نهاية الحكمة - ج ١

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

نهاية الحكمة - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-470-623-3
ISBN الدورة:
978-964-470-005-7

الصفحات: ٢٨٣

المقيّد دون السلب المقيّد (١). فإذا سئل : هل الماهيّة من حيث هي موجودة أو ليست بموجودة؟ فالجواب : ليست الماهيّة من حيث هي بموجودة ولا لا موجودة ، ليفيد أنّ شيئا من الوجود والعدم غير مأخوذ في حدّ ذات الماهيّة» (٢).

ونظير الوجود والعدم ـ في خروجهما عن الماهيّة من حيث هي ـ سائر المعاني المتقابلة الّتي في قوّة النقيضين ، حتّى ما عدّوه من لوازم الماهيّات. فليست الماهيّة من حيث هي لا واحدة ولا كثيرة ، ولا كلّيّة ولا جزئيّة ، ولا غير ذلك من المتقابلات ، وليست الأربعة من حيث هي زوجا ولا فردا.

__________________

(١) فإذا قلت : «الإنسان من حيث هو ليس بموجود» تصير الحيثيّة جزء الموضوع لا من تتمّة المحمول ، فلا يتوجّه النفي إلى الوجود الخاصّ ـ أي وجود يكون عينا أو جزءا لذات الإنسان ـ ، بل إلى الوجود المطلق. وحينئذ يلزم منه أن يكون الإنسان من حيث هو خاليا عن الوجود مطلقا ، وهو باطل.

وأمّا إذا قلت : «الإنسان ليس من حيث هو بموجود» تصير الحيثيّة من تتمّة المحمول ، ويتوجّه النفي إلى الوجود الخاصّ الّذي يكون عينا أو جزءا لذات الإنسان ، ونفي الخاصّ لا يستلزم نفي العامّ.

(٢) راجع الفصل الأوّل من المقالة الخامسة من إلهيّات الشفاء ، والمباحث المشرقيّة ١ : ٤٨ ـ ٤٩ ، والفصل السابع من المقالة الثالثة من الفنّ الأوّل من طبيعيّات الشفاء ، وشرح التجريد للقوشجيّ : ٧٦ ، وكشف المراد : ٨٤ ، وغيرها من الكتب المطوّلة.

١٢١

الفصل الثاني

في اعتبارات الماهيّة

للماهيّة بالنسبة إلى ما يقارنها من الخصوصيّات (١) اعتبارات ثلاث ، وهي : أخذها بشرط شيء ، وأخذها بشرط لا ، وأخذها لا بشرط. والقسمة حاصرة.

أمّا الأوّل : فأن تؤخذ الماهيّة بما هي مقارنة لما يلحق بها من الخصوصيّات ، فتصدق على المجموع ، كأخذ ماهيّة الإنسان بشرط كونها مع خصوصيّات زيد ، فتصدق عليه.

وأمّا الثاني : فأن تؤخذ وحدها ، وهذا على وجهين (٢) : (أحدهما) أن يقصر النظر في ذاتها مع قطع النظر عمّا عداها ، وهذا هو المراد من «بشرط لا» في

__________________

(١) أي : الخصوصيّات العرضيّة. ويشعر به قوله : «ما يقارنها».

(٢) يريد أنّ «الماهيّة بشرط لا» يستعمل عندهم في معنيين ، أحدهما : أن يعتبر تجرّد الماهيّة عن جميع الامور الزائدة عليها ، عارضة كانت أو لازمة إيّاها ، وهذا هو المستعمل في مقابل الماهيّة المخلوطة والمطلقة في مباحث الماهيّة. وثانيهما : أن يعتبر انضمام شيء آخر إليها من حيث هو أمر زائد عليها ، وقد حصل منهما مجموع لا يصدق هي عليه بهذا الاعتبار ، وهذا هو المستعمل في مورد المادّة في مقابل الجنس.

والمعنى الأوّل هو المشهور بين المتأخّرين ، كما في شرح المقاصد ١ : ١٠٠. والمعنى الثاني هو الّذي ذكره الشيخ الرئيس في الفرق بين الجنس والمادّة في الشفاء ، ولخّصه المحقّق الطوسيّ في شرح الإشارات ، فراجع الفصل الثالث من المقالة الخامسة من إلهيّات الشفاء ، وشرح الإشارات ١ : ٧٦ ـ ٧٨.

والمحقّق الآمليّ تعرّض للفرق بينهما من وجوه ، فراجع درر الفوائد ١ : ٣٠٣

١٢٢

مباحث الماهيّة. و (الآخر) أن تؤخذ وحدها ، بحيث لو قارنها أيّ مقارن مفروض كان زائدا عليها غير داخل فيها ، فتكون موضوعة للمقارن المفروض ، غير محمولة عليه.

وأمّا الثالث : فأن لا يشترط معها شيء من المقارنة واللامقارنة ، بل تؤخذ مطلقة ، من غير تقييد بنفي أو إثبات. وتسمّى الماهيّة بشرط شيء «مخلوطة» ، والبشرط لا «مجرّدة» ، واللابشرط «مطلقة».

والمقسم للأقسام الثلاث الماهيّة ، وهي الكلّيّ الطبيعيّ ، وتسمّى «اللابشرط المقسميّ» وهي موجودة في الخارج لوجود بعض أقسامها فيه كالمخلوطة (١).

والموجود من الكلّيّ في كلّ فرد غير الموجود منه في فرد آخر بالعدد. ولو كان الموجود منه في الأفراد الخارجيّة واحدا بالعدد كان الواحد كثيرا بعينه ، وهو محال ، وكان الواحد متّصفا بصفات متقابلة ، وهو محال.

وهذا معنى قولهم (٢) : «إنّ نسبة الماهيّة إلى أفرادها كنسبة الآباء الكثيرين

__________________

(١) لا يخفى أنّ المقسم لا بدّ من أن يكون محفوظا في جميع الأقسام ، وإلّا فلا يكون مقسما. والأقسام إمّا أن تكون موجودة كلّها وهذا يدلّ على وجود المقسم ؛ وإمّا أن يكون بعضها موجودا وبعضها معدوما أو بعضها موجودا وبعضها لا موجودا ولا معدوما ، وحينئذ وجود بعض الأقسام ليس دليلا على وجود المقسم ، بل إنّما يدلّ على وجود الشيء في الأقسام الموجودة.

ومن هنا يظهر أنّ وجود بعض أقسام الماهيّة ـ كالمخلوطة والمطلقة ـ لا يدلّ على وجود الماهيّة اللا بشرط المقسميّ الّتي فرضت مقسما لها ، بل إنّما يدلّ على وجودها الخارجيّ في تلك الأقسام الموجودة في الخارج ، وأمّا وجودها الخارجيّ في الماهيّة بشرط لا فلا. مع أنّ الماهيّة المطلقة بما أنّها مطلقة لا وجود لها في الخارج.

