اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٢

الجنّة من كان في قلبه مثقال ذرّة من كبر ، ولا يدخل النّار من كان في قلبه مثقال ذرّة من إيمان ، فقال رجل : يا رسول الله ـ صلّى الله عليك ـ إنّ الرّجل يحبّ أن يكون ثوبه حسنا ، قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ الله ـ تعالى ـ جميل يحبّ الجمال ، الكبر : بطر الحقّ ، وغمط الباطل» (١).

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٣٢)

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) الآيات.

لمّا قرر دلائل التوحيد ، وأبطل مذاهب عبدة الأصنام ، ذكر بعد ذلك شبهات منكري النبوة مع الجواب عنها.

فالشبهة الأولى : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما احتجّ على صحة بعثته بكون القرآن معجزة ؛ طعنوا فيه ، وقالوا : إنه أساطير الأولين ، واختلفوا في هذا القول.

فقيل : هو كلام بعضهم لبعض.

وقيل : قول المسلمين لهم.

وقيل : قول المقتسمين الذين اقتسموا [مكّة](٢) ومداخل مكة ؛ ينفّرون عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا سألهم وفود الحاجّ عمّا أنزل الله على رسوله.

قوله : «ماذا» تقدم الكلام عليها أول البقرة.

وقال الزمخشريّ : «أو مرفوع بالابتداء ، بمعنى أي شيء أنزله ربّكم».

__________________

(١) أخرجه مسلم (١ / ١٩٣) كتاب الإيمان : باب تحريم الكبر وبيانه (١٤٧ / ٩١) وأبو عوانة (١ / ٣١) والبغوي في «شرح السنة (٦ / ٥٣٥).

(٢) زيادة من : ب.

٤١

قال أبو حيّان (١) : «وهذا غير جائز عند البصريّين». يعني : من كونه حذف عائده المنصوب ، نحو «زيد ضربت» وقد تقدم خلاف النّاس في هذا ، والصحيح جوازه ، والقائم مقام الفاعل ، قيل : الجملة من قوله (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ) لأنها المقولة ، والبصريون يأبون ذلك ، ويجعلون القائم مقامه ضمير المصدر ؛ لأنّ الجملة لا تكون فاعلة ، ولا قائمة مقام الفاعل ، والفاعل المحذوف : إمّا المؤمنون ، وإما بعضهم ، وإمّا المقتسمون.

وقرىء (٢) «أساطير» بالنصب على تقدير : أنزل أساطير ، على سبيل التهكّم ، أو ذكرتم أساطير.

والعامة برفعه على أنّه خبر مبتدأ مضمر فاحتمل أن يكون التقدير : المنزّل أساطير على سبيل التّهكّم ، أو المذكور أساطير ، وللزمخشريّ هنا عبارة [فظيعة](٣).

قوله «ليحملوا» لمّا حكى شبهتهم قال : «ليحملوا» وفي هذه اللام ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها لام الأمر الجازمة على معنى الحتم عليهم ، والصغار الموجب لهم ، وعلى هذا فقد تمّ الكلام عند قوله : «الأوّلين» ثم استؤنف أمرهم بذلك.

الثاني : أنها لام العاقبة ، أي : كان عاقبة [قولهم](٤) ذلك ؛ لأنّهم لم يقولوا أساطير ليحملوا ؛ فهو كقوله تعالى : (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨].

قال : [الوافر]

٣٣٠٩ ـ لدوا للموت وابنوا للخراب

 ........... (٥)

الثالث : أنها للتعليل ، وفيه وجهان :

أحدهما : أنه تعليل مجازي.

قال الزمخشريّ رحمه‌الله : واللام للتعليل من غير أن تكون غرضا ؛ نحو قولك «خرجت من البلد مخافة الشّرّ».

والثاني : أنه تعليل حقيقة.

قال ابن عطيّة (٦) بعد حكاية وجه لام العاقبة : «ويحتمل أن يكون صريح لام كي ؛ على معنى قدّر هذا ؛ لكذا» انتهى.

لكنه لم يعلّقها بقوله «قالوا» إنما قدّر لها عاملا ، وهو «قدّر» هذا.

وعلى قول الزمخشري يتعلق ب «قالوا» لأنها ليست لحقيقة العلّة ، و«كاملة» حال ، والمعنى لا يخفّف من عقابهم شيء ، بل يوصل ذلك العقاب بكليته إليهم ، وهذا يدل على أنّه ـ تعالى ـ قد يسقط بعض العقاب عن المؤمنين إذ لو كان هذا المعنى حاصلا

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٧٠.

(٢) ينظر : البحر ٥ / ٤٧٠ ، الدر المصون ٤ / ٣٢٠.

(٣) في ب : لطيفة.

(٤) في ب : أمرهم.

(٥) تقدم.

(٦) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٣٨٧.

٤٢

للكل ، لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفّار بهذا التكميل فائدة.

قال ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ : «أيّما داع دعى إلى الهدى ، فاتّبع ، كان له مثل أجر من اتّبعه لا ينقص من أجورهم شيء ، وأيّما داع دعى إلى الضّلال فاتّبع ؛ كان عليه وزر من اتّبعه لا ينقص من آثامهم شيء» (١).

قوله : (وَمِنْ أَوْزارِ) فيه وجهان :

أحدهما : أنّ «من» مزيدة ، وهو قول الأخفش ، أي : وأوزار الذين ، على معنى : ومثل أوزار ؛ كقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «كان عليه وزرها ووزر من عمل بها» (٢).

الثاني : أنها غير مزيدة ، وهي للتبعيض ، أي : وبعض أوزار الذين ، وقدّر أبو البقاء : مفعولا حذف ، وهذه صفته ، أي : وأوزار من أوزار ، ولا بد من حذف «مثل» أيضا.

ومنع الواحديّ أن تكون «من» للتبعيض ، قال : «لأنّه يستلزم تخفيف الأوزار عن الأتباع ، وهو غير جائز ، لقوله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ : «من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» لكنها للجنس ، أي : ليحملوا من جنس أوزار الأتباع».

قال أبو حيان (٣) : «والتي لبيان الجنس لا تقدّر هكذا ؛ وإنّما تقدر الأوزار التي هي أوزار الذين يضلونهم فهو من حيث المعنى موافق لقول الأخفش ، وإن اختلفا في التقدير».

قوله تعالى : (بِغَيْرِ عِلْمٍ) حال وفي صاحبها وجهان :

أحدهما : أنه مفعول «يضلّون» أي : يضلون من لا يعلم أنهم ضلال ؛ قاله الزمخشريّ.

والثاني : أنه الفاعل ، ورجّح هذا بأنّه المحدث عنه ، وتقدم الكلام في إعراب نحو : (ساءَ ما يَزِرُونَ) وأنّها قد تجري مجرى بئس ، والمقصود منه المبالغة في الزّجر.

فإن قيل : إنه ـ تعالى ـ حكى هذه الشّبهة عنهم ، ولم يجب عنها ، بل اقتصر على محض الوعيد ، فما السبب فيه؟.

فالجواب : أنه ـ تعالى ـ بين كون القرآن معجزا بطريقين :

__________________

(١) أخرجه بهذا اللفظ الطبري في «تفسيره» (٧ / ٥٧٦) عن الربيع بن أنس مرسلا وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢١٧) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.

وله شاهد من حديث أنس أخرجه ابن ماجه (٢٠٥).

وقال البوصيري في الزوائد : إسناده ضعيف.

وللحديث شاهد قوي من حديث أبي هريرة.

