اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٢

٣٥١٨ ـ والله لو لا صبية صغار

كأنّما وجوههم أقمار

أخاف أن يصيبهم إقتار

أو لاطم ليس له إسوار

لمّا رآني ملك جبّار

ببابه ما طلع النّهار (١)

وقال أبو عبيدة : هو جمع «إسوار» على حذف الزيادة ، وأصله أساوير.

وقرأ (٢) أبان ، عن عاصم «أسورة» جمع سوار ، وستأتي إن شاء الله تعالى في الزخرف [الزخرف : ٣٠] هاتان القراءتان في المتواتر ، وهناك يذكر الفرق إن شاء الله تعالى.

والسّوار يجمع في القلّة على «أسورة» وفي الكثرة على «سور» بسكون الواو ، وأصلها كقذل وحمر ، وإنما سكنت ؛ لأجل حرف العلّة ، وقد يضمّ في الضرورة ، قال : [السريع]

٣٥١٩ ـ عن مبرقات بالبرين وتب

دو في الأكفّ اللامعات سور (٣)

وقال أهل اللغة : السّوار : ما جعل في الذّراع من ذهب ، أو فضّة ، أو نحاس ، فإن كان من عاج ، فهو قلب.

قوله : «من ذهب» يجوز أن تكون للبيان ، أو للتبعيض ، ويجوز أن تتعلق بمحذوف ؛ صفة لأساور ، فموضعه جرّ ، وأن تتعلق بنفس «يحلّون» فموضعها نصب.

قوله : «ويلبسون» عطف على «يحلّون» وبني الفعل في التحلية للمفعول ؛ إيذانا بكرامتهم ، وأنّ غيرهم يفعل بهم ذلك ويزيّنهم به ، كقول امرىء القيس : [الطويل]

٣٥٢٠ ـ عرائس في كنّ وصون ونعمة

يحلّين ياقوتا وشذرا مفقّرا (٤)

بخلاف اللّبس ، فإنّ الإنسان يتعاطاه بنفسه ، وقدّم التّحلّي على اللباس ؛ لأنه أشهى للنّفس.

وقرأ (٥) أبان عن عاصم «ويلبسون» بكسر الباء.

قوله : (مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) «من» لبيان الجنس ، وهي نعت لثياب.

والسّندس : ما رقّ من الدّيباج ، والإستبرق : ما غلظ منه وعن أبي عمران الجونيّ قال : السّندس : هو الديباج المنسوج بالذّهب (٦) ، وهما جمع سندسة وإستبرقة ، وقيل : ليسا جمعين ، وهل «إستبرق» عربيّ الأصل ، مشتقّ من البريق ، أو معرب أصله إستبره؟ خلاف بين اللغويين. وقيل : الإستبرق اسم للحرير وأنشد للمرقش (٧) : [الطويل]

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٦ / ٧٩٢ روح المعاني ١٥ / ٢٧٠ ، الدر المصون ٤ / ٤٥٢.

(٢) ينظر : البحر ٦ / ١١٦ ، الدر المصون ٤ / ٤٥٢.

(٣) تقدم.

(٤) تقدم.

(٥) ينظر : البحر ٦ / ١١٦ ، الدر المصون ٤ / ٤٥٣.

(٦) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٦١).

(٧) سقط من أ.

٤٨١

٣٥٢١ ـ تراهنّ يلبسن المشاعر مرّة

وإستبرق الدّيباج طورا لباسها (١)

وهو صالح لما تقدّم ، وقال ابن بحر : «الإستبرق : ما نسج بالذّهب».

ووزن سندس : فعلل ، ونونه أصلية.

وقرأ (٢) ابن محيصن «واستبرق» بوصل الهمزة وفتح القاف غير منونة ، فقال ابن جنّي : «هذا سهو ، أو كالسّهو» قال شهاب الدين : كأنه زعم أنّه منعه الصّرف ، ولا وجه لمنعه ؛ لأنّ شرط منع الاسم الأعجمي : أن يكون علما ، وهذا اسم جنس ، وقد وجّهها غيره على أنه جعلها فعلا ماضيا من «البريق» و«استفعل» بمعنى «فعل» المجرد ؛ نحو : قرّ ، واستقرّ. وقال الأهوازيّ في «الإقناع» : «واستبرق بالوصل وفتح القاف حيث كان لا يصرفه» وظاهر هذا أنه اسم ، وليس بفعل ، وليس لمنعه وجه ؛ كما تقدّم عن ابن جنّي ، وصاحب «اللوامح» لمّا ذكر وصل الهمزة ، لم يزد على ذلك ، بل نصّ على بقائه منصرفا ، ولم يذكر فتح القاف أيضا ، وقال ابن محيصن : «واستبرق» بوصل الهمزة في جميع القرآن ، فيجوز أنه حذف الهمزة تخفيفا ؛ على غير قياس ، ويجوز أنّه جعله عربيّا من برق يبرق بريقا ، ووزنه استفعل ، فلمّا سمّي به ، عامله معاملة الفعل في وصل الهمزة ، ومعاملة التمكين من الأسماء في الصّرف والتنوين ، وأكثر التفاسير على أنّه عربية ، وليس بمستعرب ، دخل في كلامهم ، فأعربوه».

قوله : «متّكئين» حال ، والأرائك : جمع أريكة ، وهي الأسرّة ، بشرط أن تكون في الحجال ، فإن لم تكن لم تسمّ أريكة ، وقيل : الأرائك : الفرش في الحجال أيضا ، وقال الراغب (٣) : «الأريكة : حجلة على سرير ، فتسميتها بذلك : إمّا لكونها في الأرض متّخذة من أراك ، أو من كونها مكانا للإقامة ؛ من قولهم : أرك بالمكان أروكا ، وأصل الأروك الإقامة على رعي الأراك ، ثم تجوز به في غيره من الإقامات».

وقرأ (٤) ابن محيصن «علّرائك» وذلك : أنه نقل حركة الهمزة إلى لام التعريف ، فالتقى مثلان : لام «على» ـ فإنّ ألفها حذفت ؛ لالتقاء الساكنين ـ ولام التعريف ، واعتدّ بحركة النقل ، فأدغم اللام في اللام ؛ فصار اللفظ كما ترى ، ومثله قول الشاعر : [الطويل]

٣٥٢٢ ـ فما أصبحت علّرض نفس بريئة

ولا غيرها إلّا سليمان نالها (٥)

يريد «على الأرض» وقد تقدّم قراءة قريبة من هذه أوّل البقرة : «بما أنزلّيك» ، أي : أنزل إليك.

__________________

(١) ينظر البيت في البحر المحيط ٦ / ٩٣ ، الطبري ١٥ / ١٥٩ ، القرطبي ١٠ / ٢٥٨ ، روح المعاني ١٥ / ٢٧١ ، الدر المصون ٤ / ٤٥٣.

(٢) ينظر : المحتسب ٢ / ٢٩ ، والإتحاف ٢ / ٢١٣ ، والبحر ٦ / ١١٧ ، والدر المصون ٤ / ٤٥٣.

(٣) ينظر : المفردات ١٦.

(٤) ينظر : البحر ١١٩ ، والدر المصون ٤ / ٤٥٤.

(٥) ينظر البيت في البحر المحيط ٦ / ١١٧ ، الدر المصون ٤ / ٤٥٤.

٤٨٢

قوله : (نِعْمَ الثَّوابُ) أي : نعم الجزاء.

قوله : (وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) مجلسا ، ومقرّا ، وهذا في مقابلة قوله : (وَساءَتْ مُرْتَفَقاً).

قوله تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (٣٤) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (٣٦) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧) لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٨) وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (٣٩) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (٤١) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (٤٢) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (٤٣) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً)(٤٤)

قوله تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ) الآية.

