اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٢

٣٤٥٣ ـ وبرك هجود قد أثارت مخافتي

 ........... (١)

وقال الآخر : [الطويل]

٣٤٥٤ ـ ألا طرقتنا والرّفاق هجود

 ........... (٢)

وقال آخر : [الوافر]

٣٤٥٥ ـ ألا زارت وأهل منى هجود

وليت خيالها بمنى يعود (٣)

فهجود : نيام ، جمع «هاجد» كساجد ، وسجود ، وقيل : الهجود : مشترك بين النّائم والمصلّي ، قال ابن الأعرابي : «تهجّد : صلّى من الليل ، وتهجد : نام» وهو قول أبي عبيدة والليث ـ رحمهما‌الله تعالى ـ.

قال الواحديّ (٤) : الهجود في اللغة : النوم ، وهو كثير في الشّعر.

يقال : أهجدتّه وهجدتّه ، أي : أنمته ومنه قول لبيد [الرمل] :

٣٤٥٦ ـ قال : هجّدنا فقد طال السّرى

 ........... (٥)

كأنه قال : نوّمنا ؛ فقد طال السّرى ؛ حتّى غلب علينا النّوم ، وقال الأزهري : المعروف في كلام العرب : أنّ الهاجد هو النّائم ، ثم رأينا في الشّرع أنّ من قام إلى الصّلاة من النّوم يسمّى هاجدا أي متهجّدا ؛ فيحمل هذا على أنّه سمّي متهجّدا ؛ لإلقائه الهجود عن نفسه ؛ كما يقال للعابد : «متحنّث» ؛ لإلقائه الحنث عن نفسه ، وروي أن الحجّاج بن عمرو المازنيّ قال : أيحسب أحدكم ، إذا قام من اللّيل ، فصلّى حتّى يصبح أنّه قد تهجّد ، إنّما التهجّد الصلاة بعد الرقاد ، ثمّ صلاة أخرى بعد رقدة ، ثم صلاة أخرى بعد رقدة ، هكذا كانت صلاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم دائما عليه (٦).

__________________

(١) صدر بيت لطرفة بن العبد من معلقته وعجزه :

بواديها أهش بعضب مجرد

ينظر : ديوانه (٣٨) شرح القصائد العشر ١٩٢ ، التهذيب واللسان «برك» ، البحر المحيط ٦ / ٦٦ ، الدر المصون ٤ / ٤١٤.

(٢) صدر بيت وعجزه :

فباتت بعلات النوال تجود

ينظر : تفسير الطبري ١٥ / ٩٥ ، الدر المصون ٤ / ٦٦ ، القرطبي ١٠ / ١٩٩ ، روح المعاني ١٥ / ١٤٤ ، الدر المصون ٤ / ٤١٤.

(٣) ينظر : البحر ٦ / ٦٦ ، القرطبي ١٠ / ١٩٩ ، الماوردي ٢ / ٤٥٠ ، الدر المصون ٤ / ٤١٤.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ٢٥.

(٥) صدر بيت وعجزه :

وقدرنا إن خنى دهر غفل

ينظر : ديوانه (١٨٢) ، واللسان (هجد).

(٦) ينظر : تفسير الرازي (٢١ / ٢٥).

٣٦١

والنافلة في اللغة : الزيادة على الأصل ، وقد تقدّم في الأنفال ، وفي تفسير كونها زيادة هاهنا قولان مبنيّان على أنّ صلاة الليل ، هل كانت واجبة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أم لا؟.

فقيل : إنّها واجبة عليه ؛ لقوله سبحانه وتعالى : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) [المزمل : ١ ، ٢] ثم نسخت ، فصارت نافلة ، أي : تطوّعا وزيادة على الفرائض.

وذكر مجاهد والسدي في تفسير كونها نافلة وجها حسنا ، قالا : إنّ الله قد غفر للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وسلم ما تقدّم من ذنبه ، وما تأخّر ، فكلّ طاعة يأتي بها صلى‌الله‌عليه‌وسلم سوى المكتوبة لا تؤثر في كفّارة الذنب ، بل تؤثر في زيادة الدّرجات ، وكثرة الثّواب ؛ فكان المقصود من تلك العبادة زيادة الثواب ، فلهذا سمّي نافلة ؛ بخلاف الأمة ؛ فإنّ لهم ذنوبا محتاجة إلى التكفير ، فهذه الطاعة يحتاجون إليها ؛ لتكفير السّيئات عنهم ؛ فثبت أنّ هذه الطاعات إنّما تكون زوائد ونوافل في حقّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا في حقّ غيره ، فلهذا قال : «نافلة لك» ، فهذا معنى يخصّصه.

وأمّا من قال : إنّ صلاة الليل كانت واجبة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : معنى كونها نافلة له على التخصيص ، يعني : أنّها فريضة لك ، زائدة على الصّلوات الخمس ، خصّصت بها من دون أمّتك ؛ ويدلّ على هذا القول قوله تعالى : (فَتَهَجَّدْ) والأمر للوجوب ، ويرد هنا قوله : (نافِلَةً لَكَ) ، لأنّه لو كان المراد الوجوب ، لقال : «نافلة عليك».

واعلم أنّ قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) وإن كان ظاهر الأمر فيه مختصّا بالرسول ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ إلا أنّه في المعنى عامّ في حقّ الأمّة ؛ ويدلّ عليه قوله تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ) بيّن أن الأمر بالتهجد يختصّ بالرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ والأمر بالصّلوات الخمس غير مخصوص بالرسول ـ صلوات عليه ـ وإلّا لم يكن لتقييد الأمر بالتهجّد بهذا القيد فائدة.

قوله تعالى : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) في نصب «مقاما» أربعة أوجه :

أحدها : أنه منصوب على الظرف ، أي : يبعثك في مقام.

الثاني : أن ينتصب بمعنى «يبعثك» ؛ لأنّه في معنى «يقيمك» ؛ يقال : أقيم من قبره ، وبعث منه ، بمعنى ، فهو نحو : قعد جلوسا.

الثالث : أنه منصوب على الحال ، أي : يبعثك ذا مقام محمود.

الرابع : أنه مصدر مؤكد ، وناصبه مقدر ، أي : فيقوم مقاما.

و«عسى» على الأوجه الثلاثة دون الرابع يتعيّن فيها أن تكون التامة ؛ فتكون مسندة إلى «أن» وما في حيّزها ؛ إذ لو كانت ناقصة على أن يكون (أَنْ يَبْعَثَكَ) خبرا مقدّما ، و«ربّك» اسما مؤخرا ؛ لزم من ذلك محذور : وهو الفصل بأجنبي بين صلة الموصول ومعمولها ، فإنّ «مقاما» على الأوجه الثلاثة الأول : منصوب ب «يبعثك» ، وهو صلة ل «أن» ، فإذا جعلت «ربّك» اسمها ، كان أجنبيّا من الصلة ، فلا يفصل به ، وإذا جعلته فاعلا ، لم يكن أجنبيّا ، فلا يبالى بالفصل به.