ولعلّ هذا مراد من قال بأن لا وجود في الخارج إلّا للأشخاص ، والطبائع الكلّيّة منتزعة عنها ، فتأمّل.

(٢) هكذا قال صدر المتألّهين في الأسفار ٢ : ٨. وقال السبزواريّ في شرح المنظومة : ٩٩ :

ليس الطبيعيّ مع الأفراد

كالأب بل آباء مع الأولاد

١٢٣

إلى أولادهم ، لا كنسبة الأب الواحد إلى أولاده الكثيرين» (١).

فالماهيّة كثيرة في الخارج بكثرة أفرادها ، نعم هي بوصف الكلّيّة والاشتراك واحدة في الذهن كما سيأتي (٢).

__________________

(١) والقائل بأنّ نسبة الماهيّة إلى أفرادها كنسبة الأب الواحد إلى أولاده الكثيرين هو الرجل الهمدانيّ. راجع شرح المنظومة : ٩٩.

(٢) في الفصل الآتي.

١٢٤

الفصل الثالث

في الكلّيّ والجزئيّ

لا ريب أنّ الماهيّة الكثيرة الأفراد تصدق على كلّ واحد من أفرادها وتحمل عليه ، بمعنى أنّ الماهيّة الّتي في الذهن كلّما ورد فيه فرد من أفرادها وعرض عليها اتّحدت معه وكانت هي هو. وهذه الخاصّة هي المسمّاة بالكلّيّة ، وهي المراد باشتراك الأفراد في الماهيّة. فالعقل لا يمتنع من تجويز صدق الماهيّة على كثيرين بالنظر إلى نفسها ، سواء كانت ذات أفراد كثيرين في الخارج أم لا.

فالكلّيّة خاصّة ذهنيّة تعرض الماهيّة في الذهن ، إذ الوجود الخارجيّ العينيّ مساوق للشخصيّة ، مانع عن الاشتراك. فالكلّيّة من لوازم الوجود الذهنيّ للماهيّة ، كما أنّ الجزئيّة والشخصيّة من لوازم الوجود الخارجيّ.

فما قيل (١) : «إنّ الكلّيّة والجزئيّة في نحو الإدراك ، بمعنى أنّ الحسّ لقوّة إدراكه ينال الشيء نيلا كاملا ، بحيث يمتاز عمّا سواه مطلقا ويتشخّص ، والعقل لضعف إدراكه يناله نيلا هيّنا ، يتردّد ما ناله بين امور ، ويقبل الانطباق على كثيرين ، كالشبح المرئيّ من بعيد بحيث لا يتميّز كلّ التمّيز ، فيتردّد بين أن يكون مثلا

__________________

(١) والقائل هو المحقّق الدوانيّ وسيّد المدقّقين على ما نقل عنهما في شوارق الإلهام : ١٦٤ ، وتعليقة الهيدجيّ على شرح المنظومة : ٢٧٠ ، ودرر الفوائد : ٣٣٢. قال المحقّق الدوانيّ في حاشية شرح التجريد للقوشجيّ : ٩٦ : «فالاختلاف بالكلّيّة والجزئيّة لاختلاف نحو الإدراك ...».

١٢٥

هو زيدا أو عمرا أو خشبة منصوبة أو غير ذلك ، وليس إلّا واحدا من المحتملات ، وكالدرهم الممسوح المردّد بين الدراهم المختلفة وليس إلّا واحدا منها» فاسد ، إذ لو كان الأمر كذلك لم يكن مصداق الماهيّة في الحقيقة إلّا واحدا من الأفراد ، ولكذبت القضايا الكلّيّة ، كقولنا : «كلّ ممكن فله علّة» ، و «كلّ أربعة زوج» ، و «كلّ كثير فإنّه مؤلّف من آحاد». والضرورة تدفعه ، فالحقّ أنّ الكلّيّة والجزئيّة لازمتان لوجود الماهيّات ، فالكلّيّة لوجودها الذهنيّ والجزئيّة لوجودها الخارجيّ.

وكذا ما قيل (١) : «إنّ الماهيّة الموجودة في الذهن جزئيّة شخصيّة ، كالماهيّة الموجودة في الخارج ، فإنّها موجودة في ذهن خاصّ قائمة بنفس جزئيّة. فالماهيّة الإنسانيّه الموجودة في ذهن زيد مثلا غير الماهيّة الإنسانيّة الموجودة في ذهن عمرو ، والموجودة منها في ذهن زيد اليوم غير الموجودة في ذهنه بالأمس ، وهكذا» فاسد ، فإنّ الماهيّة المعقولة من الحيثيّة المذكورة ـ أعني كونها قائمة بنفس جزئيّة ناعتة لها ، وكذا كونها كيفيّة من الكيفيّات النفسانيّة وكمالا لها ـ هي من الموجودات الخارجيّة الخارجة من بحثنا ، وكلامنا في الماهيّة بوجودها الذهنيّ الّذي لا تترتّب عليها فيه آثارها الخارجيّة ، وهي من هذه الجهة لا تأبى الصدق على كثيرين.

ثمّ إنّ الأشياء المشتركة في معنى كلّيّ يتميّز بعضها من بعض بأحد امور ثلاثة ، فإنّها إن اشتركت في عرضيّ خارج من الذات فقط تميّزت بتمام الذات ، كالنوعين من مقولتين من المقولات العرضيّة المشتركين في العرضيّة. وإن اشتركت في ذاتيّ ، فإن كان في بعض الذات ـ ولا محالة هو الجنس ـ تميّزت ببعض آخر

__________________

(١) والظاهر أنّ القائل به هو فخر الدين الرازيّ في شرح عيون الحكمة ٣ : ٧ و ١٠٠ ، حيث قال : «إنّ الموجود في الأذهان هو أيضا موجود في الأعيان ، لأنّ الموجود الذهنيّ صورة جزئيّة إدراكيّة موجودة في نفس شخصيّة معيّنة». وتعرّض لهذا القول قطب الدين الراونديّ في رسالة «تحقيق الكلّيّات» على ما في حاشية شرح المطالع : ٤٨.

١٢٦

وهو الفصل كالإنسان والفرس المشتركين في الحيوانيّة المتميّزين بالنطق والصهيل. وإن كان في تمام الذات تميّزت بعرضيّ مفارق ، إذ لو كان لازما لم يخل عنه فرد ، فلازم النوع لازم لجميع أفراده.

