اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٢

وقيل : تزورّ بمعنى تنقبض من «ازورّ» أي : انقبض ، ومنه قول عنترة : [الكامل]

٣٤٩٥ ـ فازورّ من وقع القنا بلبانه

وشكا إليّ بعبرة وتحمحم (١)

وقيل : مال ، ومثله قول بشر بن أبي خازم : [الوافر]

٣٤٩٦ ـ يؤمّ بها الحداة مياه نخل

وفيها عن أبانين ازورار (٢)

أي : ميل.

وأما «تزاور» و«تزّاور» فأصلهما «تتزاور» بتاءين ، فالكوفيون حذفوا إحدى التاءين ، وبعضهم أدغم ، وقد تقدّم نظائر هذا في (تُظْهِرُونَ) [الآية : ٨٥ من البقرة] و (تَسائَلُونَ) [النساء : ١] ونحوهما ، ومعنى ذلك الميل أيضا.

وقرأ أبو رجاء ، والجحدريّ ، وابن أبي عبلة ، وأيوب السّختيانيّ «تزوارّ» بزنة «تحمارّ» وعبد الله ، وأبو المتوكل «تزوئرّ» بهمزة مكسورة قبل راء مشددة ، وأصلها «تزوارّ» كقراءة أبي رجاء ، ومن معه ، وإنما كره الجمع بين الساكنين ، فأبدل الألف همزة على حدّ إبدالها في الجان [الرحمن : ٣٩] و (الضَّالِّينَ) [الفاتحة : ٧]. وقد تقدم تحقيقه آخر الفاتحة.

و (إِذا طَلَعَتْ) معمول ل «ترى» أو ل «تزاور» وكذا «إذا غربت» معمول للأول ، أو للثاني ، وهو «تقرضهم» والظاهر تمحّضه للظرفية ، ويجوز أن تكون شرطية.

ومعنى «تقرضهم» : تقطعهم ، لا تقربهم ؛ إذ القرض القطع ؛ من القطيعة والصّرم ، قال ذو الرمّة : [الطويل]

٣٤٩٧ ـ إلى ظعن يقرضن أقواز مشرف

شمالا ، وعن أيمانهنّ الفوارس (٣)

والقرض : القطع ، وتقدم تحقيقه في البقرة ، وقال الفارسي : «معنى تقرضهم : تعطيهم من ضوئها شيئا ، ثم تزول سريعا ، كالقرض يستردّ» وقد ضعّف قوله ؛ بأنّه كان ينبغي أن يقرأ «تقرضهم» بضمّ التاء ، لأنّه من أقرض.

وقرىء (٤) «يقرضهم» بالياء من تحت ، أي : الكهف ، وفيه مخالفة بين الفعلين

__________________

 ـ وخفض عني الصوت أقبلت مشيه الـ

ـحباب وشخصي خشية الحي أزور

ينظر : ديوانه ٦٥ ، البحر ٦ / ٩١ ، القرطبي ١٠ / ٢٤٠ ، روح المعاني ١٥ / ٢٢٢ ، الدر المصون ٤ / ٤٤١.

(١) البيت من معلقته ينظر : ديوانه ٣٠ ، شرح القصائد العشر ٣٧٣ ، البحر المحيط ٦ / ٧٩٢ القرطبي ١١ / ١٩ ، الدر المصون ٤ / ٤٤١.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ١٥ / ١٣٩ ، البحر المحيط ٦ / ٩٢ ، روح المعاني ١٥ / ٢٢٢ ، الدر المصون ٤ / ٤٤١.

(٣) ينظر البيت في ديوانه ٤٠٣ ، مجاز القرآن ١ / ٣٩٦ ، الطبري ١٥ / ١٤٠ ، البحر ٦ / ٩٢ ، المخصص ١٢ / ١١٤ ، التهذيب واللسان «قرض» الدر المصون ٤ / ٤٤٢ الصحاح والتاج [قرض].

(٤) ينظر : القرطبي ١٠ / ٢٤٠ ، والبحر ٦ / ١٠٤ ، والدر المصون ٤ / ٤٤٢.

٤٤١

وفاعلهما ، فالأولى أن يعود على الشمس ، ويكون كقوله : [المتقارب]

٣٤٩٨ ـ ...........

ولا أرض أبقل إبقالها (١)

وهو قول ابن كيسان.

و (ذاتَ الْيَمِينِ) و (ذاتَ الشِّمالِ) ظرفا مكان بمعنى جهة اليمين ، وجهة الشّمال.

فصل

قال المفسرون : «تزاور» بمعنى «تميل» وتعدل عن كهفهم (ذاتَ الْيَمِينِ) ، أي : جهة ذات اليمين ، وأصله أنّ ذات اليمين صفة أقيمت مقام الموصوف ؛ لأنّها تأنيث «ذو» في قولهم : «رجل ذو مال ، وامرأة ذات مال» ؛ فكأنّه قال : تزاور عن كهفهم جهة ذات اليمين ، (وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ).

قال الكسائيّ : قرضت المكان ، أي : عدلت عنه.

وقال أبو عبيدة : القرض في أشياء ، منها القطع ، وكذلك السّير في البلاد ، إذا قطعتها ؛ تقول لصاحبك : هل وردت [موضع](٢) كذا؟ فيقول المجيب : إنما قرضته.

فقوله : (تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ) ، أي : تعدل عن سمت رؤوسهم إلى جهة الشّمال.

ثم هاهنا قولان :

الأول : قال ابن قتيبة وغيره : كان كهفهم مستقبل بنات نعش ، لا تقع فيه الشمس عند الطّلوع ، ولا عند الغروب ، ولا فيما بين ذلك وكان الهواء الطيّب والنّسيم الموافق يصل إليهم ، فلا جرم بقيت أجسادهم مصونة عن العفونة والفساد.

والثاني : أن الله تعالى منع ضوء الشمس من الوقوع عليهم عند طلوعها ، وكذا عند غروبها ، وكان ذلك فعلا خارقا للعادة ، وكرامة عظيمة ، خصّ الله بها أصحاب الكهف ، قاله الزجاج ، واحتجّ على صحّته بقوله : (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) ولو كان الأمر كما ذكره أصحاب القول الأول ، لكان ذلك أمرا معتادا مألوفا ، ولم يكن من آيات الله تعالى.

ثم قال تعالى : (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) أي متّسع من الكهف ، وجمعها فجوات.

قال أبو عبيدة : ومنه الحديث : فإذا وجد فجوة نصّ (٣).

وقال غيره : الفجوة المتّسع من الفجاء ، وهو تباعد ما بين الفخذين ، يقال : رجل أفجأ ، وامرأة فجواء ، وجمع الفجوة فجاء كقصعة وقصاع.

وقوله : (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) جملة حالية ، أي : نفعل هذا مع اتساع مكانهم ، وهو أعجب لحالهم ؛ إذ كان ينبغي أن تصيبهم الشمس لا تساع مكانهم.

__________________

(١) تقدم.

(٢) في ب : مكان.

(٣) ينظر : تفسير الرازي (٢١ / ٨٥).

٤٤٢

فصل

قال المفسرون : اختار الله تعالى لهم مضجعا في مقناة لا تدخل عليهم الشمس ، فتؤذيهم بحرّها ، وتغيّر ألوانهم ، وهم في متّسع ينالهم برد الرّيح ، ويدفع عنهم كرب الغار.

قوله : «ذلك» مبتدأ أشأر به إلى جميع ما تقدم من قصّتهم.