٣٦٢

وأمّا على الوجه الرابع : فيجوز أن تكون التامة والناقصة بالتقديم والتأخير ؛ لعدم المحذور ؛ لأنّ «مقاما» معمول لغير الصلة.

وقوله : «محمودا» في انتصابه وجهان :

أحدهما : أنه منصوب على الحال من قوله : يبعثك ، أي : يبعثك محمودا.

والثاني : أن يكون نعتا للمقام.

فصل في معنى «عسى» من الله

اتفق المفسرون على أنّ كلمة «عسى» من الله واجب.

قال أهل المعاني : لأنه لفظ يفيد الإطماع ، ومن أطمع إنسانا في شيء ، ثم حرمه ، كان عارا ، والله تعالى أكرم من أن يطمع واحدا في شيء ، ثم لا يعطيه.

وفي تفسير المقام المحمود أربعة أقوال :

الأول : أنه الشّفاعة.

قال الواحدي (١) : أجمع المفسرون على أنّه مقام الشفاعة ؛ كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه الآية : «هو المقام الذي أشفع لأمّتي فيه» (٢).

قال ابن الخطيب (٣) : واللفظ مشعر به ؛ لأنّ الإنسان إنما يصير محمودا إذا حمده حامد ، والحمد ، إنما يكون على الإنعام ، فهذا المقام المحمود يجب أن يكون مقاما أنعم فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم على قوم ، فحمدوه على ذلك الإنعام ، وذلك الإنعام لا يجوز أن يكون تبليغ الدّين ، وتعليم الشّرائع ؛ لأنّ ذلك كان حاصلا في الحال ، وقوله : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ) تطميع ، وتطميع الإنسان في الشيء الذي حصل له وعده محال ؛ فوجب أن يكون ذلك الإنعام الذي لأجله يصير محمودا إنعاما يصل منه بعد ذلك إلى النّاس ، وما ذاك إلّا شفاعته عند الله تعالى.

وأيضا : التنكير في قوله : (مَقاماً مَحْمُوداً) يدل على أنه يحصل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك المقام حمد بالغ عظيم كامل ، ومن المعلوم أنّ حمد الإنسان على سعيه في التخليص من العذاب أعظم من حمده في السّعي في زيادة الثّواب ؛ لأنّه لا حاجة به إليها ؛ لأنّ حاجة الإنسان في رفع الالام العظيمة عن النّفس فوق احتياجه إلى تحصيل المنافع الزائدة التي لا حاجة به إلى تحصيلها ، وإذا

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ٢٦.

(٢) أخرجه أحمد (٢ / ٤٤١ ، ٥٢٨) والطبري في «تفسيره» (٨ / ١٣٣) والترمذي (٥ / ٢٨٣) رقم (٣١٣٧) والبيهقي في «الدلائل» (٥ / ٤٨٤) من حديث أبي هريرة.

قال الترمذي : هذا حديث حسن.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٥٦) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ٢٦.

٣٦٣

ثبت هذا ، وجب أن يكون المراد من قوله تعالى : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) هو الشّفاعة في إسقاط العقاب ؛ على ما هو مذهب أهل السنة.

ولمّا ثبت أن لفظ الآية مشعر بهذا المعنى إشعارا قويّا ، ثم وردت الأخبار الصحيحة في تقرير هذا المعنى ، وجب حمل اللفظ عليه ، ومما يؤكّد ذلك الدعاء المشهور عنه في إجابة المؤذّن : «وابعثه المقام المحمود الذي وعدته» (١).

واتّفق النّاس على أنّ المراد منه الشّفاعة.

والقول الثاني : قال حذيفة : يجمع النّاس في صعيد ، فلا تتكلّم نفس ، فأوّل من يتكلّم محمد ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فيقول : لبّيك ، وسعديك ، والشّرّ ليس إليك ، والمهديّ من هديت ، والعبد بين يديك ، وبك وإليك ، لا منجى ولا ملجأ منك إلّا إليك ، تباركت ، وتعاليت ، سبحانك ربّ البيت». قال : فهذا هو المراد من قوله عزوجل : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً)(٢).

والقول الأول أولى ؛ لأنّ سعيه في الشّفاعة يفيد إقدام الناس على حمده ، فيصير محمودا ، وأمّا ذكر هذا الدعاء ، فلا يفيد إلّا الثواب ، أمّا الحمد ، فلا.

فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال : إنّه تعالى يحمده على هذا القول؟.

فالجواب : أنّ الحمد في اللغة : مختصّ بالثناء المذكور في مقابلة الإنعام بلفظ ، فإن ورد لفظ «الحمد» في غير هذا المعنى ، فعلى سبيل المجاز.

القول الثالث : المراد مقام تحمد عاقبته ، وهذا ضعيف ؛ لما ذكرنا.

القول الرابع : قال الواحديّ ـ رحمه‌الله ـ : روي عن ابن عبّاس (٣) ـ رضي الله

__________________

(١) أخرجه البخاري (٢ / ٩٤) كتاب الأذان : باب الدعاء عند النداء حديث (٦١٤) وأبو داود (٥٢٩) والترمذي (٢١١) من حديث جابر.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ١٣٢) والنسائي في «الكبرى» (٦ / ٣٨١) والبزار (٣٤٦٤ ـ كشف) والحاكم (٢ / ٣٦٣ ـ ٣٦٤) من حديث حذيفة.

وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٥٧) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في «البعث» والخطيب في «المتفق والمفترق».

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٥٩) عن ابن عباس وعزاه إلى الطبراني.

وذكره الهيثمي في «المجمع» (٧ / ٥٤) وقال : رواه الطبراني وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف إذا لم يتابع وعطاء بن دينار قيل : لم يسمع من سعيد بن جبير. وقد روي مثله عن مجاهد وسيأتي.

وقد جاء معناه أيضا مرفوعا :

ذكره الذهبي في «العلو للعلي الغفار» ص (٥٥) من طريق أحمد بن يونس عن سلمة الأحمر عن أشعث بن طليق عن عبد الله بن مسعود مرفوعا وقال : هذا حديث منكر لا يفرح به وسلمة هذا متروك الحديث وأشعث لم يلحق ابن مسعود.

٣٦٤

عنه ـ أنه قال : يقعد الله محمدا على العرش ، وعن مجاهد أنّه قال : يجلسه معه على العرش (١).

قال الواحدي : وهذا قول رذل موحش فظيع ، ونص الكتاب يفسد هذا التفسير من وجوه:

الأول : أن البعث ضدّ الإجلاس ، يقال : بعثت النّاقة ، وبعث الله الميت ، أي : أقامه من قبره ، فتفسير البعث بالإجلاس تفسير الضدّ بالضدّ ؛ وهو فاسد.