وزاد بعضهم (١) على هذه الأقسام الثلاثة قسما رابعا ، وهو : التميّز بالتمام والنقص والشدّة والضعف في نفس الطبيعة المشتركة ، وهو التشكيك.

والحقّ (٢) أنّ الماهيّة ـ بما أنّها هي ـ لا تقبل التشكيك (٣) وإنّما التشكيك في الوجود.

هذا كلّه في الكلّيّة ، وأنّها خاصّة ذهنيّة للماهيّة (٤). وأمّا الجزئيّة وهي امتناع الشركة في الشيء ، وتسمّى : «الشخصيّة» ـ فالحقّ أنّها بالوجود ، كما ذهب إليه الفارابيّ رحمه‌الله وتبعه صدر المتألّهين (٥) رحمه‌الله. قال في الأسفار : «والحقّ أنّ تشخّص الشيء ـ بمعنى كونه ممتنع الشركة فيه بحسب نفس تصوّره ـ إنّما يكون بأمر زائد على الماهيّة مانع بحسب ذاته من تصوّر الاشتراك فيه. فالمشخّص للشيء ـ بمعنى ما به يصير ممتنع الاشتراك فيه ـ لا يكون بالحقيقة إلّا نفس وجود ذلك الشيء ، كما ذهب إليه المعلّم الثاني ، فإنّ كلّ وجود متشخّص بنفس ذاته ، وإذا قطع النظر عن نحو الوجود الخاصّ للشيء فالعقل لا يأبى عن تجويز الاشتراك فيه ، وإن ضمّ إليه

__________________

(١) وهو الشيخ الإشراقيّ في حكمة الإشراق حيث قال : «وأمّا الفارق بين أشخاصها فليس بفصليّ ، فإنّ جواب (ما هو؟) لا يتغيّر فيها ، ولا هو عارض ، بل قسم ثالث هو الكماليّة والنقص». فراجع كلام الماتن في شرح حكمة الإشراق : ٢٣٤.

(٢) كما في تعليقات شرح حكمة الإشراق لصدر المتألّهين ، فراجع شرح حكمة الإشراق : ٢٣٤ و ٢٣٧.

(٣) لأنّها من حيث هي ليست إلّا هي ، لا شديدة ولا ضعيفة ، ولا تامّة ولا ناقصة.

(٤) وأمّا عند المنطقيّين فالكلّيّة خاصّة للمفهوم الذهنيّ بما هو حاك للخارج ، كما أنّ الجزئيّة عندهم خاصّة له ، سواء كان مفهوما ماهويّا أو معقولا ثانيا.

(٥) نسب إليهما في شرح المنظومة : ١٠٦. ونسبه المحقّق الدوانيّ إلى الفارابيّ وغيره في حاشيته على شرح التجريد للقوشجيّ : ٩٦.

١٢٧

ألف مخصّص ، فإنّ الامتياز في الواقع غير التشخّص ، إذ الأوّل للشيء بالقياس إلى المشاركات في أمر عامّ ، والثاني باعتباره في نفسه حتّى أنّه لو لم يكن له مشارك لا يحتاج إلى مميّز زائد ، مع أنّ له تشخّصا في نفسه. ولا يبعد أن يكون التميّز يوجب للشيء استعداد التشخّص ، فإنّ النوع المادّيّ المنتشر ما لم تكن المادّة متخصّصة الاستعداد لواحد منه لا يفيض وجوده عن المبدأ الأعلى» (١) انتهى.

ويتبيّن به :

أوّلا : أنّ الأعراض المشخّصة الّتي أسندوا التشخيص إليها ـ وهي عامّة الأعراض كما هو ظاهر كلام بعضهم (٢) ، وخصوص الوضع ومتى وأين كما صرّح به بعض آخر (٣) ، وخصوص الزمان كما قال به آخرون (٤) ـ وكذا ما قيل (٥) :

__________________

(١) راجع الأسفار ٢ : ١٠.

(٢) كالشيخ الرئيس في الشفاء حيث قال : «ثمّ تخالطه معان وأسباب اخر يتحصّل بها واحد واحد من الأشخاص الإنسانيّة ويتميّز بها شخص عن شخص ، مثل أن يكون هذا قصيرا وذاك طويلا وهذا أبيض وذاك أسود. ولا يكون شيء من هذه بحيث لو لم يكن موجودا لذات الشخص وكان بدله غيره لزم منه أن يفسد لأجله ، بل هذه امور تتبع وتلزم ، وإنّما تكون حقيقة وجوده بالإنسانيّة ، فتكون ماهيّة كلّ شخص هي بإنسانيّته ، لكن إنّيّته الشخصيّة تتحصّل من كيفيّة وكمّيّة وغير ذلك». راجع الفصل الخامس من المقالة الاولى من الفنّ الأوّل من منطق الشفاء.

وقال أيضا : «والشخص انّما يصير شخصا بأن تقترن بالنوع خواصّ عرضيّة لازمة وغير لازمة». راجع الفصل الثاني عشر من المقالة الاولى من الفنّ الأوّل من منطق الشفاء.

(٣) كالفارابيّ والشيخ الرئيس في تعليقاتهما ، حيث قالا : «التشخّص هو أن يكون للمتشخّص معان لا يشاركه فيها غيره. وتلك المعاني هي الوضع والأين والزمان ، فأمّا سائر الصفات واللوازم ففيها شركة كالسواد والبياض» فراجع التعليقات للفارابي : ١٤ ـ ١٥ ، والتعليقات للشيخ الرئيس : ١٠٧.

(٤) والقائل الشيخ الإشراقيّ في المطارحات : ٣٣٤ ـ ٣٣٥.

(٥) والقائل فخر الدين الرازيّ في المباحث المشرقيّة ١ : ٧٦ ـ ٧٧. ونسب إلى بعض أهل العلم في الأسفار ٢ : ١٢ ، وشرح الهداية الأثيريّة : ٢٢٤. وقال المحقّق الطوسيّ : «وقد يستند إلى المادّة المتشخّصة بالأعراض الخاصّة الحالّة فيها». راجع كشف المراد : ٩٧.

١٢٨

«إنّه المادّة» أمارات للتشخّص ومن لوازمه (١).

وثانيا : أنّ قول بعضهم (٢) : «إنّ المشخّص للشيء هو فاعله القريب المفيض لوجوده» وكذا قول بعضهم (٣) : «إنّ المشخّص هو فاعل الكلّ وهو الواجب تعالى الفيّاض لكلّ وجود» ، وكذا قول بعضهم (٤) : «إنّ تشخّص العرض بموضوعه» لا يخلو عن استقامة. غير أنّه من الإسناد إلى السبب البعيد ، والسبب القريب الّذي يستند إليه التشخّص هو نفس وجود الشيء ، إذ الوجود العينيّ للشيء ـ بما هو وجود عينيّ يمتنع وقوع الشركة فيه فهو المتشخّص بذاته ، والماهيّة متشخّصة به ، وللفاعل أو الموضوع دخل في التشخّص من جهة أنّهما من علل الوجود ، لكنّ أقرب الأسباب هو وجود نفس الشيء كما عرفت.

