نهاية الحكمة - ج ٢

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

نهاية الحكمة - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-470-624-0
الصفحات: ٣٣٦

الفصل الثامن

في تنقيح القول بوقوع الحركة في مقولة الجوهر

والإشارة الى ما يتفرّع عليه من اصول المسائل

القول بانحصار الحركة في المقولات الأربع العرضيّة وإن كان هو المعروف المنقول عن القدماء ، لكنّ المحكيّ من كلماتهم لا يخلو عن الإشارة إلى وقوع الحركة في مقولة الجوهر ، غير أنّهم لم ينصّوا عليه (١).

وأوّل من ذهب إليه وأشبع الكلام في إثباته صدر المتألّهين رحمه‌الله (٢) : وهو الحقّ ، كما أقمنا عليه البرهان في الفصل الثاني. وقد احتجّ رحمه‌الله على ما اختاره بوجوه مختلفة (٣).

من أوضحها أنّ الحركات العرضيّة بوجودها سيّالة متغيّرة ، وهي معلولة للطبائع والصور النوعيّة الّتي لموضوعاتها ، وعلّة المتغيّر يجب أن تكون متغيّرة ،

__________________

(١) أي : لم ينصّوا على وقوع الحركة في مقولة الجوهر. وأمّا عدم وقوعها فيها فصرّح بذلك الشيخ الرئيس وأقام عليه حججا في الفصل الثالث من المقالة الثانية من الفنّ الأوّل من طبيعيّات الشفاء.

(٢) راجع الأسفار ٣ : ٦١ ـ ٦٧ و ٩٥ ـ ١١٣. وتبعه الحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة (قسم الحكمة) : ٢٤٩.

(٣) راجع الأسفار ٣ : ٦١ ـ ٦٧ و ٩٥ ـ ١١٣.

١٠١

وإلّا لزم تخلّف المعلول بتغيّره عن علّته ، وهو محال (١). فالطبائع والصور الجوهريّة ـ الّتي هي الأسباب القريبة (٢) للأعراض اللاحقة الّتي فيها الحركة ـ متغيّرة في وجودها متجدّدة في جوهرها ، وإن كانت ثابتة بماهيّتها ، قارّة في ذاتها (٣) ، لأنّ الذاتيّ لا يتغيّر.

__________________

(١) هذا أوّل البراهين الّتي أقامها على وجود الحركة الجوهريّة. وهو مبتن على تغاير الجوهر والعرض وجودا وماهيّة كما ذهب إليه المشّاؤون. وأمّا بناء على ما ذهب إليه صدر المتألّهين من أنّ العرض من مراتب وجود الجوهر من دون تغاير في الوجود فلا يصحّ الاستدلال به ، فإنّه لا يمكن أن يكون الجوهر علّة للعرض ، وإلّا لزم أن يكون الشيء علّة لنفسه ، وهو محال.

(٢) والتقييد ب «القريبة» للاحتراز عن البعيدة. والمراد من الأسباب القريبة هو ما لا واسطة بينه وبين الحركة ، وهو الطبيعة ، كما أنّ المراد من الأسباب البعيدة هو ما يوجب الحركة بواسطة ، كالنفس النباتيّة ، فإنّها وإن تحرّك أجسامها المركّبة لكن تحريكها إيّاها ليس بلا واسطة ، بل بواسطة استخدام طبائع تلك الأجسام المتحرّكة وقواها ، فتكون بين النفس النباتيّة والأجسام المتحرّكة واسطة هي : طبائعها وقواها.

(٣) أشار بقوله : «فالطبائع والصور الجوهريّة متغيّرة في وجودها ، متجدّدة في جوهرها ، وإن كانت ثابتة بماهيّتها قارّة في ذاتها» إلى ما أجاب به صدر المتألّهين عن إشكال أورده الشيخ الرئيس على القول بالحركة في الجوهر. (راجع الفصل الثالث من المقالة الثانية من الفنّ الأوّل من طبيعيّات الشفاء).

وحاصل الإشكال : أنّه لا معنى لوقوع الحركة في الجوهر إلّا وقوع الاشتداد والتضعّف فيه. وحينئذ فإمّا أن يبقى نوع الجوهر في وسط الاشتداد ـ مثلا ـ أو لا يبقى. فعلى الأوّل لم تتغيّر صورته الجوهريّة في ذاتها ، بل إنّما تغيّرت في عارض ، فلا يكون اشتدادا جوهريّا ، بل هو حركة في الكيف ـ مثلا ـ. وعلى الثاني ليس حركة في الجوهر ، بل هو من الكون والفساد ـ أي فساد صورة وكون صورة اخرى ـ ، مضافا إلى أنّه يلزم منه أن يحدث في كلّ آن مفروض جوهر آخر ويكون بين الجوهر الحادث أوّلا والجوهر الحادث آخرا أنواع من الجواهر غير متناهية ، وهذا في الصورة الجوهريّة محال ، لأنّه يستلزم أن يكون الشيء الواحد أنواعا كثيرة.

وأجاب عنه صدر المتألّهين في الشواهد الربوبيّة : ٩٨ بأنّ التجدّد في جانب الوجود والبقاء في جانب الماهيّة ، فقال : «إنّ الجوهر الّذي وقع فيه الحركة الاشتداديّة نوعه باق في وسط الاشتداد ، لكن قد تغيّر وجوده وتبدّلت صورته الخارجيّة بتبدّل طور من الوجود ـ

١٠٢

وأمّا ما وجّهوا به (١) ما يعتري هذه الأعراض من التغيّر والتجدّد مع ثبات العلّة الّتي هي الطبيعة أو غيرها من أنّ تغيّرها وتجدّدها لسوانح تنضمّ إليها (٢) من خارج ، كحصول مراتب البعد والقرب من الغاية في الحركات الطبيعيّة ، ومصادفة موانع ومعدّات قويّة وضعيفة في الحركات القسريّة ، وتجدّد إرادات جزئيّة سانحة عند كلّ حدّ من حدود المسافة في الحركات الإراديّة.

ففيه (٣) : أنّا ننقل الكلام إلى تجدّد هذه الامور الموجبة لتغيّر الحركة من أين حصل؟ فلا بدّ أن ينتهي إلى ما هو متجدّد بالذات (٤).

