نهاية الحكمة - ج ١

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

نهاية الحكمة - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-470-623-3
ISBN الدورة:
978-964-470-005-7

الصفحات: ٢٨٣

خضرة دائما ، فيرتّب على ما يراه خضرة آثار الحمرة دائما.

والبرهان على ثبوت الوجود الذهنيّ أنّا نتصوّر هذه الامور الموجودة في الخارج ـ كالإنسان والفرس مثلا ـ على نعت الكلّيّة والصرافة (١) ، ونحكم عليها بذلك (٢) ، ولا نرتاب أنّ لمتصوّرنا هذا ثبوتا مّا في ظرف وجداننا ، وحكمنا عليه بذلك ، فهو موجود بوجود مّا ؛ وإذ ليس بهذه النعوت موجودا في الخارج ، لأنّه فيه على نعت الشخصيّة والاختلاط ، فهو موجود في ظرف آخر لا تترتّب عليه فيه آثاره الخارجيّة ، ونسمّيه : «الذهن».

وأيضا نتصوّر امورا عدميّة غير موجودة في الخارج ، كالعدم المطلق والمعدوم المطلق واجتماع النقيضين وسائر المحالات ، فلها ثبوت مّا عندنا لاتّصافها بأحكام ثبوتيّة كتميّزها من غيرها وحضورها لنا بعد غيبتها عنّا وغير ذلك ؛ وإذ ليس هو الثبوت الخارجيّ ، لأنّها معدومة فيه ففي الذهن.

ولا نرتاب أنّ جميع ما نعقله من سنخ واحد (٣) ، فالأشياء كما أنّ لها وجودا

__________________

(١) ولا يخفى أنّ تصوّر هذه الأمور على نعت الكلّيّة غير تصوّرها على نعت الصرافة ؛ فإنّ الأوّل من قبيل الماهيّة بشرط شيء ، لأنّ المراد من الكلّيّ هو الكلّيّ العقليّ ، كما أنّ المراد من تصوّرها على نعت الكلّيّة تصوّر طبيعتها مقيّدة بقيد الكلّيّة ، فمعنى تصوّر الإنسان على نعت الكلّيّة تصوّره مقيّدا بقيد الكلّيّة ، أي الإنسان الكلّيّ. وأمّا الثاني فهو من قبيل بشرط لا ، لأنّ المراد من الصرف هو الطبيعة من حيث هي ومحذوفا عنها ما يكثرها بالخلط والانضمام.

والحكيم السبزواريّ جعل كلّا من تصوّرها على نعت الكلّيّة وتصوّرها على نعت الصرافة دليلا على حدة. وتبعه المصنّف رحمه‌الله في بداية الحكمة. راجع شرح المنظومة (قسم الحكمة) : ٢٣ ، وبداية الحكمة : ٣٧.

(٢) أي : بنعت الكلّيّة والصرافة.

(٣) هذا دفع دخلين مقدّرين :

أحدهما : أنّ الدليل الأوّل إنّما يثبت الوجود الذهنيّ للكلّيّات ، دون الجزئيّات الموجودة ، فهو أخصّ من المدّعى.

وثانيهما : أنّ الدليل الثاني إنّما يدلّ على وجود الأعدام في الذهن. والمدّعى أنّ ماهيّات الأشياء موجودة في الذهن ، ولا ماهيّة للأعدام ، فهو لا يثبت المدّعى.

ودفعهما بأنّ جميع ما نعقله من سنخ واحد. وبتعبير آخر : لا نجد فرقا بين المفاهيم ـ سواء كانت كلّيّة أو جزئيّة ، وعدميّة أو وجوديّة ـ في نحو التصوّر والإدراك ، بل كلّها من سنخ ـ

٦١

في الخارج ذا آثار خارجيّة ، لها وجود في الذهن لا تترتّب عليها فيه تلك الآثار الخارجيّة ، وإن ترتّبت عليها آثار اخر غير آثارها الخارجيّة الخاصّة (١).

ولو كان هذا الّذي نعقله من الأشياء هو عين ما في الخارج ـ كما يذهب إليه القائل بالإضافة (٢) ـ لم يمكن تعقّل ما ليس في الخارج كالعدم والمعدوم (٣) ، ولم يتحقّق خطأ في علم (٤).

ولو كان الموجود في الذهن شبحا للأمر الخارجيّ نسبته إليه نسبة التمثال إلى ذي التمثال ارتفعت العينيّة من حيث الماهيّة ، ولزمت السفسطة ، لعود علومنا جهالات. على أنّ فعليّة الانتقال من الحاكي إلى المحكيّ تتوقّف على سبق علم بالمحكيّ ، والمفروض توقّف العلم بالمحكيّ على الحكاية (٥).

ولو كان كلّ علم مخطئا في الكشف عمّا وراءه لزمت السفسطة وأدّى إلى المناقضة ، فإنّ كون كلّ علم مخطئا يستوجب أيضا كون هذا العلم بالكلّيّة مخطئا فيكذب ، فيصدق نقيضه وهو كون بعض العلم مصيبا.

فقد تحصّل أنّ للماهيّات وجودا ذهنيّا لا تترتّب عليها فيه الآثار ، كما أنّ لها وجودا خارجيّا تترتّب عليها فيه الآثار. وتبيّن بذلك انقسام الموجود إلى خارجيّ وذهنيّ.

__________________

ـ واحد ، فجميعها موجودة في الذهن.

(١) ككونها كيفا نفسانيّا.

(٢) والقائل بها هو فخر الدين الرازيّ في المباحث المشرقيّة ١ : ٣٣١.

(٣) لأنّ الإضافة قائمة بالطرفين الوجوديّين ـ المضاف والمضاف إليه ـ. ولا يكاد يمكن تحقّقها بين الطرفين العدميّين أو بين الطرفين كان أحدهما وجوديّا والآخر عدميّا.

(٤) لأنّ الخطأ عبارة عن عدم مطابقة العلم للمعلوم. ولو كان العلم نفس الإضافة بين العالم والمعلوم لا يتصوّر هناك عدم المطابقة ، بل أمرها دائر بين الوجود والعدم ، فإن كانت الإضافة بين العالم والمعلوم موجودة فكان العلم مطابقا للمعلوم ، وإن لم تكن موجودة فلا علم أصلا.

(٥) وهذا دور ، بيان ذلك : أنّ الانتقال من العكس والحاكي إلى العاكس والمحكيّ يتوقّف على سبق علم بالمحكيّ حتّى تحكي الصور الذهنيّة عن المحكيّ ؛ ولو كان العلم بالمحكيّ متوقّفا على حكاية الصور الذهنيّة عن العاكس والمحكيّ ، لزم الدور ، وهو محال.

