نهاية الحكمة - ج ١

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

نهاية الحكمة - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-470-623-3
ISBN الدورة:
978-964-470-005-7

الصفحات: ٢٨٣

الوجودات الإمكانيّة واجبة بالذات ، لأنّ كون الوجود موجودا بذاته يستلزم امتناع سلبه عن ذاته ، إذ الشيء لا يسلب عن نفسه ، ولا نعني بالواجب بالذات إلّا ما يمتنع عدمه لذاته.

وجه الاندفاع (١) : أنّ الملاك في كون الشيء واجبا بالذات (٢) ليس هو كون وجوده نفس ذاته ، بل كون وجوده مقتضى ذاته من غير أن يفتقر إلى غيره ، وكلّ وجود إمكانيّ فهو في عين أنّه موجود في ذاته (٣) مفتقر إلى غيره مفاض منه ، كالمعنى الحرفيّ الّذي نفسه نفسه ، وهو مع ذلك لا يتمّ مفهوما إلّا بالقيام بغيره. وسيجيء مزيد توضيح له في الأبحاث الآتية (٤).

قال صدر المتألّهين في الأسفار : «معنى وجود الواجب بنفسه أنّه مقتضى ذاته من غير احتياج إلى فاعل وقابل ، ومعنى تحقّق الوجود بنفسه أنّه إذا حصل ، إمّا بذاته كما في الواجب ، أو بفاعل لم يفتقر تحقّقه إلى وجود آخر يقوم به ، بخلاف غير الوجود» (٥) انتهى.

__________________

ـ ٢ ـ وجود الممكن موجود بالذات ، وكلّ موجود بالذات واجب بالذات ، فوجود الممكن واجب بالذات.

ولكن من المعلوم أنّ النتيجة الأخيرة كاذبة ، بداهة أنّ الممكن ليس واجبا بالذات ، وإلّا يلزم انقلاب الذات. ومن هنا يمنع كبرى القياس ويقال : ليس كلّ موجود واجبا بالذات ؛ وينتج منه أنّه ليس كلّ وجود موجودا بالذات.

(١) كما في الأسفار ١ : ٤٠ ـ ٤١.

وحاصل الاندفاع : أنّ ما ذكر ليس ببرهان حتّى تكون نتيجته صادقة ، بل هو مغالطة منشؤها الاشتراك اللفظيّ ، فإنّ «موجود بالذات» في الصغرى بمعنى ، وفي الكبرى بمعنى آخر ؛ أمّا «موجود بالذات» في الصغرى فمعناه أنّ الموجوديّة وصف لوجود الممكن بحال نفسه ، أي لا بالمجاز ، بل ينسب إليه بالحقيقة ؛ وأمّا «موجود بالذات» في الكبرى فمعناه الموجود بلا علّة ، أي كلّ موجود لا بعلّة واجب بالذات. فلم يتكرّر الأوسط حتّى يكون برهانا.

(٢) بمعنى كونه غير مفتقر إلى غيره.

(٣) بمعنى أنّ الوجود ينسب إليه بالحقيقة.

(٤) يجىء في الفصل الاول والثانى من الرحلة الرابعة.

(٥) راجع الأسفار ١ : ٤٠.

٢١

ويندفع عنه أيضا ما اورد عليه (١) أنّه لو كان الوجود موجودا بذاته والماهيّة موجودة بغيرها ـ الذيّ هو الوجود ـ كان مفهوم الوجود مشتركا (٢) بين ما بنفسه وما بغيره (٣) ، فلم يتمّ مفروض الحجّة من أنّ الوجود مشترك معنويّ بين الموجودات ، لا لفظيّ.

وجه الاندفاع (٤) : أنّ فيه خلطا بين المفهوم والمصداق ، والاختلاف المذكور مصداقيّ ، لا مفهوميّ.

فتبيّن بما تقدّم فساد القول بأصالة الماهيّة (٥) ، كما نسب إلى الإشراقيّين (٦). فهي عندهم أصيلة إذا كانت بحيث ينتزع عنها الوجود وإن كانت في حدّ ذاتها اعتباريّة والوجود المنتزع عنها اعتباريّا (٧).

ويردّه أنّ صيرورة الماهيّة الاعتباريّة (٨) بانتزاع مفهوم الوجود الاعتباريّ أصيلة ذات حقيقة عينيّة إنقلاب ضروريّ الاستحالة.

وتبيّن أيضا فساد القول بأصالة الوجود في الواجب وأصالة الماهيّة في الممكن ، كما قال به الدوانيّ (٩) وقرّره بأنّ الوجود على ما يقتضيه ذوق

__________________

(١) هذا الإيراد أورده الشيخ الإشراقيّ ، فراجع شرح حكمة الإشراق (كلام الماتن) : ١٨٤.

(٢) أي : مشتركا لفظيّا.

(٣) أي : بعرض غيره.

(٤) هكذا أجاب عنه صدر المتألّهين في الأسفار ١ : ٤١.

(٥) وهو القول بأنّ الواقعيّة العينيّة مصداق للماهيّة حقيقة ، فالماهيّة هي منشأ لظهور الآثار ، وأمّا مفهوم الوجود فهو مفهوم اعتباريّ اعتبره الذهن للحكاية عن الواقعيّة الخارجيّة الّتي هي الماهيّة.

(٦) راجع شرح حكمة الإشراق : ١٨٥ ـ ١٩١ ، والتلويحات : ٢٣. ونسب إليهم أيضا في الأسفار ١ : ٣٩ و ٤١١.

(٧) فالقائل بأصالة الماهيّة لم يدّع أصالتها من حيث هي هي ، بل ادّعى أنّ الماهيّة أصيلة إن كانت بحيث ينتزع عنها الوجود ، وهو بعد اكتسابها من الجاعل حيثيّة تسمّى عندهم : «الحيثيّة المكتسبة».

(٨) أي : الماهيّة من حيث هي هي وفي حدّ ذاتها ، قطع النظر عن غيرها.

(٩) الرسائل المختارة : ٥٣. وقد ينسب أيضا إلى السيّد الداماد ، راجع درر الفوائد : ٨٨.

٢٢

المتألّهين (١) حقيقة عينيّة شخصيّة هي الواجب تعالى ، وتتأصّل الماهيّات الممكنة بنوع من الانتساب إليه ، فإطلاق الموجود عليه تعالى بمعنى أنّه عين الوجود ، وعلى الماهيّات الممكنة بمعنى أنّها منتسبة إلى الوجود الّذي هو الواجب.

ويردّه (٢) أنّ الانتساب المذكور إن استوجب عرض حقيقة عينيّة على الماهيّات كانت هي الوجود ، إذ ليس للماهيّة المتأصّلة إلّا حيثيّتا الماهيّة والوجود ، وإذا لم تضف الأصالة إلى الماهيّة فهي للوجود ، وإن لم يستوجب شيئا وكانت حال الماهيّة قبل الانتساب وبعده سواءا ، كان تأصّلها بالانتساب انقلابا ، وهو محال.

