصورة العلميّة ـ سواء كانت حسّيّة أو خياليّة أو غيرهما (٢) ـ لا تأبى بالنظر إلى نفسها أن تصدق على كثيرين.

فروع :

الأوّل : ظهر ممّا تقدم أنّ اتّصال أدوات الحسّ بالمادّة الخارجيّة وما في ذلك ـ من الفعل والانفعال المادّيّين ـ لحصول الاستعداد للنفس لإدراك صورة المعلوم جزئيّة أو كلّيّة.

ويظهر منه أنّ قولهم : «إنّ التعقّل إنّما هو بتقشير المعلوم (٣) عن المادّة وسائر الأعراض المشخّصة المكتنفة بالمعلوم حتّى لا يبقى إلّا الماهيّة المعرّاة من القشور ، بخلاف الإحساس المشروط بحضور المادّة واكتناف الأعراض المشخّصة ، وبخلاف التخيّل المشروط ببقاء الأعراض والهيئات المشخّصة دون حضور المادّة» (٤) قول على سبيل التمثيل للتقريب. وحقيقة الأمر أنّ الصورة المحسوسة بالذات صورة مجرّدة علميّة ، واشتراط حضور المادّة واكتناف

__________________

ـ إدراكها إلى الحسّ المشترك ـ : «والحقّ أنّه نوعان بإسقاط الإحساس كما اسقط الوهم ، فإنّ حضور المادّة المحسوسة وغيبتها لا يوجب مغايرة بين المدرك في حال الحضور وعدمه. نعم ، الغالب هو كون الصورة أقوى جلاءا عند النفس مع حضور المادّة ، وربما كان المتخيّل أقوى وأشدّ ظهورا مع عناية النفس به».

(١) وما بين المعقوفين ليس في النسخ ، والصحيح اثباته.

(٢) من الوهميّة والعقليّة.

(٣) أي : بتعرّي المعلوم.

(٤) راجع الأسفار ٣ : ٣٦٠ ـ ٣٦١ ، والتحصيل : ٧٤٥ ـ ٧٤٦ ، وشرح الإشارات ٢ : ص ٣٢٢ ـ ٣٢٤ ، وشرح المقاصد ١ : ٢٢٩ ، والمبدأ والمعاد للشيخ الرئيس : ١٠٢ ـ ١٠٣. وفي الجميع زادوا نوعا آخر من العلم الحصولي غير الحسّيّ والعقليّ والخياليّ ، وهو الوهميّ.

١٦٥

الأعراض المشخّصة (١) لحصول الاستعداد في النفس للإدراك الحسّيّ ، وكذا اشتراط الاكتناف بالمشخّصات للتخيّل ، وكذا اشتراط التقشير في التعقّل للدلالة على اشتراط إدراك أكثر من فرد واحد لحصول استعداد النفس لتعقّل الماهيّة الكلّيّة المعبّر عنه بانتزاع الكلّيّ من الأفراد.

الثاني : أنّ أخذ المفهوم وانتزاعه من مصداقه يتوقّف على نوع من الاتّصال بالمصداق والارتباط بالخارج (٢) سواء كان بلا واسطة كاتّصال أدوات الحسّ في العلم الحسيّ بالخارج ، أو مع الواسطة كاتّصال الخيال في العلم الخياليّ بواسطة الحسّ بالخارج (٣) وكاتّصال العقل في العلم العقليّ من طريق إدراك الجزئيّات بالحسّ والخيال بالخارج (٤).

فلو لم تستمدّ القوّة المدركة في إدراك مفهوم من المفاهيم من الخارج وكان الإدراك بإنشاء منها من غير ارتباط بالخارج استوت نسبة الصورة المدركة إلى مصداقها وغيره ، فكان من الواجب أن تصدق على كلّ شيء أو لا تصدق على شيء أصلا ، والحال أنّها تصدق على مصداقها دون غيره ، وهذا خلف.

فإن قلت : انتهاء أكثر العلوم الحصوليّة إلى الحسّ لا ريب فيه ، لكن ما كلّ علم حصوليّ حاصلا بواسطة الحسّ الظاهر ، كالحبّ والبغض والإرادة والكراهة وغيرها المدركة بالحواسّ الباطنة ، فصورها الذهنيّة مدركة لا بالاتّصال بالخارج. وأيضا لا تدرك الحواسّ إلّا الماهيّات العرضيّة ، ولا حسّ ينال الجوهر بما هو جوهر ، فصورته الذهنيّة مأخوذة لا من طريق الحسّ واتّصاله بالخارج.

