إعجاز القرآن العلمي والبلاغي والحسابي

محمّد حسن قنديل

إعجاز القرآن العلمي والبلاغي والحسابي

المؤلف:

محمّد حسن قنديل


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن خلدون
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٠٢

بيقين كما ذكرنا سابقا ... ، كذلك فإن شرط قبول الصلاة ، الطعام الحلال وإتمامها والخشوع فيها ، والتواضع وعدم الإصرار على المعاصى والرحمة بالمسكين والأرملة ، وابن السبيل ، وقطع النهار فى ذكر الله تعالى ... ، ولقد أجمع العلماء على أن الحركة فى الصلاة من عدم الخشوع ، كما دلت بذلك الأحاديث ، فلو خشع القلب لخشعت الجوارح ولو زادت حركاتك عن ثلاث فعليك بالخوف من بطلان صلاتك ، ولا بد أن يكون نظرك محل السجود حيث لا يمر الشيطان ، وحيث إنك تقف أمام من قال عن نفسه (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) (١) ... ، فعلينا بالتقوى والخشية من الله الذى خلق الكون ونظمه ، ورزق كل دابة ، وعلم الظاهر والباطن ، وأحصى كل شىء عددا ، يعلم بعدد حبات الرمال فى الصحارى والقفار ... ، وما تسقط ورقة إلا وهو يعلمها ... ، وكل شىء هالك إلا وجهه ، وصدق صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى وصيته لنا ... ، لا تجمعوا ما لا تأكلون ، ولا تبنوا ما لا تسكنون ، ولا تنافسوا فيما أنتم عنه تزولون ، واتقوا الله وارغبوا فيما إليه تصيرون وفيه تخلدون ... ، إننا بحاجة إلى رحمة الله ومغفرته حيث إن نعمه علينا كثيرة ونحن مقصرون مذنبون عاجزين عن شكره ... ، له علم الغيب وتعجز عقولنا عن الإحاطة بكل الأمور ، ومع المشهد والدليل هناك غيب كثير لا بد من الإيمان به ، حيث إن المؤمن يؤمن بالغيب ، وهذا هو اختبارنا لا نعلم الحكمة من الأمور كلها فى الماضى والحاضر والمستقبل ، لا نعلم الحكمة من اختلاف الناس فى القدرات والهدى والضلال والأرزاق والآجال ... ، وعلى الإنسان أن يتمسك بالأدلة الحق ليسير فى طريق النور ويصرف نفسه عن التفكير فى الشهوات فإن عذاب النار شديد ... ، والله قادر على منع البلاء عنا والابتلاء ولكنه الاختبار الذى معه يظهر من يستحق الجنة ومن يستحق النار ... ، النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لاقى الكثير فى سبيل الله ونشر دعوته حتى يكون قدوة للدعاة من بعده ليصبروا على الأذى ، ولد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتيما وتوفيت والدته وهو فى صغره ، وتوفى عمه وزوجته فى عام واحد ، ثم لاقى الكثير فى الطائف وأدميت قدمه الشريفة ، وقبلها حوصر مع الصحابة فى شعب أبى طالب.

__________________

(١) سورة طه الآية ١٠٥.

٨١

وكاد الصحابة أن يأكلوا أوراق الشجر ... ، ثم كانت رعاية الله وفضله عليه بحادثة الإسراء والمعراج ، حيث عرج به إلى السماوات العلى ، وحيث رأى من آيات ربه الكبرى ، ورأى صورا من عذاب العصاة ونعيم الطائعين ، ليدرك المؤمنون أن الجنة حق وأن النار حق ، إن رحمة الله تأتى مع اليقين والصبر ويؤيد بنصره من تقربوا إليه ودعوا إليه ... ، هناك من الصالحين من أراد أن يترك أمر النصيحة ويكتفى بالدعوة على المنابر فى المساجد ، فوجد رجلا يواجهه بكلمة اتق الله فأدرك ما تعنيه الكلمة وواصل أمر الدعوة ... ، وهناك من صبروا على العطش وهم يسيرون فى الطريق وحين وجدوا الماء قال أحدهم إن الماء لا يروى إلا بأمر الله ، ودخلوا المسجد ولم يشربوا وبعد لحظات شعروا جميعا أنهم لا يحتاجون إلى الماء ، وهناك من فقدوا الطعام وكان أحدهم لا يبالى وحين سألوه عن سر ذلك ، قال ربى قادر أن يطعمنى ولم يمر من الوقت إلا القليل وجاءهم رجل بمائدة من طعام العقيقة فأكلوا حتى شبعوا فعلينا بالقناعة وعدم التفكير فى الشهوات ، والحذر من المعاصى ، والثبات على الحق والاستمرار على أمر الدعوة والنصح فى الخير ... ، وعلينا بالرضا وبغض المعاصى ، يقول تعالى (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١) ... ، ألا يستحى الإنسان من الله ، ألا يرغب فى النعيم المقيم فى الجنة ويسلم من العذاب الشديد فى النار ، إن الله هو الغنى المانح لكل شىء لذلك فمن اعتمد على ماله قل ومن اعتمد على عقله ضل ومن اعتمد على جاهه زل ، ومن اعتمد على الله ما قل ولا ضل ولا ذل ... ، فلا توقف عن الطاعة والدعوة والشكر والدعاء والرجاء.

١٧ ـ الإعجاز فى آداب وأخلاق إسلامية

إن الدين الإسلامى لم يكن يقينا ثابتا أو عبادات وقتية فحسب ولكنه يشمل جميع الآداب الفاضلة فى حسن المعاملة والتعامل الراقى مع البشرية كلها ، فهو دين النظافة والحس المرهف ومراعاة شعور الآخرين وعدم الإساءة إليهم ، ولقد كان علقمة

__________________

(١) سورة المجادلة الآية ٧

٨٢

صحابيا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان من السباقين إلى فعل الخيرات والالتزام فى العبادات ، وكان بارا بأمه ولكنه لم يلتزم بالأدب أو الذوق الإسلامى عند دخوله بالفاكهة على أمه ، حيث كان يخرج إليها بنصيبها بعد دخوله بها على زوجته أولا ... ، لقد عجز لسانه بسبب ذلك عن أن ينطق بالشهادتين ولم ينطق بها حتى سامحته أمه (١) ... ، ويخبرنا النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أعظم الصدقة لقمة يضعها الرجل فى فم زوجته ... ، ويوصينا بأن لا يقع الرجل على زوجته كالبهيمة ، ولكن لا بد من حسن التعامل فى العلاقة الزوجية بتقديم الكلام الرقيق كما قال تعالى (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) ، ووصى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالدعاء المعروف" اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا" ... ، ومن الأدب والذوق الإسلامى الاستئذان ثلاث مرات قبل الدخول على الغير ، والإفساح فى المجالس ، يقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم" حقا على كل مسلم إذا جاء اخاه ان يتزحزح له" ... ، كذلك فإن إماطة الأذى عن الطريق صدقه ... ، ويوصى ديننا الإسلامى بالرفق فى كل شىء فأخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم" إن الرفق لا يكون فى شىء إلا زانه ، ولا ينزع من شىء إلا شانه" (٢) ... ، ومن الأدب الإسلامى أن ما أخذ بسيف الحياء فهو حرام .. ، ويصف صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن من خيار الناس خيارهم لنسائهم (٣) ويرشدنا الله تعالى عن أسلوب الدعوة إليه بأن تكون بالحكمة والموعظة الحسنة ... ، ومن الأدب القرآنى ما ورد عن يوسف عليه‌السلام حين دخل عليه إخوته وأبواه ، يقول تعالى (وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (٤). ، ونلاحظ أن يوسف عليه‌السلام لم يقل" إذ أخرجنى من السجن ومن الجب" وذلك حتى لا يجرح إخوته وهم عنده ، ورغم أنه لم يذنب أو يخطئ فى حقهم نجد السياق القرآنى (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) وهنا نلاحظ أنه لم يقل" بين أخوتى" ولكن قال" بينى وبين

__________________

(١) ذكر الحديث فى الترغيب والترهيب ـ رواه الطبرانى وأحمد مختصرا ـ الترغيب والترهيب ص ٣٣٢ الجزء الثالث.