يتفرّع على أصالة الوجود واعتباريّة الماهيّة :

أوّلا : أنّ كلّ ما يحمل على حيثيّة الماهيّة فإنّما هو بالوجود ، وأنّ الوجود حيثيّة تقييديّة في كلّ حمل ما هويّ (٣) ، لما أنّ الماهيّة في نفسها باطلة هالكة

__________________

(١) أي : المتوغّلين في العلم الإلهيّ. ولكن أنكر صدر المتألّهين صحّة هذه النسبة في رسالة اتّصاف الماهيّة بالوجود ، فقال : «ونسبوا هذا المذهب إلى ذوق المتألّهين. حاشاهم عن ذلك». الرسائل : ١١٣.

(٢) وردّه أيضا في الأسفار ١ : ٧٣ ـ ٧٤.

(٣) بيان ذلك : أنّ الحيثيّة ثلاثة أقسام :

الأوّل : الحيثيّة الإطلاقيّة ، وهي الّتي بعد تقييد الموضوع بها ـ لا تزيد على الموضوع شيئا أصلا. والمراد من التقييد بها بيان الإطلاق عن جميع ما عدا الموضوع ، فهي بمنزلة التأكيد ، مثل أن يقال : «الإنسان من حيث هو إنسان حيوان ناطق» فإنّ كلمة «من حيث هو إنسان» تأكيد للموضوع ، أو يقال : «الماهيّة من حيث هي ماهيّة ليست إلّا هي» فإنّ لفظة «من حيث هي ماهيّة» تأكيد للموضوع ، ومعناه : أنّ الماهيّة قطع النظر عن جميع ما عداها ليست إلّا هي. فالماهيّة بالحيثيّة الإطلاقيّة لا موجودة ولا معدومة.

الثاني : الحيثيّة التعليليّة ، وهي الّتي تكون علّة لعرض المحمول على الموضوع من غير أخذه قيدا للموضوع. فالغرض من التقييد بها بيان علّة ثبوت الحكم للمقيّد. كأن يقال : «الإنسان ـ من حيث هو متعجّب ـ ضاحك» فإنّ الضاحك هو الإنسان ، والتعجّب علّة لعرض الضحك عليه ، فالموضوع ليس إلّا ذات الإنسان ، لا هو والتعجّب ، بل التعجّب إنّما هو علّة لعرض الضحك عليه ، وواسطة في ثبوت الضحك له ، ولذا يقال : كلّ حيثيّة تعليليّة واسطة في الثبوت. ـ

٢٣

لا تملك شيئا ، فثبوت ذاتها (١) و [ثبوت] ذاتيّاتها لذاتها (٢) بواسطة الوجود. فالماهيّة وإن كانت إذا اعتبرها العقل من حيث هي لم تكن إلّا هي ، لا موجودة ولا معدومة ، لكنّ ارتفاع الوجود عنها بحسب هذا الاعتبار ـ ومعناه أنّ الوجود غير مأخوذ في حدّها ـ لا ينافي حمله عليها خارجا عن حدّها عارضا لها ، فلها ثبوت مّا كيفما فرضت.

وكذا لوازم ذاتها ـ الّتي هي لوازم الماهيّة ، كمفهوم الماهيّة العارضة لكلّ ماهيّة ، والزوجيّة العارضة لماهيّة الأربعة ـ تثبت لها بالوجود لا لذاتها.

__________________

ـ الثالث : الحيثيّة التقييديّة ، وهي الّتي بعد تقييد الموضوع بها ـ تزيد على الموضوع شيئا ، ويجعل الموضوع مقيّدا بها في كونه موضوعا ، كأن يقال : «الجسم ـ من حيث كونه أبيض ـ مرئيّ». فالموضوع للمرئيّ ليست ذات الجسم وحدها ، بل هو الجسم المقيّد بقيد كونه ذا بياض ، فالجسم واللون كلّ واحد منهما موضوع للمرئيّ ، إلّا أنّ المرئيّ بالذات هو البياض ، والجسم مرئيّ بالعرض ، أي إسناد المرئيّ إلى الجسم عرضيّ ومجازيّ ، نظير إسناد الجري إلى الميزاب. ولذا يقال : الحيثيّة التقييديّة واسطة في العروض.

وإذا عرفت هذا ، فنقول : حيثيّة الوجود في قولنا : «الماهيّة من حيث هي موجودة موجودة» حيثيّة تقييديّة ، فكان معناه أنّ الوجود واسطة في عرض الموجوديّة على الماهيّة. وذلك لأنّ الماهيّة المقيّدة بالحيثيّة الإطلاقيّة ليست إلّا هي. وما لم ينضمّ إليها الوجود ولم يلاحظ معها شيء آخر غير ذاتها لا موجودة ولا معدومة ، بل يحمل الموجود عليها بعد ملاحظتها مع الوجود وتقيّدها به. وبالدقّة ما هو موجود حقيقة وبالذات هو نفس الوجود ، وأمّا الماهيّة فهي موجودة بالعرض ، أي بعد عرض الوجود للماهيّة أيضا ليست الماهيّة موجودة حقيقة ، بل الموجود حقيقة وبالذات هو وجودها ، لكن موجوديّة وجودها تصحّح حمل الموجود على الماهيّة بالعرض. فوجود الماهيّة واسطة في عرض الموجوديّة للماهيّة. فثبت أنّ الماهيّة لا يحمل عليها الموجوديّة إلّا حال وجودها. وكذا في كلّ ما يحمل عليها بالحمل الشائع الّذي ملاكه الاتّحاد في الوجود ، بل كلّ ما يحمل عليها بالحمل الأوّلي ، وكذا لوازم ذاتها ، لأنّ لها ثبوتا مّا كيفما فرضت.

ولكن أورد عليه بعض الأساتيذ من تلامذة المصنّف رحمه‌الله بأنّه يصحّ حمل ذاتيّات الماهيّة عليها بالحمل الأوّليّ من دون لحاظ الوجود. راجع تعليقته على نهاية الحكمة : ٣٣.

(١) أي : كونها موجودة. فالماهيّة موجودة من حيث هي موجودة.

(٢) أي : ما يحمل عليها بالحمل الأوّليّ ، كالحيوانيّة والناطقيّة بالنسبة إلى الإنسان.

٢٤

وبذلك يظهر أنّ لازم الماهيّة بحسب الحقيقة لازم الوجودين الخارجيّ والذهنيّ (١) ، كما ذهب إليه الدوانيّ (٢).

وكذا لازم الوجود الذهنيّ كالنوعيّة للإنسان ولازم الوجود الخارجيّ كالبرودة للثلج والمحمولات غير اللازمة كالكتابة للإنسان كلّ ذلك بالوجود.

وبذلك يظهر أنّ الوجود من لوازم الماهيّة الخارجة عن ذاتها.

وثانيا : أنّ الوجود لا يتّصف بشيء من أحكام الماهيّة ، كالكلّيّة والجزئيّة ، وكالجنسيّة والنوعيّة والفصليّة والعرضيّة الخاصّة والعامّة ، وكالجوهريّة والكمّيّة والكيفيّة وسائر المقولات العرضيّة (٣) ، فإنّ هذه جميعا أحكام طارئة على الماهيّة من جهة صدقها وانطباقها على شيء ، كصدق الإنسان وانطباقه على زيد وعمرو وسائر الأفراد ، أو من جهة اندراجها تحت شيء (٤) ، كاندراج الأفراد تحت الأنواع والأنواع تحت الأجناس. والوجود ـ الّذي هو بذاته الحقيقة العينيّة ـ لا يقبل انطباقا على شيء ، ولا اندراجا تحت شيء ، ولا صدقا ولا حملا ، ولا ما يشابه هذه المعاني ، نعم مفهوم الوجود يقبل الصدق والاشتراك كسائر المفاهيم.