قلت : أمّا الصور الذهنيّة المأخوذة بالإحساسات الباطنة ـ كالحبّ والبغض وغيرهما ـ فالنفس تأخذها ممّا تدركه من الصفات المذكورة بوجودها الخارجيّ

__________________

(١) من الأين والمتى والوضع والكيف وغيرها.

(٢) أي خارج المفاهيم.

(٣) قوله : «بالخارج» متعلّق بقوله : «كاتّصال الخيال».

(٤) أي : كاتّصال العقل بالخارج من طريق إدراك الجزئيّات.

١٦٦

في النفس ، فالاتّصال بالخارج محفوظ فيها.

وأمّا الجوهر ، فما ذكر ـ أن لا حسّ ظاهرا ولا باطنا يعرف الجوهر ويناله ـ حقّ لا ريب فيه ، لكن للنفس في بادئ أمرها علم حضوريّ بنفسها ، تنال به نفس وجودها الخارجيّ وتشاهده ، فتأخذ من معلومها الحضوريّ صورة ذهنيّة ، كما تأخذ سائر الصور الذهنيّة من معلومات حضوريّة على ما تقدّم ، ثمّ تحسّ بالصفات والأعراض القائمة بالنفس وتشاهد حاجتها بالذات إلى النفس الموضوعة لها وقيام النفس بذاتها من غير حاجة إلى شيء تقوم به ، ثمّ تجد صفات عرضيّة تهجم عليها وتطرؤها من خارج فتنفعل عنها ، وهي ترى أنّها أمثال الأعراض المعلولة للنفس القائمة بها ، وحكم الأمثال واحد ، فتحكم بأنّ لها موضوعا هي قائمة به ، كما أنّ النفس موضوعة لصفاتها العرضيّة ، فيتحصّل بذلك مفهوم الجوهر ، وهو أنّه ماهيّة إذا وجدت وجدت لا في موضوع.

الثالث : أنّه تبيّن بما تقدّم أنّ الوجود ينقسم من حيث التجرّد عن المادّة وعدمه إلى ثلاثة عوالم كلّيّة :

أحدها : عالم المادّة والقوّة (١).

وثانيها : عالم التجرّد عن المادّة دون آثارها من الشكل والمقدار والوضع وغيرها ، ففيه الصور الجسمانيّة وأعراضها وهيآتها الكماليّة من غير مادّة تحمل القوّة ، ويسمّى : «عالم المثال» (٢) و «عالم البرزخ» (٣) ، لتوسّطه بين عالمي المادّة

__________________

(١) وهو عالم الأجسام والجسمانيّات الصرفة المختلطة بالمادّة والصورة. ويسمّى أيضا : «عالم الناسوت».

(٢) والوجه في تسميته بعالم المثال أنّه مثال لما فوقه من عالم المجرّدات ، حيث كان مجرّدا عن المادّة ، ومثال لما دونه في كونه صورة لعالم الأجسام.

(٣) أي : البرزخ بين عالم العقل وعالم المادّة ، فإنّه لا يكون في التجرّد بمرتبة عالم العقل ، كما لا يكون في التجسّم بمرتبة عالم المادّة ، بل هو بالنسبة إلى عالم الأجسام مجرّد وبالنسبة إلى عالم العقل غير مجرّد ، فهو برزخ بينهما ، وقد يعبّر عنه ب «عالم الملكوت».

١٦٧

والتجرّد العقليّ.

وقد قسموا عالم المثال إلى المثال الأعظم القائم بنفسه (١) والمثال الأصغر القائم بالنفس (٢) الّذي تتصرّف فيه النفس كيف تشاء بحسب الدواعي المختلفة ، فتنشئ أحيانا صورا حقّة صالحة وأحيانا صورا جزافيّة تعبث بها.

وثالثها : عالم التجرّد عن المادّة وآثارها ، ويسمّى : «عالم العقل» (٣).

والعوالم الثلاثة مترتّبة طولا ، فأعلاها مرتبة وأقواها ظهورا وأقدمها وجودا وأقربها من المبدأ الأوّل تعالى وتقدّس عالم العقول المجرّدة ، لتمام فعليّتها وتنزّه وجودها عن شوب المادّة والقوّة ، ويليه عالم المثال المتنزّه عن المادّة دون آثارها ، ويليه عالم المادّة موطن النقص والشرّ والإمكان ، ولا يتعلّق بما فيه العلم إلّا من جهة ما يحاذيه من المثال والعقل على ما تقدّمت الإشارة إليه (٤)

__________________

(١) وهو الصور الخياليّة للنفوس الفلكيّة. ويسمّى أيضا : «الخيال المنفصل» لانفصاله عن الإنسان والحيوان.

