نهاية الحكمة - ج ١

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

نهاية الحكمة - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


المحقق: الشيخ عبّاس علي الزارعي السبزواري
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٤
ISBN: 978-964-470-623-3
ISBN الدورة:
978-964-470-005-7

الصفحات: ٢٨٣

ونقل (١) عن بعض القدماء (٢) أنّهم اعتبروا أولويّة الوجود في بعض الموجودات ، وأثرها أكثريّة الوجود أو شدّته وقوّته أو كونه أقلّ شرطا للوقوع ، واعتبروا أولويّة العدم في بعض آخر ، وأثرها أقلّيّة الوجود أو ضعفه أو كونه أكثر شرطا للوقوع.

ونقل (٣) عن بعضهم اعتبارها في طرف العدم بالنسبة إلى طائفة من الموجودات فقط (٤).

ونقل (٥) عن بعضهم اعتبار أولويّة العدم بالنسبة إلى جميع الموجودات الممكنة ، لكون العدم أسهل وقوعا (٦).

هذه أقوالهم على اختلافها (٧). وقد بان بما تقدّم فساد القول بالأولويّة

__________________

ـ وأمّا القائل بالأولويّة الذاتيّة الغير الكافية فهو بعض المتكلّمين ، راجع تعليقة السبزواريّ على شرح المنظومة : ٧٥.

وأمّا القائل بالأولويّة الغيريّة فهو أكثر المتكلّمين على ما في الأسفار ١ : ٢٢٢ ، ومنهم المحقّق الشريف ، فإنّه قال : «قد يمنع الاحتياج إلى مرجّح ، لم لا يكتفي في وقوع الطرف الراجح رجحانه الحاصل من تلك العلّة الخارجيّة؟ وليس هذا بممتنع بديهة ، إنّما الممتنع بديهة وقوع أحد المتساويين أو المرجوح» انتهى كلامه على ما نقل عنه في شوارق الإلهام : ٩٣ ، وتعليقة الهيدجيّ على المنظومة وشرحها : ٢٢١ ، وتعليقة السبزواريّ على الأسفار ١ : ٢٢٢.

(١) والناقل صدر المتألّهين في الأسفار ١ : ٢٠٣ ـ ٢٠٤.

(٢) قال صدر المتألّهين ـ بعد التعرّض لهذا القول والأقوال الآتية ـ ما لفظه : «والمتقوّلون بهذه الأقاويل كانوا من المنتسبين إلى الفلسفة فيما قدّم من الزمان قبل تصحيح الحكمة وإكمالها» انتهى كلامه ، فراجع الأسفار ١ : ٢٠٤.

(٣) والناقل صاحب المواقف وشارحه ، فراجع شرح المواقف : ١٤١. ونقله أيضا صدر المتألّهين في الأسفار ١ : ٢٠٤.

(٤) أي : الموجودات الممكنة السيّالة كالحركة والزمان والصوت. كذا في شرح المواقف : ١٤١ ، وشرح المقاصد ١ : ١٢٧.

(٥) والناقل صاحب المواقف وشارحه ، فراجع شرح المواقف : ١٤١. ونقله أيضا صدر المتألّهين في الأسفار ١ : ٢٠٤.

(٦) قال شارح المواقف : «وهو مردود بأنّ سهولة عدمها بالنظر إلى غيرها لا يقتضي أولويّته لذاتها» انتهى كلامه في شرح المواقف : ١٤١.

(٧) وفي المقام أقوال اخر ذكرها شارح المواقف : ١٤١.

١٠١

من أصله (١) ، فإنّ حصول الأولويّة في أحد جانبي الوجود والعدم لا ينقطع به جواز وقوع الطرف الآخر. والسؤال في تعيّن الطرف الأولى مع جواز الطرف الآخر على حاله وإن ذهبت الأولويّات إلى غير النهاية حتّى ينتهي إلى ما يتعيّن به الطرف الأولى وينقطع به جواز الطرف الآخر وهو الوجوب.

على أنّ في القول بالأولويّة إبطالا لضرورة توقّف الماهيّات الممكنة في وجودها وعدمها على علّة ، إذ يجوز عليه أن يقع الجانب المرجوح مع حصول الأولويّة للجانب الآخر وحضور علّته التامّة. وقد تقدّم أنّ الجانب المرجوح الواقع يستحيل تحقّق علّته حينئذ ، فهو في وقوعه لا يتوقّف على علّة ، هذا خلف.

ولهم في ردّ هذه الأقوال وجوه اخر أوضحوا بها فسادها (٢) ، أغمضنا عن إيرادها بعد ظهور الحال بما تقدّم.

وأمّا حديث استلزام الوجوب الغيريّ ـ أعني وجوب المعلول بالعلّة ـ لكون العلّة موجبة ـ بفتح الجيم ـ فواضح الفساد كما تقدّم ، لأنّ هذا الوجوب انتزاع عقليّ عن وجود المعلول غير زائد على وجوده ، والمعلول بتمام حقيقته أمر متفرّع على علّته ، قائم الذات بها ، متأخّر عنها ، وما شأنه هذا لا يعقل أن يؤثّر في العلّة ويفعل فيها.

ومن فروع هذه المسألة أنّ القضايا الّتي جهتها الأولويّة ليست ببرهانيّة ، إذ لا جهة إلّا الضرورة (٣) والإمكان ، اللهمّ إلّا أن يرجع المعنى إلى نوع من التشكيك (٤).

__________________

(١) وفي النسخ : «من أصلها» والصحيح ما أثبتناه.

(٢) راجع شرح المقاصد ١ : ١٢٧ ـ ١٢٩ ، والمسألتين الثالثة والعشرين والرابعة والعشرين من الفصل الأوّل من شوارق الإلهام ، والمباحث المشرقيّة ١ : ١٣٢ ، والأسفار ١ : ٢٢١ ـ ٢٢٣ ، والمحصّل : ٥٣.

(٣) أعمّ من ضرورة الوجود وهو الوجوب ، أو ضرورة العدم وهو الامتناع.

