نهاية الحكمة - ج ١

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

نهاية الحكمة - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-470-623-3
ISBN الدورة:
978-964-470-005-7

الصفحات: ٢٨٣

نظير (١) ما مرّ من الكلام في كون الشكل من مقولة الكيف.

وجوّز الشيخ (٢) كون الهيئة الحاصلة من إحاطة السطحين ـ من المكعّب مثلا ـ المتلاقيين في خطّ زاوية ، لانطباق خواصّ الزاوية عليها.

وأمّا القسم الثاني :

فالاستقامة في الخطّ ، وتقابلها الاستدارة (٣) ، من مقولة الكيف (٤) دون الكمّ. وبينهما تخالف نوعيّ (٥).

أمّا أنّهما من مقولة الكيف فلأنّا نعقل مفهومي الاستقامة والاستدارة ، وهما مفهومان ضروريّان ، ولا نجد فيهما معنى قبول الانقسام وإن كانا لا يفارقان ذلك وجودا لعروضهما للكمّ ، ولو كان قبول الانقسام جزءا من حدّيهما أو من أعرف خواصّهما لم يخل عنه تعقّلهما.

__________________

ـ الخامس : أنّها سطح يحيط به خطّان يلتقيان على نقطة واحدة من غير أن يتّحد الخطّان. فهو من مقولة الكمّ. وهذا منسوب إلى المهندسين.

وفي المقام أقوال اخر مذكورة في المطوّلات. فراجع شرح المواقف : ٣١٢ ـ ٣١٣ ، وشرح المقاصد ١ : ٢٥٣ ـ ٢٥٤ ، والمباحث المشرقيّة ١ : ٤٢٣ ـ ٤٢٥.

(١) خبر لقوله : «والكلام ...».

(٢) في الفصل الثاني من المقالة السادسة من الفنّ الثاني من منطق الشفاء.

(٣) الأولى أن يقول : فمثل الاستقامة في الخطّ ، وتقابلها الاستدارة ....

(٤) أي : الكيف المختصّ بالكمّ. وعدّه شارح المقاصد من المحسوسات. راجع شرح المقاصد ١ : ٢٥٤.

(٥) لا يخفى أنّ ظاهر قوله : «وبينهما تخالف نوعيّ» أنّ الضمير يرجع إلى الاستقامة والاستدارة. ولكن الصحيح أن يرجع إلى المستقيم والمستدير ، فإنّ الدليل ـ كما سيأتي ـ لا يدلّ إلّا على تخالف المستقيم والمستدير نوعا ، ولذا صرّح الرازيّ بتخالفهما نوعا ، وقال : «إنّ المستقيم تخالف المستدير بالنوع» ، ثمّ استدلّ عليه بالدليل المذكور في المتن. وقال صدر المتألّهين أيضا : «إنّ المستقيم والمستدير يتخالفان نوعا». فالأولى أن يصرّح بالمستقيم والمستدير ويقول : «وبين المستقيم والمستدير تخالف نوعيّ». راجع المباحث المشرقيّة ١ : ٤١٩ ، والأسفار ٤ : ١٦٨ ـ ١٦٩.

٢٠١

وأمّا كونهما نوعين متخالفين متباينين فلأنّهما لو كانا نوعا واحدا كان ما يوجد فيهما من التخالف عرضيّا (١) غير جزء للذات ولا لازما لها ، فكان من الجائز عند العقل أن يزول وصف الاستقامة عن الخطّ المستقيم ويبقى أصل الخطّ ثمّ يوصف بالاستدارة ، لكنّ ذلك محال ، لأنّ الخطّ نهاية السطح كما أنّ السطح نهاية الجسم ، ولا يمكن أن يتغيّر حال النهاية ، إلّا بعد تغيّر حال ذي النهاية ، فلو لم يتغيّر حال السطح في انبساطه وتمدّده لم يتغيّر حال الخطّ في استقامته ، ولو لم يتغيّر حال الجسم في انبساطه وتمدّده لم يتغيّر حال السطح في ذلك ، والجسم التعليميّ يبطل بذلك ويوجد غيره ، وكذا السطح الّذي هو نهايته ، وكذا الخطّ الّذي هو نهايته ؛ فإذا بطل المعروض ووجد معروض آخر بالعدد كان العارض أيضا كذلك. فإذا امتنع بقاء المستقيم من الخطّ مع زوال استقامته علم منه أنّ الاستقامة إمّا فصله أو لازم فصله ، فالمستقيم يغاير المستدير في نوعيّته ، وكذا السطح المستوي وغيره ، وأيضا غيره (٢) لما يخالفه ، وكذا الأجسام التعليميّة لما يخالفها (٣).

ويتفرّع على ما تقدّم :

أوّلا : أن لا تضادّ بين المستقيم والمستدير (٤) لعدم التعاقب على موضوع واحد (٥) ولعدم غاية الخلاف ، وكذا ما بين الخطّ والسطح ، وكذا ما بين السطح

__________________

(١) أي : عرضيّا مفارقا. ويشعر به قوله : «ولا لازما لها».

(٢) أي : غير المستوي. فالسطح المقعّر يغاير السطح المحدّب نوعا.

(٣) فالكرة يغاير المكعّب والمخروط وغيرهما نوعا. وغير الكرة يغاير ما سواه نوعا.

(٤) راجع الفصل الثالث من المقالة السادسة من الفنّ الثاني من منطق الشفاء ، وشوارق الإلهام : ٤٥١ ، والمباحث المشرقيّة ١ : ٤١٩ ـ ٤٢٠ ، والأسفار ٤ : ١٧٠.

(٥) واعترض عليه الشارح القوشجيّ في شرحه للتجريد : ٢٨٦ بأنّ الدائرة سطح مستو ، وهي موضوع لمحيطها الّذي هو خطّ مستدير ، وكذا الخطّ المستقيم قد يوجد في السطح غير المستوي ، فإنّ محيط الاستوانة وكذا محيط المخروط غير مستو وقد يوجد فيهما خطّ مستقيم. وأجاب عنه الشارح اللاهيجيّ في شوارق الإلهام : ٤٥١ ، فراجع.

٢٠٢

والجسم التعليميّ ، وكذا ما بين السطوح أنفسها ، وبين الأجسام التعليميّة أنفسها.

وثانيا : أن لا اشتداد وتضعّف بين المستقيم والمستدير ، إذ من الواجب في التشكيك أن يشمل الشديد الضعيف (١) وزيادة ، وقد تبيّن أنّ المستقيم لا يتضمّن المستدير ، وبالعكس.

