نهاية الحكمة - ج ١

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

نهاية الحكمة - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-470-623-3
ISBN الدورة:
978-964-470-005-7

الصفحات: ٢٨٣

الفصل الثاني

في أقسام الواحد

الواحد إمّا حقيقيّ ، وإمّا غير حقيقيّ. والحقيقيّ ما اتّصف بالوحدة لذاته من غير واسطة في العرض (١) كالإنسان الواحد. وغير الحقيقيّ بخلافه كالإنسان والفرس المتّحدين في الحيوان ، وينتهي لا محالة إلى واحد حقيقيّ.

والواحد الحقيقيّ إمّا ذات هي عين الوحدة ، وإمّا ذات متّصفة بالوحدة. والأوّل هو صرف الشيء الّذي لا يتثنّى ولا يتكرّر ، وتسمّى وحدته : «وحدة حقّة» والواحد والوحدة هناك شيء واحد. والثاني ك «الإنسان الواحد».

والواحد بالوحدة غير الحقّة إمّا واحد بالخصوص ، وإمّا واحد بالعموم (٢).

__________________

(١) وبتعبير آخر : الواحد الحقيقيّ ما كان متّصفا بالوحدة على نحو الحقيقة ، بأن تكون الوحدة صفة له بنفسه حقيقة.

(٢) ولا يخفى أنّ الحكيم السبزواريّ قسّم الواحد الحقيقيّ مطلقا إلى الواحد بالخصوص والواحد بالعموم. فقال : «وهي أي الوحدة الحقيقيّة انم للخصوص وهي الوحدة العدديّة. والعموم بحسب الوجود ، كحقيقة الوجود لا بشرط والوجود المنبسط ؛ والمفهوم كالوحدة النوعيّة والجنسيّة والعرضيّة». شرح المنظومة (قسم الحكمة) : ١١٠.

وقال المحقّق الآمليّ في درر الفوائد ١ : ٣٣٦ : «صرّح بمرجع ضمير (هي) بأنّه الوحدة الحقيقيّة مطلقا بكلا قسميها من الحقّة وغير الحقّة ، لئلّا يتوهّم كون هذا التقسيم لخصوص غير الحقّة منها».

فالوجود المنبسط عند الحكيم السبزواريّ من مصاديق الوحدة الحقيقيّة الحقّة ، بمعنى أنّه نفس الوحدة ، لا ذات له الوحدة ، كما صرّح بذلك المحقّق الآمليّ في درر الفوائد ١ : ٣٣٤ ـ

٢٤١

والأوّل هو الواحد بالعدد الّذي يفعل بتكرّره العدد. والثاني كالنوع الواحد والجنس الواحد.

والواحد بالخصوص إمّا أن لا ينقسم من حيث طبيعته المعروضة للوحدة أيضا ـ كما لا ينقسم من حيث صفة وحدته ـ أو ينقسم. والأوّل إمّا نفس مفهوم الوحدة وعدم الانقسام ، وإمّا غيره. وغيره إمّا وضعيّ كالنقطة الواحدة ، وإمّا غير وضعيّ كالمفارق. وهو إمّا متعلّق بالمادّة بوجه كالنفس المتعلّقة بالمادّة في فعلها ، وإمّا غير متعلّق بها أصلا كالعقل. والثاني ـ وهو الّذي يقبل الانقسام بحسب طبيعته المعروضة للوحدة ـ إمّا أن يقبله بالذات كالمقدار الواحد ، وإمّا أن يقبله بالعرض كالجسم الطبيعيّ الواحد من جهة مقداره.

والواحد بالعموم إمّا واحد بالعموم المفهوميّ ، وإمّا واحد بالعموم بمعنى السعة الوجوديّة. والأوّل إمّا واحد نوعيّ كالإنسان ، وامّا واحد جنسيّ كالحيوان وإمّا واحد عرضيّ كالماشي والضاحك. والواحد بالعموم بمعنى السعة الوجوديّة كالوجود المنبسط (١).

والواحد غير الحقيقيّ وهو ما اتّصف بالوحدة بعرض غيره ، لاتّحاده به نوعا من الاتّحاد كزيد وعمرو المتّحدين في الإنسان ، والإنسان والفرس المتّحدين في الحيوان. وتختلف أسماء الواحد غير الحقيقيّ باختلاف جهة الوحدة ، فالاتّحاد في معنى النوع يسمّى : «تماثلا». وفي معنى الجنس «تجانسا». وفي الكيف «تشابها». وفي الكمّ «تساويا». وفي الوضع «توازيا» و «تطابقا» (٢).

__________________

ـ وقال : «الحاصل أنّ الحقّ تعالى والوجود المنبسط مشتركان في كون وحدتهما وحدة حقّة حقيقيّة ، إلّا أنّ وحدة الحقّ تعالى حقّة حقيقيّة أصيلة ، ووحدة الوجود المنبسط وحدة حقّة حقيقيّة ظلّيّة».

وأمّا عند المصنّف رحمه‌الله فهو من مصاديق الوحدة الحقيقيّة غير الحقّة ، كما سيأتي.

(١) وهو الوجود المطلق ، الّذى صنع الحقّ ، ولا يحتاج إلى الحيثيّة التقييديّة ، بل هو بذاته عار عن أحكام الماهيّات.

(٢) أمّا التماثل فمثل وحدة أفراد الإنسان في النوع. والتجانس كالإنسان والبقر والغنم ، فإنّهم ـ

٢٤٢

ووجود كلّ من الأقسام المذكورة ظاهر ، وكذا كون الوحدة واقعة على أقسامها وقوع المشكّك على مصاديقه بالاختلاف. كذا قرّروا (١).

__________________

ـ واحد في الجنس. والتشابة كالثلج والعاج والقطن المتّحدة في الكيف وهو البياض. والتساوي كوحدة ثلاثة أخشاب يكون كلّ منها ذراعين. والتوازي كخطّي القطار ، فإنّهما متوازيان ، ولهما وحدة في الوضع.

