اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٢

والظاهر غير ذلك كلّه ، وأن المأمور بالسؤال سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبنو إسرائيل كانوا معاصريه.

والضمير [في] (إِذْ جاءَهُمْ) : إمّا للآباء ، وإمّا لهم على حذف مضاف ، أي : جاء آباءهم.

فصل في معنى «وسئل (بَنِي إِسْرائِيلَ)

المعنى : فسل ، يا محمد ، بني إسرائيل ؛ إذ جاءهم موسى ، يجوز أن يكون الخطاب معه ، والمراد غيره ، ويجوز أن يكون خاطبه ـ عليه الصلاة والسلام ـ وأمره بالسؤال ؛ ليتبيّن كذبهم مع قومهم ، فقال له فرعون : (إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً).

وقوله «مسحورا» : وفيه وجهان :

أظهرهما : أنه بمعناه الأصلي ، أي : إنك سحرت ، فمن ثمّ ؛ اختل كلامك ، قال ذلك حين جاءه بما لا تهوى نفسه الخبيثة ، قاله الكلبي.

وقال ابن عباس : مخدوعا ، وقال : مصروفا عن الحقّ.

والثاني : أنه بمعنى «فاعل» كميمون ومشئوم ، أي : أنت ساحر ؛ كقوله : (حِجاباً مَسْتُوراً). فوضع المفعول موضع الفاعل ، قاله الفراء ، وأبو عبيدة ، وقال ابن جرير : يعطى علم السّحر ؛ فلذلك تأتي بالأعاجيب ، يشير لانقلاب عصاه حيّة ونحو ذلك.

قوله : (لَقَدْ عَلِمْتَ) : قرأ الكسائي (١) بضمّ التاء أسند الفعل لضمير موسى ـ عليه‌السلام ـ أي : إنّي متحقّق أن ما جئت به هو منزّل من عند الله تعالى ، والباقون بالفتح على إسناده لضمير فرعون ، أي : أنت متحقّق أنّ ما جئت به هو منزّل من عند الله ، وإنّما كفرك عناد ، وعن عليّ ـ رضي الله عنه ـ أنه أنكر الفتح ، وقال : «ما علم عدو الله قطّ ، وإنّما علم موسى» ، [ولو علم ، لآمن ؛](٢) فبلغ ذلك ابن عباس ، فاحتجّ بقوله تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) [النمل : ١٤] على أنّ فرعون وقومه علموا بصحّة أمر موسى.

فصل في الخلاف في أجود القراءتين

قال الزجاج : الأجود في القراءة الفتح ؛ لأنّ علم فرعون بأنّها آيات نازلة من عند الله أوكد في الاحتجاج ، واحتجاج موسى على فرعون بعلم فرعون أوكد من الاحتجاج عليه بعلم نفسه.

وأجاب من نصر قراءة عليّ عن دليل ابن عباس ، فقال قوله : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) يدلّ على أنهم استيقنوا أشياء ، فأمّا أنهم استيقنوا كون هذه الأشياء نازلة من عند

__________________

(١) ينظر : السبعة ٣٨٥ ، والحجة ٤١١ ، والتيسير ١٤١ ، والنشر ٢ / ٣٠٩ ، والإتحاف ٢ / ٢٠٦ ، والحجة للقراء السبعة ٥ / ١٢٢.

(٢) زيادة من ب.

٤٠١

الله ، فليس في الآية ما يدلّ عليه ؛ ويدلّ بأنّ فرعون قال : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) [الشعراء : ٢٧].

قال موسى : (لَقَدْ عَلِمْتَ).

والمعنى : «اعلم أنّي لست بمجنون» ، ولم يثبت عن عليّ رفع التاء ؛ لأنه يروى عن رجل من مراد عن عليّ ، وذلك الرجل مجهول.

واعلم : أن هذه الآيات من عند الله ، ولا تشكّ في ذلك بسبب سفاهتك والجملة المنفيّة في محلّ نصب ؛ لأنها معلقة للعلم قبلها وتقدير الآية : ما أنزل هؤلاء «الآيات» ؛ ونظيره قوله : [الكامل]

٣٤٧٦ ـ ...........

والعيش بعد أولئك الأيّام (١)

أي : للأمام. قوله : «بصائر» حال ، وفي عاملها قولان :

أحدهما : أنه «أنزل» هذا الملفوظ به ، وصاحب الحال «هؤلاء» وإليه ذهب الحوفي ، وابن عطيّة ، وأبو البقاء (٢) ، وهؤلاء يجيزون أن يعمل ما قبل «إلّا» فيما بعدها ، وإن لم يكن مستثنى ، ولا مستثنى منه ، ولا تابعا له.

والثاني : ـ وهو مذهب الجمهور ـ : أنّ ما بعد «إلّا» لا يكون معمولا لما قبله ، فيقدر لها عامل ، تقديره : أنزلها بصائر ، وقد تقدّم نظير هذه في «هود» عند قوله (إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ) [الآية : ٢٧].

ومعنى «بصائر» أي : حججا بيّنة ؛ كأنها بصائر العقول ، والمراد : الآيات التّسع ، ثم قال موسى : (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً).

قوله : «مثبورا» مفعول ثان ، واعترض بين المفعولين بالنّداء ، والمثبور : المهلك ؛ يقال : ثبره الله ، أي : أهلكه ، قال ابن الزبعرى : [الخفيف]

٣٤٧٧ ـ إذ أجاري الشّيطان في سنن الغي

ي ومن مال ميله مثبور (٣)

والثّبور : الهلاك ؛ قال تعالى : (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً) [الفرقان : ١٤].

وقال ابن عباس : مثبورا ، أي : ملعونا ، وقال الفراء : مصروفا ممنوعا عن الخير ، والعرب تقول : ما ثبرك عن هذا؟ أي : ما منعك عن هذا ، وما صرفك عنه؟.

قال أبو زيد : يقال ثبرت فلانا عن الشيء ، أثبره ، أي رددتّه عنه.

فصل في جواب موسى لفرعون بكونه مثبورا

واعلم أنّ فرعون لمّا وصف موسى ـ عليه‌السلام ـ بكونه مسحورا ، أجابه موسى

__________________

(١) ينظر : الرازي ٢١ / ٥٥.

(٢) ينظر : الإملاء ٢ / ٩٧.

(٣) ينظر البيت في تفسير الطبري ١٥ / ١١٧ ، البحر المحيط ٦ / ٦٧ ، الجمهرة ٢ / ٢٧٧ ، والدر المصون ٤ / ٤٢٥ ، مجاز القرآن ١ / ٣٩٢.

٤٠٢

بأنّك مثبور ، أي : أنّ هذه الآيات ظاهرات ، ومعجزات ظاهرة ؛ لا يرتاب العاقل في أنّها من عند الله ؛ وأنه أظهرها لأجل تصديقي ، وأنت تنكرها حسدا ، وعنادا ، ومن كان كذلك ، كان عاقبته الدّمار والهلاك.

ثم قال تعالى : (فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ).

أي : أراد فرعون أن يخرج موسى ـ عليه‌السلام ـ وبني إسرائيل من الأرض أي : أرض مصر.

قال الزجاج : لا يبعد أن يكون المراد من استفزازهم إخراجهم منها بالقتل ، أو بالتنحية ، وتقدّم الكلام على الاستفزاز ، ثم قال : (فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً).