أخرجه مسلم (٤ / ٢٠٦٠) كتاب العلم : من سن سنة حسنة (١٦ / ٢٦٧٤) وابن ماجه (١ / ٧٥) المقدمة : باب من سن سنة حسنة أو سيئة (٢٠٦) وأبو داود (٤٦٠٩) والترمذي (٢٦٧٤).

وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

(٢) انظر : الحديث السابق.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٧٠.

٤٣

الأول : أنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ تحدّاهم تارة بكل القرآن ، وتارة بعشر سور ، وتارة بسورة واحدة ، وتارة بحديث واحد ، وعجزوا عن المعارضة ؛ وذلك يدل على كون القرآن معجزا.

الثاني : أنه ـ تعالى ـ حكى هذه الشّبهة بعينها في قوله : (اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [الفرقان : ٥] ، وأبطلها بقوله : (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ) [الفرقان : ٦] أي : أنّ القرآن مشتمل على الإخبار عن الغيوب ، وذلك لا يتأتّى إلا ممّن يكون عالما بأسرار السماوات ، والأرض ، ولما ثبت كون القرآن معجزا بهذين الطريقين ، وتكرر شرحهما مرارا ؛ لا جرم اقتصر ههنا على مجرد الوعيد.

قوله تعالى : (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ذكر هذه الآية مبالغة في وصف أولئك الكفار.

قال بعض المفسرين : المراد بالذين من قبلهم نمرود بن كنعان بنى صرحا عظيما ببابل طوله خمسة آلاف ذراع ، وعرضه ثلاثة آلاف ذراع ـ وقيل : فرسخا ـ ورام منه الصّعود إلى السماء ؛ ليقاتل أهلها ، فهبّت ريح وألقت رأسها في البحر ، وخرّ عليهم الباقي وهم تحته ، ولما سقط الصّرح تبلبلت ألسن النّاس من الفزع يومئذ ؛ فتكلموا بثلاثة وسبعين لسانا ؛ فلذلك سمّيت بابل ، وكانوا يتكلمون قبل ذلك بالسريانية ؛ فذلك قوله تعالى : (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) أي : قصد تخريب بنيانهم من أصولها.

والصحيح : أنّ هذا عامّ في جميع المبطلين الذين يحاولون إلحاق الضّرر والمكر بالمحقّين.

واعلم أنّ الإتيان هاهنا عبارة عن إتيان العذاب ، أي : أنهم لمّا كفروا ؛ أتاهم الله بزلزال تقلقلت منها بنيانهم من القواعد ، والأساس ؛ والمراد بهذا محض التّمثيل ، والمعنى : أنّهم رتبوا منصوبات ؛ ليمكروا بها أنبياء الله ؛ فجعل هلاكهم مثل قوم بنوا بنيانا ، وعمدوه بالأساطين ، فانهدم ذلك البناء ، وسقط السقف عليهم ؛ كقولهم : «من حفر بئرا لأخيه أوقعه الله فيه».

وقيل : المراد منه ما دل عليه الظاهر.

قوله تعالى : (مِنَ الْقَواعِدِ) «من» لابتداء الغاية ، أي : من ناحية القواعد ، أي : أتى أمر الله وعذابه.

قوله (مِنْ فَوْقِهِمْ) يجوز أن يتعلّق ب «خرّ» ، وتكون «من» لابتداء الغاية ، ويجوز أن يتعلّق بمحذوف على أنها حال من «السّقف» وهي حال مؤكدة ؛ إذ «السّقف» لا يكون تحتهم.

وقيل : ليس قوله : (مِنْ فَوْقِهِمْ) تأكيد ؛ لأنّ العرب تقول : «خرّ علينا سقف ، ووقع علينا حائط» إذا كان عليه ، وإن لم يقع عليه ، فجاء بقوله «من فوقهم» ليخرج به هذا الذي في كلام العرب ، أي : عليهم وقع ، وكانوا تحته فهلكوا.

٤٤

وهذا غير طائل ، والقول بالتوكيد أظهر.

وقرأ العامة : «بنيانهم» ، وقوم (١) : بنيتهم ، وفرقة منهم (٢) أبو جعفر : بيتهم. والضحاك(٣) : بيوتهم.

والعامة : «السّقف» أيضا مفردا ، وفرقة : بفتح السّين ، وضمّ القاف بزنة «عضد» وهي لغة في «السّقف» ولعلّها مخففة من المضموم ، وكثر استعمال الفرع ؛ لخفّته ، كقولهم في لغة تميم «رجل» ولا يقولون : رجل.

وقرأ الأعرج (٤) : «السّقف» بضمتين ، وزيد (٥) بن علي : بضم السين ، وسكون القاف ، وقد تقدم مثل ذلك في قراءة (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) [النحل : ١٦] ثم قال : (وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) إن حملنا الكلام على محض التمثيل ؛ فالمعنى : أنّهم اعتمدوا على منصوباتهم ، ثم تولّد البلاء منها بأعيانها ، وإن حملناه على الظاهر ، فالمعنى : أن السّقف نزل عليهم بغتة.

ثم بين ـ تعالى ـ أن عذابهم لا يكون مقصورا على هذه القدر ، بل الله ـ تعالى ـ يخزيهم [يوم] القيامة ، والخزي : هو العذاب مع الهوان ؛ فإنه يقول لهم : (أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ).

قال أبو العبّاس المقريزيّ ـ رحمه‌الله ـ : ورد لفظ «الخزي» في القرآن على أربعة [معان](٦): الأول : بمعنى العذاب ؛ كهذه الآية ؛ وكقوله تعالى : (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) [الشعراء : ٨٧] أي : لا تعذّبني.

الثاني : بمعنى القتل ؛ قال تعالى : (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) [البقرة : ٨٥] ، أي : القتل.

قيل : نزلت في بني قريظة ، ومثله : (ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) [الحج : ٩] أي : فضيحة. قيل : نزلت في النضر بن الحارث.

الثالث : بمعنى الهوان ، قال تعالى : (كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ) [يونس : ٩٨] أي الهوان.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٧١ ، والمحرر الوجيز ٣ / ٤٠٠ والدر المصون ٤ / ٣٢١ ـ ٣٣٢.

(٢) ينظر : السابق.

(٣) ينظر : السابق.

(٤) وقرأ بها أيضا ابن محيصن وابن هرمز ينظر : الإتحاف ٢ / ١٨٢ ، والقرطبي ١٠ / ٦٥ ، والبحر ٥ / ٤٧١ والدر المصون ٤ / ٣٢٢.

(٥) وقرأ بها أيضا مجاهد ينظر : القرطبي ١٠ / ٦٥ ، والبحر ٥ / ٤٧١ ، والدر المصون ٤ / ٣٢٢.

(٦) في أ: أوجه.

٤٥

الرابع : بمعنى الفضيحة قال تعالى : (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) [آل عمران : ١٩٢] أي فضحته ، ومثله : (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) [الشعراء : ٨٧] ومثله : (وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي) [هود : ٧٨] ومثله : (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ) [المائدة : ٣٣].

قوله : (أَيْنَ شُرَكائِيَ) مبتدأ وخبر ، والعامة على «شركائي» ممدودا ، مهموزا ، مفتوح الياء ، وفرقة كذلك تسكنها (١) فتسقط وصلا ؛ لالتقاء الساكنين ، وقرأ البزي (٢) ـ بخلاف عنه ـ بقصره مفتوح الياء ، وقد أنكر جماعة هذه القراءة ، وزعموا أنها غير (٣) مأخوذ بها ؛ لأنّ قصر الممدود لا يجوز إلّا ضرورة.

