اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٢

تعالى ما ذكر موسى في كتابه إلّا وأراد به موسى صاحب التوراة ، فإطلاق هذا الاسم يوجب الانصراف إليه ، ولو كان المراد شخصا آخر يسمّى موسى غيره ، لعرّفه بصفة تميّزه وتزيل الشبهة كما أنّه لما كان المشهور في العرف أنّ أبا حنيفة هو الرجل المفتي ، فلو ذكرنا هذا الاسم ، وأردنا به غيره ، لقيّدناه ، كما نقول : أبو حنيفة الدّينوريّ.

فصل في حجة القائلين بأنه موسى بن ميشا

واحتج القائلون بأنّه موسى بن ميشا بأنّ الله تعالى بعد أن أنزل عليه التوراة ، وكلّمه بلا واسطة ، وخصّه بالمعجزات الباهرة العظيمة التي لم يتّفق مثلها لأكثر أكابر الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ يبعد أن يبعثه بعد ذلك إلى التّعليم والاستفادة.

[فالجواب](١) عنه : بأنّه ليس ببعيد أن يكون العالم العامل الكامل في أكثر العلوم يجهل بعض الأشياء ؛ فيحتاج إلى تعلّمها إلى من هو دونه ، وهو أمر متعارف.

فصل في اختلافهم في فتى موسى

واختلفوا في فتى موسى ، فالصحيح أنه يوشع بن نون ؛ كما روي في الحديث المتقدّم ، وقيل : كان أخا يوشع.

وروى عمرو بن عبيد عن الحسن أنّه عبد لموسى.

قال القفّال والكعبي : يحتمل ذلك.

قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «لا يقولنّ أحدكم : عبدي وأمتي ، وليقل : فتاي وفتاتي» (٢).

وهذا يدلّ على أنهم كانوا يسمّون العبد فتى ، والأمة فتاة.

قوله : «لا أبرح» يجوز فيها وجهان :

أحدهما : أن تكون ناقصة ، فتحتاج إلى خبر.

والثاني : أن تكون تامة ، فلا تحتاج إليه ، فإن كانت الناقصة ، ففيها تخريجان :

أحدهما : أن يكون الخبر محذوفا ؛ للدلالة عليه تقديره : لا أبرح أسير حتّى أبلغ ، إلّا أن حذف الخبر في هذا الباب نصّ بعض النحويّين على أنه لا يجوز ولو بدليل ، إلا في ضرورة ؛ كقوله: [الكامل]

٣٥٤٥ ـ لهفي عليك للهفة من خائف

يبغي جوارك حين ليس مجير (٣)

أي : حين ليس في الدنيا مجير.

والثاني : أنّ في الكلام حذف مضاف ، تقديره : لا يبرح مسيري ، حتّى أبلغ ، ثم

__________________

(١) في ب : فأجيب.

(٢) تقدم.

(٣) تقدم.

٥٢١

حذف «مسير» وأقيمت الياء مقامه ، فانقلبت مرفوعة مستترة بعد أن كانت مخفوضة المحلّ بارزة ، وبقي (حَتَّى أَبْلُغَ) على حاله هو الخبر.

وقد خلط الزمخشري هذين الوجهين ، فجعلهما وجها واحدا ، ولكن في عبارة حسنة جدّا ، فقال : «فإن قلت : (لا أَبْرَحُ) إن كان بمعنى «لا أزول» من برح المكان ، فقد دلّ على الإقامة ، لا على السّفر ، وإن كان بمعنى «لا أزال» فلا بدّ من خبر ، قلت : هي بمعنى «لا أزال» وقد حذف الخبر ؛ لأنّ الحال والكلام معا يدلان عليه ؛ أمّا الحال : فلأنها كانت حال سفر ، وأمّا الكلام ، فلأن قوله (حَتَّى أَبْلُغَ) غاية مضروبة تستدعي ما هي غاية له ، فلا بدّ أن يكون المعنى : لا أبرح أسير حتّى أبلغ ، ووجه آخر : وهو أن يكون المعنى : لا يبرح مسيري ، حتّى أبلغ على أنّ (حَتَّى أَبْلُغَ) هو الخبر ، فلمّا حذف المضاف ، أقيم المضاف إليه مقامه ، وهو ضمير المتكلّم ، فانقلب الفعل من ضمير الغائب إلى لفظ المتكلّم ، وهو وجه لطيف».

قال شهاب الدين : وهذا على حسنه فيه نظر لا يخفى ، وهو : خلوّ الجملة الواقعة خبرا عن «مسيري» في الأصل من رابط يربطها به ؛ ألا ترى أنه ليس في قوله (حَتَّى أَبْلُغَ) ضمير يعود على «مسيري» إنما يعود على المضاف إليه المستتر ، ومثل ذلك لا يكتفى به.

ويمكن أن يجاب عنه : بأن العائد محذوف ، تقديره : حتى أبلغ به ، أي : بمسيري.

وإن كانت التامة ، كان المعنى : لا أبرح ما أنا عليه ، بمعنى : ألزم المسير والطّلب ، ولا أفارقه ، ولا أتركه ؛ حتّى أبلغ ؛ كما تقول : لا أبرح المكان ، فعلى هذا : يحتاج أيضا إلى حذف مفعول به ، كما تقدّم تقريره فالحذف لا بدّ منه على تقديري التّمام والنقصان [في أحد وجهي النقصان](١).

وقرأ العامة «مجمع» بفتح الميم ، وهو مكان الإجتماع ، وقيل : مصدر ، وقرأ (٢) الضحاك وعبد الله بن مسلم بن يسار بكسرها ، وهو شاذّ ؛ لفتح عين مضارعه.

قوله : «حقبا» منصوب على الظرف ، وهو بمعنى الدّهر. وقيل : ثمانون سنة ، وقيل : سنة واحدة بلغة قريش ، وقيل : سبعون ، وقرأ الحسن : «حقبا» (٣) بإسكان القاف ، فيجوز أن يكون تخفيفا ، وأن يكون لغة مستقلة ، ويجمع على «أحقاب» كعنق وأعناق ، وفي معناه : الحقبة بالكسر ، قال امرؤ القيس :

٣٥٤٦ ـ فإن تنأ عنها حقبة لا تلاقها

فإنّك ممّا أحدثت بالمجرّب (٤)

__________________

(١) سقط من أ.

(٢) ينظر : المحتسب ٢ / ٣٠ ، والبحر ٦ / ١٣٦ ، والدر المصون ٤ / ٤٦٩ ، والكشاف ٢ / ٧٣١.

(٣) ينظر : الشواذ ٨١ ، والبحر ٦ / ١٣٧ ، والدر المصون ٤ / ٤٦٩.

(٤) تقدم.

٥٢٢

والحقبة بالضمّ أيضا ، وتجمع الأولى على حقب ، بكسر الحاء كقرب ، والثانية على حقب ، بضمّها ؛ كقرب.

فإن قيل قوله : (أَوْ أَمْضِيَ) فيه وجهان :

أظهرهما : أنه منسوق على «أبلغ» يعني بأحد أمرين : إمّا ببلوغه المجمع ، أو بمضيّه حقبا.

والثاني : أنه تغيية لقوله «لا أبرح» فيكون منصوبا بإضمار «أن» بعد «أو» بمعنى «إلى» نحو «لألزمنّك أو تقضيني حقّي».

فالجواب قال أبو حيان : «فالمعنى : لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين ، إلى أن أمضي زمانا ، أتيقّن معه فوات مجمع البحرين» قال شهاب الدين : فيكون الفعل المنفيّ قد غيّي بغايتين مكانا وزمانا ؛ فلا بدّ من حصولهما معا ، نحو : «لأسيرنّ إلى بيتك إلى الظّهر» فلا بدّ من حصول الغايتين ؛ والمعنى الذي ذكره الشيخ يقتضي أنه يمضي زمانا يتيقّن فيه فوات مجمع البحرين.