(٤) أي : إلّا أن يرجع معنى الضرورة إلى نوع من التشكيك ، بأن يقال : إنّ الضرورة تأكّد الوجود ، والتأكّد أمر تشكيكيّ ، فمرتبة منه الأولويّة ، ومرتبة اخرى منه الضرورة ، فحينئذ كانت القضايا الّتي اتّصفت بالأولويّة بهذا المعنى برهانيّة ، إذ كانت ضروريّة.

١٠٢

تنبيه :

ما مرّ من وجوب الوجود للماهيّة وجوب بالغير سابق على وجودها (١) منتزع عنه (٢). وهناك وجوب آخر لا حق يلحق الماهيّة الموجودة ، ويسمّى : «الضرورة بشرط المحمول». وذلك أنّه لو أمكن للماهيّة المتلبّسة بالوجود ما دامت متلبّسة أن يطرأها العدم الّذي يقابله ويطرده لكان في ذلك إمكان اقتران النقيضين ، وهو محال ، ولازمه استحالة انفكاك الوجود عنها ما دام التلبّس ومن حيثه ، وذلك وجوب الوجود من هذه الحيثيّة. ونظير البيان يجري في الامتناع اللاحق للماهيّة المعدومة. فالماهيّة الموجودة محفوفة بوجوبين ، والماهيّة المعدومة محفوفة بامتناعين.

وليعلم أنّ هذا الوجوب اللاحق وجوب بالغير ، كما أنّ الوجوب السابق كان بالغير ، وذلك لمكان انتزاعه من وجود الماهيّة من حيث اتّصاف الماهيّة به ، كما أنّ الوجوب السابق منتزع منه من حيث انتسابه إلى العلّه الفيّاضة له.

__________________

(١) وقد يقال : ما معنى سبق الوجوب على الوجود ولحوق الوجود له ، وحيثيّة الوجود كاشفة عن حيثيّة الوجوب ، بل عينها ، لأنّ حيثيّة الوجود حيثية الإباء عن العدم؟

وأجاب عنه الحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة : ٧٦ بما حاصله : إنّ هذا السبق واللحوق إنّما هو بحسب الترتيب الحاصل بينها في وعاء التحليل العقليّ ، أي إذا لاحظ العقل مفهوم العلّة والوجوب والوجود حكم بسبق العلّة على الإيجاب والوجوب وتقدّم الوجوب على الإيجاد والوجود ، فقولهم : «الشيء ما لم يجب لم يوجد» معناه : ما لم يسند جميع أنحاء عدمه لم يحكم العقل بوجوده ، والسبق بهذا المعنى لا ينافي السبق العينيّ للوجود عليه.

(٢) أي : عن وجود الماهيّة.

ولكن التحقيق : أنّه لا يمكن انتزاع الوجوب السابق على الوجود من الوجود المتأخّر عنه ، بل هو منتزع عن وجود العلّة ، كما يستفاد ذلك من كلام الحكيم السبزواريّ في تعليقته على شرح المنظومة : ٧٦ ؛ وحاصله : أنّ الوجوب السابق هو الخصوصيّة المعتبرة في العلّة ووصف لها بالذات ؛ فإنّ الإيجاب صفة العلّة ، والوجوب السابق للمعلول هو الخصوصيّة الّتي هي عين ذات العلّة ، وهي الّتي تأبى إلّا عن ترتّب وجود المعلول عليها ، وحينئذ فينتزع الوجوب السابق من وجود العلّة.

١٠٣

الفصل السادس

في حاجة الممكن إلى العلّة

وأنّ علّة حاجته إلى العلّة هو الإمكان دون الحدوث (١)

حاجة الممكن ـ أي توقّفه في تلبّسه بالوجود أو العدم ـ إلى أمر وراء ماهيّته من الضروريّات الأوّليّة (٢) الّتي لا يتوقّف التصديق بها على أزيد من تصوّر موضوعها ومحمولها (٣) ، فإنّا إذا تصوّرنا الماهيّة ـ بما أنّها ممكنة تستوي نسبتها إلى الوجود والعدم وتوقّف ترجّح أحد الجانبين لها وتلبّسها به على أمر وراء الماهيّة ـ لم نلبث دون أن نصدّق به ، فاتّصاف الممكن بأحد الوصفين ـ أعني الوجود والعدم ـ متوقّف على أمر وراء نفسه ، ونسمّيه : «العلّة» لا يرتاب فيه عقل سليم. وأمّا تجويز اتّصافه ـ وهو ممكن مستوي النسبة إلى الطرفين ـ بأحدهما لا لنفسه ولا لأمر وراء نفسه فخروج عن الفطرة الإنسانيّة.

وهل علّة حاجته إلى العلّة هي الإمكان أو الحدوث (٤)؟

__________________

(١) أي : الحدوث الزمانيّ الّذي يعتقد الخصم أنّه علّة للحاجة.

(٢) وهي الضروريّات الّتي لا يتوقّف التصديق بها على دليل أو شيء آخر غير الدليل ممّا تتوقّف عليه أقسامها الاخر ، كالمشاهدة في المشاهدات ، والتجربة في التجربيّات ، والحدس في الحدسيّات ، والسماع في المتواترات ، والفطرة في الفطريّات.

(٣) هكذا في المطالب العالية ١ : ٨٣ ـ ٨٤ ، والأسفار ١ : ٢٠٧ ، وشرح المواقف : ١٣٤ ، وشرح المنظومة : ٧٠.

(٤) أو الإمكان مع الحدوث ، أو لا هذا ولا ذاك؟ فإنّ الأقوال في علّة حاجة الممكن ـ

١٠٤

قال جمع من المتكلّمين (١) بالثاني.

والحقّ هو الأوّل ، وبه قالت الحكماء ، واستدلّوا عليه بأنّ الماهيّة باعتبار وجودها ضروريّة الوجود وباعتبار عدمها ضروريّة العدم ؛ وهاتان ضرورتان بشرط المحمول ، والضرورة مناط الغنى عن العلّة والسبب ، والحدوث هو كون وجود الشيء بعد عدمه ، وإن شئت فقل : هو ترتّب إحدى الضرورتين (٢) على الاخرى (٣) ، والضرورة ـ كما عرفت ـ مناط الغنى عن السبب ، فما لم تعتبر الماهيّة بإمكانها لم يرتفع الغنى ولم تتحقّق الحاجة ، ولا تتحقّق الحاجة إلّا بعلّتها ، وليس لها إلّا الإمكان.