ومن هنا يظهر أنّ الوجود يساوق الشخصيّة.

ومن هنا يظهر أيضا أنّ الوجود (٥) لا مثل له (٦) ، لأنّ مثل الشيء ما يشاركه في الماهيّة النوعيّة ، ولا ماهيّة نوعيّة للوجود.

__________________

(١) أي : لازم الماهيّة في الوجودين الخارجيّ والذهنيّ.

(٢) راجع حاشية الدوانيّ على شرح التجريد للقوشجيّ : ٢٧.

(٣) أي : الأين والمتى والملك والجدة والإضافة وأن يفعل وأن ينفعل.

(٤) وفي بعض النسخ : «اندارج شيء تحتها». والصواب ما أثبتناه.

(٥) المراد من الوجود في هذا الفرع والفروع الآتية هو الوجود بما هو وجود ومن حيث ذاته ، لا بما أنّ له ماهيّة خاصّة. فالوجود من حيث هو لا مثل له ، ولا ضدّ له ، ولا يكون جزءا لشيء ؛ وإن أمكن أن يكون له مثل وضدّ ويكون جزءا لشيء بما أنّ له ماهيّة وحدّا.

(٦) راجع كشف المراد : ٣٠ ، وشوارق الإلهام : ٥٤ ، والأسفار ١ : ٣٤٣ ، وشرح المنظومة : ٤١ ـ ٤٢.

٢٥

ويظهر أيضا أنّ الوجود لا ضدّ له (١) ، لأنّ الضدّين ـ كما سيأتي (٢) ـ أمران وجوديّان متعاقبان على موضوع واحد ، داخلان تحت جنس قريب ، بينهما غاية الخلاف ؛ والوجود لا موضوع له ولا جنس له ولا له خلاف مع شيء.

وثالثا : أنّ الوجود لا يكون جزءا لشيء ، لأنّ الجزء الآخر والكلّ المركّب منهما إن كانا هما الوجود بعينه فلا معنى لكون الشيء جزءا لنفسه ، وإن كان أحدهما أو كلاهما غير الوجود كان باطل الذات ، إذ لا أصيل غير الوجود ، فلا تركيب (٣).

وبهذا البيان يثبت أنّ الوجود لا جزء له (٤) ، ويتبيّن أيضا أنّ الوجود بسيط في ذاته.

ورابعا : أنّ ما يلحق الوجود حقيقة (٥) من الصفات والمحمولات (٦) امور غير خارجة عن ذاته (٧) ، إذ لو كانت خارجة كانت باطلة.

وخامسا : أنّ للموجود من حيث اتّصافه بالوجود نحو انقسام إلى ما بالذات وما بالعرض ، فالوجود موجود بالذات ـ بمعنى أنّه عين نفسه ـ والماهيّة موجودة بالعرض ـ أي أنّها ليست [متّصفة] بالوجود بالنظر إلى نفس ذاتها وإن كانت موجودة بالوجود حقيقة قبال ما ليس بموجود بالوجود (٨) ـ.

__________________

(١) راجع كشف المراد : ٣٠ ، وشوارق الإلهام : ٥٤ ، والأسفار ١ : ٣٤٣ ، وشرح المنظومة : ٤١ ـ ٤٢.

(٢) في الفصل التاسع من المرحلة السابعة.

(٣) قال المصنّف قدس‌سره في بداية الحكمة : ١٩ : «وما قيل : (إنّ كلّ ممكن زوج تركيبيّ من ماهيّة ووجود) فاعتبار عقليّ ...».

(٤) راجع بداية الحكمة : ١٩.

(٥) أي : ما اسند إلى الوجود إسناد الشيء إلى ما هو له.

(٦) كالعينيّة والشيئيّة والعلّيّة والمعلوليّة وغيرها.

(٧) غاية الأمر كانت الحقيقة الواحدة مصداقا للوحدة ـ مثلا ـ باعتبار ، ومصداقا للعلّة باعتبار آخر ، ومصداقا للمعلول باعتبار ثالث ، وهكذا.

(٨) فالماهيّة موجودة مجازا وبالعرض بالدقّة الفلسفيّة ، وموجودة حقيقة عند العرف وبالنظر المسامحيّ.

٢٦

وسادسا : أنّ الوجود عارض للماهيّة ـ بمعنى أنّ للعقل أن يجرّد الماهيّة عن الوجود ، فيعقلها وحدها من غير نظر إلى وجودها ـ فليس الوجود عينها ولا جزءا لها. ومن الدليل على ذلك جواز سلب الوجود عن الماهيّة ، واحتياج اتّصافها به إلى الدليل ، وكونها متساوية النسبة في نفسها إلى الوجود والعدم ، ولو كان الوجود عينها أو جزءا لها لما صحّ شيء من ذلك (١).

والمغايرة ـ كما عرفت (٢) ـ عقليّة ، فلا تنافي اتّحاد الماهيّة والوجود خارجا وذهنا ، فليس هناك إلّا حقيقة واحدة هي الوجود ، لمكان أصالته واعتباريّتها ، فالماهيّات المختلفة يختلف بها الوجود نحوا من الاختلاف من غير أن يزيد على الوجود شيء ، وهذا معنى قولهم : «إنّ الماهيّات أنحاء الوجود» (٣). وإلى هذا الاختلاف يؤول ما بين الماهيّات الموجودة من التميّز والبينونة واختلاف الآثار ، وهو معنى قولهم : «إنّ الماهيّات حدود الوجود» (٤). فذات كلّ ماهيّة موجودة حدّ لا يتعدّاه وجودها ، ويلزمه سلوب بعدد الماهيّات الموجودة الخارجة عنها. فماهيّة الإنسان الموجودة ـ مثلا ـ حدّ لوجوده ، لا يتعدّاه وجوده إلى غيره ، فهو ليس بفرس ، وليس ببقر ، وليس بشجر ، وليس بحجر ، إلى آخر الماهيّات الموجودة المباينة للإنسان.

وسابعا : أنّ ثبوت كلّ شيء ـ أيّ نحو من الثبوت فرض ـ إنّما هو لوجود هناك خارجيّ يطرد العدم لذاته. فللتصديقات النفس الأمريّة ـ الّتي لا مطابق لها في

__________________

(١) أمّا جواز سلب الوجود عن الماهيّة فلأنّه لو كان عينا أو جزءا لها يلزم سلب عين الشيء وجزئه عنه ، وهو محال.

وأمّا احتياج اتّصافها به إلى الدليل فلأنّه لو كان عينا أو جزءا لها لا تحتاج فيه إلى الدليل ، لأنّ ذات الشيء وذاتيّاته بيّنة الثبوت له.

وأمّا كونها متساوية النسبة إلى الوجود والعدم ، فلأنّه لو كان عينا أو جزءا لها ، استحالت نسبتها إلى العدم ، لأنّ العدم نقيض الوجود.

(٢) في السطور السابقة.

(٣) راجع الأسفار : ١ : ٥٧ و ٣٦٠.

(٤) وقد يقال : «الماهيّات حكايات الوجودات» فراجع تعليقة السبزواريّ على الأسفار ١ : ٢٤٨ الرقم ١.

