اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٢

قوله : (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) قادرا بتكوينه أولا ، وتنميته وسطا ، وإبطاله آخرا ، فأحوال الدنيا كذلك تظهر أولا في غاية الحسن والنّضارة ، ثم تتزايد قليلا قليلا ، ثم تأخذ في الانحطاط إلى أن تنتهي إلى الفناء والذّهاب ، ومثل هذا الشيء ليس للعاقل أن يبتهج به.

فصل في حسن ترتيب الآيات

قوله تعالى : (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) الآية.

لما بيّن تعالى أنّ الدنيا سريعة الانقراض والانقضاء مشرفة على الزّوال والبوار والفناء ، بيّن تعالى أنّ المال والبنين زينة الحياة الدنيا ، والمقصود منه إدخال هذا الجزئيّ تحت ذلك الكليّ ، فينعقد به قياس بيّن الإنتاج ، وهو أنّ المال والبنين زينة الحياة الدنيا ، وكل ما كان زينة الحياة الدنيا ، فهو سريع الانقضاء والانقراض ، ومن اليقين البديهيّ ، أن ما كان كذلك ، فإنه يقبح بالعاقل أن يفتخر به ، أو يقيم له في نظره وزنا ، فهذا برهان باهر على فساد قول المشركين الذين افتخروا بكثرة الأموال والأولاد على فقراء [المؤمنين](١).

قوله : (زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) : إنما أفرد «زينة» وإن كانت خبرا عن «بنين» لأنّها مصدر ، فالتقدير : ذوا زينة ، إذ جعلا نفس المصدر ؛ مبالغة ؛ إذ بهما تحصل الزينة ، أو بمعنى مزيّنتين ، وقرىء شاذّا زينتا الحياة الدنيا على التثنية ، وسقطت ألفها لفظا لالتقاء الساكنين ، فيتوهم أنه قرىء بنصب «زينة الحياة».

فصل في بيان رجحان فقراء المؤمنين على أغنياء الكفار

لما أقام البرهان على فساد قول المشركين ، ذكر ما يدلّ على رجحان أولئك الفقراء على أغنياء الكفّار ، فقال : (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ).

وبيان هذا الدليل : أنّ خيرات الدنيا [منقرضة](٢) ، وخيرات الآخرة باقية دائمة ، والدائم الباقي خير من المنقرض الزائل ، وهذا معلوم بالضّرورة.

قال علي بن أبي طالب (٣) ـ رضي الله عنه ـ : المال والبنون حرث الحياة الدنيا ، والأعمال الصالحة حرث الآخرة ، وقد يجمعها الله لأقوام.

وقال ابن عبّاس وعكرمة ومجاهد (٤) : الباقيات الصالحات هي قول : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر.

__________________

(١) في ب : المسلمين.

(٢) في ب : منقضية.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٤٠٨) وعزاه لابن أبي حاتم.

وذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٦٤).

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٤٠٨) وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر.

وذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٦٤).

٥٠١

وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «أفضل الكلام أربع : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلّا الله ، والله أكبر» (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أكثروا من الباقيات الصّالحات قيل : وما هنّ يا رسول الله؟ قال : الملة. قيل : وما هي يا رسول الله؟ قال : التّكبير ، والتّهليل ، والتّسبيح ، والتّحميد ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم» (٢).

وقال سعيد بن جبير ومسروق وإبراهيم ويروى أيضا عن ابن عباس : الباقيات الصّالحات : الصلوات الخمس (٣).

وقال قتادة : ويروى أيضا عن ابن عبّاس أنّها الأعمال الصالحة (٤)(خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً) جزاء (وَخَيْرٌ أَمَلاً) أي : ما يؤمّله الإنسان.

قوله : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ) الآية.

لما بيّن خساسة الدّنيا ، وشرف القيامة ، أراد أن يعيّن أحوال القيامة.

قوله : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ) : «يوم» منصوب بقول مضمر بعده ، تقديره : نقول لهم يوم نسيّر الجبال : لقد جئتمونا ، وقيل : بإضمار «اذكر» وقيل : هو معطوف على (عِنْدَ رَبِّكَ) فيكون معمولا لقوله «خير».

وقرأ ابن كثير (٥) ، وأبو عمرو ، وابن عامر بضمّ التاء ، وفتح الياء مبنيا للمفعول ، «الجبال» بالرفع ؛ لقيامه مقام الفاعل ، وحذف الفاعل ؛ للعلم به ، وهو الله ، أو من يأمره من الملائكة ، وهذه القراءة موافقة لما اتّفق عليه في قوله (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ) [النبأ : ٢٠] ، ويؤيّدها قراءة عبد الله هنا (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ) فعلا ماضيا مبنيا للمفعول.

والباقون «نسيّر» بنون العظمة ، والياء مكسورة من «سيّر» بالتشديد ؛ «الجبال» بالنصب على المفعول به ، وهذه القراءة مناسبة لما بعدها من قوله (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً).

وقرأ الحسن كقراءة ابن كثير ، ومن ذكر معه إلّا أنه بالياء من تحت ؛ لأنّ التأنيث مجازيّ وقرأ ابن محيصن ، ورواها محبوب عن أبي عمرو : [«تسير»] بفتح التاء من فوق

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٢٢٩ ـ ٢٣٠) عن ابن عباس وسعيد بن جبير وعمرو بن شرحبيل وأبي ميسرة.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٤١٠) وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤١٠) عن قتادة وعزاه إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه.

(٥) ينظر في قراءاتها : السبعة ٣٩٣ ، والنشر ٢ / ٣١١ ، والتيسير ١٤٤ ، والإتحاف ٢ / ٢١٦ ، والحجة للقراء السبعة ٥ / ١٥١ ، وإعراب القراءات السبع ١ / ٣٩٧ والقرطبي ١٠ / ٢٧٠ ، والبحر ٦ / ١٢٧ ، والدر المصون ٤ / ٤١١.

٥٠٢

ساكن الياء ، من سارت تسير ، و«الجبال» بالرفع على الفاعلية.

قوله : (وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) «بارزة» حال ؛ إذ الرؤية بصرية ، وقرأ (١) عيسى وترى الأرض مبنيّا للمفعول ، و«الأرض» قائمة مقام الفاعل.

قوله : (وَحَشَرْناهُمْ) فيه ثلاثة أوجه :

الأول : أنه ماض ، يراد به المستقبل ، أي : ونحشرهم ، وكذلك (وَعُرِضُوا) [الكهف : ٤٨] و (وَوُضِعَ الْكِتابُ) [الكهف : ٤٩].

والثاني : أن تكون الواو للحال ، والجملة في محلّ النصب ، أي : نفعل التسيير في حال حشرهم ؛ ليشاهدوا تلك الأهوال.

والثالث : قال الزمخشري : «فإن قلت : لم جيء ب «حشرناهم» ماضيا بعد «نسيّر» و«ترى»؟ قلت : للدلالة على أنّ حشرهم قبل التسيير ، وقبل البروز ؛ ليعاينوا تلك الأهوال العظام ؛ كأنّه قيل : وحشرناهم قبل ذلك».

فصل

قال أبو البقاء ، وأبو حيان : «والأولى أن تكون الواو للحال» فذكر نحوا ممّا قدّمته.