فإن قيل (٥) : إنّا نوجّه صدور الحركة المتجدّدة عن العلّة الثابتة بعين ما وجّهتم به ذلك ، من غير حاجة إلى جعل الطبيعة متجدّدة بالذات ، فالحركة (٦) متجدّدة

__________________

ـ بطور آخر أشدّ أو أضعف. وليس يمنع تبدّل أنحاء الوجود انحفاظ الماهيّة والمعنى المشترك فيه الذاتيّ ، وليست نسبة الوجود إلى الماهيّة كنسبة العارض الخارجيّ إلى معروضه حتّى يرد عند تبدّل الوجود في الحركة الجوهريّة أنّ ذلك تبدّل لا في جوهر ، بل في أمر خارج عنه ، لما علمت أنّ وجود كلّ شيء هو تمام حقيقته ، ليس بأمر خارج عنه. بل الحقّ أنّ تبدّل أنحاء وجود واحد هو بالحقيقة تبدّل في نفس ذلك النوع ، وإن كان المفهوم محفوظا والماهيّة باقية بحسب حدّها ومعناها».

ولا يخفى أنّه في الأسفار ٣ : ٨٦ اختار أنّ التجدّد في جانب الماهيّة والبقاء في جانب الوجود. وهذا عكس ما سلكه في الشواهد الربوبيّة!

وجمع بينهما الحكيم السبزواريّ في الوجود تعليقته على الأسفار بأنّه في الأسفار لاحظ في الوجود الأصل المحفوظ في درجات الوجود وأنّها تفنّنات لوجود واحد شخصيّ ، لا أنّها تشخّصات لوجود ، ولاحظ في الماهيّة اختلاف المفاهيم المنتزعة نوعا. وفي الشواهد الربوبيّة لاحظ في الوجود تفنّنات الوجود وفي الماهيّة القدر المشترك في المفاهيم.

(١) كذا وجّهوا به الحكماء ، كالشيخ الرئيس وغيره على ما في الأسفار ٣ : ٦٥.

(٢) أي : إلى الطبيعة.

(٣) كما في الأسفار ٣ : ٦٥ ، والشواهد الربوبيّة : ٨٥ ، وشرح المنظومة : ٢٥٠.

(٤) وهو الطبيعة.

(٥) هذا الإيراد تعرّض له الحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة : ٢٥٠ ، وتعليقاته على الأسفار ٣ : ٦٧.

(٦) أي : حركة الأعراض.

١٠٣

بالذات ، ولا ضير في صدور المتجدّد عن الثابت إذا كان التجدّد ذاتيّا له. فإيجاد ذاته عين إيجاد تجدّده كما اعترفتم به.

قيل (١) : التجدّد الّذي في الحركة العرضيّة ليس تجدّد نفس الحركة ، فإنّ المقولة العرضيّة ليس وجودها في نفسها لنفسها حتّى يكون منعوتا بنفسها فتكون متجدّدة كما كانت تجدّدا. وإنّما وجودها لغيرها الّذي هو الموضوع الجوهريّ. فحركة الجسم ـ مثلا ـ في لونه تغيّره وتجدّده في لونه الّذي هو له ، لا تجدّد لونه. وهذا بخلاف الجوهر ، فإنّ وجوده في نفسه هو لنفسه ، فهو تجدّد ومتجدّد بذاته ، فإيجاد هذا الجوهر إيجاد بعينه للمتجدّد وإيجاد المتجدّد إيجاد لهذا الجوهر ، لا إيجاد جوهر ، ليصير متجدّدا ، فافهم.

حجّة اخرى (٢) : الأعراض من مراتب وجود الجواهر ، لما تقدّم (٣) أنّ وجودها في نفسها عين وجودها لموضوعاتها ، فتغيّرها وتجدّدها لا يتمّ إلّا مع تغيّر موضوعاتها الجوهريّة وتجدّدها ، فالحركات العرضيّة دليل حركة الجوهر.

ويتبيّن بما تقدّم عدّة امور :

الأوّل : أنّ الصور الجوهريّة المتبدّلة المتواردة على المادّة واحدة بعد واحدة في الحقيقة صورة جوهريّة واحدة سيّالة تجري على المادّة ، وموضوعها المادّة المحفوظة بصورة مّا (٤) ـ كما تقدّم في مرحلة الجواهر والأعراض (٥) ـ ، ننتزع من كلّ حدّ من حدودها مفهوما مغايرا لما ينتزع من حدّ آخر ، نسمّيها ، «ماهيّة نوعيّة» ، تغاير سائر الماهيّات في آثارها.

__________________

(١) والقائل الحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة : ٢٥٠ ، وتعليقاته على الأسفار ٣ : ٦٧.

(٢) هذه الحجّة ذكرها صدر المتألّهين في الأسفار ٣ : ١٠٣ ـ ١٠٤ ، وسمّاها : «البرهان المشرقيّ». وهو مبتن على مذهبه من أنّ الأعراض من مراتب وجود الجوهر.

(٣) في الفصل الثالث من المرحلة الثانية.

(٤) أي : طبيعيّ الصورة وصرف الوجود منه. وهذا يشمل الصورة الواحدة الممتدّة التدريجيّة السيّالة ، كما هو مقتضى القول بالحركة الجوهريّة.

(٥) راجع الفصل السادس من المرحلة السادسة.

١٠٤

والحركة على الإطلاق وإن كانت لا تخلو من شائبة التشكيك ـ لما أنّها خروج من القوّة إلى الفعل وسلوك من النقص إلى الكمال ـ لكن في الجوهر مع ذلك حركة اشتداديّة اخرى هي حركة المادّة الاولى إلى الطبيعة ثمّ النبات ثمّ الحيوان ثمّ الإنسان ، ولكلّ من هذه الحركات آثار خاصّة تترتّب عليها حتّى تنتهي الحركة إلى فعليّة لا قوّة معها.