حجّة اخرى : الحدوث ـ وهو كون الوجود مسبوقا بالعدم ـ صفة الوجود الخاصّ ، فهو مسبوق بوجود المعلول ، لتقدّم الموصوف على الصفة ، والوجود مسبوق بإيجاد العلّة ، والإيجاد مسبوق بوجوب المعلول ، ووجوبه مسبوق

__________________

ـ إلى العلّة خمسة :

الأوّل : أنّ علّة الحاجة هي الحدوث وحده. وهذا منسوب إلى المتكلّمين.

الثاني : أنّ علّة الحاجة هي الإمكان وحده. وهذا مذهب الحكماء.

الثالث : أنّها هي المركّب منهما ، فعلّة الحاجة هي الإمكان مع الحدوث شطرا. وهذا منسوب إلى أبي الحسين البصريّ ، كما في قواعد المرام : ٤٨ ، وإرشاد الطالبين : ٧٩.

الرابع : أنّ علّة الحاجة هي الإمكان بشرط الحدوث. وهذا منسوب إلى أبي الحسن الأشعريّ ، كما في قواعد المرام : ٤٨.

الخامس : أنّ منشأ الحاجة إلى العلّة كون وجوب الشيء تعلّقيّا متقوّما بغيره ، لا الإمكان ولا الحدوث. وهذا مذهب صدر المتألّهين في الأسفار ٣ : ٢٥٣.

(١) نسبه إليهم في شرح المقاصد ١ : ١٢٧ ، وكشف الفوائد : ٨. ونسبه الشيخ الرئيس إلى ضعفاء المتكلّمين ، في النجاة : ٢١٣. ونسبه اللاهيجيّ إلى قدماء المتكلّمين ، في الشوارق : ٨٩ ـ ٩٠ ، وكذا العلّامة في أنوار الملكوت : ٥٨. ونسبه صدر المتألّهين إلى قوم من المتّسمين بأهل النظر وأولياء التميّز ، في الأسفار ١ : ٢٠٦. ونسبه ابن ميثم إلى أبي هاشم من المتكلّمين ، في قواعد المرام في علم الكلام : ٤٨. فالمراد من قوله : «جمع من المتكلّمين» هو قدماء المتكلّمين ، وأمّا المتأخّرون منهم فذهبوا إلى خلاف ذلك.

(٢) وهي ضرورة الوجود.

(٣) أي : على ضرورة العدم.

١٠٥

بإيجاب العلّة ـ على ما تقدّم (١) ـ وإيجاب العلّة مسبوق بحاجة المعلول ، وحاجة المعلول مسبوقة بإمكانه (٢) ، إذ لو لم يكن ممكنا لكان إمّا واجبا وإمّا ممتنعا ، والوجوب والامتناع مناط الغنى عن العلّة ، فلو كان الحدوث علّة للحاجة والعلّة متقدّمة على معلولها بالضرورة لكان متقدّما على نفسه بمراتب ، وهو محال (٣). فالعلّة هي الإمكان ، إذ لا يسبقها ممّا يصلح للعلّيّة غيره ، والحاجة تدور معه وجودا وعدما.

والحجّة تنفي كون الحدوث ممّا يتوقّف عليه الحاجة بجميع احتمالاته من كون الحدوث علّة وحده ، وكون العلّة هي الإمكان والحدوث جميعا ، وكون الحدوث علّة والإمكان شرطا ، وكون الإمكان علّة والحدوث شرطا ، أو عدم الحدوث مانعا.

وقد استدلّوا على نفي علّيّة الإمكان وحده للحاجة بأنّه لو كانت علّة الحاجة (٤) إلى العلّة هي الإمكان من دون الحدوث جاز أن يوجد القديم الزمانيّ ، وهو الّذي لا يسبقه عدم زمانيّ ، وهو محال ، فإنّه لدوام وجوده لا سبيل للعدم إليه حتّى يحتاج في رفعه إلى علّة تفيض عليه الوجود ، فدوام الوجود يغنيه عن العلّة.

ويدفعه : أنّ موضوع الحاجة هو الماهيّة بما أنّها ممكنة ، دون الماهيّة بما أنّها موجودة ، والماهيّة بوصف الإمكان محفوظة مع الوجود الدّائم ، كما أنّها محفوظة

__________________

(١) في الفصل الخامس من هذه المرحلة.

(٢) قال الحكيم السبزواريّ في بيان السبق والترتيب بينها : «فما لم يعتبر نفس شيئيّة الماهيّة ولم يتقرّر ولم يلاحظ خلوّها بحسب ذاتها عن الوجود والعدم لم يأت الإمكان. وإذا اعتبر الإمكان وأنّ المتساويين ما لم يترجّح أحدهما بمنفصل لم يقع ولوحظ تشبّثها بأحدهما حكم بالحاجة إلى العلّة. وبعد الحاجة إليها وملاحظة كيفيّة التأثير وأنّه بنحو السدّ المسطور حكم بالإيجاب ثمّ بالوجوب ، كترتّب الانكسار على الكسر ، ثمّ بالإيجاد والوجود».

راجع هامش شرح المنظومة (قسم الحكمة) : ٧٦.

(٣) والوجه في استحالته هو الدور ، كما في كشف الفوائد : ٨.

(٤) وفي بعض النسخ : «لو كان علّة الحاجة».