٢٧

خارج ولا في ذهن ـ مطابق ثابت نحوا من الثبوت التبعيّ بتبع الموجودات الحقيقيّة.

توضيح ذلك : أنّ من التصديقات الحقّة (١) ما له مطابق في الخارج ، نحو «الإنسان موجود» و «الإنسان كاتب». ومنها ما له مطابق في الذهن ، نحو «الإنسان نوع» و «الحيوان جنس». ومنها ما له مطابق يطابقه لكنّه غير موجود في الخارج ولا في الذهن ، كما في قولنا : «عدم العلّة علّة لعدم المعلول» و «العدم باطل الذات» إذ العدم لا تحقّق له في خارج ولا في ذهن ، ولا لأحكامه وآثاره. وهذا النوع من القضايا تعتبر مطابقته لنفس الأمر ، فإنّ العقل إذا صدّق كون وجود العلّة علّة لوجود المعلول اضطرّ إلى تصديق أنّه ينتفي إذا انتفت علّته ، وهو كون عدمها علّة لعدمه ، ولا مصداق محقّق للعدم في خارج ولا في ذهن ، إذ كلّ ما حلّ في واحد منهما فله وجود.

والذيّ ينبغي أن يقال بالنظر إلى الأبحاث السابقة أنّ الأصيل هو الموجود الحقيقيّ ، وهو الوجود ، وله كلّ حكم حقيقيّ. ثمّ لمّا كانت الماهيّات ظهورات الوجود للأذهان توسّع العقل توسّعا اضطراريّا باعتبار الوجود لها وحمله عليها ، وصار مفهوم الوجود والثبوت يحمل على الوجود والماهيّة وأحكامهما جميعا. ثمّ توسّع العقل توسّعا اضطراريّا ثانيا بحمل مطلق الثبوت والتحقّق على كلّ مفهوم يضطرّ إلى اعتباره بتبع الوجود أو الماهيّة ، كمفهوم العدم والماهيّة والقوّة ، والفعل ، ثمّ التصديق بأحكامها.

فالظرف الّذي يفرضه العقل لمطلق الثبوت والتحقّق ـ بهذا المعنى الأخير ـ هو الّذي نسمّيه «نفس الأمر» ويسع الصوادق من القضايا الذهنيّة والخارجيّة. وما يصدّقه العقل ولا مطابق له في ذهن أو خارج ، غير أنّ الامور النفس الأمريّة لوازم عقليّة للماهيّات متقرّرة بتقرّرها. وللكلام تتمّة ستمرّ بك إن شاء الله تعالى (٢).

وقيل (٣) : المراد بالأمر في نفس الأمر عالم الأمر ، وهو عقل كلّيّ فيه صور

__________________

(١) وهي التصديقات الصادقة الّتي لها مطابق.

(٢) في الفصل الرابع من هذه المرحلة ، والفصلين الأوّل والعاشر من المرحلة الحادية عشرة.

(٣) والقائل هو المحقّق الطوسيّ على ما في كشف المراد : ٧٠. وتعرّض له أيضا في شرح ـ

٢٨

المعقولات جميعا. والمراد بمطابقة القضيّة لنفس الأمر مطابقتها لما عنده من الصورة المعقولة.

وفيه : أنّ الكلام منقول إلى ما عنده من الصورة المعقولة ، وهي صورة معقولة تقتضي مطابقا فيما وراءها تطابقه.

وقيل (١) : المراد بنفس الأمر نفس الشيء ، فهو من وضع الظاهر موضع الضمير ، فكون العدم ـ مثلا ـ باطل الذات في نفس الأمر كونه في نفسه كذلك.

وفيه : أنّ ما لا مطابق له في خارج ولا في ذهن لا نفسيّة له حتّى يطابقها هو وأحكامه.

وثامنا : أنّ الشيئيّة مساوقة للوجود (٢) ، فما لا وجود له لا شيئيّة له ، فالمعدوم من حيث هو معدوم ليس بشيء.

ونسب إلى المعتزلة (٣) أنّ للماهيّات الممكنة المعدومة شيئيّة في العدم ، وأنّ بين الوجود والعدم واسطة يسمّونها «الحال» وعرّفوها بصفة الموجود الّتي ليست موجودة ولا معدومة كالضاحكيّة والكاتبيّة للإنسان (٤) ، لكنّهم ينفون الواسطة بين

__________________

ـ المقاصد ١ : ٩٥ ، وشرح التجريد للقوشجيّ : ٥٧ ، وشوارق الإلهام : ١٢٣.

(١) والقائل هو القوشجيّ في شرح التجريد : ٥٦ حيث قال : «والمراد بنفس الأمر ما يفهم من قولنا : هذا الأمر كذا في نفسه أو ليس كذا ... على أنّ المراد بالأمر الشأن والشيء وبالنفس الذات». وذهب إليه أيضا الحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة (قسم الحكمة) : ٥٤.

(٢) أي : كلّ موجود شيء ، وكلّ شيء موجود.

(٣) كأبي يعقوب وأبي علي وابنه وأبي الحسن الخيّاط والبلخي وأبي عبد الله وابن عيّاش وعبد الجبّار ، هكذا في أنوار الملكوت في شرح الياقوت : ٤٩. ونسب إليهم في المحصّل : ٨٥ ـ ٩١ ، والأسفار ١ : ٧٥ ـ ٧٨ ، وشرح المقاصد ١ : ٨٠ ، وشرح المواقف : ١٠٩ ، وقواعد المرام في علم الكلام : ٤٩ ، والمقاومات : ١٢٥ ـ ١٢٧ ، والمطارحات : ٢٠٣ ـ ٢٠٩.

(٤) فالحال عندهم واسطة بين الموجود والمعدوم ، لا موجودة ولا معدومة ، بل هي صفة للموجود.

وقال التفتازانيّ : «المراد بالصفة ما لا يعلم ولا يخبر عنه بالاستقلال ، بل بتبعيّة الغير. والذات بخلافها ، وهي لا تكون إلّا موجودة أو معدومة ، بل لا معنى للموجود إلّا ذات لها صفة الوجود ، وللمعدوم إلّا ذات لها صفة العدم. والصفة لا تكون لها ذات ، فلا تكون موجودة ـ

٢٩

النفي والإثبات ، فالمنفيّ هو المحال ؛ والثابت هو الواجب والممكن الموجود ، والممكن المعدوم ، والحال الّتي ليست بموجودة ولا معدومة.

وهذه دعاو يدفعها صريح العقل ، وهي بالاصطلاح أشبه منها بالنظرات العلميّة ، فالصفح عن البحث عنها أولى.

وتاسعا : أنّ حقيقة الوجود بما هي حقيقة الوجود (١) لا سبب لها وراءها ـ أي أنّ هويّته العينيّة الّتي هي لذاتها أصيلة موجودة طاردة للعدم ، لا تتوقّف في تحقّقها على شيء خارج من هذه الحقيقة ـ سواء كان سببا تامّا أو ناقصا ، وذلك لمكان أصالتها وبطلان ما وراءها. نعم! لا بأس بتوقّف بعض مراتب هذه الحقيقة على بعض ، كتوقّف الوجود الإمكانيّ على الوجود الواجبيّ وتوقّف بعض الممكنات على بعض.

ومن هنا يظهر أن لا مجرى لبرهان اللمّ في الفلسفة الإلهيّة (٢) الباحثة عن أحكام الموجود من حيث هو موجود (٣).