وأمّا القسم الثالث :

فالزوجيّة والفرديّة العارضتان للعدد (٢) ، وكذا التربيع والتجذير والتكعيب وما يناظرها. وهي من الكيفيّات دون الكمّ ؛ لصدق حدّ الكيف عليها ، وهو ظاهر بالنظر إلى أنّ كلّ مرتبة من مراتب العدد نوع منه مستقلّ في نوعيّته ، مباين لغيره ، يشارك سائر المراتب في الانقسام ، وكون الانقسام بمتساويين وعدم كونه كذلك نعت للانقسام ، غير قابل في نفسه للانقسام ، وغير نسبيّ في نفسه ، فليس بكمّ ولا بواحد من الأعراض النسبيّة ، فليس شيء من الزوجيّة والفرديّة إلّا كيفا عارضا للكمّ.

ونظير البيان يجري في سائر أحوال الأعداد من التربيع والتجذير وغير ذلك.

وبالتأمّل فيما تقدّم يظهر :

أوّلا : أن لا تضادّ بين هذه الأحوال العدديّة (٣) ، إذ لا موضوع مشتركا بين الزوجيّة والفرديّة تتعاقبان عليه ، على ما هو شرط التضادّ (٤).

وثانيا : أن لا تشكيك بالشدّة والضعف ، ولا بالزيادة والنقيصة في هذه الأحوال العدديّة. فكما لا يتبدّل تقوّس واستدارة إلى تقوّس واستدارة اخرى إلّا مع بطلان موضوعه ووجود موضوع آخر غيره بالعدد كذلك لا تتبدّل زوجيّة

__________________

(١) وفي النسخ : «أن يشمل الشديد على الضعيف». والصحيح ما أثبتناه ، أو «أن يشتمل الشديد على الضعيف».

(٢) فليستا من الامور الذاتيّة. راجع المباحث المشرقيّة ١ : ٤٢٩ ، والأسفار ٤ : ١٨٧ ـ ١٨٨.

(٣) كالزوجيّة والفرديّة ، والعاديّة والمعدوديّة ، والصمم والتشارك ، والقسمة والضرب.

(٤) راجع الأسفار ٤ : ١٨٧.

٢٠٣

مثلا إلى زوجيّة زوج الزوج إلّا مع بطلان موضوعه الّذي هو المعدود ووجود موضوع آخر غيره بالعدد ، وفي ذلك بطلان الزوجيّة الّتي هي عرض ووجود زوجيّة اخرى بالعدد ، وليس ذلك من التشكيك في شيء.

وثالثا : يعلم ـ بالتذكّر لما تقدّم (١) ـ أنّ الكيفيّات المختصّة بالكمّيّات توجد في المادّيّات والمجرّدات المثاليّة جميعا بناء على تجرّد المثال.

__________________

(١) في الفصل العاشر من هذه المرحلة من أنّ الكمّ المنفصل يوجد في المادّيات والمجرّدات جميعا ، ولازمه وجود الكيفيّات المختصّة به فيها.

٢٠٤

الفصل الرابع عشر

في الكيفيّات الاستعداديّة

وتسمّى أيضا القوّة واللاقوّة (١)

والمعنى الجامع بينها ـ الّذي هو بمنزلة النوع من مطلق الكيف ، وبمنزلة الجنس لأنواعها الخاصّة بها ـ أنّها استعداد شديد جسمانيّ نحو أمر خارج ، بمعنى أنّه الّذي يترجّح به حدوث أمر من خارج.

ولها نوعان : (أحدهما) الاستعداد الشديد على أن ينفعل كالممراضيّة (٢) واللين. و (الثاني) الاستعداد الشديد على أن لا ينفعل كالمصحاحيّة (٣) والصلابة.

وألحق بعضهم (٤) بالنوعين نوعا ثالثا ، وهو الاستعداد الشديد نحو الفعل ، كالمصارعيّة (٥).

وردّه الشيخ (٦) ، وتبعه صدر المتألّهين ، قال في الأسفار : «إنّه لا خلاف في أنّ

__________________

(١) راجع الفصل الثاني من المقالة الرابعة من إلهيات الشفاء ، والمباحث المشرقيّة ١ : ٣١٥ ، والأسفار ٤ : ١٠٤. وتسمّى اللاقوّة : «ضعفا» والقوّة : «لا ضعفا» أيضا ، كما في شرح المواقف : ٣٢٤.

(٢) وهي كيفيّة تقتضي سهولة قبول المرض.

(٣) وهي كيفيّة تقتضي عسر قبول المرض.

(٤) نسب إلى المتقدّمين في المباحث المشرقيّة ١ : ٣١٦ ، وإلى الجمهور في شرح المقاصد ١ : ٢٥٤ ، وإلى المشهور في الأسفار ٤ : ١٠٥.

(٥) وهي بالفارسيّة : كشتي گرفتن.

(٦) راجع الفصل الثالث من المقالة الخامسة من الفنّ الثاني من منطق الشفاء ، حيث قال : «وأيضا فالمتشّكّك أن يتشكّك في أنّه هل المصارعيّة في هذا الباب داخلة ...». وردّه أيضا الفخر الرازيّ في المباحث المشرقيّة ١ : ٣١٦ ـ ٣١٨.

٢٠٥

القوّة على الانفعال والقوّة على المقاومة داخلتان تحت هذا النوع. وأمّا أنّ القوّة على الفعل هل هي داخلة تحت هذا النوع؟ فالمشهور أنّها منه ، والشيخ أخرجها منه ، وهو الحقّ ، كما سيظهر لك وجهه. فإذا اريد تلخيص معنى جامع للقسمين دون الأمر الثالث ، فيقال : إنّه كيفيّة بها يترجّح أحد جانبي القبول واللاقبول لقابلها.

وأمّا بيان أنّ القوّة على الفعل لا تصلح أن تكون داخلة تحت هذا النوع ـ كما ذهب اليه الشيخ فيحتاج أوّلا إلى أن نعرف أصلا كلّيّا وهو : أنّ جهات الفعل دائما تكون من لوازم الذات ، لأنّ كلّ ذات لها حقيقة ، فلها اقتضاء أثر إذا خلّيت وطبعها ولم يكن مانع تفعل ذلك الأثر ، فلا تحتاج في فعلها إلى قوّة زائدة عليها ، وإذا فرض إضافة قوّة اخرى لها لم تكن تلك الذات بالقياس إليها فاعلة لها ، بل قابلة إيّاها ، وإذا اعتبرت الذات والقوّة معا كان المجموع شيئا آخر ، إن كان له فعل كان فعله لازما من غير تراخي استعداد له لحصول ذلك الفعل ، ولو فرض ذلك الاستعداد للفاعليّة له كان يلزمه أوّلا قوّة انفعاليّة لحصول ما يتمّ به كونه فاعلا ، فذلك الاستعداد المفروض لم يكن بالحقيقة لفاعليّته ، بل لانفعاله ، فليس للفاعليّة استعداد ، بل للمنفعليّة أوّلا وبالذات وللفاعليّة بالعرض.