وتعجب أبو شامة من أبي عمرو الدانيّ ، حيث ذكرها في كتابه ؛ مع ضعفها ، وترك قراءات شهيرة واضحة.

قال شهاب الدّين (٤) : «وقد روى ابن كثير ـ أيضا ـ قصر التي في القصص ، وروي عنه ـ أيضا ـ قصر «ورائي» في مريم ، وروي عنه أيضا قصر : (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) في سورة العلق ، فقد روى عنه قصر بعض الممدودات ، فلا يبعد رواية ذلك هنا عنه».

وبالجملة : قصر الممدود ضعيف ؛ ذكره غير واحد ؛ لكن لا يصل به إلى حدّ الضرورة.

قوله : «تشاقّون» قرأ نافع (٥) : بكسر النون خفيفة ، والأصل : تشاقّونّي فحذفها مجتزئا عنها بالكسرة.

والباقون : بفتحها ، خفيفة ، ومفعوله محذوف ، أي : تشاقّون المؤمنين ، أو تشاقّون الله ؛ بدليل القراءة الأولى.

وضعّف أبو حاتم هذه القراءة ؛ أعني : قراءة نافع ، وقرأت فرقة (٦) : بتشديدها مكسورة ، والأصل : تشاقّونني ؛ فأدغم ، وقد تقدم تفصيل ذلك في : (أَتُحاجُّونِّي) [الأنعام : ٨٠] و (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) [الحجر : ٥٤] وسيأتي في قوله تعالى : (أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي) [الزمر : ٦٤].

فصل

قال الزجاج : قوله (أَيْنَ شُرَكائِيَ) ، أي : في زعمكم ، واعتقادكم ، ونظيره : (أَيْنَ

__________________

(١) ينظر : السبعة ٣٧١ ، والإتحاف ٢ / ١٨٢ ، والتيسير ١٣٧ ، والنشر ٢ / ٣٠٣ ، والبحر ٥ / ٤٧١ ، والدر ٤ / ٣٢٢.

(٢) ينظر : الإتحاف ٢ / ١٨٢ ، والنشر ٢ / ٣٠٣ ، والحجة لأبي على الفارسي ٥ / ٦٠ ، والقرطبي ١٠ / ٦٦ ، والبحر ٥ / ٤٧١ ، والدر المصون ٤ / ٣٢٢.

(٣) سقط من ب.

(٤) ينظر : الدر المصون ٤ / ٣٢٢.

(٥) ينظر : السبعة ٣٧١ ، والإتحاف ٢ / ١٨٣ ، والتيسير ١٣٧ ، والنشر ٢ / ٣٠٣ ، والبحر ٥ / ٤٧١ ، والدر المصون ٤ / ٣٢٢.

(٦) ينظر : البحر ٥ / ٤٧١ ، والدر المصون ٤ / ٣٢٢.

٤٦

شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) [الأنعام : ٢٢] وحسنت هذه الإضافة لأنه يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب ؛ كما يقال لمن يحمل خشبة : «خذ طرفك ، وآخذ طرفي» فأضاف الطّرف إليه.

ومعنى «تشاقّون» أي : تعادون ، وتخاصمون المؤمنين في شأنهم ، والمشاقّة : عبارة عن كون أحد الخصمين في شقّ ، والخصم الآخر في الشق الآخر.

ثم قال تعالى : (قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) قال ابن عباس : يريد الملائكة (١) ، وقال آخرون : هم المؤمنون الذين يقولون حين يرون خزي الكفار في القيامة : (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ) العذاب (عَلَى الْكافِرِينَ) وفائدة هذا الكلام : أنّ الكفار كانوا يتكبّرون على المؤمنين في الدنيا ، فإذا ذكر المؤمنون هذا الكلام يوم القيامة ؛ كان هذا الكلام في إيذاء الكفار أكمل وحصول الشماتة أقوى.

فصل في احتجاج المرجئة بالآية

احتج المرجئة بهذه الآية على أنّ العذاب مختصّ بالكافرين [قالوا :] فإن قوله تعالى : (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ) في يوم القيامة مختص بالكافرين ، ويؤكد هذا قول موسى ـ عليه‌السلام ـ : (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) [طه : ٤٨].

قوله : «اليوم» منصوب ب «الخزي» وعمل المصدر فيه «أل» وقيل : هو منصوب بالاستقرار في (عَلَى الْكافِرِينَ) إلّا أنّ فيه فصلا بالمعطوف بين العامل ومعموله ؛ واغتفر ذلك ؛ لأنهم يتوسّعون في الظروف.

قوله : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ) يجوز أن يكون الموصول مجرور المحلّ ؛ نعتا لما قبله ، أو بدلا منه ، أو بيانا له ، وأن يكون منصوبا على الذم أو مرفوعا عليه ، أو مرفوعا بالابتداء ، والخبر قوله (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ) والفاء مزيدة في الخبر ؛ قاله ابن عطية.

وهذا لا يجيء إلّا على رأي الأخفش ؛ في إجازته زيادة الفاء في الخبر مطلقا ؛ نحو : «زيد فقام» ، أي : قام ، ولا يتوهم أنّ هذه الفاء هي التي تدخل مع الموصول المضمّن معنى الشّرط ؛ لأنّه لو صرّح بهذا الفعل مع أداة الشرط ، لم يجز دخول الفاء عليه ؛ فما ضمّن معناه أولى بالمنع ؛ كذا قاله أبو حيان ، وهو ظاهر.

وعلى الأقوال المتقدمة ، خلا القول الأخير يكون «الّذين» وصلته داخلا في القول ، وعلى القول الأخير ، لا يكون داخلا فيه ، وقرأ «يتوفّاهم» بالياء في الموضعين حمزة ، والباقون : بالتاء من فوق ؛ وهما واضحتان مما تقدم في قوله : (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) [آل عمران : ٣٩] وناداه ، وقرأت فرقة : بإدغام إحدى التاءين في الأخرى ، وفي مصحف عبد

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٠ / ١٨) عن ابن عباس.

٤٧

الله : «توفّاهم» بتاء واحدة ، وهي محتملة للقراءة بالتشديد على الإدغام ، وبالتخفيف على حذف إحدى التّاءين.

و (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) حال من مفعول «تتوفّاهم» ، و«تتوفّاهم» يجوز أن يكون مستقبلا على بابه ؛ إن كان القول واقعا في الدنيا ، وإن كان ماضيا على حكاية الحال إن كان واقعا يوم القيامة.

قوله «فألقوا» يجوز فيه أوجه :

أحدها : أنه خبر الموصول ، وقد تقدم فساده.

الثاني : أن يكون عطفا على (قالَ الَّذِينَ).

الثالث : أن يكون مستأنفا ، والكلام قد تمّ عند قوله : «أنفسهم» ثمّ عاد بقوله : «فألقوا» إلى حكاية كلام المشركين يوم القيامة ؛ فعلى هذا يكون قوله : (قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) إلى قوله «أنفسهم» جملة اعتراض.

الرابع : أن يكون معطوفا على «تتوفّاهم» قاله أبو البقاء.

وهذا إنّما يتمشى على أنّ «تتوفّاهم» بمعنى المضيّ ؛ ولذلك لم يذكر أبو البقاء في «تتوفّاهم» سواه.