وهو معنى ما ذكره الله في قوله : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) [فاطر : ٤٣] ، أي : إنّ فرعون أراد إخراج موسى من أرض مصر ؛ لتخلص له تلك البلاد ، فأهلك الله فرعون ، وجعل تلك الأرض خالصة لموسى ولقومه ، وقال من بعد هلاك فرعون لبني إسرائيل : اسكنوا الأرض خالصة لكم ، خالية من عدوّكم ، يعني : أرض مصر والشام ، (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ). يعني : القيامة (جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً) من ههنا وههنا.

وفي (لَفِيفاً) : وجهان :

أحدهما : أنه حال ، وأن أصله مصدر لفّ يلفّ لفيفا ؛ نحو : النّذير والنّكير ، أي : جئنا بكم منضما بعضكم إلى بعض ، من لفّ الشيء يلفّه لفّا ، والألفّ : المتداني الفخذين ، وقيل : العظيم البطن (١).

والثاني : أنه اسم جمع ، لا واحد له من لفظه ، والمعنى : جئنا بكم جميعا ، فهو في قوة التّأكيد.

واللّفيف : الجمع العظيم من أخلاط شتّى من الشريف ، والدنيء ، والمطيع ، والعاصي ، والقويّ ، والضعيف ، وكل شيء خلطته بشيء آخر ، فقد لففته ، ومنه قيل : لففت الجيوش : إذا ضرب بعضها ببعض.

قوله تعالى : (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (١٠٦) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (١٠٩) قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠)

__________________

(١) في ب : البدن.

٤٠٣

وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً)(١١١)

قوله : (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ) الآية.

لما بيّن أن القرآن معجز قاهر دالّ على الصدق في قوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُ) [الإسراء : ٨٨].

ثم حكى عن الكفار أنّهم لم يكتفوا بهذا المعجز ، بل طلبوا أشياء أخر ، ثم أجاب تعالى بأنّه لا حاجة إلى إظهار معجزات أخر ، وبيّن ذلك بوجوه كثيرة :

منها : أنّ قوم موسى آتاهم تسع آيات بيّنات ، فلما جحدوا بها أهلكهم الله ، فكذا ههنا ، أي : أنّ المعجزات التي اقترحها قوم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثمّ كفروا بها ؛ فوجب إنزال عذاب الاستئصال بهم ، وذلك غير جائز في الحكمة ؛ لعلمه تعالى أنّ فيهم من يؤمن ، أو من يظهر من نسله مؤمن. لمّا تمّ هذا الجواب ، عاد إلى حال تعظيم القرآن ؛ فقال : (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) ، أي: ما أردنا بإنزاله إلّا إظهار الحقّ.

قوله : (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ) : في هذا الجار ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه متعلق ب «أنزلناه» ، والباء سببية ، أي : أنزلناه بسبب الحقّ.

والثاني : أنه حال من مفعول «أنزلناه» ، أي : ومعه الحقّ.

فتكون الباء بمعنى «مع» قاله الفارسي ؛ كما تقول : نزل بعدّته ، وخرج بسلاحه.

والثالث : أنه حال من فاعله ، أي : ملتبسين بالحق ، وعلى هذين الوجهين يتعلق بمحذوف.

والضمير في «أنزلناه» الظاهر عوده للقرآن : إمّا الملفوظ به في قوله قبل ذلك (عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ) [الإسراء : ٨٨] ؛ ويكون ذلك جريا على قاعدة أساليب كلامهم ، وهو أن يستطرد المتكلم في ذكر شيء لم يسبق له كلامه أولا ، ثم يعود إلى كلامه الأول. وإمّا للقرآن غير الملفوظ أولا ؛ لدلالة الحال عليه ؛ كقوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) [الدخان : ٣] وقيل : يعود على موسى ؛ كقوله : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) [الحديد : ٢٥] ، وقيل : على الوعد ، وقيل : على الآيات التّسع ، وذكر الضمير ، وأفرده ؛ حملا على معنى الدليل والبرهان.

قوله : (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) فيه الوجهان الأولان ، دون الثالث ؛ لعدم ضمير آخر غير ضمير القرآن لاحتمال أن يكون التقدير : نزل بالحقّ ؛ كما تقول : نزلت بزيد ، وعلى هذا التقدير : فالحقّ محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفي هذه الجملة وجهان :

أحدهما : أنها للتأكيد ؛ وذلك أنه يقال : أنزلته ، فنزل ، وأنزلته فلم ينزل ؛ فجيء بقوله (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) ؛ دفعا لهذا الوهم ، وقيل : ليست للتأكيد ، والمغايرة تحصل بالتغاير

٤٠٤

بين الحقّين ، فالحق الأول التوحيد ، والثاني الوعد والوعيد ، والأمر والنهي ، وقال الزمخشري : «وما أنزلنا القرآن إلّا بالحكمة المقتضية لإنزاله ، وما نزل إلا ملتبسا بالحق والحكمة ؛ لاشتماله على الهداية إلى كلّ خير ، أو ما أنزلناه من السّماء إلا بالحقّ محفوظا بالرّصد من الملائكة ، وما نزل على الرسول إلّا محفوظا بهم من تخليط الشّياطين» ، و (مُبَشِّراً وَنَذِيراً) : حالان من مفعول «أرسلناك» مبشرا للمطيعين ، ونذيرا للعاصين ، فإن قبلوا الدّين الحقّ ، انتفعوا به ، وإلا فليس عليك من كفرهم [شيء](١).

قوله تعالى : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ) الآية : في نصب «قرآنا» أوجه :

أظهرها : أنه منصوب بفعل مقدر ، أي : «وآتيناك قرآنا» يدل عليه قوله (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى).

الثاني : أنه منصوب ؛ عطفا على الكاف في «أرسلناك» ؛ قال ابن عطية : «من حيث كان إرسال هذا ، وإنزال هذا بمعنى واحد».

الثالث : أنه منصوب ؛ عطفا على (مُبَشِّراً وَنَذِيراً) قال الفراء (٢) : «هو منصوب ب «أرسلناك» ، أي : ما أرسلناك إلا مبشّرا ونذيرا وقرآنا ؛ كما تقول : ورحمة يعني : لأن القرآن رحمة» ، بمعنى أنه جعل نفس القرآن مرادا به الرحمة ؛ مبالغة ، ولو ادّعى ذلك على حذف مضاف ، كان أقرب ، أي : «وذا قرآن» وهذان الوجهان متكلّفان.

الرابع : أن ينتصب على الاشتغال ، أي : وفرقنا قرآنا فرقناه ، واعتذر أبو حيان عن ذلك ، أي : عن كونه لا يصحّ الابتداء به ، لو جعلناه مبتدأ ؛ لعدم مسوغ ؛ لأنه لا يجوز الاشتغال إلا حيث يجوز في ذلك الاسم الابتداء ، بأنّ ثمّ صفة محذوفة ، تقديره : وقرآنا أي قرآن ، بمعنى عظيم ، و«فرقناه» على هذا : لا محل له ؛ بخلاف الأوجه المتقدمة ؛ فإن محلّه النصب ؛ لأنّه نعت ل «قرآنا».