١٠٦

مع غيره ، فالماهيّة القديمة الوجود تحتاج إلى العلّة بما هي ممكنة ، كالماهيّة الحادثة الوجود ، والوجود الدائم مفاض عليها كالوجود الحادث. وأمّا الماهيّة الموجودة بما أنّها موجودة فلها الضرورة بشرط المحمول ، والضرورة مناط الغنى عن العلّة ، بمعنى أنّ الموجودة (١) بما أنّها موجودة لا تحتاج إلى موجوديّة اخرى تطرأ عليها (٢). على أنّ مرادهم من الحدوث ـ الّذي اشترطوه في الحاجة ـ الحدوث الزمانيّ ، الّذي هو كون الوجود مسبوقا بعدم زمانيّ. فما ذكروه منتقض بنفس الزمان ، إذ لا معنى لكون الزمان مسبوقا بعدم زمانيّ (٣). مضافا إلى أنّ إثبات الزمان قبل كلّ ماهيّة إمكانيّة إثبات للحركة الراسمة للزمان ، وفيه إثبات متحرّك تقوم به الحركة ، وفيه إثبات الجسم المتحرّك والمادّة والصورة. فكلّما فرض وجود لماهيّة ممكنة كانت قبله قطعة زمان ، وكلّما فرضت قطعة زمان كانت عندها ماهيّة ممكنة ، فالزمان لا يسبقه عدم زمانيّ.

وأجاب بعضهم (٤) عن النقض بأنّ الزمان أمر اعتباريّ وهميّ لا بأس بنسبة القدم إليه ، إذ لا حقيقة له وراء الوهم.

وفيه : أنّه هدم لما بنوه من إسناد حاجة الممكن إلى حدوثه الزمانيّ ، إذ الحادث والقديم عليه واحد.

وأجاب آخرون (٥) بأنّ الزمان منتزع عن وجود الواجب تعالى ، فهو من صقع

__________________

(١) أي : الماهيّة الموجودة.

(٢) وفي النسخ : «بمعنى أنّ الموجود بما أنّها موجودة لا يحتاج إلى موجوديّة اخرى تطرأ عليه». والصحيح ما أثبتناه.

(٣) وإلّا يستلزم وجود الزمان حال عدمه ، وهو اجتماع النقيضين.

(٤) ولعلّ مراده من «بعضهم» هو بعض من المتكلّمين القائلين بالزمان المتوهّم الّذي لا فرد يحاذيه ولا منشأ لانتزاعه. وتعرّض لهذا القول الحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة وتعليقته عليه : ٨٢ ، وفي تعليقته على الأسفار ٣ : ١٤٢.

(٥) ولعلّ مراده هو المتكلّمون القائلون بالزمان الموهوم الّذي لا فرد يحاذيه وإن كان منشئا لانتزاعه ويكون منشأ انتزاعه هو بقاء الواجب بالذات. وتعرّض لهذا القول أيضا ـ

١٠٧

المبدأ تعالى ، لا بأس بقدمه.

وردّ (١) بأنّ الزمان متغيّر بالذات وانتزاعه من ذات الواجب بالذات مستلزم لتطرّق التغيّر على ذاته تعالى وتقدّس.

ودفع (٢) ذلك بأنّ من الجائز أن لا يطابق المعنى المنتزع المصداق المنتزع منه من كلّ جهة فيباينه.

وفيه : أنّ تجويز مباينة المفهوم المنتزع للمنتزع منه سفسطة ، إذ لو جازت مباينة المفهوم (٣) للمصداق لانهدم بنيان التصديق العلميّ من أصله.

تنبيه :

قد تقدّم في مباحث العدم أنّ العدم بطلان محض ، لا شيئيّة له ، ولا تمايز فيه (٤) ، غير أنّ العقل ربّما يضيفه إلى الوجود ، فيحصل له ثبوت مّا ذهنيّ وحظّ مّا من الوجود ، فيتميّز بذلك عدم من عدم ، كعدم البصر المتميّز من عدم السمع ، وعدم الإنسان المتميّز من عدم الفرس ، فيرتّب العقل عليه ما يراه من الأحكام الضروريّة ، ومرجعها بالحقيقة تثبيت ما يحاذيها من أحكام الوجود.

ومن هذا القبيل حكم العقل بحاجة الماهيّة الممكنة في تلبّسها بالعدم إلى علّة هي عدم علّة الوجود. فالعقل إذا تصوّر الماهيّة من حيث هي ـ الخالية من التحصّل واللاتحصّل ـ ثمّ قاس إليها الوجود والعدم وجد بالضرورة أنّ تحصّلها بالوجود

__________________

ـ الحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة وتعليقته عليه : ٨٢ ، وفي تعليقته على الأسفار ٣ : ١٤٢.

ونسبه إلى الأشاعرة في حاشية شرح المنظومة : ١٤٨. وكذا تعرّض له المصنّف رحمه‌الله في تعليقته على الأسفار ٧ : ٢٩٨.

(١) هكذا يستفاد ممّا ذكره الحكيم السبزواريّ في الردّ على القائلين بالزمان الموهوم.

راجع تعليقته على شرح المنظومة : ٨٢ ، وتعليقته على الأسفار ٣ : ١٤٢. وتعرّض له أيضا المصنّف رحمه‌الله في تعليقته على الأسفار ٧ : ٢٩٨.

(٢) هكذا دفعه المتكلّمون القائلون بالزمان الموهوم ، على ما في تعليقة المصنّف رحمه‌الله على الأسفار ٧ : ٢٩٨.

(٣) وفي النسخ : «جاز» والصحيح ما أثبتناه.

(٤) راجع الفصل الرابع من المرحلة الاولى.

١٠٨

متوقّف على علّة موجودة ، ويستتبعه أنّ علّة وجودها لو لم توجد لم توجد الماهيّة المعلولة ، فيتمّ الحكم بأنّ الماهيّة الممكنة لإمكانها تحتاج في اتّصافها بشيء من الوجود والعدم إلى مرجّح يرجّح ذلك ، ومرجّح الوجود وجود العلّة ، ومرجّح العدم عدمها ، أي لو انتفت العلّة الموجدة لم توجد الماهيّة المعلولة ، وحقيقته أنّ وجود الماهيّة الممكنة متوقّف على وجود علّتها.

١٠٩

الفصل السابع

الممكن محتاج إلى العلّة بقاء

كما أنّه محتاج إليها حدوثا (١)

وذلك لأنّ علّة حاجته إلى العلّة هي إمكانه اللازم لماهيّته ـ كما تقدّم بيانه (٢) ـ والماهيّة محفوظة معه بقاء ، كما أنّها محفوظة معه حدوثا ، فله حاجة إلى العلّة الفيّاضة لوجوده حدوثا وبقاء ، وهو المطلوب.