وقيل : «ذلك» إشارة إلى الحفظ الذي حفظهم الله تعالى في ذلك الغار تلك المدّة الطويلة.

قوله : (مِنْ آياتِ اللهِ) العجيبة الدّالة على قدرته ، وبدائع حكمته ، و (مِنْ آياتِ اللهِ) الخبر ، ويجوز أن يكون «ذلك» خبر مبتدأ محذوف ، أي : الأمر ذلك ، و (مِنْ آياتِ اللهِ) حال. ثم بين تعالى أنه كما أبقاهم هذه المدّة الطويلة مصونين عن الموت والهلاك من لطفه وكرمه ، فكذلك رجوعهم أوّلا عن الكفر ، ورغبتهم في الإيمان كان بإعانة الله ولطفه ؛ فقال : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) مثل أصحاب الكهف (وَمَنْ يُضْلِلْ) ، أي : يضلله الله ، ولم يرشده ؛ ك «دقيانوس» وأصحابه (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا) معينا «مرشدا».

قوله تعالى : (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً)(١٨)

قوله : (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً) أي : لو رأيتهم ، لحسبتهم.

وقال شهاب الدّين : لا حاجة إلى هذا التقدير.

(أَيْقاظاً) : جمع «يقظ» بضم القاف ، ويجمع على يقاظ ، ويقظ وأيقاظ ، كعضد وأعضاد ، ويقظ ويقاظ ، كرجل ورجال ، وظاهر كلام الزمخشريّ أنه يقال : «يقظ» بالكسر ؛ لأنه قال : وأيقاظ جمع «يقظ» كأنكاد في «نكد».

وقال الأخفش ، وأبو عبيدة ، والزجاج : أيقاظ جمع يقظ ويقظان.

وأنشدوا [لرؤبة](١) : [الرجز]

٣٤٩٩ ـ ووجدوا إخوانهم أيقاظا

 ........... (٢)

وقال البغوي (٣) : أيقاظا جمع يقيظ ويقظ ، واليقظة : الانتباه عند النّوم.

__________________

(١) في أ: ذو الرمة.

(٢) صدر بيت وعجزه :

وسيف غياظ لهم غياظا

ينظر : مجاز القرآن ١ / ٣٩٧ ، والشطران في ديوان العجاج ٨١ ـ ٨٢ ، ومعاني القرآن وإعرابه ٣ / ٢٧٤ ، والطبري ٨ / ١٩٤ ، والرازي ٢١ / ٨٥.

(٣) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٥٤.

٤٤٣

قال الواحديّ (١) : وإنما يحسبون أيقاظا ؛ لأنّ أعينهم مفتحة ، وهم نيام.

وقال الزجاج : لكثرة تقلبهم يظنّ أنهم أيقاظ ؛ لقوله تعالى : (وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ) والرقود جمع راقد ، كقاعد وقعود.

فصل في مدة تقليبهم

اختلفوا في مقدار مدّة التّقليب (٢) :

فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ : «أنّ لهم في كلّ عام تقليبتين» (٣) وعن مجاهد : يمكثون رقودا على أيمانهم تسع سنين ، ثم ينقلبون على شمائلهم ، فيمكثون رقودا تسع سنين (٤).

وقيل : لهم تقليبة واحدة في يوم عاشوراء.

قال ابن الخطيب (٥) : وهذه التقديرات لا سبيل للعقل إليها ، والقرآن لا يدل عليها ، وما جاء فيه خبر صحيح ، فكيف يعرف؟ وقال ابن عباس : فائدة تقليبهم ؛ لئلا تأكل الأرض لحومهم وتبليهم (٦).

قال ابن الخطيب (٧) : عجبت من ذلك ؛ لأنّ الله تعالى قدر على أن يمسك حياتهم ثلاثمائة سنة وأكثر ، فلم لا يقدر على حفظ أجسامهم من غير تقليب؟!.

قوله : (وَنُقَلِّبُهُمْ) قرأ العامة «نقلّبهم» مضارعا مسندا للمعظّم نفسه.

وقرىء (٨) أيضا بالياء من تحت ، أي : الله أو الملك ، وقرأ الحسن : «يقلبهم» بالياء من تحت ساكن القاف ، مخفف اللام ، وفاعله ، إمّا الله أو الملك.

وقرأ أيضا «وتقلّبهم» بفتح التاء ، وضمّ اللام مشددة مصدر تقلّب كقوله : (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) [الشعراء : ٢١٩] ونصب الباء ، وخرّجه أبو الفتح على إضمار فعل ، أي : ونرى تقلّبهم ، أو نشاهد تقلّبهم ، وروي عنه أيضا رفع الباء على الابتداء ، والخبر الظرف بعده ،

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ٨٦.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ٨٦.

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٥٤) عن أبي هريرة ومثله عن ابن عباس ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٩١) وعزاه إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٩١) وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وينظر : تفسير الرازي (٢١ / ٨٦).

(٥) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ٨٦.

(٦) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٣٥٤) والرازي (٢١ / ٨٦) والقرطبي (١٠ / ٢٤١).

(٧) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ٨٦.

(٨) ينظر في قراءاتها : المحتسب ٢ / ٢٦ ، والإتحاف ٢ / ٢١١ ، والشواذ ٧٨ ، والكشاف ٢ / ٧٠٩ ، والبحر ٦ / ١٠٥ ، والدر المصون ٤ / ٤٤٢.

٤٤٤

ويجوز أن يكون محذوفا ، أي : آية عظيمة. وقرأ (١) عكرمة «وتقلبهم» بتاء التأنيث مضارع «قلب» مخفّفا ، وفاعله ضمير الملائكة المدلول عليهم بالسّياق.

وقوله : «ذات» منصوب على الظّرف ، لأنّ المعنى : ونقلّبهم من ناحية اليمين أو على ناحية «اليمين» كما تقدّم في قوله : تزاور (عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ).

وقوله : (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ).

قرأ العامة «وكلبهم» وقرأ جعفر (٢) الصادق «كالبهم» أي : صاحب كلبهم كلابن وتامر ، ونقل أبو عمر الزاهد غلام ثعلب «وكالئهم» بهمزة مضمومة اسم فاعل من كلأ يكلأ أي: حفظ يحفظ.

و«باسط» اسم فاعل ماض ، وإنما عمل على حكاية الحال ، والكسائيّ يعمله ، ويستشهد بالآية.

والوصيد : الباب ؛ قاله ابن عبّاس والسديّ. وقيل : العتبة.

والكهف لا يكون له باب ، ولا عتبة ، وإنما أراد موضع الباب.

وقال الزجاج : الوصيد فناء البيت ، وفناء الدّار.

وقيل : الصّعيد والتّراب.

قال الشاعر : [الطويل]

٣٥٠٠ ـ بأرض فضاء لا يسدّ وصيدها

عليّ ومعروفي بها غير منكر (٣)

وجمعه : وصائد ووصد.

وقيل : الوصيد : الصّعيد والتّراب.

قال يونس ، والأخفش ، والفراء : الأصيد والوصيد لغتان ؛ مثل : الوكاف والإكاف.

وقال مجاهد ، والضحاك : «الوصيد» : الكهف (٤).

وأكثر المفسرين على أنّ الكلب كان من جنس الكلاب.

وروي عن ابن جريج : أنه كان أسدا ، وسمّي الأسد كلبا (٥) ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا على عتبة بن أبي لهب ، فقال : «اللهم سلّط عليه كلبا من كلابك» فافترسه الأسد (٦).

