نهاية الحكمة - ج ٢

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

نهاية الحكمة - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-470-624-0
الصفحات: ٣٣٦

بالحقّ. فأقسام القدم والحدوث أربعة : القدم والحدوث الزمانيّان ، والقدم والحدوث العلّيّان ـ وهو المعروف بالذاتيّين ـ ، والقدم والحدوث بالحقّ (١) والقدم والحدوث الدهريّان (٢). ونبحث عن كلّ منها تفصيلا.

__________________

(١) وهذا ما ذكره صدر المتألّهين في الأسفار ٣ : ٢٥٧.

(٢) وهذا ما ذكره السيّد الداماد في القبسات : ١١٧.

١٤١

الفصل الخامس

في القدم والحدوث الزمانيّين

الحدوث الزمانيّ كون الشيء مسبوق الوجود بعدم زمانيّ. وهو حصول الشيء بعد أن لم يكن ، بعديّة لا تجامع القبليّة (١). ولا يكون العدم زمانيّا إلّا إذا كان ما يقابله من الوجود زمانيّا (٢). وهو (٣) أن يكون وجود الشيء تدريجيّا منطبقا على قطعة من الزمان مسبوقة بقطعة ينطبق عليها عدمه (٤).

__________________

(١) هذا تفسير آخر للحدوث الزمانيّ. ويمكن أن يقال : «الحدوث الزمانيّ هو مسبوقيّة وجود الشيء بالعدم الزمانيّ الّذي لا يجامع وجوده في الزمان».

(٢) العدم بما هو عدم لا شيئيّة له لكي يكون زمانيّا أو غير زمانيّ. نعم ، لو وجد الشيء في زمان ثمّ يعدم فالعدم المضاف إلى الوجود ـ أي عدم وجود الشيء في زمان بعد ـ يكون زمانيّا ، كما أنّه زمانيّ لو كان بحيث لو تحقّق مكانه الوجود لكان زمانيّا.

(٣) وهذا أيضا تفسير آخر للحدوث الزمانيّ. فالضمير يرجع إمّا إلى الحدوث الزمانيّ ، أو إلى كون الشيء مسبوق الوجود بعدم الزمانيّ ، أو إلى حصول الشيء بعد أن لم يكن.

(٤) ولا يخفى ما فيه من أنّ الزمانيّ أعمّ ممّا كان زمانيّا بنفسه أو زمانيّا بأطرافه. والأوّل أعمّ من أن يكون على وجه الانطباق أو يكون لا على وجه الانطباق. فكيف يختصّ الحدوث الزمانيّ بما كان زمانيّا على وجه الانطباق؟

وبتعبير أوضح : إنّ الزمانيّ على قسمين :

الأوّل : ما يكون زمانيّا بنفسه. وهذا على قسمين : (أحدهما) ما يكون زمانيّا بنفسه ـ

١٤٢

ويقابل الحدوث بهذا المعنى القدم الزمانيّ الّذي هو عدم كون الشيء مسبوق الوجود بعدم زمانيّ ، ولازمه أن يكون الشيء موجودا في كلّ قطعة مفروضة قبل قطعة من الزمان منطبقا عليها.

وهذان المعنيان إنّما يصدقان في الامور الزمانيّة الّتي هي مظروفة للزمان منطبقة عليه ، وهي الحركات والمتحرّكات. وأمّا نفس الزمان فلا يتّصف بالحدوث والقدم الزمانيّين ، إذ ليس للزمان زمان آخر حتّى ينطبق وجوده عليه فيكون مسبوقا بعدم فيه أو غير مسبوق (١).

نعم ، لمّا كان الزمان متّصفا بالذات بالقبليّة والبعديّة (٢) غير المجامعتين كان كلّ جزء منه مسبوق الوجود بعدمه الّذي مصداقه كلّ جزء سابق عليه ، فكلّ جزء

__________________

ـ على وجه الانطباق ، أي يكون واقعا في الزمان على وجه الانطباق ، بحيث يكون كلّ جزء منه واقعا في جزء من الزمان الّذي ينطبق عليه تدريجا ، ولا يكون بجميع أجزائه واقعا في جزء من الزمان كالحركة القطعيّة. و (ثانيهما) ما يكون زمانيّا بنفسه لا على وجه الانطباق ، فيكون هو بجميع أجزائه واقعا في جزء من الزمان وفي جزء آخر وهكذا ، كالحركة التوسّطيّة.

الثاني : ما يكون زمانيّا بأطرافه ، أي يكون واقعا في طرف الزمان دفعا ، وهو الآن ، كالآنيّات ، مثل : الوصول والترك والاتّصال والانفصال.

إذا عرفت هذا ، فنقول : لا وجه لاختصاص الحدوث الزمانيّ بما إذا كان وجود الشيء تدريجيّا منطبقا على قطعة من الزمان. كيف والزمانيّ أعمّ من الأقسام الثلاثة؟

(١) لا يخفى أنّ كلمات المصنّف رحمه‌الله في ثبوت القديم الزمانيّ وقدم الزمان مضطربة جدّا.