وجه النّظم أن الكفار ، لمّا افتخروا بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين ، بيّن الله تعالى أنّ ذلك ممّا لا يوجب الافتخار ، لاحتمال أن يصير الغنيّ فقيرا ، والفقير غنيّا ، وأما الذي تجب المفاخرة به فطاعة الله وعبادته ، وهي حاصلة لفقراء المسلمين ، وبيّن ذلك بضرب هذا المثل ؛ فقال : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ) أي : مثل حال الكافرين والمؤمنين كحال رجلين ، وكانا أخوين في بني إسرائيل : أحدهما : كافر ، واسمه [براطوس](١) ، والآخر : مؤمن ، اسمه يهوذا ، قاله ابن عباس (٢).

وقال مقاتل : اسم المؤمن تمليخا ، واسم الكافر قطروس.

وقيل : قطفر ، وهما المذكوران في سورة «الصافات» في قوله تعالى : (إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) [الصافات : ٥١ ، ٥٢] على ما رواه عبد الله بن المبارك عن معمّر عن عطاء الخراسانيّ (٣) ، قال : كانا رجلين شريكين ، لهما ثمانية آلاف دينار.

وقيل : كانا أخوين ، وورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار ، فأخذ كلّ واحد منهما

__________________

(١) في ب : بطرس.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٠ / ٢٥٩).

(٣) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٣ / ٣٠٦) والبغوي (٣ / ١٦١) وينظر : المصدر السابق.

٤٨٣

أربعة آلاف دينار ، فاشترى الكافر أرضا بألف ، فقال المؤمن : اللهم ، إنّ أخي اشترى أرضا بألف ، وإنّي أشتري منك أرضا بألف في الجنّة ، فتصدّق به.

ثم [بنى](١) أخوه دارا بألف ، فقال المؤمن : اللهم ، إني أشتري منك دارا بألف في الجنّة ، فتصدق به.

ثم تزوج أخوه امرأة بألف ، فقال المؤمن : اللهم ، إني جعلت ألفا صداقا للحور العين ، وتصدّق به.

ثم اشترى أخوه خدما ومتاعا بألف دينار ، فقال المؤمن : اللهم ، إنّي اشتريت منك الولدان بألف ، فتصدّق به ، ثم أحاجه ، أي : أصابه حاجة ، فجلس لأخيه على طريقه ، فمرّ به في خدمه وحشمه ، فتعرّض له ، فقال : فلان؟! قال : نعم ، قال : ما شأنك؟ قال : أصابتني حاجة بعدك ، فأتيتك لتصيبني بخير ، قال : ما فعل مالك ، وقد اقتسمنا المال [سويّة](٢) ، فأخذت شطره؟ فقصّ عليه قصّته ، قال : إنّك لمن المصدّقين ، اذهب ، فلا أعطيك شيئا.

وقيل : نزلت في أخوين من أهل مكّة من بني مخزوم ، أحدهما : مؤمن ، وهو أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن عبد ياليل ، وكان زوج أمّ سلمة قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والآخر كافر ، وهو الأسود بن عبد الأسد بن عبد ياليل.

قوله : (رَجُلَيْنِ) : قد تقدم أنّ «ضرب» مع المثل ، يجوز أن يتعدى لاثنين في سورة البقرة ، وقال أبو البقاء (٣) : التقدير : مثلا مثل رجلين ، و«جعلنا» تفسير ل «مثل» فلا موضع له ، ويجوز أن يكون موضعه نصبا نعتا ل «رجلين» كقولك : مررت برجلين ، جعل لأحدهما جنّة.

قوله : (وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ) يقال : حفّ بالشيء : طاف به من جميع جوانبه ، قال النابغة : [البسيط]

٣٥٢٣ ـ يحفّه جانبا نيق وتتبعه

مثل الزّجاجة لم تكحل من الرّمد (٤)

وحفّ به القوم : صاروا طائفين بجوانبه وحافّته ، وحففته به ، أي : جعلته مطيفا به.

والحفاف : الجانب ، وجمعه أحفّة ، والمعنى : جعلنا حول الأعناب النّخل.

قال الزمخشريّ : وهذه الصفة ممّا يؤثرها الدّهاقين في كرومهم ، وهو أن يجعلوها محفوفة بالأشجار المثمرة ، وهو أيضا حسن في [المنظر](٥).

__________________

(١) في ب : اشترى.

(٢) سقط من ب.

(٣) ينظر : الإملاء ٢ / ١٠٢.

(٤) ينظر البيت في البحر ٦ / ١١٨ ، روح المعاني ١٥ / ٢٧٣ ، الدر المصون ٤ / ٤٥٤.

(٥) في أ: النظم.

٤٨٤

قوله : (وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً) قيل : كان الزّرع في وسط الأعناب ، وقيل : كان الزّرع بين الجنّتين ، أي : لم يكن بين الجنتين موضع خال.

والمقصود منه أمور (١) :

الأول : أن تكون تلك الأرض جامعة للأقوات والفواكه.

والثاني : أن تكون متّسعة الأطراف ، متباعدة الأكناف ، ومع ذلك ، لم يتوسّطها ما يقطع بعضها عن بعض.

والثالث : أنّ مثل هذه الأرض تأتي كلّ [يوم](٢) بمنفعة أخرى ، وثمرة أخرى فكانت منافعها دارّة متواصلة.

قوله : (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ) : قد تقدّم في السورة قبلها [الإسراء : ٢٣] حكم «كلتا» وهي مبتدأ ، و«آتت» خبرها ، وجاء هنا على [الكثير : وهو] مراعاة لفظها ، دون معناها.

وقرأ (٣) عبد الله ـ وكذلك في مصحفه ـ «كلا الجنّتين» بالتذكير ؛ لأنّ التأنيث مجازي ، ثم قرأ «آتت» بالتأنيث ؛ اعتبارا بلفظ «الجنّتين» فهو نظي ر «طلع الشّمس ، (وَأَشْرَقَتِ). وروى الفراء (٤) عنه قراءة أخرى : «كلّ الجنّتين أتى أكله» أعاد الضمير على اللفظ «أكل».

واعلم أنّ لفظ «كل» اسم مفرد معرفة يؤكّد به مذكّران معرفتان ، و«كلتا» اسم مفرد معرفة يؤكّد به مؤنثان معرفتان ، وإذا أضيفا إلى المظهر كانا بالألف في الأحوال الثلاثة ؛ كقولك : «جاءني كلا أخويك ، ورأيت كلا أخويك ، ومررت بكلا أخويك ، وجاءني كلتا أختيك ، ورأيت كلتا أختيك ، ومررت بكلتا أختيك» ، وإذا أضيفا إلى المضمر ، كانا في الرّفع بالألف ، وفي الجر والنّصب بالياء ، وبعضهم يقول مع المضمر بالألف في الأحوال الثلاثة أيضا.

فصل

ومعنى (آتَتْ أُكُلَها) أعطت كلّ واحدة من الجنتين (أُكُلَها) ثمرها تامّا ، (وَلَمْ تَظْلِمْ) لم تنقص ، (مِنْهُ شَيْئاً) والظّلم : النقصان ، يقول الرّجل : ظلمني حقّي ، أي : نقصني.

قوله : (وَفَجَّرْنا) العامة على التشديد ، وإنما كان كذلك ، وهو نهر واحد مبالغة فيه ، وقرأ (٥) يعقوب ، وعيسى بن عمر بالتخفيف ، وهي قراءة الأعمش في سورة القمر [القمر : ١٢] ، والتشديد هناك أظهر لقوله «عيونا».

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٠٦.

(٢) في ب : التكثير.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٦ / ١١٩ ، الدر المصون ٤ / ٤٥٤.

(٤) ينظر : معاني القرآن للفراء ٢ / ١٤٣.

(٥) ينظر : الإتحاف ٢ / ٢١٤ ، والبحر ٦ / ١١٩ ، والدر المصون ٤ / ٤٥٤.

٤٨٥

والعامة على فتح هاء «نهر» وأبو السّمال (١) والفيّاض بسكونها.