٦٢

وقد تبيّن بما مرّ امور :

الأمر الأوّل : أنّ الماهيّة الذهنيّة غير داخلة ولا مندرجة تحت المقولة الّتي كانت داخلة تحتها وهي في الخارج تترتّب عليها آثارها ، وإنّما لها من المقولة مفهومها فقط ، فالإنسان الذهنيّ وإن كان هو الجوهر الجسم الناميّ الحسّاس المتحرّك بالإرادة الناطق ، لكنّه ليس ماهيّة موجودة ، لا في موضوع بما أنّه جوهر ، ولا ذا أبعاد ثلاثة بما أنّه جسم ، وهكذا في سائر أجزاء حدّ الإنسان ؛ فليس له إلّا مفاهيم ما في حدّه من الأجناس والفصول من غير ترتّب الآثار الخارجيّة ، ونعني بها الكمالات الأوّليّة والثانويّة (١) ، ولا معنى للدخول والاندراج تحت مقولة إلّا ترتّب آثارها الخارجيّة ، وإلّا فلو كان مجرّد انطباق مفهوم المقولة على شيء كافيا في اندراجه تحتها كانت المقولة نفسها مندرجة تحت نفسها ، لحملها على نفسها ، فكانت فردا لنفسها ، وهذا معنى قولهم : «إنّ الجوهر الذهنيّ جوهر بالحمل الأوّليّ لا بالحمل الشائع» (٢).

وأمّا تقسيم المنطقيّين الأفراد إلى ذهنيّة وخارجيّة (٣) فمبنيّ على المسامحة تسهيلا للتعليم.

ويندفع بما مرّ إشكال أوردوه على القول بالوجود الذهنيّ (٤) ، وهو أنّ

__________________

(١) والمراد من «الكمالات الأوّليّة» هي الكمالات الذاتيّة والصور النوعيّة ، كالإنسانيّة والنطق والجوهريّة في الإنسان. والمراد من «الكمالات الثانويّة» هي الكمالات العرضيّة الخارجة عن جوهر الشيء ، كاللون والتعجّب والضحك في الإنسان.

(٢) راجع الأسفار ١ : ٢٧٩.

(٣) قالوا : «إنّ القضية الموجبة إمّا خارجيّة وهي الّتي حكم فيها على أفراد موضوعها الموجودة في الخارج ، وإمّا ذهنيّة وهي الّتي حكم فيها على الأفراد الذهنيّة فقط ، وإمّا حقيقيّة وهي الّتي حكم فيها على الأفراد النفس الأمريّة ، محقّقة كانت أو مقدّرة».

(٤) إن شئت تفصيل البحث عن هذا الإشكال والإشكالات اللاحقة وأجوبتها فراجع الفصل الثامن من المقالة الثالثة من إلهيّات الشفاء ، وتعليقة صدر المتألّهين عليه : ١٢٦ ـ ١٣٩ ، والتعليقات للشيخ الرئيس : ١٤٧ ـ ١٤٩ ، والأسفار ١ : ٢٧٧ ـ ٣١٤ ، و ٣ : ٣٠٥ ـ ٣١٢ ، والشواهد الربوبيّة : ٢٤ ـ ٣٥ ، والمباحث المشرقيّة ١ : ٣٣٧ ـ ٣٣٨ ، وإيضاح المقاصد : ٦ ـ ١٨.

٦٣

الذاتيّات منحفظة على القول بالوجود الذهنيّ ، فإذا تعقّلنا الجوهر كان جوهرا ، نظرا إلى انحفاظ الذاتيّات ، وهو بعينه عرض ، لقيامه بالنفس قيام العرض بموضوعه ، فكان جوهرا وعرضا بعينه ، واستحالته ظاهرة.

وجه الاندفاع : أنّ المستحيل كون شيء واحد جوهرا وعرضا معا بالحمل الشائع (١) ، والجوهر المعقول جوهر بالحمل الأوّليّ وعرض بالحمل الشائع ، فلا استحالة.

وإشكال ثان : وهو أنّ لازم القول بالوجود الذهنيّ أن يكون الجوهر المعقول جوهرا نظرا إلى انحفاظ الذاتيّات ، والعلم عندهم من الكيفيّات النفسانيّة ، فالمعقول من الجوهر مندرج تحت مقولة الجوهر وتحت مقولة الكيف ، وهو محال ، لأدائه إلى تناقض الذات ، لكون المقولات متباينة بتمام الذات. وكذا إذا تعقّلنا الكمّ ـ مثلا ـ كانت الصورة المعقولة مندرجة تحت مقولتي الكمّ والكيف معا ، وهو محال. وكذا إذا تعقّلنا الكيف المبصر ـ مثلا ـ كان مندرجا تحت نوعين من مقولة الكيف ، وهما الكيف المحسوس والكيف النفسانيّ.

وجه الاندفاع : أنّه كيف نفسانيّ بالحمل الشائع ، فهو مندرج تحته ، وأمّا غيره من المقولات أو أنواعها فمحمول عليه بالحمل الأوّليّ ، وليس ذلك من الاندراج في شيء.

إشكال ثالث : وهو أنّ لازم القول بالوجود الذهنيّ كون النفس حارّة وباردة معا ، ومربّعا ومثلّثا معا ، إلى غير ذلك من المتقابلات عند تصوّرها هذه الأشياء ، إذ لا نعني بالحارّ والبارد والمربّع والمثلّث إلّا ما حصلت له هذه المعاني الّتي توجد للغير وتنعته.

وجه الاندفاع : أنّ الملاك في كون وجود الشيء لغيره وكونه ناعتا له هو الحمل الشائع ، والّذي يوجد في الذهن ـ من برودة وحرارة ونحوهما ـ هو كذلك بالحمل الأوّليّ دون الشائع.

__________________

(١) بل بالحمل الأوّليّ أيضا ، فإنّ الشيء الواحد لا يمكن أن يكون جوهرا وعرضا معا مع وحدة الحمل ، سواء كان بالحمل الشائع أو الأوّليّ.

٦٤

وإشكال رابع : وهو أنّ اللازم منه كون شيء واحد كلّيّا وجزئيّا معا ، وبطلانه ظاهر. بيان الملازمة : أنّ الإنسان المعقول ـ مثلا ـ من حيث تجويز العقل صدقه على كثيرين كلّيّ ، وهو بعينه من حيث كونه موجودا قائما بنفس واحدة شخصيّة يتميّز بها عن غيره جزئيّ ، فهو كلّيّ وجزئيّ معا.