وجعل أبو البقاء (١) «أو» هنا بمعنى «إلّا» في أحد الوجهين :

قال : «والثاني : أنها بمعنى : إلّا أن أمضي زمانا ؛ أتيقنّ معه فوات مجمع البحرين» وهذا الذي ذكره أبو البقاء معنى صحيح ، فأخذ الشيخ هذا المعنى ، ركّبه مع القول بأنّها بمعنى «إلى» المقتضية للغاية ، فمن ثمّ جاء الإشكال.

فصل في المراد بمجمع البحرين

قوله : (مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) ؛ الذي وعد فيه موسى لقاء الخضر ـ عليه‌السلام ـ : هو ملتقى بحرين فارس والرّوم ممّا يلي المشرق ، قاله قتادة ، [وقال محمد بن كعب : طنجة](٢) وقال أبي بن كعب : إفريقيّة.

وقيل : البحران موسى والخضر ؛ لأنّهما كانا بحري علم. وليس في اللفظ ما يدل على تعيين هذين البحرين ؛ فإن صحّ بالخبر الصحيح شيء فذاك ، وإلّا فالأولى السّكوت عنه.

ثم قال : «أو أمضي حقبا» : أو أسير زمانا طويلا.

واعلم أنّ الله تعالى كان أعلم موسى حال هذا العالم ، وما أعلمه بموضعه بعينه ، فقال موسى : لا أزال أمشي ؛ حتّى يجتمع البحران ، فيصيرا بحرا واحدا ، أو أمضي دهرا طويلا ؛ حتّى أجد هذا العالم ، وهذا إخبار من موسى أنّه وطن نفسه على تحمّل التّعب الشّديد ، والعناء العظيم في السّفر ؛ لأجل طلب العلم ، وذلك تنبيه على أنّ المتعلّم ، لو سار من المشرق إلى المغرب ؛ لأجل مسألة واحدة ، حقّ له ذلك.

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ١٠٥.

(٢) زيادة من ب.

٥٢٣

ثم قال : (فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما).

أي : انطلقا إلى أن بلغا مجمع بينهما ، والضمير في قوله : «بينهما» إلى ماذا يعود؟.

فقيل : لمجمع البحرين.

وقيل : بلغا الموضع الذي وقع فيه نسيان الحوت ، وهذا الموضع الذي كان يسكنه الخضر ـ عليه‌السلام ـ أي : يسكن بقربه ، ولأجل هذا المعنى ، لمّا رجع موسى وفتاه بعد أن ذكر الحوت ، صار إليه ، وهو معنى حسن ، والمفسّرون على القول الأوّل (١).

قوله : (نَسِيا حُوتَهُما) : الظاهر نسبة النّسيان إلى موسى وفتاه ، يعني نسيا تفقّد أمره ، فإنه كان علامة لهما على ما يطلبانه ، وقيل : نسي موسى أن يأمره بالإتيان به ، ونسي يوشع أن يفكّره بأمره ، وقيل : النّاسي يوشع فقط ، وهو على حذف مضاف ، أي : نسي أحدهما ؛ كقوله : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٢٢].

قوله : (فِي الْبَحْرِ سَرَباً) «سربا» مفعول ثان ل «اتّخذ» و (فِي الْبَحْرِ) يجوز أن يتعلق ب «اتّخذ» وأن يتعلق بمحذوف على أنه محال من المفعول الأول أو الثاني.

والهاء في «سبيله» تعود على الحوت ، وكذا المرفوع في «اتّخذ».

قوله : (جاوَزا) : مفعوله محذوف ، أي : جاوزا الموعد ، وقيل : جاوزا مجمع البحرين.

قوله : «هذا» إشارة إلى السّفر الذي وقع بعد تجاوزهما الموعد ، أو مجمع البحرين ، و«نصبا» هو المفعول ب «لقينا» والعامة على فتح النون والصاد ، وعبد الله بن عبيد بن عمير بضمّهما ، وهما لغتان من لغات أربع في هذه اللفظة ، كذا قال أبو الفضل الرازيّ في «لوامحه».

قوله : (أَرَأَيْتَ) : تقدم الكلام عليها مشبعا في الأنعام ، وقال أبو الحسن الأخفش هنا فيها كلاما حسنا ، وهو : «أنّ العرب أخرجتها عن معناها بالكليّة ، فقالوا : أرأيتك ، وأريتك بحذف الهمزة ، إذا كانت بمعنى «أخبرني» وإذا كانت بمعنى «أبصرت» لم تحذف همزتها ، وشذّت أيضا ، فألزمها الخطاب على هذا المعنى ، ولا يقال فيها أيضا : «أراني زيدا عمرا ما صنع» ويقال على معنى «اعلم» وشذّت أيضا ، فأخرجتها عن موضعها بالكليّة ؛ بدليل دخول الفاء ؛ ألا ترى قوله : «أرأيت إذ أوينا إلى الصّخرة فإنّي» فما دخلت الفاء إلّا وقد أخرجت إلى معنى : «أمّا» أو «تنبّه» ، والمعنى : أمّا إذ أوينا إلى الصّخرة ، فإنّي نسيت الحوت ، وقد أخرجتها أيضا إلى معنى «أخبرني» كما قدّمنا ، وإذا كانت بمعنى «أخبرني» فلا بدّ بعدها من الاسم المستخبر عنه ، وتلزم [الجملة] التي بعدها الاستفهام ، وقد تخرج لمعنى «أمّا» ويكون أبدا بعدها الشرط ، وظروف الزمان ، فقوله (فَإِنِّي نَسِيتُ)

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٢٤.

٥٢٤

معناه : أمّا إذ أوينا فإنّي ، أو تنبّه إذ أوينا ، وليست الفاء إلّا جوابا ل «أرأيت» لأنّ «إذ» لا يصحّ أن يجازى بها إلّا مقرونة ب «ما» بلا خلاف».

قال الزمخشريّ : «أرأيت» بمعنى «أخبرني» فإن قلت : ما وجه التئام هذا الكلام ، فإنّ كلّ واحد من «أرأيت» ومن «إذ أوينا» ومن (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) لا متعلق له.

قلت : لمّا طلب موسى الحوت ، ذكر يوشع ما رأى منه ، وما اعتراه من نسيانه إلى تلك الغاية ، ودهش ، فطفق يسأل موسى عن سبب ذلك ، كأنه قال : أرأيت ما دهاني ، إذ أوينا إلى الصخرة ، فإنّي نسيت الحوت ، فحذف ذلك.

قال أبو حيّان : وهذان مفقودان في تقدير الزمخشريّ : «أرأيت بمعنى أخبرني» يعني بهذين ما تقدّم في كلام الأخفش من أنّه لا بدّ بعدها من الاسم المستخبر عنه ، ولزوم الاستفهام الجملة التي بعدها.

قال النوويّ في «التهذيب» يقال : أوى زيد بالقصر : إذا كان فعلا لازما ، وآوى غيره بالمدّ : إذا كان متعدّيا ، فمن الأول هذه الآية قوله : (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ).

ومن المتعدّي قوله تعالى : (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ) [المؤمنون : ٥٠].

وقوله : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى) [الضحى : ٦].

هذا هو الفصيح المشهور ، ويقال في كلّ واحد بالمدّ والقصر ، لكن بالقصر في اللازم أفصح ، والمدّ في المتعدّي أفصح وأكثر.

قوله : (وَما أَنْسانِيهُ) قرأ (١) حفص بضم الهاء ، وكذا في قوله : (عَلَيْهُ اللهَ) في سورة الفتح [آية : ١٠] ، قيل : لأنّ الياء هنا أصلها الفتح ، والهاء بعد الفتحة مضمومة ، فنظر هنا إلى الأصل ، وأمّا في سورة الفتح ؛ فلأنّ الياء عارضة ؛ إذ أصلها الألف ، والهاء بعد الألف مضمومة ، فنظر إلى الأصل أيضا.