قوله : (وَكانَ لَهُ) أي : لصاحب البستان.

قوله : (وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ) : قد تقدّم الكلام فيه في الأنعام [الأنعام : ٩٩] ، وتقدّم أنّ «الثّمر» بالضمّ المال ، فقال ابن عباس : جميع المال من ذهب ، وفضة ، وحيوان ، وغير ذلك ، قال النابغة : [البسيط]

٣٥٢٤ ـ مهلا فداء لك الأقوام كلّهم

وما أثمّر من مال ومن ولد (٢)

وقال مجاهد : هو الذهب والفضّة خاصة. «فقال» يعني صاحب البستان «لصاحبه» أي المؤمن.

(وَهُوَ يُحاوِرُهُ) أي : يخاطبه وهذه جملة حاليّة مبيّنة ؛ إذ لا يلزم من القول المحاورة ؛ إذ المحاورة مراجعة الكلام من حار ، أي : رجع ، قال تعالى : (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) [الانشقاق: ١٤]. وقال امرؤ القيس : [الطويل]

٣٥٢٥ ـ وما المرء إلّا كالشّهاب وضوئه

يحور رمادا بعد إذ هو ساطع (٣)

ويجوز أن تكون حالا من الفاعل ، أو من المفعول.

قوله : (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً).

والنّفر : العشيرة الذين يذبّون عن الرجل ، وينفرون معه ، وقال قتادة : حشما ، وخدما(٤).

وقال مقاتل : ولدا تصديقه قوله : (أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً)(٥).

قوله : (جَنَّتَهُ) : إنما أفرد بعد ذكر التثنية ؛ اكتفاء بالواحد للعلم بالحال ، قال أبو البقاء (٦) : كما اكتفي بالواحد عن الجمع في قول الهذليّ : [الكامل]

٣٥٢٦ ـ فالعين بعدهم كأنّ حداقها

سملت بشوك فهي عور تدمع (٧)

ولقائل أن يقول : إنما يجوز ذلك ؛ لأنّ جمع التكسير يجري مجرى المؤنّثة ، فالضمير في «سملت» وفي «فهي» يعود على الحداق ، لا على حدقة واحدة ، كما يوهم.

__________________

(١) ينظر : البحر ٦ / ١١٩ ، والدر المصون ٤ / ٤٥٤.

(٢) تقدم.

(٣) البيت ليس لامرىء القيس بل هو للبيد بن ربيعة ، ينظر : ديوانه ٨٨ ، الهمع ١ / ١١٢ ، الدرر ١ / ٨٣ ، الأشموني ١ / ٢٢٩ ، الدر المصون ٤ / ٤٥٥.

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٦٢).

(٥) ينظر : المصدر السابق.

(٦) ينظر : الإملاء ٢ / ١٠٢.

(٧) البيت في ديوان الهذليين ١ / ٣ ، الدر المصون ٤ / ٤٥٥.

٤٨٦

وقال الزمخشري : «فإن قلت : لم أفرد الجنّة ، بعد التثنية؟ قلت : معناه : ودخل ما هو جنّته ، ما له جنة غيرها ، بمعنى : أنه ليس له نصيب في الجنة الّتي وعد المتّقون ، فما ملكه في الدنيا ، فهو جنّته ، لا غير ، ولم يقصد الجنتين ، ولا واحدة منهما».

فصل

قال أبو حيان : «ولا يتصوّر ما قال ؛ لأنّ قوله : (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ) إخبار من الله تعالى بأنّ هذا الكافر دخل جنّته ، فلا بدّ أن قصد في الإخبار : أنه دخل إحدى جنتيه ؛ إذ لا يمكن أن يدخلهما معا في وقت واحد». قال شهاب الدين : من ادّعى دخولهما في وقت واحد ، حتّى يلزمه بهذا المستحيل في البداية؟ وأمّا قوله «ولم يقصد الجنّتين ، ولا واحدة» معناه : لم يقصد تعيين مفرد ، ولا مثنى ، لا أنه لم يقصد الإخبار بالدخول.

وقال أبو البقاء (١) : «إنما أفرد ؛ لأنّهما جميعا ملكه ، فصارا كالشيء الواحد».

قوله : (وَهُوَ ظالِمٌ) حال من فاعل «دخل» ، وقوله «لنفسه» مفعول «ظالم» واللام مزيدة فيه ؛ لكون العامل فرعا.

قوله : (ما أَظُنُ) فيه وجهان :

أحدهما : أن يكون مستأنفا بيانا لسبب الظلم.

والثاني : أن يكون حالا من الضّمير في «ظالم» ، أي : وهو ظالم في حال كونه قائلا.

قوله : «أن تبيد» أي : تهلك ، قال : [المقتضب]

٣٥٢٧ ـ فلئن باد أهله

لبما كان يوهل (٢)

ويقال : باد يبيد بيودا وبيدودة ، مثل «كينونة» والعمل فيها معروف ، وهو أنه حذفت إحدى الياءين ، ووزنها فيعلولة.

قوله : (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ) يعني الكافر آخذا بيد صاحبه المسلم يطوف به فيها ، ويريه بهجتها وحسنها ، وأخبره بصنوف ما يملكه من المال (وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) بكفره ، وهذا اعتراض وقع في أثناء الكلام ، والمعنى أنه لمّا اغترّ بتلك النّعم ، وتوسّل بها إلى الكفران والجحود ؛ لقدرته على البعث ، كان واضعا لتلك النّعم في غير موضعها ، (قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً).

قال أهل المعاني : لما أذاقه حسنها وزهوتها ، توهّم أنها لا تفنى أبدا مطلقا ، (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) فجمع بين كفرين.

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ١٠٢.

(٢) البيت لعمر بن أبي ربيعة ، ينظر : ديوانه ١٩٩ ، الهمع ٢ / ٤٢ ، الدرر ٢ / ٦٤٧ البحر ٦ / ١١٨ ، الدر المصون ٤ / ٤٥٥.

٤٨٧

الأول : قطعه بأنّ تلك الأشياء لا تبيد أبدا.

والثاني : إنكار البعث.

فإن قيل : هب أنّه شكّ في القيامة ، فكيف قال : ما أظنّ أن تبيد هذه أبدا ، مع أنّ الحسّ يدلّ على أنّ أحوال الدنيا بأسرها ذاهبة غير باقية؟.

فالجواب : مراده أنّها لا تبيد مدّة حياته ، ثم قال : (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) أي مرجعا وعاقبة ، وانتصابه على التّمييز ، ونظيره قوله تعالى : (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) [فصلت : ٥٠].

وقوله : (لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً).

فإن قيل : كيف قال : ولئن رددت إلى ربي وهو ينكر البعث (١)؟.

فالجواب : معناه : ولئن رددت إلى ربّي على زعمك ، يعطيني هنالك خيرا منها.

والسّبب في وقوعه في هذه الشّبهة أنّه تعالى لمّا أعطاه المال والجاه في الدنيا ، ظنّ أنه إنّما أعطاه ذلك ؛ لكونه مستحقّا له ، والاستحقاق باق بعد الموت ؛ فوجب حصول الإعطاء ، والمقدّمة الأولى كاذبة ؛ فإن فتح باب الدنيا على الإنسان ، يكون في أكثر الأمر للاستدراج (٢).

وقرأ (٣) أبو عمرو والكوفيون «منها» بالإفراد ؛ نظرا إلى أقرب مذكور ، وهو قوله : «جنّته» وهي في مصاحف العراق ، دون ميم ، والباقون «منهما» بالتثنية ؛ نظرا إلى الأصل في قوله : «جنّتين» و (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ) ورسمت في مصاحف الحرمين والشّام بالميم ، فكل قد وافق رسم مصحفه.

قوله : (قالَ لَهُ صاحِبُهُ) أي المسلم.

قوله : (وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ) أي : خلق أصلك من تراب ، وهذا يدلّ على أنّ الشاكّ في البعث كافر.