ذهب في المقام إلى ثبوت القديم الزمانيّ وقال : «وهذان المعنيان إنّما يصدقان فى الامور الزمانيّة الّتي هي مظروفة للزمان منطبقة عليه وهي الحركات والمتحرّكات». وأنكر ثبوته في تعليقته على الأسفار ٣ : ٢٤٦ ، حيث قال : «وأمّا القديم الزمانيّ فغير متحقّق الوجود البتّة».

وأنكر في المقام اتّصاف نفس الزمان بالقدم والحدوث الزمانيّين. وأثبت اتّصافه بالقدم الزمانيّ في بداية الحكمة : ١٤٧ ، حيث قال : «القدم الزمانيّ وهو عدم مسبوقيّة الشيء بالعدم الزمانيّ ، كمطلق الزمان الّذي لا يتقدّمه زمان ولا زمانيّ ، وإلّا ثبت الزمان من حيث انتفى ، هذا خلف».

(٢) وفي النسخ : «متّصفا بالذات بالقبليّة والبعديّة بالذات» والصحيح ما أثبتناه.

١٤٣

من الزمان حادث زمانيّ بهذا المعنى (١). وكذلك الكلّ ، إذ لمّا كان الزمان مقدارا غير قارّ للحركة الّتي هي خروج الشيء من القوّة إلى الفعل تدريجا كانت فعليّة وجوده مسبوقة بقوّة وجوده وهو الحدوث الزمانيّ.

وأمّا الحدوث بمعنى كون وجود الزمان مسبوقا بعدم خارج من وجوده سابق عليه سبقا لا يجامع فيه القبل البعد ففيه فرض تحقّق القبليّة الزمانيّة من غير تحقّق الزمان. وإلى ذلك يشير ما نقل عن المعلّم الأوّل : «أنّ من قال بحدوث الزمان فقد قال بقدمه من حيث لا يشعر» (٢).

تنبيه :

قد تقدّم في مباحث القوّة والفعل (٣) أنّ لكلّ حركة شخصيّة زمانا شخصيّا يخصّها ويقدّرها ، فمنه الزمان العموميّ الّذي يعرض الحركة العموميّة الجوهريّة الّتي تتحرّك بها مادّة العالم المادّيّ في صورها ، ومنه الأزمنة المتفرّقة الّتي تعرض الحركات المتفرّقة العرضيّة وتقدّرها. وأنّ الزمان الّذي يقدّر به العامّة (٤) حوادث العالم هو زمان الحركة اليوميّة الّذي يراد بتطبيق الحوادث عليه الحصول على نسب بعضها إلى بعض بالتقدّم والتأخّر والطول والقصر ونحو ذلك.

إذا تذكّرت هذا فاعلم أنّ ما ذكرناه من معنى الحدوث والقدم الزمانيّين يجري في كلّ زمان كيفما كان ، فلا تغفل.

__________________

(١) لا يخفى أنّ هذا الكلام لا يتمّ إلّا إذا لم يكن للزمان جزءا لم يسبقه زمان ، وإلّا فما ذكره لا يصدق في ذلك الجزء ، بل لا بدّ من القول بحدوثه الدهريّ.

(٢) والناقل صدر المتألّهين في الأسفار ٣ : ٢٤٥.

(٣) في الفصل الحادي عشر من المرحلة التاسعة.

(٤) وفي النسخ : «يقدّر بها العامّة» والصحيح ما أثبتناه.

١٤٤

الفصل السادس

في الحدوث والقدم الذاتيّين

الحدوث الذاتيّ كون وجود الشيء مسبوقا بالعدم المتقرّر في مرتبة ذاته (١) والقدم الذاتيّ خلافه (٢).

قالوا (٣) : «إنّ كلّ ذي ماهيّة فإنّه حادث ذاتا». واحتجّوا عليه (٤) بأنّ كلّ ممكن فإنّه يستحقّ العدم لذاته ويستحقّ الوجود من غيره ، وما بالذات أقدم ممّا بالغير ، فهو مسبوق الوجود بالعدم لذاته.

واعترض عليه (٥) بأنّ الممكن لو اقتضى لذاته العدم كان ممتنعا ، بل هو لإمكانه لا يصدق عليه في ذاته أنّه موجود ، ولا أنّه معدوم. فكما يستحقّ الوجود عن علّة خارجة كذلك يستحقّ العدم عن علّة خارجة ، فليس شيء من الوجود

__________________

(١) كجميع الموجودات الممكنة الّتي لها الوجود بعلّة خارجة من ذاتها ، وليس لها في ماهيّتها إلّا العدم.

(٢) فهو عدم مسبوقيّة الشيء بالعدم في حدّ ذاته ، كالوجود الواجبيّ الّذي ماهيّته إنّيّته.

(٣) أي الحكماء.

(٤) راجع المباحث المشرقيّة ١ : ١٣٤ ، والأسفار ٣ : ٢٤٦.

(٥) هذا الاعتراض ممّا خطر ببال الفخر الرازيّ ، فذكره في المباحث المشرقيّة ١ : ١٣٤. وتعرّض له أيضا صدر المتألّهين في الأسفار ٣ : ٢٤٧.

١٤٥

والعدم أقدم بالنسبة إليه من غيره ، فليس وجوده عن غيره مسبوقا بعدمه لذاته.

واجيب عنه (١) : بأنّ المراد به عدم استحقاق الوجود بذاته سلبا تحصيليّا لا بنحو العدول (٢) وهذا المعنى (٣) له في ذاته (٤) قبل الوجود الآتي من قبل الغير.