قوله (ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) فيه أوجه :

أحدها : أن يكون تفسيرا للسلم الذي ألقوه ؛ لأنّه بمعنى القول ؛ بدليل الآية الأخرى : (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ) [النحل : ٨٦] قاله أبو البقاء ، ولو قال : يحكى بما هو بمعنى القول ؛ لكان أوفق لمذهب الكوفيّين.

الثاني : أن يكون منصوبا بقول مضمر ، ذلك القول منصوب على الحال ، أي : فألقوا السّلم قائلين ذلك.

و (مِنْ سُوءٍ) مفعول «نعمل» زيدت فيه «من» ، و«بلى» جواب ل (ما كُنَّا نَعْمَلُ) فهو إيجاب له.

فصل

قال ابن عباس رضي الله عنه : استسلموا ، وأقرّوا لله بالعبودية عند الموت ، وقالوا : (ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) ، والمراد من هذا السوء الشّرك ، فقالت الملائكة تكذيبا لهم : (بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من التكذيب ، والشرك (١) ، وقيل : تمّ الكلام عند قوله : (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) ثم عاد إلى حكاية كلام المشركين إلى يوم القيامة ، والمعنى : أنّهم يوم القيامة ألقوا السّلم ؛ وقالوا : (ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) على سبيل الكذب ، ثمّ ههنا

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٠ / ١٨).

٤٨

اختلفوا : فالذين جوّزوا الكذب على أهل القيامة قالوا : إنّ قولهم : (ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) لغاية الخوف ، والّذين لم يجوّزوا الكذب عليهم قالوا : المعنى : ما كنّا نعمل من سوء عند أنفسنا وفي اعتقادنا ، وقد تقدّم الكلام في قوله الأنعام : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣] هل يجوز الكذب على أهل القيامة ، أم لا؟.

وقوله : (بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) يحتمل أن يكون من كلام الله أو بعض الملائكة.

ثم يقال لهم : (فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) وهذا يدلّ على تفاوت منازلهم في العقاب ، وصرّح بذكر الخلود ؛ ليكون الغمّ [والحزن](١) أعظم.

قوله : «فلبئس» هذه لام التأكيد ؛ وإنما دخلت على الماضي لجموده وقربه من الأسماء ، والمخصوص بالذم محذوف ، أي : جهنّم.

قوله تعالى : (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً) الآية.

لما بين أحوال الكافرين ، أتبعه ببيان أحوال المؤمنين.

قال القاضي [المتقي هو :](٢) تارك جميع المحرّمات وفاعل جميع الواجبات.

وقال غيره : المتّقي : هو الذي يتّقي الشرك.

قوله : «خيرا» العامة على نصبه ، أي : أنزل خيرا.

قال الزمخشريّ : «فإن قلت : لم رفع (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ونصب هذا؟.

قلت : فصلا بين جواب المقر ، وجواب الجاحد ، يعني : أنّ هؤلاء لما سئلوا لم يتلعثموا ، وأطبقوا الجواب على السؤال بيّنا مكشوفا مفعولا للإنزال ف «قالوا خيرا» أي : أنزل خيرا وأولئك عدلوا بالجواب عن السؤال ، فقالوا : هو أساطير الأوّلين ، وليس هو من الإنزال في شيء».

وقرأ زيد (٣) بن عليّ : «خير» بالرفع ، أي : المنزّل خير ، وهي مؤيّدة لجعل «ماذا» موصولة ، وهو الأحسن ؛ لمطابقة الجواب لسؤاله ، وإن كان العكس جائزا ، وقد تقدم تحقيقه في البقرة.

قوله : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) هذه الجملة يجوز فيها أوجه :

أحدها : أن تكون منقطعة عما قبلها استئناف إخبار بذلك.

الثاني : أنّها بدل من «خيرا». قال الزمخشري : «هو بدل من «خيرا» ؛ حكاية لقول «الذين (اتَّقَوْا») ، أي : قالوا هذا القول فقدّم تسميته خبرا ثمّ حكاه».

__________________

(١) في ب : والخوف.

(٢) سقط من : ب.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٧٣ ، الدر المصون ٤ / ٣٢٤.

اللّباب / ج ١٢ / م ٤

٤٩

الثالث : أنّ هذه الجملة تفسير لقوله : «خيرا» ، وذلك أنّ الخير هو الوحي الذي أنزل الله فيه : من أحسن في الدنيا بالطاعة ؛ فله حسنة في الدنيا ، وحسنة في الآخرة.

وقوله : (فِي هذِهِ الدُّنْيا) الظاهر تعلقه ب «أحسنوا» ، أي : أوقعوا الحسنة في دار الدنيا ، ويجوز أن يكون متعلقا بمحذوف على أنّه حكاية حال من «حسنة» ، إذ لو تأخر ؛ لكان صفة لها ، ويضعف تعلقه بها نفسها ؛ لتقدمه عليها.

فصل

قال المفسرون : إنّ أحياء من العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا جاء [سائل](١) المشركين الذين قعدوا على الطريق عن محمد ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فيقولون : ساحر ، وكاهن ، وشاعر وكذاب ، كذبوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيأتي المؤمنين فيسألهم عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما أنزل عليه ؛ فيقولون «خيرا» ، أي أنزل خيرا ، ثم ابتدأ فقال : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) أي كرامة من الله.

قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : هي تضعيف الأجر إلى العشرة (٢). وقال الضحاك : هي النصرة والفتح (٣). وقال مجاهد : هي الرزق الحسن (٤) ، ويحتمل أن يكون الذي قالوه من الجواب موصوف بأنه خير.

وقولهم «خيرا» جامع لكونه حقا وصوابا ، ولكونهم معترفين بصحته ، ولزومه ، وهذا بالضدّ من قول الذين لا يؤمنون : إن ذلك أساطير الأولين. وتقدم الكلام على «خير» في سورة الأنعام في قوله تعالى : (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ) [الأنعام : ٣٢].

ثم قال تعالى : (وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ جَنَّاتُ عَدْنٍ) ، أي ولنعم دار المتقين دار الآخرة ، فحذفت ؛ لسبق ذكرها.

هذا إذا لم تجعل هذه الآية متصلة بما بعدها ، فإن وصلتها بما بعدها قلت : (وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ جَنَّاتُ عَدْنٍ) برفع «جنّات» على أنها اسم ل «نعم» كما تقول : نعم الدّار دار ينزلها زيد.

قوله (جَنَّاتُ عَدْنٍ) يجوز أن يكون هو المخصوص بالمدح ؛ فيجيء فيها ثلاثة أوجه :

رفعها بالابتداء ، والجملة المتقدمة خبرها.

أو رفعها بالابتداء ، والخبر محذوف ؛ وهو أضعفها ، وقد تقدم تحقيق ذلك.

ويجوز أن يكون «جنّات عدن» خبر مبتدإ مضمر لا على ما تقدم ، بل يكون المخصوص [بالمدح](٥) محذوفا ؛ تقديره : ولنعم دار المتقين دارهم هي جنات.

__________________

(١) في ب : لشأن.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٦٧).

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) ينظر : المصدر السابق.

(٥) زيادة من : أ.

٥٠

وقدره الزمخشري : «ولنعم دار المتّقين دار الآخرة» ويجوز أن يكون مبتدأ ، والخبر جملة ، من قوله «يدخلونها» ويجوز أن يكون الخبر مضمرا ، تقديره : لهم جنّات عدن ، ودلّ على ذلك قوله : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ).