وقرأ العامة «فرقناه» بالتخفيف ، أي : بيّنا حلاله وحرامه ، أو فرقنا فيه بين الحق والباطل ، وقرأ (٣) عليّ بن أبي طالب ـ كرّم الله وجهه ـ وأبيّ ، وعبد الله ، وابن عباس والشعبي ، وقتادة ، وحميد في آخرين بالتشديد ، وفيه وجهان :

أحدهما : أنّ التضعيف فيه للتكثير ، أي : فرّقنا آياته بين أمر ونهي ، وحكم وأحكام ، ومواعظ وأمثال ، وقصص وأخبار ماضية ومستقبلة.

والثاني : أنه دالّ على التفريق والتنجيم.

قال الزمخشريّ : «وعن ابن عباس : أنه قرأ مشددا ، وقال : لم ينزل في يومين ، ولا

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) ينظر : معاني القرآن للفراء ٢ / ١٣٢.

(٣) ينظر : المحتسب ٢ / ٢٣ ، والقرطبي ١٠ / ٢١٩ ، والبحر ٦ / ٨٤ ، والدر المصون ٤ / ٥٢٧.

٤٠٥

في ثلاثة ، بل كان بين أوله وآخره عشرون سنة ، يعني أنّ «فرق» بالتخفيف يدل على فصل متقارب».

قال أبو حيان : «وقال بعض من اختار ذلك ـ يعني التنجيم ـ لم ينزل في يوم ، ولا يومين ، ولا شهر ، ولا شهرين ، ولا سنة ، ولا سنتين ؛ قال ابن عبّاس : كان بين أوله ، وآخره عشرون سنة ، كذا قال الزمخشريّ ، عن ابن عباس».

قال شهاب الدين : ظاهر هذا : أنّ القول بالتنجيم : ليس مرويّا عن ابن عباس ، ولا سيما وقد فصل قوله «قال ابن عبّاس» من قوله «وقال بعض من اختار ذلك» ، ومقصوده أنه لم يسنده لابن عباس ؛ ليتمّ له الردّ على الزمخشري في أنّ «فعّل» بالتشديد لا يدلّ على التفريق ، وقد تقدم له معه هذا المبحث أوّل هذا الموضوع (١).

قال ابن الخطيب (٢) : والاختيار عند الأئمة : «فرقناه» بالتخفيف ، وفسّره أبو عمرو : بيّناه.

قال أبو عبيدة : التخفيف أعجب إليّ ؛ لأنّ معناه : بينّاه ، ومن قرأ بالتشديد ، لم يكن له معنى إلا أنه أنزل متفرّقا ، [فالتفرّق](٣) يتضمّن التّبيين ، ويؤكّده ما رواه ثعلب عن ابن الأعرابيّ أنه قال : فرقت ، أو أفرقت بين الكلام ، وفرّقت بين الأجسام ؛ ويدلّ عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «البيّعان بالخيار ، ما لم يتفرّقا» (٤) ولم يقل : «يفترقا».

فصل في نزول القرآن مفرقا

قال ابن الخطيب (٥) : إنّ القوم قالوا : هب أنّ هذا القرآن معجز ، إلا أنه بتقدير أن يكون الأمر كذلك ، فكان من الواجب أن ينزله الله عليك دفعة واحدة ؛ ليظهر فيه وجه الإعجاز ؛ فجعلوا إتيان الرسول به مفرّقا شبهة في أنّه يتفكّر في فصل فصل ، ويقرؤه عليهم ، فأجاب الله عن ذلك أنه إنّما فرّقه ليكون حفظه أسهل ؛ ولتكون الإحاطة والوقوف على دلائله ، وحقائقه ، ودقائقه أكمل.

قال سعيد بن جبير (٦) : نزل القرآن كلّه في ليلة القدر من السّماء العليا إلى السّماء السفلى ، ثم فصل في السّنين التي نزل فيها ، ومعنى الآية : قطّعناه آية آية ، وسورة وسورة.

__________________

(١) في ب : الكتاب.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ٥٨.

(٣) في ب : ما الفرق.

(٤) أخرجه البخاري ٤ / ٣٨٤ ، في كتاب البيوع : باب إذا لم يوقّت الخيار هل يجوز البيع (٢١٠٩) وأبو داود في السنن ٣ / ٢٧٣ ، في كتاب البيوع : باب في خيار المتبايعين (٣٤٥٥) ومسلم في ٣ / ١٧٦٣ كتاب البيوع : باب ثبوت خيار المجلس للمتبايعين (٤٣ ـ ١٥٣١).

(٥) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ٥٧.

(٦) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢١ / ٥٧).

٤٠٦

قوله : «لتقرأه» متعلق ب «فرقناه» ، وقوله (عَلى مُكْثٍ) فيه ثلاثة أوجه :

الأول : أنه متعلّق بمحذوف ، على أنه حال من الفاعل ، أو المفعول في «لتقرأه» ، أي: متمهّلا مترسّلا.

الثاني : أنه بدل من (عَلَى النَّاسِ) قاله الحوفيّ ، وهو وهم ؛ لأنّ قوله (عَلى مُكْثٍ) من صفات القارىء ، أو المقروء من جهة المعنى ، لا من صفات الناس ؛ حتى يكون بدلا منهم.

الثالث : أنه متعلق ب «فرقناه».

قال أبو حيان : «والظاهر تعلق (عَلى مُكْثٍ) بقوله «لتقرأه» ، ولا يبالى بكون الفعل يتعلق به حرفا جر من جنس واحد ؛ لأنه اختلف معنى الحرفين ؛ لأن الأول في موضع المفعول به ، والثاني في موضع الحال ، أي : متمهّلا مترسلا».

قال شهاب الدين : قوله أولا : إنه متعلق بقوله «لتقرأه» : ينافي قوله في موضع الحال ، لأنه متى كان حالا ، تعلق بمحذوف ، لا يقال : أراد التعلّق المعنوي ، لا الصناعي ؛ لأنه قال : ولا يبالى بكون الفعل يتعلق به حرفا جرّ من جنس واحد ، وهذا تفسير إعراب ، لا تفسير معنى.

والمكث : التّطاول في المدة ، وفيه ثلاثة لغات : الضمّ ، والفتح ـ ونقل القراءة بهما الحوفيّ ، وأبو البقاء (١) ـ والكسر ، ولم يقرأ به فيما علمت ، وفي فعله الفتح والضمّ وسيأتي بيانه ، إن شاء الله تعالى في النّمل [الآية : ٢٢] ومعنى «على مكث» أي على تؤدة ، وترسّل في ثلاث وعشرين سنة (وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) على الحدّ المذكور.

قوله : (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا) : يخاطب الذين اقترحوا تلك المعجزات العظيمة ؛ على وجه التّهديد والإنكار ، أي : أنّه تعالى ، أوضح البينات والدلائل ، وأزاح الأعذار ، فاختاروا ما تريدون.

(إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ) أي : من قبل نزول القرآن ، قال مجاهد (٢) : هم ناس من أهل الكتاب ، كانوا يطلبون الدّين قبل مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثمّ أسلموا بعد مبعثه ؛ كزيد بن عمرو بن نفيل ، وسلمان الفارسيّ ، وأبي ذرّ ، وورقة بن نوفل ، وغيرهم.

(إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ) يعني القرآن.

(يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً). يعني : يسقطون للأذقان ، قال ابن عباس : أراد به الوجوه(٣).

قوله : (لِلْأَذْقانِ) : في اللام ثلاثة أوجه :

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ٩٧.

(٢) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٤١.

(٣) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٤١.

٤٠٧

أحدها : أنها بمعنى «على» ، أي : على الأذقان ؛ كقولهم : خرّ على وجهه.

والثاني : أنها للاختصاص ، قال الزمخشري : فإن قيل : حرف الاستعلاء ظاهر المعنى ، إذا قلت : خرّ على وجهه ، وعلى ذقنه ، فما معنى اللام في «خرّ لذقنه ، ولوجهه»؟ قال : [الطويل]

٣٤٧٨ ـ ..........

فخرّ صريعا لليدين وللفم (١)

قلت : معناه : جعل ذقنه ، ووجهه [للخرور] ، قال الزجاج : الذّقن : مجمع اللّحيين ، وكلما يبتدىء الإنسان بالخرور إلى السجود ، فأقرب الأشياء من الجبهة إلى الأرض الذّقن.

وقيل : الأذقان اللّحى ؛ فإن الإنسان ، إذا بالغ في السجود ، والخضوع ، ربّما مسح لحيته على التّراب ؛ فإنّ اللحية يبالغ في تنظيفها ، فإذا عفّرها بالتّراب ، فقد أتى بغاية التعظيم [للخرور](٢).

واختصّ به ؛ لأنّ اللام للاختصاص ، وقال أبو البقاء (٣) : «والثاني : هي متعلقة ب «يخرّون» ، واللام على بابها ، أي : مذلّون للأذقان».

والأذقان : جمع ذقن ، وهو مجمع اللّحيين ؛ قال الشاعر : [الطويل]

٣٤٧٩ ـ فخرّوا لأذقان الوجوه تنوشهم

سباع من الطّير العوادي وتنتف (٤)

و«سجّدا» حال ، وجوّز أبو البقاء (٥) في «للأذقان» أن يكون حالا ، قال : «أي : ساجدين للأذقان» وكأنه يعني به «للأذقان» الثانية ؛ لأنّه يصير المعنى : ساجدين للأذقان سجدا ؛ ولذلك قال : «والثالث : أنها ـ يعني اللام ـ [بمعنى] «على» ؛ فعلى هذا يكون حالا من «يبكون» ، و«يبكون» حال».

فإن قيل : لم قيل : يخرّون للأذقان سجدا ، ولم يقل يسجدون؟

والجواب : أن المقصود من هذا اللفظ مسارعتهم إلى ذلك ؛ حتّى أنهم يسقطون.

ثم قال : (وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً) ، أي : كان قولهم في سجودهم : «سبحان ربّنا» ، أي : ينزّهونه ، ويعظّمونه (إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً) أي : بإنزال القرآن ، وبعث محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهذا يدلّ على أنّ هؤلاء كانوا من أهل الكتاب ، لأنّ الوعد ببعثة محمد سبق في كتابهم ، وهم كانوا ينتظرون إنجاز ذلك الوعد ، ثم قال : (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ).

__________________

(١) تقدم.

(٢) زيادة من أ.

(٣) ينظر : الإملاء ٢ / ٩٨.

(٤) ينظر البيت في البحر المحيط ٦ / ٦٧ ، الدر المصون ٤ / ٤٢٨.

(٥) ينظر : الإملاء ٢ / ٩٨.

٤٠٨

والفائدة في هذا التكرير اختلاف الحالين ، وهما :

خرورهم في حال كونهم باكين ، في حال استماع القرآن ، ويدلّ عليه قوله : (وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً).

وجاءت الحال الأولى اسما ؛ لدلالته على الاستقرار ، والثانية فعلا ؛ لدلالته على التجدّد والحدوث.

ويجوز أن يكون القول دلالة على تكرير الفعل منهم.

وقوله : «يبكون» ، معناه : الحال ، (وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) ، أي : تواضعا.

قوله : (وَيَزِيدُهُمْ) : فاعل «يزيد» : إمّا القرآن ، أو البكاء ، أو السّجود ، أو المتلوّ ، لدلالة قوله : «إذا يتلى».

قوله تعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) الآية.

قال ابن عباس (١) : سجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكّة ذات ليلة ، فجعل يبكي ، ويقول في سجوده : (يا الله ، يا رحمن). فقال أبو جهل : إنّ محمدا ينهانا عن آلهتنا ، وهو يدعو إلهين ، فأنزل الله هذه الآية ، ومعناه : أنّهما اسمان لواحد ، [أي :] أيّ هذين الاسمين سميتم ، فله الأسماء الحسنى.

قوله : (أَيًّا ما تَدْعُوا) : [«أيّا»] منصوب [ب «تدعوا»] على المفعول به ، والمضاف إليه محذوف ، أي : أيّ الاسمين ، و«تدعوا» مجزوم بها ، فهي عاملة معمولة ، وكذلك الفعل ، والجواب الجملة الاسمية من قوله (فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى). وقيل : هو محذوف ، تقديره : جاز ، ثم استأنف ، فقال : فله الأسماء الحسنى ، وليس بشيء.

والتنوين في «أيّا» عوض من المضاف إليه ، وفي «ما» قولان :

أحدهما : أنها مزيدة للتأكيد.

والثاني : أنها شرطية جمع بينهما ؛ تأكيدا كما جمع بين حرفي الجر ؛ للتأكيد ، وحسّنه اختلاف اللفظ ؛ كقوله : [الطويل]

٣٤٨٠ ـ فأصبحن لا يسألنني عن بما به

 ........... (٢)

ويؤيّد هذا ما قرأ به طلحة بن مصرّف (٣) «أيّا من تدعوا» فقيل : «من» تحتمل الزيادة على رأي الكسائيّ ؛ كقوله : [الكامل]

٣٤٨١ ـ يا شاة من قنص لمن حلّت له

 ........... (٤)

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي (١٠ / ٣٤٢) وأخرجه الطبري (٨ / ١٦٥) بمعناه.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٦ / ٨٧ ، الدر المصون ٤ / ٤٢٨.

(٤) تقدم.

٤٠٩

واحتمل أن تكون شرطية ، وجمع بينهما ؛ تأكيدا لما تقدّم ، و«تدعوا» هنا يحتمل أن يكون من الدعاء ، وهو النداء ، فيتعدّى لواحد ، وأن يكون بمعنى التسمية ، فيتعدّى لاثنين ، إلى الأول بنفسه ، وإلى الثاني بحرف الجرّ ، ثم يتسع في الجارّ فيحذف ؛ كقوله : [الطويل]

٣٤٨٢ ـ دعتني أخاها أم عمرو ............

 ........... (١)

والتقدير : قل : ادعوا معبودكم بالله ، أو بالرّحمن ، بأيّ الاسمين سمّيتموه ، وممّن ذهب إلى كونها بمعنى «سمّى» الزمخشري.

