إعجاز القرآن العلمي والبلاغي والحسابي

محمّد حسن قنديل

إعجاز القرآن العلمي والبلاغي والحسابي

المؤلف:

محمّد حسن قنديل


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن خلدون
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٠٢

ليلا وهو الرجل السابق ذكره الذى كان يردد هذا الدعاء قبل خروجه إلى عمله ... ، يقول اللص لم أجد بابا لمنزله ، فذهب إلى النوافذ فأقسم أنه لم يجد نوافذ أيضا فأدرك إمام المسجد بركة هذا الدعاء ، وكان هذا الموقف من المواقف الواقعية التى حدثت معه يحكيها فى دروسه للعبرة ... ، ولو عدنا للصدقة نقول إنها أيضا تمنع الحسد ... ، يقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم" اتقوا سم العيون" ... ، لقد حكى لى أحد الناس عن امرأة نظرت إلى إحدى الأنعام التى يمتلكها وبعد لحظات وجدها تكرر دفع رأسها بقوة فى الحائط ... ، ومن نظرت إلى الفطير وهو يخرج من التنور وعند تناوله وجدوه قد أخذ طعما حمضيا ... ، ومن تعجب من إحدى الأنعام التى يمتلكها جاره حيث تدر لبنا كثيرا ، وفى اليوم التالى وجد أنها تدر دما بدلا من اللبن الصافى ... ، فعلى الإنسان ليكمل إيمانه أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه وأن يدرك أن الله تعالى يبغض البخيل ، والعاصى والمتكبر ، ويحب الكريم الطائع المتواضع ... ، يحب الرحماء الراضين ويبغض القساة الحاسدين ... ، وهو سبحانه الصبور يصبر على العصاة حتى يتوبوا ... ، وهناك من سفكوا الدماء ... ، وهناك من ظلموا وأكلوا الأموال بالباطل ... ، وهناك من اعتدوا واغتروا بقوتهم ... ، وهناك من وأدوا البنات أحياء (١) ... ، وهناك من افسدوا وأحرقوا ... ، ورغم ذلك صبر عليهم من قال عن نفسه (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) (٢) فسبحانه فى كل وقت وحين ، وما أرحمه ربا وما أكرمه ... ، خلق سبحانه الإنسان فى كبد ... ، أى فى تعب ومشقة وكفاح حتى يشعر بجمال النعيم والراحة فى الجنة ... ، لقد سئل الإمام أحمد ، متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال : عند أول قدم يضعها فى الجنة ... ، وصدق من قال : النعيم لا يدرك بالنعيم ومن طلب الراحة فاتته الراحة ... ، وبقدر احتمال المشاق تكون الفرحة واللذة ، فلا فرحة لمن لا هم له ... ، ولا لذة لمن لا شقاء له ، ولا راحة لمن لا تعب له ... ، وصبر ساعة خير من عذاب الأبد ... ، ومن الصبر نتعلم الحلم والتؤدة فى السعى وفى كل شىء والصبر من صفات المؤمن المطمئن الواثق بما عند الله ، وأنه الخالق الرزاق ، المجيب ... ، يقول أحد

__________________

(١) كان هذا فى الجاهلية.

(٢) سورة طه الآية ١٠٥.

٦١

الصالحين علمت أن رزقى لا يأخذه غيرى فاطمئن قلبى" ... ، وكان هذا هو سر زهده فى الدنيا ، وزهده فيما عند الناس ... ، يقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم" ازهد فى الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس" (١) ... ، كذلك فإن المعاملة الحسنة مع الناس وفى المنزل دليل خيرية العبد عند ربه ، ويقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم" خيركم خيركم لأهله وانا خيركم لأهلى" (٢) ... ، إنه دين الرحمة فى كل شىء ... ، وهو الدين المعجز لمن يتفكر ، فلقد اتقن الله تعالى كل شىء فالإتقان والتوازن فى الذرة لا يختلف عن الإتقان والتوازن فى المجرة ، ويسجد لله تعالى كل ما فى الكون ، وسجود الإنسان معناه الطاعة لله وتنفيذ أوامره وسجود الكائنات معناه الانقياد لأوامر الله أيضا ... ، فالشمس تدور فى فلكها لا تحيد عنه ، وعلى مسافة مناسبة من الأرض حتى لا تحترق الكائنات بقربها أو تتجمد ببعدها ، ومن علامات سجود القمر أنه يبتعد قليلا عن الأرض فى كل عام ليحافظ على سرعة دوران الأرض حول نفسها حتى لا يطول النهار فتشتد الحرارة وتتبخر المياه أو يطول الليل فيختل نظام الكون ... ، وهو يدور فى فلكه بانتظام ، وكما قال أحد العلماء وصور هذا الانتظام الذى يعد طاعة وسجود لأوامر الله ، بقوله : هل يستطيع إنسان أن يدير حجرا حوله بحبل ويصبر على ذلك يوما ... ، وما ذا لو كان شهرا ... ، وما ذا لو كان عاما ، وكيف لو كان هذا الانتظام بدون الحبل؟! ... ، إنه التوازن الإلهى ، والقدرة ... ، والعلم المحيط ... ، فعلينا أن نطيع الله فإن عذابه شديد ، فالزانى المحصن يرجم بالحجارة ، والسارق تقطع يده ، والذى بخل بالزكاة يكون بالذهب الذى يكنزه ، وإن كانت غنما تأتى يوم القيامة تنطحه بقرونها رغم شدة الموقف ... ، ويخبرنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه" من ترك صلاة العصر متعمدا فقد حبط عمله" (٣) ... ، وفى معنى آخر" فكانما وتر أهله وماله" (٤) ... ، فالجنة طريقها الطاعة وعدم الشح وعدم نسيان الذنب

__________________

(١) سنن ابن ماجة (٢ / ١٣٧٣) صححه الألبانى.

(٢) رواه ابن حبان فى صحيحه ـ عن عائشة رضى الله عنهما ـ الترغيب والترهيب ـ الجزء الثالث ـ ص ٤٩ ـ الريان المتراث.

(٣) رواه أحمد باسناد صحيح.

(٤) يقول أبو الدرداء رضى الله عنه" أوصانى خليلى صلى‌الله‌عليه‌وسلم" أن لا تشرك بالله شيئأ وإن قطعت وإن حرقت ولا تترك صلاة مكتوبة معتمدا فمن تركها متعمدا فقد برئت منه الذمة ـ ولا تشرب الخمر فإنه مفتاح كل شر" رواه ابن ماجة والبيهقى ـ الترغيب والترهيب ـ الجزء الأول ـ ص ٣٨١ ـ والمعنى المشار إليه من حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم" الذى تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله" رواه مالك والبخارى ـ المرجع السابق ص ٣٠٨.