حجّة اخرى (٥) : أنّ كلّ ممكن له ماهيّة مغايرة لوجوده ، وإلّا كان واجبا لا ممكنا ، وكلّ ما كانت ماهيّته مغايرة لوجوده امتنع أن يكون وجوده من ماهيّته ، وإلّا كانت الماهيّة موجودة قبل حصول وجودها ، وهو محال ، فوجوده مستفاد من غيره ، فكان وجوده مسبوقا بغيره بالذات ، وكلّ ما كان كذلك كان محدثا بالذات.

ويتفرّع على ما تقدّم أنّ القديم بالذات واجب الوجود بالذات ، وأيضا أنّ القديم بالذات لا ماهيّة له.

__________________

(١) كذا أجاب عنه الفخر الرازيّ أيضا في المباحث المشرقيّة ١ : ١٣٤. وتعرّض له أيضا صدر المتألّهين في الأسفار ٣ : ٢٤٧.

(٢) أي : أنّ الممكن في ذاته لا يستحقّ الوجود ، فلم يكن موجودا في ذاته ، وإذا لم يكن موجودا كان معدوما. لا أنّه في ذاته لا استحقاقيّة الوجود حتّى يقال : «إنّ ذاته تقتضي العدم وكان ممتنعا».

(٣) أي : عدم استحقاقيّة الوجود.

(٤) أي : للممكن في ذاته.

(٥) تعرّض لها الفخر الرازيّ في المباحث المشرقيّة ١ : ١٣٤ ، وصدر المتألّهين في الأسفار ٣ : ٢٤٩.

وقال الحكيم السبزواريّ ـ تعليقا على الأسفار ٣ : ٢٤٩ ـ : «يستخرج من هذا الوجه أنّ الحدوث الذاتيّ مسبوقيّة الوجود بالغير ، كما يستخرج من الوجه الأوّل أنّ الحدوث الذاتيّ مسبوقيّة الوجود بالعدم ، والسبق فيهما بالذات».

وقال المصنّف رحمه‌الله أيضا ـ تعليقا على الأسفار ٣ : ٢٤٧ ـ : «الوجهان يشتركان في إثبات أنّ كلّ ذي ماهيّة ـ وإن شئت قلت : كلّ ممكن ، أو كلّ معلول ـ فإنّه حادث ذاتيّ ، ويلزمه أنّ الواجب قديم ذاتا لعدم مسبوقيّة وجوده بعدم. وانّما يختلف الوجهان باختلاف تفسيرهم الحدوث الذاتيّ. فالوجه الأوّل مبنيّ على تفسير الحدوث الذاتيّ بكون وجود الشيء مسبوقا بعدمه لذاته. والوجه الثاني مبنيّ على تفسيره بكونه مسبوقا بغيره لذاته».

١٤٦

الفصل السابع

في الحدوث والقدم بالحقّ

الحدوث بالحقّ مسبوقيّة وجود المعلول بوجود علّته التامّة باعتبار نسبة السبق واللحوق بين الوجودين ، لا بين الماهيّة الموجودة للمعلول وبين العلّة كما في الحدوث الذاتيّ.

وذلك أنّ حقيقة الثبوت والتحقّق في متن الواقع إنّما هو للوجود دون الماهيّة ، وليس للعلّة ـ وخاصّة للعلّة المطلقة الواجبة الّتي ينتهي إليها الأمر (١) ـ إلّا الاستقلال والغنى ؛ وليس لوجود المعلول إلّا التعلّق الذاتيّ بوجود العلّة والفقر الذاتيّ إليه والتقوّم به ، ومن الضروريّ أنّ المستقلّ الغنيّ المتقوّم بذاته قبل المتعلّق الفقير المتقوّم بغيره ، فوجود المعلول حادث بهذا المعنى مسبوق بوجود علّته ، ووجود علّته قديم بالنسبة إليه متقدّم عليه.

__________________

(١) وفي النسخ : «ينتهي إليه الأمر» والصحيح ما أثبتناه.

١٤٧

الفصل الثامن

في الحدوث والقدم الدهريّين

الحدوث الدهريّ كون الماهيّة الموجودة المعلولة مسبوقة بعدمها المتقرّر في مرتبة علّتها ، بما أنّها (١) ينتزع عدمها بحدّها عن علّتها (٢) ، وإن كانت علّتها واجدة لكمال وجودها بنحو أعلى وأشرف ، فعلّتها قبلها (٣) قبليّة لا تجامع بعديّة المعلول ، بما أنّ عدم الشيء لا يجامع وجوده (٤). والقدم الدهريّ كون العلّة غير مسبوقة

__________________

(١) أي : الماهيّة الموجودة المعلولة.

(٢) أي : عن وجود علّتها في المرتبة السابقة.

(٣) وفي النسخ : «فعلّيّتها» والصحيح ما أثبتناه.

(٤) والمصنّف رحمه‌الله عرّف الحدوث الدهريّ ـ في بداية الحكمة : ١٤٨ ـ ببيان أوضح ، فقال : «هو مسبوقيّة وجود مرتبة من مراتب الوجود بعدمه المتقرّر في مرتبة هي فوقها في السلسلة الطوليّة ، وهو عدم غير مجامع ، لكنّه غير زمانيّ».

