إعجاز القرآن العلمي والبلاغي والحسابي

محمّد حسن قنديل

إعجاز القرآن العلمي والبلاغي والحسابي

المؤلف:

محمّد حسن قنديل


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن خلدون
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٠٢

٨ ـ إعجازات ومواقف للعبرة والتذكرة

إن فضل الله تعالى على الإنسان كبير فهو الذى بشره بالجنة إن عمل صالحا وحذره من النار إن أساء وظلم نفسه .. ، وبقدرته يذكرنا من فترة لأخرى ببعض المواقف الواقعية حين ينشغل الناس بالدنيا ، حتى تبدو التذكرة واضحة كفلق الصبح ، فهناك الطائرة التى تحطمت فى إحدى البلاد وانصهر الحديد وتفحّم من فيها إلا المصحف الشريف (١) وهذا يذكرنا بالموقف الذى حدث فى عهد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث أكلت الأرضة كل ما فى الصحيفة الجائرة التى كتبها المشركون لمنع تجارتهم عن المسلمين ، ولم يبق فى الصحيفة سوى اسم الله وكان ذلك سببا فى فك الحصار عنهم حين أخبرهم أبى طالب بوحى الله لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن هذا الأمر .. ، وهناك الدجاجة التى يشاهد الناس على بيضتها بخط واضح لا إله إلا الله ، وسعف النخل الذى يكون اسم الله واسم محمد بخط واضح بديع ، وأقراص العسل المكتوب عليها كلمة التوحيد والأرقام بعدد أسماء الله الحسنى على يد الإنسان ، والميكروسكوب الإليكتروني الذى صور سلاسل الهيموجلوبين فى جسم الإنسان تكون اسم الله واضحا باللغة العربية ، وحلقات القصبة الهوائية التى تبدو على حلقاتها لا إله إلا الله ، وهناك المواقف التى نأخذ منها العبر ، والتى حدثت فى عصرنا. كما أشرنا فى الفصول السابقة والتى نكررها للتذكرة ، فلقد كانوا يحفرون ترعة بإحدى البلاد ، وكلما حفروا يتقوس الحفر فى مكان معين ، فاحتار العاملون وأرسلوا للمسئولين يخبرونهم عن ذلك ، فلم يصدقوهم حتى تأكدوا من ذلك من خلال رؤية لأحد هؤلاء المسئولين حيث جاءه رجل صالح يخبره أن مجاهدا قتل فى هذا المكان ، وربما حدث ذلك فى عصر الفتوحات الإسلامية ، فقاموا بتخصيص هذا المكان لبناء مسجد لأهالى المنطقة هناك ... (٢) وهذا الرجل الذى كان يذهب إلى عمله ليلا فيقول قبل أن يخرج ويترك أهله وأولاده ، استودعكم الله الذى لا تضيع ودائعه فيأتى لص ليسرق المنزل فلا يجد فيه

__________________

(١) أنظر كتاب صنع الله ـ عبد الرازق نوفل.

(٢) حكى لى ذلك رجل يسكن بجوار تلك المنطقة.

٤١

أبوابا ولا نوافذ ، فأخذ يدور فى كل مكان فلم يجد بابا ولا نافذة ، فسبحان الله الحفيظ الذى يحمى عباده الذاكرين .. (١) " ، وهناك من تصدق على امرأة كانت تجمع العظام من أمام أحد الجزارين بالحى ، وحين نهرها الجزار سألها الرجل ، لما ذا تجمعين العظام؟ فقالت : أصنع بها مرقا لأولادى فتأثر الرجل من كلماتها وأعطى للجزار مبلغا ليعطيها من اللحم ما تريد حين تأتى إليه وكان هذا الرجل ستجرى له عملية دقيقة فى القلب ، وبعد هذا الموقف ذهب لعمل الفحوص اللازمة استعدادا للعملية ، فتعجب من إخبار الأطباء له بأن العملية قد أجريت وأن صمامات القلب قد عادت لطبيعتها وحين سأل الرجل أهل العلم كانت الإجابة أنه طبق سنة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإرشاده" داووا مرضاكم بالصدقة .." ، وهناك من استخفوا بكتاب الله فى إحدى البلاد وبارزوا الله بالمعاصى على إحدى القواعد البحرية بمياه أحد الشواطئ ، فأظلتهم سحابة ثم ابتلعتهم الأرض وتبع ذلك زلزالا ابتلع قرى بأكملها (٢) وتلك الفتاة التى أخذت المصحف من والدتها وألقت به على الأرض فمسخ الله صورتها وقد فعلت ذلك لتستمع إلى الغناء يقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم" سيكون فى آخر الزمان خسف وقذف ومسخ إذا ظهرت المعازف والقينات واستحلت الخمر" (٣) .. وهناك من كان يعذب المؤمنين ويقول متجبرا حين يستغيثون بالله ـ أين إلهكم لأضعه فى الحديد؟! فتصطدم سيارته بشاحنة تحمل حديدا ، فيدخل الحديد فى جسده من أعلى رأسه إلى أحشائه ، وعجز المنقذون أن يخرجوه إلا قطعا .. ، لقد أهلكه الله بالحديد عقابا على جرأته على ربه ، وكان الجزاء من جنس العمل .. ، وهناك من كان بينه وبين رجل إحدى المشكلات ، وقام أحدهم بضرب الآخر حين رآه جالسا بالمسجد ، فحزن الرجل ولم يقم من جلسته ، فقال له الناس حين رأوا أثر الحزن على وجهه ، لا تحزن وسامحه ، فقال : إن سامحت فى حقى فرب البيت له حق ، وبالفعل قبل أن يصل المعتدى إلى منزله ، إنهارت على

__________________

(١) ذكر ذلك الشيخ أحمد ربيع ـ أحد علماء الأزهر ـ عن موقف عاصره ـ وتاب هذا الرجل على يديه.

(٢) حدث ذلك فى تركيا ـ كما أشرنا من قبل.

(٣) صحيح رواه الترمذى والطبرانى فى الكبير والأوسط.

٤٢

رأسه شرفه أحد المنازل .. (١) ، وهناك من العباد الصالحين اللذين ضحوا بأنفسهم فى سبيل الله وكانوا من الشهداء فكانت رائحة المسك تفوح منهم كلما اقترب منهم إخوانهم المسلمون بعكس أعداء الله وذلك فى حرب أكتوبر اللذين كانت تفوح منهم الرائحة الخبيثة ويعوون كالذئاب قبل موتهم حرصا منهم على الحياة .. ، لكن المسلم الشهيد كما أخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يشعر بالموت إلا كقرصة النحلة ، فهناك الشهيد الذى شقت بطنه نصفين وخرجت أمعاؤه خارج بطنه وجرحت يده جرحا بسيطا وهو لا يشعر بما حدث له ويبتسم وهو ينظر فى جرح يده البسيط ، وفجأة يقول ريح الجنة والله .. ، الحور العين قادمات .. ، ثم يقابل ربه شهيدا ... ، وهناك الكثير من المواقف والعبر التى هى من آثار رحمة الله ليتذكر المسلم ويزداد اللذين آمنوا إيمانا ويظل فى قلوبهم الثبات حتى الممات ولتكون لهم عند ربهم الحياة الدائمة وقد رضى الله عنهم ورضوا عنه. ونبشر فى النهاية بقسم أحد المجاهدين اللذين رأوا الملائكة بالفعل فى إحدى المواقع التى ارتفعت بها صيحات المقاتلين الله أكبر ...

