إعجاز القرآن العلمي والبلاغي والحسابي

محمّد حسن قنديل

إعجاز القرآن العلمي والبلاغي والحسابي

المؤلف:

محمّد حسن قنديل


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن خلدون
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٠٢

هناك السؤال والجواب والإيجاز والإطناب ... ، وهناك تكرار الكلمات للتقرير ... ، والأمثال ... ، والقصص ... ، وفى كل موضع زيادة فى شىء لتكتمل الصورة ... ، هناك التقديم والتأخير ... ، والناسخ والمنسوخ ... ، والمحكم والمتشابه ... ، وهناك جمع القرآن والحكمة من نزوله منجما ليناسب الأحداث التى نزل من أجلها ... ، وحتى يسهل تطبيق الآية التى نزلت ... ، فمعرفة أسباب نزول الآية علم له ضرورته فى التفسير ... ، كذلك دراسة الأحاديث وعلومها أيضا من الضرورات لفهم الدين ... ، فالذى يصلى ويأكل الحرام ... ، هناك من الحديث ما يبين أن اللقمة الحرام فى جوفك لا يقبل لك بها صلاة أربعين يوما ... ، كذلك المسلم أخو المسلم لا يخونه ، ولا يكذبه ، ولا يظلمه ، ولكن يحدث كل ذلك بسبب الجهل ... ، وحتى لا يغتر الإنسان بعلمه ، تبين السنة أن هناك ثلاثة أمور لا ينفع معها عمل ... ، الشرك ... ، والعقوق ... ، والفرار من الزحف ... ، فالكتاب والسنة مع الاجتهاد وطلب العلم يجعلك تعبد الله على بصيرة وتدعو من حولك إلى الله على بصيرة ... ، وكما أخبرنا الله تعالى فى الآية الكريمة (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (١) ....

إن الحكمة فى نزول القرآن مفرقا أن منه الناسخ والمنسوخ وهو دليل أنه قول الله لأن البشر مشهور أنه يوفق الشيء بما لا يجعل أحدا يعترض عليه ... ، ولكن الله يجعل أحداثا تخالف توقعات البشر فمثلا المحسن له الجنة والمسيء له النار ... ، ولكن نجد قوله تعالى (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) (٢) ... ، ولقد نزل القرآن مفرقا لأن هناك جواب السائل ... ، أو إنكار لقول أو فعل ... ، ولتثبيت فؤاده صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتكرار نزول جبريل عليه‌السلام ... ، لذلك فاحذر أيها المسلم أن تفعل السيئات حتى ينزل الله عليك الرحمة ... ، كذلك فى نزوله مفرقا أدعى لقبوله لكثرة ما فيه من الأوامر والنواهى ،

__________________

(١) سورة يوسف الآية ١٠٨

(٢) سورة مريم الآيات ٧١ ، ٧٢

٢٠١

والفرائض ... ، كذلك من الإعجاز نزوله على سبعة أحرف ليخاطب كل اللهجات ، ولإثبات أنها رسالة غير عادية ... ، كذلك وجود المحكم المفهوم معناه ... ، ولكن هناك المتشابه لابتلاء العباد بالوقوف عنده والتوقف فيه ، والتفويض والتسليم ، والتعبد بتلاوته ، وإقامة الحجة على المنكرين فرغم أنه نزل بلغتهم لكنهم عجزوا عن الوقوف على معناه ، مع بلاغتهم وسرعة بداهتهم ودل ذلك أنه ليس من قول البشر ولكنه تنزيل الحكيم الحميد ... ، وكذلك فيه فرصة للبحث وإعمال العقل ، وتفاوت درجات الخلق فى معرفة القرآن ، إذا لو كان كله محكما ، لم يظهر فضل الباحث والعالم على غيره ، وليظل القرآن دائما يجذب الخلق للبحث فيه واستخراج المزيد من كنوزه وعطاءاته الربانية ... ، وهناك التقديم والتأخير لحكمه كتقديم صفة العزيز على الحكيم ... ، لأن الله تعالى عز فحكم ... ، وتقديم صفة العليم على الحكيم لأن الإحكام والإتقان ناشئ عن العلم ... ، وقد يكون التقديم لتكون نهايات الآيات متناسقة ومتناسبة ، وقد يقدم لفظ فى موضع ويؤخر فى موضع آخر لقصد البدء به والختم به للاعتناء بشأنه ... ، أو التفنن فى الفصاحة ... ، أو إخراج الكلام على أساليب عديدة ... ، كذلك هناك التشابه فى المعنى مع اختلاف اللفظ ... ، ولقد تم جمع القرآن وفقا للعرضة الأخيرة للقرآن التى عرضها جبريل على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى العام الذى مات فيه وهى القراءة التى أقرأها صلى‌الله‌عليه‌وسلم زيد بن ثابت وهو من كتاب الوحى ومن الحفاظ وقد كلف بالإشراف على الجمعة الأولى والتى كان يكتبها بعد مراجعة الحفظة ووجود شاهدين مع كل قارئ يشهدون له قبل أن يكتب وتم ذلك فى عهد أبى بكر الصديق ، وكذلك أشرف أيضا على الجمعة الثانية فى عهد عثمان بن عفان رضى الله عنه وكان معه ثلاثة من الحفاظ اللذين يقرءون بلغة قريش والتى أقرأها النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهى القراءة التى يقرؤها الناس اليوم ... ، ولحفظ القرآن رتبت آياته ... ، وقسم إلى سور ... ، وآيات ... ، ورقمت كل آية بوحى الله تعالى لحفظه من التحريف أو الحذف ... ، أو الإضافة كما يحدث فى الكتب الأخرى ... ، التى وكل الله البشر بحفظها ... ، ولكن