٦٢

وعدم الخشية إلا من الله ، والرضا والقناعة ... ، إن الصلاة لكى تقبل منك لا يكفى أن تكون خاشعا فيها فقط أو أن طعامك يكون من الحلال ولكن يخبرنا الله تعالى فى حديث قدسى أنه يتقبلها" ممن تواضع بها لعظمته وقطع نهاره فى ذكر الله ، ولم يستطل على خلقه سبحانه ، ورحم المسكين والأرملة ورحم المصاب" ... ، إن الله تعالى خلق الإنس والجن للعبادة .. ، وخلق الموت والحياة لابتلاء الإنسان ، وفى الحياة ينشط الجسد المادى ويحاول أن يتغلب على الروح وذلك بحب الشهوات والاندفاع إليها ... ، والإيمان هو حصن المؤمن عند ذلك ، وبعد الموت يكون النشاط للروح ويبلى الجسد المادى ، ويختلف الزمن ، ويكون بصرك حديد ، وينكشف لك ما لم تكن تراه من قبل عند احتباس الروح فى الجسد المادى ... ، ومن يبعث يظن أنه ما لبث غير ساعة ... ، والإنسان ينسى دائما أنه فى ابتلاء ويندفع نحو الدنيا ، حيث تختلف الأرزاق ... ، وتختلف البيئات ، وتختلف الأسر ، وتختلف ميول ومواهب الأشخاص ، وتختلف الصور ، وتختلف درجات العلم والمعرفة ، ويختلف صلاح الوالدين وهم دعامة الأسرة ، وتختلف مواعيد الموت وأشكاله ، فهناك من يموت صغيرا ، ومن يموت شابا ومن يموت شيخا لعل الناس لا تركن للدنيا ... ، فلا تكن محدودا بفكرك فيما أنت فيه ، بل اعتبر من كل ما يحدث حولك ، فكل شىء فى الحقيقة هو عبرة وموعظة لمن يتفكر والحمد لله فى كل وقت ... ، ويكفى أنه سبحانه لم يشدد علينا رغم قوته ... ، وليعتبر كل منا من الموت وأشكاله ، ويسأل الله أن يغفر ويرحم ... ، هناك من تألموا فى الدنيا ابتلاء رغم أنهم من الصالحين ، فما بالنا بالمذنبين الغافلين عن ربهم واللذين نسوا ذنوبهم إنها حكمة الله وأسراره ، إن الإنسان لو تصور ظلمة القبر ووحشته حين يغلق على الإنسان منفردا حيث لا زوجة ولا ولد ... ، لا طعام ولا شراب ... ، لا ضوء ولا هواء ... ، لا نوافذ ولا أبواب ، ومع ذلك تمتص الأرض فى تلك الحفرة التى تحتضن الإنسان حرارة الشمس وطاقتها صيفا وزمهرير البرد شتاء ... ، لو يعلم الإنسان ذلك لما ظلم أو أكل الحقوق أو تكبر أو اغتر بالدنيا ... ، ولو تصور قدرة الله فى تنظيم الكون بما يحتويه من الكواكب والنجوم وأصناف البشر واختلاف الألسنة واللغات والبيئات والثقافات ، والمجتمعات ... ، من المجتمع الزراعى بما يحتويه من صور الكفاح

٦٣

والآمال ، والسعادة على مر السنين ، إلى المجتمع الحرفى بما يشمل من الصور المختلفة من الإتقان والجهد فى مجال العمل كالأنوال اليدوية وإنتاج الخزف والفخار والفن المعمارى القديم الذى يشهد بكفاح البشر على مر السنين ، إلى المجتمع الصناعى ، حيث تقدم الصناعات والتوسع فى مجال التبادل التجارى وتقدم وسائل الاتصال والانتقال والتقدم العلمى ... ، يرزق سبحانه ما هو فى عالم الفضاء ، وما فى عالم البحار ، وما فى باطن الأرض وما على ظهرها من عوالم ... ، كعالم البشر ، والطير ، والنحل ، والنمل وغيرهم .. ، إن القوة لله ، والفائز من يدفع بالتى هى أحسن ، يصل من قطعه ويعفو عمن جهل عليه ويحسن إلى من أساء إليه ، ويعطى من حرمه ، ولا يركن للذين ظلموا فتمسه النار يقول تعال (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) (١) ... ، ولنعلم أن الفتن تموج وتختلط ، ويطمع الإنسان وفى النهاية تكون السعادة فى خضوع الجوارح لقسمة الله ، وعندها يكون الرضا والستر والبركة منه سبحانه وتعالى ... ، سبحانه علم بكل ورقة تسقط ، ويعلم بأحوال عبادة فى كل مكان على اختلاف ألوانهم وألسنتهم وأرزاقهم وعلمهم ... ، فسبحان من أحاط علمه بكل شىء ، بالظاهر والباطن والسر والعلن ، وسبحان من أحصى فى كونه الممتد كل شىء عددا ... ،

١٤ ـ قدرة الله ومواقف للعبرة

كثيرا من آيات القدرة يظهرها الله تعالى للعبرة والموعظة ليتذكر الإنسان أن الله تعالى هو العليم البصير ... ، فهناك من شق إحدى ثمرات الطماطم فوجد فى ناحية منها عبارة لا إله إلا الله وفى الناحية الأخرى الله بخط واضح (٢) ... ، وآخر وجد جريدة نخل متعرجة مكتوب عليها لفظ الجلالة ... ، وطفل فى رأسه بخط بارز تبدو كلمة التوحيد لا إله إلا الله ... ، وطفلة مكتوب على كتفها بخط واضح عبارة التوحيد ، وفى إحدى البرامج المرئية عرض أرنب على فروة يبدو بخط واضح غير لونه السائد عبارة لا إله إلا الله (٣) ... ، وفى إحدى قرى الصعيد أراد رجل قتل ابن أخيه وهو الوارث

__________________

(١) سورة هود الآية ١١٣.

(٢) شوهد ذلك فى إحدى البرامج المرئية ـ ويعرف ذلك من شاهد هذا الإعجاز ـ وهى مواقف ليعتبر منها من شغلتهم الدنيا.

(٣) كما بالبند السابق.

٦٤

الوحيد لينال هو أولاده تلك الثروة ، وعند ما شرع فى ذلك سقط عليه منزله ولم ينل شيئا يقول تعالى (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (١) ... ، فاعلم أنك تفكر والله مطلع عليك يقول سبحانه (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) (٢) ... ، إن من آيات قدرة الله تعالى اختلاف ألوان البشر واختلاف ألسنتهم ، واختلافهم فى القدرات منهم من يبرع فى الاختراع أو التقليد ، ومنهم من يبرع فى الحفظ ... ، كان الإمام الشافعى رضى الله عنه يخفى أحد الصفحات وهو يقرأ الأخرى حتى لا يحفظها فتشغله عن القراءة لسرعة حفظه ... ، وهناك من يبرع فى التجارة أو الطب أو الحكمة أو غير ذلك من الأمور ومختلف العلوم ... ، وهناك من يبرع فى غرائب الأمور كمن يتمكن من مضغ الزجاج وهضمه ... ، أو ثنى قطعة المعدن بجفنيه وغير ذلك من غرائب الأمور ... ، فسبحانه يزيد فى الخلق ما يشاء ... ، ومن آيات الله اختلاف الناس فى كل شىء ... ، فى الأرزاق ، والغنى والفقر ... ، والصحة والمرض والهدى والضلال ... ، والأخلاق والصفات ، فهناك الكريم والبخيل ، والمتواضع والمغرور ... ، والقوى والضعيف ... ، والصابر ومن يجذع فى الشدائد والمحن ... ، وهناك الفقير الأمى ، والراضى بقضاء الله والمحب لإخوانه ولمن حوله فلا يحسد من هو فوقه ... ، وهناك الفقير الأمى الذى يحسد ويكره من فضّله الله فى شىء ، وهو بذلك يترك الصلاة والعبادة بحجة الفقر والسعى على المعاش ... ، لقد نسى قوله تعالى فى الحديث القدسى مخاطبا عبده" تفرغ لعبادتى أسد فقرك" (٣) ... ، إنها اختبارات العليم الخبير ... ، تشريعه سبحانه ثابت ولكن يختلف الناس بين الغنى والفقر ، والعلم والجهل ... ، والصحة والمرض ، والبيئة واللغة ... ، والرضا والجذع والطمع ... ، فعلى المبتلى أن يصبر وعلى المبتلى أن يشكر ... ، وعلينا أن ندرك أن الله تعالى قطع سلطان العباد فى الأرزاق والآجال ، فلا بد من التوكل على الله فمن نزلت به فاقه