(١) راجع كشف المراد : ١٠٢ ـ ١٠٣ ، والأسفار ٢ : ٨٣ ـ ٨٧ ، وشرح المنظومة ص ١٠٨ ـ ١١١ ، وشرح التجريد للقوشجيّ : ١٠٠ ـ ١٠٢ ، والمباحث المشرقيّة ١ ص ٨٨ ـ ٨٩ ، وغيرها من المطوّلات.

٢٤٣

الفصل الثالث

[في الهوهو ، وهو الحمل]

من عوارض الوحدة الهوهويّة (١) ، كما أنّ من عوارض الكثرة الغيريّة.

والمراد بالهوهويّة الاتّحاد من جهة مّا مع الاختلاف من جهة مّا ، ولازم ذلك صحّة الحمل بين كلّ مختلفين بينهما اتّحاد مّا ، وإن اختصّ الحمل بحسب التعارف ببعض أقسام الاتّحاد (٢).

__________________

(١) أي : من العوارض الذاتيّة للوحدة الهوهويّة.

(٢) وهو كما سيأتي اتّحاد الموضوع والمحمول مفهوما مع اختلافهما بنوع من الاعتبار ، واتّحادهما وجودا مع اختلافهما مفهوما.

قال الحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة (قسم الحكمة) : ١١١ : «إنّ الهوهويّة الّتي هي اتّحاد مّا ، وهي مقسم للحمل ...». وقال في هامشه : «قولنا : (وهي مقسم للحمل) بناء على ما هو المشهور من أنّها أعمّ».

ثمّ قال : «هذه ـ أي الهوهويّة ـ هي الحمل». ثمّ قال : «التعارف قد خصّص الحمل بالاتّحاد في الوجود ... ولو اتّبعنا المشهور فالهوهويّة هنا ليست بمعناها الأعمّ». شرح المنظومة : ١١٢.

وقال المحقّق الآمليّ : «الهوهويّة اسم مركّب من هوهو. جعل اسما للاتّحاد ، فعرّف باللام.

فقيل : الهوهويّة. وتطلق على مطلق الاتّحاد تارة ، وعلى خصوص الاتّحاد في الوجود اخرى. والحمل أيضا مثل الهوهويّة يطلق تارة على اتّحاد مّا ، وتارة اخرى على الاتّحاد في الوجود. فالهوهويّة هي الحمل ، على تقدير كونهما معا مطلق الاتّحاد أو خصوص الاتّحاد في الوجود ، كما أنّ الهوهويّة تكون أعمّ من الحمل إذا كانت بمعنى مطلق الاتّحاد وكان الحمل بمعنى الاتّحاد في الوجود ، والحمل يصير أعمّ منها إذا كان هو أعمّ والهوهويّة بمعنى ـ

٢٤٤

واعترض عليه (١) بأنّ لازم عموم صحّة الحمل في كلّ اتحاد مّا من مختلفين هو صحّة الحمل في الواحد المتّصل المقداريّ الّذي له أجزاء كثيرة بالقوّة موجودة بوجود واحد بالفعل ، بأن يحمل بعض أجزائه على بعض ، وبعض أجزائه على الكلّ ، وبالعكس ، فيقال : «هذا النصف من الذراع هو النصف الآخر» أو «هذا النصف هو الكلّ» أو «كلّه هو نصفه» ، وبطلانه ضروريّ.

والجواب ـ كما أفاده صدر المتألّهين (٢) قدس‌سره ـ : أنّ المتّصل الوحدانيّ ما لم ينقسم بواحد من أنحاء القسمة خارجا أو ذهنا لم تتحقّق فيه كثرة أصلا ، فلم يتحقّق شرط الحمل ـ الّذي هو وحدة مّا مع كثرة مّا ـ فلم يتحقّق حمل. وإذا انقسم بأحد أنحاء القسمة بطلت هويّته الواحدة وانعدم الاتّصال الّذي هو جهة وحدته ، فلم يتحقّق شرط الحمل ـ الّذي هو كثرة مّا مع وحدة مّا ـ فلم يتحقّق حمل.

فقد تبيّن أنّ بين كلّ مختلفين من وجه متّحدين من وجه حملا إذا جامع الاتّحاد الاختلاف ، لكنّ التعارف العامّيّ ـ كما أشرنا إليه (٣) ـ خصّ الحمل على موردين من الاتّحاد مع الاختلاف :

أحدهما : أن يتّحد الموضوع والمحمول مفهوما مع اختلافهما بنوع من الاعتبار ، كالاختلاف بالإجمال والتفصيل في قولنا : «الإنسان حيوان ناطق» ، فإنّ الحدّ عين المحدود مفهوما ، وإنّما يختلفان بالإجمال والتفصيل.

__________________

ـ الاتّحاد في الوجود». درر الفوائد ١ : ٣٣٨ ـ ٣٣٩.

ومن هنا يظهر أنّ مراد الحكيم السبزواريّ من قوله : «الهوهويّة هي الحمل» هو الهوهويّة والحمل بمعنى خصوص الاتّحاد الخارجيّ. ومراد المصنّف رحمه‌الله في المقام وفي بداية الحكمة : ١٣١ ـ حيث قال : «إنّ الهوهويّة هو الاتّحاد في جهة مّا ، وهذا هو الحمل» ـ هو الهوهويّة والحمل بمعنى مطلق الاتّحاد.

(١) وهذا الاعتراض تعرّض له في القبسات : ٢٠١ ، والأسفار ٢ : ٩٥.

(٢) راجع الأسفار ٢ : ٩٧. وأجاب عنه أيضا السيّد الداماد في القبسات : ٢٠١.

(٣) في ابتداء الفصل ، حيث قال : «وإن اختصّ الحمل بحسب التعارف ببعض أقسام الاتّحاد».