والباقون بالكسر نظرا إلى اللفظ ، فإنّها بعد ياء ساكنة ، وقد جمع حفص في قراءته بين اللغات في هاء الكناية : فإنه ضمّ الهاء في «أنسانيه» في غير صلة ، ووصلها بياء في قوله : (فِيهِ مُهاناً) [الفرقان] على ما سيأتي ، إن شاء الله تعالى ، وقرأ كأكثر القراء فيما سوى ذلك.

وقرأ الكسائي «أنسانيه» بالإمالة.

قوله : (أَنْ أَذْكُرَهُ) في محلّ نصب على البدل من هاء «أنسانيه» بدل اشتمال ، أي: أنساني ذكره.

__________________

(١) ينظر في قراءاتها : السبعة ٣٩٤ ، والتيسير ١٤٤ ، والحجة ٤٢٢ ، والنشر ١ / ٣٠٥ ، والإتحاف ٢ / ٢١٩ ، وإعراب القراءات ١ / ٣٩٩ والبحر ٦ / ١٣٨ ، ١٣٩ ، والدر المصون ٤ / ٤٧١.

٥٢٥

وقرأ عبد الله : «أن أذكركه» ، وقرأ أبو حيوة : «واتّخاذ سبيله» عطف هذا المصدر على مفعول «أذكره».

قوله : «عجبا» فيه أوجه :

أحدها : أنه مفعول ثان ل «اتّخذ» و«في البحر» يجوز أن يتعلق بالاتخاذ ، أو بمحذوف على أنه حال من المفعول الأول أو الثاني.

وفي فاعل «اتّخذ» وجهان :

أحدهما : هو الحوت ، كما تقدّم في «اتّخذ» الأولى.

والثاني : هو موسى.

الوجه الثاني من وجهي «عجبا» أنه مفعول به ، والعامل فيه محذوف ، فقال الزمخشريّ : «أو قال : عجبا في آخر كلامه تعجبا من حاله ، وقوله : «وما أنسانيه إلّا الشّيطان» اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه». فظاهر هذا أنّه مفعول ب «قال» ، أي : قال هذا اللفظ ، والسبب في وقوع هذا الاعتراض ما يجري مجرى القدر والعلة لوقوع ذلك النسيان.

الثالث : أنه مصدر ، والعامل فيه مقدّر ، تقديره : فتعجّب من ذلك عجبا.

الرابع : أنه نعت لمصدر محذوف ، ناصبه «اتّخذ» أي : اتّخذ سبيله في البحر اتّخاذا عجبا ، وعلى هذه الأقوال الثلاثة : يكون «في البحر» مفعولا ثانيا ل «اتّخذ» إن عدّيناها لمفعولين.

فصل

دلّت الروايات على أنّه تعالى بيّن لموسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّ هذا العالم موضعه مجمع البحرين ، إلّا أنّه ما عيّن موضعا ، إلّا أنّه جعل انقلاب الحوت حيّا علامة على مسكنه المعيّن ، كمن يطلب إنسانا ، فيقال له : إنّ موضعه محلّة كذا من كذا ، فإذا انتهيت إلى المحلّة ، فسل فلانا عن داره ، فأينما ذهب بك ، فاتبعه ؛ فإنّك تصل إليه ، فكذا هنا قيل له : إنّ موضعه مجمع البحرين ، فإذا وصلت إليه ، ورأيت انقلاب الحوت حيّا ، وطفر إلى البحر ، فيحتمل أنّه قيل له : فهناك موضعه ، ويحتمل أنّه قيل له : فاذهب على موافقة ذلك الحوت ؛ فإنّك تجده.

وإذا عرفت هذا فنقول : إن موسى وفتاه ، لمّا بلغا مجمع بينهما ، طفرت السّمكة إلى البحر ، وسارت ، وفي كيفيّة طفرها روايات.

فقيل : إن الفتى غسل السّمكة ، لأنها كانت مملحة ، فطفرت وسارت.

وقيل : إنّ يوشع توضّأ في ذلك المكان من عين تسمّى «ماء الحياة» لا يصيب ذلك الماء شيئا إلّا حيي ، فانتضح الماء على الحوت المالح ، فعاش ووثب في الماء.

وقيل : انفجر هناك عين من الجنّة ، ووصلت قطرات من تلك العين إلى السّمكة ،

٥٢٦

وهي في المكتل ، فاضطربت ، وعاشت ، فوثبت في البحر.

ثم قال تعالى : (نَسِيا حُوتَهُما) أي : نسيا كيفيّة الاستدلال بهذه الحالة المخصوصة على الوصول إلى المطلوب ، فإن قيل : انقلاب السّمكة المالحة حيّة [حالة] عجيبة [فلما] جعل الله تعالى حصول هذه الحالة العجيبة دليلا على الوصول إلى المطلوب ، فكيف يعقل حصول النّسيان في هذا المعنى؟.

فالجواب (١) أنّ يوشع كان قد شاهد المعجزات الباهرات من موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ كثيرا ، فلم يبق لهذه المعجزات عنده وقع عظيم ، فجاز حصول النّسيان.

وهذا الجواب فيه نظر.

قال ابن زيد : أي شيء أعجب من حوت يؤكل منه دهرا ، ثم صار حيّا بعد ما أكل بعضه (٢).

فصل في ذكر جواب آخر لابن الخطيب

قال ابن الخطيب (٣) : وعندي فيه جواب آخر ، وهو أنّ موسى ـ عليه‌السلام ـ لما استعظم علم نفسه ، أزال الله عن قلب صاحبه هذا العلم الضروريّ ؛ تنبيها لموسى عليه‌السلام ـ على أنّ العلم لا يحصل ألبتّة إلا بتعليم الله تعالى ، وحفظه على القلب.

وقال البغويّ (٤) : «نسيا» تركا «حوتهما» ، وإنما كان الحوت مع يوشع ، وهو الذي نسيه ، وأضاف النّسيان إليهما ؛ لأنهما جميعا لمّا تزوّداه لسفرهما ، كما يقال : خرج القوم إلى موضع كذا ، وحملوا من الزّاد كذا [وإنما حمله واحد منهم. ثم قال : «واتخذ سبيله في البحر سربا» قيل : تقديره سرب في البحر سربا»](٥) إلّا أنّه أقيم قوله : «فاتّخذ» مقام قوله : «سربا» ، والسّرب هو الذهاب ومنه قوله تعالى : (وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) [الرعد : ١٠].

وقيل : إن الله تعالى أمسك الماء عن الجري ، وجعله كالطاق والكوّة ؛ حتّى سرب الحوت فيه ، وذلك معجزة لموسى أو الخضر ـ عليهما‌السلام ـ.

روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : انجاب الماء عن مسلك الحوت ، فصار كوّة ، لم يلتئم ، فدخل موسى الكوّة على إثر الحوت ، فإذا هو بالخضر (٦).

وقوله : (فَلَمَّا جاوَزا) أي : موسى وفتاه الموعد المعين ، وهو الوصول إلى الصخرة بسبب النّسيان المذكور ، وذهبا كثيرا ، وتعبا ، وجاعا.

(قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا) والغداء : ما يعدّ للأكل غدوة ، والعشاء : ما يعدّ للأكل

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٢٥.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٢٤٩) عن ابن زيد.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٢٥.

(٤) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٧١.

(٥) سقط من أ.

(٦) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢١ / ١٢٥) بمعناه.

٥٢٧

عشية (لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً) أي : تعبا وشدّة ، وذلك أنّه ألقى على موسى الجوع بعد مجاوزة الصّخرة ؛ ليتذكّر الحوت ، ويرجع إلى مطلبه ، فقال له فتاه وتذكّر : (أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ) الهمزة في «أرأيت» همزة الاستفهام ، و«رأيت» على معناه الأصليّ ، وجاء الكلام هذا على المتعارف بين النّاس ؛ فإنه إذا حدث لأحدهم أمر عجيب ، قال لصاحبه : أرأيت ما حدث لي ، كذلك هنا ، كأنه قال : أرأيت ما وقع لي ، إذا أوينا إلى الصّخرة ، فحذف مفعول «أرأيت» لأنّه ـ أي لأنّ قوله : (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) ـ يدل عليه ، أي : فقدته.

(وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) أي أذكر لك أمر الحوت.

(وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً) ووجه كونه عجبا انقلابه من المكتل ، وصيرورته حيّا ، وإلقاء نفسه في البحر على غفلة منهما ، ويكون المراد منه ما ذكرنا أنه تعالى جعل الماء عليه كالطّاق والسّرب ، وقيل : تمّ الكلام عند قوله : (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ) ، ثم قال : «عجبا» أي أنّه يعجب من رؤية تلك العجيبة ، ومن نسيانه لها.

وقيل : إنّ قوله «عجبا» حكاية لتعجّب موسى.

ثم قال موسى : (ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ) أي : نطلبه ؛ لأنّه أمارة الظّفر بالمطلوب ، وهو لقاء الخضر.

قوله : نبغى : حذف (١) نافع وأبو عمرو والكسائيّ ياء «نبغي» وقفا ، وأثبتوها وصلا ، وابن كثير أثبتها في الحالين ، والباقون حذفوها في الحالين ؛ اتّباعا للرسم ، وكان من حقّها الثبوت ، وإنما حذفت تشبيها بالفواصل ، أو لأنّ الحذف يؤنس بالحذف ، فإن «ما» موصولة حذف عائدها ، وهذه بخلاف التي في يوسف [الآية : ٦٥] ، فإنها ثابتة عند الجميع ، كما تقدّم.

قوله : «قصصا» فيه ثلاثة أوجه :

الأول : أنه مصدر في موضع الحال ، أي : قاصّين.

الثاني : أنه مصدر منصوب بفعل من لفظه مقدر ، أي : يقصّان قصصا.

الثالث : أنه منصوب ب «ارتدّا» لأنه في معنى «فقصّا».

قوله : (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا) الآية.

قيل : كان ملكا من الملائكة ، والصحيح ما ثبت في التّواريخ ، وصحّ عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه الخضر ، واسمه بليا بن ملكان.

وقيل : كان من نسل بني إسرائيل.

__________________

(١) ينظر : السبعة ٣٩١ ، ٤٠٣ ، والنشر ٢ / ٣١٦ ، والتيسير ١٤٧ ، والإتحاف ٢ / ٢١٩ ، والبحر ٩ / ١٣٩ ، والدر المصون ٤ / ٤٧١.

٥٢٨

وقيل : كان من أبناء الملوك الذين زهدوا في الدنيا ، والخضر لقب له ، سمّي بذلك ؛ لما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إنّما سمّي خضرا ؛ لأنّه جلس على فروة بيضاء ، فإذا هي تهتزّ تحته خضرا» (١).

وقال مجاهد : إنّما سمّي خضرا ؛ لأنّه كان إذا صلّى ، اخضرّ ما حوله (٢).

روي في الحديث أنّ موسى ـ عليه‌السلام ـ لمّا رأى الخضر ـ عليه‌السلام ـ سلّم عليه ، فقال الخضر : وأنّى بأرضك السلام؟ قال : أنا موسى ، قال : موسى بني إسرائيل؟

قال : نعم ، أتيتك ؛ لتعلّمني ممّا علّمت رشدا (٣).

فصل في بيان أن الخضر كان نبيا

قال أكثر المفسرين (٤) : إنّه كان نبيّا ، واحتجوا بوجوه :

الأول : قوله : (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) والرحمة : هي النبوة ؛ لقوله تعالى : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) [الزخرف : ٣٢].

وقوله : (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) [القصص : ٨٦].

والمراد من هذه الرحمة النبوة ، ولقائل أن يقول : سلّمنا أن النبوّة رحمة ، ولكن لا يلزم بكلّ رحمة نبوة.

الثاني : قوله تعالى : (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) وهذا يدل على أنه علمه لا بواسطة ، ومن علّمه الله شيئا ، لا بواسطة البشر ، يجب أن يكون نبيّا ، وهذا ضعيف ؛ لأنّ العلوم الضرورية تحصل ابتداء من عند الله ، وذلك لا يدلّ على النبوّة.

الثالث : قول موسى ـ عليه‌السلام ـ : «هل أتّبعك على أن تعلّمني ممّا علّمت رشدا» والنبي لا يتّبع غير النبيّ في التعلّم.

وهذا أيضا ضعيف ؛ لأنّ النبي لا يتبع غير النبي في العلوم التي باعتبارها صار نبيّا ، [أما في غير تلك العلوم فلا](٥).

الرابع : أنّ ذلك العبد أظهر الترفّع على موسى ، فقال : (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) فأما موسى ، فإنه أظهر التواضع له ؛ حيث قال : (وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) وذلك يدلّ على أنّ ذلك العالم كان فوق موسى ، ومن لا يكون نبيّا ، لا يكون فوق النبيّ ، وذلك أيضا ضعيف ؛ لأنّه يجوز أن يكون غير النبيّ فوق النبي في علوم لا تتوقّف نبوته عليها.

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٤٢٤) وعزاه إلى ابن عساكر عن ابن عباس.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٤٢٤) وعزاه إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عساكر.

(٣) فقدم تخريجه وهو في الصحيحين.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٢٦.

(٥) سقط من أ.

٥٢٩

فإن قيل : إنه يوجب تنفيرا.

فالجواب : وتكليمه بغير واسطة يوجب التّنفير.

فإن قالوا : هذا لا يوجب التنفير ، فكذلك فيما ذكروه.

الخامس : احتجّ الأصم بقوله : (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) أي : فعلته بوحي الله تعالى ، وذلك يدلّ على النبوة ، وهذا ضعيف أيضا.

روي أنّ موسى ـ عليه‌السلام ـ لمّا وصل إليه ، فقال : السلام عليك ، فقال : وعليك السلام ، يا نبيّ بني إسرائيل ، فقال موسى : من عرّفك هذا؟ قال : الذي بعثك إليّ (١) ؛ وهذا يدلّ على أنّه إنما عرف ذلك بالوحي ، والوحي لا يكون إلا إلى النبيّ.

ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يكون ذلك من باب الكرامات؟.

قال البغوي (٢) : ولم يكن الخضر نبيّا عند أكثر أهل العلم.

قوله : (آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) أي : علم الباطن إلهاما.

و«علما» : مفعول ثان ل «علّمناه» قال أبو البقاء (٣) : «ولو كان مصدرا ، لكان تعليما» يعني : لأنّ فعله على «فعّل» بالتشديد ، وقياس مصدره «التّفعيل».

و (مِنْ لَدُنَّا) يجوز أن يتعلق بالفعل قبله ، أو بمحذوف على أنه حال من «علما».

قوله : (على أن تعلمني) : في موضع الحال من الكاف في «أتّبعك» أي : أتّبعك [باذلا لي علمك].

قوله : «رشدا» مفعول ثان ل «تعلّمني» لا لقوله : «ممّا علّمت» قال أبو البقاء (٤) : «لأنّه لا عائد إذن على الذي» يعني أنه إذا تعدّى لمفعول ثان غير ضمير الموصول ، لم يجز أن يتعدّى لضمير الموصول ؛ لئلا يتعدّى إلى ثلاثة ، ولكن لا بدّ من عائد على الموصول.

وقد تقدّم خلاف القراء في «رشدا» في سورة الأعراف [الآية : ١٤٦] ، وهل هما بمعنى واحد أم لا؟.

وقوله : رشدا» أي : علما ذا رشد.

قال القفّال (٥) : قوله «رشدا» يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون «الرّشد» راجعا إلى الخضر ، أي : ممّا علمك الله ، وأرشدك به.

والثاني : أن يرجع إلى موسى ، أي : على أن تعلّمني ، وترشدني ممّا علّمت.

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٧٣.

(٣) ينظر : الإملاء ٢ / ١٠٦.

(٤) ينظر : المصدر السابق.

(٥) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٢٨.