وقد مرّ أنّ الحدوث والقدم الدهريّين ممّا زادهما السيّد المحقّق الداماد في القبسات : ١٧.

وهذا ما استحسنه الحكيم السبزواريّ في شرح الأسماء : ٧٣ ـ ٧٦ ، فقال : «إنّ ما ذكره سيّد الحكماء وسند العلماء السيّد المحقّق الداماد من الحدوث الدهريّ حقّ لا غبار عليه ، بل هو مطلب عال ودرّ ثمنه غال». ثمّ بيّنه بقوله : «إنّا علّمناك أنّ المعبّر عنه للعدم ليس إلّا الوجود باعتبار خصوصيّة أنحائه ، لفقد كلّ مرتبة للمرتبة الاخرى. فكما أنّ كلّ حدّ وقطعة من هذه السلسلة العرضيّة ـ الّتي مرّ أنّها كخط ذي أجزاء بالقوّة متّصل واحد بالفعل ـ عدم لحدّ آخر وقطعة اخرى ، كذلك كلّ حدّ ومرتبة من السلسلة الطوليّة ـ من جسم الكلّ وطبع ـ

١٤٨

بالمعلول هذا النحو من السبق.

وقد اتّضح بما بيّنّاه أنّ تقرّر عدم المعلول في مرتبة العلّة لا ينافي ما تقرّر في محلّه أنّ العلّة تمام وجود معلولها وكماله ، لأنّ المنفيّ من مرتبة وجود العلّة هو المعلول بحدّه ، لا وجوده من حيث إنّه وجود مأخود عنها ، ولا مناص عن المغايرة بين المعلول بحدّه وبين العلّة ، ولازمها صدق سلب المعلول بحدّه على العلّة ، وإلّا اتّحدا (١).

نعم ، يبقى الكلام في ما ادّعي (٢) من كون القبليّة والبعديّة في هذين ـ الحدوث والقدم ـ غير مجامعتين.

__________________

ـ الكلّ ومثال الكلّ ونفس الكلّ وعقل الكلّ ـ عدم لحدّ آخر ومرتبة اخرى. كما أنّ الدورة السابقة عدم واقعيّ وعدم مقابل للدورة اللاحقة لكونهما مرتبتين من الوجود ، كذلك كلّيّة السلسلة العرضيّة بالنسبة إلى عالم من العوالم الطوليّة ، لكونهما أيضا في مرتبتين من الوجود ، إلّا أنّ وعاء العدم في العرض هو الزمان وفي الطول هو الدهر. فالعالم مسبوق الوجود بالعدم الدهريّ ، لكونه مسبوق الوجود بالوجود الدهريّ ، كوجود العقل مثلا. وأمّا وجود العقل فهو مسبوق بالعدم السرمديّ ، لكون الوجود السابق عليه وجودا سرمديّا ، أعني وجود الواجب تعالى. فالعالم حادث دهريّ ، والعقل حادث سرمديّ». انتهى كلامه ملخّصا ، فراجع شرح الأسماء الحسنى : ٧٤.

(١) أي : وإلّا اتّحدا في الوجود الخارجيّ بحيث لم يكن وجود العلّة إلّا وجود المعلول وبالعكس. مع أنّهما متضائفان لا يمكن اجتماعهما في محلّ واحد في زمان واحد من جهة واحدة.

(٢) والمدعيّ السيد المحقّق الداماد في القبسات ص ١٧.

١٤٩
١٥٠

المرحلة الحادية عشرة

في العقل والعاقل والمعقول

والمأخوذ في العنوان وإن كان هو العقل الّذي يطلق اصطلاحا

على الإدراك الكلّيّ دون الجزئيّ ، لكنّ البحث يعمّ الجميع.

وفيها خمسة عشر فصلا

١٥١
١٥٢

الفصل الأوّل

في تعريف العلم وانقسامه الأوّلي وبعض خواصّه

وجود العلم ضروريّ عندنا بالوجدان ، وكذلك مفهومه بديهيّ لنا (١) ، وإنّما نريد بالبحث عنه (٢) في هذا الفصل الحصول على أخصّ خواصّه.

فنقول : قد تقدّم في مبحث (٣) الوجود الذهنيّ (٤) أنّ لنا علما بالأشياء الخارجة عنّا في الجملة ، بمعنى أنّها تحضر عندنا بماهيّاتها بعينها ، لا بوجوداتها الخارجيّة الّتي تترتّب عليها آثارها الخارجيّة (٥) ، فهذا قسم من العلم ، ويسمّى : «علما حصوليّا».

ومن العلم أيضا علم الواحد منّا بذاته (٦) الّتي يشير إليها ويعبّر عنها ب «أنا» ، فإنّه لا يلهو عن نفسه ولا يغفل عن مشاهدة ذاته ، وإن فرضت غفلته عن بدنه

__________________

(١) كما في الأسفار ٣ : ٢٧٨ ـ ٢٧٩ ، والمباحث المشرقيّة ١ : ٣٢١ ـ ٣٢٢ ، وشرح الإشارات ٢ : ٣١٤.

(٢) وفي النسخ : «بالبحث في هذا الفصل» والصحيح ما أثبتناه.

(٣) وفي النسخ : «في بحث» والأولى ما أثبتناه.