ووجه الاستدلال أنّه ، لمّا قدر على [الابتداء](٤) ، وجب أن يقدر على الإعادة.

وأيضا : فإنّه تعالى ، لمّا خلقك هكذا ، فلم يخلقك عبثا ، وإنّما خلقك للعبودية ، وإذا خلقك لهذا المعنى ، وجب أن يحصل للمطيع ثواب ، وللمذنب عقاب ؛ ويدلّ على هذا قوله : (ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) أي : هيّأك تهيئة تعقل وتصلح أنت للتكليف ، فهل يحصل للعاقل مع هذه الآية إهمال أمرك؟!.

__________________

(١) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٦٢.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٠٧.

(٣) ينظر : السبعة ٣٩٠ ، والتيسير ١٤٣ ، والنشر ٢ / ٣١١ ، والحجة ٤١٧ ، والحجة للقراء السبعة ٥ / ١٤٤ ، والقرطبي ١٠ / ٢٦٢ ، والبحر ٦ / ١٢٠.

(٤) في أ: البدأة.

٤٨٨

قوله : (مِنْ نُطْفَةٍ) : النّطفة في الأصل : القطرة من الماء الصافي ، يقال : نطف ينطف ، أي : قطر يقطر ، وفي الحديث : «فخرج ، ورأسه ينطف» وفي رواية : يقطر ، وهي مفسّرة ، وأطلق على المنيّ «نطفة» تشبيها بذلك.

قوله : «رجلا» فيه وجهان :

أحدهما : أنه حال ، وجاز ذلك ، وإن كان غير منتقل ، ولا مشتقّ ؛ لأنه جاء بعد «سوّاك» إذ كان من الجائز : أن يسوّيه غير رجل ، وهو كقولهم : «خلق الله الزّرافة يديها أطول من رجليها» وقول الآخر : [الطويل]

٣٥٢٨ ـ فجاءت به سبط العظام كأنّما

عمامته بين الرّجال لواء (١)

والثاني : أنه مفعول ثان ل «سوّاك» لتضمّنه معنى خلقك ، وصيّرك وجعلك ، وهو ظاهر قول الحوفيّ.

قوله : (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي) : قرأ ابن عامر (٢) ، ويعقوب ، ونافع في رواية بإثبات الألف وصلا ووقفا ، والباقون بحذفها وصلا ، وبإثباتها وقفا وهي رواية عن نافع ، فالوقف وفاق.

والأصل في هذه الكلمة : «لكن أنا» فنقل حركة همزة «أنا» إلى نون «لكن» وحذف الهمزة ، فالتقى مثلان ، فأدغم ، وهذا أحسن الوجهين في تخريج هذا ، وقيل : حذف همزة «أنا» [اعتباطا](٣) ، فالتقى مثلان ، فأدغم ، وليس بشيء ؛ لجري الأول على القواعد ، فالجماعة جروا على مقتضى قواعدهم في حذف ألف «أنا» وصلا ، وإثباتها وقفا ، وقد تقدم لك : أنّ نافعا يثبت ألفه وصلا قبل همزة مضمومة ، أو مكسورة ، أو مفتوحة ؛ بتفصيل مذكور في البقرة ، وهنا لم يصادف همزة ، فهو على أصله أيضا ، ولو أثبت الألف هنا ، لكان أقرب من إثبات غيره ؛ لأنه أثبتها في الوصل جملة.

وأمّا ابن عامر ، فإنه خرج عن أصله في الجملة ؛ إذ ليس من مذهبه إثبات هذه الألف وصلا في موضع [ما] ، وإنما اتّبع الرسم. وقد تقدّم أنها لغة تميم أيضا.

وإعراب ذلك : أن يكون «أنا» مبتدأ ، و«هو» مبتدأ ثان ، و«هو» ضمير الشأن ، و«الله» مبتدأ ثالث و«ربّي» خبر الثالث ، والثالث وخبره خبر الثاني ، والثاني وخبره خبر الأول ، والرابط [بين الأول] وبين خبره الياء في «ربّي» ويجوز أن تكون الجلالة بدلا من «هو» أو نعتا ، أو بيانا ، إذا جعل «هو» عائدا على ما تقدّم من قوله «بالذي خلقك من

__________________

(١) البيت لرجل من بني بلقيس بن خباب بن بلقيس ، ينظر : شرح ديوان الحماسة للمرزوقي ١ / ٢٧٠ ، الخزانة ٩ / ٤٨٨ ، شرح ابن عقيل ١ / ٦٢٦ ، الأشموني ٢ / ١٧٠ ، الدر المصون ٤ / ٤٥٦.

(٢) ينظر : السبعة ٣٩١ ، والحجة ٤١٧ ، والتيسير ١٤٣ ، والنشر ٢ / ٣١١ ، والحجة للقراء السبعة ٥ / ١٤٤ ، والقرطبي ١٠ / ٢٦٣ ، والبحر ٦ / ١٢١ ، والدر ٤ / ٤٥٦.

(٣) في ب : اعتياضا.

٤٨٩

تراب» لا على أنّه ضمير الشأن ، وإن كان أبو البقاء (١) أطلق ذلك ، وليس بالبيّن.

وخرّجه الفارسي على وجه غريب : وهو أن تكون «لكنّا» «لكنّ» واسمها وهو «نا» والأصل : «لكنّنا» فحذف إحدى النونات ؛ نحو : (إِنَّا نَحْنُ) [الحجر : ٩] وكان حق التركيب أن يكون «ربّنا» «ولا نشرك بربّنا» قال : «ولكنه اعتبر المعنى ، فأفرد» وهو غريب جدّا.

قال الكسائيّ (٢) : فيه تقديم وتأخير ، تقديره : «لكنّ الله هو ربّي».

وقرأ أبو عمرو «لكنّه» بهاء السّكت وقفا ؛ لأنّ القصد بيان حركة نون «أنا» فتارة تبيّن بالألف ، وتارة بهاء السكت ، وعن حاتم الطائي : [الرمل المجزوء]

٣٥٢٩ ـ هكذا فردي أنّه (٣)

وقال ابن عطيّة عن أبي عمرو : روى عنه هارون «لكنّه هو الله» بضمير لحق «لكن» قال شهاب الدين : فظاهر هذا أنه ليس بهاء السّكت ، بل تكون الهاء ضميرا اسما ل «لكن» وما بعدها الخبر ويجوز أن يكون «هو» مبتدأ ، وما بعده خبره ، وهو وخبره خبر «لكنّ» ويجوز أن يكون تأكيدا للاسم ، وأن يكون فصلا ، ولا يجوز أن يكون ضمير شأن ؛ لأنه حينئذ لا عائد على اسم «لكنّ» من هذه الجملة الواقعة خبرا.

وأمّا في قراءة العامة : فلا يجوز أن تكون «لكنّ» مشددة عاملة ؛ لوقوع الضمير بعدها بصيغة المرفوع.

وقرأ عبد الله (٤) «لكن أنا هو» على الأصل من غير نقل ، ولا إدغام ، وروى عنه ابن خالويه «لكن هو الله» بغير «أنا». وقرىء (٥) أيضا «لكننا».

وقال الزمخشريّ : «وحسّن ذلك ـ يعني إثبات الألف في الوصل ـ وقوع الألف عوضا عن حذف الهمزة» ونحوه ـ يعني إدغام نون «لكن» في نون «نا» بعد حذف الهمزة ـ قول القائل :

٣٥٣٠ ـ وترمينني بالطّرف أي أنت مذنب

وتقلينني لكنّ إيّاك لا أقلي (٦)

الأصل : لكن أنا ، فنقل ، وحذف ، وأدغم ، قال أبو حيان : «ولا يتعيّن ما قاله في

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ١٠٣.

(٢) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٦٢.

(٣) ينظر : شرح المفصل ٩ / ٨٤ ، والدر المصون ٤ / ٤٥٧.