قوله : (فَلَمْ نُغادِرْ) عطف على «حشرناهم» فإنه ماض معنى ، والمغادرة هنا : بمعنى «الغدر» وهو الترك ، أي : فلم نترك ، والمفاعلة هنا ليس فيها مشاركة ، وسمي الغدر غدرا ؛ لأنّ به ترك الوفاء ، وغدير الماء من ذلك ؛ لأنّ السيل غادره ، أي : تركه ، فلم يجئه أو ترك فيه الماء ، ويجمع على «غدر» و«غدران» كرغيف ورغفان ، واستغدر الغدير : صار فيه الماء ، والغديرة: الشّعر الذي ترك حتى طال ، والجمع غدائر. قال امرؤ القيس : [الطويل]

٣٥٣٥ ـ غدائره مستشزرات إلى العلا

 ..........(٢)

وقرأ (٣) قتادة «فلم تغادر» بالتاء من فوق ، والفاعل ضمير الأرض ، أو الغدرة المفهومة من السياق ، وأبان : «يغادر» مبنيا للمفعول ، «أحد» بالرفع ، والضحاك : «نغدر» بضم النون ، وسكون العين ، وكسر الدال ، من «أغدر» بمعنى «غدر».

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٧٢٦ ، والبحر ٦ / ١٢٧ ، والدر المصون ٤ / ٤٦٢.

(٢) صدر بيت وعجزه :

تضل العقاص من مثنى ومرسل

ينظر : ديوانه ص (١٧) ، شرح القصائد العشر ٩٣ ، التصريح ٢ / ٣٧١ ، معاهد التنصيص ١ / ٨ ، التهذيب واللسان «عقص» ، الدر المصون ٤ / ٤٦٢.

(٣) ينظر في قراءاتها : الشواذ ٨٠ ، والكشاف ٢ / ٧٢٦ ، والبحر ٦ / ١٢٧ والدر المصون ٤ / ٤٦٢.

٥٠٣

فصل في المراد بالتسيير

ليس في الآية ما يدلّ على أنّ الأرض إلى أين تسير ، فيحتمل أن الله يسيّرها إلى موضع يريده ، ولم يبيّن ذلك الموضع لخلقه.

والحقّ أنّ المراد أنّه يسيّرها إلى العدم ؛ لقوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) [طه : ١٠٥ ـ ١٠٧] (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) [الواقعة : ٥ ، ٦] (وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) [الكهف : ٤٧] ، أي : لم يبق عليها شيء من الجبال ، والعمران ، والشّجر «بارزة» ظاهرة ليس عليها ما يسترها ؛ كما قال : (فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) [طه : ١٠٦ ، ١٠٧].

وقال عطاء : «بارزة» أبرزت ما في بطنها ، وقذفت الموتى المقبورين فيها ، أي بارزة البطن والجوف ، فحذف ذكر الجوف ، ودليله قوله تعالى : (وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ) [الانشقاق : ٤] (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) [الزلزلة : ٢] وقال : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) [إبراهيم : ٢١].

(وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) أي : وحشرناهم أي : وجمعناهم للحساب ، فلم نترك من الأوّلين والآخرين أحدا ، إلّا وجمعناهم لذلك اليوم.

قوله : (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا).

(صَفًّا) : حال من مرفوع «عرضوا» وأصله المصدرية ، يقال منه : صفّ يصفّ صفّا ، ثم يطلق على الجماعة المصطفّين ، واختلف هنا في «صفّا» هل هو مفرد وقع موقع الجمع ؛ إذ المراد صفوفا ؛ ويدل عليه الحديث الصحيح : «يجمع الله الأوّلين والآخرين في صعيد واحد صفوفا» (١) وفي حديث آخر : «أهل الجنّة مائة وعشرون صفّا ، أنتم منها ثمانون» (٢).

ويؤيده قوله تعالى : (يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) أي أطفالا. وقيل : ثمّ حذف ، أي : صفّا صفّا ، ونظيره قوله في موضع : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [الفجر : ٢٢]. وقال في آخر: (يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) [النبأ : ٣٨] يريد : صفّا صفّا ؛ بدليل الآية الأخرى ، فكذلك هنا ، وقيل : بل كل الخلائق تكون صفّا [واحدا] ، وهو أبلغ في القدرة ، وأمّا الحديثان فيحملان على اختلاف أحوال ؛ لأنه يوم طويل ، كما شهد له بقوله (كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) [المعارج : ٤] فتارة يكونون فيه صفّا واحدا ، وتارة صفوفا.

وقيل : صفّا أي : قياما ؛ لقوله تعالى : (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَ) [الحج : ٣٦] أي قياما.

__________________

(١) أخرجه أحمد في «مسنده» (٤ / ٤٠٧).

(٢) أخرجه الترمذي (٤ / ٥٨٩) كتاب صفة الجنة : باب ما جاء في صفة أهل الجنة حديث (٢٥٤٦) وابن ماجه (٤٢٨٩) من حديث بريدة وقال الترمذي حديث حسن.

٥٠٤

قوله : (لَقَدْ جِئْتُمُونا) على إضمار قول ، أي : وقلنا لهم كيت وكيت.

وتقدّم أن هذا القول هو العامل في قوله (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ) [الكهف : ٤٧]. ويجوز أن يضمر هذا القول حالا من مرفوع «عرضوا» ، أي : عرضوا مقولا لهم كذا وكذا.

قوله : (كَما خَلَقْناكُمْ) : أي : مجيئا مشبها لخلقكم الأول حفاة ، عراة غرلا ، لا مال ، ولا ولد معكم ، وقال الزمخشري : «لقد بعثناكم كما أنشأناكم أوّل مرّة» فعلى هذين التقديرين ، يكون نعتا للمصدر المحذوف ، وعلى رأي سيبويه (١) : يكون حالا من ضميره.

قوله : (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ).

ليس المراد حصول المساواة من كل الوجوه (٢) ؛ لأنهم خلقوا صغارا ، ولا عقل لهم ، ولا تكليف عليهم ، بل المراد أنّه قال للمشركين المنكرين للبعث المفتخرين على فقراءة المؤمنين بالأموال والأنصار : (لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي حفاة ، عراة ، بغير أموال ، ولا أعوان ، ونظيره قوله تعالى : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ) [الأنعام : ٩٤].

ثم قال تعالى : (بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً) أي كنتم مع التعزّز على المؤمنين بالأموال والأنصار ، تنكرون البعث ، فالآن قد تركتم الأموال والأنصار في الدنيا ، وشاهدتم أنّ البعث والقيامة حقّ.

قوله : (أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً) «أن» هي المخففة ، وفصل بينها وبين خبرها ؛ لكونه جملة فعلية متصرفة غير دعاء بحرف النفي ، و«لكم» يجوز أن يكون مفعولا ثانيا للجعل بمعنى التصيير ، و«موعدا» هو الأول ، ويجوز أن يكون معلّقا بالجعل ، أو يكون حالا من «موعدا» إذا لم يجعل الجعل تصييرا ، بل لمجرد الإيجاد.

و«بل» في قوله : (بَلْ زَعَمْتُمْ) لمجرّد الانتقال ، من غير إبطال.

قوله : (وَوُضِعَ الْكِتابُ) : العامة على بنائه للمفعول ، وزيد (٣) بن عليّ على بنائه للفاعل ، وهو الله ، أو الملك ، و«الكتاب» منصوب مفعولا به ، و«الكتاب» جنس للكتب ؛ إذ من المعلوم أنّ لكلّ إنسان كتابا يخصّه ، وقد تقدّم الوقف على (ما لِهذَا الْكِتابِ) وكيف فصلت لام الجرّ من مجرورها خطّا في سورة النساء عند (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) [النساء : ٧٨].