٥٣٠

فصل في أدب موسى ـ عليه‌السلام ـ في تعلّمه من الخضر

دلّت هذه الآية على أنّ موسى ـ عليه‌السلام ـ راعى أنواعا كثيرة من الأدب واللطف عندما أراد أن يتعلّم من الخضر.

منها : أنه جعل لنفسه تبعا له في قوله : (هَلْ أَتَّبِعُكَ).

ومنها : أنّه استأذن في إثبات هذه التبعيّة ؛ كأنّه قال : تأذن لي على أن أجعل نفسي تبعا لك ، وهذه مبالغة عظيمة في التواضع.

ومنها : قول ه «على أن تعلمني» وهذا إقرار منه على نفسه بالجهل ، وعلى أستاذه بالعلم.

ومنها : قوله : (مِمَّا عُلِّمْتَ) وصيغة «من» للتبعيض ، فطلب منه تعليم بعض ما علّم ، وهذا أيضا إقرار بالتواضع ، كأنه يقول : لا أطلب منك أن تجعلني مساويا لك في العلم ، بل أطلب منك أن تعطيني جزءا من الجزء ، ممّا علّمت.

ومنها : أن قوله : (مِمَّا عُلِّمْتَ) اعتراف بأنّ الله تعالى علّمه ذلك العلم.

ومنها : قوله «رشدا» طلب منه الإرشاد والهداية.

ومنها أنّ قوله : (تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ) طلب منه أن يعامله بمثل ما عامله الله به ، أي : يكون إنعامك عليّ عند تعليمك إيّاي شبيها بإنعام الله عليك في هذا التعليم.

ومنها : قوله : (هَلْ أَتَّبِعُكَ) يدل على طلب متابعته مطلقا في جميع الأمور غير مقيّد بشيء دون شيء.

ومنها : أنه ثبت [في الأخبار](١) أنّ الخضر عرف أولا أنّه موسى صاحب التّوراة ، وهو الرجل الذي كلّمه الله من غير واسطة ، وخصّه بالمعجزات القاهرة الباهرة ، ثم إنّه ـ عليه‌السلام ـ مع هذه المناصب الرفيعة والدّرجات العالية الشّريفة أتى بهذه الأنواع الكثيرة من التواضع ؛ وذلك يدلّ على كونه ـ عليه‌السلام ـ آتيا في طلب العلم أعظم أبواب المبالغة في التواضع ، وهذا هو اللائق به ؛ لأنّ كلّ من كانت إحاطته بالعلوم التي علم ما فيها من البهجة والسعادة أكثر ، كان طلبه له أشدّ ، وكان تعظيمه لأرباب العلم أكمل وأشدّ.

ومنها : قوله : (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ) فأثبت أوّلا كونه تبعا ، ثم طلب منه ثانيا أن يعلّمه ، وهذا منه ابتداء بالخدمة ، ثم في المرتبة الثانية ، طلب منه التّعليم.

ومنها : قوله : (هَلْ أَتَّبِعُكَ) لم يطلب على المتابعة إلّا التعليم ، كأنه قال : لا أطلب منك على هذه المتابعة المال والجاه ، ولا عوض لي إلّا طلب العلم.

__________________

(١) في ب : بالأخبار.

٥٣١

فصل

روي أنه لمّا قال موسى (١) : (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ) ، قال له الخضر : كفى بالتّوراة علما ، وببني إسرائيل شغلا ، فقال له موسى : إنّ الله أمرني بهذا ، فحينئذ قال له : (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) ، وإنّما قال ذلك ؛ لأنّه علم أنّه يرى معه أمورا كثيرة منكرة ، بحسب الظاهر ، ولا يجوز للأنبياء أن يصبروا على المنكرات ، ثمّ بيّن عذره في ترك الصّبر ، فقال : وكيف تصير على ما لم تحط به خبرا ، أي : علما.

واعلم أنّ المتعلّم على قسمين : متعلّم ليس عنده شيء من المعلوم ، ولم يمارس الاستدلال ، ولم يتعوّد التقرير ، والاعتراض ، ومتعلّم حصّل العلوم الكثيرة ، ومارس الاستدلال والاعتراض ، ثم إنّه يريد أن يخالط إنسانا أكمل منه ؛ ليبلغ درجة الكمال ، فالتعلم في حقّ هذا القسم الثاني شاقّ شديد ؛ لأنّه إذا رأى شيئا ، أو سمع كلاما ، فربّما يكون ذلك منكرا بحسب الظاهر ، إلّا أنّه في الحقيقة صواب حقّ ، فهذا المتعلم لأجل أنه ألف الكلام والجدال ، يغترّ بظاهره ، ولأجل عدم كماله ، لا يقف على سرّه وحقيقته ، فيقدم على النّزاع ، والاعتراض ، والمجادلة ، وذلك مما يثقل سماعه على [الأستاذ](٢) المتبحّر ، فإذا اتّفق مثل هذه الواقعة مرتين أو ثلاثة ، حصلت النّفرة التامّة والكراهة الشديدة العظيمة ، وإلى هذا ، أشار الخضر بقوله : (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) أي أنّه ألف الإثبات والإبطال ، والاستدلال والاعتراض.

وقوله : (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) إشارة إلى كونه غير عالم بالحقائق ، وقد تقدم أنه متى حصل الأمران ، [عسر](٣) السّكوت ، وعسر التعلم ، وانتهى الأمر بالآخرة إلى النّفرة التامّة ، وحصول التقاطع.

قوله : «خبرا» : فيه وجهان :

الأول : أنه تمييز لقوله «تحط» وهو منقول من الفاعلية ؛ إذ الأصل : مما لم يحط به خبرك.

والثاني : أنه مصدر لمعنى لم تحط ؛ إذ هو في قوّة : لم يخبره خبرا ، وقرأ (٤) الحسن «خبرا» بضمتين.

فصل في أن الاستطاعة تحصل قبل الفعل

قال ابن الخطيب (٥) : احتجّ أصحابنا بقوله : (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) على أن الاستطاعة تحصل قبل الفعل.

__________________

(١) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٧٣.

(٢) في أ: الإنسان.

(٣) في ب : صعب.

(٤) ينظر : الإتحاف ٢ / ٢٢٠. البحر ٦ / ١٤٠ ، والدر المصون ٤ / ٤٧٢.

(٥) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٢٩.

٥٣٢

وقالوا : لو كانت الاستطاعة على الفعل حاصلة قبل [حصول الفعل](١) ، لكانت الاستطاعة على الصّبر حاصلة لموسى قبل حصول الصّبر ، فيلزم أن يكون قوله : (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) كذبا ، ولمّا بطل ذلك ، علمنا أنّ الاستطاعة لا توجد قبل الفعل.

أجاب الجبائيّ بأنّ المراد من هذا القول : أنّه يثقل عليه الصّبر ؛ لا أنه لا يستطيعه ، يقال في العرف : «إنّ فلانا لا يستطيع أن يرى فلانا ، ولا أن يجالسه» إذا كان يثقل عليه ذلك.

ونظيره قوله تعالى : (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) [هود : ٢٠] أي كان يشقّ عليهم الاستماع.

وأجيب بأنّ هذا عدول عن الظاهر من غير دليل ، وأنه لا يجوز ، ومما يؤكد استدلال الأصحاب قوله تعالى : (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) استبعد حصول الصبر على ما لا يقف الإنسان على حقيقته ، ولو كانت الاستطاعة قبل الفعل لكانت القدرة على الفعل حاصلة قبل حصول ذلك العلم ، ولو كان كذلك لما كان حصول الصبر عند عدم ذلك العلم مستبعدا ؛ لأن القادر على الفعل لا يبعد منه إقدامه على ذلك الفعل ولما حكم الله تعالى باستبعاده ، علمنا أن الاستطاعة ، تحصل قبل الفعل.

قوله : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً). قال ابن الخطيب : احتج الطاعنون في عصمة الأنبياء بهذه الآية ؛ فقالوا إن الخضر قال لموسى : إنّك لن تستطيع معي صبرا ، وقال موسى : ستجدني إن شاء الله صابرا ، وكلّ واحد من هذين القولين مكذّب للآخر ، فيلزم إلحاق الكذب بأحدهما ، وعلى التّقديرين ، فيلزم صدور الكذب عن الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ.