٢٤٥

والاختلاف بالإبهام وغيره (١) في قولنا : «الإنسان حيوان» فإنّ الجنس هو النوع مبهما. والاختلاف بالتحصيل وغيره (٢) في قولنا : «الإنسان ناطق» ، فإنّ الفصل هو النوع محصّلا ـ كما مرّ في مباحث الماهيّة (٣) ـ. وكالاختلاف بفرض الشيء مسلوبا عن نفسه ، فيغاير نفسه نفسه ، ثمّ يحمل على نفسه لدفع توهّم المغايرة ، فيقال مثلا : «الإنسان إنسان». ولمّا كان هذا الحمل ربّما يعتبر في الوجود العينيّ كان الأصوب أن يعرّف باتّحاد الموضوع والمحمول ذاتا ، ويسمّى هذا الحمل : «حملا أوّليّا ذاتيّا» (٤).

وثانيهما : أن يختلفا مفهوما ويتّحدا وجودا ، كما في قولنا : «زيد إنسان» وقولنا : «القطن أبيض» وقولنا : «الضاحك متعجّب». ويسمّى هذا الحمل : «حملا شائعا صناعيّا» (٥).

وهاهنا نكتة يجب التنبيه عليها وهي : أنّه قد تقدّم في المباحث السابقة (٦) أنّ الوجود ينقسم إلى ما في نفسه وما في غيره ، وينقسم أيضا إلى ما لنفسه وما لغيره ، وهو الوجود النعتيّ. وتقدّم أيضا (٧) امتناع أن توجد ماهيّتان بوجود واحد نفسيّ ، بأن يطرد وجود واحد العدم عن نفس ماهيّتين متباينتين ، وهو وحدة الكثير المستحيلة عقلا.

ومن هنا يتبيّن أنّ الحمل ـ الّذي هو اتّحاد المختلفين بوجه ـ لا يتحقّق

__________________

(١) أي : وعدم الإبهام.

(٢) أي : وعدم التحصيل.

(٣) راجع الفصل الخامس من المرحلة الخامسة.

(٤) سمّي ذاتيّا لكون المحمول فيه ذاتيا للموضوع ، وأوّليّا لأنّه من الضروريّات الأوّلية الّتي لا يتوقّف التصديق بها على أزيد من تصوّر الموضوع والمحمول. راجع تعليقات المصنّف رحمه‌الله على بداية الحكمة : ١٣١.

(٥) سمّي شائعا لأنّه الشائع في المحاورات ، وصناعيّا لأنّه المعروف والمستعمل في الصناعات والعلوم. راجع تعليقات المصنّف رحمه‌الله على بداية الحكمة : ١٣٢.

(٦) راجع الفصل الأوّل والثاني من المرحلة الثانية.

(٧) راجع الفصل الثالث من المرحلة الثانية.

٢٤٦

في وجود المختلفين النفسيّ ، وإنّما يتحقّق في الوجود النعتيّ ، بأن يكون أحد المختلفين ناعتا بوجوده للآخر والآخر منعوتا به. وبعبارة اخرى : أحد المختلفين هو الذات بوجوده النفسيّ ، والآخر هو الوصف بوجوده النفسيّ ، واتّحادهما في الوجود النعتيّ الّذي يعطيه الوصف للذات (١). وهذا معنى قول المنطقيّين : «إنّ القضيّة تنحلّ إلى عقدين : عقد الوضع ، ولا يعتبر فيه إلّا الذات ، وما فيه من الوصف عنوان مشير إلى الذات فحسب. وعقد الحمل ، والمعتبر فيه الوصف فقط» (٢).

وهاهنا نوع ثالث من الحمل ، يستعمله الحكيم ، مسمّى بحمل الحقيقة والرقيقة ، مبنيّ على اتّحاد الموضوع والمحمول في أصل الوجود ، واختلافهما بالكمال والنقص ، يفيد وجود الناقص في الكامل بنحو أعلى وأشرف ، واشتمال المرتبة العالية من الوجود على كمال ما دونها من المراتب.

__________________

(١) راجع ما مرّ في تعليقتنا على الفصل الثالث من المرحلة الثانية ، الرقم (١) من الصفحة : ٥٤.

(٢) راجع شرح المطالع : ١٣٥ ـ ١٣٦.

٢٤٧

الفصل الرابع

[في تقسيمات الحمل]

ينقسم الحمل (١) إلى حمل هو هو وحمل ذي هو. والأوّل : ما يثبت فيه المحمول للموضوع بلا توقّف على اعتبار أمر زائد ، كقولنا : «الإنسان ضاحك» ؛ ويسمّى أيضا «حمل المواطاة». والثاني : أن يتوقّف ثبوت المحمول للموضوع على اعتبار أمر زائد ، كتقدير ذي أو الاشتقاق ، كقولنا : «زيد عدل» أي ذو عدل ، أو عادل.

وينقسم أيضا إلى بتّيّ وغير بتّيّ. والأوّل : ما كان لموضوعه أفراد محقّقة يصدق عليها بعنوانه ، كقولنا : «الإنسان كاتب» و «الكاتب متحرّك الأصابع». والثاني : ما كان لموضوعه أفراد مقدّرة غير محقّقة ، كقولنا : «المعدوم المطلق لا يخبر عنه» وقولنا : «اجتماع النقيضين محال».

وينقسم أيضا إلى بسيط ومركّب ، ويسمّيان : «الهليّة البسيطة» ، و «الهليّة المركّبة». والهليّة البسيطة ما كان المحمول فيها وجود الموضوع ، كقولنا : «الإنسان موجود». والهليّة المركّبة ما كان المحمول فيها أثرا من آثاره وعرضيّا من عرضيّاته ، كقولنا : «الإنسان ضاحك» فهي تدلّ على ثبوت شيء لشيء ، بخلاف الهليّة البسيطة حيث تدلّ على ثبوت الشيء.