و (لا يُغادِرُ) جملة حالية من «الكتاب». والعامل الجار والمجرور ؛ لقيامه مقام الفعل ، أو الاستقرار الذي تعلق به الحال.

__________________

(١) ينظر : الكتاب ١ / ١١٦.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١١٤.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٦ / ١٢٨ ، الدر المصون ٤ / ٤٦٣.

٥٠٥

قوله : (إِلَّا أَحْصاها) في محل نصب نعتا لصغيرة وكبيرة ، ويجوز أن تكون الجملة في موضع المفعول الثاني ؛ لأنّ «يغادر» بمعنى «يترك» و«يترك» قد يتعدّى لاثنين ؛ كقوله : [البسيط]

٣٥٣٦ ـ ...........

فقد تركتك ذا مال وذا نشب (١)

في أحد الوجهين.

روى أبو هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يحشر النّاس على ثلاث طرائق راغبين راهبين ، فاثنان على بعير ، وثلاثة على بعير ، وأربعة على بعير ، وعشرة على بعير ، وتحشر بقيّتهم النّار ، تقيل معهم ، حيث قالوا ، وتبيت معهم ؛ حيث باتوا ، وتصبح معهم ، حيث أصبحوا ، وتمسي معهم ، حيث أمسوا» (٢).

وعن عائشة رضي الله عنها ، قالت : «قلت : يا رسول الله كيف يحشر النّاس يوم القيامة؟ قال : حفاة عراة ، قالت : قلت : والنّساء؟ قال : والنّساء ، قالت : قلت : يا رسول الله ، أستحي ، قال : يا عائشة ، الأمر أشدّ من ذلك ؛ أن يهمهم أن ينظر بعضهم لبعض» (٣).

ووضع الكتاب ، يعني كتب أعمال العباد ، توضع في أيدي الناس في أيمانهم.

وقيل : توضع بين يدي الله عزوجل ، (فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ) خائفين (مِمَّا فِيهِ) في الكتاب من الأعمال الخبيثة ، كيف تظهر لأهل الموقف ، فيفتضحون (وَيَقُولُونَ) إذا رأوها: (يا وَيْلَتَنا) يا هلاكنا ، والويل والويلة : الهلكة ، وكأنّ كلّ من وقع في مهلكة ، دعا بالويل ، ومعنى النّداء تنبيه المخاطبين.

(ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً) من ذنوبنا.

قال ابن عباس : الصّغيرة : التبسّم ، والكبيرة : القهقهة (٤).

قال سعيد بن جبير : الصغيرة : اللّمم ، [والمسّ ، والقبلة](٥) ، والكبيرة : الزّنا (٦).

(إِلَّا أَحْصاها) وهو عبارة عن الإحاطة ، أي : ضبطها وحصرها ، وإدخال تاء التأنيث في الصغيرة والكبيرة ، على تقدير أنّ المراد الفعلة الصغيرة والكبيرة.

__________________

(١) تقدم.

(٢) أخرجه البخاري ١١ / ٣٨٥ كتاب الرقاق : باب كيف الحشر (٦٥٢٢) ومسلم في كتاب الجنّة وصفة نعيمها : باب فناء الدنيا (٥٩ ـ ٢٨٦١) والنسائي في المصدر السابق (٢٠٨٥).

(٣) أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها : باب فناء الدنيا (٥٨ ـ ٢٨٥٩) والنسائي ٤ / ١١٤ ـ ١١٥ كتاب الجنائز : باب البعث (٢٠٨٤) وأخرجه أحمد في المسند ٦ / ٥٣.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٢٣٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٤١١) وزاد نسبته إلى ابن مردويه وابن أبي الدنيا في «ذم الغيبة» وابن أبي حاتم.

(٥) في ب : والمسيس والقبل.

(٦) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٦٦).

٥٠٦

قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «إيّاكم ومحقّرات الذنوب ؛ فإنّما مثل محقّرات الذّنوب مثل قوم نزلوا ببطن واد ، فجاء هذا بعود ، وجاء هذا بعود ، وجاء هذا بعود ، حتّى أنضجوا خبزتهم ، وإنّ محقّرات الذنوب لموبقات» (١).

(وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) مكتوبا في الصّحيفة.

(وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) لا ينقص ثواب أحد عمل خيرا.

وقال الضحاك : لم يؤاخذ أحدا بجرم لم يعمله (٢).

فصل في الرد على المجبرة

قال الجبائي (٣) : هذه الآية تدلّ على فساد قول المجبرة في مسائل :

أحدها : أنه لو عذّب عباده من غير ذنب صدر منهم ، لكان ظالما.

وثانيها : أنه لا يعذّب الأطفال بغير ذنب.

وثالثها : بطلان قولهم : لله أن يفعل ما شاء ، ويعذّب من غير جرم ؛ لأنّ الخلق خلقه ، إذ لو كان كذلك ، لما كان لنفي الظلم عنه معنى ؛ لأنّ بتقدير أنه إذا فعل أي شيء ، لم يكن ظلما منه ؛ لم يكن لقوله : «إنّه لا يظلم» فائدة.

فإن قيل : أيّ فائدة في ذلك؟.

فالجواب عن الأوّل بمعارضة العلم والدّاعي.

وعن الثاني : أنّه تعالى ، قال : (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) [مريم : ٣٥] ولم يدلّ هذا على أنّ اتخاذ الولد يصحّ عليه ، فكذلك ها هنا.

قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (٥٠) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (٥١) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (٥٢) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (٥٣) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً)(٥٤)

قوله : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) الآية.

اعلم أنّ المقصود في الآيات المتقدّمة الردّ على الذين افتخروا بأموالهم ، وأعوانهم

__________________

(١) أخرجه أحمد في «مسنده» (٥ / ٣٣١).

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١٦٦).

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١١٤.

٥٠٧

على فقراء المسلمين ، وهذه الآية المقصود من ذكرها عين هذا المعنى ؛ وذلك : أنّ إبليس ، إنما تكبّر على آدم ؛ لأنّه افتخر بأصله ونسبه ، فقال : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [الأعراف : ١٢] فأنا أشرف منه أصلا ونسبا ، فكيف أسجد له ، وكيف أتواضع له؟ وهؤلاء المشركون عاملوا فقراء المؤمنين بهذه المعاملة ، فقالوا : كيف نجالس هؤلاء الفقراء ، مع أنّا من أنساب شريفة ، وهم من أنساب نازلة ، ونحن أغنياء ، وهم فقراء؟ فذكر الله هذه القصة ؛ تنبيها على أنّ هذه الطريقة بعينها طريقة إبليس ، ثم إنه تعالى حذّر عنها ، وعن الاقتداء بها في قوله : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ) ، وهذا وجه النظم.

قوله : (وَإِذْ قُلْنا) : أي : اذكر.

قوله : (كانَ مِنَ الْجِنِ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه استئناف يفيد التعليل ؛ جوابا لسؤال مقدّر.

والثاني : أن الجملة حالية ، و«قد» معها مرادة ، قاله أبو البقاء (١).