٩ ـ القرآن الكريم والإعجاز فى كل عصر

إن القرآن الكريم سيظل عطاء زاخرا بكل ألوان الإعجاز كلما تقدمت البشرية ، وذلك فى كل مجالات العلوم ، وذلك فى كل عصر مهما بلغت البشرية من أساليب التقدم ، فحين صعد الإنسان إلى القمر ومر على آيات الله تعالى فى السماء كما مر عليها من قبل فى الأرض ، نجد قوله تعالى (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ ، وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (٢).

وبالفعل فإن المرور عليها فى الأرض من خلال السير والتأمل ، والمرور عليها فى السماء هو إشارة وإثبات لعبور الإنسان للفضاء والمرور على تلك الآيات من خلال سفن الفضاء وغيرها من الوسائل الفضائية الحديثة .. ، وكذلك حين أثبت علم التشريح أن التكوين التشريحى فى المخ بالنسبة للنساء يختلف عن التكوين التشريحى

__________________

(١) ذكر ذلك إمام أحد المساجد عن موقف عاصره بنفسه.

(٢) سورة يوسف الآيات ١٠٥ ـ ١٠٦.

٤٣

فى المخ بالنسبة للرجال فى بعض الخصائص حيث حددوا بالنسبة للنساء مركز الذاكرة ومركز الكلام وفى ناحية أخرى وجدوا مركزا آخر للكلام ، وذلك يفسر ما يغلب على النساء من كثرة الكلام والثرثرة حين تكون الفرصة لذلك .. ، (١) ومن هنا نفهم الحكمة من الإشارة القرآنية فى جعل شهادة الرجل بامرأتين حيث أن الكلام يغلب على الذاكرة بالنسبة للنساء فحين تنسى أحدهما تذكرها الأخرى كما وصفت الآية الكريمة ، ويبدو الإعجاز فى ملاحظة العلماء أن للرجل مركزا واحدا للكلام والذاكرة تحل محل مركز الكلام الآخر بالنسبة للنساء ، لذلك فالرجل يفكر أكثر مما يتكلم به ويستطيع أن يحكم الأمور بميزان الحكمة الناتجة عن فكرة فى الأشياء بعكس الطابع الجدلى بالنسبة للنساء فى ميزان الأمور .. ، إن القرآن الكريم يعطى المزيد من إشارات الإعجاز كلما كان التفكر والبحث والرغبة فى الوصول إلى معرفة الله تعالى الخالق الوهاب ، فمثلا حين ندرك فى واقعنا أن الإنسان لا يشقى إلا طلبا لأربع حاجات أساسية وهى الطعام والشراب واللباس والمسكن ويرتب الناس تلك الحاجات الأساسية بقولهم الطعام والشراب واللباس والمسكن ، وهم يضعون الطعام والشراب فى مجموعة لأنها حاجة البطن ويضعون اللباس والمسكن فى مجموعة لأنها حاجة الجسم والهيئة.

ولكن القرآن الكريم صور تلك الحاجات تصويرا مخالفا لما يتصوره الناس يقول تعالى (فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى ، إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى ، وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) .. ، وهذا التقسيم هو بالفعل ما توصل إليه العلماء فى عصرنا من ارتباط كل مجموعة بقرينتها استنادا إلى التفسير العلمى الواضح فى تلك المسألة ، فالطعام اللازم للإنسان فى حالة الجوع هو الطاقة المحركة له والباعثة على النشاط فى صورة الحرارة اللازمة لأداء وظائف الجسم المختلفة ولكى يتم الحفاظ على هذه الحرارة لا بد أن يحافظ عليها الإنسان بأن لا يعرى ولا يتعرض للبرد حتى لا تختل وظائفه .. ، كذلك فإن الحرارة الزائدة فى

__________________

(١) ذكر ذلك الشيخ عبد المجيد الزندانى فى حديث له عن نواحى الإعجاز العلمى فى القرآن الكريم.

٤٤

الجسم تحتاج إلى الرى وهو عدم الظمأ لكى يتخلص من الحرارة الزائدة فى صورة العرق وإذا تعرض الإنسان لحرارة الشمس الشديدة فإن هذا الجهاز العرقى يتلف حيث تختنق القنوات العرقية تحت الجلد وتضيق فتحتبس الحرارة الزائدة فى جسم الإنسان ويحدث ما يسمى بضربة الشمس أو الاحتباس الحرارى ، (١) لذلك فإنه مع ضرورة ألا يظمأ فهناك ضرورة ألا يضحى ، أى لا يتعرض للشمس وذلك بوجود المسكن الذى يأويه من شدة حرارة الشمس ، إنه التناسق والترابط والإعجاز القرآنى الذى سيظل يبدو ويتضح لنا على مر الزمن ...

١٠ ـ طلاقة القدرة وخوارق العادات

لقد خلق الله تعالى الكون بقدرته فى نظام رائع ، بقدر ما تحتاج البشرية ، وما ينفع الإنسان خليفة الله فى أرضه ليعمرها ويقيم شرعه ويشكره على نعمه ، فالشمس تشرق فى الصباح ليكون السعى والعمل وتغرب فى المساء ليستريح الإنسان بعد الشقاء والتعب ، وحين يعتاد البشر على ذلك نجد التذكرة من الله تعالى ببعض الظواهر الغريبة على غير العادة ككسوف الشمس وخسوف القمر وهى ظواهر كونية تشير لنا بطلاقة قدرة الله وأنه القادر على تغيير النظام الكونى فى لحظات .. ، والإنسان يخلقه الله تعالى بخمسة أصابع فى يده لكننا نجد أحيانا طفلا يولد بستة أصابع فى يده أو يزيد .. ، والإنسان له قدرات محدودة فلا يستطيع أن يجر العربة أو يأكل الزجاج بأسنانه ، لكننا سمعنا ورأينا أشخاصا لهم قدرات فائقة لا يصدقها عقل ، فهناك من يأكل فتات الزجاج ويبتلعه وآخر يبتلع سكينا حاده وآخر يرفع شاحنة مقطورة ضخمة هائلة بيد واحدة .. ، ومن لطف الله تعالى أن تلك العجائب الخلقية ليست فاشية بين الناس ولو كان ذلك لكان داعيا إلى الفساد والبغى فى الأرض والغرور ، ويرى أحد العلماء موقفا يقول فيه إنى لا أنسى ولا يبرح مخيلتى مشهدا قديما منذ أربعين عاما أو يزيد ، حين كان يسير فى القرية فشاهد رجلا غريبا فيها يطلب المساعدة بقرش أو قرشين ولما كان له ما أراد عرض أن يريهم لعبة طريفة

__________________

(١) أنظر مجلة الإعجاز العلمى ـ عن الإعجاز فى معنى الآية الكريمة.