والثاني : أنه تعالى ، لو كان جالسا على العرش ، بحيث يجلس عنده محمد ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لكان محدودا متناهيا ، ومن كان كذلك ، فهو محدث.

الثالث : أنه تعالى قال : (مَقاماً مَحْمُوداً) ولم يقل : مقعدا ، والمقام : موضع القيام ، لا موضع القعود.

الرابع : أن جلوسه مع الله على العرش ليس فيه كثيرا إعزاز ؛ لأن هؤلاء الحمقاء يقولون : إنّ أهل الجنة كلهم يجلسون معه ويرونه ، وإنه تعالى يسألهم عن أحوالهم التي كانوا عليها في الدنيا ، وإذا كانت هذه الحالة حاصلة عندهم لكلّ المؤمنين ، لم يكن في تخصيص محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك مزيد شرف ومرتبة.

الخامس : أنه إذا قيل : السلطان بعث فلانا ، فهم منه أنّه أرسله لإصلاح مهماتهم ، ولا يفهم أنه أجلسه مع نفسه ؛ فثبت أن هذا القول كلام رذل ، لا يميل إليه إلّا قليل العقل ، عديم الدّين.

قوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (٨١) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (٨٢) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (٨٣) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً)(٨٤)

قوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ) الآية.

يحتمل أن يكون «مدخل» مصدرا ، وأن يكون ظرف مكان ، وهو الظاهر ، والعامة على ضمّ الميم فيهما ؛ لسبقهما بفعل رباعيّ ، وقرأ (٢) قتادة ، وأبو حيوة ، وإبراهيم بن أبي عبلة ، وحميد بفتح الميم فيهما : إمّا لأنهما [مصدران على حذف الزوائد ؛ ك (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح : ١٧] ؛ وإمّا لأنهما] منصوبان بمقدر موافق لهما ، تقديره : فادخل

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ١٣٢) عن مجاهد.

(٢) ينظر : الإتحاف ٢ / ٢٠٣ ، والبحر المحيط ٦ / ٧٢.

٣٦٥

مدخل ، واخرج مخرج ، وقد تقدّم هذا مستوفى في قراءة نافع في سورة النساء [الآية : ٣١] ، وأنه قرأ كذلك في سورة الحجّ [الآية : ٥٩].

و (مُدْخَلَ صِدْقٍ) ، و (مُخْرَجَ صِدْقٍ) من إضافة التبيين ، وعند الكوفيين من إضافة الموصوف لصفته ؛ لأنه يوصف به مبالغة.

و«سلطانا» هو المفعول الأول للجعل ، والثاني أحد الجارّين المتقدمين ، والآخر متعلّق باستقراره ، وقوله «نصيرا» يجوز أن يكون محولا من «فاعل» للمبالغة ، وأن يكون بمعنى مفعول.

فصل في معنى (مُدْخَلَ صِدْقٍ) و (مُخْرَجَ صِدْقٍ)

قد تقدّم في قوله : (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ) قولان :

أحدهما : أن يكون المراد منه سعي كفّار مكّة في إخراجه منها.

والثاني : المراد منه اليهود ؛ قالوا له : الأولى أن تخرج من المدينة إلى الشّام ، ثم قال : (أَقِمِ الصَّلاةَ) واشتغل بعبادة الله تعالى ، ولا تلتفت إلى هؤلاء الجهّال ، فإنّ الله تعالى يعينك ، ثمّ عاد بعد هذا الكلام إلى شرح تلك الواقعة من أن كفّار مكّة أرادوا إخراجه ، فأراد الله تعالى هجرته إلى المدينة ، وقال له : (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ) ، وهو المدينة ، (وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) ، وهو مكّة ، وهذا قول ابن عبّاس ، والحسن ، وقتادة (١).

وعلى التفسير الثاني ، وهو أنّ المراد منها أن اليهود حملوه على الخروج من المدينة والذّهاب إلى الشّام ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثمّ أمر بأن يرجع إليها ، فلمّا عاد إلى المدينة ، قال : (رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ) وهي المدينة ، (وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) يعني : إلى مكة ؛ [بالفتح] ، أي : افتحها (٢).

وقال الضحاك (٣) : (أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ) ظاهرا على مكة بالفتح (وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) من مكة ، آمنا من المشركين.

وقال مجاهد (٤) : أدخلني في أمرك الذي أرسلتني به من النبوة ، والقيام بمهمات أداء شريعتك ، (وَأَخْرِجْنِي) من الدنيا ، وقد قمت بما وجب عليّ من حقّها (مُخْرَجَ صِدْقٍ) أي: إخراجا لا يبقى عليّ منها تبعة.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ١٣٥ ـ ١٣٦) عن ابن عباس وقتادة والحسن.

وأثر قتادة ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٥٩). وعزاه إلى الحاكم وصححه والبيهقي في «الدلائل».

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ١٣٧) وذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٣٢).

(٤) ينظر : المصدر السابق.

٣٦٦

وعن الحسن : (أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ) الجنة ، (وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) أي : إخراجا لا يبقى عليّ منها تبعة من مكّة (١).

وقيل : أدخلني في طاعتك ، وأخرجني من المناهي.

وقيل : أدخلني القبر مدخل صدق ، وأخرجني منه مخرج صدق ، وقيل : أدخلني حيث ما أدخلتني بالصّدق ، وأخرجني بالصّدق ، أي : لا تجعلني ممّن يدخل بوجه ، ويخرج بوجه ، فإنّ ذا الوجهين لم يكن عند الله وجيها.

ووصف الإدخال والإخراج بالصّدق ؛ لما يئول إليه الدّخول والخروج من النصر ، والعزّ ، ودولة الدّين ، كما وصف القدم بالصّدق ؛ فقال : (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [يونس : ٢].

(وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً).

قال مجاهد (٢) : حجة بينة ظاهرة تنصرني بها على جميع من خالفني ، وقال الحسن (٣) : ملكا قويّا تنصرني به على من عاداني ، وعزّا ظاهرا أقيم به دينك ، وقد أجاب الله ـ تعالى ـ دعاءه ، وأعلمه أنه يعصمه من النّاس ؛ فقال : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧].

وقال : (أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [المجادلة : ٢٢].

وقال : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) [التوبة : ٣٣].

ولما سأل الله تعالى النّصرة ، بيّن أنّه أجاب دعاءه ؛ فقال : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُ). وهو دينه وشرعه.

قوله : (وَزَهَقَ الْباطِلُ). وهو كل ما سواه من الأديان ، والشّرائع ، قاله السديّ (٤).

وقيل : جاء الحقّ ، أي : القرآن (٥). وزهق الباطل ، أي : ذهب الشيطان ، قاله قتادة(٦).

وقيل : الحقّ : عبادة الله تعالى ، والباطل عبادة الأصنام (٧).