(٤) راجع المرحلة الثالثة من المتن.

(٥) والمراد من ماهيّات الأشياء هو مفاهيمها الماهويّة ، لا الماهيّات الّتي هي حدّ وجود الأشياء في الخارج.

(٦) أو علم العلّة التامّة بمعلولاته ، أي علم الواجب تعالى بمخلوقاته.

١٥٣

وأجزائه وأعضائه.

وليس علمه هذا بذاته بحضور ماهيّة ذاته (١) عند ذاته حضورا مفهوميّا وعلما حصوليّا ، لأنّ المفهوم الحاضر في الذهن ـ كيفما فرض ـ لا يأبى بالنظر إلى نفسه الصدق على كثيرين (٢) ، وإنّما يتشخّص بالوجود الخارجيّ ، وهذا الّذي يشاهده من نفسه ويعبّر عنه ب «أنا» أمر شخصيّ بذاته غير قابل للشركة بين كثيرين. وقد تحقّق أنّ التشخّص بالوجود (٣) ، فعلمنا بذاتنا إنّما هو بحضورها لنا بوجودها الخارجيّ الّذي هو عين وجودنا الشخصيّ المترتّب عليه الآثار (٤).

وأيضا لو كان الحاضر لذواتنا عند علمنا بها هو ماهيّة ذواتنا دون وجودها ـ والحال أنّ لوجودنا ماهيّة قائمة به ـ كان لوجود واحد ماهيّتان موجودتان به ، وهو اجتماع المثلين ، وهو محال (٥). فإذا علمنا بذواتنا بحضورها لنا وعدم غيبتها عنّا بوجودها الخارجيّ ، لا بماهيّتها فقط. وهذا قسم آخر من العلم ، ويسمّى : «العلم الحضوريّ».

وانقسام العلم إلى القسمين قسمة حاصرة ، فحضور المعلوم للعالم إمّا بماهيّته (٦) وهو العلم الحصوليّ ، أو بوجوده وهو العلم الحضوريّ.

هذا ما يؤدّي إليه النظر البدويّ من انقسام العلم إلى الحصوليّ والحضوريّ ، والّذي يهدي إليه النظر العميق أنّ الحصوليّ منه أيضا ينتهي إلى علم حضوريّ.

بيان ذلك : أنّ الصورة العلميّة ـ كيفما فرضت ـ مجرّدة من المادّة عارية من القوّة ، وذلك (٧) لوضوح أنّها ـ بما أنّها معلومة ـ فعليّة لا قوّة فيها لشيء ألبتّة ، فلو

__________________

(١) أي : بحضور مفهوم ذاته.

(٢) ولا يخفى أنّ المفهوم الحاضر في الذهن من حيث إنّه مقيس إلى الخارج كلّيّ ، ومن حيث إنّه كيف نفسانيّ قائم بالنفس غير مقيس إلى الخارج جزئيّ خارجيّ يترتّب عليه آثارها الخاصّة الخارجيّة.

(٣) راجع الفصل الثالث من المرحلة الخامسة.

(٤) أي : الآثار الخاصّة.

(٥) أورد عليه بعض الأساتيذ من تلامذة المصنّف رحمه‌الله نقضا وحلّا ، فراجع تعليقته على نهاية الحكمة : ٣٥٠.

(٦) أي : بمفهومه.

(٧) أي : تجرّد الصورة العلميّة من المادّة. والمصنّف اكتفى لإثباته بذكر الدليلين المذكورين. وقد ـ

١٥٤

فرض أيّ تغيّر فيها كانت الصورة الجديدة مباينة للصورة المعلومة سابقا (١) ولو كانت الصورة العلميّة مادّيّة لم تأب التغيّر.

وأيضا لو كانت مادّيّة لم تفقد خواصّ المادّة اللازمة ، وهي : الانقسام والزمان والمكان. فالعلم ـ بما أنّه علم ـ لا يقبل النصف والثلث مثلا ، ولو كان منطبعا في مادّة جسمانيّة لانقسم بانقسامها. ولا يتقيّد بزمان ، ولو كان مادّيّا ـ وكلّ مادّيّ متحرّك ـ لتغيّر بتغيّر الزمان. ولا يشار إليه في مكان ، ولو كان مادّيا حلّ في مكان (٢).

فإن قلت : عدم انقسام الصورة العلميّة ـ بما أنّها علم ـ لا ينافي انطباعها في جسم كجزء من الدماغ مثلا ، وانقسامها بعرض المحلّ ، كما أنّ الكيفيّة ـ كاللون العارض لسطح جسم ـ تأبى الانقسام بما أنّها كيفيّة ، وتنقسم بعرض المحلّ ، فلم لا يجوز أن تكون الصورة العلميّة مادّيّة منطبعة في محلّ منقسمة بعرض محلّها وخاصّة بناء على ما هو المعروف من كون العلم كيفيّة نفسانيّة؟

وأيضا انطباق العلم على الزمان وخاصّة في العلوم الحسّيّة والخياليّة ممّا لا ينبغي أن يرتاب فيه ، كإحساس الأعمال المادّيّة في زمان وجودها.

وأيضا اختصاص أجزاء من الدماغ بخاصّة العلم ـ بحيث يستقيم باستقامتها ويختلّ باختلالها على ما هو المسلّم في الطبّ ـ لا شكّ فيه ، فللصورة العلميّة مكان ، كما أنّ لها زمانا.