__________________

(١) نسبها في الإتحاف ٢ / ٢١١ إلى الحسن.

(٢) ينظر : البحر ٦ / ١٠٥ ، والدر المصون ٤ / ٤٤١.

(٣) البيت لزهير ينظر : البحر المحيط ٦ / ٩٢ ، الكشاف (٢ / ٧١٠) ، القرطبي ١٠ / ٢٤٣ ، روح المعاني ١٥ / ٢٢٦ ، العمدة ٢ / ٨١ ، الدر المصون ٤ / ٤٤٣.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ١٩٥) عن مجاهد وقتادة.

(٥) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٩١) وعزاه إلى ابن المنذر.

(٦) تقدم تخريجه.

٤٤٥

قال ابن عباس : كان كلبا أغرّ ، واسمه قطمير ، وعن عليّ : اسمه «ريّان» (١).

وقال الأوزاعي : يشور (٢) قال السدي : يور (٣).

وقال كعب : صهبا (٤).

وقال مقاتل : كان كلبا أصفر (٥).

وقال الكلبيّ : لونه كالحليج (٦) ، وقيل غير ذلك.

قال خالد بن معدان : ليس في الجنّة من الدوابّ إلّا كلب أصحاب الكهف ، وحمار بلعام(٧).

قال ابن عباس وأكثر المفسرين : هربوا من ملكهم فمرّوا براع ، معه كلب ، فتبعهم على دينهم ، ومعه كلبه (٨).

وقال الكبيّ : مرّوا بكلب فنبح عليهم ، فطردوه ، فعاد ، ففعلوا ذلك مرارا ، فقال لهم الكلب : لا تخشوا جانبي ؛ فإنّي أحبّ أحبّاء الله ، فناموا ؛ حتّى أحرسكم (٩).

فصل

قال عبيد بن عمير : كان ذلك كلب صيدهم ، ومعنى (باسِطٌ ذِراعَيْهِ) ، أي : ألقاها على الأرض مبسوطتين ، غير مقبوضتين.

ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اعتدلوا في السّجود ، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب»(١٠).

قال المفسرون : كان الكلب قد بسط ذراعيه ، وجعل وجهه عليهما.

قوله : (لَوِ اطَّلَعْتَ) العامّة على كسر الواو من «لو اطّلعت» على أصل التقاء الساكنين ، وقرأها (١١) مضمومة أبو جعفر ، وشيبة ، ونافع ، وابن وثّاب ، والأعمش ؛ تشبيها بواو الضمير ، وتقدّم تحقيقه.

قوله : (لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً) لما ألبسهم الله من الهيبة ؛ حتّى لا يصل إليهم أحد ؛ حتى يبلغ الكتاب أجله ، فيوقظهم الله من رقدتهم.

«فرارا» يجوز أن يكون منصوبا على المصدر من معنى الفعل قبله ؛ لأنّ التولّي

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٥٤) والقرطبي (١٠ / ٢٤١).

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) ينظر : المصدر السابق.

(٥) ينظر : المصدر السابق.

(٦) ينظر : المصدر السابق.

(٧) ينظر : تفسير البغوي (٣ / ١٥٤) ، القرطبي (١٠ / ٢٤١).

(٨) ينظر : المصدر السابق.

(٩) ينظر : المصدر السابق.

(١٠) تقدم تخريجه.

(١١) ينظر : الإتحاف ٢ / ٢١١ ، والقرطبي ١٠ / ٢٤٣ ، والبحر ٦ / ١٠٦ ، والدر المصون ٤ / ٤٤٣.

٤٤٦

والفرار من واد واحد ، ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال ، أي : فارّا ، ويكون حالا مؤكدة ، ويجوز أن يكون مفعولا له.

قوله : (وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) قرأ ابن كثير (١) ، ونافع «لملّئت» بالتشديد على التكثير. وأبو جعفر ، وشيبة كذلك ، إلا أنه بإبدال الهمزة ياء ، والزهري بتخفيف اللام والإبدال ، وهو إبدال قياسي والباقون بتخفيف اللام ، و«رعبا» مفعول ثان : وقيل : تمييز.

قال الأخفش : الخفيفة أجود في كلام العرب.

يقولون : ملأتني رعبا ، ولا يكادون يعرفون ملّأتني ؛ ويدل على هذا أكثر استعمالهم ؛ كقوله : [الوافر]

٣٥٠١ ـ فتملأ بيتنا أقطا وسمنا

 ........... (٢)

وقول الآخر : [الطويل]

٣٥٠٢ أـ ومن مالىء عينيه من شيء غيره

إذا راح نحو الجمرة البيض كالدّمى

وقال الآخر : [الرجز]

٣٥٠٢ ب ـ لا تملأ الدّلو وعرّق فيها (٣)

وقال الآخر : [الرجز]

٣٥٠٣ ـ امتلأ الحوض وقال قطني (٤)

وقد جاء التثقيل أيضا ، أنشدوا للمخبّل السعديّ : [الطويل]

٣٥٠٤ ـ وإذ قتل النّعمان بالنّاس محرما

 ........... (٥)

__________________

(١) ينظر في قراءاتها : السبعة ٣٨٩ ، والحجة ٤١٣ ، والنشر ٢ / ٣١٠ ، والتيسير ١٤٣ ، والإتحاف ٢ / ٢١١ ، والحجة للقراء السبعة ٥ / ١٣٤ ، والبحر ٦ / ١٠٦.

(٢) صدر بيت لامرىء القيس وروايته :

فتوسع أهلها ........

وحسبك من غنى شبع وريّ

ينظر : ديوانه (١٣٧) ، والرازي ٢١ / ٨٦.

(٣) ينظر : الرازي ٢١ / ٨٧.

(٤) صدر بيت وعجزه :

مهلا رويدا قد ملأت بطني

ينظر : إصلاح المنطق ص ٥٧ ، ٣٤٢ ، والإنصاف ص ١٣٠ ، وأمالي المرتضى ٢ / ٣٠٩ ؛ وتخليص الشواهد ص ١١١ ؛ وجواهر الأدب ص ١٥١ ؛ والخصائص ١ / ٢٣ ؛ ورصف المباني ص ٣٦٢ ؛ وسمط اللآلي ص ٤٧٥ ؛ وشرح الأشموني ١ / ٥٧ ؛ وشرح المفصّل ١ / ٨٢ ، ٢ / ١٣١ ، ٣ / ١٢٥ ؛ وكتاب اللامات ص ١٤٠ ؛ ولسان العرب (قطط) ، (قطن) ؛ ومجالس ثعلب ص ١٨٩ ؛ والمقاصد النحويّة ١ / ٣٦١ ، والرازي ٢١ / ٨٧.

(٥) صدر بيت وعجزه :

فملىء من عوف بن كعب سلاسله

ينظر : اللسان (حرم) وفيه «فتك» بدلا من «قتل» ، والرازي ٢١ / ٨٧.

٤٤٧

وقرأ ابن عامر والكسائي «رعبا» بضمّ العين في جميع القرآن ، والباقون بالإسكان.

فصل في سبب الرعب

اختلفوا في ذلك الرّعب (١) كان لماذا؟ فقيل : من وحشة المكان ، وقال الكلبي : لأنّ أعينهم مفتّحة ، كالمستيقظ الذي يريد أن يتكلّم ، وهم نيام (٢).

وقيل : لكثرة شعورهم ، وطول أظفارهم ، وتقلّبهم من غير حسّ ، كالمستيقظ.

وقيل : إنّ الله تعالى ، منعهم بالرّعب ؛ لئلّا يراهم أحد.

وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس ، قال : غزونا مع معاوية نحو الرّوم ، فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف ، فقال معاوية : لو كشف لنا عن هؤلاء ، لنظرنا إليهم ، فقال ابن عبّاس : قد منع الله ذلك من هو خير منك : (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً) ، فبعث معاوية ناسا ، فقال : اذهبوا ، فانظروا ، فلمّا دخلوا الكهف ، بعث الله عليهم ريحا ، أخرجتهم (٣).

قوله تعالى : (وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً)(٢٠)

قوله : (وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ) : الكاف نعت لمصدر محذوف ، أي : كما أنمناهم تلك النّومة ، كذلك بعثناهم ؛ ادّكارا بقدرته ، والإشارة ب «ذلك» إلى المصدر المفهوم من قوله «فضربنا» ، أي : مثل جعلنا إنامتهم هذه المدة المتطاولة آية ، جعلنا بعثهم آية ، قاله الزجاج والزمخشريّ.

قوله : (لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ) متعلقة بالبعث ، وقيل : هي للصّيرورة ؛ لأن البعث لم يكن للتساؤل ، قاله ابن عطيّة ، والصحيح أنّها على بابها من السببية.

قوله : (كَمْ لَبِثْتُمْ) «كم» منصوبة على الظرف ، والمميز محذوف ، تقديره : كم يوما ؛ لدلالة الجواب عليه ، و«أو» في قوله : (أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) للشكّ منه ، وقيل : للتفصيل ، أي : قال بعضهم كذا ، وبعضهم كذا.

__________________

(١) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٥٥.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٥٥).

(٣) ذكره الماوردي من «تفسيره» (٣ / ٢٩٣).

٤٤٨

فصل

المعنى كما أنمناهم في الكهف ، وحفظنا أجسامهم من البلى ، طول الزمان ، فكذلك بعثناهم من النّوم الذي يشبه الموت ؛ (لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ) ليسأل بعضهم بعضا ، واللام لام العاقبة ؛ لأنّهم لم يبعثوا للسّؤال.

فإن قيل : هل يجوز أن يكون الغرض من بعثهم أن يتساءلوا ويتنازعوا؟.

فالجواب : لا يبعد ذلك ؛ لأنّهم إذا تساءلوا ، انكشف لهم من قدرة الله أمور عجيبة ، وذلك أمر مطلوب.

قاله ابن الخطيب (١).

ثم قال تعالى : (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) وهو رئيسهم ، واسمه مكسلمينا : (كَمْ لَبِثْتُمْ) في نومكم ، أي : كم مقدار لبثنا في هذا الكهف (قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ).

قال المفسرون (٢) : إنهم دخلوا الكهف غدوة وبعثهم الله في آخر النّهار ؛ فلذلك قالوا : يوما ، فلما رأوا الشمس ، قالوا : أو بعض يوم ، فلما نظروا إلى شعورهم وأظفارهم «قالوا» أي : علموا أنّهم لبثوا أكثر من يوم : (قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ).

قيل : إنّ رئيسهم مكسلمينا ، لما [رأى](٣) الاختلاف بينهم قال : دعوا الخلاف.

قوله : (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ) يعني يمليخا ، قاله ابن عباس (٤).

قوله : «بورقكم» حال من «أحدكم» ، أي : مصاحبا لها ، وملتبسا بها ، وقرأ (٥) أبو عمرو ، وحمزة ، وأبو بكر بفتح الواو وسكون الراء والفكّ ، وباقي السبعة بكسر الراء ، والكسر هو الأصل ، والتسكين [تخفيف] ك «نبق» في نبق ، وحكى الزجاج (٦) كسر الواو ، وسكون الراء ، وهو نقل ، وهذا كما يقال : كبد وكبد وكبد.

وقرأ أبو رجاء ، وابن محيصن (٧) كذلك ، إلّا أنه بإدغام القاف ، واستضعفوها من حيث الجمع بين ساكنين على غير حدّيهما ، وقد تقدّم ذلك في المتواتر ما يشبه هذه من نحو (تُسْئَلُونَ عَمَّا) [في الآية : ٢٧١ من البقرة] و (لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ) [النساء : ١٥٤] و (الْخُلْدِ جَزاءً) و (فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) وروي عن ابن محيصن ؛ أنّه لمّا أدغم كسر الراء فرارا ممّا ذكرنا.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ٨٧.

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) في أ: سمع.

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٥٥).

(٥) ينظر في قراءاتها السبعة ٣٨٩ ، والتيسير ١٤٣ ، والنشر ٢ / ٣١٠ ، والحجة ٤١٣ ، والإتحاف ٢ / ٢١٢ ، والحجة للقراء السبعة ٥ / ١٣٥ ، ١٣٦ ، والبحر ٦ / ١٠٧ ، والدر المصون ٤ / ٤٤٣.

(٦) ينظر : معاني القرآن للزجاج ٣ / ٢٧٥.

(٧) ينظر : البحر ٦ / ١٠٧ ، والدر المصون ٤ / ٤٤٤.

٤٤٩

وقرأ (١) أمير المؤمنين «بوارقكم» اسم فاعل ، أي : صاحب ورق ، ك «لابن» وقيل : هو اسم جمع كجامل وباقر.

والورق : الفضّة المضروبة ، وقيل : الفضّة مطلقا مضروبة كانت ، أو غير مضروبة ؛ ويدلّ عليه ما روي أنّ عرفجة اتّخذ أنفا من ورق (٢).

فصل في لغات «الورق»

قال الفراء والزجاج : فيه ثلاث لغات : ورق ، وورق ، وورق ، ك «كبد وكبد وكبد» وكسر الواو أردؤها يقال لها : «الرّقة» بحذف الواو ، وفي الحديث : «في الرّقة ربع العشر» (٣) وجمعت شذوذا جمع المذكر السالم.

فصل

قال المفسرون (٤) : كان معهم دراهم عليها صورة الملك الذي كان في زمانهم ، ثم قال تعالى: (إِلَى الْمَدِينَةِ) وهي الّتي يقال لها اليوم (طرسوس) ، وكان اسمها في الجاهلية «أفسوس» ، وهذه الآية تدل على أنّ السّعي في إمساك الزّاد أمر مشروع.

قوله : (فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً) [يجوز في «أي» أن تكون استفهامية ، وأن تكون موصولة. قال الزجاج : إنها رفع بالابتداء و«أزكى» خبرها ، وتقدم الكلام على نظيره في قوله : (أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ، ولا بد هاهنا من حذف «أيّ» أي : أيّ أهلها أزكى و«طعاما»](٥) تمييز ، أي : لا يكون من غصب ، أي : سبب حرام.

وقيل : لا حذف ، والضمير عائد على الأطعمة المدلول عليها من السّياق.

قيل : أمروه أن يطلب ذبيحة مؤمن ، ولا يكون من ذبيحة من يذبح لغير الله ، وكان فيهم مؤمنون ينكرون إيمانهم.

فصل في معنى «أزكى»

قال الضحاك : أزكى طعاما ، أي : أطيب (٦).

وقال مقاتل : أجود (٧).

وقال عكرمة : أكثر (٨).

__________________

(١) ينظر : البحر ٦ / ١٠٧ ، والدر المصون ٤ / ٤٤٤.

(٢) تقدم.

(٣) أخرجه أحمد (٨ / ١١ ـ ١٢).

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ٨٨.

(٥) سقط من أ.

(٦) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٣ / ٢٩٤).