(٢) الحديث رواه مسلم ـ المرجع السابق ص ٤١٥.

(٣) من معنى الحديث ـ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم" أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وخياركم خياركم لنسائهم" رواه الترمذى وقال أحسن صحيح.

(٤) سورة يوسف الآية ١٠٠

٨٣

إخوتى" حتى يشرك نفسه معهم فيما حدث ليخفف من شعورهم بالذنب تأدبا فى الحديث ... ، ومن الأدب القرآنى أيضا ما ورد عن الخضر حين صحب موسى عليه‌السلام حيث خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار الذى أوشك أن ينقض ، وحين علل أفعاله قال عن السفينة (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) (١) وعن الغلام (فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ) (٢) وعن الجدار الذى أقامه (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما) (٣) ، وهنا نجد التعبير بأردت ، وأردنا فى خرق السفينة وقتل الغلام وذلك تأدبا مع الله عزوجل ولكن إقامة الجدار لليتيمين قال" فأراد ربك" فقد نسب الأمر لله حيث ظاهر الأمر خيرا بالنسبة لإقامة الجدار ... ، إن الأدب الإسلامى فى نظامه الاقتصادي لا يقوم على احتكار السلع كما تفعل الدول التى لا تنتمى إلى الإسلام ... ، وفى أسلوبه الأخلاقى والاجتماعى لا يقوم على الإباحية وهتك الأعراض وقتل الأطفال من الزنا وتناول المسكرات ... ، وفى أسلوبه العسكرى لا يقوم على مبادئ التخريب والبطش بالأطفال والنساء والشيوخ ... ، لذلك فالدين الإسلامى باق ما دامت السماوات والأرض ... ، باق لأن أسسه كلها تقوم على الحق والعدل ... ، باق لأن الواحد القهار رضيه دينا فقال سبحانه" إن الدين عند الله الإسلام" ... ، (٤)

١٨ ـ سبحان الحكيم الخبير

سبحان الله القاهر فوق عباده ، سبحان الحكيم الخبير الذى لا يقف أمامه أمر ، فكل شىء خلقه بعلمه واسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة ، وصورنا فأحسن صورنا وكان أمره بكل فيكون ... ، فهو الذى بقدرته أخرج الناقة دما ولحما من الصخرة الصماء لصالح عليه‌السلام وهو الذى جعل النار بردا وسلاما على إبراهيم عليه‌السلام ، ورزق مريم ابنة عمران فى محرابها بغير حساب ، وهو الذى بقدرته جعل البحر طريقا يبسا لموسى عليه‌السلام ، ولقد أحيا الموتى بإذنه لعيسى عليه‌السلام ولقد

__________________

(١) سورة الكهف الآية ٨٠.

(٢) سورة الكهف الآية ٨١.

(٣) سورة الكهف الآية ٨٢.

(٤) سورة آل عمران الآية ١٩.

٨٤

نجى موسى عليه‌السلام حين ألقى فى اليم ووعد برده وتحقق وعده سبحانه ليكون عدوا لفرعون وحزنا ... ، ولقد رزق زكريا عليه‌السلام غلاما على الكبر وكانت امرأته عاقرا وسماه بيحيى ومات شهيدا ليكون اسما على مسمى ويحيا عند ربه كعادة الشهداء ، وهم الأحياء عند ربهم يرزقون ... ، سبحانه وتعالى مع أمره لا تكون الأسباب فهو خالق الأسباب والمسببات ، وهو الذى لم يجعل الرزق واستنشاق الهواء مقابل الطاعة ، بل هناك من يعصونه ويرزقهم لأنه الحليم الكريم ، ولو كان ذلك ما عصاه أحدا قط ، ولكنه الاختيار الذى لا يفطن إليه الكثيرون ممن غرهم الشيطان ليظلوا فى طريق الغفلة لا يشعرون بنعم الله عليهم ولا يشكرون ... ، والله يزيد من شكره بكل خير ويثبته فى الدنيا والآخرة فلا يفارق حب الله قلبه ، فهذا عبد الله بن حذافة السهمى الذى أسرته جيوش الروم مع عشرة من أصحابه وطلبوا منه أن يرتد عن دينه فرفض ، فعلقوه ورشقوا جسده بالسهام دون قتله بأمر ملكهم ، لكن ذلك لم يثنه عن أمره أو يضعف من عقيدته ، فجاءوا بإناء الزيت المغلي وألقوا أمامه اثنين من الأسرى ، وطلبوا منه أن يرتد فلم يتزعزع ، فقال الملك : ألقوه فيها ، وحين اقترب عبد الله رضى الله عنه من الزيت المغلي بكى ، فنادى عليه الملك ظنا منه أنه سيرتد ، وسأله ما ذا يبكيك؟ فقال : والله ما بكيت خوفا وجزعا من الموت ولكن لأن لى نفسا واحدة ستخرج فى سبيل الله ، وتمنيت لو أن لى بعدد شعر رأسى أنفسا تخرج فى سبيل الله (١) ... ، وهذا عبد الله بن جحش قبل بدء غزوة أحد يطلب من الله تعالى أن يقتل رجلين من أقوياء المشركين فيقول : اللهم إنى أسألك أن ترزقنى رجل شديد القوة فأقاتله ويقاتلنى فأقتله ، ثم ارزقني رجلا شديد القوة فأقاتله ويقاتلنى فأقتله ، ثم ارزقني رجلا شديد القوة. فيقتلنى ويبقر بطنى ويقطع أذنى ويجذع أنفى فآتيك هكذا ، فتقول : فيما ذلك؟ فأقول من أجلك يا رب ، فتقول لى صدقت (٢) ... ، يقول سعد بن معاذ وكان بجانبه حين دعى بذلك ، لقد رأيته مات

__________________

(١) أنظر البداية والنهاية ـ عن مواقف الصحابة.

(٢) ذكر هذا الموقف الأستاذ / عمرو خالد ـ فى أحد الأشرطة عن وسائل الثبات ، والقصة فى كتاب صور من حياة الصحابة.