٤٥

مع ابنه الصبى الذى لا يتجاوز سبع سنوات ، يقول : وفوجئنا بالرجل يطرح ابنه على ظهره معتدلا مطروحا على الأرض وهو يبتسم ، ثم يقف أبوه على صدره بحذائه ، ولقد كان الرجل فى عمر يناهز الأربعين عاما ويزيد تقريبا على الثمانين كيلوجراما بالتقريب ، وكان ابنه نحيلا ، ومع هذا فقد وقف الرجل مطمئنا ثابتا على صدر الابن ، ولقد نظر الابن مبتسما مشيرا بأنه لم يشعر بأدنى تعب أو إرهاق ، فلم تنكسر أضلاعه .. ، ولم ينطبق صدره على بعضه .. ، ولم يحدث له أدنى أذى أو مكروه ، (١) وهناك الأعجب من ذلك حيث يثنى الشخص بعظام جفنيه العملة الصلبة من المعدن ، ولقد سمعت ذلك ممن شاهد هذا الأمر بالفعل أمام عينيه. وليس البدن وحده الذى يتميز بهذا الإعجاز فى الخلق ولكن النفس أيضا بما تحتويه من أسرار ومكنونات وأحلام وطلاسم لا يعلمها إلا الله تعالى يبدو فيها أيضا طلاقة القدرة ومختلف صور الإعجاز ، فهناك أشخاص لهم القدرة على حل المسائل الرياضية المعقدة على الرغم من ضآلة علمهم ورصيدهم من المعرفة ، أو على الرغم من صغر سنهم ، فهذا هو الرجل الضرير الذى يحل أعقد المسائل الحسابية أسرع من البرق ، ومنذ ما يقرب من ثلاثين عاما شوهد فى التليفزيون أكثر من مرة فكانت تعطى له عمليات حسابية معقدة طويلة فيحلها فى أقل من دقيقة مما أدهش الناس .. ، وهناك ظاهرة الإحساس عن بعد Remote Sensation وظاهرة قراءة الأفكار entxt Telepathy entxt وليس هذا غريبا فلقد خلق الله تعالى الإنسان من الطين ثم نفخ فيه من روحه ومن تلك الروح تكون الطاقات المتولدة التى يمنحها الله للبشر ويسمح بالقدر الذى قدرة للإنسان ويزيد بما يشاء .. ، فهناك الإنسان الذى يرى الكثير من الصور والأحداث رغم نومه .. ، وهناك من يتعرض للصدمات النفسية فتتولد فيه طاقات قد تصل إلى أنه دخل مكانا معينا يحتوى على التحف والتماثيل المعدنية فتتساقط كلها بمجرد دخوله هذا المكان مما آثار دهشة الجميع حتى عرفوا فيما بعد أن هذا الشخص تعرض لأزمة نفسية سببت له حزنا شديدا وصل به إلى أنه يصدر منه مجالا قويا يشبه المجال المغناطيسى يؤثر على

__________________

(١) ذكر ذلك الدكتور السيد الجميلى فى كتاب الإعجاز العلمى فى القرآن.

٤٦

الأشياء من حوله .. (١) ، وقد يصل الإنسان بحادث يتعرض له كالسقوط من أحد الأماكن العالية بأن يوقظ ذلك شيئا من مكنونات العقل المليء بالأسرار التى قدرها الله تعالى فى الإنسان ، إنها طلاقة قدرة الله تعالى لندرك أن ما يخبرنا به الله تعالى من عجائب الغيب إذا حدث من البشر وهو المخلوق الذى شكله الله تعالى من الماء المهين ، فما بالنا بخالق السماوات والأرض ، لذلك يخبرنا الله تعالى بتلك الحقيقة وبأنه يزيد فى الحلق ما يشاء وذلك قوله تعالى (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) (٢).

ولا ننسى أن نفرق بين ذلك وبين ما يأتى به السحرة حين يعاونهم الجن فى الإتيان بغرائب الأمور ، كأن يقف الجنى أمام الشخص ويضربه الآخر بالسيف فيبدو الفراغ بينهما كأنه قسمه إلى نصفين .. ، أو غير ذلك من الأمور والمواقف التى يسحر بها الساحر أعين الناس ، والزيادة فى الخلق هى طلاقة قدرة الله تعالى فهناك بعض المواهب والقدرات الروحية والنفسية التى يمنحها الله سبحانه لمن يشاء .. ، كظاهرة الجلاء السمعى وهى سماع الشخص أصواتا خفية دون استخدام حاسة السمع العادية والجلاء البصرى هو رؤية الشخص لصور وأحداث دون استخدام حاسة البصر العادية ودون معاينة المكان أو الزمان .. ، وهناك حاسة رؤية الأشياء والأحداث قبل وقوعها فى المستقبل دون أى مؤشرات تشير إلى حدوثها بعد حين ، وقد أشار صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه فى آخر الزمان" لم تكد رؤيا المؤمن تكذب وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا .. ، (٣) أى أن المؤمن سيجد تحقق الرؤيا كفلق الصبح وهذا من فضل الله تعالى .. ، ولنا مثل فيما حدث مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه حين صعد المنبر ووقع فى خاطره أن جيش المسلمين قد لاقى العدو وهو فى بطن الوادى وقد هموا بالهزيمة وبالقرب منهم كان الجبل فنادى عمر رضى الله عنه بأعلى صوته يا سارية الجبل" أى اجعل الجبل خلفك وأنت تقاتل ، فألقى الله تعالى فى سمع سارية صوت الصحابى عمر فانحاز إلى الجبل حتى كان النصر بإذن الله .. (٤) ، إن الأفكار ليست أمواجا محصورة

__________________

(١) أنظر كتاب" حقائق غريبة ومثيرة" عن خوارق العادات.

(٢) سورة فاطر الآية ١.

(٣) جزء من حديث رواه البخارى ومسلم ـ أمارات الساعة ص ٤٩.

(٤) هذه الرؤية أخرجها الواقدى فى المغازى عن أسامة بن زيد بن اسلم ـ عن أبيه ـ عن عمر رضى الله عنه وهى عند البيهقى فى الدلائل ـ والألكائى فى شرح السنة ـ وتاريخ الطبرى ٤ / ١٧٨.

٤٧

أو جامدة بل هى أمواج متحركة ديناميكية لها خاصية الذيوع والانتشار ، فقد تريد مخاطبة إنسان فى مكان بعيد وتفكر فى ذلك لأمر ما يشغلك فتجد أنه فجأة يطرق بابك أو يحدثك فى الهاتف وغير ذلك من المواقف التى تحدث ويشهد عليها الواقع ، لذلك فإن العالم غير المنظور أصبح محلا للدراسة الآن ويشغل أبحاث العلماء وفيه الكثير من الغرائب والعجائب التى هى فى الحقيقة طلاقة قدرة الله تعالى ، وقد أثبت علماء الأثيريات والتخاطب عن بعد وهى الظاهرة التى يسميها الغرب التليباثى أو التلبثة entxt Telepathy entxt أى انتقال الأفكار من عقل ووجدان وفكر شخص واع إلى عقل ووجدان وفكر شخص غيره سواء كان واعيا أم غير واع ، اصبحت مسألة يقينية مقطوعا بها ، ولم تعد ضربا من التخمين وبغير ضرورة لوجود وسط فيزيقى مادى يتم عبره ومن خلاله الانتقال ، إنها طلاقة قدرة الله الذى يزيد فى الخلق ما يشاء. ، فمثل هذه المواقف والظواهر كتوارد الخواطر وقراءة الأفكار وسماع الصوت من بعيد كما حدث مع الصحابى عمر بن الخطاب رضى الله عنه ، هى تذكرة ولفتة هادفة من الله تعالى ليذكرنا أنه يعلم ما توسوس به النفس كما أشار بذلك فى القرآن الكريم ، فإذا كانت تلك الظواهر يمنحها سبحانه للبشر وهو المخلوق فما بالنا بالخالق للبشر وللكون كله والذى يعلم السر وما يخفى.