قلنا : إنّ إباء الصورة العلميّة وامتناعها عن الانقسام بما أنّها علم لا شكّ فيه كما ذكر (٣). وأمّا انقسامها بعرض انقسام المحلّ ـ كالجزء العصبيّ مثلا ـ فممّا لا شكّ في بطلانه أيضا ، فإنّا نحسّ ونتخيّل صورا هي أعظم كثيرا ممّا فرض محلّا

__________________

ـ عقد الفخر الرازيّ وصدر المتألّهين فصلا لذكر الأدلّة المشهورة الّتي أقاموا على تجرّد النفس ، وهي اثنى عشر دليلا ، راجع المباحث المشرقيّة ٢ : ٣٤٥ ـ ٣٧٩ ، والأسفار ٨ : ٢٦٠ ـ ٣٠٣.

(١) فما يتوهّم أنّه تغيّر فيها ليس بتغيّر فيها ، بل هو زوال صورة علميّة وحدوث صورة علميّة جديدة.

(٢) ويمكن الإشارة الحسّيّة إليه.

(٣) راجع المباحث المشرقيّة ٢ : ٣٤٦ ، والأسفار ٨ : ٢٦١ ـ ٢٦٨.

١٥٥

لها من (١) الجزء العصبيّ ، كالسماء بأرجائها والأرض بأقطارها والجبال الشاهقة والبراري الواسعة والبحور الزاخرة ، ومن الممتنع انطباع الكبير في الصغير.

وما قيل : «إنّ إدراك الكبر والصغر في الصورة العلميّة إنّما هو بقياس أجزاء الصورة العلميّة بعضها إلى بعض» لا يفيد شيئا ، فإنّ المشهود هو الكبير بكبره دون النسبة الكلّيّة المقداريّة الّتي بين الكبيرة والصغيرة ، وإنّ النسبة بينهما مثلا نسبة المائة إلى الواحد.

فالصورة العلميّة المحسوسة أو المتخيّلة ـ بما لها من المقدار ـ قائمة بنفسها في عالم النفس من غير انطباع في جزء عصبيّ أو أمر مادّيّ غيرها ، ولا انقسام لها بعرض انقسامه. والإشارة الذهنيّة إلى بعض أجزاء المعلوم وفصله عن الأجزاء الاخر ـ كالإشارة إلى بعض أجزاء زيد المحسوس أو المتخيّل ثمّ إلى بعضها الآخر ـ ليس من التقسيم في شيء ، وإنّما هو إعراض عن الصورة العلميّة الأوّليّة وإيجاد لصورتين اخريين.

وإذ لا انطباع للصورة العلميّة في جزء عصبيّ ولا انقسام لها بعرض انقسامه ، فارتباط الصورة العلميّة بالجزء العصبيّ وما يعمله من عمل عند الإدراك ارتباط إعداديّ ، بمعنى أنّ ما يأتيه الجزء العصبيّ من عمل تستعدّ به النفس لأن تحضر عندها وتظهر في عالمها الصورة العلميّة الخاصّة بما للمعلوم من الخصوصيّات (٢).

وكذلك المقارنة الّتي تتراءى بين إدراكاتنا وبين الزمان إنّما هي بين العمل المادّيّ الإعداديّ الّتي تعمله النفس في آلة الإدراك (٣) وبين الزمان ، لا بين الصورة العلميّة بما أنّه علم وبين الزمان. ومن الدليل على ذلك أنّا كثيرا ما ندرك شيئا من المعلومات ونخزنه عندنا ثمّ نذكره بعينه بعد انقضاء سنين متمادية من غير

__________________

(١) بيان للمحلّ المفروض.

(٢) فليس الجزء العصبيّ إلّا آلة للإحساس تستعدّ بها النفس للإدراك. وفي النسخ : «لأن يحضر عندها ويظهر في عالمها. فالصورة العلميّة ...» والصحيح ما أثبتناه.

(٣) وهو الجزء العصبيّ.

١٥٦

أيّ تغيير ، ولو كان مقيّدا بالزمان لتغيّر بتغيّره (١).

فقد تحصّل بما تقدّم أنّ الصورة العلميّة ـ كيفما كانت ـ مجرّدة من المادّة خالية عن القوّة. وإذ كانت كذلك فهي أقوى وجودا من المعلوم المادّيّ الّذي يقع عليه الحسّ وينتهي إليه التخيّل والتعقّل ، ولها آثار وجودها المجرّد. وأمّا آثار وجودها الخارجيّ المادّيّ الّذي نحسبه متعلّقا للإدراك (٢) فليست آثارا للمعلوم بالحقيقة الّذي يحضر عند المدرك حتّى تترتّب عليه أو لا تترتّب ، وإنّما هو الوهم يوهم للمدرك أنّ الحاضر عنده حال الإدراك هو الصورة المتعلّقة بالمادّة خارجا ، فيطلب آثارها الخارجيّة ، فلا يجدها معها ، فيحكم بأنّ المعلوم هو الماهيّة بدون ترتّب الآثار الخارجيّة.