فثبت ممّا بيّنّا بالبرهان أن لا قوّة ولا استعداد بالذات لكون الشيء فاعلا ، بل إنّما القوّة والاستعداد للانفعال ولصيرورة الشيء قابلا لشيء بعد أن لم يكن» (١) انتهى.

وأمّا نفس الاستعداد فقد قيل (٢) : «إنّها من المضاف ، إذ لا يعقل إلّا بين شيئين مستعدّ ومستعدّ له ، فلا يكون نوعا من الكيف». ويظهر من بعضهم أنّه كيف يلزمه إضافة (٣) ، كالعلم الّذي هو من الكيفيّات النفسانيّة وتلزمه الإضافة بين موضوعه ومتعلّقه ـ أعني العالم والمعلوم وكالقدرة والإرادة.

__________________

(١) راجع الأسفار ٤ : ١٠٥ ـ ١٠٦.

(٢) والقائل فخر الدين الرازيّ في المباحث المشرقيّة ١ : ٣١٦. وتبعه صدر المتألّهين في الأسفار ٤ : ١٠٥.

(٣) فيكون من قبيل الكيفيّات ذات الإضافة.

٢٠٦

الفصل الخامس عشر

في الكيفيّات النفسانيّة

الكيفيّة النفسانيّة وهي ـ كما قال الشيخ (١) ـ : ما لا يتعلّق بالأجسام على الجملة ، إن لم تكن راسخة سمّيت : «حالا» وإن كانت راسخة سمّيت : «ملكة» وإذ كانت النسبة بين الحال والملكة نسبة الضعف والشدّة ـ وهم يعدّون المرتبتين من الضعف والشدّة نوعين مختلفين ـ كان لازمه عدّ الحال مغايرا للملكة نوعا ووجودا (٢).

والكيفيّات النفسانيّة كثيرة ، وإنّما أوردوا منها في هذا الباب بعض ما يهمّ البحث عنه.

فمنها : الإرادة. قال في الأسفار : «يشبه أن يكون معناها واضحا عند العقل غير ملتبس بغيرها ، إلّا أنّه يعسر التعبير عنها بما يفيد تصوّرها بالحقيقة. وهي تغاير الشهوة (٣) ، كما أنّ مقابلها ـ وهو الكراهة ـ يغاير النفرة ، ولذا قد يريد الإنسان

__________________

(١) راجع الفصل الثالث من المقالة الخامسة من الفنّ الثاني من منطق الشفاء.

(٢) تعريض للشيخ الرئيس ، حيث عدّ الحال مغايرا للملكة تغايرا عرفيّا. وتبعه على ذلك تلميذه بهمنيار والإمام الرازيّ. راجع الفصل الثالث من المقالة الخامسة من الفنّ الثاني من منطق الشفاء ، والتحصيل : ٣٩٤ ، والمباحث المشرقيّة ١ : ٣١٩.

(٣) أي : الإرادة حقيقة ، والشهوة حقيقة اخرى.

والدليل عليه أنّه يوجد كلّ واحدة من الإرادة والشهوة بدون الاخرى ، وإن قد يجتمعان في مورد واحد فبينهما العموم من وجه ، فإنّ الإنسان قد يريد ما لا يشتهيه كشرب دواء ـ

٢٠٧

ما لا يشتهيه كشرب دواء كريه ينفعه ، وقد يشتهي ما لا يريده كأكل طعام لذيذ يضرّه» (١) انتهى.

وبمثل البيان يظهر أنّ الإرادة غير الشوق المؤكّد (٢) الّذي عرّفها به بعضهم (٣).

وملخّص القول ـ الّذي يظهر به أمر الإرادة الّتي يتوقّف عليها فعل الفاعل المختار ـ هو : أنّ مقتضى الاصول العقليّة أنّ كلّ نوع من الأنواع الجوهريّة مبدأ فاعليّ للأفعال الّتي ينسب إليه صدورها ، وهي كمالات ثانية للنوع. فالنفس الإنسانيّة ـ الّتي هي صورة جوهريّة مجرّدة متعلّقة الفعل بالمادّة ـ علّة فاعليّة للأفعال الصادرة عن الإنسان ، لكنّها مبدأ علميّ لا يصدر عنها إلّا ما ميّزته من كمالاتها الثانية من غيره ، ولذا تحتاج قبل الفعل إلى تصوّر الفعل والتصديق بكونه كمالا لها ، فإن كان التصديق ضروريّا أو ملكة راسخة قضت بكون الفعل كمالا ولم تأخذ بالتروّي ، كالمتكلّم الّذي يتلفّظ بالحرف بعد الحرف من غير تروّ ، ولو تروّى في بعضها لتبلّد (٤) وتلكّأ (٥) وانقطع عن الكلام ، وإن لم يكن ضروريّا مقضيّا به توسّلت إلى التروّي والفحص عن المرجّحات ، فإن ظفرت بما يقضي بكون الفعل كمالا قضت به. ثمّ يتبع هذه الصورة العلميّة ـ على ما قيل ـ الشوق

__________________

ـ كريه ، وقد يشتهي ما لا يريده كأكل طعام لذيذ يضرّه ، وقد يريد ما يشتهيه كأكل طعام لذيذ لا يضرّه. وكذا الحال بين مقابليهما.

(١) راجع الأسفار ٤ : ١١٣. وهذا بعينه ما قال التفتازانيّ في شرح المقاصد ١ : ٢٣٦.

(٢) والمغايرة بينهما ـ على ما صرّح به المصنّف رحمه‌الله في تعليقته على الكفاية : ٧٧ ـ من وجهين :

الأوّل : أنّ الإرادة لا تتعلّق إلّا بالأفعال الاختياريّة ، والشوق يتعلّق بالأعيان كما يتعلّق بالأفعال الاختياريّة.

الثاني : قد يشتاق الإنسان إلى شيء ولا يريده ، وذلك في الفعل الملائم للطبع المعلوم استحالته ، فالإنسان يشتاق إليه ولكن لا يريده بعد علمه باستحالته.

(٣) هكذا عرّفها الحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة : ١٨٤ ، حيث قال : «إنّ الإرادة فينا شوق مؤكّد يحصل عقيب داع». وقال في تعليقته على الأسفار ٦ : ٣٢٣ الرقم ١ : «وذلك لأنّ الإرادة فينا هي الشوق الأكيد الشديد الموافي للمراد». ونسبه صدر المتألّهين إلى الأوّلين في الأسفار ٤ : ١١٤.

(٤) تبلّد : تردّد متحيّرا.

(٥) تلكّأ : أبطأ وتوقّف.

٢٠٨

إلى الفعل لما أنّه كمال ثان معلول لها. ثمّ تتبع الشوق الإرادة ، وهي وإن كانت لا تعبير عنها يفيد تصوّر حقيقتها لكن يشهد لوجودها بعد الشوق ما نجده ممّن يريد الفعل وهو عاجز عنه ، ولا يعلم بعجزه ، فلا يستطيع الفعل وقد أراده. ثمّ تتبع الإرادة القوّة العاملة المحرّكة للعضلات ، فتحرّك العضلات (١) ، وهو (٢) الفعل.