وثالثا : أنّ جزئيّة المعلوم المحسوس ليست من قبل نفسه بما أنّه مفهوم ذهنيّ ، بل من قبل الاتّصال الحسّيّ بالخارج وعلم الإنسان بأنّه نوع تأثّر له من العين الخارجيّ ، وكذا جزئيّة الصورة الخياليّة من قبل الاتّصال بالحسّ ، كما إذا أحضر صورة خياليّة مخزونة عنده من جهة الحسّ أو ركّب ممّا عنده من الصور الحسّيّة المخزونة صورة فرد خياليّ ، فافهم.

__________________

(١) هكذا في شرح المنظومة : ١٠٦.

(٢) وتعرّض صدر المتألّهين لهذا القول من دون إشارة إلى قائله ، فراجع الأسفار ٢ : ١٢ ، وشرح الهداية الأثيريّة : ٢٢٤. ولم نعثر على قائله.

(٣) والقائل شارح المقاصد ١ : ١١٣ ، حيث قال : «بل التشخّص يستند عندنا إلى القادر المختار كسائر الممكنات بمعنى أنّه الموجد لكلّ فرد على ما شاء من التشخّص».

(٤) والقائل هو المحقّق الطوسيّ في تجريد الاعتقاد. راجع كشف المراد : ١٤٣ ، وشرح التجريد للقوشجيّ : ١٤٠ ـ ١٤١.

١٢٩

الفصل الرابع

في الذاتيّ والعرضيّ

المفاهيم المعتبرة في الماهيّات ـ وهي الّتي تؤخذ في حدودها ، وترتفع الماهيّات بارتفاعها ـ تسمّى : «ذاتيّات» (١). وما سوى ذلك ممّا يحمل عليها ـ وهي خارجة من الحدود كالكاتب من الإنسان ، والماشي من الحيوان ـ تسمّى : «عرضيّات».

والعرضيّ قسمان ، فإنّه إن توقّف انتزاعه وحمله على انضمام (٢) كتوقّف انتزاع الحارّ وحمله على الجسم على انضمام الحرارة إليه سمّي : «محمولا بالضميمة». وإن لم يتوقّف على انضمام شيء إلى الموضوع (٣) سمّي : «الخارج

__________________

(١) فالمراد من الذاتيّ هنا هو الذاتيّ في باب الإيساغوجيّ ، لا الذاتيّ في باب البرهان ، وهو كلّ مفهوم ينتزع من نفس ذات الشيء ويكفي ذاته في انتزاعه ، كالإمكان فإنّه ذاتيّ للماهيّة الإمكانيّة ، أي ينتزع من نفس ذاتها. فالذاتيّ في باب البرهان أعمّ من الذاتيّ في باب الإيساغوجيّ.

(٢) أي : انضمام ضميمة لها وجود خارج من وجود الموضوع ، كالأسود ، فإنّ انتزاعه وحمله على الجسم يتوقّف على انضمام السواد ـ وله وجود في نفسه ـ إلى الجسم ، وإلّا فلا ينتزع عن نفس الجسم.

(٣) فالنسبة بين المحمول بالضميمة والخارج المحمول نسبة التباين. وهذا غير ما هو المشهور بينهم من أنّ النسبة بينهما نسبة العموم والخصوص المطلق. ومنشأ الخلاف فيها هو اختلافهم في المراد من الخارج المحمول على أقوال :

الأوّل : أنّ المحمول بالضميمة ما يكون محتاجا في حمله على الشيء إلى الضميمة ، والخارج المحمول ما يكون خارجا عن ذات الشيء ومحمولا عليه ، أعمّ من أن ـ

١٣٠

المحمول» (١) ، كالعالي والسافل.

هذا هو المشهور ، وقد تقدّم (٢) أنّ العرض من مراتب وجود الجوهر (٣).

ويتميّز الذاتيّ من غير الذاتيّ بخواصّه الّتي هي لوازم ذاتيّته. وهي كونه ضروريّ الثبوت لذي الذاتيّ ، لضروريّة ثبوت الشيء لنفسه ، وكونه غنيّا عن السبب فالسبب الموجد لذي الذاتيّ هو السبب الموجد للذاتيّ لمكان العينيّة ، وكونه متقدّما على ذي الذاتيّ تقدّما بالتجوهر (٤) ، كما سيجيء إن شاء الله (٥).

__________________

ـ يكون محتاجا فيه إليها أو غير محتاج إليها. هذا هو المشهور بينهم. وعليه فالنسبة بينهما بالعموم والخصوص المطلق.

الثاني : أنّ المحمول بالضميمة ما يكون محتاجا في حمله على الشيء إلى الضميمة ، والخارج المحمول ما لا يحتاج في حمله إلى الضميمة. وهذا ما ذكره المصنّف رحمه‌الله في المقام. وعليه كانت النسبة بينهما نسبة التباين.

الثالث : أنّ المحمول بالضميمة ما يكون له ما بإزاء في الخارج كالمقولات العرضيّة ، والخارج المحمول ما لا يكون له ما بإزاء في الخارج. وعليه كانت النسبة بينهما بالتباين أيضا.

(١) والوجه في تسميته بالخارج المحمول أنّه خارج عن ذات الموضوع محمول عليه ، أعمّ من أن يكون في حمله على الشيء محتاجا إلى الضميمة أو غير محتاج إليه ، على ما هو المشهور بينهم.

(٢) في الفصل الثالث من المرحلة الثانية ، حيث قال : «ويتبيّن بما مرّ أنّ وجود الأعراض من شؤون وجود الجواهر الّتي هي موضوعاتها».

(٣) فتقسيم العرضيّ إلى الخارج المحمول والمحمول بالضميمة إنّما يصحّ على مبنى المشهور من أنّ العرض مباين للجوهر وجودا وماهيّة. وأمّا على مبنى المصنّف رحمه‌الله من أنّ العرض من مراتب وجود الجوهر ، فلا مجال للتقسيم المذكور ، بل كلّ عرض يتّحد بالمعروض وجودا وإن يغايره مفهوما ، فلم يكن العرض خارجا عن وجود المعروض حتّى يكون ضميمة انضمّت إليه.