٨٥

شهيدا بقرت بطنه وقطعت أذنه وجذعت أنفه وبجواره اثنان من قتلى المشركين ، فقلت : صدق الله فصدقه الله ... ، والله سبحانه وتعالى يصدق مع محبيه ولا يضيع جهدهم ، فهذا هو بلال بن رباح الذى لاقى الكثير فى سبيل الله وكان عقبة بن أبى معيط يشجع أمية على تعذيب بلال وحين يشتريه أبو بكر الصديق يعتقه لوجه الله ، ويشارك فى غزوة أحد ويتخلف أمية بن خلف خشية أن يقتل حيث إن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد حدد مصارع القوم قبل بدء المعركة ، ولكن عقبة بن أبى معيط الذى كان يشجع أميّة بن خلف على تعذيب بلال ، يشجعه هذه المرة على أن يخرج للقتال ويسخر منه قائلا : إنما أنت من النساء ، فلم يجد أميّة بن خلف بدا من الخروج إلى القتال فيقتل بسيف بلال (١) ... ، وحين ينزل الوحى بقوله تعالى (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) ردا على قول النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين رأى التمثيل بجثة عمه حمزة" لئن أظهرنى الله على قريش فى موطن من المواطن لأمثلن بثلاثين رجلا منهم" فيصبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويكون فى ذلك الخير حيث يسلم وحشى ويقتل مسيلمة رأس الفتنة فى معركة اليمامة ... ، يقول وحشى فى ذلك" فإن كنت قد قتلت بحربتى هذه خير الناس وهو حمزة .. فإنى لأرجو أن يغفر الله لى إذ قتلت بها شر الناس مسيلمة" (٢).

وتلك هى بائعة اللبن التى تنهى أمها عن خلطه بالماء خشية من الله ويسمعها الخليفة عمر بن الخطاب رضى الله عنه فيزوجها لأحد أبنائه فتكون ثمرة هذا الزواج ابنة صالحة تسمى ليلى ، تتزوج وتكون ثمرة زواجها الخليفة عمر بن عبد العزيز الذى ملأ الأرض عدلا (٣) ... ، وهذا هو الإمام النعمان يسير يوما فيمر بتفاحة فى طريقه فيأكلها وحين يمر بحديقة يدرك أن تلك التفاحة كانت منها ، فيسأل عن صاحب الحديقة ليسامحه فى تناولها ، فيأبى صاحبها أن يسامحه إلا بشرط زواجه من ابنته العمياء البكماء العرجاء وهو يختبره بذلك دون أن يكون بها تلك الصفات ، فيتزوجها وتكون ثمرة هذا الزواج الإمام أبا حنيفة النعمان الذى صلى

__________________

(١) أنظر السيرة ـ لابن هشام ....

(٢) رجال حول الرسول الجزء الثانى ص ٢٨.

(٣) معجزة الإسلام ـ عمر بن عبد العزيز ـ خالد محمد خالد.

٨٦

الفجر بوضوء العشاء أربعون سنة ، وملأ الدنيا علما وفقها ... ، وهذا هو عمر بن عبد العزيز الذى لم يترك شيئا لأولاده عند موته لحرصه على مصالح المسلمين ، فيقول أحد المشاهدين وهو مقاتل بن سليمان وهو ينصح الخليفة فى عصره قائلا : لقد مات الخليفة هشام بن عبد الملك وميراث إحدى زوجاته ثمانون ألف دينار بخلاف القصور والضياع ، ولقد مات الخليفة عمر بن عبد العزيز وميراثه ثمانية وأربعون دينارا ، اشتروا له كفنا بتسعة ومقبرة بسبعة والباقى وزع على أولاده وكانوا اثنى عشر ولدا ... ، والله لقد رأيت أحد أبناء الخليفة هشام بن عبد الملك يمد يده فى الطرقات يسأل الناس إلحافا ثم تلا قوله تعالى (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) ... ، وهذا هو عمر بن الخطاب رضى الله عنه يرى فى منامه غلاما أشجا فينهض متعجبا يردد" من هذا الأشج من بنى أمية ، ومن ولد عمر ، يسير بسيرة عمر ، ويملأ الأرض عدلا" وحين دخل عمر بن عبد العزيز يوما حظيرة الخيل ، فركضه جواد فشجه وأدماه ، وجاء أبوه يضمد جرحه ويمسح الدم عن وجهه الشاحب الوديع وهو يقول : " إن تكن أشج بنى أمية إنك إذن لسعيد" ... ، وبالفعل كان هو أشج بنى أمية ونبوءة جده عمر بن الخطاب ... ، ولقد صلى بالناس صلاة الاستسقاء فى إحدى أعوام القحط فهطل المطر على غير موعد ... ، وصلى وراءه أنس بن مالك صاحب رسول الله ، فقال ما صليت وراء إمام أشبه بصلاة رسول الله من هذا الرجل (١). ونلاحظ أن أنس بن مالك عاصر عهد عمر بن عبد العزيز لدعوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم له حين جاءت به أمه تقول : يا رسول الله ، هذا أنس غلامك يخدمك فادع الله له" ، فقبله رسول الله بين عينيه ودعا له دعوته قائلا : " اللهم أكثر ماله وولده وبارك له وأدخله الجنة" فعاش أنس تسعا وتسعين سنة ورزق من البنين والحفدة الكثيرين ، ورزقه الله بستانا رحبا يحمل الفاكهة فى العام مرتين (٢) ... ، وأما أخوه البراء بن مالك فكانت أمانيه تنحصر فى الشهادة

__________________

(١) نفس المرجع السابق.

(٢) أنظر دلائل النبوة ـ للبيهقى ـ عن معجزات النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٨٧

فى سبيل الله ، لذلك لم يتخلف عن مشهد ولا غزوة ولقد أوصى عمر بن الخطاب بأن لا يكون البراء قائدا أبدا وذلك بسبب إقدامه وبحثه دائما عن الموت ، ولقد دعا ربه أن ينال الشهادة فى إحدى المواقع ضد الفرس فنالها (١) ... ، إنه الحب لله الذى حين يستقر فى القلوب فيكون الثبات وتكون الإجابة من الله عند الدعاء فتكون السعادة فى الدنيا والآخرة.

١٩ ـ اليقين وثبات العقيدة

اليقين هو الطريق إلى السعادة وهو مفتاح الجنة وبه رضا المولى سبحانه وتعالى ... ، ولقد كان من بداية سورة البقرة قوله تعالى (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) (٢) ... ، واليقين هو الإيمان الذى لا يعتريه الشك ... ، ولقد كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدوتنا فى يقينه بربه وثباته على أمر الدعوة رغم ما لاقى من المشركين وحين وعده ربه بفتح مكة ودخولها مع أصحابه وثق فى أمر به حتى أتم الله وعده ... ، وحين أمره الله بالدعوة واشتد عداء الكفار له ، فكان يحرسه أحد الصحابة كل يوم ، حتى نزل قوله تعالى (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فقال للصحابة بكل يقين خلوا ظهرى للملائكة ، وعلى أثر ذلك دخلت باحثة أجنبية فى الإسلام ، حيث تعجبت قائلة : لو لا أنه واثق من حماية ربه لما فرط فى حياته ... ، وحين أخبره سبحانه وتعالى بقوله (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) فكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم واثقا من هذا النصر فى غزوة بدر ، حيث هزم جمع المشركين كما أخبر الله تعالى رغم أن جمعهم كان يفوق عدد المسلمين بكثير ...