فمبادئ الفعل الإراديّ فينا هي : العلم والشوق والإرادة والقوّة العاملة المحرّكة. هذا ما نجده من أنفسنا في أفعالنا الإراديّة. وإمعان النظر في حال سائر الحيوان يعطي أنّها كالإنسان في أفعالها الإراديّة.

فظهر بذلك :

أوّلا : أنّ المبدأ الفاعليّ لأفعال الإنسان الإراديّة ـ بما أنّها كمالاته الثانية ـ (٣) هو الإنسان بما أنّه فاعل علميّ ، والعلم متمّم لفاعليّته ، يميّز به (٤) الكمال من غيره (٥). ويتبعه الشوق من غير توقّف على شوق آخر أو إرادة. وتتبعه الإرادة بالضرورة (٦) من غير توقّف على إرادة اخرى ، وإلّا لتسلسلت الإرادات. فعدّ الإرادة علّة فاعليّة للفعل (٧) في غير محلّه. وإنّما الإرادة والشوق الّذي قبلها من لوازم العلم المتمّم لفاعليّة الفاعل.

وثانيا : أنّ أفعال الإنسان ـ ممّا للعلم دخل في صدوره ـ لا تخلو من إرادة الفاعل حتّى الفعل الجبريّ ، وسيأتي في البحث عن أقسام الفاعل ما ينفع

__________________

(١) لا يخفى أنّ حركة العضل من الصفات القائمة بالعضل ، وإنّما يستتبع الإرادة فيما إذا كان الفعل المراد فعلا جارحيّا. وأمّا في الأفعال الجوانحيّة فلا يحتاج إلى حركة العضلات.

(٢) أي : تحرّك العضلات.

(٣) هذا هو الصحيح ، بخلاف ما في النسخ من قوله : «كمالاتها الثانية».

(٤) أي : يميّز الإنسان بالعلم. وفي النسخ : «يتميّز به». والصحيح ما أثبتناه.

(٥) فأوّل ما يحتاج الإنسان إليه في فعله الاختياريّ هو العلم.

(٦) أي : لا اختيار للإنسان فيها بعد حصول الشوق ، بل الإرادة من لوازم الشوق ، ولا تنفكّ عنه.

وفيه : أنّه ينافي ما ذكره من أنّ الإرادة غير الشوق المؤكّد ، وأنّ الإنسان قد يشتاق الى شيء ولا يريده.

(٧) كما قال الشيخ الرئيس في التعليقات : ١٦٤ : «والإرادة علّة للكائنات».

٢٠٩

في المقام (١).

وثالثا : أنّ الملاك في اختياريّة الفعل تساوي نسبة الإنسان إلى الفعل والترك وإن كان بالنظر إليه ـ وهو تامّ الفاعليّة ـ ضروريّ الفعل.

ومن الكيفيّات النفسانيّة القدرة ، وهي حالة في الحيوان ، بها يصحّ أن يصدر عنه الفعل إذا شاء ولا يصدر عنه إذا لم يشأ (٢). ويقابلها العجز (٣).

وأمّا القدرة المنسوبة إلى الواجب تعالى فإذ كان الواجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات فهي مبدئيّته الفعليّة بذاته لكلّ شيء ، وإذ كانت عين الذات فلا ماهيّة لها ، بل هي صرف الوجود.

ومن الكيفيّات النفسانيّة ـ على ما قيل (٤) ـ العلم. والمراد به العلم الحصوليّ

__________________

(١) في الفصل السابع من المرحلة الثامنة.

(٢) هذا تعريفها عند الفلاسفة. وأمّا المتكلّمون فعرّفوها بصحّة الفعل ومقابله ـ أي الترك ـ ، راجع الأسفار ٤ : ١١٢ و ٦ : ٣٠٧ ـ ٣٠٨.

(٣) اعلم أنّهم اختلفوا في أنّ التقابل بينهما هل هو تقابل الملكة والعدم أو تقابل التضاد؟ فيه قولان ، أحدهما : أنّ التقابل بينهما تقابل الملكة والعدم ، لأنّ العجز عدم القدرة (عمّا من شأنه أن يكون قادرا). وهذا مذهب أبي هاشم من المعتزلة. وتبعه المحقّق الطوسيّ في تجريد الاعتقاد : ١٧٥ ، وراجع كشف المراد : ٢٥٠. وثانيهما : أنّ التقابل بينهما تقابل التضادّ. وهذا مذهب الأشاعرة وجمهور المعتزلة على ما نقل في شرح المواقف : ٢٩٩ ، وشرح المقاصد ١ : ٢٤٣ ، وشوارق الإلهام : ٤٤٢ ، وشرح التجريد للقوشجيّ : ٢٧٦ ، وذهب إليه صدر المتألّهين في الأسفار ٤ : ١١٢.

(٤) اعلم أنّ في جنس العلم أقوالا :

الأوّل : أنّه من الكيفيّات النفسانيّة. وهذا هو المشهور بينهم. راجع شرح المقاصد ١ : ٢٢٤ ، وإيضاح المقاصد : ١٩٥ ـ ١٩٦ ، وتجريد الاعتقاد : ١٦٩.

الثاني : أنّه من مقولة الإضافة. وهذا ما ذهب إليه الفخر الرازيّ في المباحث المشرقيّة ١ : ٣٣١.

الثالث : أنّه من مقولة الانفعال. وهذا ما تعرّض له الحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة (قسم الحكمة) : ١٤١.

وقال المحقّق الآمليّ توضيحا لما أفاده الحكيم السبزواريّ : «عند علمنا بشيء بالعلم ـ

٢١٠

الذهنيّ من حيث قيامه بالنفس قيام العرض بموضوعه لصدق حدّ الكيف عليه.

وأمّا العلم الحضوريّ فهو حضور المعلوم بوجوده الخارجيّ عند العالم ، والوجود ليس بجوهر ولا عرض.

والعلم الّذي هو من الكيف مختصّ بذوات الأنفس. وأمّا المفارقات فقد تقدّم (١) أنّ علومها حضوريّة غير حصوليّة ، غير أنّ العلوم الحصوليّة الّتي في معاليلها حاضرة عندها ، وإن كانت هي أيضا بما أنّها من صنعها حاضرة عندها.

ومن هذا الباب الخلق ، وهو الملكة النفسانيّة الّتي تصدر عنها الأفعال بسهولة من غير رويّة (٢). ولا يسمّى خلقا إلّا إذا كان عقلا عمليّا هو مبدأ الأفعال

__________________

ـ الحصوليّ ثلاثة أشياء :

١ ـ الصورة الحاصلة من الشيء عندنا الّتي معلومة لنا بالعلم الحضوريّ.