قوله : «ففسق» السببية في الفاء ظاهرة ، تسبّب عن كونه من الجنّ الفسق ، قال أبو البقاء (٢) : إنما أدخل الفاء هنا ؛ لأنّ المعنى : «إلّا إبليس امتنع ففسق». قال شهاب الدين : إن عنى أنّ قوله (كانَ مِنَ الْجِنِّ) وضع موضع قوله «امتنع» فيحتمل مع بعده ، وإن عنى أنه حذف فعل عطف عليه هذا ، فليس بصحيح ؛ للاستغناء عنه.

قوله : (عَنْ أَمْرِ) «عن» على بابها من المجاوزة ، وهي متعلقة ب «فسق» ، أي : خرج مجاوزا أمر ربّه ، وقيل : هي بمعنى الباء ، أي : بسبب أمره ؛ فإنه فعّال لما يريد.

قوله : «وذرّيته» يجوز في الواو أن تكون عاطفة ، وهو الظاهر ، وأن تكون بمعنى «مع» و (مِنْ دُونِي) يجوز تعلقه بالاتّخاذ ، وبمحذوف على أنّه صفة لأولياء.

قوله : (وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) جملة حالية من مفعول الاتخاذ أو فاعله ؛ لأن فيها مصححا لكلّ من الوجهين ، وهو الرابط.

قوله : «بئس» فاعلها مضمر مفسّر بتمييزه ، والمخصوص بالذمّ محذوف ، تقديره : بئس البدل إبليس وذريّته. وقوله «للظّالمين» متعلق بمحذوف حالا من «بدلا» وقيل : متعلق بفعل الذمّ.

فصل في الخلاف في أصل إبليس

اعلم أنه تعالى بيّن في هذه الآية أنّ إبليس كان من الجنّ ، وللنّاس في الآية أقوال :

الأول : قال ابن عبّاس (٣) : كان من حيّ من الملائكة ، يقال لهم الحنّ ، خلقوا من

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ١٠٤.

(٢) ينظر : الإملاء ٢ / ١٠٤.

(٣) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٦٦.

٥٠٨

نار السّموم ، وكونه من الملائكة لا ينافي كونه من الجنّ ، لقوله : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) [الصافات : ١٥٨] وقوله : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) [الأنعام : ١٠٠] وسمّي الجن جنّا ؛ لاستتارهم ، والملائكة داخلون في ذلك.

وأيضا : فإنه كان خازن الجنة ، فنسب إلى الجنّة ؛ كقولهم : كوفيّ ، وبصريّ.

وعن سعيد بن جبير ، قال : كان من الجنّانين الذين يعملون في الجنان ، وهم حيّ من الملائكة ، يصوغون حلية أهل الجنة منذ خلقوا (١).

رواه القاضي في تفسيره عن هشام عن سعيد بن جبير.

وقال الحسن : كان من الجنّ ، ولم يكن من الملائكة ، فهو أصل الجنّ ، كما أنّ آدم أصل الإنس (٢).

وقيل : كان من الملائكة ، فمسخ وغيّر ، وكما يدلّ على أنه ليس من الملائكة قوله تعالى : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي) والملائكة ليس لهم نسل ، ولا ذرّيّة.

بقي أن يقال : لو لم يكن من الملائكة ، لما تناوله الأمر بالسجود ، فكيف يصحّ استثناؤه منهم؟.

تقدّم الكلام على ذلك في البقرة.

ثم قال تعالى : (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ).

قال الفراء : (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) ، أي : خرج من طاعته ، تقول العرب : فسقت الرطبة (٣) عن قشرها (٤) ، أي خرجت ، وسميت الفأرة فويسقة ؛ لخروجها من جحرها.

قال رؤبة : [الرجز]

٣٥٣٧ ـ يهوين في نجد وغورا غائرا

فواسقا عن قصدها جوائرا (٥)

وحكى الزجاج عن الخليل وسيبويه ، أنه قال : لما أمر فعصى ، كان سبب فسقه هو ذلك الأمر ، والمعنى : أنّه لولا ذلك الأمر السابق ، لما حصل ذلك الفسق ، فلهذا حسن أن يقال : (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) كقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) [يوسف : ٨٢].

ثم قال : «أفتتّخذونه» يعني : يا بني آدم (وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) ، أي : أعداء.

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) في أ: القشرة.

(٤) في أ: ربطها.

(٥) ينظر الشطر الأول منه في ملحق ديوانه ص ١٩٠ وفيه «يذهبن» بدلا من «يهوين» ، ونسب للعجاج في الكتاب ١ / ٩٤ وليس في ديوانه ، وينظر : الرازي ٢١ / ١١٦ ، وأساس البلاغة ص ٤٣١ (فسق) ، وجواهر الأدب ص ٣٣ ، والخصائص ٢ / ٤٣٤ ، والمحتسب ٢ / ٤٣ ، وشرح التصريح ١ / ٢٨٨ ، وشرح شذور الذهب ص ٤٣١.

٥٠٩

روى مجاهد عن الشعبيّ قال : إنّي قاعد يوما ؛ إذ أقبل رجل فقال : أخبرني ، هل لإبليس زوجة؟ قال : إنّه لعرس ما شهدتّه ، ثم ذكرت قول الله عزوجل : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي) فعلمت أنّه لا يكون ذريّة إلا من زوجة ، فقلت : نعم (١).

وقال قتادة : يتوالدون ، كما يتوالد بنو آدم (٢).

وقيل : إنّه يدخل ذنبه في دبره ، فيبيض ، فتنفلق البيضة عن جماعة من الشّياطين.

ثم قال : (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً).

قال قتادة : بئس ما استبدلوا طاعة إبليس ، وذريته بعبادة ربّهم (٣).

قوله : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ) : أي : إبليس وذريته ، أو ما أشهدت الملائكة ، فكيف يعبدونهم؟ أو ما أشهدت الكفار ، فكيف ينسبون إليّ ما لا يليق بجلالي؟ أو ما أشهدت جميع الخلق.

وقرأ (٤) أبو جعفر ، [وشيبة](٥) والسختياني في آخرين : «ما أشهدناهم» على التعظيم.

والمعنى : ما أحضرناهم (خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) أي : ولا أشهدت بعضهم خلق بعض ، يعني : ما أشهدتهم ؛ لأعتضد بهم.

قوله : (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) أي : ما كنت متّخذهم ، فوضع الظاهر موضع المضمر ؛ بيانا لإضلالهم ؛ وذمّا لهم وقوله : «عضدا» أي : أعوانا.

قال ابن الخطيب (٦) : والأقرب عندي أنه الضمير الرّاجع على الكفّار الذين قالوا للرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن لم تطرد عن مجلسك هؤلاء الفقراء ، لم نؤمن بك ، فكأنّه ـ تعالى ـ قال : إنّ هؤلاء الذين أتوا بالاقتراح الفاسد ، والتعنّت الباطل ، ما كانوا شركاء في تدبير العالم ؛ لأنّي ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ، ولا خلق أنفسهم ، ولا أعتضد بهم في تدبير الدنيا والآخرة ، بل هم كسائر الخلق ، فلم أقدموا على هذا الاقتراح الفاسد؟.

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٤١٣) وعزاه إلى ابن المنذر والبغوي في «تفسيره» ٣ / ١٦٦ ، ١٦٧.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٤١٣) وعزاه إلى ابن أبي الدنيا وأبي الشيخ عن قتادة. وأخرجه الطبري (٨ / ٢٣٨).

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٤١٣) وعزاه إلى ابن أبي حاتم.

وقد أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٢٣٨).