(٤) ولا يخفى أنّ الخاصّة الاولى والثانية ليست إلّا من الخواصّ الإضافيّة للذاتيّ بالقياس إلى العرضيّ الغير اللازم ، فإنّ العرضيّ اللازم يشارك الذاتيّ في هاتين الخاصّتين ، كالزوجيّة للأربعة ، والإمكان للماهيّة ، فالزوجيّة ضروريّ الثبوت للأربعة مع أنّه عرضيّ لازم لها ، والإمكان وصف وجوديّ للماهيّة الموجودة مع أنّ السبب الموجد للماهيّة هو السبب الموجدّ للإمكان. وأمّا الخاصّة الثالثة فهي خاصّته الحقيقيّة ، لأنّ تصوّر اللازم متأخّر عن تصوّر الملزوم ذاتا ، بخلاف الذاتيّ فإنّ تصوّره مقدّم على ذي الذاتيّ.

(٥) في الفصل الأوّل من المرحلة العاشرة.

١٣١

وقد ظهر ممّا تقدّم أنّ الحمل بين الذات وبين أجزائه الذاتيّة حمل أوّليّ (١).

وبه يندفع الإشكال في تقدّم أجزاء الماهيّة عليها بأنّ مجموع الأجزاء عين الكلّ ، فتقدّم المجموع على الكلّ تقدّم الشيء على نفسه ، وهو محال.

وذلك (٢) أنّ الذاتيّ ـ سواء كان أعمّ وهو الجنس أو أخصّ وهو الفصل ـ عين الذات ، والحمل بينهما أوّليّ ، وإنّما سمّي : «جزءا» لوقوعه جزءا من الحدّ.

على أنّ إشكال تقدّم الأجزاء على الكلّ مدفوع بأنّ التقدّم للأجزاء بالأسر على الكلّ (٣) ، وبين الاعتبارين تغاير.

__________________

(١) بمعنى أنّ الذات بالحمل الأوّليّ ذاتيّاته ، لا أنّ الذات ذاتيّاته بالحمل الأوّليّ. والفرق بينهما ـ كما مرّ ـ أنّ المراد من الحمل الأوّليّ الّذي يكون قيدا للموضوع هو مفهوم الموضوع ، فيقال : «الإنسان بالحمل الأوّليّ حيوان ناطق» ومعناه : أنّ مفهوم الإنسان حيوان ناطق ، وهذا صادق ، والمراد منه إذا كان قيدا للقضيّة أنّ اتّحاد المحمول بالموضوع اتّحاد مفهوميّ ، فيقال مثلا : «الإنسان حيوان ناطق بالحمل الأوّليّ» ، ومعناه : أنّ مفهوم الإنسان نفس مفهوم الحيوان الناطق ، وهذا غير صادق ، فإنّ مفهوم الإنسان ـ وهو مركّب من الحيوان والناطق ـ غير مفهوم كلّ من الحيوان والناطق. نعم ، يصحّ أن يقال : «الإنسان إنسان بالحمل الأوّليّ» أي مفهوم الإنسان (الموضوع) نفس مفهوم الانسان (المحمول). ويصحّ أن يقال : «الإنسان حيوان ناطق بالحمل الشائع» أي مصداقهما واحد. والخلط بينهما قد يوجب أن يتوهّم أنّ الحمل بين الذات وذاتيّاته ليس إلّا حملا شائعا.

(٢) أي : الاندفاع. واعلم أنّهم اختلفوا في التفصّي عن هذا الإشكال ، ولهم عبارات مختلفة تعرّض لها المحقّق اللاهيجيّ في المسألة الخامسة من الفصل الثاني من المقصد الأوّل من شوارق الإلهام ، فراجع.

(٣) وبعبارة اخرى : أنّ الأجزاء لا بشرط الاجتماع متقدّمة على الأجزاء بشرط الاجتماع ، فالحيوان والناطق متقدّمان على الحيوان الناطق.

١٣٢

الفصل الخامس

في الجنس والفصل والنوع وبعض ما يلحق بذلك

الماهيّة التامّة الّتي لها آثار خاصّة حقيقيّة تسمّى ـ من حيث هي كذلك ـ :

«نوعا» كالإنسان والفرس والغنم. وقد بيّن في المنطق أنّ من المعاني الذاتيّة للأنواع ـ الواقعة في حدودها (١) ـ ما يشترك فيه أكثر من نوع واحد كالحيوان الّذي يشترك فيه الإنسان والفرس وغيرهما ، كما أنّ منها ما يختصّ بنوع واحد كالناطق المختصّ بالإنسان ، ويسمّى الجزء المشترك فيه : «جنسا» ، والجزء المختصّ : «فصلا».

وينقسم الجنس والفصل إلى قريب وبعيد ، وأيضا ينقسم الجنس والنوع إلى عال ومتوسط وسافل ، كلّ ذلك مبيّن في محلّه (٢).

ثمّ إنّا إذا أخذنا معنى الحيوان الموجود في أكثر من نوع واحد مثلا وعقلناه بأنّه الجوهر الجسم الناميّ الحسّاس المتحرّك بالإرادة ، جاز أن نعقله وحده بحيث يكون كلّ ما يقارنه من المعاني ـ كالناطق ـ زائدا عليه خارجا من ذاته ، ويكون ما عقلناه من المعنى مغايرا للمجموع منه ومن المقارن ، غير محمول عليه ، كما أنّه غير محمول على المقارن. فالمفهوم المعقول من الحيوان غير مفهوم

__________________

(١) توضيح للمعاني الذاتيّة ، وهي المعاني الواقعة في حدود الماهيّات.

(٢) راجع شرح المنظومة (قسم المنطق) : ٢٦ ، وشرح المطالع : ٨٢ ، وشرح الشمسيّة : ٣٦ ـ ٦١ ، والجوهر النضيد : ١٢ ـ ١٧ ، والبصائر النصيريّه : ١٣ ـ ١٤ ، وشرح الإشارات ١ : ٨٢.

١٣٣

الحيوان الناطق وغير مفهوم الناطق. فيكون المعنى المعقول على هذا الوجه مادّة بالنسبة إلى المعنى الزائد المقارن ، وعلّة مادّية بالنسبة إلى المجموع منه ومن المقارن. وجاز أن نعقله مقيسا إلى عدّة من الأنواع الّتي تشترك فيه ، كأن نعقل معنى الحيوان المذكور آنفا مثلا بأنّه الحيوان الّذي هو إمّا إنسان وإمّا فرس وإمّا غنم وإمّا غير ذلك من أنواع الحيوان ، فيكون المعنى المعقول على هذا النحو ماهيّة ناقصة غير محصّلة ، حتّى ينضمّ إليها الفصل المختصّ بأحد تلك الأنواع ، فيحصّلها ماهيّة تامّة ، فتكون ذلك النوع بعينه ، كأن ينضمّ فصل الإنسان مثلا ـ وهو الناطق ـ إلى الحيوان ، فيكون هو الحيوان الناطق بعينه ، وهو نوع الإنسان ، ويسمّى الذاتيّ المشترك فيه المأخوذ (١) بهذا الاعتبار (٢) : «جنسا» والّذي يحصّله : «فصلا».