__________________

(١) أي : الحمل الشائع ، كما صرّح بذلك المصنّف رحمه‌الله في بداية الحكمة : ١٣٢.

٢٤٨

وبذلك يندفع ما أورده بعضهم (١) على كلّيّة قاعدة الفرعيّة القائلة : «إنّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له» بانتقاضها بمثل قولنا : «الماهيّة موجودة» حيث إنّ ثبوت الوجود للماهيّة ـ بناء على ما تقتضيه قاعدة الفرعيّة ـ فرع ثبوت الماهيّة ، وننقل الكلام إلى ثبوتها ، فهو فرع ثبوتها قبل ، وهلمّ جرّا ، فيتسلسل.

والجواب (٢) ـ على ما تحصّل ـ : أنّ القضيّة هليّة بسيطة ، والهليّة البسيطة إنّما تدلّ على ثبوت الشيء لا على ثبوت شيء لشيء ، حتّى تقتضي وجودا للماهيّة قبل وجودها ، هذا.

وأمّا ما أجاب به بعضهم (٣) عن الإشكال ـ بتبديل الفرعيّة من الاستلزام ، وأنّ الحقّ أنّ ثبوت شيء لشيء مستلزم لثبوت المثبت له ولو بنفس هذا الثبوت ، وثبوت الوجود للماهيّة مستلزم لثبوت الماهيّة بنفس هذا الثبوت ـ فهو تسليم للإشكال.

وأسوأ حالا منه قول بعضهم (٤) : «إنّ القاعدة مخصّصة بثبوت الوجود للماهيّة» ، هذا.

__________________

(١) تعرّض لهذا الإيراد صدر المتألّهين في الأسفار ١ : ٤٣ ، والمشعر الخامس من كتاب المشاعر : ٢٧ ، ورسالة في اتّصاف الماهية بالوجود المطبوعة ذيل رسائل صدر المتألّهين : ١١٠.

(٢) كذا أجاب عنه صدر المتألّهين في الأسفار ١ : ٤٣ ، والمشعر الخامس من المشاعر : ٢٧ ، ورسائل صدر المتألّهين : ١١٥ ـ ١١٦.

(٣) وهو المحقّق الدوانيّ في حاشية شرح التجريد للقوشجيّ : ٥٩. ونقله عنه صدر المتألّهين في رسالة اتّصاف الماهيّة بالوجود ، فراجع رسائل صدر المتألّهين : ١١١.

(٤) وهو الفخر الرازيّ على ما نقل عنه في تعليقات الحكيم السبزواريّ على الأسفار ١ : ٤٣.

وقال المصنّف رحمه‌الله في تعليقاته على بداية الحكمة : ١٠٣ : «وعن الإمام الرازيّ أنّ القاعدة مخصّصة بالهليّة البسيطة. وفيه : أنّه تخصيص في القواعد العقليّة».

٢٤٩

الفصل الخامس

في الغيريّة وأقسامها (١)

__________________

(١) اعلم أنّ الخلاف في الغيريّة وأقسامها وقع في موضعين : الأوّل :

أنّ التماثل ـ وهو اشتراك الاثنين في تمام الماهيّة ـ هل هو من الغيريّة أو هو من الوحدة؟. ذهب صدر المتألّهين إلى الأوّل ، فقال : «المماثلة أيضا من أقسام الغيريّة». وتبعه الحكيم السبزواريّ في موضع من شرح المنظومة ، حيث قال : «والغيريّة ـ الّتي هي مقسم للتقابل وللتخالف وللتماثل بوجه ، بأن يقال : الغيران إمّا متقابلان ، أو متخالفان ، أو متماثلان ـ من العوارض الذاتيّة للكثرة». راجع الأسفار ٢ : ١٠١ ، وشرح المنظومة (قسم الحكمة) : ١١٢.

وذهب بعضهم إلى الثاني ، ومنهم الحكيم السبزواريّ في موضع آخر من شرح المنظومة : ١١٦ ، حيث قال : «التقابل نوع من الغيريّة فحينئذ خرج التماثل من التعريف ، لأنّ التماثل وإن كان بوجه من الغيريّة لكن ، جهة الاتّحاد والهوهويّة عليه أغلب». وتبعه المصنّف رحمه‌الله في المقام ، ولذا حصر أقسام الغيريّة في التقابل والتخالف.

الثاني : أنّ التماثل ـ بناء على كونه من أقسام الغيريّة ـ هل هو من أقسام التقابل أو أنّه قسيم للتخالف وكان التقابل من أقسام التخالف؟. المشهور هو الأوّل ، ولذا عرّفوا التقابل ب «امتناع اجتماع شيئين في محلّ واحد من جهة واحدة في زمان واحد». فيكون التماثل من أقسام التقابل ، حيث إنّ المتماثلين هما الاثنان اللذان لا يجتمعان في موضوع واحد في زمان واحد من جهة واحدة ، كزيد وعمرو.

وذهب صدر المتألّهين إلى الثاني ، ولذا عدل من تعريف المشهور ، فقال : «فالتقابل هو امتناع اجتماع شيئين متخالفين في موضوع واحد في زمان واحد من جهة واحدة». الأسفار ٢ : ١٠٢. وعليه يقال : إن كان الاثنان الغيران متشاركين في تمام الماهيّة فهما متماثلان ، وإلّا فهما متخالفان. والمتخالفان إمّا متقابلان وإمّا غيرهما. فالتقابل قسم من التخالف ، ـ

٢٥٠

قد تقدّم (١) أنّ من عوارض الكثرة الغيريّة. وتنقسم الغيريّة إلى ذاتيّة وغير ذاتيّة.

فالغيريّة الذاتيّة ، هي : أن يدفع أحد شيئين الآخر بذاته ، فلا يجتمعان لذاتيهما ، كالمغايرة بين الوجود والعدم ، وتسمّى : «تقابلا».