(٤) ينظر : الإتحاف ٢ / ٢١٧ ، النشر ٢ / ٣١١ ، والقرطبي ١١ / ٣ البحر ٩ / ١٢٩ ، والدر المصون ٤ / ٤٦٤ ، والكشاف ٢ / ٧٢٧.

(٥) في ب : والشيباني.

(٦) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١١٧.

٥١٠

ويؤكّد هذا أن الضمير يجب عوده على أقرب مذكور ، وهو هنا (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً).

قوله : (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) وضع الظاهر موضع المضمر ؛ إذ المراد ب «المضلّين» من نفى عنهم إشهاد خلق السموات ، وإنما نبّه بذلك على وصفهم القبيح.

وقرأ العامة «كنت» بضمّ التاء ؛ إخبارا عنه تعالى وقرأ (١) الحسن ، والجحدري ، وأبو جعفر بفتحها ؛ خطابا لنبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقرأ (٢) علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ متخذا المضلين نوّن اسم الفاعل ، ونصب به ، إذ المراد به الحال ، أو الاستقبال.

وقرأ (٣) عيسى «عضدا» بفتح العين ، وسكون الضاد ، وهو تخفيف سائغ ، كقول تميم : سبع ورجل في : سبع ورجل وقرأ الحسن «عضدا» بالضم والسكون ؛ وذلك أنه نقل حركة الضاد إلى العين بعد سلب العين حركتها ، وعنه أيضا «عضدا» بفتحتين ، و«عضدا» بضمتين ، والضحاك «عضدا» بكسر العين ، وفتح الضاد ، وهذه لغات في هذا الحرف.

والعضد من الإنسان وغيره معروف ، ويعبّر به عن العون والنصير ؛ يقال : فلان عضدي ، ومنه (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) [القصص : ٣٥] أي : سنقوّي نصرتك ومعونتك.

قوله : (وَيَوْمَ يَقُولُ) : معمول ل «اذكر» أي : ويوم نقول ، يجري كيت وكيت وقرأ (٤) حمزة «نقول» بنون العظمة ؛ مراعاة للتكلّم في قوله : (ما أَشْهَدْتُهُمْ) إلى آخره ، والباقون بياء الغيبة ؛ لتقدم اسمه الشريف العظيم الظاهر.

أي : يقول الله يوم القيامة : (نادُوا شُرَكائِيَ) يعني الأوثان.

وقيل : للجنّ ، ولم يذكر تعالى أنّهم كيف دعوهم في هذه الآية الكريمة ، بيّن ذلك في آية أخرى ، وهو أنّهم قالوا : (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) [إبراهيم : ٢١].

(الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) أنهم شركاء (فَدَعَوْهُمْ) فاستغاثوا بهم ، (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) ، أي : لم يجيبوهم ، ولم ينصروهم ، ولم يدفعوا عنهم ضررا ، ثم قال : (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً) أي: مهلكا. قاله عطاء والضحاك (٥).

__________________

(١) ينظر : الإتحاف ٢ / ٢١٧ ، والنشر ٢ / ٣١١ ، والقرطبي ١١ / ٤ ، والبحر ٦ / ١٣٠ ، والدر المصون ٤ / ٤٦٤ ، والكشاف ٢ / ٣٢٨.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٧٢٨ ، والبحر ٦ / ١٣٠ ، والدر المصون ٤ / ٤٦٤.

(٣) ينظر في قراءاتها : الإتحاف ٢ / ٢١٧ ، والقرطبي ١١ / ٤ ، والبحر ٦ / ١٣٠ ، والدر المصون ٤ / ٤٦٤.

(٤) ينظر : السبعة ٣٩٣ ، والنشر ٢ / ٣١١ ، والتيسير ١٤٤ ، والحجة ٤٢٠ ، وإعراب القراءات ١ / ٣٩٩ ، والحجة للقراء السبعة ٥ / ١٤٥١ ، والقرطبي ١١ / ٤ ، والبحر ٦ / ١٣٠ ، والدر المصون ٤ / ٤٦٥.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٢٣٩) عن ابن عباس وقتادة وابن زيد.

٥١١

فصل في بيان الموبق

قال الزمخشري وغيره : والموبق : المهلك ، يقال : وبق يوبق وبقا ، أي : هلك ووبق يبق وبوقا أيضا : هلك وأوبقه ذنبه ، وعن الفراء (١) : «جعل الله تواصلهم هلاكا» فجعل البين بمعنى الوصل ، وليس بظرف ؛ كقوله : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) [الأنعام : ٩٤] على قراءة من قرأ بالرفع ، فعلى الأول يكون «موبقا» مفعولا أول للجعل ، والثاني الظرف المتقدّم ، ويجوز أن تكون متعدية لواحد ، فيتعلق الظرف بالجعل أو بمحذوف على الحال من «موبقا».

وعلى قول الفراء ليكون «بينهم» مفعولا أول و«موبقا» مفعولا ثانيا ، والموبق هنا : يجوز أن يكون مصدرا ، وهو الظاهر ، ويجوز أن يكون مكانا.

قال ابن عباس : وهو واد في النّار (٢).

وقال ابن الأعرابيّ : كل حاجز بين الشيئين يكون الموبق.

وقال الحسن : «موبقا» أي : عداوة ، هي في شدّتها هلاك ؛ كقولهم : لا يكن حبك كلفا (٣).

وقيل : الموبق : البرزخ البعيد (٤).

وجعلنا بين هؤلاء الكفّار وبين الملائكة وعيسى برزخا بعيدا ، يهلك فيه النصارى ؛ لفرط بعده ؛ لأنّهم في قاع جهنّم ، وهو في أعلى الجنان.

قوله : (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ) الآية.

(وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها) ، في هذا الظنّ قولان :

الأول : أنه بمعنى العلم واليقين.

والثاني : قال ابن الخطيب (٥) : الأقرب إلى المعنى : أن هؤلاء الكفار يرون النّاس من مكان بعيد ، فيظنّون أنهم مواقعوها في تلك السّاعة ، من غير تأخير من شدّة ما

__________________

ـ وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٤١٤) عن ابن عباس وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم ومجاهد وعزاه إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر.

(١) ينظر : معاني القرآن للفراء ٢ / ١٤٧.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٢٤٠) عن أنس بن مالك ومجاهد.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٤١٤) عن أنس وزاد نسبته إلى عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في «البعث».

(٣) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢١ / ١١٩) عن الحسن.

(٤) ينظر : المصدر السابق.

(٥) ينظر : المصدر السابق.

٥١٢

يسمعون من تغيّظها وزفيرها ، كقوله : (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) [الفرقان : ١٢].

وقوله : (مُواقِعُوها) أي : مخالطوها ؛ فإنّ مخالطة الشيء لغيره ، إذا كان تامّة قويّة ، يقال لها : مواقعة.

قوله : «مصرفا» المصرف المعدل ، أي : لم يجدوا عنها معدلا.

قال الهذليّ : [الكامل]

٣٥٣٨ ـ أزهير هل عن شيبة من مصرف

أم لا خلود لباذل متكلّف (١)

والمصرف يجوز أن يكون اسم مكان ، أو زمان ، وقال أبو البقاء (٢) : «مصرفا : أي انصرافا ، ويجوز أن يكون مكانا». قال شهاب الدين : وهذا سهو ، فإنه جعل المفعل بكسر العين مصدرا لما مضارعه يفعل بالكسر من الصحيح ، وقد نصّوا على أنّ اسم مصدر هذا النوع مفتوح العين ، واسم زمانه ومكانه مكسورا ، نحو : المضرب والمضرب.