(٢) وهو الصور الخياليّة للحيوان والإنسان. ويسمّى أيضا : «الخيال المتّصل».

(٣) وهو عالم المجرّدات المحضة الّتي مجرّدة عن المادّة ولواحقها والصورة وتوابعها ، وهو عالم العقول الكلّيّة المعبّر عنه ب «عالم الجبروت».

(٤) في السطور السابقة آنفا.

١٦٨

الفصل الرابع

ينقسم العلم الحصوليّ إلى كلّيّ وجزئيّ بمعنى آخر

فالكلّيّ هو العلم الّذي لا يتغيّر بتغيّر المعلوم الخارجيّ ، كصورة البناء الّتي يتصوّرها البنّاء فيبني عليها ، فإنّها على حالها قبل البناء ومع البناء وبعد البناء وإن انعدم ، ويسمّى : «علم ما قبل الكثرة» (١). والعلم من طريق العلل كلّيّ من هذا القبيل ، كعلم المنجّم بأنّ القمر منخسف يوم كذا ساعة كذا إلى ساعة كذا يرجع فيه الوضع السماويّ بحيث يوجب حيلولة الأرض بين القمر والشمس ، فعلمه بذلك على حاله قبل الخسوف ومعه وبعده. والوجه فيه أنّ العلّة التامّة في علّيّتها لا تتغيّر عمّا هي عليه ، ولمّا كان العلم بها مطابقا للمعلوم فصورتها العلميّة غير متغيّرة ، وكذلك العلم بمعلولها لا يتغيّر ، فهو كلّيّ ثابت. ومن هنا يظهر أنّ العلم الحسّيّ لا يكون كلّيّا ، لكون المحسوسات متغيّرة.

والجزئيّ هو العلم الّذي يتغيّر بتغيّر المعلوم الخارجيّ ، كعلمنا من طريق

__________________

(١) والوجه في تسميته بذلك أنّ هذا العلم موجود قبل حدوث المعلوم الخارجيّ ولا يتغيّر بتغيّره.

١٦٩

الرؤية بحركة زيد ما دام يتحرّك ، فإذا وقف عن الحركة تغيّر العلم ، ويسمّى : «علم ما بعد الكثرة».

فإن قيل : تغيّر العلم ـ كما اعترفتم به في القسم الثاني ـ دليل كونه مادّيا ، فإنّ التغيّر ـ وهو الانتقال من حال إلى حال ـ لازمه القوّة ، ولازمها المادّة ، وقد قلتم : «إنّ العلم بجميع أقسامه مجرّد».

قلنا : العلم بالتغيّر غير تغيّر العلم (١) ، والتغيّر ثابت في تغيّره ، لا متغيّر ؛ وتعلّق العلم بالمتغيّر ـ أي حضوره عند العالم ـ إنّما هو من حيث ثباته ، لا تغيّره ، وإلّا لم يكن حاضرا فلم يكن حضور شيء لشيء ، وهذا خلف.

تنبيه :

يمكن أن يعمّم التقسيم بحيث يشمل العلم الحضوريّ. فالعلم الكلّيّ كعلم العلّة بمعلولها من ذاتها الواجدة في ذاتها كمال المعلول بنحو أعلى وأشرف ، فإنّه لا يتغيّر بزوال المعلول لو جاز عليه الزوال. والعلم الجزئيّ كعلم العلّة بمعلولها الداثر الّذي هو عين المعلول ، فإنّه يزول بزوال المعلول.

__________________

(١) قال المصنّف رحمه‌الله في تعليقته على الأسفار ٣ : ٤٠٨ : «التحقيق أنّ الصور العلميّة مجرّدة غير قابلة للتغيير ، سواء كانت كلّيّة أو جزئيّة ، غير أنّ العلوم الانفعاليّة لمّا كانت لا تفارق أعمالا مادّيّة صادرة عن مظاهر القوى النفسانيّة ـ كالعين والاذن وغيرهما ـ كان ظهورها للنفس تابعة للفعل والانفعال المادّيّ الواقع في تلك المظاهر ، وبانقطاع ذلك ينقطع الظهور فالتغيّر انّما يقع في مرحلة المظاهر البدنيّة من حيث إعمالها ، وأمّا الصورة العلميّة وإن كانت جزئيّة حسّيّة فلا تغيّر فيها. والدليل على ذلك أنّا نقدر على إعادة الصور الّتي أحسناها قبل زمان بعينها ، ولو كانت الصورة المحسوسة مادّيّة لزالت بزوال الحركات المادّيّة وامتنع ذكرها بعينها بالضرورة ، هذا. وأمّا العلم الإحساسيّ والخياليّ تعلّق بالتغيّرات والحركات والمقادير الّتي تحتمل القسمة ووجوب مطابقة الصورة العلميّة للمعلوم الخارجيّ. فالعلم بالتغيّر والحركة والانقسام غير تغيّر العلم وحركته وانقسامه».