١١ ـ الظالمين ووعد الله

ظلت لعنة الله على اليهود منذ زمن بعيد وقبل ظهور الإسلام بسبب ما اقترفوه من الذنوب كعبادة العجل وقتل الأنبياء ومخالفة أوامر ربهم ، فعذبهم فرعون كثيرا وذبح أبناءهم واستباح ملكهم حتى هاجروا إلى فلسطين وسلط الله عليهم بعد ذلك ملوك الأشورين والبابليين حيث استولوا على أملاكهم وقادوهم أسرى وعذبوهم عابا شديدا وأخرجوهم من فلسطين .. ، ثم رجعوا مرة أخرى تحت الحماية الفارسية وأسسوا مملكة يهوذا ثم ما لبثوا حتى أرسل الله إليهم ملوك الإغريق يسومونهم سوء العذاب ، ثم ملوك سوريا حيث أثقلوا كواهلهم بالضرائب

٤٨

وقتلوا منهم عددا كبيرا .. ، وحوالى سنة ٦٣ ق. م وقعت فلسطين تحت حكم الرومان وعندها تم ذبح احبار اليهود فى المحراب وهلك ما يقرب من اثنى عشر ألفا من اليهود وأذاق الرومان اليهود سوء العذب وقمعوا كل المحاولات التى بذلوها لإعادة مجد بنى إسرائيل فقاموا بثورة سنة ٧٠ ق. م فأمر الملك تيتوس بإحراق معابدهم وذبح عددا كبيرا منهم وهرب الباقون إلى الجبال ثم عادوا إلى أورشليم القدس مرة أخرى وقاموا بثورة ضد الرومان فما كان من الامبراطور هارديان إلا أن هدم المدينة وأمر بذبح الآلاف من اليهود وبيع الباقين وتم تشريدهم فلم تقم لهم بعد ذلك قائمة ومزقوا شر ممزّق ، فهاجرت طائفة إلى شواطئ الفرات وطائفة إلى بلاد العرب ، وطائفة إلى الأفغان وطائفة أخرى إلى الهند والصين ، وأقامت طائفة فى أوربا حيث كانوا موضع الإهانة والسخرية والعذاب وتحملوا أشد ألوان العذاب والاضطهاد .. ، وبعد ظهور الإسلام ، كانت المعاهدات بين المسلمين وبينهم ، فلم يتدخل المسلمون فى عبادتهم واحترموا بيعهم وكذلك احترموا كنائس المسيحيين ورجال دينهم ولكن ظلت العداوة بين اليهود والمسيحيين وذلك لأن المسيحيين يحملون اليهود تبعة دم المسيح والسبب الآخر أن اليهود اشتغلوا بجمع المال ولو بالربا الفاحش فازداد ثراؤهم فتعرضوا لحرب الله عليهم بأن سلط عليهم كل من أصابته ضائقة لاغتصاب أموالهم فذاقوا الويل فى بلاد أوروبا وغيرها ... ، ومنذ خانوا العهود مع النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت الغزوات المتتالية كخبير وبنى قينقاع وغيرها .. ، حيث طردهم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المدينة تماما .. ، وفى اوربا حين لجأوا إلى أسبانيا ذاقوا ألوان العذاب حيث اعتبرهم ملوك اسبانيا كالعبيد واستغاثوا بالمسلمين وطلبوا من موسى بن نصير أن يخلصهم من هذا الظلم ، وحين فتح المسلمون بقيادة هذا البطل بلاد الأندلس تمتعوا بالحرية والاطمئنان بعد الذل والاستعباد ، وفى بقية البلاد الأوربية أغلقت دونهم أبواب الرحمة فكانوا يذبحون ويقتلون كأنهم نعاج حيث اعتبروهم سبب كل فتنة تصيب رجال المسيح ففي ألمانيا تم إلقاء المئات منهم والألوف فى النيران ، وهاجروا إلى غرب أوربا فكان المسيحيون يبتكرون الأسباب للانتقام منهم ومصادرة أموالهم وكان الجميع يعتبرون

٤٩

قتلهم من أعمال البر وكان اليهود يشترون حمايتهم بالمال ، وكانوا يسكنون فى نواحى نائية من المدن ترتع فيها الأوبئة وكانوا يلزمون بوضع علامات معينة على ملابسهم لتمييزهم من غيرهم ... ، ولقد طردوا من إيطاليا وطردوا من فرنسا وتم طردهم من النمسا وحولت بيعهم إلى كنائس وكانوا يدفعون الملايين من الأموال ليمكثوا عدة سنوات .. ، وفى مساكنهم كانوا يشدون الأبواب بالسلاسل من الحديد وحرموا من الزواج إلا بقيود تحد من نسلهم ، وفرضت عليهم ضرائب الإقامة والانتقال من مكان إلى مكان .. ، ثم جاءت الحرب العالمية الأولى فذاقوا الويل على أيدى الرومان وفى بولندا زادت حالتهم سوءا أثناء الحرب حيث كانوا يقتلون وتسلب منهم الأموال حتى سمحت لهم روسيا فى النهاية بالسكن فى بعض المدن الرسية ثم أعلنت البلشفية الحرب عليهم وذاقوا ألوان العذاب .. ، وما لبثوا حتى جاء القرن العشرون حيث كان ينتظرهم عذابا أشد مما لا قوة من قبل على يد هتلر والنازية فى ألمانيا حيث كانت خطتهم تقوم أولا على استئصال اليهود حيث صبت عليهم أعظم الكوارث حيث تكررت النداءات بإبادة يهود أوربا فتناقص عددهم فى بولندا وألمانيا والنمسا وبلجيكا وهولندا حيث نقص عددهم من الملايين إلى عدة مئات فى كل بلد وفى سنة ١٩٤٣ نقل الألمان نحو ٥٠ ألف يهودى فى عربات الموت من سالونيك إلى جهات غير معروفة ودمرت المعابد اليهودية وتم ذبح ثلاثة ملايين ونصف يهودى كالأنعام ، وأجملت الجمعيات الصهيونية عدد القتلى من اليهود فى الحرب العالمية الثانية بخمسة ملايين قتيل وكل ما سبق يثبت لنا الإعجاز القرآنى فى قوله تعالى (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١).

وهم الآن فى فى علوهم الكبير كما وعد الله تعالى وسوف يبعث الله عليهم عبادا أولى بأس شديد يسومونهم أيضا سوء العذاب ، وإن وعد الله لآت ، ولن يتخلف وعد الملك الجبار الذى ملك الكون .. ، وقد قضى بأن لا يترك الظالمين .. ، ووعد بأن له

__________________

(١) سورة الأعراف الآية ١٦٧.