وحين يأمر أحد الصحابة أن يتسلل إلى صفوف الأعداء لمعرفة أخبارهم فيشير إلى أحد الصحابة قائلا ، قم واذهب وستعود سالما ، وبالفعل يذهب الصحابى رغم تلك المخاطرة ويعود سالما ... ، وحين أخبر الله تعالى بقوله (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) فكان من الصحابة كأبى بكر الصديق

__________________

(١) رجال حول الرسول ـ للبيهقى ـ عن معجزات النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٢) سورة البقرة الآية ٤.

٨٨

من يراهن المشركين لثقته فى نصر الله ، فكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يطلب من الصحابى أن يمد فى السنين ويزيد فى الرهان ثقة فى وعد الله حتى تحقق الوعد (١) ... ، إن اليقين هو أن تثق فى وعد الله تعالى ، وأنها ستأتى كفلق الصبح ولقد وعد الله تعالى بقتال اليهود وأن الحجر سيدل على اليهودى ليقتله المسلم إلا شجرة الغرقد التى يكثرون زراعتها الآن فلا بد أن نثق فى هذا الوعد كما كان يثق صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى وعد ربه ... ، ولقد أنزل الله تعالى قوله (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ) ولم يستطيع أبو لهب أن يكذب الآية ويجمع المشركين ثم يقول لهم أنا أشهد أن لا إله إلا الله ليكذب آية من كتاب الله ، ولكن الله الخبير هو الذى يخبرنا فلا راد لحكمة ولا مغير لقضائه ... ، ولنا مثل فى أم موسى عليه‌السلام حيث أوحى الله إليها إن هى خافت على ولدها من قتل فرعون له فعليها أن تلقيه فى اليم بعد إرضاعه ووعدها برده إليها وجعله من المرسلين وتحقق وعد الله تعالى وكتب له النجاة مما نظن نحن أنه هلاك ... ، فهو سبحانه الذى أوقف السكين عن الذبح مع إسماعيل عليه‌السلام وأوقف النار عن الحرق مع إبراهيم عليه‌السلام ... ، إن المريض يثق فى كلام طبيب الدنيا وينسى أن الله ينزل فى الثلث الآخر من الليل فيقول : " هل من مريض فأشفيه" ... ، والعامل يثق فى وصول الرزق إليه حين يأخذ راتبه ونسى أن الذى صنع له الفم بعد أن كان قطعة اللحم المصمتة ، وجعل له صفين من الأسنان الصلبة ليستطيع مضغ الطعام هو الذى ساق الرزق إليه ، ولن يدخل فمه إلا ما قدر له بأمره ، لذلك قال أحد الرعاة العرب حين نظر إلى قطيعا من الشياه يرعى فى الأرض الخضراء ، فقال من شق هذه الأفواه شقها ليطعمها ... ، لذلك فالذى يحدد النسل ويقول اثنان فقط فهو ضعف يقين برزق ربه الذى يرزق كل البشر وكل الدواب ، يقول تعالى (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) (٢) ... ، ومن الواقع هناك الكثير من الأمثلة التى نأخذ منها العبرة فى هذا الأمر فهذا مهندس أنجب بنتا فقال لامرأته : عائزين ولد وبعد ذلك لا نريد أولادا ، فحملت زوجته وكان المولود بنتا أيضا فى هذه المرة ، فقال لها :

__________________

(١) ذكر ذلك الشيخ محمد متولى الشعراوى ـ فى تفسيره (وأورده المفسرون كابن كثير فى سبب النزول).

(٢) سورة هود الآية ٦

٨٩

لا نريد أولادا بعد ذلك ، ولم تغير الوسائل المعروفة فى أمر الله تعالى إذا أراد شيئا فلقد حملت الزوجة ، فأخذها الزوج للطبيب ليجرى لها عملية الإجهاض فنصحه الطبيب بحرمة ذلك ، لكنه صمم على قتل ولده بسبب ضعف اليقين حيث نسى قوله تعالى (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) (١) ... ، وصمم على دخول زوجته حجرة العمليات لتتم عملية الإجهاض ، وفيها تضرب جمجمة الجنين حتى تتفتت ثم يلتقطها الطبيب القاتل بملقاط خاص حتى يخرج أجزاءها من الرحم ، وفى النهاية خرج الطبيب يقول له : أنت مكنتش عائز صبيان ولا إيه! (٢) ... ، وحرمه الله لذلك من نعمة الولد وهذا الرجل الذى حلف على زوجته بالطلاق إن أنجبت بنتا فتأتى الزوجة بتوائم ثلاثة من البنات ... ، وهذا الشاب الذى يحكى لأحد المشايخ فيقول أمى ذهبت لأداء عمرة رمضان وأدت مناسك الحج ثم قال : أخى الثامن فى ترتيب إخوتي هو الذى أنفق من ماله الخاص لهذا الحج برا بوالدته ، فقالت الأم : لو لم يأت ولدى فلان فمن كان سيحججنى ، فعلق الشيخ الراوى أحمد ربيع ... ، ربما الخير فى آخر ولد ، فهل يعى ذلك من يفكرون فى قتل أبنائهم ... ، والقول الفصل الذى يحرم ذلك كله هو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما ورد بالبخارى" العزل الواد الخفى" فلنحذر من ذلك ونتوكل على الله فى الرزق مع السعى ، وكما أخبرنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الحديث الجامع الذى ورد بطوله فى الترغيب والترهيب أن" طعام الواحد يكفى الاثنين والاثنين يكفى الأربعة ، والأربعة يكفى الثمانية ....

ومن ضعف اليقين بالله من تدعو قائلة : يا رب ارزقنى ولدا ولو أعمى فيستجيب الله وتنجب ولدا أعمى ... ، ومن هذا الموقف الواقعى الذى عاهدته بالفعل حيث لم تزل صاحبته موجودة بمولودها بجوارنا نأخذ أبلغ العبر ، فهى سيدة أنجبت أربعة من الأولاد ثم استعملت الوسائل المانعة ، ولو أراد الله خلقه ما منعه مانع" يقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم" وإذا أراد خلق شىء لم يمنعه شىء" (٣) ولقد حملت وأنجبت بنتا تقبض بيدها على لفافة من الحبوب المانعة التى كانت تبتلعها الأم لتمنعها من المجيء ، وكأنه التحدى من الله تعالى وجاءت الطفلة مصابة بمرض مزمن فى القلب ، وأنفق والداها عليها الكثير ، وكأنه درس من الله له ، وهى الآن بإحدى الكليات بدمنهور ... ، وهذا الرجل

__________________

(١) سورة الإسراء الآية ٣١.

(٢) ذكر ذلك الشيخ أحمد ربيع ـ أحد علماء الأزهر ـ عن موقف عاصره فى الواقع.

(٣) رواه مسلم.