وقرأ (٣) زيد بن عليّ «مصرفا» بفتح الراء جعله مصدرا ؛ لأنه مكسور العين في المضارع ، فهو كالمضرب بمعنى الضّرب ، وليت أبا البقاء ذكر هذه القراءة ووجّهه بما ذكره قبل.

قوله : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا) بينّا (فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ).

اعلم أن الكفّار ، لما افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة أموالهم وأتباعهم ، وأبطل الله أقوالهم الفاسدة ، وذكر المثلين المتقدّمين ، ذكر بعده : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) وهو إشارة إلى ما سبق ، والتصريف يقتضي التكرير ، والأمر كذلك ؛ لأنه تعالى أجاب عن شبهتهم التي ذكروها من وجوه كثيرة ، والكفار مع تلك الجوابات الصّافية ، والأمثلة المطابقة لا يتركون المجادلة الباطلة ؛ فقال : (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً).

قوله : (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) : يجوز أن تكون «من كلّ» صفة لموصوف محذوف ، وهو مفعول «صرّفنا» ، أي : صرّفنا مثلا من كلّ مثل ، ويجوز أن تكون «من» مزيدة على رأي الأخفش والكوفيين.

__________________

(١) وهو أبو كبير الهذلي. ينظر : ديوان الهذليين ٢ / ١٠٤ ، والمجاز ١ / ٤٠٧ وتفسير الطبري ١ / ١٧٣ ، والكشاف ٢ / ٥٦٨ ، والماوردي ٢ / ٤٩٠ ، ومعاني القرآن للزجاج ٣ / ٢٩٦ ، وروح المعاني ١٥ / ٢٩٩ ، واللسان (صرف) والبحر المحيط ٦ / ١٣١ ، والدر المصون ٤ / ٤٦٥.

(٢) ينظر : الإملاء ٢ / ١٤٠.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٦ / ١٣١ ، الدر المصون ٤ / ٤٦٥.

٥١٣

قوله : «جدلا» منصوب على التمييز ، وقوله : (أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) أي : أكثر الأشياء التي يتأتّى منها الجدال ، إن فصّلتها واحدا واحدا ، يعني أنّ الإنسان أكثر جدلا من كلّ شيء يجادل ، فوضع «شيء» موضع الأشياء ، وهل يجوز أن يكون جدلا منقولا عن اسم كان ؛ إذ الأصل : وكان جدل الإنسان أكثر شيء؟ فيه نظر ، وكلام أبي البقاء يشعر بجوازه ؛ فإنه قال (١) : «فيه وجهان :

أحدهما : أنّ شيئا ههنا في معنى فجادل ، لأنّ أفعل يضاف إلى ما هو بعض له ، وتمييزه ب «جدلا» يقتضي أن يكون الأكثر مجادلا ، وهذا من وضع العام موضع الخاص.

والثاني : أن في الكلام محذوفا ، تقديره : وكان جدل الإنسان أكثر شيء ، ثم ميّزه». فقوله : «تقديره : وكان جدل الإنسان» يفيد أنّ إسناد «كان» إلى الجدل جائز في الجملة ، إلا أنه لا بدّ من تتميم لذلك : وهو أن تتجوّز ، فتجعل للجدل جدلا ؛ كقولهم : «شعر شاعر» يعني أنّ لجدل الإنسان جدلا هو أكثر من جدل سائر الأشياء.

وهذه الآية دالّة على أنّ الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ جادلوهم في الدّين حتّى صاروا مجادلين ؛ لأنّ المجادلة لا تحصل إلّا من الطرفين.

قوله تعالى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (٥٥) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (٥٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (٥٧) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً)(٥٨)

قوله : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) الآية.

تقدم إعراب نظيرها في آخر السورة قبلها.

فإن قلت : قالت المعتزلة : الآية دالة على أنّه لم يوجد ما يمنع عن الإقدام على الإيمان ، وذلك يدلّ على فساد قول من يقول : إنه حصل المانع.

[فالجواب](٢) بأن العلم بأنه لا يؤمن مضادّ لوجود الإيمان ، وإذا كان ذلك العلم قائما ، كان المانع قائما.

وأيضا : قول الداعي إلى الكفر مانع من حصول الإيمان.

وإذا ثبت هذا ، ظهر أن المراد مقدار الموانع المحسوسة.

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ١٠٥.

(٢) في ب : وأجيبوا.

٥١٤

فصل في معنى الآية

المعنى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) : القرآن والإسلام والبيان من الله عزوجل.

وقيل : إنه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله : (وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ) ويتوبوا.

قوله : (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) وهو عذاب الاستئصال وقيل : إلا طلب أن يأتيهم سنّة الأولين من معاينة العذاب ، كما قالوا : (إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) [الأنفال : ٣٢].

قوله : (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً).

قال ابن عباس : أي عيانا من المقابلة (١).

وقال مجاهد : فجأة (٢).

قرأ حمزة ، والكسائيّ ، وعاصم ، وأبو جعفر بضمّ القاف والباء ، جمع قبيل : أي أصناف العذاب نوعا نوعا ، والباقون بكسر القاف ، وفتح الباء ، أي عيانا.

وروى الزمخشري : «قبلا» بفتحتين ، أي : [مستقبلا ، والمعنى :] أنهم لا يقدمون على الإيمان إلا عند نزول العذاب. واعلم أنّهم لا يوقفون الإقدام على الإيمان على أحد هذين الشرطين ؛ لأنّ العاقل لا يرضى بحصول الأمرين إلا أنّ حالهم بحال من وقف العمل على أحد هذين الشّرطين.

ثم بيّن تعالى أنه إنما أرسل الرّسل مبشّرين ومنذرين بالعقاب على المعصية ؛ لكي يؤمنوا طوعا ، ومع هذه الأحوال يوجد من الكفّار المجادلة بالباطل ؛ لغرض دحض الحقّ ؛ وهذا يدلّ على أنّ الأنبياء كانوا يجادلونهم ، كما تقدّم من أنّ المجادلة إنّما تحصل من الجانبين ، ومجادلتهم قولهم: (أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٤] ، وقولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١].

قوله : (لِيُدْحِضُوا) : متعلّق ب «يجادل» والإدحاض : الإزلاق ، يقال : أدحض قدمه ، أي : أزلقها ، وأزلّها من موضعها. والحجّة الداحضة الّتي لا ثبات لها لزلزلة قدمها ، والدّحض : الطّين ؛ لأنه يزلق فيه ، قال : [الطويل]

__________________

(١) ذكره الماوردي (٣ / ٣١٩) والبغوي (٣ / ١٦٩) والقرطبي (١١ / ٦).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٢٤٢) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٤١٥) وعزاه إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.

٥١٥

٣٥٣٩ ـ أبا منذر رمت الوفاء وهبته

وحدت كما حاد البعير عن الدّحض (١)

وقال آخر : [الطويل]

٣٥٤٠ ـ [وردت ونجّى اليشكريّ حذاره

وحاد كما حاد البعير عن الدّحض](٢)

و«مكان دحض» من هذا.

قوله : (وَما أُنْذِرُوا) يجوز في «ما» هذه أن تكون مصدريّة ، وأن تكون بمعنى «الّذي» والعائد محذوف ، وعلى التقديرين ، فهي عطف على «آياتي».