٥٠

العزة ولرسوله وللمؤمنين .. ، وإذا نظرنا إلى صورة أخرى من صور الإعجاز القرآنى فى وعده سبحانه ، نجد مثلا تعدد الأحزاب المسيحية ونسيانهم الكثير من تعاليم دينهم فكانت النتيجة أن زرع الله تعالى العداوة فيما بينهم فمثلا انقسمت المسيحية إلى فرق متعددة ، ولقد أحبوا المال رغم نصائح المسيح عليه‌السلام لهم حيث كان إمام المتصوفين والزاهدين حيث قال لهم" إن مرور جمل فى ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غنى إلى ملكوت الله" (١) ، وقال" لا تقدرون أن تخدموا الله والمال" وغير ذلك الكثير من النصائح ، لكنهم تحايلوا على اصطياد المال بكل الطرق غير المشروعة .. ، كبيع الوظائف الدينية .. ، وحل عقود الزواج وبيع صكوك الغفران ولقد ظهرت العداوة والبغضاء فيما بينهم لاختلافهم وتعدد فرقهم ويشهد التاريخ بذلك ولنا مثل فى الحرب الصليبية الثالثة حيث اختلف ريتشارد قلب الأسد ملك انجلترا مع فيليب أغسطس ملك فرنسا مما جعل ملك فرنسا يعود إلى بلاده تاركا ريتشارد وحده مواجها لصلاح الدين وأخذ يدس له الدسائس بالاستعانة بملوك أوربا فى الوقت الذى أخذ أخو ريتشارد يعمل لسلب العرش من أخيه فاضطر ملك إنجلترا إلى عقد صلح مع صلاح الدين (٢) .. ، ولنا مثل فى الانقسام الذى حدث بألمانيا واشتعلت الحرب فيها ثلاثين عاما .. ، وفى فرنسا انتشرت المذابح بين البروتستانت والكاثوليك فكانوا يضعون العلامات على المنازل ثم يقومون بقتل أعدائهم وامتلأت شوارع باريس كثيرا بدماء الضحايا من الفرق المخالفة ، ثم قامت فكرة محاكم التفتيش التى تراقب المطبوعات وتحرق ما لا يتفق مع المذهب الكاثوليكى وكانت توقع عقوبة الإحراق أو السجن المؤبد ومصادرة الأملاك ... ، وقد تم إحراق عدد كبير من البروتستانت ثم قامت الثورات ضد الكاثوليك فانقض الناس على الكنائس الكاثوليكية وكسروا ما فيها من تماثيل وتم إرسال جيش عظيم من الأسبان لمعاقبة الثوار فكثرت إراقة الدماء وكانت أبشع جرائم القتل بين الطائفتين وكلها صور من صور البغضاء التى القاها الله فى قلوبهم

__________________

(١) أنظر قصص الأنبياء ـ فصل عن زهد عيسى عليه‌السلام.

(٢) أنظر كتاب ـ الإعجاز العلمى والتاريخى فى القرآن.

٥١

لتركهم الحق وخوضهم فى الأباطيل والخرافات وحب المادة (١) .. ، فحين نسوا ما ذكروا به من مبدأ التسامح حيث أمرهم المسيح عليه‌السلام بقوله" أحسنوا إلى مبغضيكم" ومن سلبك قميصك فأعطه رداءك" وغير ذلك من مبادئ التسامح ولكن المادة غلفت بالقسوة على قلوبهم وزرعت بينهم العداوة .. ، وحين نسوا ما ذكروا به من مبادئ المسيحية التى تقوم على الإيمان بالله والزهد والحب والتراحم والتسامح المطلق وعدم الاعتداء حتى عند دفع الشر ، ولكنهم تركوا منهج الله واصبح لا يشبع حفيظتهم إلا إراقة الدماء وانحدروا إلى وحشية لا تدانيها وحشية وقد سخّروا العلم لإنتاج البندقية والمدافع والقنابل النووية والألغام والطائرات والصواريخ العابرة للقارات والرصاص المسمم والغاز السام وأشعة الموت ، ونسوا روحية المسيح عليه‌السلام ، وامتلأت قلوبهم بالبغضاء ، وعرفت البشرية على يديهم أبشع أنواع القتل من الوأد الجماعى وقتل النساء والأطفال وأصبحت الحروب بسبب أحقادهم تأخذ الوقت الطويل وتحصد الملايين من أرواح البشر .. ، وفى الخمس والأربعين سنة التى مرت من هذا القرن فقط حدث فى أوربا وحدها الكثير من الحروب ، كالحرب العالمية الأولى ، والحرب الإسبانية ، والحرب الأهلية ، والحرب اليونانية الإيطالية ، والحرب العالمية الثانية ، والحرب الروسية الفنلندية .. ، وغير ذلك من الحروب التى حدثت بين المسيحيين فى غير أوربا كجمهوريات أمريكا الجنوبية فقامت الحرب بين بارجواى ، وبوليفيا ، والبرازيل ، والأرجنتين ، وبيرو ، وإكوادور ، ونيكاراجوا وكوستاريكا ، وأمريكا ، والمكسيك ، وغير ذلك من الحروب التى تثبت العداوة والبغضاء فيما بينهم .. ، وقد استغرقت الحرب العالمية الثانية ستة أعوام غير الحروب الأخرى التى بجمعها تبلغ ثلاث عشرة سنة متواصلة ليلا ونهارا تحصد فيها الأرواح من الفرق المتنازعة وغير ذلك من فترات الاستعداد الطويلة قبل الحروب وبعدها .. ، وفى الحرب العالمية الأولى اشتركت خمسة عشر دولة من الدول المسيحية وأما الثانية فإحدى وعشرون دولة وقد جروا بفتنتهم العالم وراءهم ، ولقد بلغ عدد

__________________

(١) نفس المرجع السابق.

٥٢

القتلى فى حربين فقط من تلك الحروب وهى الحرب العالمية الأولى والثانية ستين مليونا من الأنفس إضافة إلى ما حدث فى الحرب العالمية الثانية من موت الملايين فى معسكرات الاعتقال بسبب الإهمال والقسوة واستعمال غرف الغاز وأفران الإحراق والتمثيل بالجثث وغير ذلك من صور الوحشية التى لن ينساها التاريخ لهم .. ، وقد أنفقوا المليارات التى كانت تكفى سد حاجات البشر أعواما طويلة لو عاشوا فى سلام وطبقوا منهج الله لذلك خلّفت تلك الحروب فيما بينهم الفقر والجوع والمرض والعرى والنكبات التى لم يزل يعانى منها الشرق والغرب ، وقد بلغ الفقر بهم فى بعض المماليك بفرنسا لدرجة جعلتهم يبيعون أطفالهم ، ثم من ناحية أخرى خلفت الحرب وراءها فى فرنسا إنجاب ما يزيد عن نصف مليون طفل لقيط على أيدى الجنود الألمان والحلفاء ، وتتعدد أنواع الحروب فيما بينهم فهناك حرب السنين السبع ، والمائة عام بين انجلترا وفرنسا ، ولم تزل ألمانيا حتى الآن تعانى آثار الجوع والعرى بسبب ما أنفقته فى الحروب الماضية وتنتظر الفرص السانحة لسلب أموال الآخرين وفى اليونان يتقاتل المعسكران الصقلى والأنجلوسكسونى ، وهناك الاستعدادات النووية والعمل فى الخفاء والتربص لفرصة تسمح لبث أحقاد القلوب التى ستظل تشتعل بالحقد والعداوة إلى يوم القيامة فيما بينهم كما وعد سبحانه فى قوله تعالى (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) (١).