ووقف الأخوان (٢) على «أيّا» بإبدال التنوين ألفا ، ولم يقفا على «ما» ؛ تبيينا لانفصال «أيّا» من «ما» ، ووقف غيرهما على «ما» ؛ لامتزاجها ب «أيّ» ؛ ولهذا فصل بها بين «أي» ، وبين ما أضيفت إليه في قوله تعالى (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ) [القصص : ٢٨] ، وقيل : «ما» شرطية عند من وقف على «أيّا» ، وجعل المعنى : أي الاسمين دعوتموه به ، جاز ، ثمّ استأنف «ما تدعوا ، فله الأسماء الحسنى» ، يعني أنّ «ما» شرط ثان ، و (فَلَهُ الْأَسْماءُ) جوابه ، وجواب الأول مقدر ، وهذا مردود بأنّ «ما» لا تطلق على آحاد أولي العلم ، وبأنّ الشرط يقتضي عموما ، ولا يصحّ هنا ، وبأن فيه حذف الشرط والجزاء معا.

فصل

والمعنى : أيّا ما تدعوا ، فهو حسن ؛ لأنه إذا حسنت أسماؤه ، فقد حسن هذان الاسمان ؛ لأنّهما منها ، ومعنى حسن أسماء الله كونها مفيدة لمعاني التّمجيد والتّقديس.

واحتجّ الجبائيّ (٣) بهذه الآية ، فقال : لو كان تعالى خالقا للظّلم ، والجور ، لصحّ أن يقال : يا ظالم ، حينئذ : يبطل ما ثبت بهذه الآية من كون أسمائه بأسرها حسنة.

والجواب : أنّا لا نسلّم أنه لو كان خالقا لأفعال العباد ، لصحّ وصفه بأنّه ظالم ، وجائر ، كما لا يلزم من كونه خالقا للحركة والسكون ، والسواد ، والبياض أن يقال : ما متحرك ، ويا ساكن ، ويا أبيض ، ويا أسود.

فإن قيل : فيلزم أن يقال : يا خالق الظّلم والجور.

فالجواب : يلزمكم أن تقولوا : يا خالق العذرات ، والديدان ، والخنافس ؛ كما أنكم تقولون: ذلك حقّ في نفس الأمر ، وإنّما الأدب أن يقال : يا خالق السّموات والأرض ، فكذا قولنا ها هنا.

ثمّ قال تعالى : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها).

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : التيسير ٦١ ، الإتحاف ٢ / ٢٠٦ ، الدر المصون ٤ / ٤٢٩.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ٥٩.

٤١٠

وروى سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس (١) في هذه الآية ، قال : كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يرفع صوته بالقراءة ، فإذا سمعه المشركون سبّوا القرآن ومن أنزله ، ومن جاء به ، فأنزل الله تعالى : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) ، أي : بقراءتك ، أي : فيسمعك المشركون ؛ فيسبّوا القرآن ، ويسبّوا الله عدوا بغير علم.

قوله : (وَلا تُخافِتْ بِها) فلا يسمعك أصحابك.

قوله : (وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً).

روى أبو قتادة أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم طاف باللّيل على دور أصحابه ؛ فكان أبو بكر يخفي صوته بالقراءة ، وكان عمر يرفع صوته ، فلما جاء النّهار ، وجاء أبو بكر وعمر ، فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وسلم : هي لك ، مررت بك ، وأنت تقرأ ، وأنت تخفض من صوتك ، فقال : إنّي سمعت من ناجيت ، قال : فارفع قليلا ، وقال لعمر : مررت بك ، وأنت تقرأ ، وأنت ترفع من صوتك ، فقال : إنّي أوقظ الوسنان ، وأطرد الشّيطان ، فقال : اخفض قليلا (٢).

وقيل : المرا د (ولا تجهر بصلاتك كلها) ، ولا تخافت بها كلها (وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) بأن تجهر بصلاة الليل ، وتخافت بصلاة النّهار.

وقيل : الآية في الدعاء ، وهو قول أبي هريرة ، وعائشة ، والنخعيّ ، ومجاهد ، ومكحول ، وروي مرفوعا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في هذه الآية ، قال : إنّما ذلك في الدّعاء والمسألة (٣).

قال عبد الله بن شدّاد : كان أعراب من بني تميم ، إذا سلّم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : اللهم ارزقنا مالا وولدا يجهرون ، فأنزل الله هذه الآية : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ).

أي : لا ترفع صوتك بقراءتك ، ودعائك ، ولا تخافت بها.

والمخافتة : خفض الصّوت والسّكوت.

يقل : خفت صوته يخفته خفوتا ، إذا ضعف وسكن ، وصوت خفيت ، أي : خفيض.

ومنه يقال للرجل ، إذا مات : قد خفت كلامه ، أي : انقطع كلامه ، وخفت الزّرع ،

__________________

(١) أخرجه البخاري (٨ / ٢٥٧) كتاب التفسير : باب ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها حديث (٤٧٢٢) من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس.

(٢) أخرجه أبو داود ٢ / ٨١ ، في كتاب الصلاة باب في رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل (١٣٢٩) ، والترمذي ٢ / ٣٩ ، في كتاب أبواب الصلاة : باب ما جاء في قراءة الليل (٤٤٧) ، والحاكم في المستدرك ١ / ٣١٠ في صلاة التطوع : باب تحريض قيام الليل (١١٨).

(٣) أخرجه البخاري (٨ / ١٦٣) كتاب التفسير : باب سورة بني إسرائيل وذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٤٢) عن عائشة والنخعي ومجاهد ومكحول.

٤١١

إذا ذبل ، وخفت الرّجل بقراءته ، يتخافت بها ، إذا لم يبيّن قراءته برفع الصوت ، وقد تخافت القوم ، إذا تسارّوا بينهم.

فصل في المستحب في الدعاء

واعلم أن الجهر بالدعاء منهيّ عنه ، والمبالغة في الإسرار غير مطلوبة ، والمستحبّ التوسّط ، وهو أن يسمع نفسه ؛ كما روي عن ابن مسعود (١) : أنه قال : لم يتخافت من يسمع أذنيه.

واعلم أن العدل هو رعاية الوسط ؛ كما مدح الله هذه الأمّة بقوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣].

ومدح المؤمنين بقوله : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) [الفرقان : ٦٧].

وأمر الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) [الإسراء : ٢٩] فكذا ههنا : نهى عن الطّرفين ، وهما الجهر والمخافتة ، وأمر بالتوسّط بينهما ، فقال : (وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً).

وقال بعضهم : الآية منسوخة بقوله ـ تعالى ـ : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) [الأعراف : ٥٥].

وهو بعيد.

واعلم أنه تعالى ، لمّا أمر بأن لا يذكر ، ولا ينادى ، إلا بأسمائه الحسنى ، علّم كيفيّة التمجيد ؛ فقال :

(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ).

فذكر ثلاثة أنواع من صفات التنزيه والجلال :

الأول : أنه لم يتخذ ولدا ، والسّبب فيه وجوه :

أولها : أنّ الولد هو الشيء المتولّد من أجزاء ذلك الشيء ، فكلّ من له ولد ، فهو مركب من الأجزاء ، والمركّب محدث ، والمحدث محتاج ؛ لا يقدر على كمال الإنعام ؛ فلا يستحقّ كمال الحمد.

وثانيها : أنّ كل من له ولد ، فهو يمسك جميع النّعم لولده ، فإذا يكن له ولد ، أفاض كلّ النّعم على عبيده.

وثالثها : أن الولد هو الذي يقوم مقام الوالد بعد انقضائه ، فلو كان له ولد ، لكان

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ١٧١) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٧٦) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة.