١٧٠

الفصل الخامس

في أنواع التعقّل

ذكروا (١) أنّ العقل على ثلاثة أنواع :

أحدها : أن يكون عقلا بالقوّة ، أي لا يكون شيئا من المعقولات بالفعل (٢) ولا له شيء من المعقولات بالفعل ، لخلوّه عن عامّة المعقولات.

الثاني : أن يعقل معقولا واحدا أو معقولات كثيرة بالفعل ، مميّزا بعضها من بعض ، مرتّبا لها ، وهو العقل التفصيليّ.

الثالث : أن يعقل معقولات كثيرة عقلا بالفعل من غير أن يتميّز بعضها من بعض ، وإنّما هو عقل بسيط إجماليّ فيه كلّ التفاصيل. ومثّلوا له بما إذا سألك سائل عن عدّة من المسائل الّتي لك بها علم ، فحضرك الجواب في الوقت وأنت في أوّل لحظة تأخذ في الجواب تعلم بها جميعا علما يقينيّا بالفعل ، لكن لا تميّز لبعضها من بعض ولا تفصيل. وإنّما يحصل التميّز والتفصيل بالجواب ، كأنّ ما عندك من بسيط العلم منبع تنبع وتجري منه التفاصيل. ويسمّى : «عقلا إجماليّا».

__________________

(١) راجع الفصل السادس من المقالة الخامسة من الفنّ السادس من طبيعيّات الشفاء ، والتحصيل : ٨١٢ ـ ٨١٤. وتعرّض لها أيضا الفخر الرازيّ ثمّ ناقش في القسم الأخير ، راجع المباحث المشرقيّة ١ : ٣٣٥ ـ ٣٣٧.

(٢) حتّى تعقّله لنفسه ، فإنّه أيضا بالقوّة.

١٧١

والّذي ذكروه من التقسيم إنّما أوردوه تقسيما للعلم الحصوليّ. وإذ قد عرفت فيما تقدّم (١) أنّ كلّ علم حصوليّ ينتهي إلى علم حضوريّ كان من الواجب أن تتلقّى البحث بحيث ينطبق على العلم الحضوريّ ، فلا تغفل (٢). وكذا فيما يتلو هذا البحث من مباحث العلم الحصوليّ.

__________________

(١) في الفصل الأوّل من هذه المرحلة.

(٢) ولذلك ذهب المصنّف رحمه‌الله إلى أنّ علم الواجب تعالى من قبيل القسم الثالث وقال : إنّ علمه إجماليّ في عين الكشف التفصيليّ.

١٧٢

الفصل السادس

في مراتب العقل

ذكروا أنّ مراتب العقل أربع (١) :

إحداها : العقل الهيولانيّ ، وهي مرتبة كون النفس خالية عن جميع المعقولات.

وتسمّى : «العقل الهيولانيّ» لشباهتها الهيولى الأولى في خلوّها عن جميع الفعليّات.

وثانيتها : العقل بالملكة ، وهي مرتبة تعقّلها (٢) للبديهيّات من تصوّر أو تصديق ، فإنّ العلوم البديهيّة أقدم العلوم ، لتوقّف العلوم النظريّة عليها.

وثالثتها : العقل بالفعل ، وهي مرتبة تعقّلها للنظريّات باستنتاجها من البديهيّات.

ورابعتها : تعقّلها لجميع ما حصّلته من المعقولات البديهيّة أو النظريّة المطابقة لحقايق العالم العلويّ والسفليّ ، باستحضارها الجميع وتوجّهها إليها من غير شاغل مادّيّ ، فتكون عالما علميّا مضاهيا (٣) للعالم العينيّ ، وتسمّى : «العقل المستفاد» (٤).