والعامة على رفع «جنّات» على ما تقدم ، وقرأ زيد (١) بن ثابت ، والسلميّ «جنّات» نصبا على الاشتغال بفعل مضمر ، تقديره : يدخلون جنّات عدن يدخلونها ، وهذا يقوي أن يكون «جنّات» مبتدأ ، و«يدخلونها» الخبر في قراءة العامّة ، وقرأ زيد (٢) بن عليّ : «ولنعمت» بتاء التأنيث ، مرفوعة بالابتداء و«دار» خفض بالإضافة ، فيكون «نعمت» مبتدأ و«جنّات عدن» الخبر. و«يدخلونها» في جميع ذلك نصب على الحال ، إلا إذا جعلناه خبرا ل «جنات» ، وقرأ نافع (٣) في رواية : «يدخلونها» بالياء من تحت ؛ مبنيا للمفعول.

وقرأ أبو عبد الرحمن (٤) : «تدخلونها» بتاء الخطاب مبنيا للفاعل.

قوله : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) يجوز أن يكون منصوبا على الحال من «جنّات» قاله ابن عطيّة ، وأن يكون في موضع الصفة ل «جنّات» قاله الحوفيّ ، والوجهان مبنيّان على القول في «عدن» هل هي معرفة ؛ لكونه علما ، أو نكرة؟ فقائل الحال : لحظ الأول ، وقائل النّعت: لحظ الثاني.

قوله : (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) الكلام في هذه الجملة ، كالكلام في الجملة قبلها ، والخبر إمّا «لهم» وإمّا «فيها».

قوله : «كذلك» الكاف في محل نصب على الحال من ضمير المصدر ؛ أو نعتا لمصدر مقدّر ، أو في محل رفع خبر المبتدأ مضمر ، أي : الأمر كذلك و (يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ) مستأنف.

فصل

قال الحسن : دار المتقين هي الدّنيا ؛ لأنّ أهل التّقوى يتزوّدون فيها للآخرة (٥).

وقال أكثر المفسرين : هي الجنّة ، ثم فسرها فقال : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) فقوله (جَنَّاتُ عَدْنٍ) يدلّ على القصور ، والبساتين ، وقوله : «عدن» يدل على الدّوام ، وقوله : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) يدل على أنه حصل هناك أبنية يرتفعون عليها ، والأنهار جارية من تحتهم ، (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) من كلّ الخيرات ، (كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ) أي : هذا جزاء التّقوى.

__________________

(١) ينظر : البحر ٥ / ٤٧٤ ، والمحرر ٨ / ٤٠٧ ، والدر المصون ٤ / ٣٢٤.

(٢) ينظر : البحر ٥ / ٤٧٤ ، والدر ٤ / ٣٢٤.

(٣) قرأ بها نافع ينظر : البحر ٥ / ٤٧٤ ، والدر ٤ / ٣٢٤.

(٤) ينظر : السابق نفسه.

(٥) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٣ / ١٨٧) والبغوي في «تفسيره» (٣ / ٦٧).

٥١

ثم وصف المتقين فقال : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ) وهذا مقابل لقوله (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) [النحل : ٢٨].

وقوله : «طيّبين» كلمة مختصرة جامعة لمعان كثيرة ؛ فيدخل فيها إتيانهم بالمأمورات ، واجتنابهم عن المنهيات ، واتصافهم بالأخلاق الفاضلة ، وبراءتهم عن الأخلاق المذمومة.

وأكثر المفسرين يقول : إن هذا التّوفي قبض الأرواح.

وقال الحسن : إنه وفاة الحشر ؛ لقوله بعد (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) واحتج الأولون بأن الملائكة لما بشروهم بالجنة ، صارت الجنة كأنها دارهم ، فيكون المراد بقوله : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) أي : خاصة لكم ، «يقولون» يعني الملائكة : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ)(١) وقيل : يبلّغونهم سلام الله.

قوله : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ) يحتمل ما ذكرناه فيما تقدم ، وإذا جعلنا «يقولون» خبرا فلا بدّ من عائد محذوف ، أي : يقولون لهم ، وإذا لم نجعله خبرا ، كان حالا من الملائكة ؛ فيكون «طيّبين» حالا من المفعول ، و«يقولون» حالا من الفاعل ، وهي يجوز أن تكون حالا مقارنة ، أي : كان القول واقعا في الدنيا ، ومقدرة إن كان واقعا في الآخرة.

ومعنى «طيّبين» ، أي طاهرين من الشرك ، وقيل : صالحين ، وقيل : زاكية أعمالهم وأقوالهم ، وقيل : طيّبي الأنفس ؛ ثقة بما يلقونه من ثواب الله ـ تعالى ـ وقيل : طيبة نفوسهم ، بالرجوع إلى الله ، وقيل : طيّبين ، أي : يكون وفاتهم طيبة سهلة.

و«ما» في «بما» مصدرية ، أو بمعنى الذي ؛ فالعائد محذوف.

قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤) وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ)(٣٧)

قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) الآية.

هذه شبهة ثانية لمنكري النبوة ؛ فإنهم طلبوا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينزل الله ملكا من

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٠ / ٢٢).

٥٢

السماء ؛ يشهد على صدقه في ادّعاء النبوة ؛ فقال تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ) في التصديق بنبوتك (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) شاهدين بذلك ، ويحتمل أنّ القوم لما طعنوا في القرآن بقولهم : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) وذكر أنواع التهديد ، والوعيد ، ثم أتبعه بذكر الوعد لمن وصف القرآن بكونه خيرا ، عاد إلى بيان أنّ أولئك الكفار لا ينزجرون عن كفرهم ، وأقوالهم الباطلة بالبيانات التي ذكرناها ، إلا إذا جاءتهم الملائكة بالتهديد ، أو أتاهم أمر ربّك ، وهو عذاب الاستئصال ، وعلى كلا التقديرين قال تعالى : (كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ، أي : أفعال هؤلاء ، وكلامهم يشبه كلام الكفار المتقدمين وأفعالهم ، وتقدم الكلام على قوله : (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) [الأنعام : ١٥٨] في آخر الأنعام ، وأنّ الأخوين يقرآن بالياء من تحت ، والباقين بالتاء من فوق ، وهما واضحتان ؛ لكونه تأنيثا مجازيّا.

قوله : (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) بتعذيبه إياهم ، فإنه أنزل بهم ما استحقوه بكفرهم (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي ولكنهم ظلموا أنفسهم ؛ بكفرهم ، وتكذيبهم الرسل.

(فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) أي : عقاب سيئات ما عملوا ، فقوله : «فأصابهم» عطف على (فَعَلَ الَّذِينَ) وما بينهما اعتراض ، «وحاق» نزل «بهم» على وجه الإحاطة بجوانبهم ، (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي : عقاب استهزائهم.

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا) الآيات.

هذه شبهة ثالثة لمنكري النبوة لأنهم تمسكوا بالقول بالجبر على الطّعن في النبوة ؛ فقالوا : لو شاء الله الإيمان ، لحصل لنا سواء جئت ، أو لم تجىء ، ولو شاء الكفر لحصل الكفر ، جئت أو لم تجىء ، فالكلّ من الله ، ولا فائدة في مجيئك ولا في إرسالك وهذا غير ما حكاه الله عنهم في سورة الأنعام في قوله : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) [الأنعام : ١٤٨].