٤١٢

منقضيا فانيا ، ومن كان كذلك ، لم يقدر على كمال الإنعام في جميع الأوقات ؛ فوجب ألّا يستحقّ الحمد على الإطلاق.

وهذه الآية ردّ على اليهود في قولهم (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) [التوبة : ٣٠] ، وردّ على النصارى في قولهم (الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) [التوبة : ٣١] وعلى مشركي العرب في قولهم : «الملائكة بنات الله».

والنوع الثاني من الصفات السلبية قوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ).

والسّبب في اعتبار هذه الصفة : أنّه لو كان له شريك ، فلا يعرف كونه مستحقّا للحمد والشّكر.

والنوع الثالث : قوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ).

والسبب في اعتباره : أنه لو جاز عليه وليّ من الذّل ، لم يجب شكره ؛ لتجويز أن يكون غيره حمله على ذلك الإنعام.

أما إذا كان منزّها عن الولد ، وعن الشّريك ، وعن أن يكون له وليّ يلي أمره ، كان مستوجبا لأعظم أنواع الحمد والشّكر.

قوله : (مِنَ الذُّلِ) : فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها صفة ل «وليّ» ، والتقدير : وليّ من أهل الذلّ ، والمراد بهم : اليهود والنصارى ؛ لأنهم أذلّ الناس.

والثاني : أنها تبعيضية.

الثالث : أنها للتعليل ، أي : من أجل الذلّ ، وإلى هذين المعنيين نحا الزمخشريّ فإنه قال : «وليّ من الذلّ : ناصر من الذلّ ، ومانع له منه ؛ لاعتزازه به ، أو لم يوال أحدا ؛ لأجل مذلّة به ؛ ليدفعها بموالاته».

وقد تقدّم الفرق بين الذّلّ والذّلّ في أول هذه السورة [الآية : ٢٤].

فصل في معنى قوله : (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً)

معنى قوله : (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) ، أي : أنّ التمجيد يكون مقرونا بالتكبير ، والمعنى : عظّمه عن أن يكون له شريك ، أو وليّ ؛ قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ «أحبّ الكلام إلى الله تعالى أربع : لا إله إلّا الله ، والله أكبر ، وسبحان الله ، والحمد لله لا يضرك بأيّهنّ بدأت» (١).

__________________

(١) أخرجه مسلم (٣ / ١٦٨٥) كتاب الأدب : باب كراهية التسمية بالأسماء القبيحة ونحوه (١٢ / ٢١٣٧).

من حديث سمرة بن جندب.

٤١٣

فصل

روى أبي بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة بني إسرائيل ، فرق قلبه عند ذكر الوالدين أعطي في الجنّة قنطارين من الأجر ، والقنطار ألف أوقيّة ، ومائتا أوقيّة ، كلّ أوقيّة خير من الدّنيا وما فيها» (١).

وقال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ : قول العبد : «الله أكبر خير من الدنيا وما فيها» وهذه الآية خاتمة التّوراة (٢).

وروى مطرف ، عن عبد الله بن كعب ، قال : «افتتحت التّوراة بفاتحة سورة الأنعام ، وختمت بخاتمة هذه السّورة» (٣).

وروى عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدّه ، قال : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أفصح الغلام من بني عبد المطّلب ، علّمه : الحمد لله الّذي لم يتّخذ ولدا الآية (٤).

وقال عبد الحميد بن واصل : سمعت عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «من قرأ : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) الآية ، كتب الله له من الأجر مثل الأرض والجبال ؛ لأنّ الله تعالى يقول فيمن زعم أنّ له ولدا : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا)(٥).

__________________

(١) أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي كما في «تخريج الكشاف» للزيلعي (٢ / ٢٩٦) وهو حديث موضوع وقد تقدم.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي (١٠ / ٢٢٣).

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٧٧) وعزاه إلى ابن أبي شيبة.

(٥) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١ / ٢٢٤).

٤١٤

سورة الكهف

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الكهف قال ابن عباس مكية غير أربعين آية منها ، وهي مائة وعشر آيات ، وألف وخمسمائة وسبع وسبعون كلمة ، وعدد حروفها ستة آلاف وثلاثمائة وستون حرفا.

قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً)(٣)

قال ابن الخطيب (١) : تقدم الكلام في الحمد ، والذي أقوله ها هنا : إن التسبيح أينما جاء فإنما جاء مقدما على التحميد ؛ ألا ترى أنه يقال : «سبحان الله والحمد لله».

وإذا عرف هذا ، فنقول : إنه تعالى ـ جلّ جلاله ـ ذكر التسبيح عندما أخبر أنّه أسرى بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) [الإسراء : ١] وذكر التحميد عندما ذكر إنزال الكتاب عليه فقال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ).

ثم قال (٢) : والمشبهة استدلوا بلفظ الإسراء في السورة المتقدمة وبلفظ الإنزال في هذه السورة على أنه تعالى مختص بجهة فوق.

والجواب عنه مذكور في سورة الأعراف في تفسير قوله (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) [الأعراف : ٥٤].

واعلم : أنه تعالى أثنى على نفسه بإنعامه على خلقه ، وخصّ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالذكر ؛ لأنّ إنزال الكتاب القرآن عليه كان نعمة عليه على الخصوص وعلى سائر الناس على العموم.

أما كونه نعمة عليه ؛ فلأنه تعالى أطلعه بواسطة هذا الكتاب الكريم على أسرار علم التّوحيد والتّنزيه وصفات الجلال وأحوال الملائكة وأحوال الأنبياء وأحوال القضاء والقدر ، وتعلّق أحوال العالم السفليّ بأحوال العالم العلوي ، وتعلق أحوال عالم الآخرة بعالم الدنيا ، وكيفية نزول القضاء من عالم الغيب ، وذلك من أعظم النّعم ، وأمّا كونه

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ٦٢.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ٦٣.

٤١٥

نعمة علينا ؛ فلأنه مشتمل على التكاليف والأحكام والوعد [والوعيد] والثواب والعقاب ، فكلّ واحد ينتفع به بمقدار طاقته وفهمه.

قوله : (وَلَمْ يَجْعَلْ) : في هذه الجملة أوجه ، أحدها : أنها معطوفة على الصلة قبلها. والثاني : أنها اعتراضية بين الحال وهي «قيّما» وبين صاحبها وهو «الكتاب». والثالث : أنها حال من «الكتاب» ، ويترتب على هذه الأوجه القول في «قيّما».

قوله : (قَيِّماً) : فيه أوجه : الأول : أنه حال من «الكتاب». والجملة من قوله (وَلَمْ يَجْعَلْ) اعتراض بينهما. وقد منع الزمخشري ذلك فقال : «فإن قلت : بم انتصب «قيّما»؟

قلت : الأحسن أن ينتصب بمضمر ، ولم يجعل حالا من «الكتاب» لأن قوله (وَلَمْ يَجْعَلْ) معطوف على «أنزل» فهو داخل في حيّز الصلة ، فجاعله حالا فاصل بين الحال وذي الحال ببعض الصلة» ، وكذلك قال أبو البقاء (١). وجواب هذا ما تقدّم من أن الجملة اعتراض لا معطوفة على الصّلة.