فالمعلوم ـ عند العلم الحصوليّ بأمر له نوع تعلّق بالمادّة ـ هو موجود مجرّد ، هو مبدأ فاعليّ لذلك الأمر (٣) ، واجد لما هو كماله ، يحضر بوجوده الخارجيّ للمدرك ، وهو علم حضوريّ ، ويتعقّبه انتقال المدرك إلى ما لذلك الأمر من الماهيّة والآثار المترتّبة عليه في الخارج (٤). وبتعبير آخر : العلم الحصوليّ اعتبار عقليّ يضطرّ إليه العقل ، مأخوذ من معلوم حضوريّ هو موجود مجرّد مثاليّ أو عقليّ ،

__________________

(١) كما أنّه لو كان الجزء العصبيّ مكانا له لتغيّر بتغيّره بعد انقضاء سنين متمادية. وجذب موادّ غذائيّة ربما يوجب تغيّر الجزء العصبيّ بجميع ذرّاته.

(٢) وفي النسخ : «التي نحسبها متعلّقة للإدراك» والصحيح ما أثبتناه.

(٣) وفيه : أنّه لا مبدأ فاعليّا للامور بحقيقة معنى الكلمة إلّا الواجب تعالى. مضافا إلى أنّ مجرّد كون الشيء موجودا مجرّدا لا يكفي دليلا على كونه مبدأ فاعليّا ومؤثّرا حقيقيّا في غيره ، ولو كان أقوى وجودا من غيره ، فإنّ الكيفيّات النفسانيّة الحاصلة للنفس مجرّدة وليست مبدأ فاعليّا لشيء.

(٤) ولا يخفى أنّ كلامه هذا ينقض بما ذكره تعليقا على الأسفار ٦ : ٤٢٤ حيث قال ـ تعليقا على قول صدر المتألّهين : «بل حقيقة الابصار عندنا هي إنشاء النفس ...» ـ : «ما ذكره رحمه‌الله في الابصار يجري في مدركات سائر الحواسّ ، كالمشمومات والمذوقات والملموسات ، وهي جميعا مدركة في الحسّ المشترك ، كما سيأتي في علم النفس. ومدركات هذه القوّة من سنخ واحد ، وليس بإدراك حضوريّ ، بل علم حصوليّ».

١٥٧

حاضر بوجوده الخارجيّ للمدرك وإن كان مدركا من بعيد.

ولنرجع إلى ما كنّا بصدده من الكلام في تعريف العلم (١) ، فنقول : حصول العلم ووجوده للعالم ممّا لا ريب فيه. وليس كلّ حصول كيف كان ، بل حصول أمر هو بالفعل فعليّة محضة لا قوّة فيه لشيء أصلا ، فإنّا نجد بالوجدان أنّ الصورة العلميّة من حيث هي لا تقوى على صورة اخرى ، ولا تقبل التغيّر عمّا هي عليه من الفعليّة. فهو حصول المجرّد من المادّة عار من نواقص القوّة ، ونسمّي ذلك : «حضورا».

فحضور شيء لشيء حصوله له بحيث يكون تامّ الفعليّة غير متعلّق بالمادّة بحيث يكون ناقصا من جهة بعض كمالاته الّتي في القوّة.

ومقتضى حضور العلم للعالم أن يكون العالم أيضا تامّا ذا فعليّة في نفسه ، غير ناقص من حيث بعض كمالاته الممكنة له ، وهو كونه مجرّدا من المادّة خاليا عن القوّة. فالعلم حصول أمر مجرّد من المادّة لأمر مجرّد ، وإن شئت قلت : حضور شيء لشيء.

__________________

(١) إعلم أنّ في تعريف العلم مذاهب مختلفة :

الأوّل : ما ذهب إليه الشيخ الإشراقيّ ، وهو أنّ العلم عبارة عن الظهور راجع حكمة الإشراق : ١١٤ ـ ١١٥.

الثاني : ما ذهب إليه أبو الحسين البصريّ وأصحابه والفخر الرازيّ ، وهو أنّ العلم حالة إضافيّة بين العالم والمعلوم. راجع شرح مسألة العلم : ٢٩ ، والمباحث المشرقيّة ١ : ٣٣١ ، وشرحي الإشارات ١ : ١٣٣ ـ ١٣٤.

الثالث : ما ذهب إليه صاحب الملخّص ـ على ما نقل عنه في الأسفار ٣ : ٢٩٠ ـ وهو أنّ العلم عبارة عن كيفيّة ذات إضافة.

الرابع : ما ذهب إليه بعض آخر ، وهو أنّ العلم عبارة عن صورة منطبعة عند العقل.

وتعرّض لهذه الأقوال ولنقدها صدر المتألّهين في الأسفار ٣ : ٢٨٤ ـ ٢٩٦.

والخامس : ما ذهب إليه الأشاعرة ، وهو أنّه صفة ذات تعلّق. راجع شرح المواقف : ٢٧٢.

وعرّفوه أيضا بتعاريف اخر ، ذكرها المحقّق الطوسيّ في شرح مسألة العلم : ٢٣ ـ ٢٦.