وعن ابن مسعود : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل مكّة يوم الفتح ، وحول البيت ثلاثمائة وستّون صنما ، فجعل يضربها بعود في يده ، وجعل يقول : (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ)(٨).

__________________

(١) ينظر : المصدر السابق.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ١٣٧) وذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٣٢).

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٣٢).

(٥) ينظر : المصدر السابق.

(٦) ينظر : المصدر السابق.

(٧) ينظر : المصدر السابق.

(٨) أخرجه البخاري ٧ / ٦٠٩ كتاب المغازي : باب أين ركز النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤٢٨٧) ومسلم ٣ / ١٤٠٨ كتاب الجهاد : باب إزالة الأصنام (٨٧ ـ ١٧٨١) والترمذي ٥ / ٢٣٨ كتاب تفسير القرآن : باب من سورة بني إسرائيل (٣١٣٨).

٣٦٧

[أي : ذهب الشيطان] فكان الصّنم ينكبّ على وجهه.

قوله : (إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً). أي : إنّ الباطل ، وإن كان له دولة ، لا يبقى ، بل يزول بسرعة.

والزّهوق : الذّهاب ، والاضمحلال ؛ قال : [الكامل]

٣٤٥٧ ـ ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها

إقدامه بمزالة لم يزهق (١)

يقال : زهقت نفسي تزهق زهوقا بالضمّ ، وأمّا الزّهوق ، بالفتح ، فمثال مبالغة ؛ كقوله : [الطويل]

٣٤٥٨ ـ ضروب بنصل السّيف سوق سمانها

 ........... (٢)

قوله تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ) : في «من» هذه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها لبيان الجنس ، قاله الزمخشري ، وابن عطيّة ، وأبو البقاء ، وردّ عليهم أبو حيان : بأنّ التي للبيان ، لا بد وأن يتقدّمها ما تبينه ، لا أن تتقدم هي عليه ، وهنا قد وجد تقدّمها عليه.

الثاني : أنها للتبعيض ، وأنكره الحوفي ؛ قال : «لأنّه يلزم ألّا يكون بعضه شفاء» وأجيب عنه : بأنّ إنزاله إنّما هو مبعض ، وهذا الجواب ليس بظاهر ، وأجاب أبو البقاء بأنّ منه ما يشفي من المرض. وهذا يؤيده الدّليل المتقدّم ، وأجاز الكسائيّ : «ورحمة» بالنصب عطفا على ما تظاهر وهذا قد وجد بدليل رقية بعض الصحابة سيّد الحيّ الذي لدغ ، بالفاتحة ؛ فشفي.

الثالث : أنها لابتداء الغاية ، وهو واضح.

والجمهور على رفع «شفاء ورحمة» خبرين ل «هو» ، والجملة صلة ل «ما» وزيد بن عليّ (٣) بنصبهما ، وخرّجت قراءته على نصبهما على الحال ، والخبر حينئذ «للمؤمنين» وقدّمت الحال على عاملها المعنوي ، كقوله تعالى : (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ) [الزمر : ٦٧] في قراءة من نصب «مطويّات» ، وقول النابغة :

٣٤٥٩ ـ رهط ابن كور محقبي أدراعهم

فيهم ورهط ربيعة بن حذار (٤)

وقيل : منصوبان بإضمار فعل ، وهذا عند من يمنع تقديمها على عاملها المعنوي ، وقال أبو البقاء (٥) : وأجاز الكسائي : «ورحمة» بالنصب عطفا على «ما» فظاهر هذا أن

__________________

(١) ينظر البيت في البحر ٦ / ٦٧ ، الدر المصون ٤ / ٤١٥.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٦ / ٧٢ ، والدر المصون ٤ / ٤١٦.

(٤) تقدم.

(٥) ينظر : الإملاء ٢ / ٩٥.

٣٦٨

الكسائيّ [بقّى] «شفاء» على رفعه ، ونصب «رحمة» فقط عطفا على «ما» الموصولة ؛ كأنّه قيل : وننزّل [من القرآن رحمة ، وليس في نقله ما يؤذن بأنه تلاها قرآنا ، وتقدّم الخلاف في] «وننزّل» تخفيفا وتشديدا ، والعامة على نون العظمة. ومجاهد (١) «وينزل» بياء الغيبة ، أي : الله.

فصل في المراد ب «من» في الآية

قال المفسّرون : إنّ «من» هنا للجنس ؛ كقوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) [الحج : ٣٠].

أي : وننزّل من هذا الجنس الذي هو قرآن ما هو شفاء ، فجميع القرآن شفاء للمؤمنين ، أي : بيان من الضلالة والجهالة يتبيّن به المختلف ، ويتّضح به المشكل ، ويستشفى به من الشّبهة ، ويهتدى به من الحيرة ، وهو شفاء للقلوب بزوال الجهل عنها.

واعلم أنّ القرآن شفاء من الأمراض الرّوحانيّة ، والأمراض الجسمانية.

أما كونه شفاء من الأمراض الروحانية ؛ لأنّ المرض الروحانيّ قسمان :

أحدهما : الاعتقادات الباطلة ، وأشدّها فسادا الاعتقادات الفاسدة في الإلهيّات ، والنبوّات ، والمعاد ، والقضاء ، والقدر ؛ والقرآن كلّه مشتمل على دلائل الحقّ في هذه المطالب.

والثاني : الأخلاق المذمومة ؛ والقرآن مشتمل على تفاصيلها ، وتعريف ما فيها من المفاسد ، والإرشاد إلى الأخلاق الفاضلة ، وكان القرآن شفاء من الأمراض الروحانيّة.

وأما كونه شفاء من الأمراض الجسمانية ؛ فلأنّ التبرّك بقراءته يدفع كثيرا من الأمراض ؛ ويؤيده ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من لم يستشف بالقرآن ، فلا شفاه الله تعالى» (٢).

وما ورد في حديث الرقية بالفاتحة.

ثم قال : «ولا يزيد الظّالمين إلّا خسارا» (٣) المراد بالظالمين ها هنا : المشركون ؛ لأنّ سماع القرآن يزيدهم غضبا ، وغيظا ، وحقدا ، وكلّما نزلت آية يتجدّد تكذيب ؛ فتزداد خسارتهم.

قال مجاهد وقتادة : لم يجالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان : قضاء الله الذي قضاه شفاء ورحمة للمؤمنين ، ولا يزيد الظّالمين إلا خسارا (٤).

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٠ / ٢٠٤ ، والبحر ٦ / ٧٢.

(٢) ذكره المتقي الهندي في «الكنز» (١٠ / ٩) رقم (٢٨١٠٦) وعزاه إلى الدار قطني في «الأفراد» عن أبي هريرة.

(٣) تقدم.

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٣٣).