(٧) ينظر : المصدر السابق.

(٨) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٢٠٣) وينظر : المصدر السابق.

٤٥٠

وأصل الزّكاة النّمو والزيادة.

وقيل : أرخص طعاما (فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ) أي : قوت وطعام تأكلونه.

قوله : (وَلْيَتَلَطَّفْ) قرأ العامة بسكون لام الأمر ، والحسن (١) بكسرها على الأصل ، [وقتيبة الميّال](٢)(وَلْيَتَلَطَّفْ)(٣) مبنيا للمفعول ، وأبو جعفر وأبو صالح ، وقتيبة (وَلا يُشْعِرَنَّ) بفتح الياء وضمّ العين.

فإن قيل : «بكم» «أحد» فاعل به.

فالجواب : معنى (وَلْيَتَلَطَّفْ) أي : يكون في سترة ، وكتمان في دخول المدينة ، قاله الزمخشريّ ، ويجوز أن يعود على قومهم ؛ لدلالة السّياق عليهم.

وقرأ (٤) زيد بن عليّ «يظهروا» مبنيّا للمفعول.

فصل

(يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) ، أي : يطّلعوا عليكم ، ويعلموا مكانكم.

وقيل : أو يشرفوا على مكانكم أو على أنفسكم من قولهم : ظهرت على فلان ، إذا علوته ، وظهرت على السّطح ، إذا صرت فوقه ، ومنه قوله تعالى : (فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) [الصف : ١٤] أي عالين.

وقوله : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) [التوبة : ٣٣] أي : ليعليه.

قوله : (يَرْجُمُوكُمْ). قال ابن جريج : يشتموكم ، ويؤذوكم بالقول (٥) ، وقيل : يقتلوكم بالحجارة ، والرجم بمعنى القتل كثير. قال تعالى : (وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ) [هود : ٩١] وقوله : (أَنْ تَرْجُمُونِ) [الدخان : ٢٠] والرجم أخبث القتل ، قاله الزجاج.

(أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ) أي يردّوكم إلى دينهم.

قوله : (وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) أي إن رجعتم إلى دينهم ، لم تسعدوا في الدنيا ، ولا في الآخرة ، ف «إذا» جواب وجزاء ، أي : إن يظهروا ، فلن تفلحوا.

وقال الزجاج : لن تفلحوا ، إذا رجعتم إلى ملتهم أبدا ، فإن قيل : أليس أنّهم لو أكرهوا على الكفر ، حتى أظهروا الكفر ، لم يكن عليهم مضرّة ، فكيف قالوا : (وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً)؟.

__________________

(١) ينظر : البحر ٦ / ١٠٧ ، والدر المصون ٤ / ٤٤٤.

(٢) سقط من أ.

(٣) ينظر : البحر ٦ / ١٠٧ ، والدر المصون ٤ / ٤٤٤.

(٤) ينظر : البحر ٦ / ١٠٨ ، والدر المصون ٤ / ٤٤٤.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٢٠٤) وينظر : تفسير الماوردي (٣ / ٢٦٥) والبغوي (٣ / ١٥٥) والقرطبي (١٠ / ٢٤٤).

٤٥١

فالجواب (١) : يحتمل أن يكون المراد أنّهم لو ردّوا إلى الكفر ، وبقوا مظهرين له ، فقد يميل بهم ذلك إلى الكفر ، ويصيروا كافرين حقيقة ، فكان تخوّفهم من هذا الاحتمال.

قوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً)(٢١)

قوله : (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ) : أي : وكما أنمناهم ، وبعثناهم ، لما فيه من الحكم الظاهرة ؛ أعثرنا ، أي : أطلعنا. وتقدّم الكلام على مادّة «عثر» في المائدة.

يقال : عثرت على كذا ، أي : علمته ، وأصله أن من كان غافلا عن شيء فعثر به ، نظر إليه ، فعرفه ، وكان العثار سببا لحصول العلم ، فأطلق اسم السّبب على المسبّب «ليعلموا» متعلق ب «أعثرنا» والضمير : قيل : يعود على مفعول «أعثرنا» المحذوف ، تقديره : أعثرنا النّاس ، وقيل : يعود على أهل الكهف.

فصل في سبب تعرف الناس عليهم

اختلفوا في السّبب الذي عرف الناس به واقعة أصحاب الكهف ، فقيل (٢) : لطول شعورهم ، وأظفارهم ؛ بخلاف العادة ، وظهرت في بشرة وجوههم آثار عجيبة يستدلّ بها على أن مدّتهم طالت طولا بخلاف العادة.

وقيل : لأن أحدهم لما ذهب إلى المدينة ؛ ليشتري الطّعام ، أخرج الدراهم لثمن الطّعام ، فقال صاحب الطعام : هذه النّقود غير موجودة في هذا الزّمان ، وإنها كانت موجودة قبل هذا الوقت بمدّة مديدة ؛ [فلعلك](٣) وجدتّ كنزا ، فحملوه إلى ملك تلك المدينة ، فقال له الملك : أين وجدتّ تلك الدّراهم؟ فقال : بعت بها أمس تمرا ، وخرجنا فرارا من الملك دقيانوس ، فعرف الملك أنّه ما وجد كنزا ، وأنّ الله تعالى بعثه بعد موته.

ومعنى قوله : (لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي : إنما أطلعنا القوم على أحوالهم ؛ ليعلم القوم أنّ وعد الله حقّ بالبعث والنّشر ؛ فإنّ ملك ذلك الزّمان كان منكر البعث ، فجعل الله أمر

الفتية دليلا للملك.

وقيل : اختلف أهل ذلك الزّمان ، فقال بعضهم : الرّوح والجسد يبعثان جميعا.

وقال آخرون : إنّما يبعث الرّوح فقط ، فكان الملك يتضرّع إلى الله تعالى أن يظهر له آية يستدلّ بها على الحقّ في هذه المسألة ، فأطلعه الله تعالى على أصحاب الكهف ، فاستدلّ بهم على صحّة بعث الأجساد ؛ لأنّ انتباههم بعد ذلك النّوم الطويل يشبه من يموت ، ثم يبعث.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ٨٨.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ٨٩.

(٣) في أ: فكأنك.

٤٥٢

قوله : (إِذْ يَتَنازَعُونَ) يجوز أن يعمل فيه «أعثرنا» أو «ليعلموا» أو لمعنى «حقّ» أو ل «وعد» عند من يتّسع في الظرف ، وأمّا من لا يتّسع ، فلا يجوز عنده الإخبار عن الموصول قبل تمام صلته.

واختلف في هذا التّنازع ، فقيل : كانوا يتنازعون في صحّة البعث ، فاستدلّ القائلون بصحّة هذه الواقعة ، وقالوا : كما قدر الله على حفظ أجسادهم مدّة ثلاثمائة وتسع سنين ، فكذلك يقدر على حشر الأجساد بعد موتها.

وقيل : إنّ الملك وقومه ، لما رأوا أصحاب الكهف ، ووقفوا على أحوالهم ، عاد القوم إلى كهفهم ، فأماتهم الله ، فعند هذا اختلف الناس ، فقال قوم : إنّ بعضهم قال : إنّهم نيام ، كالكرّة الأولى.

وقال آخرون : بل الآن ماتوا.

وقيل : إن بعضهم ، قال : سدّوا عليهم باب الكهف ؛ لئلّا يدخل أحد عليهم ، ويقف على أحوالهم.