(٤) ينظر : الشواذ ٨٠ ، والدر المصون ٤ / ٤٥٧.

(٥) ينظر : البحر ٦ / ١٢١ ، والدر المصون ٤ / ٤٥٧.

(٦) البيت في شرح المفصل لابن يعيش ٨ / ١٤٠ ، المغني ١ / ٧٦ ، شواهد المغني ٨٣ ، الهمع ١ / ١٤٨ ، الدرر ١ / ٢٠٧ ، معاني الفراء ٢ / ١٤٤ ، البحر المحيط ٦ / ١٢٢ ، القرطبي ١٠ / ٢٦٣ ، الدر المصون ٤ / ٤٥٦.

٤٩٠

البيت ؛ لجواز أن يكون حذف اسم «لكنّ» [وحذفه] لدليل كثير ، وعليه قوله :

٣٥٣١ ـ فلو كنت ضبيّا عرفت قرابتي

ولكنّ زنجيّ عظيم المشافر (١)

أي : ولكنّك ، وكذا هاهنا : ولكنّني إيّاك» قال شهاب الدين : لم يدّع الزمخشري تعين ذلك في البيت ؛ حتّى يردّ عليه بما ذكره.

ويقرب من هذا ما خرّجه البصريّون في بيت استدلّ به الكوفيون عليهم في جواز دخول لام الابتداء في خبر «لكنّ» وهو : [الطويل]

٣٥٣٢ ـ ..........

ولكنّني من حبّها لعميد (٢)

فأدخل اللام في خبر «لكنّ» وخرّجه البصريون على أن الأصل : «ولكن من حبّها» في قوله : «ولكنّني من حبّها لعميد» ، فأدغم اللام في خبر «لكنّ» ، وجوّزه البصريّون ، وخرّجه طائفة من البصريّين على أنّ الأصل ولكن إنّي من حبّها ، ثم نقل حركة همزة «إنّي» إلى نون «لكن» بعد حذف الهمزة ، وأدغم على ما تقدّم ، فلم تدخل اللام إلا في خبر «إنّ» ، هذا على تقدير تسليم صحة الرواية ، وإلا فقالوا : إنّ البيت مصنوع ، ولا يعرف له قائل.

والاستدراك من قوله «أكفرت» كأنّه قال لأخيه : أنت كافر ؛ لأنّه استفهام تقرير ، لكنّني أنّا مؤمن ؛ نحو قولك : «زيد غائب ، لكنّ عمرا حاضر» لأنه قد يتوهّم غيبة عمرو أيضا.

فصل في المقصود بالشرك في الآية

معنى (وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً).

ذكر القفال فيه وجهين (٣) :

الأول : أنّي لا أرى الفقر والغنى إلّا منه ؛ فأحمده إذا أعطى ، وأصبر ، إذا ابتلى ، ولا أتكبّر عندما ينعم عليّ ، ولا أرى كثرة [المال](٤) ، والأعوان من نفسي ، وذلك لأنّ الكافر ، لمّا [اعتزّ](٥) بكثرة المال والجاه ، فكأنه قد أثبت لله شريكا في إعطاء العزّ والغنى.

الثاني : أنّ هذا الكافر ، لمّا أعجز الله عن البعث والحشر ، فقد جعله مساويا للخلق في هذا العجز ، وإذا أثبت المساواة ، فقد أثبت الشّريك.

__________________

(١) البيت للفرزدق ينظر : ديوانه ٤٨١ ، الكتاب ١ / ٢٨٢ ، المحتسب ٢ / ١٨٢ ، الخزانة ٤ / ٣٧٨ ، ابن يعيش ٨ / ٨١.

(٢) ينظر : ابن يعيش ٨ / ٦٢ ، الهمع ١ / ١٤٠ ، الدرر ١ / ١١٦ ، العين ٢ / ٢٤٧ ، الإنصاف ٢٠٩ ، الخزانة ٤ / ٣٢٣ ، وقال فيها : لا يعرف له قائل ولا تتمة ولا نظير ، والدر المصون ٤ / ٤٥٧.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٠٨.

(٤) في ب : الأموال.

(٥) في ب : اغتر.

٤٩١

قوله : (وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ) : «لولا» تحضيضيّة داخلة على «قلت» و«إذ دخلت» منصوب ب «قلت» فصل به بين «لولا» وما دخلت عليه ، ولم يبال بذلك ؛ لأنه ليس بأجنبيّ ، وقد عرفت أنّ حرف التحضيض ، إذا دخل على الماضي ، كان للتّوبيخ.

ومعنى الكلام : هلّا إذا دخلت جنّتك ، قلت : ما شاء الله ، أي : الأمر ما شاء الله ، وقيل : جوابه مضمر ، أي : ما شاء الله كان.

(ما شاءَ اللهُ) يجوز في «ما» وجهان :

الأول : أن تكون شرطية ؛ فتكون في محلّ نصب مفعولا مقدما وجوبا ب «شاء» أي : أيّ شيء شاء الله ، والجواب محذوف ، أي : ما شاء الله ، كان ووقع كما تقدم.

والثاني : أنها موصولة بمعنى «الذي» وفيها حينئذ وجهان :

أحدهما : أن تكون مبتدأة ، وخبرها محذوف ، أي : الذي شاء الله كائن وواقع.

والثاني : أنها خبر مبتدأ مضمر ، تقديره : الأمر الذي شاء الله ، وعلى كل تقدير : [فهذه الجملة] في محل نصب بالقول.

قوله : (إِلَّا بِاللهِ) خبر «لا» التبرئة ، والجملة أيضا منصوبة بالقول ، أي : هلّا قلت هاتين الجملتين.

فإن قيل : معنى (لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) أي : لا أقدر على حفظ مالي ، ولا دفع شيء عنه إلّا بالله.

روى هشام بن عروة عن أبيه : «أنّه كان إذا رأى من ماله شيئا يعجبه ، أو دخل حائطا من حيطانه قال : ما شاء الله لا قوّة إلّا بالله» (١).

فالجواب : احتجّ أهل السنّة بقوله : (ما شاءَ اللهُ) على أنّ كلّ ما أراده الله واقع ، وكلّ ما لم يقع ، لم يرده الله تعالى ؛ وهذا يدلّ على أن الله ما أراد الإيمان من الكافر ، وهو صريح في إبطال قول المعتزلة.

فصل في الرد على استدلال المعتزلة بالآية

[ذكر الجبائيّ](٢) والكعبيّ بأنّ تأويل قولهم : (ما شاءَ اللهُ) ممّا تولّى فعله ، لا ما هو فعل العباد ، كما قالوا : لا مردّ لأمر الله ، لم يرد ما أمر به العباد ، ثم قال : لا يمتنع أن يحصل في سلطانه ما لا يريد ، كما يحصل فيه ما ينهى عنه.

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٤٠٤) وعزاه إلى سعيد بن منصور وابن أبي حاتم والبيهقي في «شعب الإيمان».

(٢) في ب : أجاب.

٤٩٢

واعلم أنّ الذي ذكره الكعبيّ ليس جوابا عن الاستدلال ، بل هو التزام لمخالفة ظاهر النصّ ، وقياس الإرادة على الأمر باطل ؛ لأنّ هذا النصّ دالّ على أنّه لا يوجد إلّا ما أراده الله ، وليس في النصوص ما يدلّ على أنّه لا يدخل في الوجود إلّا ما أمر به ، فظهر الفرق.

وأجاب القفّال عنه بأن قال (١) : هلّا إذا دخلت [جنّتك](٢) ، قلت : ما شاء الله ، أي : هذه الأشياء الموجودة في هذا البستان : ما شاء الله ؛ كقول الإنسان ، إذا نظر إلى شيء عمله زيد : عمل زيد ، أي : هذا عمل زيد.