وجه الاندفاع : أنّ الجهة مختلفة ، فالإنسان المعقول ـ مثلا ـ من حيث إنّه مقيس إلى الخارج كلّيّ ، ومن حيث إنّه كيف نفسانيّ قائم بالنفس غير مقيس إلى الخارج جزئيّ.

وإشكال خامس : وهو أنّا نتصوّر المحالات الذاتيّة ، كشريك البارئ وسلب الشيء عن نفسه ، واجتماع النقيضين وارتفاعهما ، فلو كانت الأشياء حاصلة بذواتها في الذهن استلزم ذلك ثبوت المحالات الذاتيّة.

وجه الاندفاع : أنّ الثابت في الذهن إنّما هو مفاهيمها بالحمل الأوّليّ لا مصاديقها بالحمل الشائع. فالمتصوّر من شريك البارئ هو شريك البارئ بالحمل الأوّليّ. وأمّا بالحمل الشائع فهو ممكن وكيف نفسانيّ معلول للبارئ مخلوق له.

الأمر الثاني : أنّ الوجود الذهنيّ لمّا كان لذاته مقيسا إلى الخارج كان بذاته حاكيا لما وراءه ، فامتنع أن يكون للشيء وجود ذهنيّ من دون أن يكون له وجود خارجيّ محقّق ، كالماهيّات الحقيقيّة المنتزعة من الوجود الخارجيّ ، أو مقدّر ، كالمفاهيم غير الماهويّة الّتي يتعمّلها الذهن بنوع من الاستمداد من معقولاته ، فيتصوّر مفهوم العدم ـ مثلا ـ ويقدّر له ثبوتا مّا يحكيه بما تصوّره من المفهوم.

وبالجملة : شأن الوجود الذهنيّ الحكاية لما وراءه من دون أن تترتّب آثار المحكيّ على الحاكي. ولا ينافي ذلك ترتّب آثار نفسه الخاصّة به من حيث إنّ له ماهيّة الكيف. وكذا لا ينافيه ما سيأتي (١) أنّ الصور العلميّة مطلقا مجرّدة عن المادّة ، فإنّ ترتّب آثار الكيف النفسانيّ وكذا التجرّد حكم الصور العلميّة في نفسها ، والحكاية وعدم ترتّب الآثار حكمها قياسا إلى الخارج ومن حيث كونها وجودا

__________________

(١) في الفصل الأوّل من المرحلة الحادية عشرة.

٦٥

ذهنيّا لماهيّة كذا خارجيّة.

ويندفع بذلك إشكال أوردوه على القائلين بالوجود الذهنيّ (١) ؛ وهو أنّا نتصوّر الأرض على سعتها بسهولها وبراريها وجبالها وما يحيط بها من السماء بأرجائها البعيدة ، والنجوم والكواكب بأبعادها الشاسعة ، وحصول هذه المقادير العظيمة في الذهن ـ أي انطباعها في جزء عصبيّ أو جزء دماغيّ ـ من انطباع الكبير في الصغير ، وهو محال.

ولا يجدى الجواب عنه بما قيل (٢) : «إنّ المحلّ الّذي ينطبع فيه الصور منقسم إلى غير النهاية» فإنّ الكفّ لا تسع الجبل وإن كانت منقسمة إلى غير النهاية (٣).

وجه الاندفاع : أنّ الحقّ ـ كما سيأتي بيانه (٤) ـ أنّ الصور العلميّة الجزئيّة غير مادّيّة ، بل مجرّدة تجرّدا مثاليّا فيه آثار المادّة من الأبعاد والألوان والأشكال ، دون نفس المادّة ، والانطباع من أحكام المادّة ، ولا انطباع في المجرّد.

وبذلك يندفع أيضا إشكال آخر : هو أنّ الإحساس والتخيّل على ما بيّنه علماء الطبيعة بحصول صور الأجسام بما لها من النسب والخصوصيّات الخارجيّة في الأعضاء الحسّاسة ، وانتقالها إلى الدماغ مع ما لها من التصرّف في الصور

__________________

(١) إنّ هذا الإشكال مستفاد ممّا أورده أصحاب الشعاع (وهم الرياضيّون) على أصحاب الانطباع (يعني المعلّم الأوّل ومن تبعه) في كيفيّة الإبصار ، فإنّهم أوردوا عليهم بأنّ الجبل إذا رأيناه مع عظمه ـ والرؤية إنّما هي بالصورة المنطبعة في الجليديّة ـ فإن كان هذا المقدار العظيم للصورة المنطبعة فكيف حصل المقدار الكبير في حدقة صغيرة؟. راجع شرح حكمة الإشراق : ٢٦٩.

(٢) والقائل بعض من أصحاب الانطباع. قال الشيخ الإشراقيّ ـ بعد ذكر ما أورده أصحاب الشعاع على أصحاب الانطباع ـ ما حاصله : «أجاب بعض من أصحاب الانطباع عن هذا الإيراد ـ وهو استبعاد حصول المقدار الكبير في الصغير ـ بأنّ الرطوبة الجليديّة تقبل القسمة إلى غير النهاية ، والجبل أيضا صورته قابلة للقسمة إلى غير النهاية ، وإذا اشتركا في لا نهاية القسمة فيجوز أن يحصل المقدار الكبير فيها» ـ انتهى. راجع شرح حكمة الإشراق : ٢٦٩.

(٣) هكذا قال صدر المتألّهين في الأسفار ١ : ٢٩٩. وصرّح أيضا الشيخ الإشراقيّ ببطلان ذلك الجواب ، فراجع شرح حكمة الإشراق : ٢٦٩.

(٤) في الفصل الأوّل والثاني من المرحلة الحادية عشرة.

٦٦

بحسب طبائعها الخاصّة ، والإنسان ينتقل إلى خصوصيّات مقاديرها وأبعادها وأشكالها بنوع من المقايسة بين أجزاء الصورة الحاصلة عنده ـ على ما فصّلوه في محلّه ـ. ومن الواضح أنّ هذه الصور الحاصلة المنطبعة بخصوصيّاتها في محلّ مادّيّ مباينة للماهيّات الخارجيّة ، فلا مسوّغ للقول بالوجود الذهنيّ وحضور الماهيّات الخارجيّة بأنفسها في الأذهان.