__________________

(١) سورة الأنفال الآية ٣٠.

(٢) سورة الحديد الآية ٤.

(٣) أنظر ـ صحيح الأحاديث القدسية للشيخ مصطفى العدوى.

٦٥

وانزلها بالناس لم تسد فاقته ، ومن نزلت به فاقه فأنزلها بالله يوشك الله له برزق عاجل أو آجل ... ، إن مسئوليات المؤمن كبيرة ، والويل لمن عصى ربه ، فلو يسمع الناس ما فى القبر من العذاب للمقصرين الغافلين ما تدافنوا ... ، ويكفى أن الميت يعذب ببكاء أهله (١) ... ، لأنه لم يوصيهم قبل موته بالرضا بقضاء الله ... ، والرضا هو طريق الجنة ، والمؤمن أحواله كلها خير ، فصبره على البلاء عبادة ، وصبره على الفقر وشكره لله نوع من أنواع العبادة حيث إن غيره يتلذذ بالحرام ولم ينجح فى صبره كما نجح الفقير ، والحكيم من ينظر إلى الخلائق على اختلاف طبقاتهم وأحوالهم أنهم فى ابتلاء واختبار ، الفائز فيه من صبر ورضى على كل حال ... ، لقد شهد الله والملائكة وأولوا العلم أنه لا إله إلا هو العزيز الحكيم ، فأى شىء بعد شهادة الله ... ، لقد كان مصير فرعون الذى قال أنا ربكم الأعلى أن يغرقه الله ويملح جسده ليكون آية للناس جميعا وصدق صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قال" إن الله يملى للظالم فإذا أخذه لم يفلته" (٢) ... ، والويل لمن يشك أو يرتاب فى إيمانه ... ، لقد قال إبراهيم عليه‌السلام (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) (٣) ولم يقل رب أرنى هل تحى الموتى ... ، لقد وجد العلماء أن عوالم الكون من شمس وقمر وأرض وافلاك وبحار وما اكتشفوه من عوالم دقيقة تحت المجاهر وهى أكثر عددا مما نراه ، كل شىء فيها يسير بإتقان ، حتى أن الذرة الدقيقة أو قطرة الماء حين صوروا ما يدور بها بالأجهزة الدقيقة ، هو بنفس إتقان العوالم الأخرى من مدارات ومجالات ، وحركات لا تتوقف ، فسبحان الذى أحسن كل شىء خلقه ... ، إن ما بداخل الذرة كون عظيم يتساوى فى الدقة مع ما يحدث بالمجموعة الشمسية الهائلة (٤) ، وبالفعل من ينظر ويتأمل لا يرى فى خلق الرحمن من تفاوت ... ، هناك الملايين من الخلايا العصبية فى العين ... ، ويحتوى الدم على ملايين الكرات الحمراء ... ،

__________________

(١) شرح حديث نبوى ـ عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال : قال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم" الميت يعذب فى قبره" بما نيح عليه" رواه البخارى ـ ومسلم ـ وابن ماجة ـ الترغيب والترهيب ص ٣٤٨ الجزء الرابع ـ الريان للتراث.

(٢) جزء من حديث رواه البخارى ومسلم ـ الترغيب والترهيب ـ الجزء الثالث.

(٣) سورة البقرة الآية ٢٦٠.

(٤) أنظر الإعجاز العلمى فى القرآن ـ الدكتور السيد الجميلى ..

٦٦

وملايين الكرات البيضاء لمهاجمة الميكروبات ، وملايين الصفائح الدموية لمنع النزيف ، (١) وغير ذلك الكثير من آيات الإبداع فى كونه الممتد ، والعوالم التى يدبر أمرها ويرزق أصنافها جميعا ... ، فكن أيها المؤمن كريما وتعلم من صفات الله واعف عمن أساء إليك فربك هو العفو ... ، ولا تحسد ، وتمنى لأخيك ما تحبه لنفسك ، ولو كان عنده ما ليس عندك فلا تتمنى زواله عنه بل تمنى له المزيد ، وتمنى أن يسعد بما عنده ، فسبحان من يطعم وإلا يطعم ، وسبحان من يمنحك الزوجة والولد وليس له زوجة ولا ولد ... ، إن الضمير الذى ارتبط بفطرة الإنسان أزلا يتجلى فى قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا) (٢) هو من أسرار وتوازن الكون ، وهو الذى يكف الظالمين عن ظلمهم ... ، ومن استمع إليه اهتدى ومن لم يستمع إليه ضل سواء السبيل ... ، والله جعل الإيمان غيبا لتظل فى تفكر وذكر طول عمرك ، ولتستحق فضله لأنك سجدت دون أن تراه ، وخشيته بالغيب ، وكان يقينك لمعرفتك بنعمة الظاهرة والباطنة ... ، سبحانه جعل المواد السامة فى النبات بنسب ضئيلة جدا لتفيد الإنسان ولا تصبح سما يقتله كالرصاص فى البصل وغير ذلك الكثير من الأمثلة مع العناصر الأخرى ، فالصوديوم نجد أنه مادة حارقة والكلور مادة سامة واتحادهم يعطى كلوريد الصوديوم وهو ملح الطعام المعروف المفيد واللازم لاحتياجات الإنسان .. ، والأكسجين يساعد على الاشتعال والهيدروجين مادة تشتعل بفرقعة ولا يستطيع الإنسان أن يشرب الهيدروجين وحده أو الأكسجين وحده ، ولكن اجتماعهم يعطى الماء الذى يشربه الإنسان ، وهو رغم ذلك يطفئ النار ، فسبحان العليم الخبير ... ، إن القرآن الكريم ، والمنهج الإسلامى ملئ بألوان الإعجاز البلاغى والعلمى والرياضى ، والنفسى والتشريعى ، فالصلاة تنشط الجسد والزكاة تطهر النفس من البخل ، والحج مؤتمر اجتماعى يتعارف فيه الخلق ، والقصاص رحمة لأن فى إقامته منع حدوث الجرائم ... ، حين بشرت الملائكة إبراهيم

__________________

(١) نفس المرجع السابق.

(٢) سورة الأعراف الآية ١٧٢.