الثاني : أنّ للأعراض اللاحقة بالجواهر ـ أيّا مّا كانت ـ حركة بتبع الجواهر المعروضة لها ، إذ لا معنى لثبات الصفات مع تغيّر الموضوعات وتجدّدها. على أنّ الأعراض اللازمة للوجود كلوازم الماهيّة (١) مجعولة بجعل موضوعاتها جعلا بسيطا من غير أن يتخلّل جعل بينها وبين موضوعاتها. هذا في الأعراض اللازمة الّتي نحسبها ثابتة غير متغيّرة. وأمّا الأعراض المفارقة الّتي تعرض موضوعاتها بالحركة (٢) ـ كما في الحركات الواقعة في المقولات الأربع : الأين والكمّ والكيف والوضع ـ فالوجه أن تعدّ حركتها من الحركة في الحركة ، وأن تسمّى : «حركات ثانية» ويسمّى القسم الأوّل : «حركات اولى».

والإشكال (٣) في إمكان تحقّق الحركة في الحركة بأنّ من الواجب في الحركة أن تنقسم بالقوّة إلى أجزاء آنيّة الوجود ، والمفروض في الحركة في الحركة أن تتألّف من أجزاء تدريجيّة منقسمة ، فيمتنع أن تتألّف منها حركة. على أنّ لازم الحركة (٤) أن يكون ورود المتحرّك في كلّ حدّ من حدودها إمعانا فيه ، لا تركا له ، فلا تتمّ حركة.

يدفعه : أنّ الّذي نسلّمه أن تنقسم الحركة إلى أجزاء ينقطع به اتّصالها

__________________

(١) كالزمان والمكان لماهيّة الجسم.

(٢) كوضع خاصّ أو مكان خاصّ أو زمان خاصّ للجسم.

(٣) والمستشكل بهمنيار في التحصيل : ٤٢٩. وتبعه صدر المتألّهين في الأسفار ٣ : ٧٦ ـ ٧٩ ، وشرح الهداية الأثيريّة : ١١٠ ، وكذا الحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة : ٢٤٦ ـ ٢٤٧.

(٤) أي : الحركة في الحركة. فاللام للعهد ، ومعناه : الحركة المعهودة الّتي يبحث عنها في المقام.

١٠٥

وامتدادها وأن ينتهي ذلك إلى أجزاء آنيّة ، وأمّا الانتهاء إليها بلا واسطة فلا. فمن الجائز أن تنقسم الحركة إلى أجزاء آنيّة غير تدريجيّة من سنخها ، ثمّ تنقسم الأجزاء إلى أجزاء آنيّة أخيرة. فانقسام الحركة وانتهاء انقسامها إلى أجزاء آنيّة ، كقيام العرض بالجوهر ، فربّما كان قيامه بلا واسطة ، وربّما كان مع الواسطة ومنتهيا إلى الجوهر بواسطة أو أكثر ، كقيام الخطّ بالسطح والسطح بالجسم التعليميّ والجسم التعليميّ بالجسم الطبيعيّ.

وأمّا حديث الإمعان في الحدود فإنّما يستدعي حدوث البطء في الحركة (١) ، ومن الجائز أن يكون سبب البطء هو تركّب الحركة ، وسنشير إلى ذلك فيما سيأتي إن شاء الله (٢).

الثالث : أنّ المادّة الاولى ـ بما أنّها قوّة محضة ـ لا فعليّة لها أصلا إلّا فعليّة أنّها قوّة محضة ، فهي في أيّ فعليّة تعتريها تابعة للصورة الّتي تقيمها ، فهي متميّزة بتميّز الصورة الّتي تتّحد بها ، متشخّصة بتشخّصها ، تابعة لها في وحدتها وكثرتها. نعم لها وحدة مبهمة شبيهة بوحدة الماهيّة الجنسيّة.

فإذ كانت هي موضوع الحركة العامّة الجوهريّة فعالم المادّة برمّتها حقيقة واحدة سيّالة متوجّهة من مرحلة القوّة المحضة إلى فعليّة لا قوّة معها.

__________________

(١) أي : في الحركة في الحركة.

(٢) في الفصل الثاني عشر من هذه المرحلة.

١٠٦

الفصل التاسع

في موضوع الحركة

قد تبيّن (١) أنّ الموضوع لهذه الحركات هو المادّة (٢). هذا إجمالا.

أمّا تفصيله فهو : أنّك قد عرفت (٣) أنّ في مورد الحركة مادّة وصورة وقوّة وفعلا. وقد عرفت في مباحث الماهيّة (٤) أنّ الجنس والفصل هما المادّة والصورة

__________________

(١) في الفصل الثاني والفصل الثامن من هذه المرحلة.

(٢) والتحقيق أنّ الحركة بما أنّها حركة لا تحتاج إلى موضوع ، كما صرّح المصنّف رحمه‌الله بذلك في تعليقته على الأسفار ٣ : ٦٩ وبداية الحكمة : ١٦٢. قال في بداية الحكمة : «والتحقيق أنّ حاجة الحركة إلى موضوع ثابت باق ما دامت الحركة إن كانت لأجل أن تنحفظ به وحدة الحركة ، ولا تنثلم بطروّ الانقسام عليها وعدم اجتماع أجزائها في الوجود ، فاتّصال الحركة في نفسها وكون الانقسام وهميّا غير فكّيّ كاف في ذلك ؛ وإن كانت لأجل أنّها معنى ناعتيّ يحتاج إلى أمر موجود لنفسه حتّى يوجد له وينعته كما أنّ الأعراض والصور الجوهريّة المنطبعة في المادّة تحتاج إلى موضوع كذلك توجد له وتنعته ، فموضوع الحركات العرضيّة أمر جوهريّ غيرها. وموضوع الحركة الجوهريّة نفس الحركة ، إذ لا نعني بموضوع الحركة إلّا ذاتا تقوم به الحركة وتوجد له ، والحركة الجوهريّة لمّا كانت ذاتا جوهريّة سيّالة كانت قائمة بذاتها موجودة لنفسها ، فهي حركة ومتحرّكة لنفسها».

(٣) في الفصلين الأوّل والثاني من هذه المرحلة.

(٤) راجع الفصل الخامس من المرحلة الخامسة.