وأجيب بأنّه يحمل قوله : (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) على الأكثر والأغلب ، وعلى هذا ، فلا يلزم ما ذكروه ، وقد يجاب بجواب آخر ، وهو أن موسى ـ عليه‌السلام ـ استثنى في جوابه ، فقال : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً) وعلى هذا ، فلا يلزم ما ذكروه.

قوله : (وَلا أَعْصِي) فيه أربعة أوجه :

أحدها : أنّها لا محلّ لها من الإعراب لاستئنافها ، وفيه بعد.

الثاني : أنها في محلّ نصب ؛ عطفا على ستجدني ؛ لأنّها منصوبة المحلّ بالقول.

وقال أبو حيّان : ويجوز أن يكون معطوفا على «ستجدني» فلا يكون له محلّ من الإعراب ، وهذا سهو ؛ فإنّ «ستجدني» منصوب المحلّ ؛ لأنّه منصوب بالقول ، فكذلك ما عطف عليه ، ولكنّ الشيخ رأى كلام الزمخشريّ كذلك ، ولم يتأمّله ، فتبعه في ذلك ، فمن ثمّ جاء السّهو قال الزمخشريّ : (وَلا أَعْصِي) في محلّ النصب عطفا على «صابرا» أي :

__________________

(١) في ب : الصبر.

٥٣٣

ستجدني صابرا ، وغير عاص أو «لا» في محل رفع عطفا على «ستجدني».

الثالث : أنه في محلّ نصب على «صابرا» كما تقدّم تقريره.

فصل

دلّ قوله : (وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) على أنّ ظاهر الأمر للوجوب ، وأن تارك المأمور به عاص ، والعاصي يستحقّ العقاب ؛ كقوله تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) [الجن : ٢٣].

فصل

قوله الخضر لموسى : (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) نسبه إلى قلة العلم ، فقول موسى : ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا تواضع شديد ، وإظهار للتّحمل التّام ، وذلك يدلّ على أنّ الواجب على المتعلّم إظهار التواضع بكلّ الغايات ، وأمّا المعلم فإن رأى أنّ في التغليظ على المتعلّم ما يفيده نفعا وإرشادا إلى الخير ، فالواجب عليه ذكره ، فإنّ السّكوت عنه يوقع المتعلّم في الغرور ، وذلك يمنع من التعلّم.

قوله : (فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي) أي صحبتني ، ولم يقل : اتّبعني ، ولكن جعل الاختيار إليه ، إلّا أنّه شرط عليه شرطا ، فقال : (فَلا تَسْئَلْنِي) تقدّم خلاف القرّاء في هذا الحرف ، في سورة «هود» (١).

وقرأ أبو جعفر وابن عامر ـ هنا ـ بفتح السّين ، واللام ، وتشديد النون من غير همز ، وبغير ياء ، وروي عن ابن عامر ، ونافع كذلك مع الياء ، والمعنى : لا تسألني : لا تستخبرني حين ترى منّي ما لم تعلم وجهه حتّى أكون أنا المبتديء بتعليمك إيّاه ، وإخبارك به ، وهذا معنى قوله : (حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) أي : أبتدىء بذكره ، فأبين لك شأنه.

قوله : (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها) الآية.

اعلم أنّ موسى ـ عليه‌السلام ـ وذلك العالم ، لمّا تشارطا على الشرط المذكور ، سارا فانتهيا إلى موضع ، احتاجا فيه إلى ركوب السّفينة ، فوجدا سفينة ، فكلموهم أن يحملوهم ، فعرفوا الخضر ، [فحملوهم](٢) من غير نول ، فلما لجّوا البحر ، أقدم ذلك العالم على خرق السّفينة.

قال ابن الخطيب (٣) : لعلّه أقدم على إخراق مكان في السفينة ؛ لتصير السفينة بذلك السبب معيبة ظاهرة العيب ، فلا يتسارع به إلى أهلها الغرق فعند ذلك قال له موسى : (أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها) [لمّا رأى موسى ـ عليه‌السلام ـ ذلك الأمر المنكر بحسب الظّاهر نسي الشرط المتقدم ؛ فلهذا قال ما قال](٤).

__________________

(١) آية رقم : (٤٢).

(٢) في أ: فأخذوهم.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٣١.

(٤) سقط من أ.

٥٣٤

وفي اللام وجهان :

أحدهما : هي لام العلة.

والثاني : هي لام الصّيرورة ، وقرأ الأخوان (١) : «ليغرق» بفتح الياء من تحت ، وسكون الغين ، وفتح الراء ، «أهلها» بالرفع فاعلا ، والباقون بضمّ التاء من فوق ، وكسر الراء ، أي : لتغرق أنت أهلها ، بالنصب مفعولا به ، والحسن وأبو رجاء كذلك ، إلا أنّهما شدّدا الراء.

والسّفينة معروفة ، وتجمع على سفن وسفائن ، نحو : صحيفة وصحف وصحائف ، وتحذف منها التاء مرادا بها الجمع ، فتكون اسم جنس ؛ نحو : ثمر [وقمح](٢) ، إلا أنه هذا في المصنوع قليل جدّا ، نحو : جرّة وجر ، وعمامة وعمام ، قال الشاعر : [الوافر]

٣٥٤٧ ـ متى تأتيه تأتي لجّ بحر

تقاذف في غواربه السّفين (٣)

واشتقاقها من السّفن ، وهو القشر ؛ لأنّها تقشر الماء ، كما سميت «بنت مخر» لأنها تمخر الماء ، أي : تشقّه.

قوله : «إمرا» أي شيئا عظيما ، يقال : أمر الأمر ، أي : عظم وتفاقم ، قال : [الرجز]

٣٥٤٨ ـ داهية دهياء إدّا إمرا (٤)

والإمر في كلام العرب : الدّاهية ، وأصله كل شيء شديد كثير ، يقال : أمر القوم : إذا كثروا ، واشتدّ أمرهم.

ومعنى الآية : لقد جئت شيئا منكرا.

وقال القتيبيّ : «إمرا» أي عظيما عجيبا منكرا.

روي أنّ الخضر ، لمّا [خرق](٥) السّفينة لم يدخلها الماء (٦).

وروي أن موسى لمّا رأى ذلك أخذ ثوبه ، وحشا به الخرق (٧).

قوله : (قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) أي : قال ذلك الخضر ، قال موسى : (لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ).

__________________

(١) ينظر : السبعة ٣٩٥ ، والتيسير ١٤٤ ، والحجة ٤٢٣ ، والإتحاف ٢ / ٢٢١ ، والحجة للقراء السبعة ٥ / ١٥٨ ، وإعراب القراءات ١ / ٤٠٣ ، ٤٠٤ ، والنشر ٣١٣ ، والشواذ ٨١ ، والقرطبي ١١ / ١٥ ، والبحر ٦ / ١٤١.

(٢) في أ: وبلح.

(٣) ينظر البيت في البحر ٦ / ١٣٤ ، الدر المصون ٤ / ٤٧٣.

(٤) ينظر البيت في الطبري ١٥ / ١٦٩ والصحاح (أمر) ، واللسان (أمر) والتاج (أمر) والقرطبي ١١ / ١٩.

(٥) في أ: دخل

(٦) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٧٤.

(٧) ينظر : المصدر السابق.

٥٣٥

قال ابن عبّاس (١) : إنّه لم ينس ، ولكنّه من معاريض الكلام ، فكأنّه نسي شيئا آخر.

وقيل : معناه : بما تركت من عهدك ، والنّسيان التّرك.

وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «كانت الأولى من موسى نسيانا ، والوسطى شرطا ، والثالثة عمدا» (٢).