٢٠٢

القرآن الكريم قال عنه ربنا سبحانه وتعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (١) ... ، فكان توفيق الله تعالى لكل من اجتهد فى الجمع ... ، وفى خدمة علوم القرآن ... ، فاللهم كل من خدم دينك وبحث فى كتابك وجاهد لرفع راية الإسلام ... ، اللهم امنحه رحمتك وثوابك العظيم ... ، إنك أنت العلى الكريم ... ، ومن إعجازات القرآن الكريم الوقف ... ، والابتداء وهناك الوقف الكافى ... ، والوقف الحسن ... ، والجائز ... ، واللازم ... ، وهناك ابتداء تام ... ، وابتداء حسن ... ، وغير ذلك الكثير من الكنوز فسبحان العليم الحكيم ... ، ومن علوم القرآن علم الإنشاء والإيجاد ... ، وعلم التوحيد والتنزيه وعلم صفات الذات ، وعلم صفات الفعل ، وعلم صفات العفو والعذاب ، وعلم اختلاف المعانى وعلم الحشر والحساب ... ، وعلم النبوءات ... ، وهناك علوم السنة ... ، والأحاديث القدسية ... ، وغير ذلك من علوم الإعجاز كالنظر والتفكر فى الكون ... ، وفى القرآن الكريم بالفطرة ، وفى الاكتشافات العلمية المطابقة للقرآن ... ، والاكتشافات العلمية الواردة فى سنة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ... ، والإرهاصات والإشارات فى الكتب السابقة التى تدل على بعثته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ... ، ومنها ما قاله ورقة بن نوفل وغيره ممن قرءوا فى الكتب ... ، ونبوءات النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم التى تتحقق ... ، والإعجاز الرياضى فى القرآن الكريم ... ، والتذكرة الزمنية والكرامات والخواتيم ... ، لقد خلق الله تعالى الجن والإنس ليعبدوه ... ، وما عبد الله إلا بعلم ... ، وما عصى إلا بجهل فمعنى عبادة الله أن تعبده حق عبادته بالتفكر فى خلقه والبحث فى العلوم ومعرفة أوامره ونواهيه وإعجازاته ، وسؤال أهل العلم وغير ذلك وليست العبادة إقامة الفرائض بحركات وطقوس دون خشوع القلب ، ومعرفة الحكمة ، واستقرار اليقين فى القلب ... ، والمؤمن القوى خير وأحب إلى الله تعالى من المؤمن الضعيف ... ، إن المؤمن يذلل الله له كل شىء ... ، والغنى فى قلبه ... ، وتأتيه الدنيا وهى راغمة ... ، والعاصى يتمرد عليه كل شىء وفقره بين عينيه ... ، وتذكر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعمه أبو طالب لتعلم أن الهدى من الله ... ، وتذكر قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم" من علق تميمة فلا أتم الله له" (٢) ـ إن من إعجازات القرآن ومطابقته لما يكتشفه العلماء الآن ، فهناك نوع من الحيتان

__________________

(١) سورة الحجر الآية ٩

(٢) ذكر الحديث فى كتاب فتح المجيد فى شرح كتاب التوحيد فى النهى عن التمائم

٢٠٣

الزرقاء يبلغ طول الذكر ٢٥ مترا ومتوسط وزنه ١٧٥ طن ... ، عروقه مثل الأورطية يمكن أن يزحف بها رجلا بالغا ... ، فمه يتسع لأكثر من خمسين رجلا ... ، وتتميز بانعدام أسنانها ومطاطية ، حلوقها وضيق البلعوم وتتغذى على الكائنات السابحة (١) ويرى العلماء أن هذا الحوت بالذات دون غيره من الحيوانات البحرية هو الذى يمكن أن يلتقم إنسانا دون أن يمزقه كما حدث ليونس عليه‌السلام فنجد قوله تعالى (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) (٢).