٣٦٩

ثم إنه تعالى ذكر السّبب الأصلي في وقوع هؤلاء الجهّال في أودية الضّلال ، وهو حبّ الدنيا ، والرغبة في المال والجاه ، واعتقادهم أن ذلك إنّما يحصل بجدّهم واجتهادهم ، فقال : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ).

قال ابن عباس : الإنسان هاهنا هو الوليد بن المغيرة.

والأولى أنّ كل إنسان من شأنه إذا فاز بمقصوده ، اغترّ وصار غافلا عن عبادة الله ـ تعالى ـ وتمرّد على طاعته ؛ كما قال : (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) [العلق : ٦ ، ٧].

قوله تعالى : (وَنَأى) : قرأ العامة (١) بتقديم الهمزة على حرف العلة ؛ من النّأي ، وهو البعد ، وابن ذكوان ـ ونقلها أبو حيان وابن الخطيب عن ابن عامر وأبو جعفر : «ناء» مثل «جاء» بتقديم الألف على الهمزة ، وفيها تخريجان :

أحدهما : أنها من : ناء ، ينوء ، أي : نهض ؛ قال : [الرجز]

٣٤٦٠ ـ حتّى إذا ما التأمت مفاصله

وناء في شقّ الشّمال كاهله (٢)

والثاني : أنه مقلوب من «نأى» ، ووزنه «فلع» كقولهم في «رأى» : «راء» إلى غير ذلك فيكونان بمعنى ، ولكن متى أمكن عدم القلب ، فهو أولى ، وهذا الخلاف أيضا في حم السجدة [فصلت : ٥١].

وأمال الألف إمالة محضة (٣) الأخوان ، وأبو بكر ، عن عاصم ، وبين بين ؛ بخلاف عنه ، السوسيّ ، وكذلك في فصّلت ، إلا أبا بكر ؛ فإنه لم يمله (٤).

وأمال فتحة النون في السورتين (٥) خلف ، وأبو الحارث والدّوري عن الكسائيّ.

ثم قال : (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ) ، أي : الشّدة ، والضر (كانَ يَؤُساً) أيسا قنوطا.

وقيل : معناه : أنّه يتضرّع ، ويدعو عند الضّرّ والشدّة ، فإذا تأخّرت الإجابة ، أيس ، ولا ينبغي للمؤمن أن ييئس من الإجابة ، وإن تأخّرت ، فيدع الدعاء.

قوله تعالى : (عَلى شاكِلَتِهِ) : متعلق ب «يعمل» ، والشّاكلة : أحسن ما قيل فيها ما قاله الزمخشريّ والزجاج : أنها مذهبه الذي يشاكل حاله في الهدى والضلالة ؛ من قولهم :

__________________

(١) ينظر : السبعة ٣٨٤ ، والتيسير ١٤١ ، والنشر ٢ / ٣٠٨ ، والإتحاف ٢ / ٢٠٣ ، والحجة ٤٠٩ ، والقرطبي ١٠ / ٢٠٨ ، والرازي ١ / ٣٠ ، والوسيط ٣ / ١٢٤ ، والبحر ٦ / ٧٣ ، والحجة للقراء للسبعة ٥ / ١١٥.

(٢) ينظر البيت في مشكل القرآن ٢٠٤ ، البحر المحيط ٦ / ٧٣ ، روح المعاني ١٥ / ١٤٧ ، التهذيب واللسان «نوأ» ، الدر المصون ٤ / ٤١٦.

(٣) ينظر : النشر ٢ / ٤٣ ، والإتحاف ٢ / ٢٠٤ ، والسبعة ٣٨٤ ، والحجة للقراء السبعة ٥ / ١١٦ ، والحجة ٤٠٩.

(٤) ينظر : الإتحاف ٢ / ٢٠٤ ، والدر المصون ٤ / ٤١٦.

(٥) ينظر : النشر ٢ / ٤٤ ، والدر المصون ٤ / ٤١٦ ، ٤١٧.

٣٧٠

«طريق ذو شواكل» ، وهي الطرق التي تشعّبت منه ؛ والدليل عليه قوله تعالى : (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً) ، وقيل : على دينه ، وقيل : خلقه (١) ، وقال ابن عباس : «جانبه» (٢) وقال الحسن ، وقتادة (٣) : على نيّته. وقال الفراء (٤) : «على طريقته ، والمذهب الذي جبل عليه».

[وهو] من «الشّكل» وهو المثل ؛ يقال : لست على شكلي ، ولا شاكلتي ، وأمّا «الشّكل» بالكسر فهو الهيئة ؛ يقال : جارية حسنة الشّكل ، وقال امرؤ [القيس] في «الشّكل» بالفتح : [الكامل]

٣٤٦١ ـ حيّ الحمول بجانب العزل

إذ لا يلائم شكلها شكلي (٥)

أي : لا يلائم مثلها مثلي.

قال ابن الخطيب (٦) : والذي يقوى عندي : أنّ المراد من المشاكلة ما قاله الزجاج ، والزمخشريّ ؛ لقوله بعد ذلك : (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً) [الإسراء : ٨٤].

وفيه وجه آخر : وهو أنّ المراد : أنّ كلّ أحد يفعل على وفق ما يشاكله جوهر نفسه ، ومقتضى روحه ، فإن كانت مشرقة ، ظاهرة ، علوية ، صدرت منه أفعال فاضلة ، وإن كانت نفسه كدرة خبيثة [مضلّة ظلمانيّة ، صدرت عنه أفعال خسيسة](٧) فاسدة.

وأقول : اختلف العقلاء في أنّ النفوس الناطقة البشريّة ، هل هي مختلفة بالماهيّة ، أم لا؟.

منهم من قال : إنّها مختلفة بالماهيّة ، وإنّ اختلاف أحوالها وأفعالها ؛ لاختلاف جواهرها وماهيّاتها.

ومنهم من قال : إنّها متساوية في الماهية ، واختلاف أحوالها وأفعالها لاختلاف أمزجتها.

والمختار عندي : هو القسم الأوّل ، والقرآن يشعر به ؛ لأنه تعالى بيّن في الآية المتقدمة : أنّ القرآن بالنّسبة إلى البعض يفيد الشّفاء ، والرحمة ، وبالنّسبة إلى الآخرين يفيد

__________________

(١) في ب : على خلته.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ١٤٠) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٦١) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ١٤١) عن قتادة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٦١) عن الحسن وعزاه إلى هناد وابن المنذر.

(٤) ينظر : معاني القرآن للفراء ٢ / ١٣٠.

(٥) ينظر : ديوانه ٢٣٦ ، الدر المصون ٤ / ٤١٧.

(٦) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ٣٠.

(٧) سقط من : أ.

٣٧١

الخسار ، والخزي ، ثم أتبعه بقوله : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ).