١٢ ـ هامان وصرح فرعون

هناك الكثير من المعلومات والإعجازات التاريخية التى وردت فى القرآن الكريم فمثلا ، استخدم لفظ الملك الحاكم فى مصر فى عهد يوسف عليه‌السلام وذلك لوجود الهكسوس فى مصر ، وكان الشائع هو لفظ الملك ولكن فى عهد موسى عليه‌السلام كان اللقب الشائع هو لفظ فرعون لحاكم البلاد .. ، كذلك لم يكن أحد يعرف لفظ هامان فى علومنا الحديثة عن تاريخ مصر القديم ، ولكن بعد أن استطاع العالم الفرنسى

__________________

(١) سورة المائدة الآية ١٤.

٥٣

شامبليون فك رموز حجر رشيد ، وخلال ترجمة النقوش المكتوبة عليه ذكر اسم هامان ووظيفته حيث كان" رئيس عمال الحجارة" وكان مقربا لفرعون ، وكان من المسئولين عن عمليات الإنشاء والبناء ، وقد أمره فرعون بأن يبنى له صرحا عاليا حين دعاه موسى عليه‌السلام لعبادة الله الواحد ، يقول تعالى فى ذلك (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ) (١). فالقمر يدور فى فلكه لا يحيد عنه ، والشمس ترسل بنافورات اللهب ثم تعود وتسقط عليها مرة أخرى ، ولو سقطت على الأرض لأحرقت ما عليها من الكائنات ، والنبات يخرج من الطين الثابت ويتلون كما يريد الخالق له من الألوان ، فجزأي الكلوروفيل الأخضر عبارة عن حلقة من ذرات الكربون والنتروجين حول ذرة من المغنسيوم وذيل طويل من ذرات الهيدروجين ، واللون الأصفر يتكون من أربع ذرات كربون وست وخمسين ذرة هيدروجين ، واللون الأحمر مثلا فى ثمرة الطماطم ، يبدأ أولا باللون الأخضر ثم تتلون الثمرة مع اكتمال النضج لتأخذ الأصباغ الخاصة بهذا اللون ، وهى سلاسل طويلة من الكربون وجزئيات الكلوروفيل ، كالجزر والفراولة ، والمشمش والتفاح والبرقوق وغيرهم من الثمار التى تشير ألوانها إلى قدرة الخالق وإبداعه فى كونه ، فقد أودع ـ سبحانه ـ فى الشفرة الوراثية لكل نبات ما يمكنه من اختيار ما يناسبه من العناصر والمركبات الذائبة فى الماء بالقدر الذى يعطى الشكل الذى قدره الله ـ تعالى ـ لكل نبات وكل ثمرة ، وبتفاوت النسب تكاد تكون ألوان الثمرات فى تفاوت لا نهائى بالنسبة لكل نوع (٢) ... ، فسبحان القدير ... ، وسبحان الخبير الذى حفظ دينه فلم يبدل وسخر له جنودا مخلصين فلقد كان أبو هريرة حافظا لا ينسى الأحاديث ... ، وكان الشافعى سريع الحفظ يحفظ ما يقرؤه بمجرد الانتهاء منه ، وسبحان من ألهم نبيه الوحى الحق بعلمه ، فلقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمار" آخر شربة تشربها شربة لبن" (٣) وأثناء المعركة شربها

__________________

(١) سورة غافر الآية ٣٦.

(٢) ذكر ذلك الدكتور زغلول النجار فى إشارته عن الإعجاز العلمى فى القرآن.

(٣) أنظر السيرة النبوية لابن هشام.

٥٤

من يد امرأة كانت تسقى الجرحى ثم قتله أحد جنود معاوية ... ، وقال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى إحدى الأسفار أثناء بحثه عن بئر يجد فيه الماء ، " إن ذهبت وجدت من ينازعك" فوجد بئرا يمنعه منه رجل فقتله عمار ، وكان هذا الرجل شيطانا تمثل له عند البئر ... (١) ، وأخبر أن مفاصل الإنسان ثلاثمائة وستون مفصلا وهو نفس العدد الذى أقر به الأطباء بعد بحثهم كثيرا فى علم التشريح ... ، وأخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن عذاب القبر ، وبالفعل هناك من أقروا وشهدوا أنهم كلما حفروا لفلان وجدوا حية كبيرة تنتظره ، فيتركون المكان ويحفرون فى آخر فيجدون نفس الحية وهكذا كلما حفروا ... ، وهناك من سمعوا صوت تكسير العظام بعد غلق القبر وكأنها ضمة شديدة اختلفت منها الضلوع (٢) ... ، إنه ـ سبحانه ـ القادر وقوله الحق ... ، تتجلى قدرته فى كل شىء ... ، فى اختلاف ألوان النبات والورود والأزهار ... ، واختلاف ألوان البشر وألسنتهم ... ، واختلاف الصوت والرائحة والبصمات فى الكائنات ، والتفاوت فى الحواس كالشم والنظر وغيرها ... ، فالطيور نظرها حاد لتتمكن من التقاط الحب وغيره ... ، والقطط تتميز بحاسة الشم القوية لتميز غذائها ، وغير ذلك من الصفات الظاهرة ، كالمخالب القوية للصقر ليتمكن من القبض على الفريسة ، والغشاء الجلدى للبط لتمكن من العوم فى الماء ، وغير ذلك الكثير من صور الإبداع ... ، فعلينا بالرجوع إلى الله والتوبة واستحضار العقوبة ، وعلو الهمة فى الدعوة والدعاء ، والخشوع والرضا والصبر على البلاء كأيوب عليه‌السلام ... ، وعلى المعصية كيوسف عليه‌السلام وعلى الطاعة كماشطة فرعون التى صبرت على أذى فرعون حتى كانت نهايته بالغرق ، وقد أقر العلماء والباحثون فى عصرنا بأن نهاية جثته كانت اسفكسيا الغرق ، فعلينا بالرجوع إلى الله ... ، حتى يرضى عنا ربنا وحتى يستجاب لنا ... ، وفى عصرنا هناك من توجهوا إلى ربهم حين أصابهم الجفاف بقلوب خاشعة وبعد فراغهم من صلاة الاستسقاء نزل المطر فى الحال ... ، فالعودة إلى الله هى الطريق لنزول الخير والرحمات على العباد وهى السبيل لأن تكون عبدا ترى الأشياء بنور الله ... ،

__________________

(١) أنظر السيرة النبوية لابن هشام.

(٢) أنظر كتاب مائتان وثمانون قصة من قصص الصالحين ونوادر الزاهدين.