٦٧

عليه‌السلام بإسماعيل عليه‌السلام وصفته بأن غلام عليم ، وأما إسحاق فوصفته بأنه غلام عليم لذلك نجد الحلم والأخلاق فى أمة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالإضافة إلى فهم العلوم الأخرى كلما كان التمسك بأوامر الله ومنهجه سبحانه ، ونجد بنى إسرائيل نبغوا فى العلوم والاختراعات ، والدراسات والتجارب فى عالم النبات وغيرها ... ، ولكن وحى الله للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان سابق الاكتشافاتهم ... ، وحين جاء يهودى يسأل النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم متى يكون المولود ذكرا ومتى يكون أنثى فأخبره النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم" أنه إذا سبق ماء الرجل ماء الأنثى كان المولود ذكرا ، وأما إذا علا ماء الأنثى ماء الرجل كان المولود أنثى" (١) وبالفعل أثبت العلم أن جينات الرجل XY٢ حيث أن Y٢ جين مسئول عن صفات الذكورة وأما جينات الأنثى فهى XX ٢ ومعنى علا أى سبق ، فلو سبق جين Y٢ إلى ماء الأنثى فيكون المولود xy ٢ وهو ذكر ولو سبق جين X ٢ يكون المولود XX٢ (٢) أى أنثى فسبحان العليم الخبير ، إن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يفسر القرآن كله فى زمنه واكتفى بأن يجيب على من يسأل ، لأن هناك أشياء لم يعرفها العرب ستكون غريبة على عقولهم ، فمثلا النجوم الطارقة هى نجوم نيترونية متعادلة الشحنة (+ ـ) وهى تتكون بعد سلسلة من التفاعلات بداخل النجم حتى يتحول سطح النجم إلى الحديد ... ، والبروتون الموجب لا يتمكن من الاختراق حيث يجذبه السالب ... ، والألكترون السالب لا يتمكن من الاختراق حيث يجذبه الموجب ، ولكن النيترون المتعادل يخترق الحديد ويصدر طرقه فى السماء سجلها العلماء كالطرق على الباب (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ* وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ) (٣) ... ، فعلينا بذكر الله وشكره والعمل وعدم التواكل ، فحين ضرب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثلا لنا بقوله" وإن نبى الله داود كان يأكل من عمل يده" كان السبب فى اختيار نبى الله داود بالذات لأنه كان ملكا عنده الخير الكثير ولكنه كان يعمل ليأكل من عمل يده ... ، وحين ضرب الله لنا مثلا فى سورة النور بالشجرة الزيتونية ووصفها

__________________

(١) روى أحمد فى مسنده عن عبد الله بن سلام قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم" إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع إليه وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزع إليه".

(٢) ذكر ذلك الدكتور أحمد شوقى إبراهيم ـ فى إشاراته عن الإعجاز العلمى فى السنة.

(٣) سورة الطارق ـ الآية ١ ، ٢.

٦٨

بأنها لا شرقية ولا غربية ، نجد أن المغناطيس له قطب شمالى وقطب جنوبى ، وليس شرقيا ولا غربيا ، وإذا مر به ملف فإنه يتولد به مجال كهربى يمكن أن يضئ مصباحا دون أن تمسسه نار ... ، والمصابيح فى عصرنا تشبه الكوكب الدرى فى شكلها والمغناطيس إذا وضع أسفل ورقة عليها برادة الحديد ونظرنا إلى شكل المجال المغناطيسى بتحريك الورقة ، فتظهر برادة الحديد التى تمثل المجال المغناطيسى عند القطب الشمالى بما يشبه فروع النخلة أو الزيتون ، وكذلك عند القطب الجنوبى فهى تمثل الشمال والجنوب وليست شرقية ولا غربية ، لأن المغناطيس الذى يولد المجال الكهربى والذى يضئ المصباح له قطبان شمالى وجنوبى ولا يحتوى قطبان شرقى وغربى ... ، يقول تعالى (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ ، الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ ، الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ، يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) (١)

إنه الإعجاز فى كل زمان ، والذى يثبت لنا أن دستور القرآن هو الحق المطلق ، فعلينا بالرجوع إلى الله ، والإخوة فى الله ، فكلنا إخوة من أبوينا آدم وحواء ، لا فرق بين عربى ولا أعجمى إلا بالتقوى ... ، ومن يتق الله يجعل له مخرجا ... ، لنا مثل فى هذا الرجل الذى أصيب بالعجز الكامل فى ساقيه ، وتآكل بالعمود الفقرى ، ولقد قرر تأدية العمرة ليدعو ربه أن يشفيه ، وأثناء الطواف حيث يحمله بعض المتطوعين كان يبكى بشدة ويدعو ربه ... ، فرآه أحد الأمراء وهو الأمير ماجد بن عبد العزيز ، وسأله عن طلبه ، وكانت الكعبة مفتوحة فى هذا الوقت ... ، فطلب أن يصلى فيها ... ، يقول ما إن هممت بدخول الكعبة ، وبدأت أصلى ركعتين شكرا لله حتى شعرت بارتياح غير عادى ... ، وشعور يغمر نفسى بالرضا .. ، وأثناء أدائي للصلاة فوجئت بأن قدمى تتحركان ، وخرجت وقد شفيت من الشلل تماما ، لقد خرج يسير على قدميه بقدرة الله سبحانه بعد أن دخلها محمولا على الأكتاف ، فسبحان القادر ... ، فاللهم ارحمنا وارزقنا العفو والعافية واجمعنا وأولوا الأرحام والمسلمين جميعا فى الجنة ، إنك سبحانك العفو الرءوف وأنت أرحم الراحمين.

__________________

(١) سورة النور الآية ٣٥.

٦٩

١٥ ـ قدرة الله ويوم البعث والنشور

يبعث الإنسان يوم القيامة على نيته وعلى ما مات عليه ، حيث إن الأعمال بالخواتيم ، وذلك فى يوم شديد الحر تدنو فيه الشمس من الرءوس ومع زلزلة الساعة سوف تكور الشمس ويخبو ضوؤها وتقل حرارتها وتنعدم الجاذبية ، فتدنو وتقترب من الرءوس ، ومع اقتراب الشمس من الأرض ، لن تسقط الأرض فى أتونها حيث تتبدل القوانين المعروفة بأمر الله يقول تعالى (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (١) ... ، ومع اقتراب الأرض من الشمس تؤثر على جميع الكائنات المتجرثمة فى الأرض ... ، ولقد كانت بداية حلق الإنسان من خلية حية واحدة تضم ٤٦ كروموزوم (chromosome) نصف هذا العدد جاء من الأب ، والنصف الآخر جاء من الأم ، وهذه الخلية تكون منهما جسد الإنسان بكامل أجهزته عن طريق الانقسامات المتوالية لتنتج عدد مائة مليون مليون خلية حية هى متوسط عدد خلايا الإنسان البالغ التى يتكون منها جسده ، وتحمل كل خلية فى نواتها نسخة كاملة من صفات الإنسان وكتابه الحفيظ ... ، ويبدو الإعجاز هنا فى حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أبى هريرة رضى الله عنه ، عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال" كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب ، منه خلق ومنه يركب الخلق يوم القيامة" (٢) ، والمعنى أن كل جسد الإنسان يتحلل بعد موته إلى عناصره الأولى إلا عجب الذنب وهو عظمة صغيرة جدا كحبة الخردل صلبة من الخارج ، رخوية من الداخل حيث تحتوى بداخلها الخلية الحية التى بدأ منها خلق الإنسان وتحتوى كل صفاته وإسراره ، لذلك فإن ما يحدث اليوم بالنسبة للاستنساخ هو إثبات لإعجاز الله ـ سبحانه وتعالى ـ حيث أن الخلية الواحدة تحمل كل صفات الإنسان لذلك فالقدرة والإبداع لله وحده ، وإعادة خلق الإنسان من تلك الخلية المتحوصلة فى عجب الذنب ليعود منها الإنسان كاملا بكل صفاته هو آية تؤكد ذلك لمن يتفكر ويتدبر ... ، وعجب الذنب جسيم متناهى فى الصغر يتسم بالصلابة الشديدة ومقاوم