ومعناه : أن اللائق بتلك النّفوس أن يظهر فيها القرآن الخير وآثار الذكاء والكمال وبتلك النفوس الكدرة أن يظهر فيها من القرآن آثار الخزي والضلال كما أن الشمس تعقد الملح وتلين الدهن وتبيض ثوب القصار ، وتسوّد وجهه ، وهذا الكلام لا يتم المقصود به ، إلّا إذا كانت الأرواح والنفوس مختلفة ماهيّاتها ، فبعضها مشرقة صافية يظهر فيها من القرآن نور على نور ، وبعضها كدرة ظلمانية ، ويظهر فيها من القرآن ضلال على ضلال ، ونكال على نكال.

قوله : «أهدى» يجوز أن يكون من «اهتدى» ؛ على حذف الزوائد ، وأن يكون من «هدى» المتعدّي ، وأن يكون من «هدى» القاصر ، بمعنى «اهتدى». وقوله «سبيلا» تمييز.

[والمعنى :] فربّكم أعلم بمن هو أوضح طريقا.

قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٥) وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً)(٨٨)

قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) الآية.

روي أن اليهود قالوا لقريش : اسألوا محمدا عن ثلاثة أشياء ، فإن أجاب عن كلّها ، أو لم يجب عن شيء ، فليس بنبيّ ، وإن أجاب عن اثنين ، وأمسك عن الثّالث ، فهو نبيّ ؛ فاسألوا عن فتية فقدوا في الزّمن الأوّل ، فما كان أمرهم ؛ فإنهم كان لهم حديث عجيب؟ وعن رجل بلغ مشرق الشّمس ، ومغربها ، ما خبره؟ وعن الرّوح ؛ فسألوه ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «غدا أخبركم» ولم يقل : إن شاء الله ، فانقطع عنه الوحي (١).

قال مجاهد (٢) : اثنتي عشرة ليلة ، وقيل : خمسة عشر يوما ، وقال عكرمة (٣) : أربعين يوما ، وأهل مكّة يقولون : وعدنا محمد غدا ، وقد أصبحنا لا يخبرنا بشيء ، حتّى حزن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكث الوحي ، وشقّ عليه ما يقول أهل مكّة ، ثم نزل الوحي بقوله : (وَلا) نقولن (لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الكهف : ٢٣ ، ٢٤].

ونزل في الفتية : (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) [الكهف : ٩].

ونزل فيمن بلغ المشرق والمغرب : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) [الكهف : ٨٣].

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٣٤).

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) ينظر : المصدر السابق.

٣٧٢

ونزل في الرّوح : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً).

قال ابن الخطيب (١) : ومن النّاس من [طعن](٢) في هذه الرواية ؛ من وجوه :

أولها : قالوا : ليس الروح أعظم شأنا ، ولا أعلى درجة من الله تعالى ، فإن كانت معرفة الله تعالى حاصلة ممكنة ، فأي مانع يمنع من معرفة الروح؟!.

وثانيها : أن اليهود قالوا : إن أجاب عن قصّة أهل الكهف ، وقصّة ذي القرنين ، ولم يجب عن الروح ، فهو نبيّ ، وهذا كلام بعيد عن العقلاء ؛ لأن قصّة أصحاب الكهف ، وقصّة ذي القرنين ليست إلا حكاية ، والحكاية لا تكون دليلا على النبوة.

وأيضا : فالحكاية التي يذكرها : إما أن تعتبر قبل العلم بنبوته ، أو بعد العلم بنبوته.

فإن كانت قبل العلم بنبوته ، كذّبوه فيها ، وإن كانت بعد العلم بنبوته ، فحينئذ : نبوّته معلومة ؛ فلا فائدة في ذكر هذه الحكاية وأما عدم الجواب عن حقيقة الروح ، فهذا يبعد جعله دليلا على صحّة النبوة.

وثالثها : أنّ مسألة الروح يعرفها أصاغر الفلاسفة ، وأراذل المتكلّمين ، فلو قال الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّي لا أعرفها» لأورث ذلك ما يوجب التّحقير ، والتّنفير ؛ فإنّ الجهل بمثل هذه المسألة يفيد تحقير أيّ إنسان كان ، فكيف الرسول الذي هو أعلم العلماء ، وأفضل الفضلاء؟!.

ورابعها : أنه تعالى قال في حقّه : (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ) [الرحمن : ١ ، ٢].

وقال : (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) [النساء : ١١٣].

وقال : (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) [طه : ١١٤].

وقال في [حقّه ، أي القرآن ، وصفته (٣)] : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [الأنعام : ٥٩].

وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : أرني الأشياء كما هي.

فمن هذا حاله وصفته ، أيليق به أن يقول : أنا لا أعرف هذه المسألة ، مع أنّها من المسائل المشهورة المذكورة عند جمهور الخلق؟!.

بل المختار عندنا : أنّهم سألوه عن الروح ، وأنّه ـ صلوات الله عليه ـ أجابهم على أحسن الوجوه ، وتقريره أن المذكور في الآية ، أنهم سألوه عن الروح ، والسؤال عن الروح يقع على وجوه كثيرة :

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ٣١.

(٢) في أ: يطعن.

(٣) في ب : صفة القرآن.

٣٧٣

أولها : أن يقال : ماهية الروح ، هل هي متحيّز أو حالّ في المتحيّز.

وثانيها : أن يقال : الروح قديمة ، أو حادثة؟.

وثالثها : أن يقال : الروح ، هل تبقى بعد الأجسام ، أو تفنى؟.

ورابعها : أن يقال : ما حقيقة سعادة الأرواح ، وشقاوتها؟.

وبالجملة : فالمباحث المتعلقة بالروح كثيرة.

وقوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) ليس فيه ما يدلّ على أنّهم سألوه عن أيّ المسائل ، إلا أنه تعالى ذكر في الجواب عن هذا السؤال : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) وهذا الجواب لا يليق إلا بمسألتين من هذه المسائل التي ذكرناها :

إحداهما : السؤال عن ماهية الروح.

والأخرى : عن قدمها ، أو حدوثها.

أما البحث الأول : فهم قالوا : ما حقيقة الروح وماهيته؟! أهو أجسام موجودة داخلة في البدن مولدة من امتزاج الطّبائع والأخلاط؟ أو هو عبارة عن نفس هذا المزاج والتركيب؟ أو هو عبارة عن عرض قائم بهذه الأجسام؟ أو هو عبارة عن موجود يغاير هذه الأجسام ، والأعراض؟ فأجاب الله عنه بأنّه موجود مغاير لهذه الأجسام ، ولهذه الأعراض (١) ؛ وذلك لأن لهذه الأجسام ، ولهذه الأعراض أشياء تحدث عن امتزاج الأخلاط والعناصر.