__________________

(١) راجع النجاة : ١٦٥ ـ ١٦٦ ، والأسفار ٣ : ٤٢٨ ـ ٤٢٣ ، والفصل الخامس من المقالة الاولى من إلهيّات الشفاء ، والتحصيل : ٨١٥ ـ ٨١٧ ، وشرح الإشارات ٢ : ٣٥٣ ـ ٣٥٧.

(٢) الضمير يعود إلى النفس.

(٣) أي : شبيها.

(٤) والوجه في تسميته بذلك أنّه مستفاد من العقل الفعّال. قال صدر المتألّهين في الأسفار ٣ : ـ

١٧٣

الفصل السابع

في مفيض هذه الصور العلميّة (١)

مفيض الصور العقليّة الكلّيّة جوهر عقليّ مفارق للمادّة ، عنده جميع الصور

__________________

ـ ٤٦١ : «وهو قريب الشبه بالعقل الفعّال ، والفرق بينه وبين العقل الفعّال أنّ العقل المستفاد صورة مفارقة كانت مقترنة بالمادّة ثمّ تجرّدت عنها بعد تحوّلها في الأطوار ، والعقل الفعّال هو صورة لم تكن في مادّة أصلا ولا يمكن أن تكون إلّا مفارقة».

(١) لا يخفى عليك أنّ ما جاء في هذا الفصل مبتن على ما ذهب إليه المشّاؤون من أنّ الصور العقليّة حالّة في النفس قائمة به قياما حلوليّا ، نظير قيام العرض بمعروضه. فعليه يكون اختراعها من العلّة المفيضة إيّاها على النفس. وهي ما يسمّيه المشّاؤون : «العقل الفعّال».

وأمّا على القول بأنّ الصور العقليّة من فعل النفس في مرتبة العقل ـ كما كانت الصورة الخياليّة فعلها في مرتبة الخيال ـ بحيث يكون قيام الصور العقليّة بالنفس قياما صدوريّا ، نظير قيام المعلول بالعلّة فلا شكّ أنّ مخترعها ومفيضها هو النفس.

وعلى القول بأنّ الصور العقليّة مجرّدات قائمة بنفسها في عالم النفس ـ كما ذهب إليه المصنّف رحمه‌الله في الفصل الأوّل من هذه المرحلة ـ لم تحصل صور عقليّة للنفس لكي نحتاج إلى إثبات مبدأ لإفاضتها عليها عند حصول استعداد خاصّ للنفس بالنسبة إليها ، بل يقال : إنّ منشأ حضور الصور العقليّة القائمة بنفسها في عالم النفس هو الحسّ ، لا بمعنى أنّه المفيض لها ، بل بمعنى أنّ التفات النفس وارتباطها بالخارج المادّيّ ـ بلا واسطة أو بواسطة ـ يوجب حضور الصور العقليّة في عالم النفس من دون قيامها بالنفس قياما صدوريّا أو حلوليّا.

ولذلك من فقد حاسّة من الحواس فقد العلوم المتعلّقة بها.

١٧٤

العقليّة الكلّيّة (١). وذلك لما تقدّم (٢) أنّ هذه الصور العلميّة مجرّدة من المادّة مفاضة للنفس ، فلها مفيض ، ومفيضها إمّا هو النفس تفعلها وتقبلها معا ، وإمّا أمر خارج مادّيّ أو مجرّد. أمّا كون النفس هي المفيضة لها الفاعلة فيها (٣) فمحال ، لاستلزامه كون الشيء الواحد فاعلا وقابلا معا ، وقد تقدّم بطلانه (٤). وأمّا كون المفيض أمرا مادّيا فيبطله أنّ الماديّ أضعف وجودا من المجرّد ، فيمتنع أن يكون فاعلا فيها والفاعل أقوى وجودا من الفعل ؛ على أنّ فعل العلل المادّيّة مشروط بالوضع ، ولا وضع لمجرّد. فتعينّ أنّ المفيض لهذه الصور العقليّة جوهر مجرّد عقليّ هو أقرب العقول المجرّدة من الجوهر المستفيض ، فيه جميع الصور العقليّة المعقولة عقلا إجماليّا ، تتّحد معه النفس المستعدّة للتعقّل على قدر استعدادها ، فتستفيض منه ما تستعدّ له من الصور العقليّة (٥).