٢ ـ الانفعال الحاصل فينا بحصول تلك الصورة لخروجنا به من النقص إلى الكمال ومن القوّة إلى الفعل.

٣ ـ إضافة بين تلك الصورة الحاصلة وبين ما يطابقها ويحكيها ، أعني المعلوم بالعرض.

فمن قال بأنّ العلم من مقولة الكيف نظر إلى نفس تلك الصورة القائمة بالذهن الّتي وجودها في نفسها عين وجودها لدى الذهن. فهي كيف أي (عرض لا يقبل القسمة ولا النسبة بالذات) ونفسانيّ (أي قائم بالنفس ، متقوّم به ، قيام العرض بالموضوع).

ومن قال بأنّه من مقولة الانفعال نظر إلى الانفعال الحاصل منه للنفس.

ومن قال إنّه من مقولة الإضافة نظر إلى الإضافة الّتي بينها وبين المعلوم بالعرض.

والتحقيق : أنّ العلم من مقولة الكيف ، لأنّه نفس تلك الصورة. وإنّما الانفعال والإضافة حاصلان بحصولها ، فيكون إطلاق العلم عليهما من باب اشتباه ما بالعرض إلى ما بالذات». درر الفوائد ١ : ٤١٣.

(١) لم يقدّم ، بل سيأتي في الفصل الأوّل والحادي عشر من المرحلة الحادية عشرة.

(٢) عرّفه الجمهور من الفلاسفة والمتكلّمين بأنّه ملكة تصدر بها عن النفس أفعال بسهولة من غير تقدّم فكر ورويّة. راجع الأسفار ٤ : ١١٤ ، وشرح المقاصد ١ : ٢٤٣ ؛ والمباحث المشرقيّة ١ : ٣٨٥.

وهذا التعريف أصحّ ممّا ذكره المصنّف رحمه‌الله في المقام ؛ فإنّ الملكة النفسانيّة ليست إلّا ـ

٢١١

الإراديّة (١). وليس هو القدرة على الفعل ، لأنّ نسبة القدرة إلى الفعل والترك متساوية ولا نسبة للخلق إلّا إلى الفعل (٢). وليس المراد به هو الفعل ، وإن كان ربّما يطلق عليه ، لأنّه الأمر الراسخ الّذي يبتني عليه الفعل وللخلق انشعابات كثيرة تكاد لا تحصى الشّعب الحاصلة منها ، لكنّ اصول الأخلاق الإنسانيّة نظرا إلى القوى الباعثة للإنسان نحو الفعل ثلاثة ، وهي : قوى الشهوة الباعثة له إلى جذب الخير والنافع الّذي يلائمه ، وقوى الغضب الباعثة له إلى دفع الشرّ والضارّ ، والعقل الذيّ يهديه إلى الخير والسعادة ويزجره عن الشرّ والشقاء.

فالملكة العاملة في المشتهيات إن لازمت الاعتدال بفعل ما ينبغي كما ينبغي سمّيت : «عفّة». وإن انحرفت إلى حدّ الإفراط سمّيت : «شرها». وإن نزلت إلى التفريط سمّيت : «خمودا».

وكذلك الملكة المرتبطة بالغضب لها إعتدال تسمّى : «شجاعة» وطرفا إفراط

__________________

ـ هيئة راسخة في النفس ، ومعلوم أنّ الأفعال لا تصدر عنها ، وهي صفة من صفات النفس ، بل صدور الأفعال عن النفس بسهولة يبتني عليها.

والأصحّ من تعريف المشهور بل الصحيح أن يقال : الخلق هو الملكة الّتي تصدر بها الأفعال الإراديّ عن النفس بسهولة من غير رويّة كالشجاعة والسخاء وغيرهما.

والوجه في كونه أصحّ أنّ صدور الأفعال عن النفس ليس يبتني على حصول الملكة النفسانيّة ابتناءا تامّا ، بحيث يلزم منه صدور الأفعال عن النفس بمجرّد حصول تلك الصفة لها ، بل يصدر الأفعال عنها إذا اريدت تلك الأفعال. كما قال صدر المتألّهين في الأسفار ٤ : ١١٥ : «وليس الخلق أيضا يلزمه المبدئيّة للفعل ، بل كونه بحيث إذا اريد الفعل يصدر بلا صعوبة ورويّة».

(١) وعليه لا يطلق الخلق إلّا على الهيئات الراسخة في النفوس الإنسانيّة.

(٢) قال شارح المقاصد : «فغير الراسخ من صفات النفس لا يكون خلقا كغضب الحليم ، وكذا الراسخ الّذي يكون مبدأ لأفعال الجوارح بسهولة كملكة الكتابة ، أو يكون نسبته إلى الفعل والترك على السواء كالقدرة ، أو يفتقر في صدور الفعل عنها إلى فكر ورويّة كالبخيل إذا حاول الكرم وكالكريم إذا قصد بالعطاء الشهرة. ولمّا كانت القدرة تصدر عنها الفعل لا بسهولة واستغناء عن رويّة وكان نسبتها إلى طرفي الفعل والترك على السويّة حكم بأنّها تضادّ الخلق مضادّة مشهورة». راجع شرح المقاصد ١ : ٢٤٤.

٢١٢

يسمّى : «تهوّرا» وتفريط يسمّى : «جبنا».

وكذلك الملكة الحاكمة في الخير والشرّ والنافع والضارّ إن لازمت وسط الاعتدال فاشتغلت بما ينبغي كما ينبغي سمّيت : «حكمة». وإن خرجت إلى حدّ الإفراط سمّيت : «جربزة» أو إلى حدّ التفريط سمّيت : «غباوة».

والهيئة الحاصلة من اجتماع الملكات الثلاث ـ الّتي نسبتها إليها نسبة المزاج إلى الممتزج ، وأثرها إعطاء كلّ ذي حقّ من القوى حقّه ـ إذا اعتدلت سمّيت : «عدالة». وإن خرجت إلى حدّ الإفراط سمّيت : «ظلما». أو إلى حدّ التفريط سمّيت : «انظلاما».

ووسط الاعتدال من هذه الملكات الّتي هي الاصول وما يتفرّع عليها من الفروع «فضيلة ممدوحة» ، والطرفان ـ أعني طرفي الإفراط والتفريط ـ «رذيلة مذمومة». والبحث عن هذه الفضائل والرذائل موكول إلى غير هذه الصناعة.

وقد ظهر ممّا تقدّم :

أوّلا : أنّ الخلق إنّما يوجد في العالم الإنسانيّ وغيره من ذوات الأنفس (١) الّتي تستكمل بالأفعال الإراديّة على ما يناسب كمال وجوده ، فلا خلق في المفارقات ، إذ لا عقل عمليّا ولا استكمال إراديّا فيها (٢).