وجه الاندفاع : أنّ ما ذكروه ـ من الفعل والانفعال المادّيّين عند حصول العلم بالجزئيّات ـ في محلّه ، لكنّ هذه الصور المنطبعة ليست هي المعلومة بالذات ، وإنّما هي امور مادّيّة معدّة للنفس تهيّؤها لحضور الماهيّات الخارجيّة عندها بصور مثاليّة مجرّدة غير مادّيّة بناء على ما سيتبيّن من تجرّد العلم مطلقا (١) ، وقد عرفت أيضا (٢) أنّ القول بمغايرة الصور عند الحسّ والتخيّل لذوات الصور الّتي في الخارج لا ينفكّ عن السفسطة.

الأمر الثالث : أنّه لمّا كانت الماهيّات الحقيقيّة الّتي تترتّب عليها آثارها في الخارج هي الّتي تحلّ الأذهان بدون ترتّب آثارها الخارجيّة ، فلو فرض هناك أمر حيثيّة ذاته عين أنّه في الخارج ونفس ترتّب الآثار ـ كنفس الوجود العينيّ وصفاته القائمة به كالقوّة والفعل والوحدة والكثرة ونحوها ـ كان ممتنع الحصول بنفسها في الذهن ، وكذا لو فرض أمر حيثيّة ذاته المفروضة حيثيّة البطلان وفقدان الآثار ، كالعدم المطلق وما يؤول إليه ، امتنع حلوله الذهن.

فحقيقة الوجود وكلّ ما حيثيّة ذاته حيثيّة الوجود وكذا العدم المطلق وكلّ ما حيثيّة ذاته المفروضة حيثيّة العدم يمتنع أن يحلّ الذهن حلول الماهيّات الحقيقيّة. وإلى هذا يرجع معنى قولهم : «إنّ المحالات الذاتيّة لا صورة صحيحة لها في الأذهان».

وسيأتي إن شاء الله بيان كيفيّة انتزاع مفهوم الوجود وما يتّصف به والعدم وما يؤول إليه في مباحث العقل والعاقل والمعقول (٣).

__________________

(١) في الفصل الأوّل من المرحلة الحادية عشرة.

(٢) في بدوّ هذا الفصل.

(٣) في الفصل الأوّل من المرحلة الحادية عشرة.

٦٧
٦٨

المرحلة الرابعة

في موادّ القضايا [*]

[الوجوب والامتناع والإمكان]

وانحصارها في ثلاث

والمقصود بالذات فيها بيان انقسام الموجود إلى الواجب والممكن ،

والبحث عن خواصّهما ، وأمّا البحث عن الممتنع وخواصّه

فمقصود بالتّبع وبالقصد الثاني [**]

وفيها ثمانية فصول

__________________

(*) وسمّاها صدر المتألّهين باصول الكيفيّات وعناصر العقود.

(**) لأنّ الممتنع مفهوم عدميّ لا يتّصف به الموجود ، فهو غير لائق بالفلسفة الباحثة عن أحوال الموجود. ولأجل ذلك اختصّ الحكيم السبزواريّ عنوان البحث بالوجوب والإمكان ، فقال : «الفريدة الثانية في الوجوب والإمكان». شرح المنظومة (قسم الحكمة) : ٦١

٦٩
٧٠

الفصل الأوّل

في أنّ كلّ مفهوم إمّا واجب وإمّا ممكن وإمّا ممتنع (١)

__________________

(١) لا يخفى ما في هذا التقسيم ، لأنّه إن كان المراد من المفهوم ـ الّذي جعل مقسما ـ هو المفهوم بالحمل الأوّليّ فلا ريب أنّه بالحمل الأوّليّ ليس إلّا المدرك والمعلوم ، ضرورة أنّ مفهوم كلمة «المفهوم» هو ما يدرك ويعلم ، كما أنّ مفهوم كلمة «الإنسان» هو الحيوان الناطق فقط. فهو بالحمل الأوّلي لا واجب ولا ممكن ولا ممتنع.

وإن كان المراد منه المفهوم بالحمل الشائع ـ أي مصداق المفهوم ـ ففيه وجهان :

الأوّل : أن يكون المراد منه المصداق الحقيقيّ للمفهوم ـ وهو المفهوم بالذات ـ كمفهوم الإنسان أو مفهوم الوجود أو مفهوم اجتماع النقيضين أو غيرها من المصاديق الذهنيّة للمفهوم ، فهذه المصاديق كما يمكن أن يوجد في الذهن بعد تصوّرها يمكن أن يعدم ويذهب عنه ، فهي مصاديق ذهنيّة ممكنة ، ولا تتّصف بالوجوب أو الامتناع.

الثاني : أن يكون المراد من مصداق المفهوم مصداقه بالعرض ، وهو المصاديق الخارجيّة الّتي تحكي عنها المفاهيم بالذات ـ أي المصاديق الذهنيّة ـ كحقيقة الموجود المطلق الّتي يحكي عنها مفهوم الموجود المطلق الّذي كان موطنه الذهن ، وحقيقة الإنسان الّتي يحكي عنها مفهوم الإنسان الّذي كان موطنه الذهن. وهذه المصاديق الموجودة في الخارج منها :

ما يكون الوجود ضروريّا له ـ أي لا يمكن أن يعدم كما لم يكن معدوما ـ فهو الواجب ، ومنها :

ما لا يكون الوجود ضروريّا له ـ أي يمكن أن يعدم كما كان معدوما ، وإن كان فعلا موجودا ، وكان الوجود حين وجوده ضروريّا له ـ فهو الممكن.

فالأولى أن يقال : «كلّ موجود ـ وهذا العنوان يشمل المصاديق الذهنيّة أيضا ، فإنّها وإن كانت ذهنيّة بالقياس إلى الخارج إلّا أنّها في نفسها خارجيّة ـ إمّا أن يكون الوجود ضروريّا له ـ أي لا يمكن أن يعدم كما لم يكن معدوما ـ وهو الواجب ، وإمّا أن لا يكون الوجود ضروريّا له ـ

٧١

كلّ مفهوم فرضناه ثمّ نسبنا إليه الوجود (١) فإمّا أن يكون الوجود ضروريّ الثبوت له وهو الوجوب ، أو يكون ضروريّ الانتفاء عنه ـ وذاك كون العدم ضروريّا له (٢) ـ وهو الامتناع ، أو لا يكون الوجود ضروريّا له ولا العدم ضروريّا له وهو الإمكان. وأمّا احتمال كون الوجود والعدم معا ضروريّين له فمندفع بأدنى التفات (٣). فكلّ مفهوم مفروض إمّا واجب وإمّا ممتنع وإمّا ممكن.

وهذه قضيّة منفصلة حقيقيّة مقتنصة (٤) من تقسيمين دائرين بين النفي والإثبات بأن يقال : «كلّ مفهوم مفروض ، فإمّا أن يكون الوجود ضروريّا له أو لا. وعلى الثاني فإمّا أن يكون العدم ضروريّا له أو لا. الأوّل هو الواجب ، والثاني هو الممتنع ، والثالث هو الممكن».