وقد عرّفوا التقابل ب «أنّه امتناع اجتماع شيئين في محلّ واحد من جهة واحدة في زمان واحد» (٢). ونسبة امتناع الاجتماع إلى شيئين للدلالة على كونه لذاتيهما. والمراد بالمحلّ الواحد مطلق الموضوع ، ولو بحسب فرض العقل ، حتّى يشمل تقابل الإيجاب والسلب ، حيث إنّ متن القضيّة كالموضوع لهما. وتقييد التعريف ب «جهة واحدة» لإخراج ما اجتمع منهما في شيء واحد من جهتين ، ككون زيد أبا لعمرو وابنا لبكر (٣). والتقييد ب «وحدة الزمان» ليشمل

__________________

ـ والتماثل خارج عن تعريف التقابل ، لأنّ التخالف الّذي كان مقسما للتقابل قسيم للتماثل.

(١) في الفصل السابق.

(٢) المباحث المشرقيّة ١ : ٩٩ ، وشرح المواقف : ١٦٤ ، والمطارحات : ٣١٣.

(٣) وقال في الأسفار ٢ : ١٠٢ : «(ودخل بقيد وحدة الحمل) مثل التقابل الّذي بين السواد والبياض ممّا يمكن اجتماعهما في الوجود ، كسواد الحبشيّ وبياض الروميّ. وبقيد (وحدة الجهة) مثل التقابل الّذي بين الابوّة والبنوّة ممّا يمكن اجتماعهما في محلّ واحد باعتبار جهتين».

وقال الحكيم السبزواريّ : «وبقيد وحدة الجهة دخل مثل تقابل الابوّة والبنوّة المجتمعتين في واحد من جهتين». شرح المنظومة : ١١٦.

وأمّا المصنّف رحمه‌الله في المقام قال : «وتقييد التعريف ب «جهة الوحدة» لإخراج ما اجتمع منهما في شيء واحد من جهتين ، ككون زيد أبا لعمرو وابنا لبكر».

والجمع بين كون قيد وحدة الجهة لإدخال مثل تقابل الابوّة والبنوّة وكونه لإخراجه أن يقال : إنّ بقيد «وحدة الجهة» يدخل الابوّة والبنوّة المطلقتان في التعريف ، فإنّ اجتماعهما في ذات واحدة ممتنع. ويخرج الابوّة والبنوّة المقيّدتان كابوّة زيد وبنوّته الموجودتين فيه ، إحداهما بالقياس إلى ابنه ، والاخرى بالقياس إلى أبيه ، فيكون اجتماعهما من جهتين مختلفتين ، ولا تقابل بينهما.

فلا تنافي بين ما ذكره صدر المتألّهين والحكيم السبزواريّ وبين ما ذكره المصنّف رحمه‌الله ـ

٢٥١

ما كان من التقابل زمانيّا ، فليس عرض الضدّين لموضوع واحد في زمانين مختلفين ناقضا للتعريف (١).

ولا ينتقض التعريف بالمثلين الممتنع اجتماعهما عقلا ، لأنّ أحد المثلين لا يدفع الآخر بذاته الّتي هي الماهيّة النوعيّة المشتركة بينهما ، وإنّما يمتنع اجتماعهما لاستحالة تكرّر الوجود الواحد ـ كما تقدّم في مباحث الوجود (٢) ـ.

ولا ينتقض أيضا بنقيض اللازم وعين الملزوم ، فإنّ نقيض اللازم إنّما يعاند عين الملزوم لمعاندته اللازم الّذي هو نقيضه ، فامتناع اجتماعه مع الملزوم بعرض نقيضه لا لذاته (٣).

__________________

ـ في المقام ، فإنّ إدخال المطلقتين منهما في التعريف يستلزم إخراج المقيّدتين منهما من التعريف ، كما أنّ إخراج المقيّدتين منهما من التعريف يستلزم إدخال المطلقتين في التعريف.

(١) قال القوشجيّ في شرحه للتجريد : ١٠٤ ـ تبعا للمحقّق الشريف في شرح المواقف : ١٦٤ ـ : «وأمّا التقييد بوحدة الزمان فمستدرك ، لأنّ الاجتماع لا يكون إلّا في زمان واحد». واعترض عليه اللاهيجيّ في شوارق الإلهام : ١٩٢ ـ تبعا للمحقّق الدوانيّ في حاشية شرح القوشجيّ : ١٠٤ ـ بأنّ قيد الاجتماع غير مغن عن الزمان ، لصدقه على المقارنة في الرتبة أو وصف آخر اصطلاحا.

والعجب من صدر المتألّهين في شرح الهداية الأثيريّة : ٢٢٧ حيث قال : «وقيد الاجتماع مغن عن ذكر (في زمان واحد) كما وقع في كلام بعضهم». فإنّ كلامه هذا ينافي كلامه في الأسفار ٢ : ١٠٢ ـ ١٠٣ ، حيث قال : «فما قيل من أنّ التقييد بوحدة الزمان مستدرك لأنّ الاجتماع لا يكون إلّا في زمان واحد غير صحيح». ويمكن أن يكون ما وقع في شرح الهداية سهوا من قلم الناسخ بحذف كلمة «غير» من العبارة ، والصواب هو هذه العبارة : «وقيد الاجتماع غير مغن ...».

وأمّا المصنّف رحمه‌الله وإن كان ظاهر كلامه في المقام أنّ القيود الثلاثة كلّها قيود احترازيّة ولكن صرّح في تعليقته على الأسفار بأنّ قيد الاجتماع في الموضوع الواحد مغن عن ذكر القيود الاخر جميعا ، فقال : «لو لا التقييد بوحدة الموضوع لغى اعتبار التقابل ... فتحقّق ما يجري مجرى الموضوع في التقابل من أحكامه الضروريّة اخذ في رسمه». راجع تعليقته على الأسفار ٢ : ١٠٢.