الثاني : أنه حال من الهاء في «له». قال أبو البقاء : «والحال مؤكدة. وقيل : منتقلة». قال شهاب الدين : القول بالانتقال لا يصحّ.

الثالث : أنه منصوب بفعل مقدر ، تقديره : جعله قيّما. قال الزمخشري : «تقديره : ولم يجعل له عوجا ، جعله قيّما ، لأنه إذا نفى عنه العوج فقد أثبت له الاستقامة». قال : «فإن قلت : ما فائدة الجمع بين نفي العوج وإثبات الاستقامة وفي أحدهما غنى عن الآخر؟. قلت : فائدته التأكيد فربّ مستقيم مشهود له بالاستقامة ، ولا يخلو من أدنى عوج عند السّير والتصفّح».

الرابع : أنه حال ثانية ، والجملة المنفيّة قبله حال أيضا ، وتعدد الحال لذي حال واحد جائز. والتقدير : أنزله غير جاعل له عوجا قيما.

والخامس : أنه حال أيضا ، ولكنه بدل من الجملة قبله لأنها حال ، وإبدال المفرد من الجملة إذا كانت بتقدير مفرد جائز ، وهذا كما أبدلت الجملة من المفرد في قوله : «عرفت زيدا أبو من هو».

والضمير في «له» فيه وجهان ، أحدهما : أنه للكتاب ، وعليه التخاريج المتقدمة. والثاني: أنه يعود على «عبده» ، وليس بواضح.

وقرأ العامة بتشديد الياء ، وأبان بن تغلب بفتحها خفيفة. وقد تقدّم القول فيها.

ووقف حفص على تنوين «عوجا» يبدله ألفا ، ويسكت سكتة لطيفة من غير قطع نفس ، إشعارا بأنّ «قيّما» ليس متصلا ب «عوجا» ، وإنما هو من صفة الكتاب. وغيره لم يعبأ بهذا الوهم فلم يسكت اتّكالا على فهم المعنى.

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ٩٨.

٤١٦

قلت : قد يتأيّد ما فعله حفص بما في بعض مصاحف الصحابة : «ولم يجعل له عوجا ، لكن جعله قيّما». وبعض القراء يطلق فيقول : يقف على «عوجا» ، ولم يقولوا : يبدل التنوين ألفا ، فيحتمل ذلك ، وهو أقرب لغرضه فيما ذكرت.

ونقل أبو شامة عن ابن غلبون وأبي علي الأهوازيّ ، يعني الإطلاق. ثم قال : «وفي ذلك نظر ـ أي في إبدال التنوين ألفا ـ فإنه لو وقف على التنوين لكان أدلّ على غرضه ، وهو أنه واقف بنيّة الوصل». انتهى.

وقال الأهوازيّ : «ليس هو وقفا مختارا ، لأنّ في الكلام تقديما وتأخيرا ، معناه : أنزل على عبده الكتاب قيّما ولم يجعل له عوجا». قال شهاب الدين : دعوى التقديم والتأخير وإن كان قال به غيره كالبغوي والواحدي وغيرهما إلّا أنّها مردودة لأنّها على خلاف الأصل ، وقد تقدّم تحقيقه.

وفعل حفص في مواضع من القرآن مثل فعله هنا من سكتة لطيفة نافية لوهم مخلّ. فمنها : أنّه كان يقف على «مرقدنا» ، ويبتدىء : (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ) [يس : ٥٢]. قال : لئلّا يتوهّم أنّ «هذا» صفة ل «مرقدنا» فالوقف يبين أنّ كلام الكفار انقضى ، ثم ابتدىء بكلام غيرهم. قيل : هم الملائكة. وقيل : المؤمنون. وسيأتي في يس ما يقتضي أن يكون «هذا» صفة ل «مرقدنا» فيفوت ذلك.

ومنها : (وَقِيلَ مَنْ راقٍ) [القيامة : ٢٧]. كان يقف على نون «من» ويبتدىء «راق» قال : «لئلّا يتوهّم أنها كلمة واحدة على فعّال اسم فاعل للمبالغة من مرق يمرق فهو مرّاق».

ومنها : (بَلْ رانَ) [المطففين : ١٤] كان يقف على لام بل ، ويبتدىء «ران» لما تقدّم.

قال المهدويّ : «وكان يلزم حفصا مثل ذلك ، فيما شاكل هذه المواضع ، وهو لا يفعله ، فلم يكن لقراءته وجه من الاحتجاج إلا اتباع الأثر في الرواية». قال أبو شامة : «أولى من هذه المواضع بمراعاة الوقف عليها : (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) [يونس : ٦٥] ، ينبغي الوقف على «قولهم» لئلّا يتوهّم أنّ ما بعده هو المقول» ، وكذا (أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ. الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) [غافر : ٦ ، ٧] ينبغي أن يعتنى بالوقف على «النّار» لئلا تتوهّم الصفة.

قال شهاب الدين : وتوهّم هذه الأشياء من أبعد البعيد. وقال أبو شامة أيضا : «ولو لزم الوقف على اللام والنون ليظهرا للزم ذلك في كلّ مدغم». يعني في (بَلْ رانَ) وفي (مَنْ راقٍ).

فصل

المعنى : ولم يجعل له عوجا [قيّما] ، أي مختلفا.

٤١٧

قال تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢].

قال أهل اللغة : العوج في المعاني كالعوج في الأعيان ، فالمراد منه نفي التّناقض.

وقيل : معناه لم يجعله مخلوقا.

روي عن ابن عبّاس أنّه قال في قوله تعالى : (قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) [الزمر : ٢٨] أي غير مخلوق (١).

وقوله : «قيما» فيما نقل عن ابن عباس أنه قال : يريد مستقيما [قال ابن الخطيب:](٢) وهذا عندي مشكل ؛ لأنّه لا معنى لنفي الاعوجاج إلّا حصول الاستقامة ، فتفسير القيّم بالمستقيم يوجب التكرار ، بل الحقّ أن يقال : المراد من كونه قيّما سببا لهداية الخلق ، وأنّه يجري بحذو من يكون قيّما للأطفال ، فالأرواح البشرية كالأطفال ، والقرآن كالقيّم المشفق القيم بمصالحهم.

قوله : «لينذر» في هذه اللام وجهان ، أظهرهما : أنها متعلقة ب «قيّما» قاله الحوفيّ. والثاني : ـ وهو الظّاهر ـ أنّها تتعلق ب «أنزل». وفاعل «لينذر» يجوز أن يكون «الكتاب» وأن يكون الله ، وأن يكون الرسول.

و«أنذر» يتعدّى لاثنين : (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً) [النبأ : ٤٠] (فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً) [فصلت : ١٣]. ومفعوله الأول محذوف ، يقدره الزمخشري : «لينذر الذين كفروا» ، وغيره : «لينذر العباد» ، أو «لينذركم» ، أو لينذر العالم. وتقديره أحسن لأنه مقابل لقوله (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ) ، وهم ضدّهم.

وكما حذف المنذر وأتى بالمنذر به هنا ، حذف المنذر به وأتى بالمنذر في قوله (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا) [الكهف : ٤٠] فحذف الأول من الأول لدلالة ما في الثاني عليه ، وحذف الثاني من الثاني لدلالة ما في الأول عليه ، وهو في غاية البلاغة ، ولمّا لم تتكرّر البشارة ذكر مفعوليها فقال : (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً).