٩٠

الذى أنجب بنتا بستة أصابع ، فأخذها للطبيب وقطع هذا الأصبع ، وفى الحمل التالى رزقه الله بنتا بأربعة أصابع فقط ، وكأنه الخطاب من الله تعالى" زدنا فأنقصت والآن أنقصنا فزد" (١) ... ، فيجب علينا أن نثق فى الله تعالى وندرك أنه سبحانه يعلم بالخير فى العطاء والمنع ، فمن عبادة من إذا أعطاه لفسد حاله ... ، ومنهم من إذا منعه لفسد حاله ... ، فثق بما عند الله ولا تخاف أو تجزع فتعترض على حكمه وهو القوى العزيز ... ، وأعلم أنه لو اجتمعت الإنس والجن على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك" (٢) ، وتذكر ما أخبر به صلى‌الله‌عليه‌وسلم" من أن نفسا لن تموت حتى تستوفى رزقها وأجلها" فكن أخى المسلم قدوة لغيرك ، وإياك أن يطعن الإسلام من قبلك ، فكن حارسا أمينا ، وقف عند الحد الذى تحرس فيه إسلامك ويقتدى بك الغير ، فحين يؤذن للصلاة ، عليك أن تسارع لتلبية النداء ولا تنتظر من غيرك أن يدفعك إلى الصلاة ... ، وحين تخرج ابنتك فاجعلها تلتزم الزى الشرعى ليقتدى بها غيرها من المسلمات ... ، وإن كنت تاجرا فلا تغش فى الميزان أو السلعة حتى لا يتهم الإسلام فى أصحابه فيتحول الاقتصاد من المسلمين لغيرهم ... ، فتزود أخى المسلم باليقين حتى لا يطعن الإسلام من قبلك ، فمن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة" ، وأعلم أنه باليقين يكون الثبات وتكون سعادة الدنيا والآخرة ، واليقين هو الذى جعل خبيب رضى الله عنه وهو فى سجنه تأتيه الثمرات من حيث لا يحتسب (٣) وهو الذى جعل أحد الصحابة يلقى بالتمرات التى كان يستعد لتناولها حين سمع منادى الجهاد وأدرك أن الشهادة فى سبيل الله طريق يوصل إلى الجنة وأن الوقت الذى سيستغرقه فى أكل التمرات سوف يؤخره عن هذا الفوز العظيم ، فاللهم ارزقنا اليقين والثبات وأ جعلنا فى الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء ....

__________________

(١) ذكر هذا الموقف الشيخ أحمد ربيع ـ أحد علماء الأزهر فى حديث له

(٢) شرح لمعنى الحديث القدسى ـ أنظر صحيح الأحاديث القدسية.

(٣) أنظر رجال حول الرسول.

٩١

٢٠ ـ معنى الإيمان وثمراته ونبوءات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم

إن معنى الإيمان هو أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ، وأن يكون ذلك مصحوبا باليقين الذى لا يعرف الشك ، على أن يكون هذا اليقين هو تنفيذا لأوامر الله تعالى وتصديقا بما وعد به وترجمه ذلك إلى معاملة طيبة وحسنه بين الناس تستمد أنوارها من هدية الله للبشر وقدوتها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ... ، ولقد كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتصف بدوام العمل والنشاط فى العبادة دون ملل كما وصفت السيدة عائشة رضى الله عنها عمله بأنه ديمة ... ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم متواضعا يحذر من الكبر بقوله" لا يدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال ذرة من كبر" وكان يقول" وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله" (١) ... ، وكان رحيما ، ينصح قائلا" من لا يرحم الناس لا يرحمه‌الله" (٢).

وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذا خلق عظيم وذوق رفيع يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة ... ، بشوشا فى وجه اصحابه ومن يلقاه ... ، وهو لا يغضب إلا إذا انتهكت حرمات الله ، ورغم ذلك كان يعرض بوجهه عند الغضب حتى لا يراه الغير غاضبا ... ، وكان يحب الطيب ويجلس وسط أصحابه لا يتميز عليهم ، ولا يرفع صوته ، ويمزح ولا يقول إلا صدقا وخيرا ... ، وكان حليما يصبر على من أساء إليه ولا يستفذ وكانت نتيجة هذا الخلق إسلام الكثيرين ممن قابل إساءتهم بهذا الحلم دون انفعالات يدخل من خلالها الشيطان ويوقع بها العداوة والبغضاء بين قلوب المسلمين ... ، وكان يستشير أصحابه ، وإذا استشاره أحد فكان مؤتمنا يدل على الخير ، وأمر بالشورى والاستخارة وذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم" من سعادة ابن آدم استخارة الله عزوجل" (٣) وكان صادقا أمينا جريئا فى الحق لا يخشى فى الله لومة لائم ولقب قبل بعثته بالصادق الأمين وحذر من تضييع الأمانة ونبه أن مضيعها يأتى بها يوم القيامة من قعر جهنم ... ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم متعاونا يمد يد العون لكل الناس حتى أن الجارية كانت تأخذه من يده فينطلق معها ويأتى

__________________

(١) رواه مسلم والترمذى ـ الترغيب والترهيب ـ الجزء الثالث ص ٥٥٨.

(٢) رواه البخارى ومسلم والترمذى ، وراه أحمد وزاد ومن لا يغفر لا يغفر له.

(٣) أخرجه احمد وزاد ومن شقوة ابن آدم تركه استخارة الله.

٩٢

لها بما تريد ، وكان يحيك ثوبه ، ويخصف نعله ، ويخدم نفسه بنفسه ، ويعاون زوجاته ، وتصف السيدة عائشة حالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند حضور الصلاة وسماع الآذان بأنه كان يسرع إليها كأنه لا يعرفهم ولا يعرفونه ... ، وعلم الصحابة وأمرهم بعدم سؤال الغير ، فمنهم من بايعه على السمع والطاعة وأن لا يسأل الناس شيئا ، فكان السوط يقع من أحدهم فينيخ ناقته ويأخذه بنفسه ... ، وكان خلقه القرآن فما شكا منه أحد وما ضرب أحدا قط ، وما سب أحدا قط ، وما لعن شيئا قط ، وما سمح لأحد أن يغتاب أحدا عنده ... ، وكان كثير الصيام والقيام ، فلقد قام الليل حتى تورمت قدماه محبة فى الله وشكرا له ، وكان يصوم حتى يظن من حوله أنه لا يفطر ويفطر حتى يظن من حوله أنه لا يصوم ، وقال عن فضل الصوم" ما من عبد يصوم يوما فى سبيل الله تعالى إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا" (١).

وكان رفيقا بالأمة ورفيقا بكل من يعامله ، فرغم ما لاقاه من المشركين لم يدع ربه بالانتقام منهم ولكن قال : اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون ، عسى أن يخرج من بين أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئا ... ، وبالفعل خرج عكرمة بن أبى جهل وخالد بن الوليد وكان الوليد بن المغيرة من أشد أعداء الإسلام وكان خالد من أشد أعداء الكافرين ... ، وخرج عمرو بن العاص بفتوحاته الإسلامية وعمر بن الخطاب وغيرهم كثير ... ، ولقد أحس بذلك عمر بن الخطاب رضى الله عنه فبكى كثيرا لفراق النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وردد قائلا ، بأبى أنت وأمى يا رسول الله ، لقد دعا نوح على قومه فقال رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ولو دعوت علينا بمثلها لهلكنا جميعا ، ولكن أبيت إلا أن تقول خيرا فقلت اللهم أغفر لقومى فإنهم لا يعلمون ... ، ومن رفقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يمسح على شعر اليتيم ، ويبدأ الأطفال بالسلام ليعلمهم إفشاء السلام وأمر بالرفق بالحيوان والإحسان إليه عند الذبح بحد الشفرة وإراحة الذبيحة وإطعامها قبل ذبحها وعدم ذبحها أمام أختها ... ، وكان يخاف من الله فيطيل السجود ويفزع من خشية الله ، ويبكى عند القراءة حين يسمع آيات العذاب ، ويقول" لو علمتم ما اعلم

__________________

(١) أخرجه البخارى ومسلم والترمذى.