واستدلال المعتزلة به ، مثل استدلالهم بتلك الآية ، والكلام فيه استدلال واعتراض عين ما تقدم هناك ، فلا فائدة ، ولا بأس بأن نذكر منه القليل ، فنقول : الجواب عن هذه الشبهة هي : أنّهم قالوا : لما كان الكل من الله ـ تعالى ـ كانت بعثة الأنبياء عبثا ؛ فنقول : هذا اعتراض ـ على الله ـ تعالى ـ فإن قولهم : إذا لم يكن في بعثة الرسول مزيد فائدة في حصول الإيمان ، ودفع الكفر ؛ كانت بعثة الأنبياء غير جائزة من الله ـ تعالى ـ.

فهذا القول جار مجرى طلب العلة في أحكام الله ـ تعالى ـ وفي أفعاله ، وذلك باطل ؛ بل الله تعالى يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، ولا يعترض عليه في أفعاله.

وقال بعض المتكلمين والمفسرين : إنهم ذكروا هذا الكلام استهزاء ؛ كقول قوم شعيب : (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) [هود : ٨٧] ولو قالوا ذلك اعتقادا لكانوا مؤمنين.

قوله : (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) قالت المعتزلة : إنه ـ سبحانه وتعالى ـ ما منع أحدا من الإيمان ، وما أوقعه في الكفر ، والرسل ليس عليهم إلا التبليغ.

٥٣

وأهل السنة قالوا : معناه أنه ـ تعالى ـ أمر الرسول بالتبليغ فوجب عليهم ، فأمّا أن الإيمان هل يحصل ، أو لا يحصل؟ فذلك لا يتعلق بالرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ولكنه تعالى يهدي من يشاء بإحسانه ، ويضل من يشاء بخذلانه ، ويدل عليه قوله تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) فإنه يدلّ على أنه ـ تعالى ـ كان أبدا في جميع الأمم ؛ آمرا بالإيمان ، وناهيا عن الكفر.

ثم قال : (فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) أي : فمنهم من هداه الله إلى الإيمان ، ومنهم من أضله عن الحق ، وأوقعه في الكفر ، وهذا يدلّ على أنّ أمر الله لا يوافق إرادته ؛ بل قد يأمر بالشيء ولا يريده ، وينهى عن الشيء ويريده ، وقد تقدم تأويلات المعتزلة ، وأجوبتهم مرارا.

والطاغوت : كل معبود من دون الله ، وقيل : اجتنبوا الطّاغوت : أي طاعة الشيطان.

قوله : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) يجوز في «أن» أن تكون تفسيرية ؛ لأنّ البعث يتضمن قولا ، وأن تكون مصدرية ، أي : بعثناه بأن اعبدوا.

قوله : (فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) يجوز في «من» الأولى أن تكون نكرة موصوفة ، والعائد على كلا التقديرين محذوف من الأول ، وقوله «حقّت» يدل على صحة مذهب أهل السنة ؛ لأنّه تعالى لمّا أخبر عنه أنّه حقت عليه الضلالة ، امتنع أن لا يصدر منه الضلالة ، وإلّا لانقلب خبر الله تعالى الصدق كذبا ، وهو محال ؛ ويؤيده قوله : (فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) [الأعراف : ٣٠] ، وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) [يوسف : ٩٦] وقوله : (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [يس : ٧] ثم قال ـ عزوجل ـ : (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) أي : مآل أمرهم ، وخراب منازلهم بالعذاب ، والهلاك ؛ فتعتبروا ، ثم أكد أنّ من حقت عليه الضلالة ؛ فإنه لا يهتدي ؛ فقال تعالى : (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ) أي : تطلب بجهدك ذلك ؛ (فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ).

قوله (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ) قرأ العامة بكسر الراء ، مضارع حرص بفتحها ، وهي اللغة الغالبة لغة الحجاز.

وقرأ الحسن ، وأبو حيوة (١) : «تحرص» بفتح الراء ، مضارع حرص بكسرها ، وهي لغة لبعضهم ، وكذلك النخعيّ (٢) : إلّا أنه زاد واوا قبل : «إن» فقرأ : «وإن تحرص».

قوله : (لا يَهْدِي) قرأ الكوفيون (٣) بفتح الياء ، وكسر الدّال ، وهذه القراءة تحتمل وجهين :

__________________

(١) ينظر : المحتسب ٢ / ٩ ، والشواذ ٣ ، البحر ٥ / ٤٧٦ ، الدر المصون ٤ / ٣٢٤.

(٢) ينظر : البحر ٥ / ٤٧٥ ، والدر المصون ٤ / ٣٢٤.

(٣) ينظر في قراءاتها : السبعة ٣٧٢ ، النشر ٢ / ٣٠٤ ، الإتحاف ٤ / ١٨٤ ، التيسير ١٣٧ ، والبحر ٥ / ٤٧٦ ، والقرطبي ١٠ / ٦٩ ، والدر المصون ٤ / ٣٢٥.

٥٤

أحدهما : أن يكون الفاعل ضميرا عائدا على الله ـ تعالى ـ أي : لا يهدي الله من يضله ؛ ف «من» مفعول «يهدي» ؛ ويؤيده قراءة أبي : «فإنّ الله لا هادي لمن يضلّ ولمن أضلّ» وأنه في معنى قوله : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ) [الأعراف : ١٨٦].

والثاني : أن يكون الموصول هو الفاعل ، أي : لا يهدي المضلين ، و«يهدي» يجيء في معنى يهتدي ، يقال : هداه فهدى ، أي : اهتدى.

ويؤيد هذا الوجه : قراءة عبد الله «يهدّي» بتشديد الدال المكسورة ، والأصل يهتدي ؛ فأدغم.

ونقل بعضهم في هذه القراءة كسر الهاء على الإتباع ، وتحقيقه ما تقدم في يونس ، والعائد على «من» محذوف ، أي : الذي يضله الله.

والباقون «لا يهدي» بضمّ الياء ، وفتح الدال ، مبنيّا للمفعول ، و«من» قائم مقام فاعله ، وعائده محذوف أيضا.

وجوّز أبو البقاء : أن تكون «من» مبتدأ ، و (لا يَهْدِي) خبره ـ يعني ـ تقدم عليه.

وهذا خطأ ؛ لأنه متى كان الخبر فعلا رافعا لضمير مستتر وجب تأخيره نحو : «زيد لا يضرب» ، ولو قدمت لالتبس بالفاعل.

وقرىء «لا يهدي» بضم الياء وكسر الدال.

قال ابن عطية (١) ـ رحمه‌الله ـ : «وهي ضعيفة».

قال ابن حيّان (٢) : «وإذا ثبت أن «هدى» لازم بمعنى اهتدى ، لم تكن ضعيفة ؛ لأنه أدخل همزة التعدية على اللازم ، فالمعنى لا يجعل مهتديا من أضله الله».

وقوله تعالى : (وَما لَهُمْ) حمل على معنى «من» فلذلك جمع.

وقرىء (٣) : «من يضلّ» بفتح الياء من «ضلّ» أي : لا يهدي من ضل بنفسه (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) ، أي : [ما يقيهم](٤) من العذاب.

قوله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٣٩٢.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٧٦.

(٣) ينظر : البحر ٥ / ٤٧٦ ، والدر المصون ٤ / ٣٢٦.

(٤) في أ: مانعين.

٥٥

الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ)(٤٧)

قوله : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) الآية هذه شبهة رابعة لمنكري النبوة ، وهو قولهم : بأنّ الحشر ، والنشر ، باطل ، لأن هذه البنية إذا مات صاحبها ، وتفرقت أجزاؤه ، امتنع عوده بعينه ، وإذا بطل القول بالبعث ، بطل القول بالنبوة من وجهين :

الأول : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو إلى تقرير القول بالمعاد ، وهو باطل ؛ فيكون داعيا إلى الباطل ؛ ومن كان كذلك لم يكن رسولا.