ـ من الإعجاز أيضا تبيين القرآن بالسنة ... ، أو السنة بالقرآن فى بعض المواضع لإثبات أن رسالة الله ، كلها وحى من عنده وأن القرآن والسنة رسالة كاملة ، فلم يذكر القرآن الكريم أن عدد الصلوات خمس ولكن بينت السنة ذلك ، وهناك أمثلة كثيرة على ذلك كذلك هناك تناسب آيات القرآن فى ختام السورة لما جاء بعدها والإعجاز فى إنزال الحديد والأنعام والمطر وإثبات العلم الحديث ، فالحديد يتكون فى نجوم تسمى المستعرات وينزل إلى الأرض ... ، وهناك أحياء بكتيرية وشفيرات وراثية لكائنات وجدوا بعض آثارها على بعض النيازك التى تهبط إلى الأرض ... ، كذلك تكون قطرات المطر فى السحاب وإنزالها فى ظروف مناسبة ... ، وغير ذلك الكثير من آيات الإعجاز ... ، إن الفوز فى التمسك بكتاب الله وسنة رسوله ... ، ومن إعجاز القرآن الزيادة فى الجواب لحكمه كما زاد موسى عليه‌السلام فى جوابه وهو يتحدث عن استخداماته لعصاه أنسا بطول الحديث مع الله تعالى ... ، وهناك العدول فى الجواب كما فى الآية (قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) ... ، إنه سؤال عن الماهية والجنس وهو سؤال لا يليق لأن الله عزوجل ليس كمثله شىء ... ، لذلك عدل موسى عليه‌السلام فى جوابه إلى بيان الوصف المرشد إلى معرفة الله وذلك بوصف مخلوقاته كما فى الآية (قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ).

وهناك حذف السؤال ثقة بفهم السامع ... ، وأيضا نجد أن كل كلمة تؤدى معناها

__________________

(١) إشارة عن نواحى الإعجاز العلمى ـ الدكتور زغلول النجار ... ،

(٢) سورة الصافات الآية ١٤٢.

٢٠٤

الخاص بها رغم وجود كلمات كثيرة مترادفة ، كالخوف والخشية ... ، يقول تعالى (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) (١) وأما عن الملائكة يقول تعالى (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (٢) ... ، وهذا يبين أن الملائكة على عظم خلقهم يخافون من ربهم رغم قربهم منه سبحانه ولكن الخشية كناية عن خوف العباد وخشية الله بالغيب فالقرب يناسبه الخوف ... ، والبعد تناسبه الخشية ... ، وإذا كان الشح أشد من البخل فهو بخل مع حرص والبخل يكون فى التصرف (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) (٣) ... ، والشح يصيب النفس (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٤) ... ، كذلك كلمة جاء تأتى مع الأحداث وكلمة أتى تأتى فى المعانى والأزمان مثل (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) ... ، وقوله تعالى (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) (٥) كذلك عمل وفعل ... ، نجد كلمة عمل تأتى مع امتداد زمان (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ) (٦) وفعل تدل على الفجأة (أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ) (٧) ... ، كذلك السنة تدل على المشقة والجدب والعام يأتى مع الرخاء والخصب مثل (تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً) (٨) ... ، وقوله تعالى (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ) (٩) ... ،

فعليك أخى المسلم أن تتذوق حلاوة القرآن وإعجازه وبلاغته ورحمات الله فيه وشدة عذابه وأن تحذر غضب الله بعد رضاه ... ، فمن تذوق حلاوة رضا الله يدرك أن غضبه حرمان ... ، ووحدة ... ، وغربة ... ، وهلاك ... ، فعليك بالرحمة ... ، وجادل بالتى هى أحسن ... ، حتى يرحمك الله ... ، وعليك باليقين الثابت ... ، فالقرآن ملئ بألوان الإعجاز ... ، ومعرفة الإعجاز تجعلك تأخذ من كل شىء موعظة وتنظر لآيات

__________________

(١) سورة فاطر الآية ٢٨.

(٢) سورة النحل الآية ٥٠.