والذيّ يعطيه التقسيم من تعريف الموادّ الثلاث أنّ وجوب الشيء كون وجوده ضروريّا له ، وامتناعه كون عدمه ضروريّا له ، وإمكانه سلب الضرورتين بالنسبة إليه. فالواجب ما يجب وجوده ، والممتنع ما يجب عدمه ، والممكن ما ليس يجب وجوده ولا عدمه (٥).

__________________

ـ أي يمكن أن يعدم ـ وهو الممكن».

والوجه في الأولويّة أنّ ما ذكرناه هو اللائق بمباحث الفلسفة الباحثة عن أحوال الموجود.

(١) وأنت خبير بأن لا معنى للمفهوم المفروض إلّا المفهوم الموجود في الذهن ، وهو موجود ممكن فقط كما مرّ.

(٢) لا يخفى أنّ العدم لا شيئيّة له حتّى يقال : «إنّه ضروريّ للشيء».

(٣) للزوم اجتماع النقيضين.

(٤) والوجه في كونها مقتنصة أنّ المنفصلة الحقيقيّة لا يزيد أطرافها عن اثنين ، فكلّما زاد أطراف المنفصلة عن اثنين فالمنفصلة مقتنصة من منفصلات حقيقيّة اخرى لا تزيد أطرافها عن اثنين.

(٥) قال الرازيّ في المباحث المشرقيّة ١ : ١١٣ : «ولمّا كان الوجوب أقرب إليه [أي إلى العقل] لا جرم كان أعرف عند العقل ، فلهذا يكون تعريف الإمكان والامتناع بالوجوب أولى من العكس».

وفيه : أوّلا : لا وجه لكون الوجوب أقرب إلى العقل. وثانيا : لو سلّم فإنّما يكون تعريف الإمكان والامتناع بالوجوب أولى من العكس ، وأمّا تعريف الواجب بالوجوب تعريف ـ

٧٢

وهذه جميعا تعريفات لفظيّة من قبيل شرح الاسم المفيد للتنبيه ، وليست بتعريفات حقيقيّة (١) ، لأنّ الضرورة واللاضرورة من المعاني البيّنة البديهيّة الّتي ترتسم في النفس ارتساما أوّليّا تعرف بنفسها ويعرف بها غيرها. ولذلك من حاول أن يعرّفها تعريفا حقيقيّا أتى بتعريفات دوريّة ، كتعريف الممكن ب «ما ليس بممتنع» (٢) ، وتعريف الواجب ب «ما يلزم من فرض عدمه محال» أو «ما فرض عدمه محال» (٣) ، وتعريف المحال ب «ما يجب أن لا يكون» إلى غير ذلك.

والّذي يقع البحث عنه في هذا الفنّ ـ الباحث عن الموجود بما هو موجود ـ بالقصد الأوّل من هذه الموادّ الثلاث هو الوجوب والإمكان ـ كما تقدّمت الإشارة إليه (٤) ـ وهما وصفان ينقسم بهما الموجود من حيث نسبة وجوده إليه انقساما أوّليّا.

وبذلك يندفع ما اورد على كون الإمكان وصفا ثابتا للممكن (٥) يحاذي الوجوب الّذي هو وصف ثابت للواجب. تقريره : أنّ الإمكان ـ كما تحصّل من التقسيم السابق ـ سلب ضرورة الوجود وسلب ضرورة العدم ، فهما سلبان اثنان ، وإن عبّر عنهما بنحو قولهم : «سلب الضرورتين» فكيف يكون صفة واحدة ناعتة للممكن (٦)؟! سلّمنا أنّه يرجع إلى سلب الضرورتين وأنّه سلب واحد ، لكنّه

__________________

ـ للشيء بنفسه ، وبطلانه واضح.

(١) ونبّه عليه أكثر المحقّقين ، فراجع الفصل الخامس من المقالة الاولى من إلهيّات الشفاء ، والأسفار ١ : ٨٣ ، والتحصيل : ٢٩١ ، وشرح المواقف : ١٢٨ ، وشرح المقاصد ١ : ١١٤ ، والمباحث المشرقيّة ١ : ١١٣ ، وشرح التجريد للقوشجيّ : ٢٩ ، وشوارق الإلهام : ٨٦ ، وشرح المنظومة : ٦٣ ، وكشف المراد : ٤٢.

(٢) قال الشيخ الإشراقيّ : «والعامّة قد يعنون بالممكن ما ليس بممتنع» راجع شرح حكمة الإشراق : ٧٨

(٣) هكذا عرّفه الشيخ الرئيس في النجاة : ٢٢٤.

(٤) في صدر هذه المرحلة.

(٥) فالدعوى أنّ الإمكان وصف للممكن ، وهذا الوصف واحد أوّلا وثبوتيّ ثانيا ، كما أنّ الوجوب وصف واحد ثبوتيّ للواجب تعالى.

(٦) أي : هنا ايراد على الشقّ الأوّل من الدعوى ، وهو كون الإمكان وصفا. وحاصله : أنّ الإمكان يرجع إلى وصفين للممكن : (أحدهما) سلب ضرورة الوجوب. و (ثانيهما) سلب ـ

٧٣

ـ كما يظهر من التقسيم ـ سلب تحصيليّ لا إيجاب عدوليّ ، فما معنى اتّصاف الممكن به في الخارج ولا اتّصاف إلّا بالعدول (١)؟ كما اضطرّوا إلى التعبير عن الإمكان بأنّه لا ضرورة الوجود والعدم ، وبأنّه استواء نسبة الماهيّة إلى الوجود والعدم ، عند ما شرعوا في بيان خواصّ الإمكان ، ككونه لا يفارق الماهيّة وكونه علّة للحاجة إلى العلّة ، إلى غير ذلك.

وجه الاندفاع (٢) : أنّ القضيّة المعدولة المحمول تساوي السالبة المحصّلة عند وجود الموضوع ، وقولنا : «ليس بعض الموجود ضروريّ الوجود ولا العدم» وكذا قولنا : «ليست الماهيّة من حيث هي ضروريّة الوجود ولا العدم» الموضوع فيه موجود ، فيتساوي الإيجاب العدوليّ (٣) والسلب التحصيليّ (٤) في الإمكان.