وثانيا : أنّ كلّا من هذه الأخلاق الّتي هي من الكيفيّات النفسانيّة ـ بما أنّها ملكة راسخة ـ تقابلها حال من تلك الكيفيّة ، كالشهوة والغضب والخوف والفزع والحزن والهمّ والخجل والفرح والسرور والغمّ وغير ذلك. والبحث عن أسبابها الطبيعيّة في الطبّ ، وعن إصلاحها وتدبيرها بحيث يلائم السعادة الإنسانيّة في صناعة الأخلاق.

ومن الكيفيّات النفسانيّة اللذّة والألم. واللذّة على ما عرّفوها (٣) إدراك الملائم

__________________

(١) كالجنّ.

(٢) وكذا لا خلق في غير الإنسان والجنّ من الحيوانات ، إذ لا عقل عمليّا لها.

(٣) هكذا عرّفها الشيخ الرئيس في الفصل السابع من المقالة الثامنة من إلهيّات الشفاء ، ـ

٢١٣

بما أنّه ملائم. والألم إدراك المنافي بما أنّه مناف. فهما من الكيف بما أنّهما من سنخ الإدراك (١).

وينقسمان بانقسام الإدراك ، فمنهما حسّيّ وخياليّ وعقليّ. فاللذّة الحسّيّة كإدراك النفس الحلاوة من طريق الذوق ، والرائحة الطيّبة من طريق الشمّ. واللذّة الخياليّة إدراكها الصورة الخياليّة من بعض الملذّات الحسّيّة. واللذّة العقليّة إدراكها بعض ما نالته من الكمالات الحقّة العقليّة. واللذّة العقليّة أشدّ اللذائذ وأقواها لتجرّدها وثباتها. والألم الحسّيّ والخياليّ والعقليّ على خلاف اللذّة في كلّ من هذه الأبواب.

__________________

ـ والنجاة : ٢٤٥. وتبعه المشهور من المحقّقين. ولكن عدل عنه في الإشارات ، فقال : «إنّ اللذّة هي إدراك ونيل لوصول ما هو عند المدرك كمال وخير من حيث كذلك. والألم هو إدراك ونيل لوصول ما هو عند المدرك آفة وشرّ».

وقال المحقّق الطوسيّ : «وهذا أقرب إلى التحصيل من قولهم : (اللذّة إدراك الملايم ، والألم إدراك المنافي). ولذلك عدل الشيخ منه إلى ما ذكره في هذا الموضع». راجع شرح الإشارات ٣ : ٣٣٧ ـ ٣٣٩.

وفي المقام قول آخر منسوب إلى محمّد بن زكريا الرازيّ الطبيب ، وهو : أنّ اللذّة عبارة عن الخروج عن الحالة الغير الطبيعيّة ، والألم عبارة عن الخروج عن الحالة الطبيعيّة. راجع المباحث المشرقيّة ١ : ٣٨٧ ، والأسفار ٤ : ١١٧ ، وشرح المقاصد ١ : ٢٤٤.

وتعرّض لهذا القول المحقّق الطوسيّ ـ كما في كشف المراد : ٢٥١ ـ حيث قال : «وليست اللذّة خروجا عن الحالة الغير الطبيعيّة» انتهى كلامه على ما في بعض نسخ التجريد. والموجود في بعضها الآخر بهذه العبارة : «وليست اللذّة خروجا عن الحالة الطبيعيّة». ولمّا كان هذا الكلام ردّا على الرازيّ فيستفاد منها أنّه قال : «اللذّة عبارة عن الخروج عن الحالة الطبيعيّة ، والألم عبارة عن الخروج عن الحالة الغير الطبيعيّة» ، ولذا نسب شيخنا العلّامة حسن زاده الآملي العبارة الاولى إلى التحريف ؛ وأمّا المحقّق اللاهيجيّ والشارح القوشجيّ نسبا العبارة الثانية الى سهو من القلم. راجع كلامهم في كشف المراد : ٢٥١ و ٥٧٣ ، وشوارق الإلهام : ٤٤٣ ـ ٤٤٤ ، وشرح التجريد للقوشجيّ : ٢٧٨.

(١) ولا يخفى أنّه على فرض كونهما من سنخ الإدراك فهما قسمان من العلم ، ولا يصحّ عدّهما نوعا آخر من الكيف النفسانيّ وقسيما للعلم.

٢١٤

واللذّة على أيّ حال (١) وجوديّة ، والألم عدميّ. يقابلها تقابل العدم والملكة (٢).

لا يقال (٣) : لا ريب في أنّ الألم شرّ بالذات ، وإذ كان هو إدراك المنافي بما أنّه مناف كان أمرا وجوديّا ، لأنّ الإدراك أمر وجوديّ ، وبهذا ينفسخ قولهم : «إنّ الشرّ عدم لا غير».

لأنّه يقال (٤) : وجود كلّ شيء هو نفس ذلك الشيء ، ذهنيّا كان أو خارجيّا ، فحضور أيّ أمر عدميّ عند المدرك هو نفس ذلك الأمر العدميّ ، لاتّحاد الوجود والماهيّة والعلم والمعلوم ، فالألم الموجود في ظرف الإدراك مصداق للألم ، وهو بعينه الألم العدميّ الّذي هو شرّ بالذات.

تنبيه :

ما مرّ من القول في الكيف وأحكامه وخواصّه هو المأثور من الحكماء المتقدّمين. وللمتأخّرين من علماء الطبيعة خوض عميق فيما عدّه المتقدّمون من الكيف ، عثروا فيه على أحكام وآثار جمّة ينبغي للباحث المتدبّر أن يراجعها ويراعي جانبها في البحث.

__________________

(١) أي : سواء كانت لذّة حسّيّة أو خياليّة أو عقليّة.

(٢) قال بعض الأساتيذ من تلامذة المصنّف رحمه‌الله : «اللذّة والألم ـ سواء كانا من قبيل الإدراك أو كانا نوعين آخرين من الكيف النفسانيّ ـ أمران وجوديّان يتعاقبان على النفس ، فينطبق عليهما حدّ الضدّين ، ويكون تقابلهما تقابل التضادّ ، لا تقابل العدم والملكة». ثمّ قال : «لكن لكلامه تأويل آخر. وهو أنّ اعتبار الألم عدميّا يكون بالنظر إلى حضور أمر عدميّ للنفس ، فيكون علما حضوريّا به. ويلاحظ عليه : أنّ الأمر العدميّ بما أنّه عدميّ ليس له حضور للنفس ، وإنّما الحضور يكون لموضوعه الوجوديّ ، مضافا إلى أنّ الألم ليس نفس العلم ، بل هو كيفيّة وجوديّة علميّة». تعليقة على نهاية الحكمة : ١٨٢ ـ ١٨٣.