والاعتباران المذكوران الجاريان في الجزء المشترك ـ أعني أخذه بشرط لا ، ولا بشرط ـ يجريان في الجزء المختصّ. فيكون بالاعتبار الأوّل صورة للجزء الآخر المقارن وعلّة صوريّة للمجموع ولا يحمل على شيء منهما (٣) ، وبالاعتبار الثاني فصلا يحصّل الجنس ويتمّم النوع ويحمل عليه حملا أوّليّا.

فقد تحصّل : أنّ الجزء الأعمّ في الماهيّات ـ وهو الجنس ـ متقوّم بالجزء الأخصّ الّذي هو الفصل بحسب التحليل العقليّ.

قال في الأسفار ـ في كيفيّة تقوّم الجنس بالفصل ـ : «هذا التقويم ليس بحسب الخارج ، لاتّحادهما في الوجود ، والمتّحدان في ظرف لا يمكن تقوّم أحدهما بالآخر وجودا ، بل بحسب تحليل العقل الماهيّة النوعيّة إلى جزئين عقليّين وحكمه بعلّيّة أحدهما للآخر ، ضرورة احتياج أجزاء ماهيّة واحدة بعضها إلى بعض. والمحتاج إليه والعلّة لا يكون إلّا الجزء الفصليّ ، لاستحالة أن يكون الجزء الجنسيّ علّة لوجود الجزء الفصليّ ، وإلّا لكانت الفصول المتقابلة لازمة له ،

__________________

(١) وصف للمشترك فيه.

(٢) أي : باعتبار أنّه ماهيّة ناقصة غير محصّلة ، مأخوذة لا بشرط.

(٣) أي : الجزء الآخر المقارن والمجموع.

١٣٤

فيكون الشيء الواحد مختلفا متقابلا ، هذا ممتنع. فبقي أن يكون الجزء الفصليّ علّة لوجود الجزء الجنسيّ ، ويكون مقسّما للطبيعة الجنسيّة المطلقة ، وعلّة للقدر الّذي هو حصّة النوع ، وجزءا للمجموع الحاصل منه وممّا يتميّز به عن غيره» (١) انتهى.

فإن قيل (٢) : إنّ الفصل إن كان علّة لمطلق الجنس لم يكن مقسّما له ، وإن كان علّة للحصّة الّتي في نوعه ـ وهو المختصّ به ـ فلا بدّ أن يفرض التخصّص أوّلا ، حتّى يكون الفصل علّة له ، لكنّه إذا تخصّص دخل في الوجود واستغنى بذلك عن العلّة.

قيل (٣) : إنّ الخصوصيّة الّتي بها يصير الجنس المبهم حصّة خاصّة بالنوع من شؤون تحصّله الوجوديّ الجائي إليه من ناحية علّته الّتي هي الفصل ، والعلّة متقدّمة بالوجود على معلولها ، فالتخصّص حاصل بالفصل ، وبه يقسّم الجنس الفاقد له في نفسه. ولا ضير في علّيّة فصول متعدّدة لماهيّة واحدة جنسيّة لضعف وحدتها (٤).

فإن قيل : التحصّل الّذي يدخل به الجنس في الوجود هو تحصّله بالوجود الفرديّ ، فما لم يتلبّس بالوجود الخارجيّ لم يتمّ ولم يكن له شيء من الشؤون الوجوديّة ، فما معنى عدّ الفصل علّة له؟

قيل (٥) : المراد بتحصّله بالفصل ثبوته التعقّليّ وكينونته ماهيّة تامّة نوعيّة. والّذي يكتسبه بالوجود الفرديّ هو تحقّق الماهيّة التامّة تحقّقا تترتّب عليه الآثار الخارجيّة. فالّذي يفيده الفصل هو تحصّل الماهيّة المبهمة الجنسيّة وصيرورتها ماهيّة نوعيّة تامّة ، والذيّ يفيده الوجود الفرديّ هو تحصّل الماهيّة التامّة

__________________

(١) راجع الأسفار ٢ : ٢٩ ـ ٣٠.

(٢) هذا الاعتراض تعرّض له في المباحث المشرقيّة ١ : ٦٨ ، والأسفار ٢ : ٣٠.

(٣) هكذا أجاب عنه الرازيّ في المباحث المشرقيّة ١ : ٦٨. وتعرّض له أيضا صدر المتألّهين في الأسفار ٢ : ٣٠. وأجاب عنه أيضا ملّا إسماعيل في حاشية شوارق الإلهام بما ذكر.

(٤) لأنّها وحدة بالعموم ، وهي لا تنافي الكثرة.

(٥) كما يستفاد ممّا ذكره قطب الدين الراونديّ في شرح المطالع : ٩٢ ، حيث قال : «ثمّ ليس مراده أنّ الفصل علّة لوجود الجنس ...».

١٣٥

وصيرورتها حقيقة خارجيّة تترتّب عليها الآثار.

فتبيّن بما مرّ :

أوّلا : أنّ الجنس هو النوع مبهما ، والفصل هو النوع محصّلا ، والنوع هو الماهيّة التامّة من غير نظر إلى إبهام أو تحصّل.

وثانيا : أنّ كلّا من الجنس والفصل محمول على النوع حملا أوّليّا ، وأمّا النسبة بين الجنس والفصل أنفسهما فالجنس عرض عامّ للفصل والفصل خاصّة للجنس والحمل بينهما حمل شائع.

وثالثا : أنّ من الممتنع تحقّق أكثر من جنس واحد في مرتبة واحدة في ماهيّة نوعيّة واحدة ، وكذا تحقّق أكثر من فصل واحد في مرتبة واحدة في ماهيّة نوعيّة واحدة ، لاستلزامه كون الواحد بعينه كثيرا ، وهو محال.

ورابعا : أنّ الجنس والمادّة متّحدان ذاتا ومختلفان اعتبارا ، فالمادّة إذا اخذت لا بشرط كانت «جنسا» والجنس إذا اخذ بشرط لا كان «مادّة». وكذلك الفصل والصورة متّحدان ذاتا ومختلفان اعتبارا ، فالفصل بشرط لا صورة ، كما أنّ الصورة لا بشرط ، فصل.