١٠٧

لا بشرط. وأنّ الماهيّات النوعيّة قد تترتّب متنازلة إلى السافل من نوع عال ومتوسّط وأخير ، وقد تندرج تحت جنس واحد قريب أنواع كثيرة اندراجا عرضيّا لا طوليّا. ولازم ذلك أن يكون في القسم الأوّل (١) من الأنواع الجوهريّة مادّة اولى متحصّلة بصورة اولى ، ثمّ هما معا مادّة ثانية لصورة ثانية ، ثمّ هما معا مادّة ـ وتسمّى أيضا ثانية (٢) ـ لصورة لاحقة ، وفي القسم الثاني مادّة لها صور متعدّدة متعاقبة عليها كلّما حلّت بها واحدة منها امتنعت من قبول صورة اخرى.

فإذا رجعت هذه التنوّعات الجوهريّة الطوليّة والعرضيّة إلى الحركة ففي القسم الثاني كانت المادّة ـ الّتي هي موضوع الحركة في بدئها ـ هي بعينها موضوع ما تعاقبت (٣) الصور إلى آخر الحركة ، سواء كانت هي المادّة الاولى أو المادّة الثانية. وكذلك الحكم في الحركات العرضيّة ـ بفتح الراء ـ.

وفي القسم الأوّل ـ وهو الحركة الطوليّة ـ المادّة الاولى موضوع للصورة الاولى ، ثمّ هما معا موضوع للصورة الثانية ، لا بطريق الخلع واللبس كما في القسم الثاني (٤) بل بطريق اللبس بعد اللبس. ولازم ذلك أن تكون الحركة اشتداديّة لا متشابهة ، وكون مادّة الصورة الاولى معزولة عن موضوعيّة الصورة الثانية ، بل الموضوع لها هو المادّة الاولى والصورة الاولى معا ، والمادّة الاولى من المقارنات.

والصورة الثانية في هذه المرتبة هي فعليّة النوع ، ولها الآثار المترتّبة ، إذ لا حكم إلّا للفعليّة ، ولا فعليّة إلّا واحدة ، وهي فعليّة الصورة الثانية. وهذا معنى قولهم (٥) : «إنّ الفصل الأخير جامع لجميع كمالات الفصول السابقة ، ومنشأ

__________________

(١) أي : الأنواع المترتّبة من العالي إلى السافل.

(٢) لأنّ المراد من الثانية هنا هي ما ليس باولى ، سواء كانت ثانية أو ثالثة أو رابعة أو غيرها.

(٣) وفي النسخ : «هي الموضوع بعينه ما تعاقب» والصحيح إمّا ما أثبتناه ، أو «هي الموضوع بعينها لما تعاقبت ...».

(٤) وفي النسخ : «القسم الأوّل» والصحيح ما أثبتناه.

(٥) راجع الأسفار ٢ : ٣٥ ، والفصل السادس من المرحلة الخامسة من الكتاب.

١٠٨

لانتزاعها ، وإنّه لو تجرّد عن المادّة وتقرّر وحده لم تبطل بذلك حقيقة النوع». والأمر على هذا القياس في كلّ صورة لاحقة بعد صورة.

ومن هنا يظهر :

أوّلا : أنّ الحركة في القسم الثاني بسيطة. وأمّا في القسم الأوّل فإنّها مركّبة ، لتغيّر الموضوع في كلّ حدّ من الحدود ، غير أنّ تغيّره ليس ببطلان الموضوع السابق وحدوث موضوع لاحق ، بل بطريق الاستكمال (١). ففي كلّ حدّ من الحدود تصير فعليّة الحدّ وقوّة الحدّ اللاحق معا قوّة لفعليّة الحدّ اللاحق.

وثانيا : أن لا معنى للحركة النزوليّة بسلوك الموضوع من الشدّة إلى الضعف ومن الكمال إلى النقص ، لاستلزامها كون فعليّة مّا قوّة لقوّتها (٢) كأن يتحرّك الإنسان من الإنسانيّة إلى الحيوانيّة ومن الحيوانيّة إلى النباتيّة ، وهكذا. فما يتراءى

__________________

(١) فلا تركيب إلّا بتحليل العقل.

(٢) وهو محال ، فإنّه يستلزم أن يكون الشيء الواحد واجدا لكمال وفاقدا له في آن واحد ، وهو من اجتماع المتقابلين.

وقال الحكيم السبزواريّ في تعليقته على الأسفار ٣ : ٨١ : «فإنّ لازمها خروج الشيء من الفعل إلى القوّة. والحركة خروج من القوّة إلى الفعل تدريجا».

ويلاحظ عليهما : أنّ سلوك الموضوع من الشدّة إلى الضعف ومن الكمال إلى النقص لا يستلزم كون فعليّة قوّة لقوّتها ولا كونه خروج الشيء من الفعل إلى القوّة. وذلك لأنّ للموضوع في كلّ حدّ من الحدود فعليّة وقوّة ، فله فعليّة الحدّ الواقع فيه وقوّة الحدّ الآخر ، فللنطفة ـ مثلا ـ فعليّة بالنسبة إلى الحدّ الواقع فيه ـ وهي حدّ النطفيّة ـ وقوّة بالنسبة إلى غير ذلك الحدّ ، أعمّ من الحدّ السابق على فعليّته ـ أي حدّ النباتيّة مثلا ـ والحدّ الآخر اللاحق لها ـ أي حدّ الإنسانيّة ـ. فالذي يكون قوّة للنقص في سلوك الموضوع من الكمال إلى النقص ليس فعليّة الموضوع الكامل ، بل هو قوّته المقارنة لفعليّته.

ومن هنا يظهر أنّ سلوك الموضوع الكامل إلى النقص ليس من خروج الشيء من الفعل إلى القوّة ، بل هو خروجه من القوّة إلى الفعل ، غاية الأمر قد يخرج الشيء من القوّة إلى الفعليّة اللاحقة ، وقد يخرج من القوّة إلى الفعليّة السابقة على فعليّته هذه.

وفي النسخ : «قوّة لقوّته» والصحيح ما أثبتناه. والضمير يرجع إلى فعليّة مّا.

١٠٩

منه الحركة التضعّفيّة حركة بالعرض تتبع حركة اخرى اشتداديّة تزاحم الحركة النزوليّة المفروضة ، كالذبول (١).