ومثله : (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) [الكهف : ٢٢] ، أي : قالوا : ثلاثة ، وقوله : (وَقُولُوا حِطَّةٌ) [الأعراف : ١٦١] أي : وقولوا : هذه حطّة ، وإذا كان كذلك ، كان [المراد أن](٣) هذا الشيء الموجود في البستان شيء شاء الله تكوينه ، وعلى هذا التقدير : لم يلزم أن يقال : وقع كلّ ما شاء الله ؛ لأنّ هذا الحكم غير عامّ في الكلّ ، بل يختصّ بالأشياء المشاهدة في البستان ، وهذا التأويل الذي ذكره القفّال أحسن مما ذكره الجبائيّ والكعبيّ.

فصل

قال ابن الخطيب : وأقول : إنّه على جوابه لا يندفع الإشكال عن المعتزلة ؛ لأنّ عمارة ذلك البستان ، ربّما حصلت بالغصوب ، وبالظّلم الشديد ؛ فلا يصحّ أيضا على قول المعتزلة أن يقال : هذا واقع بمشيئة الله ، اللهم ، إلّا أن يقال : المراد أنّ هذه الثمار حصلت بمشيئة الله إلّا أنّ هذا تخصيص لظاهر النصّ من غير دليل.

وأمّا أمر المؤمن الكافر بأن يقول : لا قوّة إلّا بالله ، أي : لا قوّة لأحد على أمر من الأمور إلّا بإعانة الله وإقداره.

ثمّ إن المؤمن ، لما علّم الكافر الإيمان ، أجابه عن الافتخار بالمال والنّفر ، فقال : (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً).

واعلم أن ذكر الولد هاهنا يدلّ على أنّ المراد بالنّفر المذكور في قوله : (وَأَعَزُّ نَفَراً) الأعوان والأولاد.

وقوله : (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَ) يجوز في «أنا» وجهان :

أحدهما : أن يكون مؤكّدا لياء المتكلم.

والثاني : أنه ضمير الفصل بين المفعولين ، و«أقلّ» مفعول ثان ، أو حال بحسب الوجهين في الرؤية ، هل هي بصرية أو علمية؟ إلا أنّك إذا جعلتها بصرية ، تعيّن في «أنا» أن تكون توكيدا ، لا فصلا ؛ لأنّ شرطه أن يقع بين مبتدأ وخبر ، أو ما أصله المبتدأ والخبر.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ١٠٨ ،

(٢) في ب : بستانك.

(٣) سقط من ب.

٤٩٣

وقرأ (١) عيسى بن عمر «أقلّ» بالرفع ، ويتعيّن أن يكون «أنا» مبتدأ ، و«أقلّ» خبره ، والجملة : إمّا في موضع المفعول الثاني ، أو في موضع الحال على ما تقدّم في الرؤية.

و (مالاً وَوَلَداً) تمييز ، وجواب الشرط قوله (فَعَسى رَبِّي).

قوله : (حُسْباناً) : الحسبان مصدر حسب الشيء يحسبه ، أي : أحصاه ، قال الزجاج : «أي عذاب حسبان ، أي : حساب ما كسبت يداك» وهو حسن.

فصل في معنى الحسبان

قال الراغب (٢) : «قيل : معناه نارا ، وعذابا ، وإنما هو في الحقيقة ما يحاسب عليه ، فيجازى بحسبه» وهذا موافق لما قاله أبو إسحاق ، والزمخشريّ نحا إليه أيضا ، فقال : «والحسبان مصدر ؛ كالغفران والبطلان بمعنى الحساب ، أي : مقدارا حسبه الله وقدّره ، وهو الحكم بتخريبها». وهو قول ابن عباس وقيل : جمع حسبانة ، وهي السّهم.

وقال ابن قتيبة : مرامي من السّماء ، وهي مثل الصّاعقة ، أي : قطع من النّار.

قوله : (أَوْ يُصْبِحَ) : عطف على «يرسل» قال أبو حيّان : و«أو يصبح» عطف على قوله : «ويرسل» لأن غؤور الماء لا يتسبّب عن الآفة السماوية ، إلا إن عنى بالحسبان القضاء [الإلهيّ](٣) ؛ فحينئذ يتسبّب عنه إصباح الجنة صعيدا زلقا ، أو إصباح مائها غورا.

والزّلق والغور في الأصل : مصدران وصف بهما للمبالغة.

والعامة على فتح الغين ، غار الماء يغور غورا : غاض وذهب في الأرض ، وقرأ (٤) البرجميّ بضم الغين لغة في المصدر ، وقرأت (٥) طائفة «غؤورا» بضمّ الغين ، والهمزة ، وواو ساكنة ، وهو مصدر أيضا ، يقال : غار الماء غؤورا مثل : جلس جلوسا.

فصل في معنى قوله : (فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً)

معنى قوله : (فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً) أرضا جرداء ملساء لا نبات فيها ، وقيل : تزلق فيها الأقدام.

وقال مجاهد (٦) : رملا هائلا ، والصعيد وجه الأرض.

(أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً) أي : غائرا منقطعا ذاهبا لا تناله الأيدي ، ولا الدّلاء ، والغور: مصدر وقع موقع الاسم ، مثل زور وعدل.

قوله : (فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً) أي : فيصير بحيث لا تقدر على ردّه إلى موضعه.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٧٢٣ ، والبحر ٦ / ١٢٣ ، والدر المصون ٤ / ٤٥٨.

(٢) ينظر : المفردات ١١٦.

(٣) في ب : السماوي.

(٤) ينظر : البحر ٦ / ١٢٣ ، والدر المصون ٤ / ٤٥٩.

(٥) ينظر : تخريج القراءة السابقة.

(٦) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٦٣.

٤٩٤

ثمّ أخبر الله تعالى أنّه حقّق ما قدره هذا المؤمن ، فقال : (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) أي : أحاط العذاب بثمر جنته ، وهو عبارة عن إهلاكه بالكليّة ، وأصله من إحاطة العدوّ ؛ لأنّه إذا أحاط به ، فقد استولى عليه ، ثمّ استعمل في كلّ إهلاك ، ومنه قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) [يوسف : ٦٦].

قوله : (يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ) : قرىء (١) «تقلّب كفّاه» ، أي : تتقلّب كفّاه ، و«أصبح»: يجوز أن تكون على بابها ، وأن تكون بمعنى «صار» وهذا كناية عن الندم ؛ لأنّ النادم يفعل ذلك.

قوله : (عَلى ما أَنْفَقَ) يجوز أن يتعلق ب «يقلّب» وإنما عدّي ب «على» لأنه ضمّن معنى «يندم».

وقوله : «فيها» ، أي : في عمارتها ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنّه حال من فاعل «يقلّب» أي : متحسّرا ، كذا قدّره أبو البقاء (٢) ، وهو تفسير معنى ، والتقدير الصناعي ؛ إنما هو كون مطلق.

قوله : «ويقول» يجوز أن يكون معطوفا على «يقلّب» ويجوز أن يكون حالا.

فصل في كيفية الإحاطة

قال المفسرون : إنّ الله تعالى أرسل عليها نارا ، فأهلكتها وغار ماؤها ، (فَأَصْبَحَ) صاحبها الكافر (يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ) ، أي : يصفّق بيديه ، إحداهما على الأخرى ، ويقلّب كفّيه ظهرا لبطن ؛ تأسّفا وتلهّفا (عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ) ساقطة (عَلى عُرُوشِها) سقوفها ، فتسقّطت سقوفها ، ثمّ سقطت الجدران عليها.

ويمكن أنّ يكون المراد بالعروش عروش الكرم ، فتسقط العروش ، ثمّ تسقط الجدران عليها.

قوله : (وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً).

والمعنى : أن المؤمن ، لمّا قال : (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) قال الكافر : يا ليتني قلت كذلك.

فإن قيل : هذا الكلام يوهم أنه إنما هلكت جنّته ؛ لشؤم شركه ، وليس الأمر كذلك ؛ لأنّ أنواع البلاء أكثرها إنّما تقع للمؤمنين ، قال تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ) [الزخرف : ٣٣].