٩٣

لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا ولصعدتم للصعدات تجارون" ... ، وكان يستعيذ كثيرا من سكرات الموت ومن عذاب النار ويسأل الله الجنة ... ، وكان مجاهدا حتى توفاه الله ، وكان يقول مرابطون إلى يوم القيامة ... ، وكان شجاعا فى كل المواقف والمعارك وجاهد بالنفس والمال وبالكلمة فى كل أحواله ، ووقف يوم حنين جاهرا بصوته" أنا النبى لا كذب أنا بن عبد المطلب" حتى ثبت المسلمون وعادوا إلى مواقعهم ... ، ويصفه على بن أبى طالب فى المعارك قائلا : كنا إذا حمى الوطيس واحمرت الحدق واشتد البأس ، احتمينا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فما نرى أحدا أقرب للعدو منه (١) ... ، وكان يحب الله تعالى فيناجيه ويدعوه كثيرا ، ويرى قرة عينه فى الصلاة فيخشع فيها ويتم ركوعها وسجودها ويطيل السجود لقربه فيه من ربه وكان يداوم على قيام الليل حيث ينادى الله تعالى على عبادة فى الثلث الأخر من الليل مجيبا لما يطلبون ... ، ولقد لقب موسى عليه‌السلام بالكليم ، ولقب إبراهيم عليه‌السلام بالخليل وأخذ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقب الحبيب ... ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفى بالعهد حتى لو كان العهد مع المشركين ، ويكفى أنه بعد سفره مع الصحابة لأداء العمرة تحلل وذبح الهدى حين تعاهد مع المشركين بالرجوع فى هذا العام وبعدها بشره الله تعالى بفتح مكه ، ودخل الناس فى دين الله أفواجا ... ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم داعيا إلى الله تعالى يدعو لكل خير وينهى عن كل شر ويطبق ما يقول على نفسه ، حيث أن الداعى لا بد أن يكون قدوة لغيره ، وأمر أمته بما أمر الله تعالى وهو الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، ورغب فى الدعوة إلى الله ... ، " ولئن يهدى الله بك رجلا واحدا خير" لك من الدنيا وما فيها".

وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم قويا مؤيدا من ربه ، فلقد صارع ركانة وغيره من الأقوياء فصرعهم ، وكان ركانة حين يقف على جلد الذبيحة ويشد به العشرة من الرجال فيتمزق الجلد ولا يتحرك ركانة من مكانه (٢) ... ، ورغم ذلك بين لأمته أنه ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذى يملك نفسه عند الغضب" (٣) ... ، كما بين أن أكيس الناس وأذكاهم

__________________

(١) مجلة منار الإسلام ـ عدد خاص فى ذكرى مولده صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٢) أنظر دلائل النبوة للبيهقى.

(٣) من حديث أبى هريرة ـ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم" ليس الشديد بالصرعة ـ إنما الشديد الذى يملك نفسه عند الغضب" رواه البخارى ومسلم

٩٤

هو أكثرهم للموت ذكرا وأحسنهم لما بعده استعدادا ... ، وبين أن المفلس هو من أخطأ فى حق الناس وأكل أموالهم بالباطل وليس هو من لا يملك الدينار أو الدرهم ... ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم مؤيدا من ربه فى كل المواقف فلقد كانت تظلله السحابة فى سفره ... ، وخرج من وسط الكفار دون أن يراه أحدا منهم ... ، ونسج له العنكبوت خيوطه على الغار حتى لا يراه المشركين ... ، وغاصت أقدام الفرس الذى يحمل سراقة بن مالك فى الأرض الصلبة حين اقترب من النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريد قتله ... ، وحين عزم أبو جهل على قتله تشكلت الملائكة الموكلة بحفظه فامتلأ خوفا ورعبا وتراجع عن عزمه ... ، ولقد كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم نورا فى وجه أبيه عبد الله رآه الكثيرون وحين تزوج بالسيدة آمنه انتقل هذا النور إليها ... ، ولقد ولد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مختونا بين كتفيه خاتم النبوة ، ولقد طلب أحد الرهبان من عمه فى إحدى أسفاره أن يرى ما بين كتفيه ، فرآه كبيضة الحمامة معرجا من جسده ولا يكون إلا فى الأنبياء ... ، ولقد أسرى به وعرج بالبراق إلى السماوات العلى ليسبق بتأييد ربه ما لم يستطع أن يصل إليه الباحثون بسفن الفضاء على مر العصور وفى إحدى غزواته صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ حفنة من التراب ورمى بها فى وجوه المشركين أثناء المعركة فكانت كافية لإعاقتهم جميعا عن قتال المسلمين يقول تعالى (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) (١) ... ، وهذا التأييد ليس للنبى خاصة ولكن لكل مؤمن خالص الإيمان ، والأمثلة كثيرة ... ، ففي عصرنا حين سخر أحد القواد غير المسلمين من مجموعة من الشباب المسلم فقال لهم بعد أن أراد قتلهم : إن كان لكم رب فاستغيثوه ليغيثكم ، فقالوا : اللهم أغثنا يا رب ، تقول الصحف ، لقد نزلت جنودا من السماء وهى كتيبه من الملائكة دمرتهم واختفت كأن شيئا لم يكن (٢) ... ، هناك الشهيد الذى أخرجوه من قبره بعد ستة أيام وكان جسده كما هو ... ، والشهيدة زينب من فلسطين التى كان حجابها يغطى رأسها ولم يتأثر وجهها رغم شدة الانفجار ... ، وهناك من مرت عليه الدبابة ولم يتأثر حيث أن الأعمار بيد الله ... ، وحين سخروا من شاب مسلم أخذوه أسيرا وسألوه هل يستطيع بحجرا فى يده أن ينسف مجموعة من معداتهم إن كان واثقا بربه ، وجمعوا المصورين والإعلاميين تندرا بالأمر ، فاستعان الشاب بربه وردد قوله تعالى (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) فنسفت عن

__________________

(١) سورة الأنفال الآية ١٧

(٢) ذكر ذلك بإحدى المجلات الإسلامية ـ عن انتصارات المسلمين وتاييد الله لهم فى افغانستان وقد اشار الشيخ عبد المجيد الدنداني لبعض المواقف ـ فى أحاديث عن الاعجاز العلمى فى القرآن