وهذا في الجواهر المادّيّة المركّبة ظاهر ، فإنّ المادّة والصورة موجودتان فيها خارجا ، فيؤخذ منها معنى المادّة والصورة ، ثمّ يؤخذان لا بشرط ، فيكونان جنسا وفصلا.

وأمّا الأعراض فهي بسائط خارجيّة غير مركّبة من مادّة وصورة ، فما به الاشتراك فيها عين ما به الامتياز. لكنّ العقل يجد فيها مشتركات ومختصّات ، فيعتبرها أجناسا وفصولا لها ، ثمّ يعتبرها بشرط لا ، فتعود موادّ وصورا عقليّة لها. والأمر في الجواهر المجرّدة أيضا على هذه الوتيرة (١).

__________________

(١) بل الأمر في كلّ ذي ماهيّة غير الجسم على هذه الوتيرة.

١٣٦

الفصل السادس

في بعض ما يرجع إلى الفصل

يستعمل لفظ «الفصل» في كلماتهم في معنيين (١) :

أحدهما : أخصّ اللوازم الّتي تعرض النوع وأعرفها ، وهو إنّما يعدّ فصلا ويوضع في الحدود موضع الفصول الحقيقيّة لصعوبة الحصول على الفصول الحقيقيّة الّتي تقوّم الأنواع ، أو لعدم وجود اسم دالّ عليها بالمطابقة في اللغة ، كالناطق

__________________

(١) التحقيق أنّ لفظ «الفصل» يستعمل في كلماتهم في امور ثلاثة :

الأوّل : يطلق لفظ «الفصل» ويراد مفهوم الفصل ، وهو : الكلّيّ المقول في جواب أيّ شيء هو في ذاته؟. ويسمّى : «فصلا منطقيّا» كما يسمّى أيضا : «فصلا مشهوريّا».

الثاني : يطلق لفظ «الفصل» ويراد به أخصّ اللوازم الّتي تعرض النوع ويوضع في حدّ الشيء موضع الفصول الحقيقيّة ، كالناطق الّذي يؤخذ في حدّ الانسان ، ويقال : «الإنسان حيوان ناطق» ، فإنّ الناطق ليس فصلا حقيقيّا للإنسان ، لما ذكر في المتن. وهذا يسمّى أيضا : «فصلا منطقيّا» ولكنّ هذا اصطلاح آخر غير الفصل المنطقيّ الّذي يسمّى أيضا فصلا مشهوريّا ؛ كما قال الحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة : ١٠٠ : «هذا الاصطلاح في الفصل المنطقيّ غير ما هو المشهور في المنطق».

والوجه في تسميته بالفصل المنطقيّ أنّ هذا اللازم ـ كالناطق ـ يعرضه الفصل المنطقيّ المشهوريّ ، فيقال : «الناطق فصل» أي مفهوم كلّيّ مقول في جواب أيّ شيء هو في ذاته؟ فيسمّى المعروض باسم عارضه.

الثالث : يطلق لفظ «الفصل» ويراد به ما يقوّم النوع ويحصّل الجنس حقيقة ، وهو مبدأ الفصل المنطقيّ بالمعنى الثاني ، ككون الإنسان ذا نفس ناطقة فصلا للنوع الإنسانيّ ، وكون الفرس ذا نفس صاهلة فصلا للفرس. وهذا يسمّى : «فصلا اشتقاقيّا» أو «فصلا حقيقيّا».

١٣٧

المأخوذ فصلا للإنسان ، فإنّ المراد بالنطق إمّا التكلّم وهو بوجه من الكيفيّات المسموعة (١) ، وإمّا إدراك الكلّيّات وهو عندهم من الكيفيّات النفسانيّة ، والكيفيّة كيفما كانت من الأعراض ، والأعراض لا تقوّم الجواهر. ويسمّى : «فصلا منطقيّا» (٢).

والثاني : ما يقوّم النوع ويحصّل الجنس حقيقة ، وهو مبدأ الفصل المنطقيّ ، ككون الإنسان ذا نفس ناطقة فصلا للنوع الإنسانيّ ، ويسمّى : «فصلا اشتقاقيّا» (٣).

ثمّ إنّ الفصل الأخير (٤) تمام حقيقة النوع ، لأنّه محصّل الجنس الّذي يحصّله ويتمّمه نوعا ، فما اخذ في أجناسه وفصوله الاخر على وجه الإبهام مأخوذ فيه على وجه التحصيل (٥).

ويتفرّع عليه : أنّ نوعيّة النوع محفوظة بالفصل ولو تبدّلت بعض أجناسه ، ولذا لو تجرّدت صورته (الّتي هي الفصل بشرط لا) عن المادّة (الّتي هي الجنس بشرط لا) في المركّبات المادّيّة ـ كالإنسان تتجرّد نفسه فتفارق البدن ـ كانت حقيقة النوع محفوظة بالصورة.

__________________

(١) أي : هو من الكيفيّات المسموعة ، بناء على كون الصوت كيفيّة تحدث في الهواء بسبب تموّجه الحاصل من القرع أو القلع ، كما هو المشهور. وأمّا لو كان الصوت كيفيّة حاصلة للسمع عند تأثّر الصماخ والأعصاب والمخّ بالارتعاشات الخاصّة فيكون التكلّم من الكيفيّات النفسانيّة.

(٢) وهو غير الفصل المنطقيّ المشهوريّ ، كما مرّ.

(٣) قال الشيخ محمّد تقي الآمليّ في درر الفوائد ١ : ٣٨١ : «وإنّما سمّي بالاشتقاقيّ لأنّه مبدأ الفصل المنطقيّ ، لأنّه ملزوم له ، والملزوم مبدأ أخذ لازمه».

وقال الحكيم السبزواريّ في تعليقة الأسفار ٨ : ٣٤٤ : «وهو الفصل الحقيقيّ الّذي هو مبدأ الفصل المنطقيّ ، فالاشتقاقيّ منسوب إلى المشتقّ منه أي المأخوذ منه ، والمشتقّ هو المنطقيّ».

(٤) أي : الفصل القريب ، كالناطق للإنسان ، قبال الفصل البعيد والمتوسّط من فصول أجناسه البعيدة والمتوسّطة ، مثل النامي والمتحرّك بالإرادة والحسّاس.

(٥) قال الحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة (قسم الحكمة) : ١٠١ : «فالنفس الناطقة الّتي هي الفصل الأخير في الإنسان لمّا كانت بسيطة الحقيقة ـ والبسيط جامع لجميع الكمالات الّتي وجدت فيما تحته ـ كانت الناطقة مشتملة على وجودات الجوهر والجسم والمعدن والنامي والحسّاس والمتحرّك بالإرادة بنحو البساطة والوحدة».