وعاشرا : أنّ حقيقة الوجود حيث كانت عين حيثيّة ترتّب الآثار (٤) كانت عين الخارجيّة ، فيمتنع أن تحلّ الذهن فتتبدّل ذهنيّة لا تترتّب عليها الآثار ، لاستلزامه الانقلاب المحال. وأمّا الوجود الذهنيّ ـ الّذي سيأتي إثباته إن شاء الله (٥) ـ فهو من حيث كونه يطرد عن نفسه العدم وجود خارجيّ مترتّب عليه الآثار ، وإنّما يعدّ ذهنيّا لا تترتّب عليه الآثار بقياسه إلى المصداق الخارجيّ الّذي بحذائه.

__________________

ـ ولا معدومة ، فلذا قيّد بالصفة». شرح المقاصد ١ : ٨٠.

(١) أي : الوجود بأسره الّذي يناقض العدم.

(٢) قد مرّت الإشارة إلى ما أفاده بعض الأساتيذ من تلامذة المصنّف رحمه‌الله من المناقشة فيه. راجع تعليقته على نهاية الحكمة : ١٤ ـ ١٥.

(٣) وفيه : أنّه ينافي كون المسائل الإلهيّة من الفلسفة ، فإنّ فيها يسلك من العلّة الى المعلول بأنّ أفعاله تعالى يثبت من طريق صفاته الّتي عين ذاته تعالى ، وهو برهان لمّيّ.

(٤) فالمراد من حقيقة الوجود هنا هو الوجود العينيّ الّذي هو مصداق مفهوم الوجود.

(٥) في المرحلة الثالثة.

٣٠

فقد بان أنّ حقيقة الوجود (١) لا صورة عقليّة لها كالماهيّات الموجودة في الخارج الّتي لها صورة عقليّة (٢).

وبان أيضا أنّ نسبة مفهوم الوجود إلى الوجودات الخارجيّة ليست نسبة الماهيّة الكلّيّة إلى أفرادها الخارجيّة.

وتبيّن بما تقدّم أيضا أنّ المفهوم إنمّا تكون ماهيّة إذا كان لها فرد خارجيّ يقوّمه وتترتّب عليه آثارها.

__________________

(١) بمعنى الوجود العينيّ الّذي هو مصداق لمفهوم الوجود. والسرّ في ذلك أنّ العقل إنّما يدرك المفاهيم ، وهو أحد أقسام العلم الحصوليّ. والوجود الخارجيّ لا يعرف بما أنّه حقيقة عينيّة إلّا بالعلم الحضوريّ.

(٢) فإنّ الماهيّات لمّا كانت من حيث هي ليست إلّا هي ، متساوية النسبة إلى الوجود والعدم ، وإلى ترتّب الآثار وعدمه ، فجاز أن توجد في الذهن وتكون بحيث لا تترتّب عليها الآثار ، كما جاز أن توجد في الخارج وتترتّب عليها الآثار.

٣١

الفصل الثالث

في أنّ الوجود حقيقة مشكّكة (١)

لا ريب أنّ الهويّات (٢) العينيّة الخارجيّة تتّصف بالكثرة ، تارة من جهة أنّ هذا إنسان وذاك فرس وذلك شجر ونحو ذلك ، وتارة بأنّ هذا بالفعل وذاك بالقوّة ، وهذا واحد وذاك كثير ، وهذا حادث وذاك قديم ، وهذا ممكن وذاك واجب ، وهكذا.

وقد ثبت بما أوردناه في الفصل السابق (٣) أنّ الكثرة من الجهة الاولى ـ وهي الكثرة الماهويّة ـ موجودة في الخارج بعرض الوجود (٤) ، وأنّ الوجود متّصف بها

__________________

(١) أي : في أنّ حقيقة الوجود حقيقة مشكّكة. فكان الأولى أن يقول : «في أنّ حقيقة الوجود مشكّكة» أي : حقيقته العينيّة الّتي يحكي عنها مفهوم الوجود. فالمراد من حقيقة الوجود هو ما في قبال مفهوم الوجود الّذي لا تشكيك فيه ، فإنّه يصدق على جميع مراتب الوجود على السواء ؛ ضرورة أنّه لا تفاضل في صدق المفاهيم على أفرادها حتّى يتحقّق التشكيك فيه ، فمفهوم النور يصدق على نور الشمس ونور القمر ونور المصباح على السواء ومن غير تفاضل ، كما أنّ مفهوم الوجود يصدق على وجود الواجب ووجود الممكن على السواء ، وإنّما التشكيك في حقيقته العينيّة الّتي لها مراتب مختلفة ، فهي كثيرة في عين أنّها واحدة وواحدة في عين أنّها كثيرة.

ومن هنا يظهر أنّه لا وقع للتفريق بين التشكيك المنطقيّ والتشكيك الفلسفيّ بأنّ التشكيك في المنطق هو اختلاف الكلّي في أفراده في صدق مفهومه عليها ، وأمّا معناه في الفلسفة فهو الكثرة في الوحدة والوحدة في الكثرة. وذلك لما ذكرنا من أنّه لا تفاضل في صدق المفاهيم الكلّيّة على أفرادها حتّى يتحقّق التشكيك فيه.

(٢) أي : الحقائق.

(٣) أي : في الفرع الأوّل من الفصل الثاني من هذه المرحلة.

(٤) وذلك لما مرّ من أنّ الوجود واسطة في عرض الموجوديّة على الماهيّة ، فالماهيّة نفسها إنّما ـ

٣٢

بعرض الماهيّة ، لمكان أصالة الوجود واعتباريّة الماهيّة.

وأمّا الكثرة من الجهة الثانية فهي الّتي تعرض الوجود من جهة الانقسامات الطارئة عليه نفسه ، كانقسامه إلى الواجب والممكن ، وإلى الواحد والكثير ، وإلى ما بالفعل وما بالقوّة ، ونحو ذلك. وقد تقدّم في الفصل السابق (١) أنّ الوجود بسيط وأنّه لا غير له ، ويستنتج من ذلك أنّ هذه الكثرة مقوّمة للوجود ـ بمعنى أنّها فيه غير خارجة منه (٢) ـ وإلّا كانت جزءا منه ولا جزء للوجود ، أو حقيقة خارجة منه ولا خارج من الوجود.

فللوجود كثرة في نفسه ، فهل هناك جهة وحدة ترجع إليها هذه الكثرة من غير أن تبطل بالرجوع (٣) ، فتكون حقيقة الوجود كثيرة في عين أنّها واحدة ، وواحدة في عين أنّها كثيرة ؛ وبتعبير آخر : حقيقة مشكّكة ذات مراتب مختلفة يعود ما به الامتياز في كلّ مرتبة إلى ما به الاشتراك ـ كما نسب إلى الفهلويّين (٤) ـ أو لا جهة وحدة فيها ، فيعود الوجود حقائق متباينة بتمام الذات ، يتميّز كلّ منها من غيره بتمام ذاته البسيطة ، لا بالجزء ، ولا بأمر خارجيّ ـ كما نسب إلى المشّائين (٥) ـ؟

الحقّ أنّها حقيقة واحدة في عين أنّها كثيرة (٦) ، لأنّا ننتزع من جميع مراتبها

__________________

ـ تكون موجودة بعرض الوجود ، فوصفها ـ أي الكثرة ـ كذلك بطريق أولى.