وثالثا : أنّ الحركة ـ أيّا مّا كانت ـ محدودة بالبداية والنهاية ، فكلّ حدّ من حدودها ينتهي من الجانبين إلى قوّة لا فعليّة معها وإلى فعل لا قوّة معه ، وحكم المجموع أيضا حكم الأبعاض. وهذا لا ينافي ما تقدّم (٢) أنّ الحركة لا أوّل لها ولا آخر ، فإنّ المراد به أن تبتدئ بجزء لا ينقسم بالفعل وأن تختم بذلك. فالجزء بهذا المعنى لا يخرج من القوّة إلى الفعل أبدا ، ولا الماهيّة النوعيّة المنتزعة من هذا الحدّ تخرج من القوّة إلى الفعل أبدا.

__________________

(١) وفيه ما مرّ في التعليقة السابقة.

(٢) في الفصل الخامس من هذه المرحلة.

١١٠

الفصل العاشر

في فاعل الحركة ، وهو المحرّك (١)

ليعلم أنّ الحركة كيفما فرضت فالمحرّك فيها غير المتحرّك.

فإن كانت الحركة جوهريّة والحركة في ذات الشيء وهو المتحرّك بالحقيقة ـ كما تقدّم (٢) ـ كان فرض كون المتحرّك هو المحرّك فرض كون الشيء فاعلا موجدا لنفسه ، واستحالته ضروريّة. فالفاعل الموجد للحركة هو الفاعل الموجد للمتحرّك ، وهو جوهر مفارق للمادّة ، يوجد الصورة الجوهريّة ، ويقيم بها المادّة ، والصورة شريكة الفاعل على ما تقدّم (٣).

وإن كانت الحركة عرضيّة وكان العرض لازما للوجود ، فالفاعل الموجد للحركة فاعل الموضوع المتحرّك بعين جعل الموضوع ، من غير تخلّل جعل آخر بين الموضوع وبين الحركة ، إذ لو تخلّل الجعل وكان المتحرّك ـ وهو مادّيّ ـ فاعلا في نفسه للحركة كان فاعلا من غير توسّط المادّة. وقد تقدّم في مباحث العلّة والمعلول (٤) أنّ العلل المادّيّة لا تفعل إلّا بتوسّط المادّة وتخلّل الوضع بينها وبين

__________________

(١) أي : هو المحرّك بحقيقة معنى الكلمة. فالمراد من فاعل الحركة هو موجدها ، وهو الفاعل الإلهيّ ، لا الفاعل الطبيعيّ الّذي ليس إلّا معدّا لها.

(٢) في الفصل الثامن من هذه المرحلة.

(٣) راجع الفصل السادس من المرحلة السادسة.

(٤) راجع الفصل الخامس عشر من المرحلة الثامنة.

١١١

معلولاتها ، فهي إنّما تفعل في الخارج من نفسها. ففاعل لازم الوجود فاعل ملزومه ، وهو جوهر مفارق للمادّة جعل الصورة ولازم وجودها جعلا واحدا وأقام بها المادّة.

وإن كانت الحركة عرضيّة والعرض مفارقا ، كان الفاعل القريب للحركة هو الطبيعة (١) ، بناء على انتساب الأفعال الحادثة عند كلّ نوع جوهريّ إلى طبيعة ذلك النوع (٢).

وتفصيل القول : أنّ الموضوع إمّا أن يفعل أفعاله على وتيرة واحدة ، أو لا على وتيرة واحدة. والأوّل هو الطبيعة المعرّفة بأنّها مبدأ حركة ما هي فيه وسكونه. والثاني هو النفس المسخّرة لعدّة طبائع وقوى تستعملها في تحصيل ما تريده من الفعل. وكلّ منهما إمّا أن يكون فعله ملائما لنفسه بحيث لو خلّي ونفسه لفعله (٣) وهو «الحركة الطبيعيّة» ، أو لا يكون كذلك كما يقتضيه قيام مانع مزاحم وهو «الحركة القسريّة».

وعلى جميع هذه التقادير فاعل الحركة هي الطبيعة (٤). أمّا في الحركة الطبيعيّة ، فلأنّ الطبيعة إنّما تنشئ الحركة عند زوال صورة ملائمة أو عرض (٥) هيئة منافرة ، تفقد بذلك كمالا تقتضيه ، فتطلب الكمال ، فتسلك إليه بالحركة ، ففاعلها الصورة

__________________

(١) لا يخفى أنّه لا مجال للتفصيل بين الحركة الجوهريّة والحركة العرضيّة ، بناء على كون الأعراض من مراتب وجود الجواهر.

(٢) لا يخفى عليك : أنّ انتساب الأفعال الحادثة إلى الطبيعة مردود ، لأنّه لا مؤثّر في الوجود بحقيقة معنى الكلمة إلّا الله تبارك وتعالى ، كما مرّ تفصيله في الفصل الثامن من المرحلة الثامنة ، ولعلّه قال المصنّف رحمه‌الله : «بناء على انتساب ...».

(٣) وفي النسخ : «إمّا أن يكون فعلها ملائما لنفسها بحيث لو خلّيت ونفسها لفعلته» والصحيح ما أثبتناه.

(٤) الحقّ أنّ فاعلها هو المؤثّر الحقيقيّ ، أي الله تبارك وتعالى. وأمّا الطبيعة وغيرها فليست إلّا معدّات ، كما مرّ.

(٥) وفي النسخ : «عروض» ولكن لا تساعد عليه اللغة.

١١٢

وقابلها المادّة. وأمّا في الحركة القسريّة ، فلأنّ القاسر ربّما يزول والحركة القسريّة على حالها ، وقد بطلت فاعليّة الطبيعة بالفعل ، فليس الفاعل إلّا الطبيعة المقسورة (١). وأمّا في الحركة النفسانيّة فلأنّ كون النفس مسخّرة للطبائع والقوى المختلفة لتستكمل بأفعالها. نعم الدليل على أنّ الفاعل القريب في الحركات النفسانيّة هي الطبائع والقوى المغروزة في الأعضاء.