حجّة اخرى : الهويّة العينيّة لكلّ شيء هي وجوده الخاصّ به ، والماهيّة اعتباريّة منتزعة منه ـ كما تقدّم بيانه (٣) ـ ووجود الممكن المعلول وجود رابط متعلّق الذات بعلّته ، متقوّم بها ، لا استقلال له دونها ، لا ينسلخ عن هذا الشأن ـ كما سيجيء بيانه إن شاء الله (٤) ـ فحاله في الحاجة إلى العلّة حدوثا وبقاءا واحد ، والحاجة ملازمة له.

والفرق بين الحجّتين أنّ الاولى تثبت المطلوب من طريق الإمكان الماهويّ ـ بمعنى استواء نسبة الماهيّة إلى الوجود والعدم ـ والثانية من طريق الإمكان الوجوديّ ـ بمعنى الفقر الوجوديّ المتقوّم بغنى العلّة ـ.

__________________

(١) بخلاف جمهور المتكلّمين حيث ذهبوا إلى أنّ الفعل يستغني عن الفاعل في بقائه. هكذا في شرحي الإشارات ١ : ٢١٥ ، وشرح الإشارات للمحقّق الطوسيّ ٣ : ٦٨ ـ ٦٩.

(٢) في الفصل السابق.

(٣) في الفصل الثاني من المرحلة الاولى.

(٤) في الفصل الأوّل من المرحلة الثامنة.

١١٠

الفصل الثامن

في بعض أحكام الممتنع بالذات

لمّا كان الامتناع بالذات هو ضرورة العدم بالنظر إلى ذات الشيء المفروضة كان مقابلا للوجوب بالذات ، الّذي هو ضرورة الوجود بالنظر إلى ذات الشيء العينيّة ، يجري فيه من الأحكام ما يقابل أحكام الوجوب الذاتيّ.

قال في الأسفار ـ بعد كلام له في أنّ العقل كما لا يقدر أن يتعقّل حقيقة الواجب بالذات لغاية مجده وعدم تناهي عظمته وكبريائه كذلك لا يقدر أن يتصوّر الممتنع بالذات بما هو ممتنع بالذات (١) لغاية نقصه ومحوضة بطلانه ولا شيئيّته ـ : «وكما تحقّق أنّ الواجب بالذات لا يكون واجبا بغيره (٢) فكذلك الممتنع بالذات لا يكون ممتنعا بغيره بمثل ذلك البيان. وكما لا يكون لشيء واحد وجوبان بذاته وبغيره (٣) أو بذاته فقط (٤) أو بغيره فقط (٥) فلا يكون لأمر واحد امتناعان كذلك (٦).

__________________

(١) والمراد من الممتنع بالذات الّذي لا قدرة للعقل على تصوّره هو الممتنع بالذات بالحمل الشائع ، أي مصداق مفهوم الممتنع بالذات ، كما أنّ المراد من حقيقة الواجب الّتي لا يقدر العقل أن يتعقّلها هو الواجب بالذات بالحمل الشائع ، أي مصداقه. وأمّا مفهوماهما فلا ريب في أنّ العقل يقدر على تعقّلهما ، كما هو واضح.

(٢) لما ذكره في الأسفار ١ : ٩٤ وبيّنه أيضا المصنّف رحمه‌الله في الفصل الثاني من هذه المرحلة.

(٣) أي : أحدهما بذاته ، والآخر بغيره.

(٤) بأن يكون كلاهما وجوبين بالذات.

(٥) بأن يكون كلاهما وجوبين بالغير.

(٦) أي : لا امتناعان يكون أحدهما بذاته والآخر بغيره ، ولا امتناعان يكون كلاهما بالذات ـ

١١١

فإذا قد استبان أنّ الموصوف بما بالغير من الوجوب والامتناع ممكن بالذات.

وما يستلزم الممتنع بالذات فهو ممتنع لا محالة من جهة بها يستلزم الممتنع ، وإن كانت له جهة اخرى إمكانيّة لكن ليس الاستلزام للممتنع إلّا من الجهة الامتناعيّة ، مثلا كون الجسم غير متناهي الأبعاد يستلزم ممتنعا بالذات هو كون المحصور غير محصور ، الّذي مرجعه إلى كون الشيء غير نفسه مع أنّه عين نفسه (١) ، فأحدهما محال بالذات ، والآخر محال بالغير ، فلا محالة يكون ممكنا باعتبار غير اعتبار علاقته مع الممتنع بالذات ، على قياس ما علمت في استلزام الشيء للواجب بالذات ، فإنّه ليس من جهة ماهيّته الإمكانيّة ، بل من جهة وجوب وجوده الإمكانيّ.

وبالجملة : فكما أنّ الاستلزام في الوجود بين الشيئين لا بدّ له من علاقة علّيّة. ومعلوليّة بين المتلازمين (٢) فكذلك الاستلزام في العدم والامتناع بين شيئين لا ينفكّ عن تعلّق ارتباطيّ بينهما.

وكما أنّ الواجبين لو فرضنا لم يكونا متلازمين بل متصاحبين بحسب البخت والاتّفاق كذلك التلازم الاصطلاحيّ (٣) لا يكون بين ممتنعين بالذات ، بل بين ممتنع بالذات وممتنع بالغير ، وهو لا محالة ممكن بالذات ، كما مرّ (٤).

وبهذا يفرق الشرطيّ اللزوميّ عن الشرطيّ الاتّفاقيّ ، فإنّ الأوّل يحكم فيه بصدق التالي وضعا ورفعا على تقدير صدق المقدّم وضعا ورفعا لعلاقة ذاتيّة بينهما ، والثاني يحكم فيه كذلك من غير علاقة لزوميّة بل بمجرّد الموافاة الاتّفاقيّة بين المقدّم والتالي.

__________________

ـ أو كلاهما بالغير.

(١) وفي النسخ : «مع كونه عين نفسه» ، وما أثبتناه يوافق المصدر.