وقال آخرون : بل الأولى أن يبنى على باب الكهف مسجد ، وهذا القول يدلّ على أنّ هؤلاء القوم كانوا عارفين بالله تعالى ، ويعترفون بالعبادة والصلاة.

وقيل : إنّ الكفار قالوا : إنهم على ديننا ، فنتخذ عليهم بنيانا ، وقال المسلمون [إنهم] على ديننا ، فنتخذ عليهم مسجدا.

وقيل : تنازعوا في مقدار مكثهم.

وقيل : تنازعوا في عددهم ، وأسمائهم.

قوله : «بنيانا» يجوز أن يكون مفعولا به ، جمع بنيانة ، وأن يكون مصدرا.

قوله : (رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ) يجوز أن يكون من كلام الله تعالى ، وأن يكون من كلام المتنازعين فيهم ، ثم قال (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ) قيل : هو الملك المسلم ، واسمه بيدروس وقيل : رؤساء البلد.

قوله «غلبوا» قرأ (١) عيسى الثقفيّ ، والحسن بضمّ الغين ، وكسر اللام.

قوله : (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) يعبد الله فيه ، ونستبقي آثار أصحاب الكهف بسبب ذلك المسجد.

قوله تعالى : (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ

__________________

(١) ينظر : الإتحاف ٢ / ٢١٢ ، والبحر المحيط ٦ / ١٠٩ ، والدر المصون ٤ / ٤٤٤.

٤٥٣

فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً)(٢٢)

قوله : (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ) : قيل : إنّما أتي بالسّين في هذا ؛ لأنّ في الكلام طيّا وإدماجا ، تقديره : فإذا أجبتهم عن سؤالهم عن قصّة أهل الكهف ، فسلهم عن عددهم ، فإنهم سيقولون. ولم يأت بها في باقية الأفعال ؛ لأنها معطوفة على ما فيه السين ، فأعطيت حكمه من الاستقبال.

وقرأ ابن محيصن (١) «ثلاثّ» بإدغام الثاء المثلثة في تاء التأنيث ؛ لقرب مخرجيهما ، ولأنهما مهموسان ، ولأنهما بعد ساكن معتل.

(رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) الجملة في محل رفع صفة ل «ثلاثة».

قوله : (وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ) قرأ ابن كثير (٢) في رواية بفتح الميم ، وهي لغة كعشرة ، وقرأ ابن محيصن (٣) بكسر الخاء والميم ، وبإدغام التاء في السين ، يعني تاء «خمسة» في سين «سادسهم» وهي قراءة ثقيلة جدا ؛ لتوالي كسرتين وثلاث سينات ، قال شهاب الدين : ولا أظن مثل هذا إلّا غلطا على مثله ، وروي عنه إدغام التنوين في السين من غير غنّة.

و«ثلاثة» و«خمسة» و«سبعة» إخبار لمبتدأ محذوف مضمر ، أي : هم ثلاثة ، وهم خمسة ، وهم سبعة ، وما بعد «ثلاثة» و«خمسة» من الجملة صفة لهما ، كما تقدّم ، ولا يجوز أن تكون الجملة حالا ، لعدم عامل فيها ، ولا يجوز أن يكون التقدير : هؤلاء ثلاثة ، وهؤلاء خمسة ، ويكون العامل اسم الإشارة أو التنبيه ، قال أبو البقاء (٤) : «لأنّها إشارة إلى حاضر ، ولم يشيروا إلى حاضر».

قوله : (رَجْماً بِالْغَيْبِ) فيه أربعة أوجه :

أحدها : أنه مفعول من أجله ؛ يقولون ذلك لأجل الرمي بالغيب.

والثاني : أنه في موضع الحال ، أي : ظانّين.

والثالث : أنه منصوب ب «يقولون» لأنه بمعناه.

والرابع : أنه منصوب بمقدر من لفظه ، أي : يرجمون بذلك رجما.

والرّجم في الأصل : الرّمي بالرّجام ، وهي الحجارة الصّغار ، ثم عبّر به عن الظنّ ، قال زهير: [الطويل]

٣٥٠٥ ـ وما الحرب إلّا ما علمتم وذقتم

وما هو عنها بالحديث المرجّم (٥)

__________________

(١) ينظر : المحتسب ٢ / ٢٦ ، والبحر ٦ / ١٠٩ ، والدر المصون ٤ / ٤٤٥.

(٢) ينظر : المحتسب ٢ / ٢٧ ، والبحر ٦ / ١٠٩ ، والدر المصون ٤ / ٤٤٥.

(٣) ينظر : الإتحاف ٢ / ٢١٢ ، والبحر ٦ / ١٠٩ ، والدر المصون ٤ / ٤٤٥.

(٤) ينظر : الإملاء ٢ / ١٠٠.

(٥) تقدم.

٤٥٤

قوله : (وَثامِنُهُمْ) في هذه الواو أوجه :

أحدها : أنها عاطفة ، عطفت هذه الجملة على جملة قول ه «هم سبعة» فيكونون قد أخبروا بخبرين ، الأول : أنهم سبعة رجال على البتّ. والثاني أنّ ثامنهم كلبهم ، وهذا يؤذن بأن جملة قوله (وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) من كلام المتنازعين فيهم.

الثاني : أن الواو للاستئناف ، وأنه من كلام الله تعالى أخبر عنهم بذلك ، قال هذا القائل: وجيء بالواو ؛ لتعطي انقطاع هذا ممّا قبله.

الثالث : أنها الواو الداخلة على الصفة ؛ تأكيدا ، ودلالة على لصق الصفة بالموصوف ، وإليه ذهب الزمخشريّ ، ونظره بقوله : (مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) [الحجر : ٤].

وردّ أبو حيّان عليه : بأنّ أحدا من النحاة لم يقله ، وقد تقدّم الكلام عليه في ذلك.

الرابع : أنّ هذه تسمّى واو الثمانية ، وأنّ لغة قريش ، إذا عدّوا يقولون : خمسة ستّة سبعة ، وثمانية تسعة ، فيدخلون الواو على عقد الثمانية خاصة ، ذكر ذلك ابن خالويه ، وأبو بكر راوي عاصم ، قلت : وقد قال ذلك بعضهم في قوله تعالى : (وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) [الزمر : ٧٣] في الزمر ، فقال : دخلت في أبواب الجنة ؛ لأنها ثمانية ، ولذلك لم يجأ بها في أبواب جهنّم ؛ لأنها سبعة ، وسيأتي هذا ، إن شاء الله.

قال أصحاب هذا القول : إنّ السبعة عند العرب أمثل في المبالغة في العدد ؛ قال تعالى : (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً) [التوبة : ٨٠].

ولما كان كذلك ، فلما وصلوا إلى الثّمانية ، ذكروا لفظا يدلّ على الاستئناف فقالوا : وثمانية ، فجاء هذا الكلام على هذا القانون ، قالوا : ويدلّ عليه قوله تعالى : (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [التوبة : ١١٢] ؛ لأن هذا هو العدد الثامن من الأعداد المتقدمة.

وقوله : (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) [الزمر : ٧٣] لأن أبواب الجنة ثمانية ، وأبواب النّار سبعة ، فلم يأت بالواو فيها.

وقوله : (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) [التحريم : ٥] هو العدد الثامن مما تقدّم.

قال القفال (١) : وهذا ليس بشيء ؛ لقوله تعالى : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ) [الحشر : ٢٣] ولم يذكر الواو في النّعت الثامن.