وأمّا الروح ، فإنه ليس كذلك ، بل هو جوهر ، بسيط ، مجرد ، لا يحدث إلا بمحدث يقول له : (كُنْ فَيَكُونُ) ، فأجاب الله عنه بأنه موجود محدث (٢) بأمر الله وتكوينه ، وتأثيره في إفادة الحياة بهذا الجسد ، ولا يلزم من عدم العلم بحقيقته المخصوصة نفيه ؛ فإنّ أكثر حقائق الأشياء ، وماهيّاتها مجهولة ؛ فإنّا نعلم أنّ السكنجبين له خاصية في قطع الصفراء ؛ فأمّا إذا أردنا أن نعرف ماهيّة تلك الخاصّيّة ، وحقيقتها المخصوصة ، فذلك غير معلوم ؛ فثبت أنّ أكثر الحقائق مجهولة ، ولم يلزم من كونها مجهولة بعينها عدم العلم بخاصّيّتها ، فكذا ها هنا ؛ وهذا المراد بقوله : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً).

وأما البحث الثاني : فهو أنّ لفظ الأمر قد جاء بمعنى الفعل ؛ قال تعالى : (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) [هود : ٩٧].

وقال تعالى : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) [هود : ٨٢] أي : فعلنا.

فقوله تعالى : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي). أي : من فعل ربّي.

وهذا الجواب يدلّ على أنّهم سألوه عن الروح ، قديمة أو حادثة ، فقال : بل حادثة ، وإنما حصلت بفعل الله وتكوينه.

__________________

(١) سقط من : أ.

(٢) سقط من : أ.

٣٧٤

ثم احتجّ على حدوث الرّوح بقوله : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً).

ثم استدلّ بحدوث الأرواح بتغيّرها من حال إلى حال ، وهو المراد بقوله : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً).

وأما أقوال المفسّرين في الروح المذكورة ها هنا :

فقيل : الروح : القرآن ؛ لأنّ الله تعالى سمّى القرآن في هذه الآية ، وفي كثير من الآيات روحا ؛ قال تعالى : (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) [الشورى : ٥٢].

(يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ) [النحل : ٢].

ولأنّ القرآن تحصل به حياة الأرواح والعقول ؛ لأنّ به تحصل معرفة الله تعالى ، ومعرفة ملائكته ، وكتبه ، ورسله ، والأرواح إنّما يحصل إحياؤها بهذه المعارف ، وتقدم قوله : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الإسراء : ٨٢].

وقال بعده : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) [الإسراء : ٨٦].

إلى قوله : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [الإسراء : ٨٨].

فلما كان ما قبل هذه الآية في وصف القرآن ، وما بعدها كذلك ، وجب أن يكون المراد بالروح القرآن ؛ حتّى تكون آيات القرآن كلها متناسبة ؛ لأنّ القوم استعظموا أمر القرآن ، فسألوا : هل هو من جنس الشّعر ، أو من جنس الكهانة؟ فأجابهم الله تعالى بأنه ليس من جنس كلام البشر ، وإنما هو كلام ظهر بأمر الله ، ووحيه ، وتنزيله ، فقال : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) ، أي : القرآن إنما ظهر بأمر الله ربّي ، وليس من جنس كلام البشر.

وروي عن ابن عباس : أنه جبريل ، وهو قول الحسن وقتادة (١) ؛ لقوله تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) [الشعراء : ١٩٣] ؛ وقوله : (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) [مريم : ١٧].

ويؤكده : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي).

وقال جبريل : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) [مريم : ٦٤].

فسألوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كيف جبريل في نفسه؟ وكيف يأتيه؟ وكيف يبلغ الوحي إليه؟.

وقال مجاهد : الرّوح : خلق ليسوا من الملائكة ، على صور بني آدم يأكلون ، ولهم أيد ، وأرجل ، ورءوس (٢).

وقال أبو صالح : يشبهون الناس ، وليسوا من النّاس (٣).

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ١٤٣).

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٣٤).

(٣) ينظر : المصدر السابق.

٣٧٥

فصل

قال ابن الخطيب (١) : ولم أجد في القرآن ، ولا في الأخبار الصحيحة شيئا يمكن التمسّك به بهذا القول.

وروي عن عليّ (٢) : أنّه ملك له سبعون ألف وجه ، لكلّ وجه سبعون ألف لسان ، لكلّ لسان سبعون ألف لغة ، يسبّح الله تعالى بتلك اللغات ، ويخلق الله تعالى من كلّ تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة ، قالوا : ولم يخلق الله خلقا أعظم من الروح غير العرش ، ولو شاء أن يبتلع السّموات السّبع ، والأرضين السبع ، وما فيها بلقمة واحدة لفعله ، صورة خلقه على صورة الملائكة ، وصورة وجهه على صورة الآدميّين ، يقوم يوم القيامة عن يمين العرش ، وهو أقرب الخلق إلى الله عزوجل اليوم عند الحجب السّبعين ، ويقرب إلى الله يوم القيامة ، وهو يشفع لأهل التوحيد ، ولو لا أنّ بينه وبين الملائكة سترا من نور ، لاحترق أهل السموات من نوره.

فصل في ضعف هذا القول

قال ابن الخطيب (٣) : ولقائل أن يقول : هذا القول ضعيف ؛ لوجوه :

الأول : أنّ هذا التفصيل ، إذا عرفه عليّ ، فالنبي أولى بأن يعرفه ، ويخبر به ، وأيضا : فإنّ الوحي لم يكن ينزل على عليّ ؛ فهذا التفصيل ما عرفه إلا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فلم ذكر النبي هذا الشّرح لعليّ ، ولم يذكره لغيره؟!.

الثاني : أنّ ذلك الملك ، إن كان حيوانا واحدا ، وعاقلا واحدا ، فلا فائدة في تكثير تلك اللغات ، وإن كان المتكلّم بكلّ لغة ملكا ؛ فهذا مجموع ملائكة.

الثالث : أنّ هذا شيء مجهول الوجود ، فكيف يسأل عنه؟ أما الروح الذي هو سبب الحياة ، فهو شيء تتوفّر دواعي العقلاء على معرفته ؛ فصرف هذا السؤال إليه أولى.

وقيل : الرّوح : عيسى ؛ فإنّه روح الله ، وكلمته ، والمعنى : أنّه ليس كما يقوله اليهود ، ولا كما يقوله النصارى.

وقال قوم : هو الرّوح المركّب في الخلق الذي يحيا به الإنسان ، وهو الأصحّ.

واختلفوا فيه ؛ فقال بعضهم : هو الدم ؛ ألا ترى [أنّ الإنسان](٤) ، إذا مات لا يفوت منه إلا الدم.

وقال قوم : هو نفس الحيوان ؛ بدليل أنّه يموت باحتباس النفس.

وقال قوم : هو عرض.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ٣٣.

(٢) ينظر : تفسير البغوي (٣ / ١٣٤).

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ٣٣.

(٤) فيب أ: الحيوان.

٣٧٦

وقال قوم : هو جسم لطيف.