__________________

(١) سورة الإسراء الآية ٨٥.

(٢) أخرجه البخارى ومسلم.

٧٠

لكافة عوامل التحلل والفناء (١) ... ، ولقد ضرب الله لنا الأمثلة فى الدنيا التى تثبت لنا بعث الإنسان من تلك الخلية المتجرثمة ولو مر عليها ملايين السنين ، فالبكتريا مثلا حين تتعرض لظروف غير مناسبة كارتفاع درجة الحرارة أو قلة الغذاء أو انخفاض نسبة الرطوبة إلى حد الجفاف أو وجود مواد سامة فى البيئة المحيطة بها ، فتلجأ بعض أنواعها إلى التجرثم وذلك بأن تتخلص من بعض الماء فينكمش البرتوبلازم (Proto plasm) فى حيز أقل مبتعدا عن الجدار الأصلى للخلية ... ، ثم يتكون جدار خلوى آخر سميك حول الكتلة البروتوبلازمية وتبقى الخلية البكتيرية المتجرثمة فى حالة سكون أو كمون داخل غلافها السميك المنيع تقاوم الظروف غير المناسبة لفترات طويلة قد تمتد لعشرات السنين وتستطيع مقاومة درجات الحرارة العالية حتى درجة الغليان ، وفى الظروف المناسبة سرعان ما تمتص الماء من الوسط المحيط بها ، وتنتفخ ممزقة جدارها أو تفرز إنزيما يذيبه وتخرج لتعاود نشاطها من جديد ... ، وهناك بكتريا عادت للحياة بعد تحجرها ٤٠ مليون سنة حيث تم وضعها فى محلول غذائى ، وهناك أنواع من الكائنات المتحوصلة تتحمل درجة حرارة تكفى لصهر الرصاص أو القصدير (٢) ... ، وتتحمل درجات التفريغ والضغط العالى والبرودة الشديدة ، كذلك فإن الفيروسات خارج الخلية الحية التى تهاجمها تكون كالجماد أو كبلورات الملح الصخرية ثم تمارس نشاطها ككائن حى فى الخلية ... ، وبذور النباتات أيضا تظل جافة سنينا طويلة ، ووقت إنباتها حين ينزل المطر تنبت وتشق الأرض ، وكذلك خروج الإنسان ... ، والنبات لكى يخرج وينمو لا بد له من تربة خصبة مفككة ولا بد من الماء ، ودرجة الحرارة المناسبة التى تنبه الخلايا من غفلتها وتمدها بالطاقة اللازمة لنموها ونشاطها وبالفعل فإن الأرض يوم القيامة ستهتز وتزول الجبال وتصير ترابا ، والصخور الصلبة تصير هشة مفككة الحبيبات كالرمال أو الصوف المنفوش ، فسوف تتلاشى قوى التجاذب بين

__________________

(١) أنظر البعث يوم القيامة ـ محمد شكرى حسن ـ دار الشعب.

(٢) نفس المرجع السابق.

٧١

جزئيات المادة فالحديد الذى نراه صلبا والنحاس ، والصخور النارية تتحول إلى مواد هشة ... ، ثم بعد ذلك تفتح أبواب السماء بماء منهمر ... ، وعن هذه العظمة الصغيرة يخبرنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم" بنزول مطر من السماء ثم ينبت الناس منها كما ينبت البقل" (١) أى مثل النبات الذى خرج من الأرض ... ، والماء يحتوى على مواد منشطة تعمل على تنبيه الخلية المتجرثمة لتستيقظ من سباتها العميق وتعاود نشاطها وحيويتها والماء يحتوى الأكسجين والهيدروجين وهما ضمن العناصر التى تكون المادة الحية بالخلية النباتية ، وكما أن إنبات النبات يحتاج طاقة ، ويوم القيامة سوف تكور الشمس وتنكدر النجوم ولكن ستظل حرارة الشمس وإشعاعاتها إلى الأرض بحسب القوانين الجديدة من الله ، ومع الانقلاب الكونى فإن حرارة الشمس وإشعاعاتها سيكون لها دور فى تنبيه الخلية الآدمية لتنشط وتنمو وتعيد سيرتها ، حيث تتحول الأرض ساعتها إلى طين لازب حيث تنمو الخلية وتستمد غذاءها كما كان الجنين يعيش ويستمد غذاءه من رحم أمه ، وكما يستمد النبات غذاؤه من الطين ، وكما حدث لجرثومة البكتريا حين تجد البيئة المناسبة من الماء والطاقة فإنها تفرز إنزيما خاصا يعمل على إذابة الغلاف الحصين فتخرج إلى الحياة ... ، وبخروج الخلية التى كانت من قبل قد فقدت كل ما بها من ماء خلال حقبة التجرثم لتنكمش فى أضيق نطاق ، فإنها تعود وتمتص الماء وتنبت كما أخبرنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما ينبت البقل يقول تعالى (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (٢) ... ، وكما حدث بالخلق الأول تبدأ الخلية فى الانقسام ثم تستقر فى الرحم حيث تتحول مع الغذاء من مرحلة لأخرى ، حتى يصير الجنين كائنا يتحرك ويخرج للحياة ، يقول تعالى (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (٣) .. ، وإذا كانت كتلة الخلايا فى الخلق الأول تغوص فى البطانة الإسفنجية لجدار الرحم فإن كتلة الخلايا فى الخلق الآخر ... ، تكون مغروسة فى

__________________

(١) من شرح حديث قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم" ما بين النفختين أربعون ........ ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل" رواه البخارى ـ برقم ٤٩٣٥ / ٨.

(٢) سورة يس الآية ٧٩.

(٣) سورة الأعراف الآية ٢٩.