(٢) سواء كان أحدهما علّة والآخر معلولا ، أو كانا معلولي علّة ثالثة.

(٣) وهو العلاقة الضروريّة الحاصلة بين الوجودين الخارجيّين ، أحدهما لازم والآخر ملزوم ، قبال التلازم غير الاصطلاحيّ ، وهو التلازم بحسب التحليل العقليّ.

(٤) قبل سطور.

١١٢

فما فشى عند عامّة الجدليّين في أثناء المناظرة عند فرض أمر مستحيل ليتوصّل به إلى استحالة أمر من الامور بالبيان الخلفيّ (١) أو الاستقاميّ (٢) ـ بأن يقال : إنّ مفروضك مستحيل فجاز أن يستلزم نقيض ما ادّعيت استلزامه إيّاه لكون المحال قد يلزم منه محال آخر ـ واضح (٣) الفساد ، فإنّ المحال لا يستلزم أيّ محال كان (٤) ، بل محالا إذا قدّر وجودهما يكون بينهما تعلّق سببيّ ومسبّبيّ» (٥) انتهى (٦).

فإن قيل : الممتنع بالذات ليس إلّا ما يفترضه العقل ويخبر عنه بأنّه ممتنع بالذات فما معنى عدم قدرته على تعقلّه؟

قيل : إنّ المراد بذلك أن لا حقيقة عينيّة له حتّى يتعلّق به علم ، حتّى أنّ الّذي نفرضه ممتنعا بالذات ونحكم عليه بذلك ممتنع بالذات بالحمل الأوّليّ ، محكوم عليه بالامتناع ، و [هو بعينه] صورة علميّة ممكنة موجودة بالحمل الشائع.

وهذا نظير ما يقال (٧) ـ في دفع التناقض المتراءى في قولنا : «المعدوم المطلق لا يخبر عنه» حيث يدلّ على نفي الإخبار عن المعدوم المطلق ، وهو بعينه إخبار عنه ـ : إنّ نفي الإخبار عن المعدوم المطلق بالحمل الشائع ، إذ لا شيئيّة له حتّى يخبر عنه بشيء ، وهذا بعينه إخبار عن المعدوم المطلق بالحمل الأوّليّ ، الّذي هو

__________________

(١) فيقال مثلا : «لو لم يمتنع عدم تناهي الأجسام لجاز نقيضه. ولو جاز نقيضه ـ وهو كون الجسم غير متناهي الأبعاد ـ لزم كون المحصور غير محصور ، لكن كون المحصور غير محصور محال ، فكون الجسم غير متناهي الأبعاد محال».

(٢) يقال مثلا : «عدم تناهي الأبعاد في الأجسام يستلزم أن يكون المحصور غير محصور ، وكلّ ما يستلزم أن يكون المحصور غير محصور محال ، فعدم تناهي الأبعاد في الأجسام محال».

(٣) خبر لقوله : «فما فشى».

(٤) فإنّ حماريّة الإنسان ـ وهو محال ـ لا يستلزم صاهليّته ـ وهو محال آخر ـ نعم حماريّته تستلزم ناهقيّته.

(٥) راجع الأسفار ١ : ٢٣٦ ـ ٢٣٧.

(٦) ولمزيد التوضيح راجع أيضا كلامه في الأسفار ٦ : ٣٨٧.

(٧) والقائل هو صدر المتألّهين في الأسفار ١ : ٣٤٥ ـ ٣٤٧.

١١٣

موجود ممكن ذهنيّ.

وإن قيل : إنّ الّذي ذكر ـ من أنّ الممتنعين بالذات ليس بينهما إلّا الصحابة الاتّفاقيّة ـ ، ممنوع ، لأنّ المعاني الّتي يثبت العقل امتناعها على الواجب بالذات ـ كالشريك ، والماهيّة ، والتركيب ، وغير ذلك ـ يجب أن تكون صفات له ممتنعة عليه بالذات ، إذ لو كانت ممتنعة بالغير كانت ممكنة له بالذات ـ كما تقدّم (١) ـ ، ولا صفة إمكانيّة فيه تعالى ، لما بيّن أنّ واجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات (٢).

ثمّ الحجج القائمة على نفي هذه الصفات الممتنعة ـ على ما اشير إليه في أوّل الكتاب (٣) ـ براهين إنّيّة تسلك من طريق الملازمات العامّة. فللنتائج ـ وهي امتناع هذه الصفات ـ علاقة لزوميّة مع المقدّمات ، فهي جميعا معلولة لما وراءها ، ممتنعة بغيرها ، وقد بيّن أنّها ممتنعة بذاتها ، هذا خلف.

اجيب عنه بأنّ الصفات الممتنعة الّتي تنفيها البراهين الإنّيّة عن الواجب بالذات مرجعها جميعا إلى نفي الوجوب الذاتيّ الّذي هو (٤) عين الواجب بالذات ، فهي واحدة بحسب المصداق المفروض لها ، وإن تكثّرت مفهوما ، كما أنّ الصفات الثبوتيّة الّتي للواجب بالذات هي عين الوجود البحت الواجبيّ مصداقا وإن كانت متكثّرة مفهوما.

فعدم الانفكاك بين هذه الصفات والسلوك البرهانيّ من بعضها إلى بعض لمكان وحدتها بحسب المصداق المفروض وإن كان في صورة التلازم بينهما بحسب المفهوم ، كما أنّ الأمر في الصفات الثبوتيّة كذلك ، ويعبّر عنه بأنّ الصفات الذاتيّة كالوجوب الذاتيّ مثلا بالذات وباقتضاء من الذات ، ولا اقتضاء ولا علّيّة بين الشيء ونفسه. وهذا معنى ما قيل (٥) : «إنّ الدليل على وجود الحقّ المبدع إنّما

__________________

(١) في كلام صدر المتألّهين.

(٢) راجع الفصل الرابع ممّا تقدّم في هذه المرحلة.

(٣) راجع الأمر الخامس ممّا تقدّم في مقدّمة الكتاب.

(٤) أي : الوجوب الذاتيّ.