(٣) سورة النساء الآية ٧٣

(٤) سورة الحشر الآية ٩

(٥) سورة النحل الآية ١

(٦) سورة سبإ الآية ١٢

(٧) سورة الفجر الآية ٦

(٨) سورة يوسف الآية ٤٧

(٩) سورة يوسف الآية ٤٩

٢٠٥

الله بيقين وتنفذ ما جاء فيها ... ، وتؤثر فيك الموعظة لأنك على ثقة ويقين بأن وعد ربك الحق ... ، وعندها تستقيم ... ، واللذين استقاموا وآمنوا بالله تتنزل عليهم الملائكة وتبشرهم بعدم الخوف والحزن ... ، وبالجنة التى كانوا يوعدون ... ، كذلك يزهد الإنسان فى الدنيا والشهوات ... ، إن السعادة ليست فى نيل الشهوة ولكن فى الانتصار على الشهوة لأن جميع الشهوات فى النهاية تساوى لا شىء ... ، والسعادة الحقيقية فى رضا الله تعالى ... ، علينا بالمحافظة على الصلاة ، فالصلاة الغير مقبولة تلف فى ثوب أسود ويضرب بها فى وجهك وهى تقول ضيعك الله كما ضيعتنى ... ، وأما المقبولة تدعو لك حفظك الله كما حفظتنى وتصعد إلى السماء ... ، واحذر الزنا ، فلقد رجم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من زنا ، ورجم الصحابة من بعده فتذكر مع الشهوة شدة العقوبة ... ، واعلم أن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة فلا تحرص على الدنيا ... ، واجعل صلاتك ونسكك ومحياك ومماتك لله رب العالمين ... ، واحمد الله أن ربك الصبور يرزق من يعصاه ولا يعاجل بالعقوبة ... ، واعلم أن الله لا يحب المسرفين فلا تسرف فى شىء وادع الله أن يعينك على ذلك ... ، واعلم أن الله يعلم ما تسر وما تعلن بقوله سبحانه (أَ وَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) (١) ... ، وتذكر حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم" كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت" (٢) ... ، فاحرص على تربية أولادك وكن غيورا على أهلك فعن عمار بن ياسر قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم" ثلاثة لا يدخلون الجنة أبدا ، الديوث والرجلة من النساء ومدمن الخمر ..." (٣) والديوث من لا يبالى من دخل على أهله ... ، والرجلة من تتشبه بالرجال ... ، وتذكر علقمة الذى هم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يضرم نارا ويضعه فيها حتى ترضى عنه أمه حيث لم ينطق بالشهادة عند موته حتى رضيت عنه وسامحته ، مما يثبت أن عاق والديه جزاؤه النار ، فاللهم اجعلنا من البارين ... ، واللهم ارحمهما كما ربيانى صغيرا ... ، واعلم أنك لكى تصل إلى مرحلة

__________________

(١) سورة البقرة الآية ٧٣.

(٢) جزء من حديث رواه أبو داود ، والنسائى ، والحاكم.

(٣) جزء من حديث رواه الطبرانى ـ الترغيب والترهيب ـ الجزء الثالث ص ٢٥٧.

٢٠٦

عبادة الله لا بدّ من اليقين والنظر ومعرفة آيات الله ... ، وعندها تصلى بخشوع وتكثر من الشكر والحمد ... ، وتعترف بأن الفضل كله لله فاللهم أدم علينا نعمتك ورحمتك ... ، واعلم أن الصلاة رحمة من الله وعلاجا نفسيا ، لك فكلما ازداد تعبك فى الدنيا وواجهت المشكلات تأتى الصلاة لتنسى معها كل همومك وذلك خمس مرات وهذا ما يتبعه أطباء الأمراض النفسية حيث يطلب من المريض أن يتذكر ما يزيد انفعاله وحزنه ثم يطلب منه نسيانه والاسترخاء فيهدأ ... ، وهكذا يكرر معه الأمر حتى يكون أكثر هدوءا فى كل الأحوال ... ، وهو ما تفعله الصلاة مع المصلى فسبحان العليم الخبير ... ، واعلم أن الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا ويحصيها ... ، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) ومثقال الذرة لا يرى بالعين المجردة ... ، واعلم أن كل شىء مهم ولا بدّ من إتقانه والإهمال فيه يؤدى إلى عواقب وخيمة واعلم أن كل الأنبياء هاجروا ، وكانوا أحرارا لا يعرفون الهموم لأنهم توكلوا على الحى القيوم ، وكانوا لا يهاجرون إلا بإذن الله ... ، واعلم أن الله تعالى يعطى الدنيا لمن يحب ومن لا يحب ولكنه يعطى الآخرة لمن أحب ... ، وأن زوال الدنيا أهون عند الله من قتل امرئ مسلم" لو اجتمع أهل السماء والأرض على قتل امرئ مسلم لأكبهم الله فى النار" واحذر من العجلة والإسراف وسؤال الناس ... (١) واعلم أن السنين تمر وهناك الكثير من المفاهيم المقلوبة فى عصرنا ، ومنها التعدى والظلم ، وعدم الوفاء بالوعد ، فهناك من كان على شركه وأوفى بوعده لسراقة بن مالك وعبد الله بن اريقط ، واعلم أن ما يزيد عداد سيئاتك ويدخلك النار بعد أن كنت من أهل الأعراف النظر ، واللسان ، والسجائر والإدمان ، والبخل ، والكبر ، وعدم إتمام الصلاة ، وطاعة الشيطان وما يزيد عداد حسناتك ويجعلك فى معية الله سبحانه ، الذكر والخشوع ، والتعاون مع الناس (٢) ... ، وتغيير المنكر ، والطاعة لأوامر العليم الخبير

__________________

(١) قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم" ازهد فى الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس حببك الناس" رواه ابن ماجة وقال حديث حسن محتضر رياض الصالحين ص ١٦٢

(٢) يخبرنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم والله فى عون العبد ما دام العبد فى عون أخيه ..." جزء من حديث رواه مسلم ص ٩٦ المرجع السابق