ثمّ لهذا السلب نسبة إلى الضرورة (٥) وإلى موضوعه المسلوب عنه الضرورتان (٦) ، يتميّز بها من غيره ، فيكون عدما مضافا ، له حظّ من الوجود ، وله ما تترتّب عليه من الآثار ، وإن وجده العقل أوّل ما يجد في صورة السلب

__________________

ـ ضرورة العدم. فكيف يكون وصفا واحدا للممكن؟!

(١) ومن قوله : «سلّمنا» إلى هنا ، إيراد على الشقّ الثاني من الدعوى ، وهو كون الإمكان وصفا ثبوتيّا. وحاصله : أنّ الإمكان سلب الضرورتين ، وهو أمر عدميّ ، فإنّه سلب تحصيليّ ، لا إيجاب عدوليّ ، فلا يصحّ أن يقع وصفا للنسبة الحكميّة الثبوتيّة.

(٢) أجاب عنه صدر المتألّهين بأنّ الإمكان وإن كان سلبيّا إلّا أنّه لمّا كان بحسب كون المقسم هو الماهيّة من حيث اتّصافه وصفا ثبوتيّا يكون ما في مورد الإمكان قضيّة موجبة سالبة المحمول لا سالبة بسيطة ، فيكون هناك للماهيّة وصف الإمكان.

وأورد عليه المصنّف رحمه‌الله بما في تعليقته على الأسفار. ثمّ أجاب عن الإيراد بما أجاب به الحكيم السبزواريّ في تعليقته على الأسفار من أنّ السلب التحصيليّ يساوي الإيجاب العدوليّ عند وجود الموضوع. راجع الأسفار ١ : ١٦٩ ـ ١٧٠.

(٣) وهو قضيّة : «الماهيّة من حيث هي غير موجودة ولا معدومة بالضرورة».

(٤) وهو قضيّة : «ليست الماهيّة من حيث هي موجودة ولا معدومة بالضرورة».

(٥) حيث يقال : «الوجود والعدم ليسا بضروريّين للماهيّة».

(٦) وهو الماهيّة.

٧٤

التحصيليّ كما يجد العمى ـ وهو عدم مضاف ـ كذلك أوّل ما يجده.

ويتفرّع على ما تقدّم امور :

الأمر الأوّل : أنّ موضوع الإمكان هو الماهيّة ، إذ لا يتّصف الشيء بلا ضرورة الوجود والعدم إلّا إذا كان في نفسه خلوا من الوجود والعدم جميعا وليس إلّا الماهيّة من حيث هي ، فكلّ ممكن فهو ذو ماهيّة. وبذلك يظهر معنى قولهم : «كلّ ممكن زوج تركيبيّ ، له ماهيّة ووجود» (١).

وأمّا إطلاق الممكن على وجود غير الواجب بالذات وتسميته بالوجود الإمكانيّ فاصطلاح آخر في الإمكان والوجوب ، يستعمل فيه الإمكان والوجوب بمعنى الفقر الذاتيّ ، والغنى الذاتيّ ، وليس يراد به سلب الضرورتين ، أو استواء النسبة إلى الوجود والعدم ، إذ لا يعقل ذلك بالنسبة إلى الوجود.

الأمر الثاني : أنّ الإمكان لازم الماهيّة ، إذ لو لم يلزمها جاز أن تخلو منه فكانت واجبة أو ممتنعة ، فكانت في نفسها موجودة أو معدومة ، والماهيّة من حيث هي لا موجودة ولا معدومة.

والمراد بكونه لازما لها أنّ فرض الماهيّة من حيث هي يكفي في اتّصافها بالإمكان ، من غير حاجة إلى أمر زائد (٢) ، دون اللزوم الاصطلاحيّ ، وهو كون الملزوم علّة مقتضية لتحقّق اللازم ولحوقه به (٣) ، إذ لا اقتضاء في مرتبة الماهيّة من حيث هي إثباتا ونفيا.

لا يقال : تحقّق سلب الضرورتين في مرتبة ذات الماهيّة يقضي بكون الإمكان داخلا في ذات الشيء ، وهو ظاهر الفساد.

فإنّا نقول : إنّما يكون محمول من المحمولات داخلا في الذات إذا كان الحمل حملا أوّليّا الّذي ملاكه الاتّحاد المفهوميّ ، دون الحمل الشائع الّذي ملاكه الاتّحاد

__________________

(١) راجع الفصل السابع من المقالة الاولى من إلهيّات الشفاء.

(٢) أي : لا تحتاج في اتّصافها به إلى سبب خارج عنها.

(٣) نحو قولنا : «الحرارة لازمة للنار» أي النار علّة للحرارة.

٧٥

الوجوديّ ، والإمكان وسائر لوازم الماهيّات الحمل بينها وبين الماهيّة من حيث هي حمل شائع لا أوّليّ.

الأمر الثالث : أنّ الإمكان موجود بوجود موضوعه في الأعيان ، وليس اعتبارا عقليّا محضا لا صورة له في الأعيان ، كما قال به بعضهم (١) ، ولا أنّه موجود في الخارج بوجود مستقلّ منحاز كما قال به آخرون (٢).

أمّا أنّه موجود في الأعيان بوجود موضوعه (٣) فلأنّه قسيم في التقسيم للواجب (٤) الّذي ضرورة وجوده في الأعيان ، فارتفاع الضرورة الّذي هو الإمكان هو في الأعيان. وإذ كان موضوعا في التقسيم المقتضي لاتّصاف المقسم بكلّ واحد من الأقسام كان في معنى وصف ثبوتيّ يتّصف به موضوعه ، فهو معنى عدميّ له حظّ من الوجود ، والماهيّة متّصفة به في الأعيان. وإذ كانت متّصفة به في الأعيان فله وجود فيها ، على حدّ الأعدام المضافة الّتي هي أوصاف عدميّة ناعتة لموصوفاتها موجودة بوجودها ، والآثار المترتّبة عليه في الحقيقة هي ارتفاع آثار الوجوب من صرافة الوجود وبساطة الذات والغنى عن الغير وغير ذلك.

وقد اتّضح بهذا البيان فساد قول من قال (٥) : «إنّ الإمكان من الاعتبارات العقليّة المحضة الّتي لا صورة لها في خارج ولا ذهن». وذلك لظهور أنّ ضرورة

__________________

(١) وهو الشيخ الإشراقيّ في حكمة الإشراق : ٧١ ـ ٧٢ حيث قال : «وأمّا الصفات العقليّة إذا اشتقّ منها وصارت محمولة كقولنا : «كلّ جسم هو ممكن» فالممكنيّة والإمكان كلاهما عقليّان فحسب ـ أي ليس شيء منهما بخارجيّ ـ».