فإن قلت : هب (٦) أنّ الصور العلميّة الكلّيّة بإفاضة الجوهر المفارق ـ لما تقدّم من البرهان ـ لكن ما هو السبب لنسبة الجميع إلى عقل واحد شخصيّ (٧)؟ هلّا أسندوها إلى عقول كثيرة مختلفة الماهيّات بنسبة كلّ واحد من الصور إلى جوهر مفارق غير ما ينسب إليه غيره (٨) ، أو بنسبة كلّ فريق من الصور إلى عقل غير ما ينسب إليه فريق آخر؟

__________________

(١) فهذا الجوهر العقليّ المفارق أوّل ما يصدر من الله تعالى ويسمّى : «العقل الفعّال». والمناهج المذكورة لإثباته كثيرة تعرّض لها صدر المتألّهين في الأسفار ٧ : ٢٦٢ ـ ٢٨١.

(٢) في الفصل الأوّل من هذه المرحلة.

(٣) وفي النسخ : «الفاعلة لها» والصحيح ما أثبتناه.

(٤) راجع الفصل العاشر من المرحلة الثامنة.

(٥) أي : فتستفيض النفس من الجوهر المستفيض الصور العقليّة على قدر استعدادها. وعليه فتكون الصور العقليّة قائمة بالنفس قياما حلوليّا وقائمة بالعقل الفعّال قياما صدوريّا.

(٦) أي : لنفرض.

(٧) هو العقل الفعّال.

(٨) وفي النسخ : «غير ما ينسب إليه» والصحيح ما أثبتناه.

١٧٥

قلت : الوجه في ذلك ما تقدّم في الأبحاث السابقة (١) أنّ كلّ نوع مجرّد منحصر في فرد ، ولازم ذلك أنّ سلسلة العقول لّتي يثبتها البرهان ويثبت استناد وجود المادّيّات والآثار المادّيّة إليها ، كلّ واحد من حلقاتها نوع منحصر في فرد ، وأنّ كثرتها كثرة طوليّة مترتّبة منتظمة من علل فاعلة آخذة من أوّل ما صدر منها من المبدأ الأوّل إلى أن ينتهي إلى أقرب العقول من المادّيّات والآثار المادّيّة ، فتعيّن استناد المادّيّات والآثار المادّيّة إلى ما هو أقرب العقول إليها ، وهو الّذي يسمّيه المشّاؤون ب «العقل الفعّال» (٢).

نعم ، الإشراقيّون منهم (٣) أثبتوا وراء العقول الطوليّة ودونها عقولا عرضيّة هي أرباب الأنواع المادّيّة ، لكنّهم يرون وجود كلّ نوع بأفراده المادّيّة وكمالاتها مستندا إلى ربّ ذلك النوع ومثاله (٤).

ونظير البيان السابق الجاري في الصور العلميّة الكلّيّة يجري في الصور العلميّة الجزئيّة ، ويتبيّن به أنّ مفيض الصور العلميّة الجزئيّة جوهر مفارق مثاليّ ، فيه (٥) جميع الصور الجزئيّة على نحو العلم الإجماليّ ، تتّحد به النفس على قدر ما لها من الاستعداد ، فيفيض عليها الصور المناسبة.

__________________

(١) راجع الفصل السابع من المرحلة الخامسة.

(٢) راجع الفصل الخامس من المقالة الخامسة من الفنّ السادس من طبيعيّات الشفاء ، والفصلين الرابع والخامس من المقالة التاسعة من إلهيّات الشفاء ، والمباحث المشرقيّة ٢ : ٥٠١ ـ ٥١٥ ، والتعليقات للشيخ الرئيس : ١٠٠ ـ ١٠١ ، والنجاة : ٢٧٣ ـ ٢٧٨ ، والأسفار ٣ : ٤٦١ ـ ٤٦٥ و ٧ : ٢٥٨ ـ ٢٨١. وقال صدر المتألّهين في الأسفار ٣ : ٤٦٤ : «إنّ فعل هذا العقل المفارق في العقل الهيولانيّ شبيه فعل الشمس في الضوء الحاصل للبصر والمبصرات. فلذلك يسمّى بالعقل الفعّال».

(٣) أي : الإشراقيّون من الفلاسفة.

(٤) راجع المطارحات : ٤٥٥ ـ ٤٥٩ ، وحكمة الإشراق : ١٤٣ ـ ١٤٤ ، وشرح حكمة الإشراق : ٢٥١ ـ ٢٥٤.

(٥) أي : في هذا الجوهر المفارق المثاليّ.

١٧٦

الفصل الثامن

ينقسم العلم الحصوليّ إلى تصوّر وتصديق

فإنّه إمّا صورة ذهنيّة حاصلة من معلوم واحد من غير إيجاب أو سلب ، كالعلم بالإنسان ومقدّم الشرطيّة ، ويسمّى : «تصورّا». وإمّا صورة ذهنيّة من علوم معها إيجاب أو سلب ، كالقضايا الحمليّة والشرطيّة ، ويسمّى : «تصديقا».