٢٠٧

(وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) (١). فعلينا أن نأخذ العبر من تلك الرسالة الجامعة ... ، رسالة الخير العالمية حيث تحتوى الصبر وقصص البطولات والثبات ... ، ويبدو ذلك فى هجرة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم والصحابة والصبر على ترك الأهل والأولاد ، والصبر على الجوع حين هو حوصروا فى شعب أبى طالب ثلاث سنوات ... ، والصبر على القتال حيث خاضوا الكثير من المعارك والغزوات ... ، وفيها الإيثار والأخوة ولنا مثل فى أهل المدينة من الأنصار ، لذلك استحقوا قوله تعالى (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) ... ، وفيها الصبر على الدعوة حيث ضرب أبى بكر الصديق ... ، وأبو ذر الغفارى ... ، وعذب بلال وعمار وغيرهم ... ، ومشى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الطائف على قدميه مائة كيلو حتى لا تتبعه قريش إن أدركوا أنه قد ركب راحلته ... ، والطائف تنحدر بارتفاع حتى ٥٠٠٠ قدم ، وفى النهاية أدميت قدمه الشريفة وقذف بالحجارة ، لقد كان يقصد كبراء القوم فأسلم عداس وقبل قدميه وهو الغلام الصغير ... ، وكان يقصد الإنس فأرسل الله إليه نفر من الجن يستمعون إليه وهو يصلى ويقرأ القرآن فرجعوا إلى قومهم منذرين ، وحزن حيث لم يجد الاستجابة له من أهل الأرض فاذن الله له برحلة السماء فى الإسراء والمعراج ... ، لندرك أن المقادير بيد الله ، فعلينا أن نأخذ بالأسباب مع التوكل على الله ، وما يريده سبحانه يكون ... ، ولنا مثل فى خرق السفينة وقتل الغلام ، وإقامة الجدار ، مع نبى الله موسى والخضر عليهما‌السلام ، وأيضا هناك قصص الوفاء حيث كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد خمسة عشر عاما من وفاة السيدة خديجة رضى الله عنها يقول عند ما يهدى شيئا : أرسلوا لصويحبات خديجة ... ، لقد بشرها الله تعالى لصبرها مع النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالسلام منه وبيت فى الجنة من قصب ، لا نصب فيه ولا وصب ، حيث كانت تصعد إليه فى الغار وهو يتعبد ، وحوصرت معه فى الشعب وكانت من أثرياء قريش ... ، لقد ابى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يطبق عليهم الأخشبين فكان يزيده جهل الجاهل

__________________

(١) سورة النساء الآية ٨٧.

٢٠٨

حلما ... ، وكان يعلم أصحابه علو الهمة فعند شكواهم من شدة العذاب ، يخبرهم أنه كان يؤتى بالرجل ممن كانوا قبلهم فينشر بالمنشار من مفرق رأسه إلى قدمه فلا يثنيه ذلك عن دينه ... ، فعلينا أن ندافع عن تلك الرسالة ونقتدى بالنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ... ، هناك من أساء إلى أحدهم فنهاه سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه فلم ينتهى فدعا عليه وكان مجاب الدعوة فخرجت ناقة شاردة تشق الصفوف فلم تزل به حتى قتلته ... ، وهناك من كانت تسب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنهاها زوجها الكفيف أكثر من مرة ولم تنتهى فقتلها فأخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنها هدر ... ، أى لا دية لها ... ، وفى أيام التتار أساء رجل إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقول البذيء وهو يدعو إلى النصرانية فكان هناك كلب يزمجر ناحية هذا الرجل وقطع رباطه وأنطلق نحوه ... ، وحين ربطوه ، وعاد الرجل لإساءته ، قطع رباطه وأمسك بعنقه واستخلص حنجرته أداة الكلام ... ، وحين أساء كعب بن الأشرف وكثر إيذائه للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : من لى بكعب بن الأشرف فقد آذى الله ورسوله ، فقتله بعض الصحابة ... ، فعلينا بالثبات ... ، حيث شهد الضب ، ونطق الذئب ، وأقبلت الشجرة تخض الأرض خضا شهادة من الحيوان والنبات بنبوءة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ... ، فوداعا وسحقا للظلمات ، والباطل ومرحبا برسالة الخير ... ، والحق ... ، والنور ... ، رسالة العزة والأمانة ... ، كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يلقب قبل بعثته بالصادق الأمين ، حيث يضع المشركين عنده الأمانات ... ، يأتى الأنبياء يوم القيامة ، من معه الرجل ... ، والرجلان ... ، ومن ليس معه أحد ... ، ومن معه السواد العظيم ... ، ونبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أكثرهم تابعا ... ، فالحمد لله على خلقنا وأن جعلنا من هذه الأمة ، وعلى رأفته بنا ، والتيسير علينا ، وسبحانه لم يعاجلنا بالعقوبة ... ، كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينصر المظلوم ويتصدق على الفقير لأنه يعلم أن إغاثة الملهوف يأتى بعدها الفرج ... ، وحين دعاه جابر رضى الله عنه إلى طعام يكفى رجلا أو رجلين دعا جيشا بأكمله ، فأكلوا حتى شبعوا وبقى الكثير من الطعام ... ، فعلينا بالاقتداء به صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطلب العلم وتكرار سماعه حتى يكون الفهم الحقيقى لرسالة الخير ... ،