وقرىء : «كالبهم» (٢) أي : صاحب كلبهم ، ولهذه القراءة قدّر بعضهم في قراءة العامة : وثامنهم صاحب كلبهم.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ٩١.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٦ / ١١٠ ، والدر المصون ٤ / ٤٤٦.

٤٥٥

وثلاثة وخمسة وسبعة : مضافة لمعدود محذوف ، فقدّره أبو حيان : ثلاثة أشخاص ، قال : «وإنّما قدّرنا أشخاصا ؛ لأنّ رابعهم اسم فاعل أضيف إلى الضمير ، والمعنى : أنه ربعهم ، أي : جعلهم أربعة ، وصيّرهم إلى هذا العدد ، فلو قدّرناه رجالا ، استحال أن يصيّر ثلاثة رجال أربعة ؛ لاختلاف الجنسين» وهو كلام حسن.

فصل

وقال أبو البقاء (١) : «ولا يعمل اسم الفاعل هنا ؛ لأنه ماض» قلت : يعني أنّ رابعهم فيما مضى ، فلا يعمل النصب تقديرا ، والإضافة محضة ، وليس كما زعم ، فإنّ المعنى على : يصير الكلب لهم أربعة ، فهو ناصب تقديرا ، وإنما عمل ، وهو ماض ؛ لحكاية الحال ك «باسط».

فصل

روي أن السيّد والعاقب وأصحابهما من نصارى نجران ، كانوا عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجرى ذكر أصحاب الكهف ، فقال السيّد ـ وكان يعقوبيا ـ : كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم.

وقال العاقب ـ وكان نسطوريّا ـ : كانوا خمسة سادسهم كلبهم.

وقال المسلمون : كانوا سبعة ، وثامنهم كلبهم ، فحقّق الله قول المسلمين بعد ما حكى قول النصارى ، فقال : «سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ، ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون : سبعة وثامنهم كلبهم» (٢).

قوله : (رَجْماً بِالْغَيْبِ) أي : ظنّا وحدسا من غير يقين ، ولم يقل هذا في السبعة ، فقال: (وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ).

فصل

قال أكثر المفسرين : هذا هو الحقّ ؛ ويدلّ عليه وجوه (٣) :

الأول : أنّ الواو في قوله : (وَثامِنُهُمْ) هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنّكرة ، كما تدخل على الجملة الواقعة حالا عن المعرفة في قولك : «جاءني رجل ، ومعه آخر» ومررت بزيد ، ومعه سيف ، ومنه قوله : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) [الحجر : ٤].

وفائدتها : تأكيد لصوق الصفة بالموصوف ، والدلالة على أنّ اتصافه به أمر ثابت مستقرّ ، فكانت هذه الواو دالة على أنّ الذين كانوا في الكهف كانوا سبعة وثامنهم كلبهم.

الثاني : أنه تعالى خصّ هذا الموضع بهذا الحرف الزّائد وهو الواو ؛ فوجب أن

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ١٠٠.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٥٦) والقرطبي (١٠ / ٢٤٩). والرازي (٢١ / ٩٠).

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ٩٠.

٤٥٦

يحصل به فائدة زائدة ؛ صونا للفظ عن التعطيل ، وليس الفائدة إلّا تخصيص هذا القول بالإثبات والتّصحيح.

الثالث : أنه تعالى أتبع القولين بقوله : (رَجْماً بِالْغَيْبِ) ولم يقله في السّبعة ، وتخصيص الشيء بالوصف يدلّ على أنّ الحال في الباقي بخلافه ، وأنه مخالف لهما في كونه (رَجْماً بِالْغَيْبِ).

الرابع : أنه قال بعده : (رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) فدلّ على أن هذا القول ممتاز عن القولين الأوّلين بمزيد القوّة والصّحة.

الخامس : أنه تعالى قال : (ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) فدلّ على أنّه حصل العلم بعدتهم لذلك القليل ، وكلّ من قال من المسلمين قولا في هذا الباب ، قال : إنهم كانوا سبعة ، وثامنهم كلبهم ؛ فوجب أن يكون المراد من ذلك القليل هؤلاء الذين قالوا هذا القول ، وكان عليّ ـ رضي الله عنه ـ يقول : كانوا سبعة ، وثامنهم كلبهم ، وأسماؤهم : يمليخا ، مكسلمينا ، مسلثينا وهؤلاء الثلاثة كانوا أصحاب يمين الملك ، وعن يساره : مرنوس ، ديرنوس ، سادنوس ، وكان الملك يستشير هؤلاء الستّة ، يتصرّفون في مهمّاته ، والسّابع هو الرّاعي الذي وافقهم ، لمّا هربوا من ملكهم ، واسم كلبهم (١) قطمير ، وروي عن ابن عباس أنه قال : مكسلمينا ، ويلميخا ، ومرطوس وبينويس ، وسارينوس ، وذونوانس ، وكشفيطيطونونس وهو الراعي ، وكان ابن عباس يقول : أنا من أولئك العدد القليل (٢).

السادس : أنه تعالى ، لما قال : (سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) قال : (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ).

والظاهر أنّه لما حكى الأقوال ، فقد حكى كلّ ما قيل من الحقّ والباطل ، ويبعد أنّه تعالى ذكر الأقوال الباطلة ، ولم يذكر ما هو الحقّ ، فثبت أن جملة الأقوال الحقّة والباطلة ليست إلّا هذه الثّلاثة ، ثم خصّ الأولين بأنه رجم بالغيب ؛ فوجب أن يكون الحق هو الثالث.

السابع : أنه قال لرسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «فلا تمار فيهم إلّا مراء ظاهرا ، ولا تستفت فيهم منهم أحدا» فمنعه من المناظرة معهم في هذا الباب ، وهذا إنما يكون ، لو علم حكم هذه الواقعة ، ويبعد أن يحصل العلم بذلك لغير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يحصل للنبيّ ـ عليه‌السلام ـ فعلمنا أنّ العلم بهذه الواقعة حصل للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والظاهر أنه لم يحصل ذلك إلّا بهذا الوحي ؛ لأنّ الأصل فيما سواه العدم ، فيكون الأمر كذلك ، ويكون الحقّ قوله : (سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) وهذه الوجوه ، وإن كان فيها بعض الضعف إلّا أنه لما تقوّى بعضها ببعض ، حصل فيها تمام وكمال.

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢١ / ٩٠).

(٢) ينظر : المصدر السابق.

٤٥٧

فصل

في هذه الآية محذوف ، وتقديره : سيقولون : هم ثلاثة ، فحذف المبتدأ ؛ لدلالة الكلام عليه ، ثم قال تعالى : (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ) أي : بعددهم (ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) ، وهذا هو الحقّ ؛ لأن العلم بتفاصيل كائنات العالم ، وحوادثه في الماضي والمستقبل ، لا يحصل إلّا عند الله ، أو عند من أخبره الله تعالى ، ثم لمّا ذكر تعالى هذه القصّة ، نهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المراء والاستفتاء ، فقال : (فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً) ، أي لا تجادل ، ولا تقل في عددهم وشأنهم إلّا مراء ظاهرا إلّا بظاهر ما قصصنا عليك ، فقف عنده ، (وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) أي من أهل الكتاب ، أي : لا ترجع إلى قولهم بعد أن أخبرناك ؛ لأنّه ليس عندهم علم في هذا الباب إلّا رجما بالغيب.

فصل

واعلم أنّ نفاة القياس تمسّكوا بهذه الآية ، قالوا : لأن قوله : (رَجْماً بِالْغَيْبِ) قيل : كان ظنّا بالغيب ؛ لأنّهم أكثروا أن يقولوا رجما بالظنّ ، مكان قولهم : «ظنّ» حتى لم يبق عندهم فرق بين العبارتين ، كما قال : [الطويل]

٣٥٠٦ ـ ...........