٩٥

آخرها وفروا هاربين وأسلم أحد الصحفيين ولنا عبرة أيضا فى انتقام الله تعالى من العصاة فى زماننا ففي إحدى البلاد حين استهانت مجموعة بكتاب الله خسف الله بهم الأرض ... ، وهناك البلاد التى خالفت أوامر الله ورضوا بالمنكر والفساد فكانت الزلازل الشديدة التى تنبأ بها النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبحدوثها فى أخر الزمان حين ينتشر الفساد ... ، لقد كان النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ينطق عن الهوى فهو الذى قال عن ابى ذر فى غزوة تبوك حين تخلف عن الصحابة عند ما أجهد بعيره الجوع والظمأ فنزل وأخذ متاعه وحمله على ظهره ومضى يسير على قدميه وسط الصحراء برغم القيظ الشديد ، وحين أبصره النبى قادما على هذا الحال ، ابتسم فى وجهه قائلا ، يرحم الله أبا ذر ، يمشى وحده .. ويموت وحده .. ويبعث وحده ، وبالفعل مشى وحده فى تلك الغزوة ومات وحده فى قلب الصحراء فى عهد عثمان رضى الله عنه فى منطقة الربذة حين طلب من الخليفة أن يأذن له بالخروج إليها ليعيش وحيدا بعيدا عن الناس وعن فتن الثراء والمال فى عهد الخليفة عثمان رضى الله عنه حيث كثرت الفتوحات الإسلامية وهو يوم القيامة سيبعث وحده من هذا المكان (١) ....

وحين عجزت معاول الصحابة عن تحريك صخرة عاتية أثناء حفر الخندق ، فذهب الصحابة إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسمى الله ورفع كلتا يديه القابضتين على المعول فى عزم وقوة وهوى على الصخرة فإذا بها تتصدع ويخرج من ثنايا صدعها وهجا شديدا أضاء جوانب المدينة ، فهتف صلى‌الله‌عليه‌وسلم الله أكبر .. أعطيت مفاتيح فارس ، ولقد أضاء لى منها قصور الحيرة ومدائن كسرى وإن أمتى ظاهرة عليها ... ، ثم رفع المعول وضرب الثانية فأضاءت الصخرة بوهج شديد ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم الله أكبر .. أعطيت مفاتيح الروم ولقد أضاء لى منها قصورها الحمراء وإن أمتى ظاهرة عليها ، ثم ضرب الثالثة فأضاءت فهلل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخبر الصحابة أنه يبصر قصور سورية وصنعاء وسواها من مدائن الأرض التى سيدخلها الإسلام ... ، وعندها قال الصحابة" هذا ما وعدنا الله ورسوله

__________________

(١) رجال حول الرسول ـ خالد محمد خالد ـ فى الحديث عن الصحابى أبى ذر رضى الله عنه.

٩٦

وصدق الله ورسوله" (١) .. ، وبالفعل تحققت كل تلك النبوءات فى عهد الصحابة والخلفاء الراشدين حيث الفتوحات الإسلامية شرقا وغربا حيث سقطت إمبراطورية الروم وإمبراطورية الفرس فى عهد عمر بن الخطاب رضى الله عنه ، ثم توالت الفتوحات وتم فتح العرق وسوريا وصنعاء ومصر والقسطنطينية والأندلس وإفريقية وغيرها ... ، ولقد كان نهر دجلة بين المسلمين والرومان وتصف لنا إحدى الروايات التاريخية روعة المشهد والمسلمون بقيادة سعد بن أبى وقاص يؤيدهم الله فيعبرون نهر دجلة بفرسانهم دون سفن ولكنها العقيدة واليقين الثابت ، فلقد أمر سعد المسلمين أن يقولوا حسبنا الله ونعم الوكيل ثم اقتحم بفرسه دجله واقتحم المسلمون وراءه ... ، وكان عدد جنود الفرس مائة ألف مقاتل مسلحين بالعتاد والسلاح وعدد المسلمين ثلاثين ألفا فى أيديهم الرماح ولا يملكون من الأسلحة ما تملكه جنود الفرس ، وبدأت المعركة وتهاوى جنود الفرس كالذباب المترنح ، وتهاوت معهم الوثنية وعبادة النار وفروا مهزومين بعد مقتل قائدهم رستم وطاردهم جيش المسلمين بقيادة سعد بن أبى وقاص حتى نهاوند ثم المدائن ، فدخلوها ليحملوا إيوان كسرى وتاجه غنيمة وفيئا إلى الخليفة عمر بن الخطاب رضى الله عنه لتتحقق بذلك نبوءة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢) وغير ذلك من الانتصارات بقيادة خالد بن الوليد ضد الرومان وغيرهم حتى اكتملت الفتوحات الإسلامية بانتشار نور الإسلام فى كل الأرجاء ... ، ولقد وجد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم غلاما يرعى غنما لعقبة بن أبى معيط ، فقال له هل عندك من لبن تسقينا؟ وكان معه أبو بكر الصديق ، فقال الغلام : إنى مؤتمن ولست ساقيكما فطلب منه النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأتيه بشاة لم ينز عليها الفحل فمسح ضرعها ودعا ربه فحفل الضرع باللبن ، ثم أتاه أبو بكر بصخرة متقعرة فاحتلب فيها ، فشرب أبو بكر وشرب الغلام ، ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم للضرع أقلص فقلص فقال الغلام للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : علمنى من هذا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنك غلام معلم ، وبالفعل تتحقق نبوءة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حيث كان هذا الغلام هو عبد الله بن

__________________

(١) ذكر ذلك ـ الأستاذ ـ خالد محمد خالد فى كتابه رجال حول الرسول ـ فى الحديث عن انتصارات المسلمين حيث انتصر المسلمون فى معركة القادسية بقيادة سعد بن أبى وقاص ـ وغيرها ـ وفتحوا بلاد الفرس وتحققت نبوءة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند حفر الخندق.

(٢) نفس المرجع السابق.

٩٧

مسعود أول من صدح بالقرآن الكريم فى وجه المشركين وكان حافظا للقرآن الكريم ، عالما بسنة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال عنه أمير المؤمنين" لقد ملئ فقها" وقال عنه أبو موسى الأشعرى" لا تسألونى عن شىء ما دام هذا الحبر فيكم" ، ومن كلماته إنى لأمقت الرجل إذا أراه فارغا ليس فى شىء من عمل الدنيا ، وعمل الآخرة (١) ... ، وهو يشير بذلك أنه على الإنسان أن يغتنم فرصة العمر بالعمل النافع الذى يرفع من شأنه فى الآخرة ويحميه فى الدنيا من ذل السؤال وحين يسقط جدار (على عمار رضى الله عنه ويظن الصحابة أنه قد مات ، فيقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما مات عمار ... تقتل عمارا الفئة الباغية) (٢) وبالفعل لم يصبه شىء حتى يشارك فى معركة صفين فى صفوف على بن أبى طالب ضد جنود معاوية ابن أبى سفيان وكان جنود معاوية يتجنبون قتله حتى لا يكونوا الفئة الباغية ، لكن بأسه الشديد فى المعارك جعل جنود معاوية يقتلونه وعندها ينضم الكثيرون من صفوف معاوية إلى صفوف الإمام على رضى الله عنه لصدق النبوءة (٣) ولقد دعا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعبد الله بن عباس أن يعلمه الله تعالى الفقه والتأويل وتحقق ما دعا به ... ، ودعا لأنس بن مالك بالبركة فى عمره وماله وولده وبالفعل تحققت الدعوة وعاش أنس طويلا وكثر ماله وبارك الله له فى ولده ... ، ولقد دعا بالنصر لخباب على من كانوا يؤذونه ويحرقونه فأصيبت أم أنمار بمرض فى رأسها كانت لا بد أن تكوى على رأسها كل يوم لتشفى من هذا المرض ... ، ولقد دعا لعزة الإسلام بأحد العمرين وبالفعل أسلم عمر بن الخطاب رضى الله عنه ... ، ولق تنبأ باستشهاد زيد بن حارثة وجعفر بن أبى طالب وعبد الله بن رواحة فى غزوة مؤتة وهو يجلس بالمدينة مع بعض الصحابة أثناء المعركة الدائرة بالشام ثم قال : ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله ففتح الله على يديه وبالفعل تم الفتح بفضل الله على يد خالد بن الوليد الذى أخذ الراية من عبد الله بن رواحه بعد استشهاده (٤) ... ، ولقد أخبر عمير بن وهب حين