٢٠٩
٢١٠

الجزء الثانى

إعجاز القرآن البلاغى والحسابى

٢١١
٢١٢

الفصل الأول

إعجاز القرآن بلاغة وحسابات

٢١٣
٢١٤

إعجاز القرآن بلاغة وحسابات

إنّ القرآن الكريم ليس كلاما عاديا ينطق أو مجرد أوامر وتشريعات نلتزم بها ولكنه فى الحقيقة يتميز بشيء غير عادى وهو أنه روح من أمر الله ... ، يقول تعالى (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) (١) لذلك فهو يحتوى معان لا تستطيع أن تحيطها عقول البشر وستظل عطاءاته دائما على مر العصور ، لذلك فإن ترتيبه فى المصحف ونظامه ونهايات آياته سواء بنهاية فردية أو زوجية لها حكمة يعلمها سبحانه حيث إنه لا بدّ أن يظهر إعجاز رياضي وحسابى فى عصر الحسابات الذى نعيشه الآن ، ولقد ظهر بالفعل هذا النوع من الإعجاز ... ، فقد وجد العلماء أن القرآن الكريم يستحيل أن تضاف إليه آية أو سورة أو يحذف منه مثل ذلك أيضا وإلا أختل النسق والترتيب الرياضي والهندسي الذى جعله الله تعالى سرا من أسراره ليحمل الإعجاز المناسب لكل عصر ، كذلك فإن هذا الإعجاز يمتد إلى حروف القرآن ذاتها فكل حرف له مدلول وله حكمة ، وكل كلمة لها حقيقة ومعانى بعيدة ومعجزة ... ، لذلك فإن العالم المادى الذى يحوى المتناقضات كالعقل مثلا فهو يمكن أن يعتريه النسيان ... ، أو النبوغ فى أمر ما واستيعابه ، وعدم النبوغ فى أمر آخر فوق طاقته ... ، وكذلك كل ما يخضع للتجربة فى العالم المادى نجد أنه يحتوى على المتناقضات ، فالطين مثلا يمكن أن يكون فى حالته الطينية ثم تجده فى صورة أخرى كالحمإ المسنون ... ، ثم صلصال كالفخار ، وهكذا ... ، فكل ما يخضع للعالم المادى خاضع للتغير ... ، ولكن كل ما يخضع لعالم الأمر والتشريع الإلهى فهو لا يخضع لأى تناقضات لأنه مستمد من أمر الله وكلماته التى يستحيل عليها التناقض ، لذلك فإن الإنسان الذى يحتوى نفخة من روح الله إذا أخضع فكرة لما يوافق شرع ربه وأمره كانت أنوار الإيمان التى توافق عالم الأمر الإلهى ... ، وأما إذا أخضع الإنسان فكرة لتصورات البشر المادية المحكومة بقوانين عالم الخلق المادى الذى يحوى المتناقضات

__________________

(١) سورة الشورى الآية ٥٢.

٢١٥

فيكون الاختلاف والتصادم والقصور فى الفهم والبعد عن الحقيقة التى فيها نجاته وهى تنفيذ أوامر الله بلا جدال ... ، لذلك فإن فلسفة فصل العلم عن الدين هى فلسفة ساقطة ، فالعلم هو مقدمات البحث والنور الذى يحمله الباحث ، والدين هو نبع الأصل الذى يثبت النتيجة التى يتم البحث عنها لأنه لا يحتوى على حقائق كونية فقط يعرفها الباحث من خلال أبحاثه وتجاربه وتأملاته ويجدها مطابقة تماما لما أشار إليه القرآن الكريم وذلك فى كل مجالات العلوم ، بل إنه يحتوى على الثراء ودعوة الخير والوعد بالنعيم فى جنة الخلد بعد فناء العالم المادى ... ، لذلك لا بدّ من الرجوع إلى القرآن الكريم ، إلى مصدر النور فى كل شىء وتدبر آياته وإعمال العقل بما يوافق أمر خالقنا حتى تكون النجاة يقول تعالى (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) (١).

لذلك فإن القراءة والتلاوة والاستماع فقط لآيات القرآن الكريم لن يكون بهم إخراج الكنوز والحقائق التى يحتويها كتاب الله ولكن لا بدّ من التدبر وإعمال العقل ليجد الإنسان الحقيقة والبرهان فيستقر الإيمان فى القلب ويكون الثبات مهما اشتدت رياح السطحية النابعة من العقول الشاردة التى تتخبط فى عالم المادة والشهوات والمتناقضات والبعيدة عن نبع الحقيقة والنور ....

وإذا نظرنا إلى الإنسان نجد أنه قبل أنه ينطق بكلمة لا بدّ أن يكون لها معنى فى داخله ثم يجعل لها قالبا لغويا يعبر عن معناها فى عقله وهى صياغة القول رغم أنه لم ينطق بها يقول تعالى (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ) (٢).