٧٢

تربة أرض البعث التى ستشبه فى قوامها وتركيبها البطانة الإسفنجية لجدار الرحم فكلاهما هش القوام ومكتنز بالعناصر الغذائية المذابة ... ، وإذا كان فراغ الرحم يمتلئ بسائل مائى غنى بالسكريات والأملاح استكمالا لمصدر غذاء الجنين كذلك فإن تربة البعث الهشة ستحتضن الأجنة الآدمية وسيعلوها سائل مائى كما أخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه سينزل مطر من السماء ... ، وكما تغذى الجنين فى رحم أمه ، سيتغذى الإنسان من رحم أمه الأرض ، ولا غرابة فى تكوين الأجنة فى تربة الأرض كما تمت حالات الحمل وسط الأحشاء فى بعض الحالات التى تم فيها استئصال الرحم (١) ... ، وإذا كان الجنين ينفخ فيه الروح فى بطن أمه ثم يخرج طفلا صفيرا غير مكتمل النمو حيث لم تنمو أسنانه بعد ، ولا يستطيع الوقوف فى السير ، فإن الجنين البشرى سينمو فى رحم الأرض نموا كاملا ويصبح ناضج الفكر قوى الذاكرة ولكن لن تسكن الروح فيه ويخرج إلا عند النفخ فى الصور ويأتى وقت الخروج يقول تعالى (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً) (٢) ... ، وكما للرحم عضلات تنقبض لتخرج الجنين ، كذلك سوف تنشق تربة الأرض ليتسع طريق الخروج أمام الأجنة البشرية يقول تعالى (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها. وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها. وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها) (٣) ... ، ويوم القيامة سيكون نهارا سرمديا حيث لا دوران للأرض ، والبحار تفجر أى تفتح بعضها على بعض بزوال الحواجز وقارات اليابسة التى تفصل بينها ، وبذلك تكون البحار كلها على جانب ، واليابسة كلها على جانب ، وهو المطل على الشمس باستمرار حيث لا دوران للأرض ... ، والبحار سوف تتحلل إلى مكوناتها الأكسجين والهيدروجين المشتعل ، والأكسجين يساعد على الاشتعال مما يؤدى إلى تسجير البحار ، يقول تعالى (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) (٤) ... ، وكما أن الطفل يخرج إلى الحياة ويجد أن الله تعالى كفل له الرزق المتمثل فى لبن الأم الذى يغنيه عن الطعام ، كذلك

__________________

(١) نفس المرجع السابق ـ البعث يوم القيامة

(٢) سورة الكهف الآية ٩٩.

(٣) سورة الزلزلة ١ ـ ٣.

(٤) سورة التكوير الآية ٦

٧٣

فى الميلاد الثانى يوم القيامة فإن رحمة الله تعالى أنه يدبر لجموع البشرية العائدة إلى الحياة غذاؤهم والمتمثل فيما أسماه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأحواض الأنبياء وذلك للمؤمنين منهم يقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم" إن لكل نبى حوض ، وإنهم يتباهون ايهم أكثر واردة وإنى لأرجو أن أكون أكثرهم واردة" (١) ... ، وهذه الأحواض يطرد عنها الكافرين ومن تركوا العمل بما أمروا ... ، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم" حوضى مسيرة شهر ، وزواياه سواء ، وماؤه أبيض من اللبن وريحه أطيب من المسك كيزانه كنجوم السماء ، من ورد فشرب منه لم يظمأ بعدها أبدا" (٢) ... ، وسوف يكون للأجساد خاصية خاصة تحميهم من الظروف التى حولهم من شدة الحرارة وكثرة الإشعاعات ، والجو المشبع بالدخان ، والماء الحار ، وانهيار الجاذبية يقول تعالى (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ. عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) (٣) وبالنظر إلى الحشرات نجد خلقها يتقلب من بيضة ، فيرقة ، فعذراء ، فحشرة كاملة ، فاليرقة دودة تزحف على الأرض لها فكوك قوية تأكل بها الأوراق الخضراء ثم تحيط هذه الدودة نفسها بأمر الله بشرنقة من الحرير أو الطين لتخرج منها بعد فترة إلى خلق آخر يختلف فى الشكل تماما فى صورة حشرة كاملة لها جناحان ، وأرجل وخرطوم تمتص به الرحيق ... ، والجنين فى الرحم يتغذى من المشيمة ، ويفرز جلده مادة بيضاء كالتى يطلى بها السباح جسده حين يسبح لمسافات طويلة تعمل على حماية الجلد من السائل الأمينوسى كذلك سيكون للإنسان هيئة جديدة مع البيئة التى يواجهها عند خروجه ... ، والمؤمن سيخرج من رحم الأرض شابا وليس طفلا كالخروج من رحم أمه ، يقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم" يبعث أهل الجنة على صورة آدم فى ميلاد ثلاث وثلاثين ، جردا مردا مكحلين ثم يذهب بهم إلى شجرة فى الجنة ، فيكسون منها ، لا يبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم" (٤). وعن أبى هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : " وأنا

__________________

(١) أخرجه الترمذى.

(٢) أخرجه البخارى ومسلم.

(٣) سورة الواقعة الآية ٦٠ ـ ٦١.

(٤) أخرجه الطبرانى.

٧٤

أول من تنشق الأرض عنه فتخرجون منها شبابا كلكم أبناء ثلاث وثلاثين" (١) ... ، وهناك من يحشرون يسيرون على أرجلهم ومن يركبون الدواب ويرى الإنسان ما لم يكن يراه فى الدنيا كالملائكة ، وألوان الأشياء بطبيعتها فبصره حديد ... ، وهناك من يحشرون صما وبكما وعميا وهم المعرضون عن ذكر الله يقول تعالى (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) (٢) ... ، وهناك من يظلهم الله فى ظله يوم لا ظل إلا ظله ... ، وذلك حين تقترب الشمس من الأرض فتملأ الحيز المرئى للسماء من الأفق إلى الأفق ، حتى يخيل للناظرين من الأرض أن السماء كلها قد اتقدت جحيما لا عهد لهم به من قبل ... ، وسيبدو واضحا للناظرين تيارات الحمل الهائلة وهى تتماوج فوق رءوسهم فى دوامات رهيبة ، يقول تعالى (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) (٣) .. ، وحال الناس يصفها الله تعالى بالجراد المنتشر تارة وبالفراش المبثوث تارة أخرى وهما من الحشرات الطائرة خفيفة الوزن ولعل ذلك يفيد بأن أجساد البشر ستكون أكثر خفة ورقة وقد يرجع ذلك إلى ضعف الجاذبية العامة فى الكون ... ، ولضعف الجاذبية تكون الحالة كانعدام الوزن فيصعب على الإنسان التخلص من العرق حيث يلازم صاحبه ، ويحيط به ، حيث أنه لا جاذبية تساعد على النزول لأسفل والجو الشديد يساعد على تبخيره ... ، فاللهم ارحمنا فى هذا اليوم العصيب ، وأظلنا فى ظلك يوم لا ظل إلا ظلك ... ، فعلينا أن نرجع إلى الله حتى ينزل عينا رضوانه ، لقد نظر سبحانه فى قلوب البشر فوجد قلب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتقى القلوب ، واختار من بينهم قلوب الصحابة ليكونوا وزراءه ... ، فلنحسّن أخلاقنا لننال شرف الاصطفاء ... ، " من بدأ أخيه بالسلام نال رحمه‌الله" (٤) ولنكثر من الاستغفار والذكر لتضيء صحائفنا ... ، ونكثر من الصلاة على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى ننال رحمة الله ... ، وندرك أن

__________________

(١) التذكرة للقرطبى.