١٣٨

ثمّ إنّ الفصل غير مندرج تحت جنسه الّذي يحصّله (١) ـ بمعنى أنّ الجنس غير مأخوذ في حدّه أخذ الجنس في النوع (٢) ففصول الجواهر ليست بجواهر ، وذلك لأنّه لو اندرج تحت جنسه افتقر إلى فصل يقوّمه ، وننقل الكلام إلى فصله ، ويتسلسل بترتّب فصول غير متناهية ، وتحقّق أنواع غير متناهية في كلّ فصل ، ويتكرّر (٣) الجنس بعدد الفصول ، وصريح العقل يدفعه (٤).

على أنّ النسبة بين الجنس والفصل تنقلب إلى العينيّه ، ويكون الحمل بينهما حملا أوّليّا ، ويبطل كون الجنس عرضا عامّا للفصل ، والفصل خاصّة للجنس.

ولا ينافي ذلك وقوع الحمل بين الجنس وفصله المقسّم كقولنا : «كلّ ناطق حيوان» و «بعض الحيوان ناطق» لأنّه حمل شائع بين الخاصّة والعرض العامّ كما تقدّمت الإشارة إليه (٥) ، والّذي نفيناه هو الحمل الأوّليّ. فالجوهر مثلا صادق على فصوله المقسّمة له من غير أن تندرج تحته ، فيكون جزءا من ماهيّتها.

فإن قلت : ما تقدّم من عدم دخول فصل النوع تحت جنسه ينافي قولهم ـ في تقسيم الجوهر إلى العقل والنفس والهيولى والصورة الجسميّة والجسم ـ بكون الصورة الجسميّة والنفس نوعين من الجوهر ، ولازم كون الشيء نوعا من مقولة

__________________

(١) كما في الأسفار ٢ : ٣٩ ـ ٤٠ ، و ٤ : ٢٥٣ ـ ٢٦٣.

(٢) فلا يكون حدّ الناطق ـ مثلا ـ حيوانا له النطق أو الحيوان الناطق ؛ وليس حدّ النامي جسما له النموّ حتّى تكون الفصول حقائق مركّبة ، بل هي حقائق بسيطة بخلاف الأنواع ، فإنّها تندرج تحت أجناسها ، أي تؤخذ أجناسها في حدّها ، فيقال مثلا : «الإنسان حيوان ناطق بالحمل الأوّليّ».

(٣) والأولى أن يقال : «ويتكرّر الجنس بعدد الفصول» ، أي يلزم التسلسل بأحد الأمور الثلاثة : ١ ـ الفصول غير متناهية. ٢ ـ الأنواع غير متناهية. ٣ ـ الأجناس غير متناهية. وصريح العقل يدفع التسلسل ، حيث يجد أنّه يعقل النوع الواحد ، ولو كان النوع الواحد أنواعا غير متناهية لها فصول وأجناس غير متناهية لم يمكن له تعقّله.

(٤) وقد ناقش فيه الشيخ الإشراقيّ والفخر الرازيّ بوجوه عديدة ، فراجع حكمة الإشراق : ٨٦ ـ ٨٧ ، والمطارحات : ٢٢٨ و ٢٣٣ و ٢٩٠ ، والمباحث المشرقيّة ١ : ٦٦. وأجاب عنها صدر المتألّهين في الأسفار ٤ : ٢٥٣ ـ ٢٦٣.

(٥) في الفصل السابق.

١٣٩

اندراجه ودخوله تحتها ، ومن المعلوم أنّ الصورة الجسميّة هي فصل الجسم مأخوذا بشرط لا ، ففي كونها نوعا من الجوهر دخول الفصل الجوهريّ تحت جنس الجوهر وأخذ الجوهر في حدّه. ونظير البيان جار في عدّهم النفس نوعا من الجوهر ، على أنّهم بيّنوا بالبرهان أنّ النفس الإنسانيّة جوهر مجرّد باق بعد مفارقة البدن ، والنفس الناطقة صورة الإنسان ، وهي بعينها مأخوذة لا بشرط فصل للماهيّة الإنسانيّة.

قلت (١) : يختلف حكم المفاهيم باختلاف الاعتبار العقليّ الّذي يطرؤها ، وقد

__________________

(١) حاصل الجواب : أنّه وإن كان مفهوم الفصل متّحدا بوجه مع مفهوم الصورة فإنّ مفهومه مفهوم الصورة لا بشرط ، كما أنّ مفهومها مفهوم الفصل بشرط لا ، إلّا أنّ المفاهيم تختلف أحكامها باختلاف الاعتبارات.

أمّا مفهوم الفصل بما هو فصل فهو مفهوم ناعتيّ موجود لغيره ، فإنّ مفهومه كمفهوم الأسود الّذي يطرد عدمه بوجود السواد ، وليس وجوده إلّا كمال الجسم ، فهو موجود للجسم ؛ فالفصل أيضا ـ بما هو فصل ـ ناعت وموجود للجنس ، ليس وجوده إلّا كمال الجنس.

وقد عرفت في الفصل الأوّل من المرحلة الثانية أن لا ماهيّة للموجود الناعتيّ ، فلا ماهيّة للفصل حتّى يكون جوهرا ويؤخذ الجوهر في حدّه.

وإنّما يحمل عليه الجوهر بالحمل الشائع حمل العرضيّ العامّ اللازم على معروضه الملزوم ، فيقال : «الناطق جوهر» ومعناه : أنّ مصداقهما واحد ، كما يقال : «الأسود جسم» ومعناه : أنّ مصداقهما واحد.

وأمّا الفصل بشرط لا ـ وهو الصورة ـ فلا يحمل على المادّة ـ وهي الجنس بشرط لا ـ حملا أوّليّا ، حيث كان بهذا الاعتبار جزءا ، والجزء لا يحمل على الكلّ ولا على الجزء الآخر بالحمل الأوّليّ.

نعم ، باعتبار كونها متّحدة مع المادّة وجودا يصحّ حمل الجوهر ـ المنتزع عن المادّة ـ عليه حملا شائعا. وكذلك باعتبار كونها تمام ماهيّة النوع ـ حيث كانت شيئيّة الشيء بصورته ـ يحمل عليها الجوهر بما أنّه من المفاهيم الذاتيّة للنوع ، فكانت جوهرا ولكن بالحمل الشائع.

وأمّا النفس باعتبار أنّها فصل فوجودها وجود ناعتيّ ، ولا ماهيّة لها ، فلا تكون جوهرا.

وأمّا باعتبار ذاتها المجرّدة لمّا كانت تمام ماهيّة النوع فيحمل عليها الجوهر بما أنّها من المفاهيم الذاتيّة للنوع ، ولكن بالحمل الشائع.

١٤٠