__________________

(١) ولمّا كان المحرّك في الحركات القسريّة هي الطبيعة المقسورة فلا وجه لما ذكره اللاهيجيّ في شوارق الإلهام : ٢٣٥ من الفرق بين الحركة الطبيعيّة والحركة القسريّة بأنّ الجسم إن كان محلّا للقوّة الجسمانيّة فتحريكها له بالطبع وإلّا كان بالقسر. بل الحقّ أن يقال : إنّ الحركة الحاصلة إمّا ملائمة للقوّة الجسمانيّة أو لا ، فالأوّل تحريك بالطبع والثاني تحريك بالقسر.

١١٣

الفصل الحادي عشر

في الزمان

إنّا نجد فيما عندنا حوادث متحقّقة بعد حوادث اخرى هي قبلها ، لما أنّ للّتي بعد نحو توقّف على الّتي قبل ، توقّفا لا يجامع معه القبل والبعد ، على خلاف سائر أنحاء التقدّم والتأخّر كتقدّم العلّة أو جزئها على المعلول ، وهذه مقدّمة ضروريّة لا نرتاب فيها.

ثمّ إنّ ما فرضناه قبل ينقسم بعينه إلى قبل وبعد بهذا المعنى ، أي بحيث لا يجتمعان ، وكذا كلّ ما حصل من التقسيم وله صفة قبل (١) ينقسم إلى قبل وبعد من غير وقوف للقسمة.

فهاهنا كمّ متّصل غير قارّ ، إذ لو لم يكن كمّ لم يكن انقسام ؛ ولو لم يكن اتّصال لم يتحقّق البعد فيما هو قبل ، وبالعكس ، بل انفصلا. وبالجملة : لم يكن بين الجزئين من هذا الكمّ حدّ مشترك ، ولو لم يكن غير قارّ لاجتمع ما هو قبل وما هو بعد بالفعل.

وإذ كان الكمّ عرضا فله موضوع هو معروضه ، لكنّا كلّما رفعنا الحركة من المورد ارتفع هذا المقدار ، وإذا وضعناها ثبت ، وهذا هو الّذي نسمّيه : «زمانا» ،

__________________

(١) أو له صفة بعد.

١١٤

فالزمان موجود ، وماهيّته أنّه مقدار متّصل غير قارّ عارض للحركة (١).

وقد تبيّن بما مرّ امور :

الأوّل : أنّه لمّا كان كلّما وضعنا حركة أو بدّلنا حركة من حركة ثبت هذا الكمّ المسمّى بالزمان ، ثبت أنّ لكلّ حركة ـ أيّة حركة كانت (٢) ـ زمانا خاصّا بها ، متشخّصا بتشخّصها ، مقدّرا لها ، وإن كنّا نأخذ زمان بعض الحركات مقياسا نقدّر به حركات اخرى ، كما نأخذ زمان الحركة اليوميّة مقياسا نقدّر به الحركات الاخرى الّتي تتضمّنها الحوادث الكونيّة الكلّيّة والجزئيّة بتطبيقها على ما نأخذ لهذا الزمان من الأجزاء ، كالقرون والسنين والشهور والأسابيع والأيّام والساعات والدقائق والثواني وغير ذلك.

الثاني : أنّ نسبة الزمان إلى الحركة نسبة الجسم التعليميّ إلى الجسم الطبيعيّ ، وهي نسبة المعيّن إلى المبهم (٣).

الثالث : أنّه كما تنقسم الحركة إلى أقسام لها حدود مشتركة وبينها فواصل غير موجودة إلّا بالقوّة وهي الآنيّات كذلك الزمان ينقسم إلى أقسام لها حدود مشتركة ، وبينها فواصل غير موجودة إلّا بالقوّة (٤) وهي الآنات. فالآن طرف

__________________

(١) إعلم أنّ الناس قد اختلفوا في الزمان ، فمنهم من أنكر وجود الزمان وقال : «إنّه لا وجود له إلّا بحسب الوهم». ومنهم من قال : «إنّه جوهر مجرّد». ومنهم من قال : «إنّه واجب الوجود». ومنهم من قال : «إنّه جوهر جسمانيّ هو الفلك الأعلى». ومنهم من قال : «إنّه عرض غير قارّ». وتفصيل هذه المذاهب وأدلّتهم مذكور في المطوّلات ، فراجع الفصل العاشر والفصل الحادي عشر من المقالة الثانية من الفنّ الأوّل من طبيعيّات الشفاء ، والمباحث المشرقيّة ١ : ٦٤٢ ـ ٦٥٨ ، والأسفار ٣ : ١٤١ ـ ١٤٨ ، وشرح الهداية الأثيريّة لصدر المتألّهين : ١٠٢ ـ ١١٠ ، وشرح عيون الحكمة ٢ : ١١٩ ـ ١٢٣ ، وشرح المنظومة : ٢٥٧ ـ ٢٥٨.

(٢) وفي النسخ : «أيّ حركة كانت» والصحيح ما أثبتناه.

(٣) فسيلان الطبيعة وخروجها من القوّة إلى الفعل إذا لوحظ مطلقا ـ أي غير مقيّد باللانهاية أو النهاية وعند التناهي بسنة أو شهر أو ساعة ـ فهو الحركة ، وإذا لوحظ مقيّدا بشيء منها ـ أي مقدّرا بمقدار خاصّ ـ فهو الزمان.

(٤) أي : بحسب الوهم.

١١٥

الزمان ، كالنقطة الّتي هي طرف الخطّ ، وهو أمر عدمي حظّه من الوجود انتسابه إلى ما هو طرف له.

ومن هنا يظهر أنّ تتالي الآنات (١) ممتنع ، فإنّ الآن ليس إلّا فاصلة عدميّة بين قطعتين من الزمان ، وما هذا حاله لا يتحقّق منه اثنان (٢) إلّا وبينهما قطعة من الزمان.

الرابع : أنّ الأشياء في انطباقها على الزمان مختلفة ، فالحركة القطعيّة منطبقة على الزمان بلا واسطة ، واتّصاف أجزاء هذه الحركة بالتقدّم والتأخّر ونحوهما بتبع اتّصاف أجزاء الزمان بذلك. وكل آنيّ الوجود من الحوادث كالوصول والترك والاتّصال والانفصال منطبق على الآن ، والحركة التوسّطيّة منطبقة عليه بواسطة القطعيّة.