واستوفى البحث عن ذلك في المطارحات : ٣٤٣ ، والتلويحات : ٢٥.

وذهب إليه أيضا المحقّق الطوسيّ واستدلّ عليه بوجوه ، فراجع كشف المراد : ٤٩ ـ ٥١ ، وشرح التجريد للقوشجيّ : ٣٣ ـ ٣٥ ، والمسألة العشرين من الفصل الأوّل من شوارق الإلهام.

(٢) وهم الحكماء المشّاؤون من أتباع المعلّم الأوّل ، على ما في الأسفار ١ : ١٣٩.

(٣) قبال من قال : إنّه موجود في الخارج بوجود منحاز مستقلّ.

(٤) أي : في تقسيم الموجود إلى الواجب والممكن.

(٥) والقائل هو الشيخ الإشراقيّ والمحقّق الطوسيّ كما مرّ.

٧٦

وجود الموجود أمر وعاؤه الخارج وله آثار خارجيّة وجوديّة (١).

وكذا قول من قال (٢) : «إنّ للإمكان وجودا في الخارج منحازا مستقلّا». وذلك لظهور أنّه معنى عدميّ واحد مشترك بين الماهيّات ، ثابت بثبوتها في أنفسها ، وهو سلب الضرورتين ، ولا معنى لوجود الأعدام بوجود منحاز مستقلّ. على أنّه لو كان موجودا في الأعيان بوجود منحاز مستقلّ كان إمّا واجبا بالذات وهو ضروريّ البطلان ، وإمّا ممكنا وهو خارج عن ثبوت الماهيّة ، لا يكفي فيه ثبوتها في نفسها ، فكان بالغير ، وسيجيء استحالة الإمكان بالغير (٣).

وقد استدلّوا (٤) على ذلك بوجوه (٥) ، أوجهها : أنّ الممكن لو لم يكن ممكنا في الأعيان لكان إمّا واجبا فيها أو ممتنعا فيها ، فيكون الممكن ضروريّ الوجود أو ضروريّ العدم ، هذا محال.

ويردّه : أنّ الاتّصاف بوصف في الأعيان لا يستلزم تحقّق الوصف فيها بوجود منحاز مستقلّ ، بل يكفي فيه أن يكون موجودا بوجود موصوفه. والإمكان من المعقولات الثانية الفلسفيّة الّتي عروضها في الذهن والاتّصاف بها في الخارج ، وهي موجودة في الخارج بوجود موضوعاتها (٦).

__________________

(١) فرفع هذه الضرورة ـ وهو الإمكان ـ أيضا في الخارج.

(٢) ذهب إليه الحكماء المشّاؤون من أتباع المعلّم الأوّل كما مرّ.

(٣) في الفصل الآتي.

(٤) أي : القائلين بأنّ للإمكان وجودا في الخارج منحازا مستقلّا.

(٥) تعرّض لها صدر المتألّهين في الأسفار ١ : ١٧٨ ـ ١٧٩.

(٦) هكذا ردّه صدر المتألّهين في الأسفار ١ : ١٨٠ ـ ١٨١.

قال الحكيم السبزواريّ : «الحاصل أنّ الاتّصاف في أيّ ظرف فرع ثبوت المتّصف في ذلك الظرف لا الصفة فيه ؛ وأنّ ثبوت شيء لشيء في ظرف فرع ثبوت المثبت له في ذلك الظرف لا الثابت فيه. وأنت تعلم أنّه فرق بين المعقول الثاني الفلسفيّ والمعقول الثاني المنطقيّ». راجع تعليقته على الأسفار ١ : ١٨٠.

واعلم أنّ المفاهيم قسمان : (أحدهما) المفاهيم الجزئيّة ، كمفهوم زيد ، عمرو ، بكر.

(ثانيهما) المفاهيم الكلّيّة ، كمفهوم الشجر ، والإنسان ، والإمكان ، والمعرّف ، وغيرها.

وتسمّى المفاهيم الكلّيّة ب «المعقولات» لأنّ موطنها العقل. ـ

٧٧

وقد تبيّن ممّا تقدّم أنّ الإمكان معنى واحد مشترك كمفهوم الوجود.

تنبيه [في أقسام الضرورة] :

تنقسم الضرورة إلى : ضرورة أزليّة ، وهي : كون المحمول ضروريّا للموضوع لذاته ، من دون أيّ قيد وشرط حتّى الوجود ، وتختصّ بما إذا كانت ذات الموضوع وجودا قائما بنفسه بحتا لا يشوبه عدم ولا تحدّه ماهيّة ، وهو الوجود الواجبيّ تعالى وتقدّس فيما يوصف به من صفاته الّتي هي عين ذاته. وإلى ضرورة ذاتيّة ، وهي : كون المحمول ضروريّا للموضوع لذاته مع الوجود لا بالوجود (١) ، كقولنا :

__________________

ـ والمعقولات أيضا قسمان :

١ ـ المعقولات الاولى : وهي المفاهيم الكلّيّة الّتي لها ما بإزاء في الخارج. وتسمّى أيضا : «الماهيّات» أو «الحقائق» ، كمفهوم الشجر ، والإنسان ، والغنم ؛ فإنّ هذه مفاهيم تحكي عن الحقائق الخارجيّة.

٢ ـ المعقولات الثانية : وهي المفاهيم الكلّيّة الّتي ليس لها ما بإزاء في الخارج ، فليست صور الحقائق الخارجيّة بل هي أحكام وصفات للأشياء. فإن كانت صفاتا للمفاهيم الذهنيّة للأشياء بحيث لا تتّصف الأشياء بها إلّا في الذهن فهي تسمّى : «المعقولات الثانية المنطقيّة» كالنوعيّة والجنسيّة والعرضيّة والقضيّة وغيرها ، فإنّ اتّصاف الإنسان مثلا بالنوعيّة ـ أي مفهوم الإنسان نوع ـ في العقل كما أنّ عروضه له في العقل. وإن كانت صفاتا للحقائق الخارجيّة نفسها فهي تسمّى : «المعقولات الثانية الفلسفيّة» كالعلّة والمعلول والواحد والكثير ، فإنّ مفهوم النار ـ مثلا ـ لا يتّصف بالعلّيّة بل نفس حقيقتها الخارجيّة تتّصف بها ، ضرورة أنّها في الخارج علّة للحرارة ، كما أنّ مفهوم النار لا يتّصف بالوحدانيّة ، حيث إنّ مفهوم النار أمر كلّيّ ، بل حقيقتها الخارجيّة تتّصف بها في الخارج ، وإن كان عروضها لها في الذهن ، لأنّها لم يحاذها شيء في الخارج ، وعروض شيء لشيء فرع ثبوت المثبت والمثبت له.