والثاني : أنه يقرر نبوة نفسه ، ووجوب طاعته ؛ بناء على الترغيب في الثواب والترهيب من العقاب ، وإذا بطل ذلك ، بطلت نبوته.

فقوله : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ).

معناه : أنهم كانوا يدعون العلم الضروريّ بأن الشيء إذا فني وعدم ، فإنه لا يعود بعينه ، وأن عوده بعينه محال في بديهة العقل.

وأمّا بيان أنّه لما أبطل القول بالبعث بطل القول بالنبوة ، فلم يصرّحوا به ، فتركوه ؛ لأنّه كلام متبادر إلى العقول ، ثمّ إنه تعالى بيّن أنّ القول بالبعث ممكن ؛ فقال : «بلى وعدا عليه حقّا» أي حق على الله التمييز بين المطيع ، والعاصي ، وبين المحق ، والمبطل ، وبين المظلوم ، والظالم ؛ وهو قوله تعالى : (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ) وسيأتي بيان تقرير هذه الطريقة في سورة «يس» إن شاء الله تعالى ، ثم بين إمكان الحشر ، والنشر ؛ بأن كونه ـ تعالى ـ موجدا للأشياء ، لا يتوقف على سبق مادة ، ولا مدة ، ولا آلة ؛ وهو تعالى إنما يكونها بقوله : «كن».

فقال : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وكما أنه قدر على ابتداء إيجاده ؛ وجب أن يكون قادرا على إعادته.

قوله : (وَأَقْسَمُوا) ظاهره أنه استئناف خبر ، وجعله الزمخشريّ نسقا على (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) إيذانا بأنهما كفرتان عظيمتان ، وقوله «بلى» إثبات لما بعد النفي. قوله «وعدا عليه حقّا» هذان المصدران منصوبان على المصدر المؤكد ، أي : وعد ذلك وعدا وحق حقّا.

وقيل : «حقّا» نعت ل «وعدا» والتقدير : بلى يبعثهم ، وعد بذلك وعدا حقّا.

وقرأ الضحاك (١) : «وعد عليه حقّ» برفعهما ؛ على أنّ «وعد» خبر مبتدأ مضمر ، أي : بلى يبعثهم وعد على الله ، و«حقّ» نعت ل «وعد».

__________________

(١) ينظر : البحر ٥ / ٤٧٦.

٥٦

قوله : «ليبيّن» هذه اللام متعلقة بالفعل المقدّر بعد حرف الإيجاب ، أي : بلى يبعثهم ، ليبيّن ، وقوله (كُنْ فَيَكُونُ) تقدم في البقرة ، «واللام» في «لشيء» وفي «له» لام التبليغ ؛ كهي في قوله قلت له قم فقام ، وجعلها الزجاج للسبب فيهما ، أي : لأجل شيء أن يقول لأجله ، وليس بواضح.

وقال ابن عطية (١) : «وقوله (أَنْ نَقُولَ) ينزّل منزلة المصدر ، كأنه قال : قولنا ؛ ولكن «أن» مع الفعل تعطي استقبالا ليس في المصدر في أغلب أمرها ، وقد يجيء في مواضع لا يلحظ فيها الزمن ؛ كهذه الآية ؛ وكقوله ـ سبحانه وتعالى ـ : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) [الروم : ٢٥] إلى غير ذلك».

قال أبو حيّان (٢) : وقوله : «ولكن «أن» مع الفعل يعني المضارع» وقوله : «في أغلب أمرها» ليس بجيد ؛ بل تدل على المستقبل في جميع أمورها ، وقوله : «قد تجيء ... إلى آخره» لم يفهم ذلك من دلالة «أن» وإنما فهم من نسبة قيام السماء ، والأرض بأمر الله ؛ لأنه يختصّ بالمستقبل دون الماضي في حقه ـ تعالى ـ.

ونظيره : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) [الأحزاب : ٥] فكان تدلّ على اقتران مضمون الجملة بالزمن الماضي ، وهو ـ سبحانه وتعالى ـ متّصف بذلك في كل زمان.

قوله «قولنا» مبتدأ ، و«أن نقول» خبره ، و«كن فيكون» : «كن» من «كان» التامة التي بمعنى الحدوث والوجود ، أي : إذا أردنا حدوث شيء ، فليس إلّا أن نقول له احدث فيحدث عقيب ذلك من غير توقف.

وقرأ ابن (٣) عامر ، والكسائي «فيكون» بنصب النون ، والباقون بالرفع.

قال الفراء : ولقراءة الرفع وجهها : أن يجعل قوله (أَنْ نَقُولَ لَهُ) كلاما تاما ، ثم يخبر عنه بأنه سيكون ، كما يقال : «إنّ زيدا يكفيه إن أمر فيفعل» برفع قولك «فيفعل» على أن تجعله كلاما مبتدأ.

وأما وجه القراءة الأولى : فأن تجعله عطفا على (أَنْ نَقُولَ) والمعنى : أن نقول كن فيكون. هذا قول الجمهور.

وقال الزجاج : «ويجوز أن يكون نصبا على جواب «كن»».

ويجاب بأن قوله كن وإن كانت على لفظ الأمر ، فليس القصد به ههنا الأمر ، إنما هو ـ والله أعلم ـ الإخبار عن كون الشيء وحدوثه ، وإذا كان كذلك بطل قوله : إنه نصب على جواب «كن».

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٣٩٤.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٧٦

(٣) ينظر : السبعة للفارسي ٥ / ٦٥ ، والحجة ٣٨٩ ، وإعراب القراءات السبع لابن خالويه ١ / ٣٥٤ ، والنشر ٢ / ٣٠٤ ، والقرطبي ١٠ / ٧٠.

٥٧

فإن قيل : قوله «كن» إن كان خطابا مع المعدوم ؛ فهو محال ، وإن كان خطابا مع الموجود ، كان أمرا بتحصيل الحاصل ؛ وهو محال.

فالجواب : أن هذا تمثيل لنفي الكلام والمعاياة وخطاب مع قوم يعقلون ليس هو خطاب المعدوم ؛ ولأن ما أراده فهو كائن على كلّ حال ، وعلى ما أراده من الإسراع ، ولو أراد خلق الدنيا ، والآخرة بما فيهما من السماوات ، والأرض ، في قدر لمح البصر لقدر على ذلك ؛ ولكن خاطب العباد بما يعقلون.

فصل في دلالة الآية على قدم كلام الله.

دلت هذه الآية على قدم القرآن ؛ لأنّ قوله تعالى (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فلو كان قوله حادثا ؛ لافتقر إحداثه إلى أن يقول له : كن فيكون ، وذلك يوجب التسلسل ؛ وهو محال ؛ فثبت أنّ كلام الله قديم.

قال ابن الخطيب (١) : وهذا الديل عندي ليس بالقوي من وجوه :

أحدها : أنّ كلمة «إذا» لا تفيد التكرار ؛ لأن الرجل إذا قال لامرأته : «إذا دخلت الدّار فأنت طالق» فدخلت الدّار مرة واحدة طلّقت واحدة ، ولو دخلت ثانيا لم تطلّق طلقة ثانية ، فعلمنا أنّ ذلك لا يفيد التكرار ؛ وإذا كان كذلك ثبت أنّه لا يلزم من كل ما يحدثه الله تعالى أن يقول له : كن فيكون ، فلم يلزم التّسلسل.