٥٥

لقد نادى عمر بن الخطاب وهو على منبرة الجبل يا سارية ... ، يا سارية الجبل ... ، وسمعه سارية والمسافة بينهما أميالا كثيرة ، وحين كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجلس وسط الصحابة فى المدينة كشف الله له ما يحدث فى غزو مؤتة ، فكان يقول أخذ الراية زيد فقاتل ثم يقول قتل زيد .. ، ويستدرك قائلا أخذ الراية جعفر ابن أبى طالب فقاتل حتى قتل ومن هم حوله يسمعون وكأنهم يشاهدون المعركة ، ثم قال عرضوا على الثلاثة فى أسّرة من ذهب ، ودخلوا الجنة ... ، ثم قال أخذ الراية سيف من سيوف الله وهو خالد ابن الوليد ففتح الله على يديه ... (١) ، لقد كسر فى يده تسعة أسياف ، قتل وحده خمسة آلاف ، ولأنه لقب بسيف الله كانت تكسر الأسياف فى يده وهو لا يكسر .. ، ومات على فراشه رغم غزواته الكثيرة التى زادت على المائة فى الإسلام ، إنهم رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ... ، فعلينا بالاقتداء بهؤلاء ، ومصاحبة الأتقياء ... ، يقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم" أنا جد كل كل تقى" ... ، وعلينا بالصلاة على وقتها ... ، يقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم" من ترك صلاة واحدة فقد برئت منه الذمة" ... ، أول ما يسأل عنه الإنسان فى قبره الصلاة فإن صلحت صلح باقى عمله وإن فسدت ولم تجز له لم ينظر فى شىء من عمله بعد ... ، لذلك يجب الذهاب للصلاة مبكرا ، والتلبية عند سماع الآذان ، والخشوع فى الصلاة ، وأن يكون المأكل والمشرب من الحلال ، يقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم" إن العبد ليقذف باللقمة الحرام فى جوفه لا تقبل له صلاة أربعين يوما" ... ، ومن ذهب يوم الجمعة مبكرا مغتسلا كانت كل خطوة إحداها تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة ... ، وتفتح الملائكة الصحف وتكتب من ذهب مبكرا كأنما تصدق ببدنه والذى يليه بقرة ثم كبشا أقرن ثم دجاجة ثم بيضه (٢) ... ، وهكذا حتى تطوى الملائكة الصحف حين يصعد الإمام المنبر ولا تكتب شيئا لمن يأتى بعد ذلك ... ، فلا تحرم نفسك بتأخيرك من ثواب الله العظيم ... ، ويكفينا خيرا وعطاء من الله الكريم أن تفكر ساعة خير من عبادة سنة ... ، وأن" من صلى على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة صلى الله عليه بها عشرا (٣) ، " ، والصلاة من الله على العبد رحمة

__________________

(١) أنظر كتاب رجال حول الرسول ـ خالد محمد خالد

(٢) شرح حديث قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح قرب بدنه ومن راح فى الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ، ومن راح فى الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن ، ومن راح فى الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ، ومن راح فى الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضه ، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر" متفق عليه.

(٣) من حديث قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم" من صلى على واحدة صل الله عليه عشر صلوات وحط عنه عشر خطيئات" ورفع له عشر درجات" رواه النسائى فى السنن ـ صحيح الدعاء المستجاب ص ٣٢.

٥٦

وبركة ... ، ومن قال سبحان الله وبحمده غرست له نخلة فى الجنة" ، والتى توصف بأن ساقها من ذهب وثمارها أحلى من العسل وألين من الزبد ... ، فكن أخى المسلم من الذاكرين المتواضعين فلقد كان خبيب صحابيا فقيرا متواضعا ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنه حينما صلى عليه بعد ما نال الشهادة فى سبيل الله" اللهم إنى راض عن خبيب فارض عنه" ... (١) ، ولكن المتكبرين قال عنهم" يحشر الجبارون والمتكبرون على صور الذر يوم القيامة يطؤهم الناس لهوانهم على الله عزوجل" ... ، إن الجنة ليست ببعيدة على الأتقياء ... ، " فإن من توضأ وأحسن الوضوء ثم قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها حيث شاء ... ٢ ، " ومن صلى ركعتين أقبل فيهما بوجهه وقلبه على الله ، وجبت له الجنة (٢) ، ومن قال لا إله إلا الله مخلصا بها من قلبه أو من نفسه دخل الجنة ... ، ولكنه لو قالها وهو لا يؤدى الصلاة فلا تنفعه ... ، ولو قالها وهو لا يؤدى الزكاة فلا تنفعه ... ، ولو قالها وهو لا يصوم رمضان فلا تنفعه ... ، فالإخلاص فيها معناه طاعة من أقررت بوحدانيته والقيام بما أمر واليقين بمراقبته سبحانه لك فى السر والعلن وحسن المعاملة والرحمة بمن حولك وعدم الغفلة عن ذكره والتفكير وطلب العلم ... ، وأعلم أن هناك مسئوليات وابتلاءات حيث يبتلى المرء على قدر دينه ، وهناك أشياء سكت عنها سبحانه رحمة بعقولنا ، واعلم ان لك أعداء يحاولون إبعادك عن دينك بكل الطرق ومنهم الشيطان الذى يتمكن من العبد إن نسى ذنبه أو استكثر عمله أو أعجب بنفسه ، وعلينا أن نتذكر الموت وأن الأعمال بالخواتيم ... ، وأن الغيبة أشد من الزنا حيث إن الله يغفر للتائبين ، ولكن الغيبة لا يغفرها الله إلا حين يسامحك فيها من اغتبته ... ، واعلم أن الهدى من الله ، فإذا أراد الله بعبد خيرا يفقهه فى الدين ،

__________________

(١) أنظر رجال حول الرسول.

شرح حديث صحيح رواه مسلم وأبو داود ـ الترغيب والترهيب ـ الجزء الأول ص ١٧١ ـ بعنوان ـ الترغيب فى كلمات يقولهن بعد الوضوء ـ دار الريان للتراث.

(٢) شرح حديث عن عقبة بن عامر رضى الله عنه ـ والحديث رواه مسلم ـ الترغيب والترهيب ـ بعنوان الترغيب فى ركعتين بعد الوضوء ـ الجزء الأول ص ١٧٣.

٥٧

وأن من أسباب الهدى داعية مؤثر يدعو إلى الله بقلب مخلص يحب الخير لإخوانه كما يحب لنفسه ... ، والله ورسوله أحب إليه مما سواهما ... ، ومن أسباب الهدى معرفة الصالحين ... ، ومن أسباب الهدى زوجة صالحة تؤثر فى زوجها وأولادها ... ، أو شريط إسلامى يذكرك برحمة الله وعذابه .. ، وكم من غافل كانت الموعظة سبيلا لتوبته ، ومن أسباب الهدى تذكر محنة الموت أو سكراته أو القبر وظلمته أو تصور يوم الحساب وأهواله ، وتذكر زلزلة الساعة ويوم النشور ... ، ومن أسباب الهدى لحظة تفكر صادقة فى خلق الله وكونه الممتد وحيث كل شىء فيه بقدر وحكمه ... ، ومن أسباب الهدى مجلس علم أو مجالسة عالم أو قراءة كتاب أو سماع حديث يبشر أو ينذر ... ، ومن أسباب الهدى حب الله وتصور نوره ورؤيته وعدم إحصاء نعمه والاعتراف بالعجز عن شكره ... ، سبحانه له ما فى السماوات والأرض ووعده الحق ، وسوف تكون الندامة يوم القيامة لكل مكذب حين يرى العذاب ، ولكن بفضل الله وبرحمته فليفرح المؤمنون حيث أن لهم البشرى فى الدنيا والآخرة ، ولهم الأمن من الله اللطيف الخبير.