قوله : (مِنْ لَدُنْهُ) قرأ أبو بكر عن عاصم بسكون الدّال مشمّة الضمّ وكسر النون والهاء موصلة بياء ، فيقرأ «من لدنهي» والباقون يضمون الدال ، ويسكنون النون ويضمون الهاء ، وهم على قواعدهم فيها : فابن كثير يصلها بواو نحو : منهو وعنهو ، وغيره لا يصلها بشيء.

ووجه أبي بكر : أنّه سكن الدال تخفيفا كتسكين عين «عضد» فالنون ساكنة ، فالتقى ساكنان فكسر النون لالتقاء الساكنين ، وكان حقّه أن يكسر الأول على القاعدة المعروفة إلا أنه يلزم منه العود إلى ما فرّ منه ، وسيأتي لتحقيق هذا بيان في قوله تعالى : (وَيَخْشَ اللهَ

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٦١١) وعزاه إلى الآجري في الشريعة وابن مردويه والبيهقي في «الأسماء والصفات».

(٢) سقط من أ.

٤١٨

وَيَتَّقْهِ) [النور : ٥٢] في سورة النور ، لمّا كسر النون إتباعا على قاعدته ووصلها بياء. وأشم الدال إشارة إلى أصلها في الحركة.

والإشمام هنا عبارة عن ضمّ الشفتين من غير نطق ، ولهذا يختصّ به البصير دون الأعمى ، هكذا قرّره القراء وفيه نظر ؛ لأنّ الإشمام المشار إليه إنما يتحقق عند الوقف على آخر الكلمة فلا يليق إلّا بأن يكون إشارة إلى حركة الحرف الآخر المرفوع إذا وقف عليه نحو : «جاء الرجل» ، وهكذا قدّره النحويون. وأمّا كونه يؤتى به في وسط الكلمة فلا يتصوّر إلا أن يقف المتكلم على ذلك الساكن ثم ينطق ب «ياء» الكلمة. وإذا جرّبت نطقك في هذا الحرف الكريم وجدت الأمر كذلك ، لا ينطق به بالدال الساكنة مشيرا إلى ضمها إلا حتى يقف عليها ، ثم يأتي ب «ياء» في الكلمة.

فإن قلت : إنّما آتي بالإشارة إلى الضمة بعد فراغي من الكلمة بأسرها. قيل لك : فاتت الدلالة على تعيين (١) ذلك الحرف المشار إلى حركته.

فالجواب عن هذا بأنه ليس في الكلمة ما يصلح أن يشار إلى حركته وهو الدال. وقد تقدّم في «يوسف» أن الإشمام في (لا تَأْمَنَّا) [يوسف : ١١] إذا فسّرناه بالإشارة إلى الضمة : منهم من يفعله قبل كمال الإدغام ، ومنهم من يفعله بعده ، وهذا نظيره. وتقدّم أنّ الإشمام يقع بإزاء معان أربعة تقدّم تحقيقها.

و (مِنْ لَدُنْهُ) متعلق ب «لينذر». ويجوز تعلقه بمحذوف نعتا ل «بأسا» ، ويجوز أن يكون حالا من الضمير في «شديدا».

والبأس مأخوذ من قوله : (بِعَذابٍ بَئِيسٍ) [الأعراف : ١٦٥] و (مِنْ لَدُنْهُ) أي: صادرا من عنده.

فصل

قال الزجاج : وفي «لدن» لغات يقال : لد ، ولدن ، ولدى بمعنى واحد ، وهي لا تتمكن ممكن «عند» ؛ لأنّك تقول هذا القول الصّواب عندي ، ولا يقال : صواب لدني ، ويقال : عندي مال عظيم ، [والمال](٢) غائب عنك ، ولدني لما يليك لا غير.

وقرىء (٣) «ويبشّر» بالرفع على الاستئناف. والمراد بالأجر الحسن الجنة.

قوله : (ماكِثِينَ) : حال : إمّا من الضمير المجرور في «لهم» ، أو المرفوع المستتر فيه ، أو من «أجرا» لتخصصه بالصفة ، إلّا أنّ هذا لا يجيء إلّا على رأي الكوفيين. فإنهم لا يشترطون بروز الضمير في الصفة الجارية على غير من هي له إذا أمن اللّبس ، ولو كان حالا منه عند البصريّين لقال : ماكثين هم فيه. ويجوز على رأي الكوفيين أن يكون صفة

__________________

(١) في ب : تغيير.

(٢) في ب : وهو.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٦ / ٩٥.

٤١٩

ثانية ل «أجرا». قال أبو البقاء (١) : وقيل : هو صفة ل «أجرا» ، والعائد الهاء في «فيه». ولم يتعرّض لبروز الضمير ولا لعدمه بالنسبة إلى المذهبين.

و«أبدا» منصوب على الظرف ب «ماكثين».

فصل

اعلم أنّ المقصود من إرسال الرسل إنذار المذنبين وبشارة المطيعين ، ولمّا كان دفع الضرّ أهمّ عند ذوي العقول من إيصال النّفع ، لا جرم قدّم الإنذار في اللفظ.

قال الزمخشريّ (٢) : قرىء «ويبشّر» بالتخفيف والتّثقيل و (ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً) بمعنى خالدين.

فصل

قال القاضي (٣) : دلت الآية على صحّة قوله في مسائل :

أحدها : أنّ القرآن مخلوق وبيانه من وجوه :

الأول : أنه تعالى وصفه بالإنزال والنزول ، وذلك من صفات المحدثات ؛ فإنّ القديم لا يجوز عليه التغيير.

والثاني : أنّه وصفه بكونه كتابا ، والكتب هو الجمع ، وسمّي كتابا لكونه مجموعا من الحروف والكلمات ، وما صحّ فيه [من](٤) التركيب والتأليف فهو محدث.

الثالث : أنّه تعالى أثبت الحمد لنفسه ، على إنزال الكتاب ، والحمد إنّما يستحقّ على النعمة ، والنعمة محدثة [مخلوقة](٥).

الرابع : أنّه وصفه بأنه غير معوجّ وبأنّه مستقيم ، والقديم لا يمكن وصفه بذلك ، فثبت أنّه محدث مخلوق.

وثانيها : خلق الأعمال ؛ فإنّ هذه الآية تدلّ على قولنا في هذه المسألة من وجوه :

الأول : نفس الأمر بالحمد ؛ لأنّه لو لم يكن للعبد فعل لم ينتفع بالكتاب ؛ إذ الانتفاع به إنما يحصل إذا قدر أن يفعل ما دلّ الكتاب على أنه يجب فعله ، ويترك ما دلّ الكتاب على أنه يجب تركه ، وهذا إنّما كان يعقل لو كان مستقلا بنفسه.

أمّا إذا لم يكن مستقلا بنفسه لم يكن لعوج الكتاب أثر في اعوجاج فعله ، ولم يكن لكون الكتاب «قيّما» أمر في استقامة فعله كان العبد قادرا على الفعل مختارا فيه.

والثاني : أنّه تعالى لو أنزل بعض الكتاب ليكون سببا لكفر البعض ، وأنزل الباقي

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ٩٨.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٧٠٣.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ٦٥.

(٤) زيادة من ب.

(٥) سقط من أ.

٤٢٠