فصل في الرد على الطاعنين في عصمة الأنبياء

قال ابن الخطيب (٣) : احتجّ الطّاعنون في عصمة الأنبياء بهذه الآية من وجهين :

أحدهما : أنه ثبت بالدليل أن ذلك العالم كان نبيّا ، ثم قال موسى : «أخرقتها ، لتغرق أهلها» ، فإن صدق موسى في هذا القول ، دلّ ذلك على صدور الذّنب العظيم من ذلك النبيّ ، وإن كذب ، دلّ ذلك على صدور الذنب [العظيم](٤) من موسى.

والثاني : أنه التزم أنّه لا يعترض على ذلك العالم ، وجرت العهود المذكورة بذلك ، ثم إنّه خالف تلك العهود ، وذلك ذنب.

فالجواب عن الأول : أن موسى ، لما شاهد منه الأمر الخارج عن العادة ، قال هذا الكلام ، لا لأجل أنه اعتقد فيه أنه فعل قبيحا ، بل إنّه أحبّ أن يقف على وجهه وسببه ، وقد يقال في الشيء العجيب الذي لا يعرف سببه : إنّه إمر.

وعن الثاني : أنّه إنما خالف الشّرط ؛ بناء على النّسيان ، ثم إنه تعالى حكى عن ذلك العالم أنّه [لما خالف الشرط] لم يزد على أن قال : (أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) ، فعندها اعتذر موسى بقوله : (لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ) أراد أنه نسي وصيّته ، ولا مؤاخذة على الناسي ، (وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) أي : لا تكلّفني مشقّة ، يقال : أرهقه عسرا وأرهقته عسرا ، أي : كلّفته ذلك. لا تضيّق عليّ أمري ، لا تعسّر متابعتك [ويسرها عليّ](٥) بالإغضاء ، وترك المناقشة ، وعاملني باليسر ، ولا تعاملني بالعسر.

و«عسرا» : مفعول ثان ل «ترهقني» من أرهقه كذا ، إذا حمّله إيّاه ، وغشّاه به ، و«ما» في (بِما نَسِيتُ) مصدرية ، أو بمعنى «الذي» والعائد محذوف.

وقرأ أبو جعفر : «عسرا» بضمّ السين ، حيث وقع.

قوله : (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ) الآية.

اعلم أنّ لفظ الغلام قد يتناول الشابّ البالغ ، وأصله من الاغتلام ، وهو شدّة

__________________

(١) ينظر : المصدر السابق.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١١ / ١٤) والبغوي (٣ / ١٧٤).

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٣١.

(٤) زيادة من ب.

(٥) سقط من أ.

٥٣٦

الشّبق ، وذلك إنما يكون في الشّباب ، وقد يتناول هذا اللفظ الصبي الصغير ، وليس في القرآن كيف لقياه : هل كان يلعب مع الغلمان ، أو كان منفردا؟ أو هل كان مسلما ، أو كان كافرا؟ أو هل كان بالغا ، أو صغيرا؟ لكن اسم الغلام بالصّغير أليق ، وإن احتمل الكبير ، إلّا أن قوله : (بِغَيْرِ نَفْسٍ) أليق بالبالغ منه بالصبيّ ؛ لأن الصبيّ لا [يقتل](١)(٢).

قال ابن عباس (٣) : لم يكن نبي الله يقول : أقتلت نفسا زكيّة بغير نفس إلّا وهو صبيّ لم يبلغ (٤).

وكيفيّة قتله ، هل كان بحزّ رأسه ، أو بضرب رأسه بالجدار ، أو بطريق آخر؟ فليس في لفظ القرآن ما يدلّ على شيء من هذه الأقسام ، لكنّه روي في الحديث عن ابن عباس عن أبيّ بن كعب قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الغلام الذي قتله الخضر ، طبع كافرا ، ولو عاش ، لأرهق والديه طغيانا وكفرا» (٥).

فإن قيل : إنّ موسى استبعد أن يقتل النّفس إلّا لأجل القصاص ، وليس الأمر كذلك ، لأنه قد يحلّ دمه بسبب آخر.

فالجواب : أنّ السّبب الأقوى هو ذاك.

قوله : (زَكِيَّةً) : قرأ (٦) «زاكية» بألف وتخفيف الياء : نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وبدون الألف وتشديد الياء : الباقون ، فمن قرأ «زاكية» فهو اسم فاعل على أصله ، ومن قرأ «زكيّة» فقد أخرجه إلى فعيلة للمبالغة.

قال الكسائيّ والفراء : معناهما واحد ؛ مثل القاسية والقسيّة ، وقال أبو عمرو بن العلاء : الزّاكية : التي لم تذنب قطّ ، والزّكيّة : التي أذنبت ثم تابت.

[والغلام : من لم يبلغ]. وقد يطلق على البالغ الكبير. فقيل : مجازا باعتبار ما كان. ومنه قول ليلى : [الطويل]

٣٥٤٩ ـ شفاها من الدّاء الذي قد أصابها

غلام إذا هزّ القناة شفاها (٧)

وقول الآخر : [الطويل]

__________________

(١) في أ: يعقل.

(٢) في ب : يقتل.

(٣) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٧٤.

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٧٥).

(٥) أخرجه أبو داود (٤٧٠٥) والترمذي (٣١٥٠) وأحمد (٥ / ١٢١) وابن أبي عاصم (١ / ٨٦) من حديث أبي بن كعب.

(٦) ينظر : السبعة ٣٩٥ ، والحجة ، والإتحاف ٢ / ٢٢١ ، والتيسير ١٢٤ ، والنشر ٢ / ٢١٦ ، وإعراب القراءات ١ / ٤٠٥ ، والقرطبي ١١ / ١٥ ، والبحر ٦ / ١٤٢ ، والدر المصون ٤ / ٤٧٣.

(٧) تقدم.

٥٣٧

٣٥٥٠ ـ تلقّ ذباب السّيف عنّي فإنّني

غلام إذا هو جيت لست بشاعر (١)

وقيل : بل هو حقيقة ، لأنه من الاغتلام وهو الشّبق ، وذلك إنما يكون في الشاب المحتلم ، والذي يظهر أنه حقيقة فيهما عند الاطلاق ، فإذا أريد أحدهما ، قيد كقوله : (لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ) وقد تقدّم ترتيب أسماء الآدميّ من لدن هو جنين إلى أن يصير شيخا ، ولله الحمد ، في آل عمران.

قال الزمخشري : «فإن قلت : لم قال : (حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها) بغير فاء ، و (حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً ، فَقَتَلَهُ) بالفاء؟ قلت : جعل «خرقها» جزاء للشرط ، وجعل «قتله» من جملة الشرط معطوفا عليه ، والجزاء «قال : أقتلت» فإن قلت : لم خولف بينهما؟ قلت : لأنّ الخرق لم يتعقّب الركوب ، وقد تعقّب القتل لقاء الغلام».

قوله : بغير نفس» فيه ثلاثة أوجه :

الأول : أنها متعلقة ب «قتلت».

الثاني : أنها متعلقة بمحذوف ، على أنها حال من الفاعل ، أو من المفعول ، أي : قتلته ظالما ، أو مظلوما ، كذا قدّره أبو البقاء (٢) ، وهو بعيد جدّا.

الثالث : أنها صفة لمصدر محذوف ، أي : قتلا بغير نفس.

قوله : «نكرا» قرأ نافع (٣) ، وأبو بكر ، وابن ذكوان بضمّتين ، والباقون بضمة وسكون ، وهما لغتان ، أو أحدهما أصل ، و«شيئا» : يجوز أن يراد به المصدر ، أي : مجيئا نكرا ، وأن يراد به المفعول به ، أي : جئت أمرا منكرا ، وهل النكر أبلغ من الإمر ، أو بالعكس؟ فقيل : الإمر أبلغ ؛ لأنّ قتل أنفس بسبب الخرق أعظم من قتل نفس واحدة وأيضا : فالإمر هو الداهية العظيمة فهو أبلغ من النكر ، وقيل : النّكر أبلغ ، لأن معه القتل الحتم ، بخلاف خرق السفينة ، فإنه يمكن تداركه ؛ ولذلك قال : (أَلَمْ أَقُلْ لَكَ) ولم يأت ب «لك» مع «إمرا» ؛ لأن هذه اللفظة تؤكّد التّوبيخ.