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خصّ البلاء بالأنبياء ، ثمّ الأولياء ، ثمّ الأمثل فالأمثل».

وأيضا : فلما قال : (يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً) فقدم ندم على الشّرك ، ورغب في

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٤ / ٤٥٩.

(٢) ينظر : الإملاء ٢ / ١٠٣.

٤٩٥

التوحيد ؛ فوجب أن يصير مؤمنا ، فلم قال بعده : (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ)؟.

فالجواب عن الأوّل : أنه لمّا عظمت حسراته لأجل أنه أنفق عمره في تحصيل الدنيا ، وكان معرضا في عمره كلّه عن طلب الدّين ، فلما ضاعت الدنيا بالكليّة ، بقي محروما عن الدنيا والدّين.

والجواب عن الثاني : أنّه إنّما ندم على الشّرك ؛ لاعتقاده أنّه لو كان موحّدا غير مشرك ، لبقيت عليه جنّته ، فهو إنّما رغب في التوحيد والردّة عن الشّرك ؛ لأجل [طلب](١) الدنيا ؛ فلهذا لم يقبل الله توحيده.

قوله : (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ) : قرأ الأخوان (٢) [«يكن»] بالياء من تحت ، والباقون من فوق ، وهما واضحتان ؛ إذ التأنيث مجازيّ ، وحسن التذكير للفصل.

قوله : «ينصرونه» يجوز أن تكون هذه الجملة خبرا ، وهو الظاهر ، وأن تكون حالية ، والخبر الجار المتقدم ، وسوّغ مجيء الحال من النّكرة تقدم النفي ، ويجوز أن تكون صفة ل «فئة» إذا جعلنا الخبر الجارّ.

وقال : «ينصرونه» حملا على معنى «فئة» لأنّهم في قوّة القوم والنّاس ، ولو حمل على لفظها ، لأفرد ؛ كقوله تعالى : (فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ) [آل عمران : ٢].

وقرأ (٣) ابن أبي عبلة : «تنصره» على اللفظ ، قال أبو البقاء (٤) : «ولو كان «تنصره» لكان على اللفظ». قال شهاب الدين : قد قرىء بذلك ، كما عرفت.

[قال بعضهم](٥) : ومعنى «ينصرونه» يقدرون على نصرته ، ويمنعونه من عذاب الله (وَما كانَ مُنْتَصِراً) ممتنعا متنعما ، أي : لا يقدر على الانتصار لنفسه ، وقيل : لا يقدر على ردّ ما ذهب عنه.

قوله : (هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ) : يجوز أن يكون الكلام تمّ على قوله «منتصرا» وهذه جملة منقطعة عمّا قبلها ، وعلى هذا : فيجوز في الكلام أوجه :

الأول : أن يكون (هُنالِكَ الْوَلايَةُ) مقدّرا بجملة فعلية ، فالولاية فاعل بالظرف قبلها ، أي : استقرّت الولاية الله ، و«لله» متعلق بالاستقرار ، أو بنفس الظرف ؛ لقيامه مقام العامل ، أو بنفس الولاية ، أو بمحذوف على أنه حال من «الولاية» وهذا إنما يتأتّى على

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) ينظر : السبعة ٣٩٢ ، والتيسير ١٤٣ ، والحجة ٤١٨ ، والإتحاف ٢ / ٢١٥ ، والحجة للقراء السبعة ٥ / ١٤٩ ، والنشر ٢ / ٢١١ ، وإعراب القراءات السبع وعللها لابن خالويه ١ / ٣٩٥.

(٣) ينظر : البحر ٦ / ١٢٤ ، والدر المصون ٤ / ٤٥٩.

(٤) ينظر : الإملاء ٢ / ١٠٣.

(٥) في ب : فصل.

٤٩٦

رأي الأخفش من حيث إنّ الظرف يرفع الفاعل من غير اعتماد.

والثاني : أن يكون «هنالك» منصوبا على الظرف متعلقا بخبر «الولاية» وهو «لله» أو بما تعلق به «لله» أو بمحذوف على أنه حال منها ، والعامل الاستقرار في «لله» عند من يجيز تقدم الحال على عاملها المعنوي ، أو يتعلق بنفس «الولاية».

والثالث : أن يجعل «هنالك» هو الخبر ، و«لله» فضلة ، والعامل فيه ما تقدّم في الوجه الأول.

ويجوز أن يكون «هنالك» من تتمّة ما قبلها ، فلم يتمّ الكلام دونه ، وهو معمول ل «منتصرا» ، أي : وما كان منتصرا في الدار الآخرة ، و«هنالك» إشارة إليها ، وإليه نحا أبو إسحاق (١). وعلى هذا فيكون الوقف على «هنالك» تامّا ، والابتداء بقوله (الْوَلايَةُ لِلَّهِ) فتكون جملة من مبتدأ وخبر.

والظاهر في «هنالك» : أنه على موضوعه من ظرفية المكان ، كما تقدّم ، وتقدّم أنّ الأخوين يقرآن بالكسر (٢) ، والفرق بينها وبين قراءة الباقين بالفتح في سورة الأنفال ، فلا معنى لإعادته.

وحكي عن أبي عمرو والأصمعي أن كسر الواو هنا لحن ، قالا : لأنّ «فعالة» إنما تجيء فيما كان صنعة أو معنى متقلّدا ، وليس هنالك تولّي أمور.

فصل في لغات الولاية ومعانيها

قال الزمخشري : الولاية بالفتح : النصر ، والتولّي ، وبالكسر : السلطان والملك.

وقيل : بالفتح : الربوبيّة ، وبالكسر : الإمارة.

قوله : «الحقّ» (٣) قرأ أبو عمرو ، والكسائي برفع «الحقّ» والباقون بجرّه ، فالرفع من ثلاثة أوجه :

الأول : أنه صفة للولاية وتصديقه قراءة أبيّ «هنالك الولاية الحقّ لله».

والثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي : هو ، ما أوحيناه إليك.

الثالث : أنه مبتدأ ، وخبره مضمر ، أي : الحق ذلك ، وهو ما قلناه.

والجر على أنه صفة للجلالة الكريمة ؛ كقوله (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ).

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن لأبي إسحاق الزجاج ٣ / ٢٨٩.

(٢) ينظر : الحجة ٤١٨ ، والنشر ٢ / ٣١١ ، والحجة للقراء السبعة ٥ / ١٤٩ ، وإعراب القراءات السبع ١ / ٣٩٦ ، والإتحاف ٢ / ٢١٦ ، والقرطبي ١٠ / ٢٦٧ ، والبحر ٦ / ١٢٤ ، والدر المصون ٤ / ٤٦٠.

(٣) ينظر : السبعة ٣٩٢ ، والتيسير ١٤٣ ، والنشر ٢ / ٣١١ ، والحجة ٤١٩ ، والإتحاف ٢ / ٢١٦ ، والحجة للقراء السبعة ٥ / ١٤٩ ، وإعراب القراءات السبع ١ / ٣٩٦ والقرطبي ١٠ / ٢٦٧ ، والدر المصون ٤ / ٤٦٠.

٤٩٧

وقرأ (١) زيد بن عليّ ، وأبو حيوة ، وعمرو بن عبيد ، ويعقوب «الحقّ» نصبا على المصدر المؤكّد لمضمون الجملة ؛ كقول ك «هذا قول الله الحق» وهذا عبد الله الحقّ ، لا الباطل.

قوله : «عقبا» (٢) قرأ عاصم وحمزة بسكون القاف ، والباقون بضمّها ، فقيل : لغتان ؛ كالقدس والقدس ، وقيل : الأصل الضمّ ، والسكون تخفيف ، وقيل بالعكس ؛ كالعسر واليسر ، وهو عكس معهود اللغة ، ونصبها ونصب «ثوابا» و (أَمَلاً) [الكهف : ٤٦] على التمييز لأفعل التفضيل قبلها ، ونقل الزمخشريّ أنه قرىء «عقبى» بالألف ، وهي مصدر أيضا ؛ كبشرى ، وتروى عن عاصم.