(٢) راجع الفصل الخامس من المرحلة الاولى.

(٣) راجع شوارق الإلهام : ١٩٤.

٢٥٢

والغيريّة غير الذاتيّة : أن يكون الشيئان لا يجتمعان لأسباب اخر غير ذاتيهما ، كافتراق الحلاوة والسواد في السكّر والفحم ، وتسمّى «خلافا». ويسمّى أيضا الغير بحسب التشخّص والعدد : «آخر» (١).

والتقابل ينقسم إلى أربعة أقسام ، وهي : تقابل التناقض ، وتقابل العدم والملكة ، وتقابل التضايف ، وتقابل التضادّ. والأصوب في ضبط الأقسام أن يقال : «إنّ المتقابلين إمّا أن يكون أحدهما عدما للآخر أو لا. وعلى الأوّل إمّا أن يكون هناك موضوع قابل كالبصر والعمى فهو تقابل العدم والملكة أو لا يكون كالإيجاب والسلب وهو تقابل التناقض. وعلى الثاني ـ وهو كونهما وجوديّين ـ فإمّا أن لا يعقل أحدهما إلّا مع الآخر وبالقياس إليه كالعلوّ والسفل وهو تقابل التضايف أو لا وهو تقابل التضادّ» (٢).

__________________

(١) قال الحكيم السبزواريّ في تعليقته على الأسفار ٢ : ١٠١ : «الغير في التشخّص يسمّى بالآخر بحسب اصطلاح مّا ، وبالمثل بحسب اصطلاح آخر».

(٢) هذا وجه ضبط ذكره التفتازانيّ في شرح المقاصد ١ : ١٤٦ ، والقوشجيّ في شرح التجريد : ١٠٤ ـ ١٠٥ ، واللاهيجيّ في شوارق الإلهام : ١٩٢ ـ ١٩٣ ، وصدر المتألّهين في الأسفار ٢ : ١٠٣. وذكر له وجوه اخر ، فراجع المباحث المشرقيّة ١ : ١٠٢ ـ ١٠٣ ، وكشف المراد : ١٠٧ ، وشرح المواقف : ١٦٤.

٢٥٣

الفصل السادس

في تقابل التناقض

وهو تقابل الإيجاب والسلب ، كقولنا : «زيد أبيض ، وليس زيد بأبيض» ، أو ما هو في معنى الإيجاب والسلب من المفردات ، ك «الإنسان واللاإنسان» و «العمى واللاعمى» و «المعدوم واللامعدوم».

والنقيضان لا يصدقان معا ولا يكذبان معا. وإن شئت فقل : لا يجتمعان ولا يرتفعان. فمآل تقابل التناقض إلى قضيّة منفصلة حقيقيّة هي قولنا : «إمّا أن يصدق الإيجاب وإمّا أن يصدق السلب». فالتناقض في الحقيقة بين الإيجاب والسلب.

ولا ينافي ذلك تحقّق التناقض بين المفردات ، فكلّ مفهوم أخذناه في نفسه ثمّ أضفنا إليه معنى النفي كالإنسان واللإنسان والفرس واللافرس تحقّق التناقض بين المفهومين. وذلك أنّا إذا أخذنا مفهومين متناقضين ـ كالإنسان واللاإنسان ـ لم نرتب أنّ التقابل قائم بالمفهومين على حدّ سواء ، فالإنسان يطرد بذاته اللاإنسان ، كما أنّ اللاإنسان يطرد بذاته الإنسان. وضروريّ أنّه لو لم يعتبر الثبوت والوجود في جانب الإنسان لم يطارد اللاإنسان ولم يناقضه ، فالإنسان واللاإنسان إنّما يتناقضان لأنّهما في معنى وجود الإنسان وعدم الإنسان ، ولا يتمّ ذلك إلّا باعتبار قيام الوجود بالإنسان. وكذا العدم ، فالإنسان واللإنسان إنّما يتناقضان لانحلالهما إلى الهليّتين البسيطتين ، وهما قضيّتا «الإنسان موجود» و «ليس الإنسان بموجود».

٢٥٤

ونظير الكلام يجري في المتناقضين : «قيام زيد» و «لا قيام زيد» فهما في معنى وجود القيام لزيد وعدم القيام لزيد ، وهما ينحلّان إلى هليّتين مركّبتين ، هما قولنا : «زيد قائم» ، وقولنا : «ليس زيد بقائم».

فتقابل التناقض بالحقيقة بين الإيجاب والسلب ، وإن شئت فقل : بين الوجود والعدم ، غير أنّه سيأتي في مباحث العاقل والمعقول (١) ـ إن شاء الله تعالى ـ أنّ العقل إنّما ينال مفهوم الوجود أوّلا معنى حرفيّا في القضايا ، ثمّ يسبك منه المعنى الاسميّ بتبديله منه وأخذه مستقلّا بعد ما كان رابطا ، ويصوّر للعدم نظير ما جرى عليه في الوجود. فتقابل التناقض بين الإيجاب والسلب أوّلا وبالذات وبين غيرهما بعرضهما.

فما في بعض العبارات من نسبة التناقض إلى القضايا ـ كما في عبارة التجريد : «إنّ تقابل السلب والإيجاب راجع إلى القول والعقد» (٢) انتهى ـ اريد به السلب والإيجاب من حيث الإضافة إلى مضمون القضيّة بعينه.

وقد ظهر أيضا أنّ قولهم : «نقيض كلّ شيء رفعه» (٣) اريد فيه بالرفع الطرد الذاتيّ ، فالإيجاب والسلب يطرد كلّ منهما بالذات ما يقابله.