وقيل : زاد ذلك ، لأنّه نقض العهد مرّتين ، فقال الخضر لموسى ـ عليهما‌السلام ـ : «ألم أقل لك إنّك لن تستطيع معي صبرا» فعند ذلك قال موسى : (إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي) وهذا كلام نادم.

قوله : (فَلا تُصاحِبْنِي) : العامة على «تصاحبني» من المفاعلة ، وعيسى ويعقوب:«فلا تصحبنّي» من صحبه يصحبه.

__________________

(١) ينظر البيت في البحر المحيط ٦ / ١٤١ ، روح المعاني ١٥ / ٣٣٨ ، الدر المصون ٤ / ٤٧٤.

(٢) ينظر : الإملاء ٢ / ١٠٦.

(٣) ينظر : السبعة ٣٩٥ ، والنشر ٢ / ٢١٦ ، والتيسير ١٤٤ ، والحجة ٤٢٤ ، والحجة للقراء السبعة ٥ / ١٥٩ ، والإتحاف ٢ / ٢٢١ ، وإعراب القراءات ١ / ٤٠٦ ، والبحر ٦ / ١٤٢ ، والدر المصون ٤ / ٤٧٤.

٥٣٨

وأبو عمرو في (١) رواية ، وأبيّ بضمّ التاء من فوق ، وكسر الحاء ، من أصحب يصحب ، ومفعوله محذوف ، تقديره : فلا تصحبني نفسك ، وقرأ أبيّ «فلا تصحبني علمك» فأظهر المفعول.

قوله : (مِنْ لَدُنِّي) العامة على ضمّ الدال ، وتشديد النون ، وذلك أنّهم أدخلوا نون الزيادة أعني الوقاية على «لدن» لتقيها من الكسر ؛ محافظة على سكونها ، حوفظ على سكون نون «من» و«عن» فألحقت بهما نون الوقاية ، فيقولون : منّي وعنّي بالتشديد.

ونافع (٢) بتخفيف النون ، والوجه فيه : أنّه لم يلحق نون الوقاية ل «لدن» إلا أنّ سيبويه (٣) منع من ذلك وقال : «لا يجوز أن تأتي ب «لدن» مع ياء المتكلم ، دون نون وقاية» وهذه القراءة حجة عليه ، فإن قيل : لم لا يقال : إن هذه النون نون الوقاية ، وإنّما اتصلت ب «لد» لغة في «لدن» حتى يتوافق قول سيبويه ، مع هذه القراءة؟ قيل : لا يصحّ ذلك من وجهين :

أحدهما : أنّ نون الوقاية ، إنما جيء بها ؛ لتقي الكلمة الكسر ؛ محافظة على سكونها ، ودون النون لا سكون ؛ لأنّ الدال مضمومة ، فلا حاجة إلى النّون.

الثاني : أن سيبويه يمنع أن يقال : «لدني» بالتخفيف.

وقد حذفت النون من «عن» و«من» في قوله : [الرمل]

٣٥٥١ ـ أيّها السّائل عنهم وعني

لست من قيس ولا قيس مني (٤)

وقرأ أبو بكر بسكون الدّال ، وتخفيف النون ، لكنّه ألزم الدال الضمة منبهة على الأصل.

ولكن تحتمل هذه القراءة أن تكون النون فيها أصليّة ، وأن تكون للوقاية على أنها دخلت على «لد» الساكنة الدال ، لغة في «لدن» فالتقى ساكنان ، فكسرت نون الوقاية على أصلها ، وإذا قلنا بأنّ النون أصليّة ، فالسكون تخفيف ؛ كتسكين ضاد «عضد» وبابه واختلف القراء في هذا الإشمام ، فقائل : هو إشارة بالعضو من غير صوت ، كالإشمام الذي في الوقف ، وهذا هو المعروف ، وقائل : هو إشارة للحركة المدركة بالحسّ ، فهو

__________________

(١) ينظر في قراءاتها : الإتحاف ٢ / ٢٢٢ ، والنشر ٢ / ٣١٣ ، والشواذ ٨١ ، والقرطبي ١١ / ١٧ ، والبحر ٦ / ١٤٢ ، والدر المصون ٤ / ٤٧٤.

(٢) ينظر في قراءاتها : السبعة ٣٩٦ ، والحجة ٤٢٥ ، والنشر ٢ / ٣١٣ ، والتيسير ١٤٥ ، والإتحاف ٢ / ٢٢٢ ، والحجة للقراء السبعة ٥ / ١٦٠ ، وإعراب القراءات ١ / ٤٠٧ ، والقرطبي ١١ / ١٧ ، والبحر ٦ / ١٤٢ والكشاف ٢ / ٧٣٦ ، والدر المصون ٤ / ٤٧٤.

(٣) ينظر : الكتاب ١ / ٣٨٦ ـ ٣٨٧.

(٤) ينظر البيت في شرح ابن عقيل ١ / ١١٤ ، شرح المفصل لابن يعيش ٣ / ١٢٥ ، الأشموني ١ / ١٢٤ ، التصريح ١ / ١١٢ ، الخزانة ٢ / ٣٨٠ ، الدر المصون ٤ / ٤٧٥.

٥٣٩

كالرّوم في المعنى ، يعني : أنه إتيان ببعض الحركة ، وقد تقدّم هذا محرّرا في يوسف عند قوله (لا تَأْمَنَّا) [يوسف : ١١] ، وفي قوله في هذه السورة (مِنْ لَدُنْهُ) في قراءة شعبة أيضا ، وتقدّم بحث يعود مثله هنا.

وقرأ (١) عيسى وأبو عمرو في رواية «عذرا» بضمتين ، وعن أبي عمرو أيضا «عذري» مضافا لياء المتكلم.

و«من لدنّي» متعلق ب «بلغت» أو بمحذوف على أنّه حال من «عذرا».

فصل في معنى الآية

قال ابن عباس : معناه : أعذرت فيما بيني وبينك (٢).

وقيل : حذّرتني أنّي لا أستطيع معك صبرا.

وقيل : اتّضح لك العذر في مفارقتي.

والمراد أنّه مدحه بهذه الطريقة من حيث إنّه احتمله مرّتين أولا وثانيا.

روى ابن عبّاس عن أبيّ بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رحمة الله علينا ، وعلى موسى» وكان إذا ذكر أحدا من الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ بدأ بنفسه «لولا أنّه عجّل ، لرأى العجب ، ولكنّه أخذته من صاحبه ذمامة ، قال : «إن سألتك عن شيء بعدها ، فلا تصاحبني ، قد بلغت من لدنّي عذرا ؛ فلو صبر ، لرأي العجب» (٣).

قوله : (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها) الآية.

قال ابن عبّاس : هي أنطاكية (٤).

وقال ابن سيرين (٥) : هي [الأبلة](٦) ، وهي أبعد الأرض من السّماء وقيل : برقة.

وعن أبي هريرة (٧) : بلدة بالأندلس.

(اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما) قال أبي بن كعب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : حتّى إذا أتيا أهل قرية لئاما ، فطافا في المجلس فاستطعما أهلها ، فأبوا أن يضيفوهما (٨).

وروي أنّهما طافا في القرية ، فاستطعماهم ، فلم يطعموهما ، فاستضافاهم ، فلم يضيّفوهما.

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١١ / ١٧ ، والبحر ٦ / ١٤٢ ، والدر المصون ٤ / ٤٧٥.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٧٥).

(٣) تقدم.

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٤٢٩) وعزاه إلى ابن أبي حاتم من طريق قتادة عن ابن عباس.

(٥) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٧٥.

(٦) في ب : الأيلة.

(٧) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٧٥.

(٨) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٤٢٩) وعزاه إلى الديلمي.

٥٤٠