فصل في نظم الآية

اعلم أنّه تعالى لمّا ذكر من قصّة الرجلين ما ذكر علمنا أن النّصرة والعاقبة المحمودة كانت للمؤمن على الكافر ، وعرفنا أن الأمر هكذا يكون في حقّ كل مؤمن وكافر ، فقال : (هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ) أي : في مثل ذلك الوقت وفي مثل ذلك المقام ، تكون الولاية لله يوالي أولياءه ؛ فيعليهم على أعدائه ، ويفوّض أمر الكفار إليهم.

فقوله : «هنالك» إشارة إلى الموضع ، والوقت الذي يريد إظهار كرامة أوليائه ، وإذلال أعدائه.

وقيل : المعنى في مثل تلك الحالة الشديدة يتولّى الله ، ويلتجىء إليه كلّ محتاج مضطرّ ، يعني أن قوله : (يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً) فكأنّه ألجأ إليها ذلك الكافر ، فقالها جزعا ممّا ساقه إليه شؤم كفره ، ولولا ذلك ، لم يقلها.

وقيل : المعنى : هنالك الولاية لله ينصر فيها أولياءه المؤمنين على الكفرة ، وينتقم لهم ويشفي صدورهم من [أعدائهم](٣) ، يعني أنّه تعالى نصر المؤمن بما فعل [بأخيه الكافر و](٤) بصدق قوله : (فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ).

ويعضده قوله : (هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً) أي : لأوليائه ، وقيل : «هنالك» إشارة إلى الدّار الآخرة ، أي : في تلك الدّار الآخرة الولاية لله كقوله : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر : ١٦].

وقوله : (هُوَ خَيْرٌ ثَواباً) أي : خير في الآخرة لمن آمن به ، والتجأ إليه ، (وَخَيْرٌ عُقْباً) أي : هو خير عاقبة لمن رجاه ، وعمل لوجهه.

__________________

(١) ينظر : البحر ٦ / ١٢٤ ، ومعاني القرآن للفراء ٢ / ١٤٦ ، والدر المصون ٤ / ٤٦٠.

(٢) ينظر : السبعة ٣٩٢ ، والتيسير ١٤٣ ، والحجة ٤١٩ ، والإتحاف ٢ / ٢١٦ والحجة للقراء السبعة ٥ / ١٥٠ ، وإعراب القراءات السبع ١ / ٣٩٧.

(٣) في ب : أعدائه.

(٤) سقط من أ.

٤٩٨

قوله تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (٤٥) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (٤٦) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (٤٧) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (٤٨) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (٤٩)

قوله تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا) الآية.

أي : واضرب ، يا محمد ، لهؤلاء الذين افتخروا بأموالهم ، وأنصارهم على فقراء المسلمين (مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا) ثم ذكر المثل فقال : (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ).

قوله : (كَماءٍ) : فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون خبر مبتدأ محذوف ، فقدّره ابن عطيّة هي ، أي : الحياة الدنيا.

والثاني : أنه متعلق بمعنى المصدر ، أي : ضربا كماء ، قاله الحوفيّ. وهذا بناء منهما على أن «ضرب» هذه متعدية لواحد فقط.

والثالث : أنه في موضع المفعول الثاني ل «اضرب» لأنها بمعنى «صيّر» وقد تقدم.

قال أبو حيان بعد ما نقل قولي ابن عطيّة والحوفيّ : «وأقول : إنّ «كماء» في موضع المفعول الثاني لقوله «واضرب» ، أي : وصيّر لهم مثل الحياة ، أي : صفتها شبه ماء». قال شهاب الدين : وهذا قد سبقه إليه أبو البقاء (١).

و«أنزلناه» صفة ل «ماء».

قوله : (فَاخْتَلَطَ بِهِ) يجوز في هذه الباء وجهان :

أحدهما : أن تكون سببية.

الثاني : أن تكون متعدّية ، قال الزمخشريّ : «فالتفّ بسببه ، وتكاثف حتى خالط بعضه بعضا ، وقيل : تجمع الماء في النبات ؛ حتى روي ورفّ رفيفا ، وكان حق اللفظ على هذا التفسير: فاختلط بنبات الأرض ، ووجه صحته : أنّ كلّ مختلطين موصوف كل واحد منهما بصفة الآخر».

قوله : (فَأَصْبَحَ هَشِيماً) «أصبح» يجوز أن تكون على بابها ؛ فإنّ أكثر ما يطرق من الآفات صباحا ؛ كقوله : (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ) [الكهف : ٤٢] ويجوز أن تكون بمعنى

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ١٠٤.

٤٩٩

«صار» من غير تقييد بصباح ؛ كقوله : [المنسرح]

٣٥٣٣ ـ أصبحت لا أحمل السّلاح ولا

أملك رأس البعير إن نفرا (١)

والهشيم : واحده هشيمة ، وهو اليابس ، وقال الزجاج (٢) وابن قتيبة : كل ما كان رطبا ، فيبس ، ومنه (كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) [القمر : ٣١] ومنه : هشمت الفتّ والهشيم :المتفتّت المتكسّر ، ومنه هشمت أنفه ، وهشم الثّريد : إذا فتّه.

قال : [الكامل]

٣٥٣٤ ـ عمرو الّذي هشم الثّريد لقومه

ورجال مكّة مسنتون عجاف (٣)

قوله : «تذروه» صفة ل «هشيما» والذّرو : التفريق ، وقيل : الرفع.

والعامة «تذروه» بالواو ، وقرأ (٤) عبد الله «تذريه» من الذّري ، ففي لامه لغتان : الواو والياء ، وقرأ ابن عبّاس «تذريه» بضمّ التاء من الإذراء ، وهذه تحتمل أن تكون من الذّرو ، وأن تكون من الذّري ، والعامة على «الرّياح» جمعا ، وزيد بن عليّ ، والحسن ، والنخعيّ في آخرين «الرّيح» بالإفراد.

فصل في معنى ألفاظ الآية

و«مثل» معنى المثل ، قال ابن عباس : يعني بالماء المطر ، نزل من السّماء (فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) خرج من كل لون وزهرة ، «فأصبح» عن قريب «هشيما» يابسا (٥).

وقال الضحاك : كسيرا.

«تذروه الرّياح» (٦).

قال ابن عباس : تذريه (٧).

وقال أبو عبيدة : تفرّقه (٨).

وقال القتبي : تنسفه (٩).

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : معاني القرآن للزجاج ٣ / ٢٩١.

(٣) البيت لمطرود بن كعب الخزاعي ، ينظر : الاشتقاق ص ١٣ ، وأمالي المرتضى ٢ / ٢٦٨ ، معجم الشعراء ص ٢٠٠ ، ولعبد الله بن الزبعرى في أمالي المرتضى ٢ / ٢٦٩ ، ولسان العرب «سنت» ، «هشم» ، المقاصد النحوية ٤ / ١٤٠ ، الإنصاف ٢ / ٦٦٣ ، خزانة الأدب ١١ / ٣٦٧ ، رصف المباني ص ٣٥٨ ، وسر صناعة الإعراب ٢ / ٥٣٥ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٢٨٩ ، وشرح المفصل ٩ / ٣٦ ، والمقتضب ٢ / ٣١٢ ، المنصف ٢ / ٢٣١.

(٤) ينظر في قراءاتها : الشواذ ٨٠ ، والقرطبي ١ / ٢٦٨ ، والبحر ٦ / ١٢٦ ، والدر المصون ٤ / ٤٦١.

(٥) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٦٤).

(٦) ينظر : المصدر السابق.

(٧) ينظر : البغوي (٣ / ١٦٤).

(٨) ينظر : المصدر السابق.

(٩) ينظر : المصدر السابق.

٥٠٠