(١) في الفرع الثالث من الفروع المذكورة في الفصل الثاني.

(٢) أي : الكثرة في الوجود غير خارجة منه ، بمعنى أنّ الكثرة فيه عينه. وذلك لأنّ ما به الكثرة ليس إلّا صفات الوجود الّتي هي عين الوجود ، فإنّ الوجوب عين وجود الواجب كما أنّ الإمكان عين وجود الممكن. وكثرة الواجب والممكن ليست إلّا كثرة الوجوب والإمكان ، فالكثرة فيهما عين الوجود.

(٣) أي : من غير أن تبطل الكثرة بالرجوع إلى الوحدة.

(٤ و ٥) راجع شرح المنظومة : ٢٢ ـ ٢٣ و ٤٣ ـ ٤٤ ، والأسفار ١ : ٤٣٢ ـ ٤٣٣.

(٦) الأقوال في حقيقة الوجود ثمانية :

الأوّل : ما ذهب إليه الأشاعرة. وهو أنّ الوجود مشترك لفظيّ مطلقا ـ أي في جميع ما يطلق عليه لفظ الوجود من الواجب والممكن بأقسامه ـ ، فله مفاهيم مختلفة وحقائق متباينة. ـ

٣٣

ومصاديقها مفهوم الوجود العامّ الواحد البديهيّ ، ومن الممتنع انتزاع مفهوم واحد من مصاديق كثيرة بما هي كثيرة غير راجعة إلى وحدة مّا (١).

__________________

ـ وهذا القول نسب أيضا إلى بعض الغربيّين ك «Tomas Akoims».

الثاني : أنّ الوجود مشترك لفظيّ بين الواجب والممكن ومشترك معنويّ بين أقسام الممكن. كما نقل عن الكشّيّ وأتباعه ، وذهب إليه جماعة من المتأخّرين كالقاضي سعيد القمّيّ رحمه‌الله تبعا لشيخه المولى رجب عليّ التبريزيّ. راجع شرح المواقف : ٩٢ ، و (هستى از نظر فلسفه وعرفان) : ٢٢ و ٢٤.

الثالث : أنّ الوجود مشترك معنويّ في كلّ ما يطلق عليه ، وليس له فرد أصلا ، وتكثّره إنّما هو بالوجودات المضافة إلى الماهيّات المعبّرة عنها بالحصص. وهو مذهب جماعة من المتكلّمين.

الرابع : أنّ الوجود مشترك معنويّ في كلّ ما يطلق عليه ، وله أفراد متعدّدة ، غاية الأمر واحد منها موجود خارجيّ ، وهو الواجب تعالى ، وما سواه امور خارجيّة غير قائمة بذاتها ، لا موجودات خارجيّة. وهذا ما ذهب إليه السيّد الشريف والمحقّق اللاهيجيّ.

الخامس : أنّ الوجود له فرد واحد في الخارج وراء الحصص ، وهذا الفرد هو الواجب تعالى ، وليس للممكنات وجودات اخر وراء الحصص ، فالوجود واحد والموجود كثير ، وهو قول المحقّق الدوانيّ ، ونسبه إلى ذوق المتألّهين.

السادس : أنّ الوجود له أفراد متعدّدة كلّها موجودة في الخارج بالأصالة ، وتلك الأفراد بسائط متباينة بتمام الذات ، غاية الأمر أنّها مشترك في مفهوم الوجود. وهو قول المشّائين.

السابع : أنّ الوجودات بل الموجودات ليست متكثّرة في الحقيقة ، بل هنا موجود واحد هو الله تعالى قد تعدّدت شؤونه وتكثّرت أطواره. وهذا ما ذهب إليه الصوفيّة. ونسب إلى بعض الغربيّين ك» Spinoza «.

الثامن : أنّ للوجود أفرادا متعدّدة كلّها موجودة في الخارج والوجود فيها حقيقة واحدة متشكّكة ، واختلافها إنّما هو بالشدّة والضعف وغيرهما من أقسام التشكيك. وهذا ما نسب إلى الفهلويّين ، واختاره صدر المتألّهين قدس‌سره ، وتبعه المصنّف رحمه‌الله.

وأمّا البحث عن كلّ واحد من هذه الأقوال فيحتاج إلى رسالة خاصّة ، فتدبّر.

(١) والوجه في امتناع انتزاع مفهوم واحد من مصاديق كثيرة أنّ المفهوم والمصداق واحد ذاتا ، لأنّ المفهوم من المصداق هو المصداق المفهوم ، فله وجود حقيقيّ أيضا ، غاية الأمر أنّه وجود ذهنيّ ، بخلاف وجود المصداق الّذي هو وجود خارجيّ. فإذا انتزع الواحد بما هو واحد من الكثير بما هو كثير كان الواحد بما هو واحد كثيرا بما هو كثير ، وهو محال.

٣٤

ويتبيّن به أنّ الوجود حقيقة مشكّكة ذات مراتب مختلفة ، كما مثّلوا (١) له بحقيقة النور على ما يتلقّاه الفهم الساذج (٢) أنّه حقيقة واحدة ذات مراتب مختلفة في الشدّة والضعف ، فهناك نور قويّ ومتوسّط وضعيف مثلا ، وليست المرتبة القويّة نورا وشيئا زائدا على النوريّة ، ولا المرتبة الضعيفة تفقد من حقيقة النور شيئا أو تختلط بالظلمة الّتي هي عدم النور ، بل لا تزيد كلّ واحدة من مراتبه المختلفة على حقيقة النور المشتركة شيئا ، ولا تفقد منها شيئا ، وإنّما هي النور في مرتبة خاصّة بسيطة لم تتألّف من أجزاء ولم ينضمّ إليها ضميمة ، وتمتاز من غيرها بنفس ذاتها الّتي هي النوريّة المشتركة.

فالنور حقيقة واحدة بسيطة ، متكثّرة في عين وحدتها ، ومتوحّدة في عين كثرتها. كذلك الوجود حقيقة واحدة ذات مراتب مختلفة بالشدّة والضعف والتقدّم والتأخّر والعلوّ والدنوّ وغيرها (٣).

ويتفرّع على ما تقدّم امور :

الأمر الأوّل : أنّ التمايز بين مرتبة من مراتب الوجود ومرتبة اخرى إنّما هو بنفس ذاتها البسيطة الّتي ما به الاشتراك فيها عين ما به الامتياز. ولا ينافيه مع ذلك أن ينسب العقل التمايز الوجوديّ إلى جهة الكثرة في الوجود دون جهة الوحدة ،

__________________

(١) راجع الأسفار ١ : ٤٩ و ٦٩ ـ ٧١ ، وشرح المنظومة : ٢٢ ـ ٢٣.

(٢) تلويح إلى أنّ النور على ما يتلقّاه الفهم الساذج حقيقة عرضيّة بسيطة ذات مراتب مختلفة.

وأمّا بالدقّة العلميّة فهو مركّب من ذرّات أو أمواج أو ذرّات موجيّة.