(٥) والقائل هو صدر المتألّهين في الأسفار ١ : ٢٣٦. وقال في موضع آخر : «وهناك برهان ـ

١١٤

يكون بنحو من البيان الشبيه بالبرهان اللمّيّ» (١).

فامتناع الماهيّة ـ الّذي سلكنا إلى بيانه من طريق امتناع الإمكان عليه تعالى مثلا ـ هو وامتناع الإمكان جميعا يرجعان إلى نفي بطلان الوجوب الذاتيّ الممتنع عليه (٢) تعالى ، وقد استحضره (٣) العقل بعرض الوجوب الذاتيّ المنتزع عن عين الذات.

واعلم أنّه كما تمتنع الملازمة بين ممتنعين بالذات كذلك يمتنع استلزام الممكن لممتنع بالذات ، فإنّ جواز تحقّق الملزوم الممكن مع امتناع اللازم بالذات ـ وقد فرضت بينهما ملازمة ـ يستلزم تحقّق الملزوم مع عدم اللازم ، وفيه نفي الملازمة ، هذا خلف (٤).

وقد اورد عليه بأنّ عدم المعلول الأوّل وهو ممكن يستلزم عدم الواجب بالذات وهو ممتنع بالذات ، فمن الجائز أن يستلزم الممكن ممتنعا بالذات ، كما أنّ من الجائز عكس ذلك ، كاستلزام عدم الواجب عدم المعلول الأوّل.

ويدفعه : أنّ المراد بالممكن هو الماهيّة المتساوية النسبة إلى جانبي الوجود والعدم. ومن المعلوم أنّه لا ارتباط لذاتها بشيء وراء ذاتها الثابتة لذاتها بالحمل الأوّلي ، فماهيّة المعلول الأوّل لا ارتباط بينها وبين الواجب بالذات.

نعم ، وجودها مرتبط بوجوده واجب بوجوبه ، وعدمها مرتبط عقلا بعدمه ممتنع

__________________

ـ شبيه باللمّيّ». راجع الأسفار ٦ : ٢٩.

(١) البرهان اللمّيّ هو الّذي يسلك فيه من العلّة بالمعلول ، وإذ لا علّة لوجود الواجب تعالى وليس هو تعالى معلولا فلا يمكن إثبات الصانع بالبرهان اللمّيّ.

وقال الحكيم السبزواريّ فيما علّق على الأسفار : «لا يلتزم أنّه برهان لمّيّ بل شبيه باللمّيّ ، لكن على أنّه فوق اللمّيّ لا أنّه دونه. أمّا أنّه ليس بلمّيّ حقيقة فهو ظاهر ، إذ ليس هو تعالى معلولا. وأمّا أنّ الاستدلال من حقيقة الوجود على الوجوب فوق اللمّ فلأنّ كلّ لمّ مستعير في الإنارة من نور حقيقة الوجود ...» راجع تعليقته على الأسفار ٦ : ٢٩ الرقم ٣.

(٢) قوله : «الممتنع عليه» صفة لبطلان الوجوب الذاتيّ. وفي بعض النسخ «إلى بطلان الوجوب الذاتيّ الممتنع عليه» ، والصحيح ما اثبتناه.

(٣) الضمير يرجع إلى نفي بطلان الوجوب الذاتيّ.

(٤) راجع الأسفار ١ : ١٩١ ـ ١٩٦ ، وحاشية المحقّق الدوانيّ على شرح التجريد القوشجيّ : ٣٤.

١١٥

بامتناع عدمه ، وليس شيء منهما ممكنا ، بمعنى المتساوي النسبة إلى الوجود والعدم.

وأمّا عدّهم وجود الممكن ممكنا ، فالإمكان فيه بمعنى الفقر والتعلّق الذاتيّ لوجود الماهيّة بوجود العلّة ، دون الإمكان بمعنى استواء النسبة إلى الوجود والعدم ، ففي الإشكال مغالطة بوضع الإمكان الوجوديّ موضع الإمكان الماهويّ.

خاتمة :

قد اتّضح من الأبحاث السابقة أنّ الوجوب والإمكان والامتناع كيفيّات للنسب في القضايا ، لا تخلو عن واحد منها قضيّة (١) ، وأنّ الوجوب والإمكان أمران وجوديّان (٢) ، لمطابقة القضايا الموجّهة بهما ـ بما أنّها موجّهة بهما ـ للخارج مطابقة تامّة.

فهما موجودان في الخارج لكن بوجود موضوعيهما ، لا بوجود منحاز مستقلّ (٣) ، فهما من الشؤون الوجوديّة الموجودة لمطلق الموجود ، كالوحدة ، والكثرة ، والحدوث ، والقدم ، وسائر المعاني الفلسفيّة المبحوث عنها في الفلسفة ، بمعنى كون الاتّصاف بها في الخارج وعرضها في الذهن ، وهي المسمّاة ب «المعقولات الثانية الفلسفيّة». وأمّا الامتناع فهو أمر عدميّ.

هذا كلّه بالنظر إلى اعتبار العقل الماهيّات والمفاهيم موضوعات للأحكام. وأمّا بالنظر إلى كون الوجود العينيّ هو الموضوع لها بالحقيقة لأصالته فالوجوب نهاية شدّة الوجود الملازم لقيامه بذاته واستقلاله بنفسه ، والإمكان فقره في نفسه وتعلّقه بغيره ، بحيث لا يستقلّ عنه بذاته ، كما في وجود الماهيّات الممكنة ، فهما شأنان قائمان بالوجود غير خارجين عنه.

__________________

(١) بخلاف صاحب المواقف حيث ذهب إلى أنّ الوجوب والإمكان والامتناع في الأبحاث السابقة غير الوجوب والإمكان والامتناع الّتي هي جهات القضايا وموادّها. فراجع شرح المواقف : ١٣١.

(٢) بخلاف الشيخ الإشراقيّ ، فإنّه قد وضع قاعدة لكونهما وأشباههما أوصافا عقليّة لا صورة لها في الأعيان. هكذا قال في الأسفار ١ : ١٧٢. وراجع حكمة الإشراق : ٧١ ـ ٧٢.

(٣) كما توهمّه الحكماء المشّاؤون من أتباع المعلّم الأوّل ، فراجع الأسفار ١ : ١٣٩.