و«هزوا» مفعول ثان أو حال ، وتقدّم الخلاف في «هزوا» في قوله (وَما أُنْذِرُوا هُزُواً) وفيه إضمار أي وما أنذروا به ، وهو القرآن «هزوا» أي استهزاء.

قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ) الآية.

تقدم إعراب نظيرها في الأنعام ، واعلم أنّه تعالى لمّا حكى عن الكفّار جدالهم بالباطل ، وصفهم بالصّفات الموجبة للخزي والخذلان ، فقال : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ).

أي : لا ظلم أعظم من كفر من ترد عليه الآيات ، فيعرض عنها ، ويتركها ، ولم يؤمن بها ونسي ما قدّمت يداه ، أي : مع إعراضه عن التأمّل في الدلائل والبيّنات يتناسى ما قدمت يداه من الأعمال المنكرة ، والمراد [بالنّسيان](٣) التّشاغل والتغافل عن كفره المتقدّم.

قوله : (إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) أي : أغطية.

قوله : (أَنْ يَفْقَهُوهُ) لئلّا يفقهوه.

قوله : (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) صمما وثقلا.

قوله : (وَإِنْ تَدْعُهُمْ) يا محمد (إِلَى الْهُدى) إلى الدين. قوله : (فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) وهذا في أقوام ، علم الله منهم أنهم لا يؤمنون.

وتقدّم الكلام على هذه الآية في سورة الأنعام.

والعجب أنّ قوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) متمسّك القدريّة.

وقوله : (إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ) متمسّك الجبرية ، وقلما تجد آية في القرآن لأحد هذين الفريقين إلا ومعها آية للفريق الآخر ، والتجربة تكشف عن صدق هذا ، وما

__________________

(١) لأبي كبير ينظر : ديوان الهذليين ٢ / ١٠٤ ، الطبري ١ / ١٧٣ ، البحر ٦ / ١٢٦ ، اللسان «صرف» ، الدر المصون ٤ / ٤٦٦.

(٢) البيت لطرفة ينظر : شرح ديوان الحماسة ٣ / ١١٦٥ ، مجاز القرآن ١ / ٤٠٩ ، البحر ٦ / ١٥٦ ، الجمهرة ٢ / ١٢٣ ، اللسان «دحض» ، الدر المصون ٤ / ٤٦٦.

(٣) في ب : من النسيان.

٥١٦

ذاك إلا امتحان من الله ألقاه على عباده ، ليتميّز العلماء الراسخون عن المقلّدين. ثم قال :

(وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ).

«الغفور» : البليغ المغفرة ، وهو إشارة إلى دفع المضارّ (ذُو الرَّحْمَةِ) : الموصوف بالرحمة ، وإنّما ذكر لفظ المبالغة في المغفرة ، لا في الرحمة ؛ لأنّ [المغفرة](١) ترك [الإضرار](٢).

قوله : (بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ) : يجوز في «الموعد» أن يكون مصدرا أو زمانا أو مكانا.

والموئل : المرجع ، من وأل يئل ، أي : رجع ، وهو من التأويل ، وقال الفراء (٣) : «الموئل: المنجى ، وألت نفسه ، أي : نجت» قال الأعشى : [البسيط]

٣٥٤١ ـ وقد أخالس ربّ البيت غفلته

وقد يحاذر منّي ثمّ ما يئل (٤)

أي : ما ينجو ، وقال ابن قتيبة : «الموئل : الملجأ». يقال : وأل فلان إلى فلان يئل وألا ، ووءولا ، إذا لجأ إليه ، وهو هنا مصدر.

و (مِنْ دُونِهِ) متعلق بالوجدان ؛ لأنّه متعدّ لواحد ، أو بمحذوف على أنه حال من «موئلا».

وقرأ أبو جعفر (٥) «مولا» بواو مكسورة فقط ، والزهري : بواو مشددة فقط ، والأولى أقيس تخفيفا.

قوله تعالى : (وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (٥٩) وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (٦٠) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (٦١) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (٦٢) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (٦٣) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (٦٤) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (٦٥) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (٦٦) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ

__________________

(١) في أ: الرحمة.

(٢) في ب : المضار.

(٣) ينظر : معاني القرآن للفراء ٢ / ١٤٨.

(٤) البيت في ديوانه ٩٥ ، شرح القصائد العشر ٤٩٣ ، مجاز القرآن ١ / ٤٠٨ ، الطبري ١٥ / ١٧٥ البحر المحيط ٦ / ١٢٦ ، روح المعاني ١٥ / ٣٠٦ ، الدر المصون ٤ / ٤٦٦.

(٥) ينظر في قراءاتها : الإتحاف ٢ / ٢١٨ ، والبحر ٦ / ١٣٣ ، والدر المصون ٤ / ٤٦٧.

٥١٧

لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (٧٠) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (٧١) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (٧٣) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (٧٤) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (٧٦) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (٧٧) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٧٨) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (٨١) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً)(٨٢)

قوله : (وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ) أي قرى الأوّلين : قوم نوح وعاد وغيرهم ، وتلك مبتدأ ، والقرى خبره.

و«أهلكناهم» حينئذ : إمّا خبر ثان ، أو حال ، ويجوز أن تكون «تلك» مبتدأ ، و«القرى» صفتها لأنّ أسماء الإشارة توصف بأسماء الأجنس أو بيان لها ، أو بدل منها ، و«أهلكناها» الخبر ، ويجوز أن يكون «تلك» منصوب المحلّ بفعل مقدّر على الاشتغال.

والإضمار في «أهلكناهم» عائد على «أهل» المضاف إلى القرى ، إذ التقدير : وأهل تلك القرى ، فراعى المحذوف ، فأعاد عليه الضمير ، وتقدّم ذلك في أول الأعراف [الآية : ٤].

و (لَمَّا ظَلَمُوا) يجوز أن يكون حرفا ، وأن يكون ظرفا ، وقد تقدّم.

قوله : (وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) قرأ (١) عاصم «مهلك» بفتح الميم ، والباقون بضمها ، وحفص بكسر اللام ، والباقون بفتحها ، فتحصّل من ذلك ثلاث قراءات ، لعاصم قراءتان : فتح الميم مع فتح اللام ، وهي رواية أبي بكر عنه ، والثانية فتح الميم ، مع كسر اللام ، وهي رواية حفص عنه ، والثالثة : ضم الميم ، وفتح اللام ، وهي قراءة الباقين.

وأمّا قراءة أبي بكر ، ف «مهلك» فيها مصدر مضاف لفاعله ، وجوّز أبو عليّ أن

__________________

(١) ينظر في قراءاتها : السبعة ٣٩٣ ، والتيسير ١٤٤ ، والنشر ٢ / ٣١١ والحجة للقراء السبعة ٥ / ١٥٦ ، والوسيط ٣ / ١٥٥ ، والقرطبي ١٠ / ٨ ، والبحر ٦ / ١٣٣ ، والدر المصون ٤ / ٤٦٧.

٥١٨

يكون مضافا لمفعوله ، وقال : إنّ «هلك» يتعدّى دون همز ، وأنشد : [الرجز]

٣٥٤٢ ـ ومهمه هالك من تعرّجا (١)

ف «من» معمول ل «هالك» وقد منع النّاس ذلك ، وقالوا : لا دليل في البيت ؛ لجواز أن يكون ذلك من باب الصفة المشبهة ، والأصل : هالك من تعرّجا.