(٣) هذا الإشكال أورده الفخر الرازيّ على الشيخ الرئيس في شرحه للإشارات ، فراجع شرحي الإشارات ٢ : ٨٨ ـ ٨٩. وتعرّض له صدر المتألّهين في الأسفار ٤ : ١٢٦ ، و ٧ : ٦٣ ، والحكيم السبزواريّ في شرح الأسماء الحسنى : ٢٥٣.

(٤) والقائل هو صدر المتألّهين في الأسفار ٤ : ١٢٦ ، و ٧ : ٦٣ ـ ٦٦. وقد بسط الكلام في الإشكال المذكور والجواب عنه الحكيم السبزواريّ في شرح الأسماء الحسنى : ٢٥٣ ـ ٢٥٨.

٢١٥

الفصل السادس عشر

في الإضافة

وفيه أبحاث :

البحث الأوّل : [في معنى نسبيّة المقولات]

قد عرفت (١) أنّ سبعا من المقولات أعراض نسبيّة ، وهي : الإضافة والأين والمتى والوضع والجدة وأن يفعل وأن ينفعل ، ومعنى نسبيّتها أنّها هيئات قائمة بموضوعاتها من نسب موجودة فيها ، لا أنّ هذه المقولات عين تلك النسب الوجوديّة (٢). وذلك أنّك عرفت في بحث «الوجود الرابط والمستقلّ» (٣) أنّ النسبة رابطة موجودة في غيرها ، لا استقلال لها أصلا ، لا يحمل على شيء ، ولا يحمل عليها شيء ، فلا ماهيّة لها ، لأنّ الماهيّة ما يقال على الشيء في جواب «ما هو؟» والمقولات ماهيّات جنسيّة ، فلا تكون النسبة مقولة ولا داخلة تحت مقولة.

على أنّ النسبة في بعض هذه المقولات متكرّرة متكثّرة ، ولا معنى لتكرّر الماهيّة ، كمقولة الإضافة الّتي يجب فيها تكرّر النسبة ، ومقولة الوضع الّتي فيها نسبة بعض أجزاء الشيء إلى بعض ونسبة المجموع إلى الخارج ، وربّما قامت على نسب كثيرة جدّا.

__________________

(١) في الفصل الأوّل من هذه المرحلة.

(٢) حتّى يقال : «إنّها ترجع إلى مقولة واحدة هي النسبة» ، كما قال به صاحب البصائر النصيريّة ـ على ما في شرح المنظومة : ١٣٧ ـ والشيخ الإشراقيّ في التلويحات : ١١.

(٣) راجع الفصل الأوّل من المرحلة الثانية.

٢١٦

فتبيّن أنّ المقولة النسبيّة هي هيئة حاصلة للشيء من نسبة كذا وكذا ، قائمة به.

البحث الثاني : [في تعريف الإضافة]

أنّ الإضافة هيئة حاصلة من نسبة الشيء إلى شيء آخر منسوب إلى الشيء الأوّل المنسوب إليه ، كهيئة الإضافة الّتي في الأخ ، فإنّ فيها نسبة الأخ بالاخوّة إلى أخيه المنسوب إلى هذا الأخ المنسوب إليه بالاخوّة.

[الفرق بينها وبين مطلق النسبة]

فالنسبة الّتي في مقولة الإضافة متكرّرة ، وهو الفرق بين ما فيها من النسبة وبين ما في غيرها من مطلق النسبة (١) ، فإنّ وجود مطلق النسبة واحد قائم بالطرفين مطلقا ، بخلاف الحال في مقولة الإضافة ، فإنّ النسبة فيها متكرّرة ، لكلّ من المضافين نسبة غير ما في الآخر ، غير أنّهما متلازمان لا تنفكّان في ذهن ولا خارج.

وما أوردناه من تعريف الإضافة ليس بحدّ منطقيّ (٢) ـ كما تقدّمت الإشارة إليه في نظائره (٣) ـ بل رسم إن كان أعرف من المعرّف (٤). ولعلّ المعقول من لفظ «الإضافة» مشفّعا ببعض ما له من الأمثلة أعرف عند العقل ممّا أوردناه من الرسم ، فلا كثير جدوى في إطالة البحث عن قيوده نقضا وإبراما ، وكذا في سائر ما أوردوه لها من التعاريف (٥).

__________________

(١) وفي النسخ : «وبين مطلق النسبة». والصحيح ما أثبتناه.

(٢) قال صدر المتألّهين في شرح الهداية الأثيريّة : ٢٧٢ : «واعلم انّ معرفة الإضافة بديهيّة ، والتعريف للتنبيه ، وإلّا لكان دوريّا».

(٣) كالكمّ والكيف ، راجع الفصلين الثامن والحادي عشر من هذه المرحلة.

(٤) وإلّا فتعريف لفظيّ.

(٥) إنّ عباراتهم في تعريف الإضافة مختلفة. فراجع الفصل الثالث من المقالة الرابعة من الفنّ الثاني من منطق الشفاء ، والتحصيل : ٤٠٤ ، ومنطق أرسطو ١ : ٤٨ ، والمباحث المشرقيّة ١ : ٤٣٤ ، وشرح المقاصد : ٢٨٠ ، والتعليقات للشيخ الرئيس : ٩٤ ، وشرح المواقف : ٣٤٦ ، وشرح الهداية الأثيريّه لصدر المتألّهين : ٢٧١.

٢١٧

[والفرق بين المضاف الحقيقيّ والمشهوريّ]

ثمّ إنّه ربّما يطلق المضاف ويراد به نفس المقولة ويسمّى عندهم ب «المضاف الحقيقيّ» وربّما يطلق ويراد به موضوع المقولة. وربّما يطلق ويراد به الموضوع والعرض جميعا ويسمّى «المضاف المشهوريّ». فإنّ العامّة ترى أنّ المضاف إلى الأب (١) مثلا هو الإنسان المتلبّس بالبنوّة ، والحال أنّ التعلّق من الجانبين إنّما هو للإضافة نفسها بالحقيقة.

البحث الثالث : [في أنّ الإضافة موجودة في الخارج]

الإضافة موجودة في الخارج (٢) ، والحسّ يؤيّد ذلك ، لوقوعها (٣) على أنواع من الإضافات الخارجيّة الّتي لها آثار عينيّة لا يرتاب فيها ، كإضافة الأب والابن ، والعلوّ والسفل ، والقرب والبعد ، وغير ذلك.

وأمّا نحو وجودها فالعقل ينتزع لكلّ من الموضوعين الواجدين للنسبة المتكرّرة المتلازمة وصفا ناعتا له (٤) انتزاعا من غير ضمّ ضميمة ، فهي موجودة بوجود موضوعها من دون أن يكون بإزائه وجود منحاز مستقلّ.