__________________

(١) رجال حول الرسول ـ خالد محمد خالد ـ فى الحديث عن عبد الله بن مسعود.

(٢) نفس المرجع السابق ـ الحديث عن عمار بن ياسر.

(٣) نفس المرجع السابق.

(٤) نفس المرجع السابق.

٩٨

قدم إليه من مكة بعد غزوة بدر بحجة ابنه الأسير الذى أسره المسلمون وجاء ليفديه بالمال ، فأخبره النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشرطه مع صفوان بن امية وهو أن يقتل النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن يعول صفوان أولاده ويقضى دينه ، ففزع عمير وأعلن الشهادتين ، ثم قال : هذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان (١) ... ، وأقر أن هذا لم يكن إلا الوحى للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من السماء ... ، ولقد قال عن طلحة بن عبيد الله" من سره أن ينظر إلى رجل يمضى على الأرض وقد قضى نحبه فلينظر إلى طلحة" (٢) وبالفعل فلقد كان من المطالبين بالثأر لدم عثمان رضى الله عنه مع جنود معاوية ولكنه ينسحب حين يستمع إلى كلمات الإمام على الذى كان يرى تأجيل ذلك والتروى لتفرق الجناة وحقنا لدماء المسلمين وعند ذلك يرميه مروان ابن الحكم بسهم يؤدي بحياته وتصدق فيه نبوءة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣) ... ، ولقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم" من يبسط رداءه حتى يفرغ من حديثى ثم يقبضه إليه فلا ينسى شيئا سمعه منى" فبسط أبو هريرة ثوبه ثم ضمه إليه" يقول أبو هريرة فو الله ما كنت نسيت شيئا سمعته منه وروى الكثير من الأحاديث ... ، ولقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم" رب أشعث أغبر ذى طمرين لا يؤبه له ، لو أقسم على الله لأبره ، منهم البراء بن مالك" (٤) ... ، وحين التحمت الجيوش اقترب منه أحد الصحابة فى موقعة تستر ضد الفرس وبعد أن صرع البراء وحده مائة مبارز من الفرس ، قال له الصحابى : أتذكر يا براء قول الرسول عنك ، ثم طلب منه أن يقسم على ربه ، فرفع البراء ذراعيه إلى السماء قائلا" اللهم امنحنا أكتافهم ، اللهم اهزمهم ، وانصرنا عليهم ، والحقنى اليوم بنبيك" واندفع يقاتل فى شجاعة واستبسال لا نظير له ، ولقد استجاب الله دعوته فكان النصر وكانت الشهادة للبراء بن مالك رضى الله عنه .. ، وحين أسر العباس بن عبد المطلب رضى الله عنه قبل إسلامه ، وطلب منه النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يفدى نفسه بالمال ، فقال : من أين وقد تركتنى فقير قريش فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وأين المال الذى دفعته لأم الفضل ، وهى زوجته ولقد أخبره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله لها : إن قتلت تركتك غنية ما بقيت ، فقال أشهد أن الذى تقوله قد كان ، وما اطلع عليه

__________________

(١) انظر معجزات النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أحمد رجب محمد ـ مطبعة محمد صحيح.

(٢) رجال حول الرسول ـ فى الحديث طلحة والزبير رضى الله عنهما .. ،.

(٣) نفس المرجع السابق.

(٤) انظر الحديث عن البراء بن مالك ـ بنفس المرجع السابق.

٩٩

إلا الله ، ونطق الشهادتين بحضرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (١)

وهناك الكثير من النبوءات التى تحققت لا يتسع المجال لها ، ولكن تكفينا العبرة مما تقدم ليستقر الإيمان فى قلوبنا وندرك باليقين الثابت أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان لا ينطق عن الهوى ، فنقتدى به لنجنى ثمار الإيمان ... ، جنة خالدين فيها ... ،

٢١ ـ الإعجاز فى صنع الإيمان بأصحابه

إن الإيمان يصنع دائما أقوى الرجال ، حيث الأمل فى نعيم الله تعالى ، وما أعده لعباده الصادقين ، فلقد كان القعقاع بن عمرو صوته بألف رجل فى المعارك ... ، وكان الزبير بن العوام بألف رجل فى المعركة ... ، وكان أبو دجانة يعصب رأسه بشارة حمراء ويرفع سيفه ويتمايل مزهوا أمام الأعداء ، وحين سئل النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك ، فقال تلك مشية يبغضها الله ورسوله إلا فى هذا الموضع (٢) ... ، ولقد كان البراء بن مالك يبحث دائما عن الموت ففي إحدى معارك المسلمين ، قذف بنفسه بداخل حديقة احتمى بها بعض المشركين من أتباع مسليمة وفتح الباب للمسلمين ، وكان ذلك بداية النصر وقهر المرتدين (٣) ... ، وهذا هو طلحة بن عبيد الله الذى جن جنونه حين رأى الدم الذى يسيل من وجه رسول الله يوم أحد فانطلق نحو النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كالصقر ، وأخذ يحصد الرءوس من حوله ويدفع بصدره السهام ، حتى أنه فى نهاية المعركة كان قد أصابه بضع وسبعون طعنة ورمية وضربة ... ، ومثله كان الزبير بن العوام الذى كان واثقا ثابتا لا يتراجع ، وهو الذى اقتحم صفوف هوازن يوم حنين وشتت شملهم وهم يدبرون المؤمرات قبل بدء المعركة ولقد أنفق أمواله حتى مات مدينا ، فأوصى ولده بقضاء دينه ، وقال له إذا أعجزك دين فاستعن بمولاى ، يقصد الله تعالى فيقول عبد الله بن الزبير : فو الله ما وقعت فى كربة من دين إلا قلت : يا مولى الزبير اقض دينه فيقضيه" (٤).

__________________

(١) معجزات النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٢) انظر البداية والنهاية ـ فى الحديث عن مواقف للصحابة.

(٣) رجال حول الرسول ـ فى الحديث عن البراء بن مالك.

(٤) رجال حول الرسول ص ١٣٦ الجزء الثالث.

١٠٠