والإمكان أيضا من المعقولات الثانية الفلسفيّة ، أي أنّه من صفات الحقائق الخارجيّة وتتّصف به الأشياء في الخارج ، ويعرض لها في الذهن.

(١) قوله : «مع الوجود» أي حين كون الموضوع موجودا. وقوله : «لا بالوجود» أي من دون أن يكون الوجود قيدا أو علّة لكون المحمول ضروريّا له. وهذه الضرورة إنّما تتحقّق في ثبوت الشيء لنفسه وثبوت ذاتيّات ولوازم ذاته له ، ضرورة أنّ ثبوت الشيء يحتاج ـ

٧٨

«كلّ إنسان حيوان بالضرورة» (١) فالحيوانيّة ذاتيّة للإنسان ضروريّة له ما دام موجودا ومع الوجود ، ولو لاه لكان باطل الذات ، لا إنسان ولا حيوان. وإلى ضرورة وصفيّة (٢) ، وهي : كون المحمول ضروريّا للموضوع لوصفه (٣) ، كقولنا : «كلّ كاتب (٤) متحرّك الأصابع بالضرورة ما دام كاتبا». وإلى ضرورة وقتيّة (٥) ، ومرجعها إلى الضرورة الوصفيّة بوجه. (٦)

تنبيه آخر [في أقسام الإمكان] :

هذا الّذي تقدّم ـ من معنى الإمكان ـ هو المبحوث عنه في هذه المباحث ، وهو إحدى الجهات الثلاث الّتي لا يخلو عن واحدة منها شيء من القضايا (٧). وقد كان الإمكان عند العامّة يستعمل في سلب الضرورة عن الجانب المخالف ، ولازمه

__________________

ـ إلى الوجود ، وبعد ثبوته (حين ثبوته ـ ما دام ثابتا) يثبت له نفسه وذاتيّاته ولوازم ذاته بالضرورة.

(١) وكقولنا : «الإنسان إنسان بالضرورة» وقولنا : «الأربعة زوج بالضرورة».

(٢) ويقال لها : «المشروطة العامّة».

(٣) أي : لثبوت ذلك المحمول لوصف الموضوع ، فثبوت المحمول للوصف بما هو وصف بالضرورة الذاتيّة ، وللموصوف بالضرورة الوصفيّة.

(٤) أي : كلّ إنسان ثبتت له الكتابة. والأولى أن يقول : «كلّ إنسان حين الكتابة متحرّك الأصابع بالضرورة». كما مثّل له في درر الفوائد ب «الإنسان متحرّك الأصابع مادام كونه كاتبا» ، راجع درر الفوائد ١ : ٢٢٢.

والوجه في الأولويّة أنّ تفسير الكاتب بإنسان ثبتت له الكتابة مبنيّ على القول بتركّب المشتقّ ، وهو كما ترى. وأمّا الكاتب نفسه فتحرّك الأصابع ضروريّ له بالضرورة الذاتيّة.

(٥) كقولنا : «كلّ قمر منخسف بالضرورة وقت الحيلولة» وقولنا : «كلّ إنسان متنفسّ بالضرورة وقتا مّا».

(٦) بأن يقال : «القمر المتّصف بكون الأرض حائلا بينه وبين الشمس منخسف بالضرورة».

(٧) بخلاف صاحب المواقف ، فإنّه قال : «واعلم أنّ هذه غير الوجوب والإمكان والامتناع الّتي هي جهات القضايا وموادّها ...». فراجع شرح المواقف : ١٣١. واعترض عليه شارح المقاصد بأنّه : «إن أراد كونها واجبة لذوات اللوازم فالملازمة ممنوعة ، أو لذوات الماهيّات فبطلان التالي ممنوع ، فإنّ معناه أنّها واجبة الثبوت للماهيّات نظرا إلى ذواتها من غير احتياج إلى أمر آخر». راجع شرح المقاصد ١ : ١١٥.

٧٩

سلب الامتناع عن الجانب الموافق. ويصدق في الموجبة فيما إذا كان الجانب الموافق ضروريّا ، نحو «الكاتب متحرّك الأصابع بالإمكان» أو مسلوب الضرورة ، نحو «الإنسان متحرّك الأصابع بالإمكان». ويصدق في السالبة فيما إذا كان الجانب الموافق ممتنعا ، نحو «ليس الكاتب بساكن الأصابع بالإمكان» أو مسلوب الضرورة ، نحو «ليس الإنسان بساكن الأصابع بالإمكان».

فالإمكان بهذا المعنى أعمّ موردا من الإمكان بالمعنى المتقدّم ـ أعني سلب الضرورتين ـ ومن كلّ من الوجوب والامتناع ، لا أنّه أعمّ مفهوما ، إذ لا جامع مفهوميّ بين الجهات.

ثمّ نقله الحكماء إلى خصوص سلب الضرورة من الجانبين ، وسمّوه : «إمكانا خاصّا وخاصّيّا» ، وسمّوا ما عند العامّة : «إمكانا عامّا وعامّيّا».

وربّما اطلق الإمكان واريد به سلب الضرورات الذاتيّة والوصفيّة والوقتيّة ، وهو أخصّ من الإمكان الخاصّ ، ولذا يسمّى : «الإمكان الأخصّ» ، نحو «الإنسان كاتب بالإمكان» ، فالماهيّة الإنسانيّة لا تستوجب الكتابة ، لا لذاتها ، ولا لوصف ولا في وقت مأخوذين في القضيّة.

وربّما اطلق الإمكان واريد به سلب الضرورات جميعا حتّى الضرورة بشرط المحمول ، وهو في الامور المستقبلة الّتي لم يتعيّن فيها إيجاب ولا سلب. فالضرورة مسلوبة عنها حتّى بحسب المحمول إيجابا وسلبا. وهذا الاعتبار بحسب النظر البسيط العامّيّ الّذي من شأنه الجهل بالحوادث المستقبلة ، لعدم إحاطته بالعلل والأسباب ، وإلّا فلكلّ أمر مفروض بحسب ظرفه ، إمّا الوجود والوجوب ، وإمّا العدم والامتناع.

وربّما اطلق الإمكان واريد به الإمكان الاستعداديّ ، وهو وصف وجوديّ من الكيفيّات القائمة بالمادّة ، تقبل به المادّة الفعليّات المختلفة. والفرق بينه وبين الإمكان الخاصّ أنّه صفة وجوديّة تقبل الشدّة والضعف والقرب والبعد من الفعليّة ،

٨٠