ثمّ إنّ القضيّة بما أنّها تشتمل على إيجاب أو سلب مركّبة من أجزاء فوق الواحد (١).

__________________

(١) إعلم أنّهم اختلفوا في أجزاء القضيّة على أقوال :

الأوّل : أنّ جميع القضايا مركّبة من أربعة أجزاء : الموضوع والمحمول والنسبة الحكميّة والحكم.

الثاني : التفصيل بين الموجبة والسالبة بأنّ القضايا الموجبة مركّبة من الأجزاء الأربعة المذكورة ، والقضايا السالبة مركّبة من ثلاثة أجزاء : الموضوع والمحمول والنسبة الحكميّة.

فلا حكم في السوالب ، لأنّ مفادها سلب النسبة الحكميّة الثبوتيّة.

الثالث : أنّ القضايا إمّا موجبة وإمّا سالبة ، وكلتاهما إمّا هليّة بسيطة وإمّا هليّة مركّبة.

أمّا الموجبة من الهليّة المركّبة فهي مركّبة من تلك الأجزاء الأربعة.

وأمّا الموجبة من الهليّة البسيطة فهي مركّبة من ثلاثة أجزاء : الموضوع والمحمول والحكم.

وأمّا السالبة من الهليّة المركّبة فهي مركّبة من ثلاثة أجزاء : الموضوع والمحمول والنسبة الحكميّة.

وأمّا السالبة من الهليّة البسيطة فهي ثنائيّة مركّبة من الموضوع والمحمول. وهذا التفصيل ـ

١٧٧

والمشهور أنّ القضيّة الحمليّة الموجبة مؤلّفة من الموضوع والمحمول والنسبة الحكميّة ـ الّتي هي نسبة المحمول إلى الموضوع ـ والحكم باتّحاد الموضوع مع المحمول. هذا في الهليّات المركّبة الّتي محمولاتها غير وجود الموضوع ، كقولنا : «الإنسان ضاحك». وأمّا الهليّات البسيطة الّتي المحمول فيها هو وجود الموضوع ، كقولنا : «الإنسان موجود» فهي مركّبة من أجزاء ثلاثة : الموضوع والمحمول والحكم ، إذ لا معنى لتخلّل النسبة ـ وهي وجود رابط ـ بين الشيء ووجوده الّذي هو نفسه (١).

وأنّ القضيّة الحمليّة السالبة مؤلّفة من الموضوع والمحمول والنسبة الحكميّة السلبيّة ، ولا حكم فيها (٢) لا أنّ فيها حكما عدميّا ، لأنّ الحكم جعل شيء شيئا وسلب الحكم عدم جعله ، لا جعل عدمه.

والحقّ أنّ الحاجة في القضيّة إلى تصوّر النسبة الحكميّة إنّما هي من جهة الحكم بما هو فعل النفس ، لا بما هو جزء للقضيّة. فالنسبة الحكميّة على تقدير تحقّقها خارجة عن القضيّة. وبتعبير آخر : أنّ القضيّة هي الموضوع والمحمول

__________________

ـ ما يظهر من كلام صدر المتألّهين في الأسفار ١ : ٣٦٥ ـ ٣٧٢.

الرابع : أنّ القضايا الموجبة مركّبة من ثلاثة أجزاء : الموضوع والمحمول والحكم ، سواء كانت هليّات بسيطة أو مركّبة. والقضايا السالبة ـ سواء كانت هليّة بسيطة أو مركّبة ـ مركّبة من جزئين : الموضوع والمحمول. وأمّا النسبة الحكميّة فانّما هي تصاحب القضيّة من جهة كون المحمولات في الهليّات البسيطة موجودة للموضوعات ، فيضطرّ الذهن إلى تصوّر ارتباطها بالموضوعات ، ثمّ يعمّم الذهن ذلك إلى عامّة القضايا غلطا منه. وهذا ما اختاره المصنّف رحمه‌الله في المقام وتعليقته على الأسفار ١ : ٣٦٦.

(١) فإنّ مفاد الهليّات البسيطة هو الحكم بثبوت الموضوع ، لا ثبوت شيء للموضوع حتّى يتخلّل بينهما النسبة.