ثم بعد ذلك يكون اللفظ الذى يخرج إلى العالم المادى بتلك الكلمة التى تكونت بمعناها فى أعماق الإنسان ثم صيغت قولا فى عقله يعبر عنه بأى لغة عربية أو غيرها

__________________

(١) سورة الملك الآية ١٠

(٢) سورة المجادلة الآية ٨.

٢١٦

يقول تعالى (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (١) ، ومن ذلك نجد أن القرآن الكريم هو كلام الله تعالى الذى أراده بمعناه فى الأزل فى ذاته العلية التى ترتفع فوق عالم المادة والمكان والزمن ثم أختار له القول بأصفى اللغات وهى اللغة العربية والتى تحتوى كل الأسرار الفطرية ، والكونية ، والحسابية والبلاغية ، وغيرها ، ثم كان ألفاظا منطوقة بما يناسب عالمنا المادى ، لذلك فالقرآن الكريم هو انعكاس لكلمات الله تعالى التى أرادها أزلا وكانت فى اللوح المحفوظ حتى أذن بها بألفاظ من وحيه سبحانه وفيها العلاج لكل قضايا عالمنا المادى المخلوق ... ، ولأن الله تعالى هو الخالق الواحد فإن الغاية فى الكون كله واحدة فلا يوجد أكثر من إله وإلا لتعددت الغايات ... ، لذلك نجد أن عالم المادة المخلوق بأمر الله غايته واحدة وينتظم فى وحدة واحدة من الذرة إلى المجرة فى قانون واحد وهو الدوران والطواف وفى اتجاه واحد عكس عقارب الساعة كطواف البشر حول البيت الحرام ... ، وكذلك فإن عناصر الإنسان هى نفس عناصر الأرض وعناصر الأرض هى نفس عناصر الأفلاك الأخرى ... ، فهناك وحدة فى الخلق تدل على أن الغاية واحدة ، والخالق واحد لا شريك له ... ، لذلك فإن الذات الإلهية تعلو فوق كل مقاييس المخلوقات ، وأثناء الحديث عن الذات الإلهية وصفاتها يجب رفع الكيفية والظرفية المكانية والزمانية ، فإرادة الله تعالى هى أمره بكن فيكون والمشيئة هى إرادة الله مع تسخير الأسباب التى يعلمها البشر فى إطار المكان والزمان ، يقول تعالى (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٢).

وكذلك فإن كل ما فى الكون من كائنات وعلوم وهدى وضلال لا يخرج عن مشيئة الله وعلمه بالحكمة من ذلك ، يقول تعالى (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) (٣) ويقول تعالى (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) (٤) فإرادة الله تختلف عن المشيئة فى كون أن المشيئة تحتمل

__________________

(١) سورة ق الآية ١٨.

(٢) سورة التكوير الآية ٢٩.

(٣) سورة الحج الآية ١٨

(٤) سورة النور الآية ٤٥

٢١٧

أشياء مختلفة بفضل تسخير الله تعالى للأسباب ، يقول تعالى (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) (١) ، فالمشيئة تحتمل أشياء مختلفة جعلها الله تعالى حكما يتمشى مع انفعالات البشر ، وخواطره ، واختباره ، وأمنياته ، وما تحمله تلك الأمنيات من المتناقضات كبشر مخلوق يخضع للتكوين المادى ... ، لذلك فلقد خاض الإنسان فى مسألة الاستنساخ وأخذ بالأسباب حتى عرف اختراع الأجهزة التى استطاع أن يعرف بها نوع المولود وكلها أسباب مسخرة بين يدى الإنسان بمشيئة الله ويسمح بها طالما أن هذا الإنسان أخذ بالأسباب واختار بين البدائل ، وقد سمح الله له أن يكون مخيرا حتى يحاسب إذا أختار السعى فى طريق الشيطان ... ، ولكن إذا ارتبطت إرادة الله تعالى بشيء فهذا يعنى أن احتمال وقوع نقيضه مستحيل ، فإذا أراد الله العقم لأحد من البشر فبذلك يستحيل أن ينجب مهما ذهب إلى الأطباء لذلك يقول تعالى (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) (٢) جعل الله تعالى العقم يخضع للمشيئة لأن الله تعالى برحمته ، يمكن أن يشاء لهذا العقيم ... ، بأن ينجب ولو قال الله تعالى يجعل من يريد عقيما لكان من المستحيل أن ينجب العقيم ولذلك نجد الكثير ممن تم تشخيص حالاتهم بالعقم يمكن بعد مرور عدة سنوات يشاء الله تعالى لهم بالإنجاب ... ، إن إرادة الله تعالى لا تكون إلا فى خير الدنيا والآخرة ، يقول تعالى موضحا لنا إرادته التى لا تحتمل إلا طريقا واحدا خيرا فى كل حال (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) (٣) ... ، (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) (٤) (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (٥) ... ، ولكن إذا أصر العبد على الضلال تكون إرادة الله الكونية بأن يزيده ضلالا يقول تعالى (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) وقوله تعالى (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ

__________________

(١) سورة الشورى الآية ٤٩.