قال في الأسفار ـ بعد كلام له في هذا المعنى ـ : «وبالجملة إنّ المضاف ـ بما هو مضاف ـ بسيط ، ليس له وجود في الخارج مستقلّ مفرد ، بل وجوده أن يكون لاحقا بأشياء كونها بحيث يكون لها مقايسة إلى غيرها ، فوجود السماء في ذاتها وجود الجواهر ، ووجودها بحيث إذا قيس إلى الأرض عقلت الفوقيّة

__________________

(١) وفي النسخ : «الابن». والصحيح ما أثبتناه.

(٢) هذا مذهب أكثر الحكماء ، كالشيخ الرئيس في الفصل العاشر من المقالة الثالثة من إلهيّات الشفاء. وذهب جمهور المتكلّمين وبعض الحكماء إلى أنّه لا تحقّق لها في الخارج ، بل إنّها من الاعتبارات الذهنيّة الكلّيّة ، ومنهم المحقّق الطوسيّ ، حيث قال : «وثبوته ذهنيّ» واستدلّ عليه بوجوه ، راجع كشف المراد : ٢٥٨ ـ ٢٦٠ ، وشرح التجريد للقوشجيّ : ٢٨٨ ، وشوارق الإلهام : ٤٥٦ ـ ٤٥٧.

(٣) هذا هو الصحيح ، بخلاف ما في النسخ من قوله : «لوقوعه».

(٤) وفي النسخ : «ينتزع من الموضوعين» و «ناعتا لهما». والصحيح ما أثبتناه.

٢١٨

وجود الإضافات» (١) انتهى.

البحث الرابع : [في بعض أحكام الإضافة]

من أحكام الإضافة أنّ المضافين متكافئان وجودا وعدما ، وقوّة وفعلا. فإذا كان أحدهما موجودا كان الآخر موجودا ، وكذا في جانب العدم. وإذا كان أحدهما بالقوّة فالآخر بالقوّة ، وكذا في جانب الفعل.

واعترض عليه بأنّه منقوض بالتقدّم والتأخّر في أجزاء الزمان ، فإنّ المتقدّم والمتأخّر منها مضافان مع أنّ وجود أحدهما يلازم عدم الآخر (٢). ومنقوض أيضا بعلمنا ببعض الامور المستقبلة ، فالعلم موجود في الحال والمعلوم معدوم لم يوجد بعد ، مع أنّ العلم والمعلوم من المضافين (٣).

واجيب : أمّا عن أوّل النقضين (٤) فبأنّ معيّة أجزاء الزمان ليست آنيّة ، بأن يكون الجزءان موجودين في آن واحد ، بل معيّتهما اتّصالهما في الوجود الوحدانيّ التدريجيّ الّذي معيّتهما فيه عين التقدّم والتأخّر فيه ، كما أنّ وحدة العدد عين كثرته.

وأمّا عن النقض الثاني (٥) فبأنّ الإضافة إنّما هي بين العلم وبين الصورة

__________________

(١) راجع الأسفار ٤ : ٢٠٤.

(٢) هذا الاعتراض تعرّض له الشيخ الرئيس في الفصل الرابع من المقالة الرابعة من الفنّ الثاني من منطق الشفاء ، والفصل الأخير من المقالة الثالثة من إلهيّات الشفاء.

(٣) هذا الاعتراض تعرّض له الشيخ الرئيس في الفصل الرابع من المقالة الرابعة من الفنّ الثاني من منطق الشفاء.

(٤) والمجيب صدر المتألّهين في الأسفار ٤ : ٢٠٢. وأجاب عنه أيضا الشيخ الرئيس في الفصل الرابع من المقالة الرابعة من الفنّ الثاني من منطق الشفاء ، والفصل الأخير من المقالة الثالثة من إلهيّات الشفاء. وردّه صدر المتألّهين في الأسفار ٤ : ١٩٣ تبعا للرازيّ في المباحث المشرقيّة ١ : ٤٣٢.

(٥) والمجيب أيضا صدر المتألّهين في الأسفار ٤ : ١٩٤. وأجاب عنه أيضا الشيخ الرئيس في الفصل الرابع من المقالة الرابعة من الفنّ الثاني من منطق الشفاء ، حيث قال : «وأمّا العلم بالقيامة فإنّه إنّما هو في حكم سيكون ، فإنّ العلم بها أنّها ستكون علم بحال من أحوالها موجود في الذهن مع وجود العلم بأنّها هي ستكون ، لا عند ما تكون ، بل قبل ذلك عند ما ـ

٢١٩

الحاضرة من المعلوم عند العالم ، وهو المعلوم بالذات دون المعلوم بالعرض الّذي هو عين خارجيّ ، والامور المستقبلة حاضرة بصورتها المعلومة بالذات عند العالم وإن كانت غائبة بعينها الخارجيّة المعلومة بالعرض ، على أنّ الحقّ أنّ العلم عين المعلوم ، كما سيأتي في مرحلة العاقل والمعقول (١).

وكما يتكافأ المضافان وجودا وعدما وقوّة وفعلا كذلك يتكافآن عموما وخصوصا ، فالابوّة العامّة تضايف البنوّة العامّة ، والابوّة الشخصيّة تضايف البنوّة الشخصيّة.

ومن خواصّ الإضافة أنّها تعرض جميع المقولات حتّى نفسها ، ففي الجوهر كالأب والابن ، وفي الكمّ المتّصل كالعظيم والصغير ، وفي الكمّ المنفصل كالكثير والقليل ، وفي الكيف كالأحرّ والأبرد ، وفي الإضافة كالأقرب والأبعد ، وفي الأين كالعالي والسافل (٢) ، وفي المتى كالأقدم والأحدث ، وفي الوضع كالأشدّ انتصابا وانحناءا ، وفي الجدة كالأكسى والأعرى ، وفي أن يفعل كالأقطع والأصرم ، وفي أن ينفعل كالأشدّ تسخّنا والأضعف.

البحث الخامس : [في بعض تقسيمات الإضافة]

تنقسم الإضافة إلى : متشاكلة الأطراف ، وهي الّتي لا اختلاف بين أطرافها ، كالقريب والقريب ، والأخ والأخ ، والجار والجار. ومختلفة الأطراف ، كالأب والابن ، والعالي والسافل.

وتنقسم أيضا إلى : ما هو خارجيّ ، كالأب والابن. وما هو ذهنيّ ، كالكلّيّ والفرد ، والأعمّ والأخصّ.

__________________

ـ هي معدومة في الأعيان ، موجودة في النفس ...». وتعرّض له الفخر الرازيّ في المباحث المشرقيّة ١ : ٤٣٢ من دون أن ينسبه إلى الشيخ الرئيس ، ومن هنا زعم الاستاذ المحقّق مصباح اليزديّ أنّ هذا الجواب ممّا أجاب به الفخر الرازيّ ، فراجع تعليقته على نهاية الحكمة الرقم ١٩٣.

(١) في الفصل الثاني من المرحلة الحادية عشرة.

(٢) في شرح المواقف : ٣٤٨ : «كالأعلى والأسفل».

٢٢٠