(٢) وفيه : أنّ القضيّة لا تتحقّق إلّا بالحكم ، والقول بنفي الحكم في القضايا السالبة ، وأنّ النسبة الحكميّة خارجة عن القضيّة ـ كما قلتم به ـ يستلزم أن تكون القضيّة السالبة مركّبة من جزئين : المحمول والموضوع ، ولم يقل به أحد ، بل هذا حكم بنفي كون القضيّة السالبة قضيّة.

١٧٨

والحكم ، لكنّ النفس تتوصّل إلى الحكم ـ الّذي هو جعل الموضوع هو المحمول بتصوّر المحمول منتسبا إلى الموضوع أوّلا (١) ـ ليتأتّى منها الحكم. ويدلّ على ذلك خلوّ الهليّات البسيطة عن النسبة الحكميّة ، وهي قضايا ، كما تقدّم (٢). فالقضيّة بما هي قضيّة لا تحتاج في تحقّقها إلى النسبة الحكميّة ، هذا.

وأمّا كون الحكم فعلا نفسانيّا في ظرف الإدراك الذهنيّ فحقيقته في قولنا : «زيد قائم» ـ مثلا ـ أنّ النفس تنال من طريق الحسّ أمرا واحدا هو زيد القائم ، ثمّ تنال عمرا قائما وتنال زيدا غير قائم ، فتستعدّ بذلك لتجزئة زيد القائم إلى مفهومي : «زيد» و «القائم» ، فتجزّأ وتخزنهما عندها. ثمّ إذا أرادت حكاية ما وجدته في الخارج أخذت زيدا والقائم المخزونين عندها وهما اثنان ، ثمّ جعلتهما واحدا. وهذا هو الحكم الّذي ذكرنا أنّه فعل ـ أي جعل وإيجاد ـ منها ، تحكي به الخارج.

فالحكم فعل من النفس ، وهو مع ذلك من الصور الذهنيّة الحاكية لما وراءها. ولو كان تصوّرا مأخوذا من الخارج لم تكن القضيّة مفيدة لصحّة السكوت ، كما في أحد جزئي الشرطيّة. ولو كان تصوّرا أنشأته النفس من عندها من غير استعانة واستمداد من الخارج لم يحك الخارج. وسيوافيك بعض ما يتعلّق بالمقام (٣).

وقد تبيّن بما مرّ أنّ كلّ تصديق يتوقّف على تصوّرات أكثر من واحد ، فلا تصديق إلّا عن تصوّر.

__________________

(١) وفي النسخ جاء «أوّلا» قبل قوله : «بتصوّر المحمول» والصحيح ما أثبتناه.

(٢) في السطور السابقة.

(٣) في الفصل العاشر من هذه المرحلة.

١٧٩

الفصل التاسع

ينقسم العلم الحصوليّ إلى بديهيّ ونظريّ

البديهيّ ـ ويسمّى ضروريّا أيضا ـ ما لا يحتاج في حصوله إلى اكتساب ونظر ، كتصوّر مفهوم الوجود والشيء والوحدة ، والتصديق بأنّ الكلّ أعظم من جزئه ، وأنّ الأربعة زوج. والنظريّ ما يحتاج في تصوّره ـ إن كان علما تصورّيّا ـ أو في التصديق به ـ إن كان علما تصديقيّا ـ إلى اكتساب ونظر ، كتصوّر ماهيّة الإنسان والفرس ، والتصديق بأنّ الزوايا الثلاث من المثلّث مساوية لقائمتين ، وأنّ الإنسان ذو نفس مجرّدة.

وقد أنهوا البديهيّات إلى ستّة أقسام ، هي : المحسوسات والمتواترات والتجربيّات والفطريّات والوجدانيّات والأوّليّات ، على ما بيّنوه في المنطق (١).

واولى البديهيّات بالقبول الأوّليّات ، وهي القضايا الّتي يكفي في التصديق بها مجرّد تصوّر الموضوع والمحمول ، كقولنا : «الكلّ أعظم من جزئه» و «الشيء ثابت

__________________

(١) راجع شرح المنظومة (قسم المنطق) : ٨٨ ـ ٩١ ، وشرح حكمة الإشراق : ١١٨ ـ ١٢٣ ، وشرح الإشارات ١ : ٢١٣ ـ ٢١٤ ، وشرح المطالع : ٣٣٣ ـ ٣٣٤ ، وأساس الاقتباس : ٣٤٥ ، والتحصيل : ١٩٣ ، والفصل الرابع من المقالة الاولى والفصل الخامس من المقالة الثالثة من الفنّ الخامس من منطق الشفاء.

١٨٠