(٢) سورة الشورى الآية ٥٠.

(٣) سورة الأنفال الآية ٦٧.

(٤) سورة غافر الآية ٣١.

(٥) سورة البقرة الآية ١٨٥.

٢١٨

تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) ... ، إن لله تعالى إرادة كونية ، وإرادة شرعية.

لذلك فلا نحكم على العاصى الشرير بأن الله أراد له ذلك ، دون أن يبين له طريق الخير ، ولكن نقول أن الله خيره واختبره وبين له طريق الهدى وأمره بالسعى فيه وهو خالف ما يريده الله واختار طريق الشر فسمح له الله وشاء له بذلك ... ، فالشر يعود إلى إرادة الإنسان الضالة التى يسمح الله لها بأن تحدث باختيار الإنسان وفق مشيئة الله سبحانه ... ، لذلك فالمتأمل للنصوص القرآنية يجد أن لفظ الإرادة الإلهية فى النصوص القرآنية.

تأتى بمعنى السماح للأسباب التى اختارها هؤلاء الضالين بأن تكون طريق هلاكهم يقول تعالى (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ) (١) ، ويقول تعالى (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) (٢). وهنا نجد أنه لا بدّ من إفساد العباد أولا بالكفر والابتعاد عن منهج الله حيث تكون إرادة الله بالعقوبة ، ومما سبق نجد أن إرادة الله لا تكون إلا بالخير حيث لا يريد الله تعالى الظلم للعباد ولنا دليل فى هذه الآية من سورة الجن (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَ شَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) (٣).

ونلاحظ هنا إرادة الشر تأتى بصيغة المبنى للمجهول ولم تأت مرتبطة بالذات الإلهية كما هو الحال فى إرادة الرشد الذى يأتى بالخير دائما ، والمتأمل لآيات القرآن الكريم ، يلاحظ الكثير من صور الإعجاز ، فجميع أسماء الصفات ... ، لله تعالى تنتمى إلى اسمه تعالى الله ولذلك نجد أن كلمة اسم تأتى مضافة لكلمة الله وكلمة الرب فى القرآن كله لم تأت مضافة لباقى الصفات ، ونجد أن المشيئة ترتبط بالمسائل المتناقضة والتى تناسب عالم الخلق المكون من أزواج ويحتوى المتناقضات ... ، ومن ذلك نجد خطورة أن يدعى البشر بأن لله ولدا وهذا يستحيل لأن الولد يقتضى الزوجية

__________________

(١) سورة آل عمران الآية ١٧٦.

(٢) سورة الإسراء الآية ١٦.

(٣) سورة الجن الآية ١٠

٢١٩

التى تنتمى لعالم الخلق المادى ... ، فالذات الإلهية لا تخضع للقوانين المادية لأن الله تعالى فوق المكان والزمان ليس كمثله شىء ... ، يقول تعالى (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) (١) ولكن فى العالم المادى نجد أن هناك التناظر والزوجية فالإيمان والكفر مسألتين متناظرتين لذلك فكل كلمة ترد فى القرآن الكريم بشكل متناظر تماما (١٧) مرة ، وتلك صورة من صور الإعجاز القرآنى ، كذلك نلاحظ أن كلمة الروح هى كلمة فوق عالم الخلق المادى لذلك فهى ترتبط بالذات الإلهية وبعالم الأمر الذى يعلو فوق المادة ولذلك نجدها فى القرآن الكريم مقرونة بأمر الله يقول تعالى (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ) (٢) ... ، (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (٣).

وبذلك نجد أن الذات الإلهية هى أعلى معرفة فى القرآن الكريم ثم عالم الأمر الذى يصدر عن الذات الإلهية كالروح والأمر بالعدل والإحسان وكل خير فأمر الله تعالى هو الدعوة لكل خير يقول تعالى (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) (٤) ويقول تعالى (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) (٥).

ثم عالم الخلق الذى خلقه الله تعالى وقدر فيه الابتلاء والاختبار حيث نجد فيه اختلاف أهواء البشر فمنهم من يختار طريق الخير ... ، فأمر الله تعالى هو دعوة لكل خير ومنهم من يختار طريق الشر وهذا العالم له بداية ونهاية ... ، لذلك فإذا وردت كلمة أبدا بالنسبة لعالم الخلق المحدود الزمان والمكان فإنها ترتبط بفترة زمنية محددة يقول تعالى (إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها) (٦) ، وأما حين ترتبط بالدار الآخرة فإنها تعنى السرمدية والنعيم الدائم بلا نهاية يقول تعالى (خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) (٧) ... ، إن القرآن الكريم والمستمد

__________________

(١) سورة النساء الآية ١٧١.

(٢) سورة النحل الآية ٢.

(٣) سورة الإسراء الآية ٨٥.

(٤) سورة الشورى الآية ٥٢.

(٥) سورة النحل الآية ٩٠

(٦) سورة المائدة الآية ٢٤

(٧) سورة النساء الآية ١٢٢.

٢٢٠