وأمّا تفسير من فسّر الرفع بالنفي والسلب (٤) ـ فصرّح بأنّ نقيض الإنسان هو اللاإنسان ، ونقيض اللاإنسان اللا لا إنسان ، وأمّا الإنسان فهو لازم النقيض وليس بنقيض ـ فلازم تفسيره كون تقابل التناقض من جانب واحد دائما ، وهو ضروريّ البطلان (٥).

__________________

(١) في الفصل العاشر من المرحلة الحادية عشرة.

(٢) راجع كشف المراد : ١٠٧ ، وشرح التجريد للقوشجيّ : ١٠٤. وفي شوارق الإلهام : ١٩٢ : «وهو راجع إلى القول والعقل» ثمّ فسّر القول بالوجود اللفظيّ ، والعقل بالوجود الذهنيّ ، فراجع.

(٣) راجع شرح المطالع : ١٧٠.

(٤) كذا يستفاد من كلام قطب الدين الشيرازيّ في شرح حكمة الإشراق : ٨٨. وقال المحقّق السيّد الداماد في القبسات : ٢١ ـ ٢٢ : «نقيض كلّ مفهوم رفعه على سبيل السلب البسيط».

(٥) فإنّ التقابل نسبة ، والنسبة قائمة بالطرفين.

٢٥٥

ومن أحكام تقابل التناقض أنّ تقابل النقيضين إنّما يتحقّق في الذهن أو في اللفظ بنوع من المجاز ، لأنّ التقابل نسبة قائمة بطرفين ، وأحد الطرفين في المتناقضين هو العدم ، والعدم اعتبار عقليّ لا مصداق له في الخارج. وهذا بخلاف تقابل العدم والملكة ، فإنّ العدم فيه ـ كما سيأتي إن شاء الله (١) ـ عدم مضاف إلى أمر موجود ، فله حظّ من الوجود ، فالتقابل فيه قائم في الحقيقة بطرفين موجودين.

ومن أحكام هذا التقابل امتناع الواسطة بين المتقابلين به (٢) ، فلا يخلو شيء من الأشياء عن صدق أحد النقيضين ، فكلّ أمر مفروض إمّا هو زيد مثلا أو ليس بزيد ، وإمّا هو أبيض أو ليس بأبيض ، وهكذا ، فكلّ نقيضين مفروضين يعمّان جميع الأشياء.

ومن أحكام هذا التقابل أنّ النقيضين لا يصدقان معا ولا يكذبان معا ، على سبيل القضيّة المنفصلة الحقيقيّة ـ كما تقدّمت الإشارة إليه (٣) ـ وهي قولنا : «إمّا أن يصدق الإيجاب أو يصدق السلب». وهي قضيّة بديهيّة أوّليّة يتوقّف عليها صدق كلّ قضيّة مفروضة ، ضروريّة كانت أو نظريّة. فليس يصدق قولنا : «الأربعة زوج» مثلا إلّا إذا كذب قولنا : «ليست الأربعة بزوج». وليس يصدق قولنا : «العالم حادث» إلّا إذا كذب قولنا : «ليس العالم بحادث». ولذا سمّيت قضيّة امتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما ب «اولى الأوائل».

ولذا كان الشكّ في صدق هذه المنفصلة الحقيقيّة مزيلا للعلم بكلّ قضيّة مفروضة ، إذ لا يتحقّق العلم بصدق قضيّة إلّا إذا علم بكذب نقيضها ، والشكّ في هذه المنفصلة الحقيقيّة يوجب الشكّ في كذب النقيض ، ولازمه الشكّ في صدق النقيض الآخر ، ففي الشكّ فيها هلاك العلم كلّه وفساده من أصله ، وهو أمر تدفعه الفطرة الإنسانيّة. وما يدّعيه السوفسطيّ من الشكّ دعوى لا تتعدّى طور اللفظ البتّة ، وسيأتي تفصيل القول فيه (٤).

__________________

(١) في الفصل الآتي.

(٢) أي : بهذا التقابل.

(٣) في ابتداء هذا الفصل.

(٤) في الفصل التاسع من المرحلة الحادية عشرة.

٢٥٦

الفصل السابع

في تقابل العدم والملكة

ويسمّى أيضا : «تقابل العدم والقنية» (١). وهما : أمر وجوديّ عارض لموضوع من شأنه أن يتّصف به ، وعدم ذلك الأمر الوجوديّ في ذلك الموضوع ، كالبصر والعمى الّذي هو فقد البصر من موضوع من شأنه أن يكون بصيرا.

ولا يختلف الحال في تحقّق هذا التقابل بين أن يؤخذ موضوع الملكة هو الطبيعة الشخصيّة أو الطبيعة النوعيّة أو الجنسيّة ، فإنّ الطبيعة الجنسيّة وكذا النوعيّة موضوعان لوصف الفرد كما أنّ الفرد موضوع له (٢). فعدم البصر في العقرب ـ كما قيل (٣) ـ عمى وعدم ملكة ، لكون جنسه ـ وهو الحيوان ـ من شأنه أن يكون بصيرا وإن لم تتّصف به طبيعة العقرب النوعيّة. وكذا المرودة وعدم التحاء الإنسان قبل أوان البلوغ عدم ملكة ، لكون الطبيعة النوعيّة الّتي

__________________

(١) قال الحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة (قسم المنطق) : ٥٢ : «ومن عدول عدم للقنية». وقال أيضا فيه (قسم الحكمة) : ١١٦ : «فما اعتبرت فيه قابليّه لما انتفى فعدم وقنيه ... والقنية بضمّ القاف وكسرها أصل المال وما يقتنى».

والمحقّق الطوسيّ عدّه من تقابل التناقض ، حيث قال : «وتقابل العدم والملكة ، وهو الأوّل ـ أي تقابل الإيجاب والسلب ـ مأخوذا باعتبار خصوصيّة مّا». كشف المراد : ١٠٧.

(٢) أي : موضوع للوصف. ضرورة أنّ الكلّيّ الطبيعيّ موجود بوجود أفراده.