ف «من تعرّج» فاعل الهالك ، ثم أضمر في «هالك» ضمير «مهمه» ونصب «من تعرّج» نصب «الوجه» في قولك : «مررت برجل حسن الوجه» ثم أضاف الصفة ، وهي «هالك» إلى معمولها ، فالإضافة من نصب ، والنصب من رفع ، فهو كقولك : «زيد منطلق اللسان ، ومنبسط الكفّ» ولولا تقدير النصب ، لا متنعت الإضافة ؛ إذ اسم الفاعل لا يضاف إلى مرفوعه ، وقد يقال : لا حاجة إلى تقدير النصب ؛ إذ هذا جار مجرى الصفة المشبهة ، والصفة المشبهة تضاف إلى مرفوعها ، إلا أنّ هذا مبنيّ على خلاف آخر ، وهو : هل يقع الموصول في باب الصفة أم لا؟ والصحيح جوازه ، قال الشاعر : [البسيط]

٣٥٤٣ ـ فعجتها قبل الأخيار منزلة

والطّيبي كلّ ما التاثت به الأزر (٢)

وقال الهذليّ : [الطويل]

٣٥٤٤ ـ أسيلات أبدان دقاق خصورها

وثيرات ما التفّت عليها الملاحف (٣)

وقال أبو حيّان في قراءة أبي بكر هذه : «إنّه زمان» ولم يذكر غيره ، وجوّز غيره فيه الزمان والمصدر ، وهو عجيب ؛ فإنّ الفعل متى كسرت عين مضارعه ، فتحت في المفعل مرادا به المصدر ، وكسرت فيه مرادا به الزمان والمكان ، وكأنّه اشتبهت عليه بقراءة حفص ؛ فإنّه بكسر اللام ، كما تقدّم ، فالمفعل منه للزّمان والمكان.

وجوّز أبو البقاء (٤) في قراءته أن يكون المفعل فيها مصدرا ، قال : «وشذّ فيه الكسر كالمرجع» وإذا قلنا : إنّه مصدر ، فهل هو مضاف لفاعله ، أو مفعوله؟ يجيء ما تقدّم في قراءة رفيقه ، وتخريج أبي عليّ ، واستشهاده بالبيت ، والردّ عليه ، كل ذلك عائد هنا.

وأمّا قراءة الباقين ، فواضحة ، و«مهلك» فيها يجوز أن يكون مصدرا مضافا لمفعوله أي لإهلاكهم ، وأن يكون زمانا ، ويبعد أن يراد به المفعول ، أي : وجعلنا للشخص ، أو للفريق المهلك منهم.

__________________

(١) البيت للعجاج. ينظر : ديوانه ٣٦٧ ، الخصائص ٢ / ٢١٠ ، المقتضب ٤ / ١٨٠ ، المحتسب ١ / ٩٢ ، البحر ٦ / ١٣٣ ، اللسان «هلك» والتهذيب «هلك» ، الدر المصون ٤ / ٤٦٧.

(٢) البيت للفرزدق ينظر : ديوانه (١ / ١٨٢) ، البحر ٦ / ١٣٣ ، الأشموني ٣ / ٦ ، التصريح ٢ / ٨٥ ، حاشية يس ٢ / ٨٥ ، الدر المصون ٤ / ٤٦٧.

(٣) البيت لعمر بن أبي ربيعة ، وينسب للهذلي ؛ ينظر في ديوان عمر ٢٥٤ ، البحر ٦ / ١٣٣ ، روح المعاني ١٥ / ٣٠٧ ، الدر المصون ٤ / ٤٦٨.

(٤) ينظر : الإملاء ٢ / ١٠٥.

٥١٩

والموعد : مصدر ، أو زمان.

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ) الآية : «إذ» منصوب ب «اذكر» أو وقت قال لفتاه : جرى ما قصصنا عليك من خبره.

قال عامة أهل العلم : إنّه موسى بن عمران. وقال بعضهم : إنّه موسى بن ميشا من أولاد يوسف ، والأول أصحّ ، لما روى عمرو بن دينار ، قال : أخبرني سعيد بن جبير ، قال : قلت لابن عبّاس : إنّ نوفا البكاليّ يزعم أنّ موسى صاحب الخضر ليس هو موسى بني إسرائيل ، فقال ابن عبّاس : كذب عدوّ الله ، حدّثنا أبيّ بن كعب أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إنّ موسى قام خطيبا في بني إسرائيل ، فسئل : أيّ النّاس أعلم؟ فقال : أنا ، فعتب الله عليه ؛ إذ لم يردّ العلم إليه ، فأوحى إليه : إنّ لي عبدا بمجمع البحرين ، هو أعلم منك ، فقال موسى : يا ربّ ، فكيف لي به؟ قال : تأخذ معك حوتا ، فتجعله في مكتل ، فحيثما فقدتّ الحوت ، فهو ثمّ ؛ فأخذ حوتا ، فجعله في مكتل ، ثمّ انطلق ، وانطلق معه فتاه يوشع بن نون ، حتّى أتيا الصّخرة ، ووضعا رءوسهما ، فناما ، واضطرب الحوت في المكتل ، فخرج منه ، فسقط في البحر ، فاتّخذ سبيله في البحر سربا ، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء ، فصار عليه كالطّاق ، فلمّا استيقظ ، نسي صاحبه أن يخبره بالحوت ، فانطلقا بقيّة يومهما وليلتهما ، حتّى إذا كان من الغداة ، قال موسى لفتاه : آتنا غداءنا ، لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ، قال : ولم يجد موسى النّصب ، حتّى جاوز المكان الذي أمره الله تعالى ، فقال له فتاه : أرأيت إذ أوينا إلى الصّخرة ، فإنّي نسيت الحوت وما أنسانيه إلّا الشّيطان أن أذكره ، واتّخذ سبيله في البحر عجبا ، قال : وكان للحوت سربا ولموسى وفتاه عجبا ، قال موسى : ذلك ما كنّا نبغي فارتدا على آثارهما قصصا ، رجعا يقصّان آثارهما ، حتّى [انتهيا](١) إلى الصّخرة ، فإذا رجل مسجّى ثوبا ، فسلّم عليه موسى ، فقال الخضر : وأنّى بأرضك السّلام؟ فقال : أنا موسى ، قال : موسى بني إسرائيل؟ قال : نعم ، أتيتك ، لتعلّمني ممّا علّمت رشدا [وذكر باقي](٢) القصة (٣).

واعلم أنّه كان ليوسف ـ عليه‌السلام ـ ولدان : أفرائيم وميشا ، فولد أفرائيم نون وولد نون يوشع بن نون ، وهو فتى موسى ، ووليّ عهده بعد وفاته ، وأما ولد ميشا ، فقيل : إنه جاءته النّبوّة قبل موسى بن عمران ، وأهل التّوراة يزعمون أنّه هو الذي طلب هذا العالم ليتعلّم منه ، وهو العالم الذي خرق السّفينة ، وقتل الغلام ، وبنى الجدار ، وموسى بن ميشا معه ، هذا قول جمهور اليهود.

واحتجّ القفال (٤) على صحّة قول الجمهور بأنه موسى صاحب التّوراة ، قال : إنّ الله

__________________

(١) في أ: رجعا.

(٢) سقط من أ.

(٣) أخرجه البخاري رقم (٣٤٠١ ، ٤٧٢٥) من حديث أبي بن كعب.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٢٢.

٥٢٠