(٣) والحاصل : أنّ حقيقة الوجود حقيقة واحدة في عين أنّها كثيرة ، كالنور الحسّيّ الّذي يرجع فيه كلّ ما به الامتياز (وهو النور الشديد والضعيف ، والمتقدّم والمتأخّر و...) إلى ما به الاشتراك (وهو النور) ؛ أو كالواحد لا بشرط (وهو الوحدة الجمعيّة والسعيّة الّتي للعدد) ، فإنّ الاثنين واحد وواحد ، والثلاثة واحد وواحد ، ولم يفترقا إلّا بالواحد ، كما لم يتقوّما ولم يشتركا إلّا به ؛ فالأعداد بجميع مراتبها الغير المتناهيّة منازل الواحد لا بشرط ، بل هو أصلها وأساسها وعادّها ومبديها. فما في السماوات والأرضين أعداد اعتباريّة قوامها بالواحد لا بشرط الّذي هو الوجود المفاض من الفيّاض المطلق.

٣٥

ولا أن ينسب الاشتراك والسنخيّة إلى جهة الوحدة.

الأمر الثاني : أنّ بين مراتب الوجود إطلاقا وتقييدا بقياس بعضها إلى بعض ، لمكان ما فيها من الاختلاف بالشدّة والضعف ونحو ذلك. وذلك أنّا إذا فرضنا مرتبتين من الوجود ضعيفة وشديدة ، وقع بينهما قياس وإضافة بالضرورة ، وكان من شأن المرتبة الضعيفة أنّها لا تشتمل على بعض ما للمرتبة الشديدة من الكمال ، لكن ليس شيء من الكمال الّذي في المرتبة الضعيفة إلّا والمرتبة الشديدة واجدة له. فالمرتبة الضعيفة كالمؤلّفة من وجدان وفقدان ، فذاتها مقيّدة بعدم بعض ما في المرتبة الشديدة من الكمال. وإن شئت فقل : «محدودة». وأمّا المرتبة الشديدة فذاتها مطلقة غير محدودة بالنسبة إلى المرتبة الضعيفة.

وإذا فرضنا مرتبة اخرى فوق الشديدة كانت نسبة الشديدة إلى هذه الّتي فرضنا فوقها كنسبة الّتي دونها إليها ، وصارت الشديدة محدودة بالنسبة إلى ما فوقها كما كانت مطلقة بالنسبة إلى ما دونها. وعلى هذا القياس في المراتب الذاهبة إلى فوق حتّى تقف في مرتبة ليست فوقها مرتبة ، فهي المطلقة من غير أن تكون محدودة إلّا بأنّها لا حدّ لها (١).

والأمر بالعكس ممّا ذكر إذا أخذنا مرتبة ضعيفة واعتبرناها مقيسة إلى ما هي أضعف منها ، وهكذا حتّى ننتهي إلى مرتبة من الكمال والفعليّة ليس لها من الفعليّة إلّا فعليّة أن لا فعليّة لها.

الأمر الثالث : تبيّن من جميع ما مرّ أنّ للمراتب المترتّبة من الوجود حدودا غير أعلى المراتب ، فإنّها محدودة بأنّها لا حدّ لها. وظاهر أنّ هذه الحدود الملازمة للسلوب والأعدام والفقدانات الّتي نثبتها في مراتب الوجود ، وهي أصيلة وبسيطة إنّما هي من ضيق التعبير ، وإلّا فالعدم نقيض الوجود ومن المستحيل أن يتخلّل في مراتب نقيضه.

__________________

(١) ولمّا كان الحدّ في معنى السلب كان نفي الحدّ سلبا للسلب وهو الإيجاب ، فيؤول إلى محوضة الوجود وهو الصرافة. (منه رحمه‌الله).

٣٦

وهذا المعنى ـ أعني دخول الأعدام في مراتب الوجود المحدودة وعدم دخولها (١) المؤدّي إلى الصرافة ـ نوع من البساطة والتركيب في الوجود ، غير البساطة والتركيب المصطلح عليها في موارد اخرى ، وهو البساطة والتركيب من جهة الأجزاء الخارجيّة (٢) أو العقليّة (٣) أو الوهميّة (٤).

الأمر الرابع : أنّ المرتبة كلّما تنزّلت زادت حدودها وضاق وجودها ، وكلّما عرجت وزادت قربا من أعلى المراتب قلّت حدودها واتّسع وجودها (٥) حتّى يبلغ أعلى المراتب ، فهي مشتملة على كلّ كمال وجوديّ من غير تحديد ، ومطلقة من غير نهاية.

الأمر الخامس : أنّ للوجود حاشيتين من حيث الشدّة والضعف ، وهذا ما يقضي به القول بكون الوجود حقيقة مشكّكة.

الأمر السادس : أنّ للوجود بما لحقيقته من السعة والانبساط تخصّصا بحقيقته العينيّة البسيطة ، وتخصّصا بمرتبة من مراتبه المختلفة البسيطة الّتي يرجع ما به الامتياز فيها إلى ما به الاشتراك ، وتخصّصا بالماهيّات المنبعثة عنه المحدّدة له ، ومن المعلوم أنّ التخصّص بأحد الوجهين الأوّلين ممّا يلحقه بالذات وبالوجه الثالث أمر يعرضه بعرض الماهيّات.

__________________

(١) في المرتبة العليا.

(٢) كتركّب الجسم من المادّة والصورة وبساطة غيره.

(٣) كتركّب الماهيّات المركّبة من الجنس والفصل ، وأمّا غيرها فبسيطة بحسبهما.

(٤) كتركّب الكمّ من الأجزاء الكميّة ، وغيره بسيط بحسبها.

(٥) المراد بسعة الوجود وضيقه اشتمال المرتبة على كمال أكثر أو أقلّ. (منه رحمه‌الله).

٣٧

الفصل الرابع

في شطر من أحكام العدم

قد تقدّم (١) أنّ العدم لا شيئيّة له ، فهو محض الهلاك والبطلان (٢).

وممّا يتفرّع عليه أن لا تمايز في العدم (٣) ، إذ التمايز بين شيئين إمّا بتمام الذات كالنوعين تحت مقولتين ، أو ببعض الذات كالنوعين تحت مقولة واحدة ، أو بما يعرض الذات كالفردين من نوع ، ولا ذات للعدم.

نعم! ربّما يضاف العدم إلى الوجود ، فيحصل له حظّ من الوجود ويتبعه نوع من التمايز ، كعدم البصر الّذي هو العمى المتميّز من عدم السمع الّذي هو الصمم ، وكعدم زيد وعدم عمرو المتميّز أحدهما من الآخر.

وبهذا الطريق ينسب العقل إلى العدم العلّيّة والمعلوليّة حذاء ما للوجود من

__________________

(١) في الفرع الثامن من الفروع المذكورة في الفصل الثاني.

(٢) راجع الأسفار ١ : ٣٤٠ ـ ٣٤١ ، وكشف المراد : ٢٩ ـ ٣٠.

(٣) راجع الأسفار ١ : ٣٤٨ ، وشرح المنظومة : ٤٧. خلافا للمحقّق الطوسيّ حيث ذهب إلى تمايز الأعدام ، فراجع كشف المراد : ٤٣ ، وشوارق الإلهام : ٦٦ ـ ٦٧.

والتحقيق أنّه لم يقل أحد بتمايز الأعدام مطلقا ، كما لم يقل أحد بعدم تمايزها كذلك ، بل المتّفق عليه أنّ الأعدام إن اخذت مضافة إلى الوجودات فتكون متمايزة ، وإن اخذت بما هي أعدام ومن دون إضافتها إلى الوجودات فلا تكون متمايزة. وبهذا يمكن الجمع بين مذهب الحكماء والمحقّق الطوسيّ.