(٣) راجع شوارق الإلهام : ١٩٣ ، وشرح التجريد للقوشجيّ : ١٠٤ ، وشرح المنظومة : ١١٧ ، وشرح المواقف : ١٦٦.

٢٥٧

للإنسان من شأنها ذلك وإن كان صنف غير البالغ لا يتّصف به. ويسمّى تقابل العدم والملكة بهذا الإطلاق : «حقيقيّا».

وربما قيّد بالوقت (١) باشتراط أن يكون العدم في وقت الملكة (٢) ، ويسمّى التقابل حينئذ ب «المشهوريّ» (٣). وعليه فمرودة الإنسان قبل أوان البلوغ ليست من عدم الملكة في شيء ، وكذا فقد العقرب للبصر ليس بعمى (٤).

وهو أشبه بالاصطلاح ، فلا يضرّ خروج الموارد الّتي يكون الموضوع فيها هو الجنس أو النوع من تقابل العدم والملكة (٥) ، مع عدم دخولها في التقابلات الثلاثة الباقية ، وأقسام التقابل منحصرة في الأربعة.

__________________

(١) كما صرّح المعلّم الأوّل باعتباره. راجع منطق أرسطو ١ : ٦٤ ـ ٦٥.

(٢) أي : يشترط أن يكون عدم الملكة في وقت كان من شأن شخص الموضوع أن يتّصف بالملكة في نفس ذلك الوقت ، كالكوسج ، فإنّ كون الشخص كوسجا عدم اللحية عمّن من شأنه في ذلك الوقت أن يكون ملتحيا.

والمتأخّرون ألغوا هذا الشرط ، وقسّموا تقابل العدم والملكة إلى قسمين : ١ ـ ما لا يشترط فيه الوقت ، وهو تقابل العدم والملكة الحقيقيّ. ٢ ـ ما يشترط فيه الوقت ، وهو تقابل العدم والملكة المشهوريّ.

(٣) قال الحكيم السبزواريّ : «ثمّ ذكرنا وجه تسميته بالمشهوريّ ، فإنّه المعروف عند الناس ، لا بالمعنى الأوّل ، فإنّه شيء يعرفه الخواصّ والتعميم عنهم. وهو اصطلاح قاطيغورياس ، يعني : أنّ المنطقيّين في مبحث المقولات العشر اصطلحوا عليه تسهيلا للمتعلّمين». شرح المنظومة : ١١٧.

(٤) على القول بأنّه فاقد للبصر. ولكن في بعض المصادر الحديثة أنّ للعقرب ثلاثة أزواج من العيون في كلّ من الجانبين وزوج من العيون في الوسط.

(٥) أي : من تقابل العدم والملكة المشهوريّ ، فإنّه أخصّ من الحقيقيّ ، لاختصاص المشهوريّ بما كان الموضوع هو الشخص القابل للاتّصاف بالملكة في نفس وقت اتّصافه بالعدم ، فالأمرد والملتحى في الإنسان قبل أوان البلوغ والأكمه والبصير في العقرب ليسا متقابلين بتقابل العدم والملكة المشهوريّ وإن كانا متقابلين بتقابل العدم والملكة الحقيقيّ.

٢٥٨

الفصل الثامن

في تقابل التضايف

المتضايفان ـ كما تحصّل من التقسيم ـ أمران وجوديّان لا يعقل أحدهما إلّا مع تعقّل الآخر ، فهما على نسبة متكرّرة لا يعقل أحدهما إلّا مع تعقّل الآخر المعقول به. ولذلك يمتنع اجتماعهما في شيء من جهة واحدة ، لاستحالة دوران النسبة بين الشيء ونفسه.

وقد اورد (١) على كون التضايف أحد أقسام التقابل الأربعة بأنّ مطلق التقابل من أقسام التضايف ، إذ المتقابلان بما هما متقابلان متضايفان ، فيكون عدّ التضايف من أقسام التقابل من قبيل جعل الشيء قسيما لقسمه.

واجيب عنه (٢) بأنّ مفهوم التقابل من مصاديق التضايف ، ومصداق التضايف من أقسام التقابل ومصاديقه ، فالقسم من التضايف هو مفهوم التقابل ، والقسيم له هو مصداقه ، وكثيرا مّا يكون المفهوم الذهنيّ فردا لمقابله ، كمفهوم الجزئيّ

__________________

(١) هذا الإيراد نسبه العلّامة إلى القدماء ، فراجع إيضاح المقاصد : ٦٧. وتعرّض له الفخر الرازيّ في المباحث المشرقيّة ١ : ١٠١ ، والتفتازانيّ في شرح المقاصد ١ : ١٤٨ ، وصدر المتألّهين في الأسفار ٢ : ١١٠ وشرحه للهداية الأثيريّة : ٢٢٧.

(٢) كذا أجاب عنه صدر المتألّهين في الأسفار ٢ : ١١٠ ـ ١١١ ، وشرح الهداية : ٢٧٧. وأجاب عنه غيره من المحقّقين بوجوه اخر ، فراجع المباحث المشرقيّة ١ : ١٠٢ ، وشرح المقاصد ١ : ١٤٨ ، والتعليقات للشيخ الرئيس : ٩٢ ، وإيضاح المقاصد : ٦٧.

٢٥٩

الّذي هو فرد للكلّيّ ومقابل له باعتبارين ، فلا إشكال.

ومن أحكام التضايف أنّ المتضايفين متكافئان وجودا وعدما وقوّة وفعلا ، فإذا كان أحدهما موجودا فالآخر موجود بالضرورة ، وإذا كان أحدهما معدوما فالآخر معدوم بالضرورة ، وإذا كان أحدهما بالقوّة أو بالفعل فالآخر كذلك بالضرورة. ولازم ذلك أنّهما معا ، لا يتقدّم أحدهما على الآخر ، لا ذهنا ولا خارجا.

٢٦٠