وما هو عنها بالحديث المرجّم (١)

أي : المظنون ، ثم إنه تعالى ، لمّا ذم هذه الطريقة ، رتّب عليها المنع من استفتاء هؤلاء الظانّين ، فدلّ على أن الفتوى بالمظنون غير جائز عند الله تعالى ، وتقدّم جوابهم.

قوله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً)(٢٤)

وذلك أن أهل مكّة سألوه عن الروح ، وعن أصحاب الكهف ، وعن ذي القرنين ، فقال : أخبركم غدا ، ولم يقل : إن شاء الله ، فلبث الوحي أيّاما ، ثم نزلت هذه الآية.

فصل

اعترض القاضي على هذا الكلام من وجهين (٢) :

الأول : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان عالما بأنّه إذا أخبر أنه سيفعل الفعل الفلانيّ غدا ، فربّما جاءته الوفاة قبل الغد ، وربما عاقه عائق عن ذلك الفعل غدا ، وإذا كانت هذه الأمور محتملة ، فلو لم يقل : إن شاء الله ، خرج الكلام مخالفا لما عليه ، وذلك يوجب التنفير عنه.

أما إذا قال : «إن شاء الله تعالى» كان محترزا عن هذا المحذور (٣) المذكور ، وإذا

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ٩٢.

(٣) في أ: المحظور.

٤٥٨

كان كذلك ، كان من البعيد أن يعد بشيء ، ولم يقل : إن شاء الله.

الثاني : أن هذه الآية مشتملة على قواعد كثيرة ، وأحكام جمّة ، فيبعد قصرها على هذا السبب ، إذ يمكن أن يجاب عن الأول بأنّه لا يمتنع أن الأولى أن يقول : «إن شاء الله تعالى» ، إلّا أنه ربّما اتّفق له نسيان قول (إِنْ شاءَ اللهُ) لسبب من الأسباب ، وكان ذلك من باب ترك الأولى والأفضل ، وأنه يجاب عن الثاني بأنّ اشتماله على الفوائد الكثيرة لا يمتنع أن يكون نزوله بسبب واحد منها.

قوله : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) : قال أبو البقاء (١) : في المستثنى منه ثلاثة أوجه :

أحدها : هو من النّهي. والمعنى : لا تقولنّ : أفعل غدا ، إلّا أن يؤذن لك في القول.

الثاني : هو من «فاعل» ، أي : لا تقولنّ إني فاعل غدا ؛ حتّى تقرن به قول «إن شاء الله».

والثالث : أنه منقطع ، وموضع (أَنْ يَشاءَ اللهُ) نصب على وجهين :

أحدهما : على الاستثناء ، والتقدير : لا تقولنّ ذلك في وقت إلّا وقت أن يشاء الله ، أي: يأذن ، فحذف الوقت ، وهو المراد.

الثاني : هو حال ، والتقدير : لا تقولنّ : أفعل غدا إلا قائلا : (إِنْ شاءَ اللهُ) وحذف القول كثير ، وقيل : التقدير إلّا بأن يشاء الله ، أي : إلّا ملتبسا بقول : (إِنْ شاءَ اللهُ).

وقد ردّ الزمخشريّ الوجه الثاني ، فقال : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ) متعلق بالنهي ، لا بقوله «إنّي فاعل» لأنه لو قال : إني فاعل كذا إلا أن يشاء الله ، كان معناه : إلا أن تعترض مشيئة الله دون فعله ، وذلك ممّا لا مدخل فيه للنهي.

معناه أنّ النهي عن مثل هذا المعنى ، لا يحسن.

ثم قال : «وتعلّقه بالنهي من وجهين :

أحدهما : ولا تقولنّ ذلك القول ، إلا أن يشاء الله أن تقوله بأن يأذن لك فيه.

والثاني : ولا تقولنّه إلّا بأن يشاء الله ، أي : إلّا بمشيئته ، وهو في موضع الحال ، أي : ملتبسا بمشيئة الله ، قائلا إن شاء الله.

وفيه وجه ثالث : وهو أن يكون (إِلَّا أَنْ يَشاءَ) في معنى كلمة تأبيد ، كأنّه قيل : ولا تقولنّه أبدا ، ونحوه : (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا) [الأعراف : ٨٩] لأن عودهم في ملتهم ممّا لم يشأ الله».

وهذا الذي ذكره الزمخشري قد ردّه ابن عطيّة بعد أن حكاه عن الطبري وغيره ، ولم يوضّح وجه الفساد.

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ١٠٠.

٤٥٩

وقال أبو حيان : «وإلا أن يشاء الله ، استثناء لا يمكن حمله على ظاهره ؛ لأنه يكون داخلا تحت القول ، فيكون من المقول ، ولا ينهاه الله أن يقول : إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله ؛ لأنه قول صحيح في نفسه ، لا يمكن أن ينهى عنه ، فاحتيج في تأويل هذا الظاهر إلى تقدير ، فقال ابن عطيّة : في الكلام حذف يقتضيه الظاهر ، ويحسّنه الإيجاز ، تقديره : إلّا أن يقول : إلا أن يشاء الله ، أو إلّا أن تقول : إن شاء الله ، والمعنى : إلّا أن تذكر مشيئة الله ، فليس (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) من القول الذي نهي عنه».

فصل

قال كثير من الفقهاء (١) : إذا قال الرّجل لزوجته : «أنت طالق ، إن شاء الله» لم يقع الطّلاق ؛ لأنه لما علّق وقوع الطّلاق على مشيئة الله ، لم يقع الطّلاق إلا إذا علمنا حصول المشيئة ، ومشيئة الله غيب لا سبيل لنا إلى العلم بحصولها ، إلا إذا علمنا أن متعلّق المشيئة وقع وحصل ، وهو (٢) هذا الطلاق ، وعلى هذا لا يعرف حصول المشيئة ، إلّا إذا وقع الطلاق ، ولا يعرف وقوع الطلاق ، إلّا إذا عرفنا المشيئة ، فيوقف كلّ واحد منهما على العلم بالآخر ، وهو دور ؛ فلهذا لم يقع الطّلاق.

فصل

احتجوا بهذه الآية على أنّ المعدوم شيء ، قالوا : لأنّ الشيء الذي سيفعله غدا سمّاه الله تعالى في الحال شيئا ، وهو معدوم في الحال.

[وأجيب](٣) بأنّ هذا الاستدلال لا يفيد إلّا أنّ المعدوم مسمى (٤) بكونه شيئا ، والسبب فيه أنّ الذي يصير شيئا يجوز تسميته بكونه شيئا في الحال تسمية للشيء بما يئول إليه ؛ لقوله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١] والمراد سيأتي أمر الله.

ثم قال تعالى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) قال ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن : معناه : إذا نسيت الاستثناء ، ثم ذكرت ، فاستثن (٥).

وقال ابن عباس : بالاستثناء المنقطع ، وإن كان إلى سنة لهذه الآية (٦).

وقيّده الحسن وطاوس بالمجلس.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ٩٣.

(٢) سقط من أ.

(٣) في أ: فإن قيل.

(٤) في أ: شيء.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٢٠٨) عن ابن عباس وأبي العالية.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٩٤) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني.

وعن أبي العالية وعزاه إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٢٠٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٩٤) وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه.

٤٦٠