وثانيها : أن هذا الدليل إن صح ، لزم القول بقدم لفظ «كن» وهذا معلوم البطلان بالضرورة ؛ لأنّ لفظة «كن» مركبة من الكاف والنّون ، وعند حصول الكاف لم تكن النون حاضرة ، وعند مجيء النون تفوت الكاف ، وهذا يدلّ على أنّ لفظة «كن» يمتنع كونها قديمة ، وإنّما الذي يدعي أصحابنا قدمه صفة [مغايرة](٢) للفظ : «كن» فالذي تدل عليه الآية لا يقول به أصحابنا ، والذي يقولون به لا تدلّ عليه الآية ؛ فسقط التمسك به.

ثالثها : أنّ الرجل إذا قال : إنّ فلانا لا يقدم على قول ، ولا على فعل ، إلا ويستعين فيه بالله كان عاقلا ؛ لأنا نقول إن استعانته بالله فعل من أفعاله ؛ فيلزم أن يكون كل استعانة مسبوقة باستعانة أخرى إلى غير نهاية ؛ وهذا كلام باطل بحسب العرف ؛ فكذلك ما قالوه.

ورابعها : أنّ هذه الآية مشعرة بحدوث الكلام من وجوه :

الأول : أن قوله تعالى (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ) يقتضي كون القول واقعا بالإرادة ؛ فيكون محدثا.

الثاني : أنه علق القول بكلمة «إذا» وهي إنّما تدخل للاستقبال.

الثالث : أن قوله تعالى : (أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) لا خلاف أنّ ذلك ينبىء عن الاستقبال.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ٢٧.

(٢) في ب : مقدرة.

٥٨

الرابع : أن قوله (كُنْ فَيَكُونُ) كلمة مقدمة على حدوث الكون بزمان واحد ، والمتقدم على المحدث بزمان واحد ؛ يجب أن يكون محدثا.

الخامس : أنه معارض بقوله تعالى : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) [الأحزاب : ٣٧] و (وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) [الأحزاب : ٣٨] و (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) [الزمر : ٢٣] و (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) [الطور : ٢٤] و (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً) [الأحقاف : ١٢] فإن قيل : فهب أنّ هذه الآية لا تدل على قدم الكلام لكنكم ذكرتم أنّها تدل على حدوث الكلام ، فما الجواب عنه؟.

قلنا : نصرف هذه الدلائل إلى الكلام المسموع الذي هو مركب من الحروف ، والأصوات ، ونحن نقول بكونه محدثا.

قوله : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) الآية.

لما حكى عن الكفّار أنّهم أقسموا بالله جهد أيمانهم ، على إنكار البعث ، دلّ ذلك على تماديهم في الغيّ والجهل ، ومن هذا حاله ، لا يبعد إقدامه على إيذاء المسلمين ؛ بالضّرب ، وغيره من العقوبات ؛ وحينئذ يلزم على المؤمنين أن يهاجروا عن ديارهم ، ومساكنهم فذكر ـ تعالى ـ في هذه الآية حكم تلك الهجرة ، وبيّن ما للمهاجرين من الحسنة في الدنيا والآخرة ؛ من حيث هاجر ، وصبر ، وتوكّل على الله ـ عزوجل ـ وذلك ترغيب لغيرهم في طاعة الله ـ عزوجل ـ.

قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : نزلت هذه الآية في صهيب ، وبلال ، وعمار ، وخبّاب ، وعابس ، وجبير ، وأبي جندل بن سهيل ، أخذهم المشركون بمكة فجعلوا يعذبونهم ؛ ليردوهم عن الإسلام ، فأما صهيب فقال لهم : أنا رجل كبير إن كنت لكم لم أنفعكم ، وإن كنت عليكم لم أضركم ؛ فافتدى منهم بماله ، فلما رآه أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ قال : ربح البيع يا صهيب ، وقال عمر رضي الله عنه : «نعم الرّجل صهيب ، لو لم يخف الله لم يعصه» ، يريد لو لم يخلق الله النار لأطاعه (١).

وقال قتادة ـ رضي الله عنه ـ : هم أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظلمهم أهل مكة ، وأخرجوهم من ديارهم ؛ حتّى لحق طائفة منهم بالحبشة ، ثم بوّأهم الله المدينة بعد ذلك ؛ فجعلها لهم دار هجرة ، وجعلهم أنصارا للمؤمنين ، وبسبب هجرتهم ظهرت قوة الإسلام ، كما أن نصرة الأنصار قوّت شوكتهم (٢) ، ودل عليه قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ) على أنّ الهجرة إذا لم تكن لله ، لم يكن لها موقع ، وكانت بمنزلة الانتقال من بلد إلى بلد.

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٠ / ٢٨).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٥٨٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» ٤ / ٢٢١) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

٥٩

وقوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) أي أنهم كانوا مظلومين في أيدي الكفار.

قوله «حسنة» فيها أوجه :

أحدها : أنها نعت لمصدر محذوف ، أي : تبوئة حسنة.

الثاني : أنها منصوبة على المصدر الملاقي لعامله في المعنى ؛ لأنّ معنى «لنبوّئنهم» لنحسنن إليهم.

الثالث : أنها مفعول ثان ؛ لأن الفعل قبلها مضمن لمعنى لنعطينهم ، و«حسنة» صفة لموصوف محذوف ، أي : دارا حسنة ؛ وفي تفسير الحسن : دار حسنة وهي المدينة على ساكنها ـ أفضل الصلاة والسلام ـ.

وقيل : تقديره : منزلة حسنة ، وهي الغلبة على أهل المشرق.

وقيل : حسنة بنفسها هي المفعول من غير حذف موصوف.

وقرأ أمير المؤمنين (١) ، وابن مسعود ، ونعيم بن ميسرة : «لنثوينّهم» بالثاء المثلثة والياء ، مضارع أثوى المنقول بهمزة التعدية من «ثوى بالمكان» أقام فيه وسيأتي أنّه قرىء بذلك في السبع في العنكبوت ، و«حسنة» على ما تقدم.

ويريد أنه يجوز أن يكون على نزع الخافض أي «في حسنة» والموصول مبتدأ ، والجملة من القسم المحذوف وجوابه خبره ، وفيه ردّ على ثعلب ؛ حيث منع وقوع جملة القسم خبرا.

وجوّز أبو البقاء في : «الّذين» النصب على الاشتغال بفعل مضمر ، أي : لنبوأنّ الذين.

ورده أبو حيان : بأنه لا يجوز أن يفسر عاملا ، إلا ما جاز أن يعمل ، وإن قلت «زيدا لأضربنّ» لم يجز ، فكذا لا يجوز «زيدا لأضربنّه».

قوله : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) يجوز فيه أن يعود الضمير على الكفار ، أي : لو كانوا يعلمون ذلك لرجعوا مسلمين.

أو على المؤمنين ، أي : لاجتهدوا في الهجرة والإحسان كما فعل غيرهم.

فصل : الإحسان عند الإعطاء

روي أنّ عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاء يقول : خذه بارك الله لك فيه ، هذا ما وعدك الله في الدّنيا وما ادّخر لك في الآخرة أفضل ، ثم تلا هذه الآية (٢).

__________________

(١) ينظر : المحتسب ٢ / ٩٠١ والبحر ٥ / ٤٧٧ ، والمحرر ٨ / ٤٢١ والدر المصون ٤ / ٣٢٧.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٥٨٦) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٢١) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وذكره البغوي أيضا في «تفسيره» (٣ / ٦٩).

٦٠