٣٨

ذلك ، فيقال : «عدم العلّة علّة لعدم المعلول» حيث يضيف العدم إلى العلّة والمعلول فيتميّز العدمان ، ثمّ يبنى عدم المعلول على عدم العلّة كما كان يتوقّف وجود المعلول على وجود العلّة (١). وذلك نوع من التجوّز (٢) ، حقيقته الإشارة إلى ما بين الوجودين من التوقّف (٣).

ونظير العدم المضاف العدم المقيّد بأيّ قيد يقيّده ، كالعدم الذاتيّ والعدم الزمانيّ والعدم الأزليّ (٤). ففي جميع ذلك يتصوّر مفهوم العدم ويفرض له مصداق على حدّ سائر المفاهيم ، ثمّ يقيّد المفهوم فيتميّز المصداق ، ثمّ يحكم على المصداق ـ على ما له من الثبوت المفروض ـ بما يقتضيه من الحكم ، كاعتبار عدم العدم قبال العدم ، نظير اعتبار العدم المقابل للوجود قبال الوجود.

وبذلك يندفع الإشكال (٥) في اعتبار عدم العدم ، بأنّ العدم المضاف إلى العدم نوع من العدم (٦) ، وهو (٧) ـ بما أنّه رافع للعدم المضاف إليه ـ يقابله (٨) تقابل

__________________

(١) هذا أوّل الوجوه الّتي استدلّ المحقّق الطوسيّ بها على تمايز الأعدام ، فراجع كشف المراد : ص ٤٣ ، وشوارق الإلهام : ٦٦ ـ ٦٧.

(٢) كما في شرح المنظومة : ٤٨.

(٣) وأجاب عنه أيضا صدر المتألّهين في الأسفار ١ : ٣٥٠ ـ ٣٥١.

(٤) العدم الذاتيّ : هو عدم الشيء في حدّ ذاته ، المجامع لوجوده بعد استناده إلى العلّة. ولذا يسمّى : «العدم المجامع». كجميع الموجودات الممكنة الّتي لها الوجود بعلّة خارجة من ذواتها ، وليس لها في حدّ ذواتها إلّا العدم. ويقابله العدم الغيريّ ، وهو عدم الشيء بانعدام علّته ، وهذا العدم لا يجامع الوجود.

والعدم الزمانيّ : هو الّذي لا يجامع الوجود ، أي عدم الشيء في زمان. ويقابله العدم غير الزمانيّ ، وهو انعدام الشيء لا في زمان.

والعدم الأزليّ : هو الّذي لا أوّل له ، كعدم المعدومات الّتي لم يوجد أصلا. ويقابله العدم الّذي له أوّل ، كعدم الموجودات بعد وجودها.

(٥) هذا الإشكال تعرّض له صدر المتألّهين في الأسفار ١ : ٣٥٢.

(٦) كما كان عدم زيد نوع من العدم ، وعدم عمرو نوع آخر منه.

ولا يخفى أنّه حيث كان مفهوم العدم من المفاهيم الاعتباريّة لا يمكن أن يكون نوعا إلّا بنوع من التجوّز.

(٧) أي : عدم العدم.

(٨) أي : يقابل العدم.

٣٩

التناقض (١) ، والنوعيّة والتقابل لا يجتمعان البتّة (٢).

وجه الإندفاع ـ كما أفاده صدر المتألّهين (٣) رحمه‌الله ـ أنّ الجهة مختلفة (٤) ، فعدم

__________________

(١) لأنّ عدم العدم نفي النفي وسلب السلب ؛ ونفي النفي إثبات ، كما أنّ سلب السلب إيجاب ؛ فعدم العدم وجود ، وهو يقابل العدم تقابل النقيضين. ويعبّر عن مثل هذا التناقض في المنطق الجديد ب «پارادكس منطقيّ» Paradox Logeal وهو كلّ قضيّة يلزم من فرض صدقه الخلف.

(٢) فإنّ نوع الشيء هو الشيء ، ومتقابله غيره ، والهو هويّة والغيريّة لا تجتمعان.

(٣) راجع الأسفار ١ : ٣٥٢.

(٤) ويبدو من اللازم أن نلاحظ أوّلا أنّه ما المراد من الحمل الأوليّ والحمل الشائع؟ ثمّ نحاول دفع التناقض في المقام ، فنقول : إنّ الحمل على قسمين : ١ ـ الحمل الأوّليّ. ٢ ـ الحمل الشائع. وهذان قيدان قد يقيّد بهما الموضوع ، وقد يقيّد بهما القضيّة. ويختلف المراد منهما بحسب اختلاف الموردين :

١ ـ إذا كانا قيدا للموضوع فالمراد من الحمل الأوّليّ هو المفهوم ، بمعنى أنّ مفهوم الموضوع كذا ، فيقال مثلا : «الإنسان بالحمل الأوّليّ حيوان ناطق» أي مفهوم الإنسان حيوان ناطق. والمراد من الحمل الشائع هو المصداق ، بمعنى أنّ مصداق الموضوع كذا ، فيقال :

«الإنسان بالحمل الشائع كاتب» ومعناه أنّ مصداق الإنسان كاتب.

٢ ـ وإذا كانا قيدا للقضيّة فيكون المراد من الحمل الأوّليّ أنّ اتّحاد المحمول بالموضوع اتّحاد مفهوميّ ، كقولنا : «الإنسان إنسان بالحمل الأوّليّ» ، أي مفهوم الإنسان (الموضوع) نفس مفهوم الإنسان (المحمول) ، وهو الحيوان الناطق. ويكون المراد من الحمل الشائع أنّ بينهما اتّحاد مصداقيّ ، بمعنى أنّ الموضوع مصداق مفهوم المحمول ، والموضوع إمّا أن يكون مفهومه مصداق مفهوم المحمول ، كقولنا : «الإنسان كلّيّ بالحمل الأوّليّ» ، أي مفهوم الإنسان ـ وهو حيوان ناطق ـ مصداق لمفهوم الكلّي ، أو يكون مصداقه مصداق مفهوم المحمول ، كقولنا : «الإنسان أبيض بالحمل الشائع» أي مصداق الإنسان مصداق لمفهوم الأبيض.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ من شروط تحقّق التناقض بين القضيّتين وحدتهما في الموضوع والحمل. والتهافت المتوهّم في المقام يرفع إمّا باختلاف الموضوع وإمّا باختلاف الحمل.

أمّا في مثال : «عدم العدم عدم» فيرفع التهافت باختلاف الموضوع في قضيّة : «عدم العدم ليس بعدم» وقضيّة «عدم العدم عدم» ، فإنّ الموضوع في الأوّلي مقيّد بقيد الحمل الشائع ، فيرجع إلى قولنا : «عدم العدم بالحمل الشائع ليس بعدم» ، أي مصداق عدم العدم ـ وهو الوجود ـ ليس بعدم ، والموضوع في الثانية مقيّد بالحمل الأوّلى ، فيرجع إلى قولنا : «عدم العدم بالحمل الأوّلى عدم» أي مفهوم عدم العدم ـ الّذي نوع من العدم ـ عدم. ـ

٤٠