وتبيّن أيضا أنّ تصوير التوسّطيّ من الزمان ـ وهو المسمّى بالآن السيّال (٣) الّذي يرسم الامتداد الزمانيّ ـ تصوير وهميّ مجازيّ ، كيف؟ والزمان كمّ منقسم بالذات ، وقياسه إلى الوحدة السارية الّتي ترسم بتكرّرها العدد والنقطة السارية الّتي ترسم الخطّ في غير محلّه ، لأنّ الوحدة ليست بالعدد ، وإنّما ترسمه بتكرّرها لا بذاتها ، والنقطة نهاية عدميّة ، وتألّف الخطّ منها وهميّ.

الخامس : أنّ الزمان ليس له طرف موجود بالفعل ـ بمعنى جزء هو بدايته أو نهايته ، لا ينقسم في امتداد الزمان ـ وإلّا تألّف المقدار من أجزاء لا قدر لها وهو الجزء الّذي لا يتجزّى ، وهو محال. وإنّما ينفد الزمان بنفاد الحركة المعروضة (٤)

__________________

(١) وهو اجتماع حدّين عدميّين أو أكثر ، من غير تخلّل جزء من الزمان فاصل بينها.

(٢) أو أكثر.

(٣) وهو بسيط غير منقسم بالذات.

(٤) أي : الحركة الّتي معروضة للتصرّم والتقضّي. بيان ذلك : أنّه لا ريب في أنّ الحركة والزمان متصرّمان متقضّيان. إنّما الخلاف في أنّ التقضّي في كلّ منهما هل هو ذاتيّ أو أنّه في أحدهما ذاتيّ وفي الآخر عرضيّ؟ وعلى الثاني هل التقضّي ذاتيّ في الحركة وعرضيّ في الزمان أو هو عرضيّ في الحركة وذاتيّ في الزمان؟

أمّا الأوّل : فلا قائل به كما لا قائل بعرضيّته فيهما. ـ

١١٦

من الجانبين.

السادس : أنّ الزمان لا يتقدّم عليه شيء إلّا بتقدّم غير زمانيّ ، كتقدّم علّة الوجود وعلّة الحركة وموضوعها عليه (١).

السابع : أنّ القبليّة والبعديّة الزمانيّتين لا تتحقّقان بين شيء وشيء إلّا وبينهما زمان مشترك ينطبقان عليه.

ويظهر بذلك أنّه إذا تحقّق قبل زمانيّ بالنسبة إلى حركة أو متحرّك استدعى ذلك تحقّق زمان مشترك بينهما ، ولازم ذلك تحقّق حركة مشتركة ، ولازمه تحقّق مادّة مشتركة بينهما.

تنبيه :

اعتبار الزمان مع الحركات ـ والزمان مقدار متغيّر ـ يفيد تقدّرها وما يترتّب عليه من التقدّم والتأخّر. وقد تعتبر الموجودات الثابتة مع المتغيّرات فيفيد معيّة الثابت مع المتغيّر ، ويسمّى : «الدهر» (٢). وقد يعتبر الموجود الثابت مع الامور

__________________

ـ وأمّا الثاني : فذهب إليه الشيخ الإشراقيّ ـ على ما في هامش شرح المنظومة (قسم الحكمة) : ٢٥٨.

وأمّا الثالث : فهو مختار جمهور الحكماء ، وهو الحقّ. وذلك لأنّ الحركة مجرّد سيلان الطبيعة بحيث لم يلحظ معه مقدار خاصّ ، وبهذا الاعتبار ليست الحركة إلّا مجرّد السيلان ، لا كلّ ولا جزء ، وإذا لم يلحظ معها جزء فلا جزء له حتّى يكون قارّا أو غير قارّ بالذات. وأمّا الزمان فهو السيلان مقدّرا بمقدار خاصّ ، ففيه يزيد قدر الكلّ على الجزء ولا يجتمع جزء مع جزء آخر ، فهو غير قارّ الأجزاء بالذات. فالتقضّي والتصرّم ذاتيّ في الزمان وعرضيّ في الحركة. أمّا في الزمان فواضح ، وأمّا في الحركة فلأنّها أمر مبهم ، ولا يشاهد معها جزء لكي تكون غير قارّة الأجزاء بالذات. نعم يطرأ عليها التقضّي بعد تشخّصها بالزمان الّذي هو مقدار لها ، فهو عارض عليها بوساطة الزمان ، غاية الأمر يكون عروضه عليها من باب عوارض الماهيّة لا عوارض الوجود. فالزمان هو الحركة وجودا وإن يغايرها ماهيّة.

(١) أي : وتقدّم موضوعها عليه.

(٢) أي : يسمّى ظرف نسبة المتغيّر إلى الثابت «الدهر». وهو ـ كما في تعليقة الحكيم السبزواريّ على الأسفار ٣ : ١٦٧ ـ على قسمين : الدهر الأيمن والدهر الأيسر. وكلّ واحد ـ

١١٧

الثابتة ويفيد معيّة الثابت مع الامور الثابتة ويفيد معيّة الثابت الكلّيّ مع ما دونه من الثوابت ، وتسمّى : «السرمد» (١). وليس في الدهر والسرمد تقدّم ولا تأخّر ، لعدم التغيّر والانقسام فيهما.

قال في الأسفار : «وأمّا الموجودات الّتي ليست بحركة ولا في حركة فهي لا تكون في الزمان ، بل اعتبر ثباته مع المتغيّرات ، فتلك المعيّة تسمّى ب «الدهر». وكذا معيّة المتغيّرات مع المتغيّرات لا من حيث تغيّرها ، بل من حيث ثباتها ، إذ ما من شيء إلّا وله نحو من الثبات ، وإن كان ثباته ثبات التغيّر فتلك المعيّة أيضا دهريّة. وإن اعتبرت الامور الثابتة مع الامور الثابتة ، فتلك المعيّة هي السرمد. وليس بإزاء هذه المعيّة ولا الّتي قبلها تقدّم وتأخّر ، ولا استحالة في ذلك ، فإنّ شيئا منهما ليس مضايفا للمعيّة حتّى تستلزمهما» (٢). انتهى.