١٣ ـ سجود الكائنات وعلم الله المحيط :

سبحان الذى يسجد له كل شىء ... ، فالشمس تدور فى فلكها ، وتحافظ على حرارتها ، وحين يرتفع الضغط بداخلها وتوشك أن تنفجر ، يرى العلماء بواسطة الأجهزة الحديثة على فترات ما يسمونه بالبقع الشمسية ، حيث تظهر وتنطفئ قرب حافة الشمس فلا ترتفع حرارتها عن معدلاتها التى قدرها سبحانه فيختل نظام الكون فى لحظات ... ، فالعلم كله من الله المحيط بكل شىء والمحصى والمقدر لكل شىء ... ، فكن مؤمنا قويا واعلم أنه لا يؤمن أحدنا حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، واحذر حب الشهوات واعلم أن الحب كله لله حيث أنه المنعم والخالق لك ولكل شىء ... ، فلا تشرك بالله وإن قتلت وحرقت ، يقول الله تعالى (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) ... (١) ، واعلم أن السعادة فى الإيمان

__________________

(١) سورة التوبة الآية ١١١.

٥٨

الصادق ، وهو من فضل الله ورحمته ... ، والسعادة فى العمل بالعلم والكفاح وعدم الذلة للبشر ... ، وهناك من اعترفوا بأن سعادتهم كانت فى العمل الدائم لله عزوجل دون تكاسل أو استسلام للفراغ ، أو نسيان الفقراء ، وعلى الإنسان أن يلتزم بمبادئ الشريعة وأوامر الله الخبير الذى يعلم ما لا نعلم حتى لا يموج الإنسان مع الفتن فيهلك ، وربما يقع فى الشرك والعياذ بالله ... ، علينا أن ننظر إلى ما يحدث حولنا وما كان من قبلنا حيث يختلف الناس فى الغنى والفقر والمواهب ، والصحة ، والآجال ، والهدى والضلال ، فالشريعة واحدة ، وتتعدد الابتلاءات ، فلا تنظر لغيرك ولا تحسده ، ولا تردد أمثال الشرك كقولك" يدى الحلق للى بلى ودان" فكل إنسان يبتلى فيما آتاه الله ، وليحمد كل منا ربه حين يجد نفسه فى خير ، حيث وجد نفسه فى أسرة ملتزمة بمبادئ الإسلام الحق" فكل ميسر لما خلق له" (١) واعلم أن كل شىء فى كتاب حتى لا نندم على ما فات ، ولا نفرح بما أتى ... ، وإذا كان الموت مكتوب على الجميع فكن راضيا فى كل حال ، ويكفى أنه سبحانه وتعالى قد قبض روح من هو أقل منك سنا وأقل ذنبا ومنحك فرصة التوبة والاستغفار ... ، واعلم أن لله حكمة فى كل شىء ، فالعين جعلها الله ـ تعالى ـ للرؤيا ، والإصبع الخامس فى يدك على مسافة من الأربعة حتى نتمكن من القبض على الأشياء وقواطع الأسنان فى المقدمة لتقطيع الطعام ثم الضروس بالداخل لطحنه ، فحكمة الله ظاهرة فى كل شىء لكنه سبحانه أخفى الكثير رحمة بعقولنا ، فلا نسأل عنها ، فمعرفتنا فى جميع المجالات كما ينقص المخيط من البحر الزاخر ... ، فعلينا بالتوبة إلى الله والاستغفار ، فما أجمل حياة التائبين الذين عادوا إلى الله ويا مدى حرمان من لم يذوقوا حتى الآن حلاوة التوبة والعودة إلى طريق الجنة ... ، إنهم سكارى ... ، تائهون ... ، جاهلون ... ، يتخبطون ... ، وهم كل يوم يضلون ... ، ويفسدون ، ويقتلون ... ، وربما ماتوا قبل أن يتوبوا ... ، لذلك فكل مسلم عليه واجب التبليغ يقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم" بلغوا عنى ولو آية" ... ، عليك أيها التائب كلما مررت على أحدهم ان تذكره بربه ليدرك حلاوة الإيمان وجمال العودة إلى الله الخالق الرزاق المجيب ... ، وإلا غرقنا جميعا أو هلكنا

__________________

(١) من شرح حديث رواه مسلم وفيه" ... اعملوا فكل ميسر ..." لاحاديث القدسية للإمام محى الدين النووى ص ١٨.

٥٩

جميعا لأننا تركناهم دون نصيحة يفسدون ... ، ولا بد أن نعلم أن عدم الاستقرار الفكرى والبدنى يأتى من عدم القناعة والرضا بما قسم الله ، فاللهم إنا نسألك رضاك والجنة ونسألك أن تجيرنا من النار والزمهرير ، ولا بد أن لا تغفل عن الدعاء لأنه يدفع البلاء ، وكذلك الصدقة ، فهى تطفئ غضب الرب وتطهر النفس من الشح وتدفع البلاء وتمنع الحسد ... ، والصدقة والبلاء يتصارعان إلى يوم القيامة والله تعالى يضاعف للمتصدق ويبارك له فهو سبحانه الرزاق ، يقول عزوجل عن الرزق (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) (١) فيجب علينا أن نتيقن بلا شك أن الله تعالى هو الخالق ، الرزاق ، المجيب ... ، حين ذهب رجل للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريد علاجا لابن أخيه حيث يشكو وجعا فى بطنه فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم اسقه عسلا ، ولما تردد أكثر من مرة أدرك النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه يعطى ابن أخيه العسل وهو يشك أن فيه شفاء فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم موقظا ضمير اليقين فيه ، كذبت وكذبت بطن ابن أخيك (٢) ... اسقه عسلا فذهب الرجل وأعطاه العسل وهو على يقين من الشفاء بإذن الله فشفى المريض ، فالتوكل على الله بيقين هو مفتاح كل خير وهناك مواقف من الواقع كثيرة عن فوائد إخراج الصدقة بيقين ... ، فهذا أخرج الصدقة عند مرض ابنه وكان قد أصيب بالحمى فشفى فى الحال ... ، وهذا أعطى مائة جنيه لجزار فى بلدته حيث لاحظ امرأة تجمع العظام التى عليها من آثار اللحم فرق لها وأمر الجزار أن يعطيها لحما بهذا المبلغ متى تريد ... ، وكان هذا الرجل مريض وستجرى له جراحة بأحد الصمامات بالقلب ... ، وحين ذهب لإجراء الفحوصات قبل إجراء العملية ، تعجب الطبيب ، وسأله أين أجريت هذه العملية قبل حضورك؟! وكان الذى أجراها هو الخالق سبحانه حيث قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم" داووا مرضاكم بالصدقة" ... ، وحكى رجل لإمام المسجد أنه قبل أن يخرج ليلا من بيته يقول لأهله" أستودعكم الله الذى لا تضيع ودائعه" ... ، وكان يأتى من عمله فى الصباح ، وذات يوم جاء لص إلى الإمام ليعترف بتوبته لأنه ذهب ليسرق بيت فلان بعد أن يخرج لعمله

__________________

(١) سورة الذاريات الآية ٢٣.

(٢) ذكر ذلك الحديث الدكتور أحمد شوقى إبراهيم ـ فى حديث له عن الإعجاز فى الطب النبوى.

٦٠