(٢) سورة الإسراء الآية ٩٨.

(٣) سورة المعارج الآية ٨.

(٤) من حديث أبى أمامة قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم" إن أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام" رواه الطبرانى فى الكبير والأوسط ـ ورواته محتج بهم فى الصحيح.

٧٥

القوة لله وحده ، رزق سبحانه مريم ابنة عمران فى محرابها بغير حساب وأحيا الطير بإذنه لإبراهيم عليه‌السلام ... ، وأخرج الناقة من الصخرة الصماء لصالح عليه‌السلام .. ، وشق البحر وجعل من العصا حية لموسى عليه‌السلام ... ، وكان عيسى عليه‌السلام .. ، يخبر الناس بما يأكلون وما يدخرون فى بيوتهم .. ، ودعا ربه فنزلت المائدة من السماء .. ، وكان يبرئ الأكمة والأبرص بإذن الله ... ، وكان يصور الطير كهيئة الطير وينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ... ، ولقد كلم الناس فى المهد ... ، إن الله سبحانه حين يرضى عن العبد ... ، يعطى بغير حساب ... ، هناك من وصلوا إلى درجة من الصفاء بحيث تتحقق رؤياهم ، ومن كثرة قراءة القرآن والذكر يستيقظون من نومهم وهم يتلونه ، ومن رأوا الجنة ومن تجلى لهم إبداع الله فى كونه ، وأنوار الأنبياء هناك من كسا النور وجوههم عند سكرات الموت ، ومن رفع يديه أثناء الغسل ساترا عورته ... ، وهناك من وقف نعشه فى مكان لأن لحده فى نفس المكان .. ، وهناك من أراد أن يفرط فى مكتبة دينية ، فرأى حبل نور يمتد منها نحو السماء فأدرك قيمة العلم (١) ... ، فاجعل حبك لذات الله فهو أرقى درجات الحب ... ، لا تجعل حبك خوفا من النار أو رغبة فى الجنة فقط ولكن الحب لله مع الخوف والرجاء ، فهل تحب أن يعرفك صديق من أجل ما عندك أم من أجل ذاتك ... ، إن الله هو الحنان المنان فلا فضل للبشر فى شىء ، جاء بك إلى الدنيا ورزقك وجعلك مسلما ووعدك بالبعث والجنة خالدا فيها ، فنحن جميعا نعجز عن شكره لذاته فسبحانه فى كل وقت وحين ... ، لقد أخبرنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن للقلوب صدأ كصدأ الحديد من تراكم الذنوب وجلاؤها ذكر الله وكثرة الاستغفار ... ، فعلينا بالإنابة إلى الله لأن بطشه شديد أهلك قوم نوح حين خالفوا ... ، وقوم فرعون حين تكبروا ... ، وقوم عاد وثمود حين اغتروا بقوتهم .. ، فأهلك قارون وأهلك النمروذ ... ، وقوم لوط ، وأصحاب الأيكة ... ، ومن وقفوا فى طريق الدعوة إلى الله كأبى جهل ، وأمية بن خلف ، ومن دعا عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأهلك سبحانه كل متجبر فى كل زمان .. ، والأمثلة على ذلك كثيرة ... ،

__________________

(١) ذكر لى ذلك من حدث معه هذا الموقف ـ وكان يريد أن يفرط فى مكتبة والده ، لحاجته المادية.

٧٦

يقول تعالى (أَ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ) ... ، فى إيطاليا سنة ١٧٠٨ حدث زلزال بلغ عدد القتلى منه ٥٠٠٠ ألف نسمة ... ، وفى الصين سنة ١٩٢٠ كان عددهم ١٠٠٠٠٠ نسمة ، وفى طوكيو فى زلزال سنة ١٩٢٣ بلغ عدد القتلى ١٥٠٠٠٠ نسمة ولقد لجأ الكثيرون إلى شواطئ البحار ، فارتفعت الأمواج وابتلعت الجميع (١) .. ، فلا يأمن أحدنا عذاب الله إذا تكبر وسعى فى الفساد ، ولا يقنط من رحمته إن كان من التائبين العابدين يقول تعالى (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) (٢) ... ، لقد رأى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من آيات ربه الكبرى فى رحلة الإسراء والمعراج ، رأى عقوبة آكل الربا ... ، وعقوبة الزناة ومن وقعوا فى الغيبة والنميمة ، ومن أكلوا الحرام .. ، ومن تكاسلوا عن الصلاة المكتوبة ... ، وغير ذلك من المشاهد والعبر التى تجعلنا نوقن بأن الجنة حق ... ، وأن النار حق ، وأن الخير فى اتباع منهج الله والزهد فى الشهوات ولزوم الطريق المستقيم.

١٦ ـ الإعجاز فى إعداد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته

لقد كان النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أميا ... ، وكان ذلك شرف له ، حيث لم يتلق علمه من البشر ، ولكن كان علمه من الله تعالى ... ، وكانت الأمة التى يعيش بينها أمية حتى لا يظن الناس أن تقدم هذه الأمة كان وثبة حضارية لثقافتها ... ، ولكن ليدرك العالم كله ، والأمم فى كل زمان أن تقدم هذه الأمة كان بسبب أخذهم لهذا العلم الذى جاءهم من السماء بوحى الله لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذى بلغهم وأمرهم بالعمل بتلك الرسالة العظيمة ... ، ولقد أعدهم الله تعالى للدعوة إليه وفتح البلاد حيث تميزت هذه الأمة أنها تنتقل فى أسفارها كثيرا ... ، حيث إن منزلها فوق ظهر الإبل ، حيث يحمل العربى خيمته ويستقر بها فى المكان الذى يأوى إليه ... ، لقد أعدهم الله للسياحة فى البلاد ... ، كذلك كانوا فى الجاهلية تستمر الحروب بينهم سنين طويلة فأخذوا خبرة الحروب دون الحاجة إلى مدرسة حربية يتعلمون فيها فنون الحرب ، ويشاء الله تعالى

__________________

(١) الإعجاز العلمى فى القرآن الكريم ـ دكتور زغلول النجار ـ أخبار اليوم.

(٢) سورة الفرقان الآية ٧٠.

٧٧

لهذه الأمة الأمية البدوية أن تفتح البلاد شرقا وغربا وتقود العالم المتحضر ، وينتشر الإسلام فى كل مكان حيث قال تعالى (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) (١) إن الأمر كله لله ... ، والكون كله ملك لله.