__________________

ـ منهما أيضا ينقسم إلى الأعلى والأسفل. أمّا الدهر الأيمن الأعلى فهو وعاء العقول الكلّيّة ، وأمّا الدهر الأيمن الأسفل فهو وعاء النفوس الكلّيّة ، وأمّا الدهر الأيسر الأعلى فهو وعاء المثل المعلّقة النوريّة ، وأمّا الدهر الأيسر الأسفل فهو وعاء الطبايع الكلّيّة.

(١) قال الحكيم السبزواريّ في شرح الأسماء الحسنى : ٧٢٢ : «فالسرمد ـ مفهوما ـ وعاء وجود الحقّ الدائم الّذي لا ماهيّة له ، فلا شيء وشيء هناك مطلقا ، فضلا عن شيء وشيء مثل ما يوجد في الكمّيّات والمتكمّمات القارّات أو السيّالات ، بل هو على حالة واحدة بسيطة ، في الأوّل بلا ابتداء والآخر بلا انتهاء».

(٢) راجع الأسفار ٣ : ١٨٢.

١١٨

الفصل الثاني عشر

في معنى السرعة والبطء

السرعة والبطء نعرفهما بمقايسة بعض الحركات إلى بعض ، فإذا فرضنا حركتين سريعة وبطيئة في مسافة ، فإن فرضنا اتّحاد المسافة اختلفتا في الزمان وكان زمان السريعة أقلّ وزمان البطيئة أكثر ، وإن فرضنا اتّحاد الزمان كانت المسافة المقطوعة للسريعة أكثر ومسافة البطيئة أقلّ.

وهما من المعاني الإضافيّة الّتي تتحقّق بالإضافة ، فإنّ البطيئة تعود سريعة إذا قيست إلى ما هو أبطأ منها (١) ، والسريعة تصير بطيئة إذا قيست إلى ما هو أسرع منها. فإذا فرضنا سلسلة من الحركات المتوالية المتزائدة في السرعة كان كلّ واحد من الأوساط ـ سوى الطرفين متّصفا بالسرعة والبطء معا ـ سريعا بالقياس إلى أحد الجانبين ، بطيئا بالقياس إلى الآخر ، فهما وصفان إضافيّان غير متقابلين ، كالطول والقصر ، والكبر والصغر (٢).

__________________

(١) وفي النسخ : «أبطأ منه» والصحيح ما أثبتناه.

(٢) وحاصل ما رامه : أنّ الاختلاف بين السرعة والبطء هو الاختلاف التشكيكيّ ، ولا تقابل بينهما. وهذا ممّا انفرد به المصنّف رحمه‌الله وقال ـ توضيحا له ـ في تعليقته على الأسفار ٣ : ١٩٨ : «الحقّ أنّ الصفة الثابتة الواقعيّة للحركة هي السرعة فحسب ، وهي حالة المرور والانقضاء ـ

١١٩

وأمّا ما قيل (١) : «إنّ البطء في الحركة بتخلّل السكون» فيدفعه ما تبيّن فيما تقدّم (٢) أنّ الحركة متّصلة لا تقبل الانقسام إلّا بالقوّة.

وربّما قيل (٣) : «إنّهما متضادّان». قال في الأسفار : «إنّ التقابل بين السرعة والبطء ليس بالتضايف ، لأنّ المضافين متلازمان في الوجودين وهما غير متلازمين في واحد من الوجودين. وليس تقابلهما أيضا بالثبوت والعدم ، لأنّهما إن تساويا في الزمان كانت السريعة قاطعة من المسافة ما لم تقطعها البطيئة ، وإن تساويا في المسافة كان زمان البطيئة أكثر ، فلأحدهما نقصان المسافة وللآخر نقصان الزمان ، فليس جعل أحدهما عدميّا أولى من جعل الآخر عدميّا ، فلم يبق

__________________

ـ الّتي في كلّ حركة ، وهي لمّا كانت مختلفة في الحركات نسب بعض مصاديقها إلى بعض فحصلت السرعة والبطء النسبيّتان ، فما من سرعة في حركة إلّا وهي بطء بالقياس إلى ما فى حركة هي أسرع منها ، وكذا الحال في جانب البطء ، فالسرعة في الحركة كالشدّة في الوجود ـ بمعنى ترتّب الآثار ـ. ثمّ ينشأ بمقايسة البعض إلى بعض معنى الشدّة والضعف ، وهما وصفان نسبيّان.

ومن هنا يظهر أنّ السريع مساوق للحركة مع انقسامها إلى السريعة والبطيئة ، كما أنّ الوحدة ـ مثلا ـ مساوقة للوجود مع انقسامه إلى الواحد والكثير.

ويتبيّن به أنّ السرعة والبطء لا تقابل بينهما حقيقة ، كما أنّ الواحد والكثير لا تقابل بينهما حقيقة ، وقد بيّنا ذلك في مباحث الواحد والكثير.

ويتبيّن أيضا أنّ البطء معلول تركّب الحركة كما أنّ الكثرة معلول تركّب الوجود ، فكلّما كانت الحركة أشدّ بساطة كانت أسرع ، وبالعكس في جانب البطء ، كما أنّ الوجود كلّما كان أبسط كان أشدّ وأقوى. وهذا وإن لم يذكره أحد من أساطين الحكمة لكنّه لا مناص منه بالنظر إلى براهين المسألة ، فتبصّر».

(١) والقائل هو أكثر المتكلّمين على ما نقل عنهم في شرح المقاصد ج ١ ص ٢٧٥ ، وكشف المراد ص ٢٧٠ ، وشوارق الإلهام ص ٤٨٣ ، وشرح التجريد القوشجيّ ص ٣٠٤.

(٢) في الفصل الخامس من هذه المرحلة.

(٣) والقائل هو بعض آخر من المتكلّمين ، كما ذهب إليه الفخر الرازيّ في المباحث المشرقيّة ١ : ٦٠٥. وتبعهم صدر المتألّهين في الأسفار ٣ : ١٩٨. بخلاف المشهور من الحكماء حيث ذهبوا إلى أنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة.

١٢٠