١٥٨

الفصل الثاني

في اتّحاد العالم بالمعلوم

وهو المعنون عنه باتّحاد العاقل بالمعقول (١)

__________________

(١) نصّ الشيخ الرئيس في أكثر كتبه على إبطال القول باتّحاد العاقل بالمعقول ، كما في الفصل السادس من المقالة الخامسة من الفنّ السادس من طبيعيّات الشفاء ، وشرح الإشارات ٣ : ٢٩٢ ـ ٢٩٣. ولكن قد قرّر هذا القول وأقام الحجّة عليه في كتاب المبدأ والمعاد : ص ٦ ـ ١٠ ، والرسالة العرشيّة : ٨. وقال صدر المتألّهين ـ بعد التعرّض لما قال الشيخ الرئيس في كتاب المبدأ والمعاد ـ : «ولست أدري هل كان ذلك على سبيل الحكاية لمذهبهم لأجل غرض من الأغراض أو كان اعتقاديّا له لاستبصار وقع له من إضاءة نور الحقّ من افق الملكوت». راجع الأسفار ٣ : ٣٣٥.

وأقول : الظاهر أنّه أراد أن يفرّق بين علم الواجب بغيره وعلمنا بغيرنا ، بأنّ الاتّحاد مختصّ بعلم الواجب بغيره ، كما هو الظاهر ممّا ذكره في المبدأ والمعاد والرسالة العرشيّة ، وأمّا في علمنا بغيرنا فلا ، كما هو الظاهر من كلامه في سائر كتبه. وصرّح باختصاص الاتّحاد بعلم الواجب بغيره في التعليقات : ١٥٩ حيث قال : «كلّ ما يعقل ذاته فإنّه هو العقل والعاقل والمعقول ، وهذا الحكم لا يصحّ إلّا في الأوّل». وقال أيضا : «أمّا ما يقال : إنّا إذا عقلنا شيئا فإنّا نصير ذلك المعقول فهو محال».

وأوّل من ذهب إلى اتّحاد العاقل بالمعقول هو فرفوريوس من المشّائين. قال الشيخ الرئيس في النمط السابع من الإشارات : «وكان لهم رجل يعرف بفرفوريوس عمل في العقل والمعقولات كتابا يثني عليه المشّاؤون ، وهو حشف كلّه».

١٥٩

علم الشيء بالشيء (١) هو حصول المعلوم ـ أي الصورة العلميّة ـ للعالم كما تقدّم (٢). وحصول الشيء وجوده ، ووجوده نفسه (٣) فالعلم هو عين المعلوم بالذات. ولازم حصول المعلوم للعالم وحضوره عنده اتّحاد العالم به ، سواء كان معلوما حضوريّا أو حصوليّا ، فإنّ المعلوم الحصوليّ إن كان أمرا قائما بنفسه كان وجوده لنفسه ، وهو مع ذلك للعالم ، فقد اتّحد العالم مع المعلوم ، ضرورة امتناع كون الشيء موجودا لنفسه ولغيره معا ؛ وإن كان أمرا وجوده لغيره ـ وهو الموضوع ـ وهو مع ذلك للعالم ، فقد اتّحد العالم بموضوعه ، والأمر الموجود لغيره متّحد بذلك الغير ، فهو متّحد بما يتّحد به ذلك الغير. ونظير الكلام يجري في المعلوم الحضوريّ مع العالم به.

فإن قلت : قد تقدّم في مباحث الوجود الذهنيّ (٤) أنّ معنى كون العلم من مقولة المعلوم كون مفهوم المقولة مأخوذا في العلم ـ أي صدقت (٥) المقولة عليه بالحمل الأوّليّ دون الحمل الشايع الّذي هو الملاك في اندراج الماهيّة تحت المقولة

__________________

(١) تلويح إلى أنّ مورد الخلاف في مسألة اتّحاد العالم بالمعلوم هو علم الشيء بغيره. وأمّا علمه بذاته فلا ريب في أنّه ليس أمرا خارجا عن ذاته ، واتّحاد العالم بالمعلوم في علمه بذاته ممّا اتّفق عليه الحكماء.

ولا يخفى أنّ المسألة من غوامض المسائل الحكميّة. واعترف بصعوبتها الشيخ الإشراقيّ حيث قال : «وكان يصعب عليّ مسألة العلم ، وما ذكر في الكتب لم ينقّح لي». (راجع التلويحات : ٧٠) ، كما اعترف بها صدر المتألّهين فقال : «إنّ مسألة كون النفس عاقلة لصور الأشياء المعقولة من أغمض المسائل الحكميّة الّتي لم ينقّح لأحد من علماء الإسلام إلى يومنا هذا. ونحن لمّا رأينا صعوبة المسألة ولم نر في كتب القوم سيّما كتب أبي عليّ ما يشفي العليل بل وجدناه وكلّ من في طبقته كبهمنيار وشيخ اتباع الرواقيّين والمحقّق الطوسيّ لم يأتوا بشيء يمكن التعويل عليه فتوجّهنا إلى مسبّب الأسباب وتضرّعنا إلى مسهّل الامور الصعاب في فتح هذا الباب ، فأفاض علينا في ساعة تسويدي هذا الفصل من خزائن علمه علما جديدا. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء». انتهى كلامه ملخّصا. (راجع الأسفار ٣ : ٣١٢ ـ ٣١٣).

(٢) في الفصل السابق.

(٣) أي : وجوده المحدود تمام ذاته.

(٤) راجع المرحلة الثالثة من المتن.

(٥) أي : حملت.

١٦٠