١١٦

المرحلة الخامسة

في الماهيّة وأحكامها

وفيها سبعة فصول

١١٧
١١٨

الفصل الأوّل

في أنّ الماهيّة (١) في حدّ ذاتها لا موجودة

ولا لا موجودة

الماهيّة ، وهي : «ما يقال في جواب ما هو؟» ، لمّا كانت ـ من حيث هي وبالنظر إلى ذاتها في حدّ ذاتها ـ لا تأبى أن تتّصف بأنّها موجودة أو معدومة كانت في حدّ ذاتها لا موجودة ولا لا موجودة ، بمعنى أنّ الموجود واللاموجود ليس شيء منهما مأخوذا في حدّ ذاتها بأن يكون عينها أو جزءها وإن كانت لا تخلو عن الاتّصاف بأحدهما في نفس الأمر بنحو الاتّصاف بصفة خارجة عن الذات.

وبعبارة اخرى : الماهيّة بحسب الحمل الأوّليّ ليست بموجودة ولا لا موجودة (٢) ، وإن كانت بحسب الحمل الشائع إمّا موجودة وإمّا لا موجودة (٣).

__________________

(١) الماهيّة مشتقّة عن «ما هو». والياء فيها للنسبة ، أي المنسوبة إلى ما هو.

وأمّا في الاصطلاح فتطلق على معنيين :

أحدهما : ما به الشيء هو هو. وتسمّى : «الماهيّة بالمعنى الأعمّ» لأنّها تعمّ الموجودات ، حتّى الواجب تعالى ، فإنّ المراد منها هويّة الشيء وكنهه ، وللواجب تعالى هويّة خفيّة. كما قال الحكيم السبزواريّ : «وكنهه في غاية الخفاء».

ثانيهما : ما يقال في جواب ما هو. وتسمّى : «الماهيّة بالمعنى الأخصّ» ، لأنّها تختصّ بالممكنات. وهي الّتي انعقدت هذه المرحلة لبيان تعريفها ولواحقها.

(٢) أي : مفهوم الإنسان ـ مثلا ـ هو مفهوم الإنسان ، وليس بمفهوم الوجود ، لا ومفهوم لا وجود.

(٣) بمعنى أنّ الحمل الشائع قيد لنفس الماهيّة وكان المراد مصداقها ، فيقال : «الماهيّة بالحمل الشائع إمّا موجودة» أي مصداق الماهيّة موجود «وإمّا لا موجودة» أي وإمّا مصداقها ليس بموجود.

١١٩

وهذا هو المراد بقولهم : «إنّ ارتفاع الوجود والعدم عن الماهيّة من حيث هي من ارتفاع النقيضين عن المرتبة ، وليس ذلك بمستحيل ، وإنّما المستحيل ارتفاعهما عن الواقع مطلقا وبجميع مراتبه» (١). يعنون به أنّ نقيض الوجود المأخوذ في حدّ الذات ليس هو العدم المأخوذ في حدّ الذات ، بل عدم الوجود المأخوذ في حدّ الذات ، بأن يكون حدّ الذات ـ وهو المرتبة ـ قيدا للوجود لا للعدم ، أي رفع المقيّد دون الرفع المقيّد (٢).

ولذا قالوا : «إذا سئل عن الماهيّة من حيث هي بطرفي النقيضين كان من الواجب أن يجاب بسلب الطرفين مع تقديم السلب على الحيثيّة حتّى يفيد سلب

__________________

(١) راجع الأسفار ٢ : ٤ ـ ٥ ، والقبسات : ٢١ ـ ٢٢. وقال الحكيم السبزواريّ في شرح المنظومة : ٩٣ : «وارتفاع النقيضين عن المرتبة جائز ، لأنّ معناه أنّ كلّ واحد منهما ليس عينا للماهيّة ولا جزءا منها ، وإن لم يخل عن أحدهما في الواقع».

(٢) بيان ذلك : أنّ في المقام شبهة أشار إليها صدر المتألّهين ، ثمّ أجاب عنها.

أمّا الشبهة فهي : أنّه كيف كانت الماهيّة في حدّ ذاتها لا موجودة ولا معدومة ، وخلوّ الماهيّة عن الوجود والعدم ارتفاع للنقيضين وهو محال؟!

وأمّا الجواب فقد أجاب عنها بوجهين :

الأوّل : أنّ خلوّ الشيء عن النقيضين في بعض مراتب الواقع ـ كمرتبة ذات الماهيّة ـ ليس بمحال ، بل إنّما المحال خلوّه عنهما في جميع مراتب الواقع ، أي مرتبة الذات ومرتبة الوجود الذهنيّ ومرتبة الوجود الخارجيّ.

الثاني : أنّ الوجود المنفي عن الماهيّة من حيث هي هي هو الوجود المقيّد بكونه في مرتبة ذات الماهيّة ، لا مطلق الوجود. ونقيض ذلك الوجود المقيّد بكونه في المرتبة هو رفع ذلك الوجود المقيّد ، بأن تكون المرتبة ظرفا للمرفوع لا الرفع ، فنقيضه رفع للمقيّد لا الرفع المقيّد ، أي العدم المقيّد بالمرتبة ، فالعدم المقيّد ليس نقيض الوجود المقيّد حتّى يستلزم من خلوّ الماهيّة عنهما ارتفاع النقيضين ، بل نقيضه عدم الوجود المقيّد ، وهو ليس بمرفوع.

والمصنّف رحمه‌الله لمّا رأى بطلان الجواب الأوّل ـ حيث إنّ الأحكام العقليّة غير قابلة للتخصيص ، فإنّ تخصيصها يوجب هدمها ، مضافا إلى أنّه يستلزم القول بأنّ اجتماع النقيضين محال مطلقا ، ولكن ارتفاعهما جائز في بعض الموارد ، وهو ممّا لم يتفوّه به أحد ـ فسّره بما يرجع إلى الجواب الثاني ، وهو إنكار كون خلوّ الماهيّة في مرتبة ذاتها عن الوجود والعدم من ارتفاع النقيضين ، كما مرّ.

١٢٠