وكيان الإنسان ومشاعره من صنع الله ... ، الإنسان لا يملك شيئا ، يكفى أنه لا يملك روحه ... ، يمكن أن يقبضها ربه فى لحظة ... ، يمكن أن يجمع قطعا من الطرقات فى لحظة ، وقد رأينا ذلك فى حوادث السيارات والقطارات ... ، فما اضعف الإنسان ، وما أشد عداوة الشيطان ... ، إن الرازق هو الله ، والناصر هو الله ... ، والشافى هو الله ، يقول تعالى ـ على لسان إبراهيم عليه‌السلام (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) فإياك أن تظن أن الطبيب يشفى أو أن الدواء يشفى دون ذكرك اسم الله أو يقينك فى الله وأنت تأخذه ... ، فكن على يقين بربك وادع إليه بالحكمة والموعظة الحسنة ... ، والبصيرة السليمة ... ، حين جف النيل وكان المصريون قد تعودوا على إغراق فتاة جميلة فيه ليجرى ويفيض ، فأرسل عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى عمرو ابن العاص بطاقة أمره أن يضعها فى مياه النيل مكتوب فيها من عبد الله عمر إلى نيل مصر ، إن كنت تجر من عندك فلا حاجة لنا بك ، وإن كنت تجر بأمر الله فسر بأمر الله ، فارتفع الماء ستة عشر ذراعا (٢) ، وتوقف المصريون عن تلك العادة وعن هذا الشرك .. ، إن أرض الإسلام كانت خصبة فى عهد الصحابة والخلفاء الراشدين حيث كان العلم يؤخذ بالتلقى من الصدور إلى الصدور ويطبق فى حياتهم ومعاملاتهم ... ، كان الاتباع هو السائد ، صلاتهم مثل صلاة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجهادهم مثل جهاد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، سلوكهم فى المنزل والسوق مثل سلوكه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لقد تعلموا الإيمان ومارسوا سلوكه أولا ... ، لم يكن العلم مسطورا فى كتب مهجورة كما هو الحال فى عصرنا ... ، ولكن كان العلم محفوظا فى الصدور من خلال مشاهدة السلوك التطبيقى الذى التزم به الصغير والكبير ، ولو ضربنا مثلا بالسائق الذى مارس القيادة وأتقنها ، لا يجد ثقلا فى الفهم إذا ما قرأ

__________________

(١) سورة آل عمران الآية ١٩.

(٢) مائتان وثمانون قصة ـ من قصص الصالحين ونوادر الزاهدين ـ وتوارد الموقف فى أكثر من مصدر يؤكد صحته.

٧٨

كتابا عن طريقة القيادة ... ، لقد كان الصحابة يطبقون ما يسمعون ويعلمون من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمجرد سماعهم للأمر ، لكننا نقرأ العلم ونطوى الكتب وننسى لعدم الممارسة والتطبيق ... ، يقول الصحابة تعلمنا الإيمان ثم القرآن فازددنا بالقرآن إيمانا ... ، الصحابة كانوا يقيمون الصلاة قبل أن يقرءوا عن الصلاة ... ، لذلك مرت علينا ، قرون والقرآن مهجور (والعلم مطوى) فى الصحف ، لا يجد من يقرأه ، وجلس الشباب على المقاهى ، وانشغل الناس فى ميادين العمل وبدلا من العبادة والذكر والدعوة إلى الله ، انشغلوا بالمال ، والبنين ، والنساء ، فتخلف المسلمون ، وأصبح الإسلام كالأرض التى هجرها الزارعون زمنا طويلا لذلك فهى الآن تحتاج كثيرا من الأيدى العاملة لتعود خصبة كما كانت ، يخشع أهلها عند سماع الآيات فالإسلام يحتاج إلى دعاة ، فكل مسلم عليه واجب الدعوة يقول تعالى (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (١) فكل من اتبع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليه واجب الدعوة ... ، يقول تعالى (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٢) وهى بشرى من الله لمن يدعو إليه أنه من الفائزين وغيره من الخاسرين ، يقول تعالى (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) (٣) ... ، سأل أحد الأنبياء ربه عن أجر الداعى إليه فأجابه أن الكلمة بعبادة سنة صيامها وقيامها ... ، والداعى يجب أن يكون سخيا كريما لين الكلام ، يؤثر غيره على نفسه حتى تصل دعوته إلى القلوب لقد تأخر الهدهد عن النبى سليمان عليه‌السلام وكاد أن يذبح لأنه تأخر عن النبى سليمان عليه‌السلام ولقد تحرك وأرسل رسالة النبى سليمان عليه‌السلام وألقاها إليهم حتى عادوا جميعا إلى الله واسلموا ... ، ولقد كان الذئب يدعو إلى الله فى زمن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حيث أخذ أحد الناس صيدا من فمه فقعد على ذيله قائلا عجبا أ تأخذ منى رزقا ساقه الله إلى ، وحين يتعجب الرجل ، فكان

__________________

(١) سورة يوسف الآية ١٠٨.

(٢) سورة آل عمران الآية ١٠٤.

(٣) سورة العصر.

٧٩

ينطبق قائلا ، الأعجب من ذلك ظهور النبى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم تتبعه (١) ... ، وراح نفر من الجن ينادون بعد سماعهم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) (٢) وحين جاء جماعة من الكافرين يشككون فى رسالة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان معهم ضب يحمله رجل ، فقالوا للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لا نصدقك حتى يشهد هذا الضب ، فقال له من أنا يا ضب؟ ... ، فقال محمد رسول الله ... ، ولقد جاءت الشجرة تخض الأرض وتقف أمامه قائلة ، السلام عليك يا رسول الله ... ، إنها الرسالة الحق من الله تعالى العليم بكل شىء ، يقول تعالى (وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ) (٣) ... ، إن كل شىء فى رسالة الله معجزة تستحق التأمل وتسعد من يدعو إليها ... ، وحروف القرآن ذاتها مليئة بجوانب الإعجاز ... ، فمثلا حروف الهجاء ٢٨ حرف أخذ الله تعالى من التسعة أحرف الأولى فى الحروف المقطعة التى تبدأ بها بعض السور القرآنية الألف والحاء وترك سبعة ثم أخذ من التسعة الأخيرة سبعة أحرف وترك اثنان وهما الواو والفاء ثم يبقى عشرة فى الوسط أخذ الله تعالى الحروف الغير منقوطة كالراء والسين والصاد وهكذا ... ، وترك المنقوط مما يثبت الإعجاز فى تنسيق اختيار الحروف ليظل التحدى والإعجاز إلى يوم القيامة ... ، إنها رسالة الحق والخير ، فعلينا أن نتمسك بها وندعو إليها ، حتى نكون من الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه ... ، لقد حضر وفد من الكفار إلى خالد بن الوليد وقالوا له لو شربت هذا السم أسلمنا ، ومن أجل الدعوة ، قال بسم الله الذى لا يضر مع اسمه شىء فى الأرض ، ولا فى السماء وهو السميع العليم ، ثم شربه فلم يضره شىء فأسلم الوفد جميعا (٤) ، وهذا يثبت فضل التسمية وذكر الله ، وأن الشفاء من الله وحده ، وليس من الدواء أو الطبيب ، يقول تعالى على لسان إبراهيم عليه‌السلام (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) (٥) فالقرآن شفاء ... ، فاتحة الكتاب رقية وشفاء ، وشرط الشفاء هو أخذ القرآن

__________________

(١) شرح حديث رواه أحمد (٣ / ٨٣) وصححه الأبانى ـ الصحيحة ١٢٢ م من كتاب غرائب وطرائف الحيوانات ص ١٤٢ ـ دار الإيمان

(٢) سورة الأحقاف الآية ٣١.

(٣) سورة الأنبياء الآية ٨١.

(٤) سبقت الإشارة عن هذا المرجع ـ عن قصص الصالحين.

(٥) سورة الشعراء الآية ٨٠.

٨٠