وقال بعضهم : الروح معنى اجتمع فيه النّور ، والطّيب ، والعلوّ ، والعلم ، والبقاء ؛ ألا ترى أنه إذا كان موجودا ، يكون الإنسان موصوفا بهذه الصفات [جميعها] ، وإذا خرج ذهب الكلّ؟!.

فصل

في شرح مذاهب القائلين بأنّ الإنسان جسم موجود ، روح في داخل البدن.

قال ابن الخطيب (١) : اعلم أنّ الأجسام الموجودة في هذا العالم السفليّ : إما أن تكون أحد العناصر الأربعة ، أو ما يكون متولّدا من امتزاجها ، ويمتنع أن يحصل في البدن الإنسانيّ جسم عنصريّ خالص ، بل لا بدّ وأن يكون الحاصل جسما متولّدا من امتزاجات هذه الأربعة.

فنقول : أمّا الجسم الذي تغلب عليه الأرضية : فهو الأعضاء الصّلبة الكثيفة ؛ كالعظم ، والعروق ، والغضروف ، والعصب ، والوتر ، والرّباطات لهذا الجسم ، واللّحم والجلد ، ولم يقل أحد من العقلاء الذين قالوا : إنّ الإنسان بمعنى : روح مغاير لهذا الجسد ، بأنّه عبارة عن عضو معيّن من هذه الأعضاء ؛ وذلك لأنّ هذه الأعضاء ثقيلة ، كثيفة ، ظلمانيّة ، لم يقل أحد من العقلاء بأنّ الإنسان عبارة عن أحد هذه الأعضاء.

وأما الجسم الذي تغلب عليه المائية ؛ فهو الأخلاط الأربعة ولم يقل في شيء منها : إنّه الإنسان إلّا في الدّم ؛ فإنّ فيهم من قال : هو الرّوح ؛ بدليل أنّه ، إذا خرج ، لزم الموت.

وأمّا الجسم الذي تغلب عليه الهوائيّة ، والنارية ؛ فهو الأرواح : وهي نوعان : أجسام هوائية مخلوطة بالحرارة الغريزيّة ، متولّدة : إمّا في القلب ، أو في الدّماغ ، وقالوا : إنما هي الرّوح الإنسانيّ ، ثمّ اختلفوا.

فمنهم من يقول : هو الرّوح الذي في القلب.

ومنهم من يقول : إنّه جزء لا يتجزّأ في الدّماغ.

ومنهم من يقول : الرّوح عبارة عن أجزاء ناريّة مختلطة بهذه الأرواح القلبيّة ، والدّماغيّة ، وتلك الأجزاء الناريّة : هي المسمّاة بالحرارة الغريزيّة ، وهي الإنسان.

ومن النّاس من يقول : الروح عبارة عن أجسام نورانيّة ، سماوية ، لطيفة الجوهر ، على طبيعة ضوء الشّمس ، وهي لا تقبل التحلّل ، والتبدّل ، ولا التفرّق ، والتمزّق ؛ وهو المراد بقوله : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [الحجر : ٢٩] نفذت تلك الأجسام الشّريفة السماوية الإلهيّة في داخل أعضاء البدن نفاذ النّار في الفحم ، ونفاذ دهن السّمسم في السّمسم ، ونفاذ دهن الورد في جسم الورد ؛ وهو المراد من قوله : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [الحجر : ٢٩].

ثم إنّ البدن ما دام سليما ، قابلا لنفاذ تلك الأجسام الشريفة ، بقي حيّا ، فإذا تولّد

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ٣٦.

٣٧٧

في البدن أخلاط غليظة ، منعت من سريان تلك الأجسام الشريفة فيها ، فانفصلت عن هذا البدن ؛ فحينئذ : يعرض الموت.

قال : فأمّا أنّ الإنسان جنس موجود خارج البدن ، فلا أعرف أحدا ذهب إلى هذا القول.

فصل في الاحتجاج على أن الروح ليست بجسم ولا عرض

احتجّ ابن الخطيب لمسمّى الروح بأنها ليست بجسم ، ولا عرض ، وأنها غير البدن ؛ بوجوه كثيرة عقليّة ونقليّة.

قال ابن الخطيب : منها أنّ العلم البديهيّ حاصل بأن أجزاء هذه الجثّة متبدلة بالزّيادة والنّقصان ، والمتبدل مغاير للثّابت.

ومنها : أنّ الإنسان حال كونه مشتغلا بفكره في شيء معيّن ، فإنه في شيء معيّن ، فإنه في تلك الحالة يكون غافلا عن جميع أجزاء بدنه ، وغير غافل عن نفسه ؛ فوجب أن يكون الإنسان مغايرا لبدنه.

ومنها : قول الإنسان : رأسي ، وبدني ، وعيني ، ويضيف كل عضو إلى نفسه ، والمضاف غير المضاف إليه.

فإن قيل : قد يقول : نفسي وذاتي فيضيف الذات والنفس إلى [نفسه](١) ؛ فيلزم أن يكون الشيء وذاته مغايرة لنفسه ، وهو محال ، قلنا : قد يريد بنفس الشيء وذاته الحقيقة المخصوصة التي يشير إليها كلّ أحد بقوله : أنا فلان ، فإذا قال : نفسي ، وذاتي ، كان المراد البدن ، وهو مغاير للإنسان ، أمّا إذا أريد بالنّفس والذّات الحقيقة المخصوصة المشار إليها بقوله : أنا فلان ، ثمّ إنّ الإنسان يمكنه أن يضيف ذلك إلى نفسه بقوله : إنّه لي.

ومنها : أنّ الإنسان قد يكون حيّا ، حال موت البدن ؛ لقوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ) [آل عمران : ١٦٩].

والحسّ يرى الجسد ميّتا.

وقال تعالى : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) [غافر : ٤٦].

وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : [«أنبياء الله لا يموتون»](٢).

وقال ـ عليه‌السلام ـ : «إذا حمل الميّت على نعشه ، [رفرف](٣) روحه فوق النّعش ، ويقول: يا أهلي ، ويا ولدي» (٤).

وقال تعالى : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) [الفجر : ٢٧ ، ٢٨].

ومنها : أنّ الإنسان ، إذا قطعت يداه ورجلاه ، لم ينقص من عقله ، وفهمه شيء.

ومنها : الذين مسخهم الله قردة وخنازير ؛ فإن لم يكن ذلك الإنسان حيّا ، وإلّا لكان

__________________

(١) في أ: ذاته.

(٢) في أ: إن شاء الله لا يموتوا.

(٣) في أ: وصارت.

(٤) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢١ / ٣٤).

٣٧٨

ذلك المسخ إماتة لذلك الإنسان ، وخلقا لذلك الخنزير.

ومنها : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يرى جبريل في صورة دحية ، ويرى إبليس في صورة الشّيخ النجديّ.

ومنها : العضو ، وهذا يدل على أن الإنسان شيء غير الجسد ، وأنّ الزّاني يزني بفرجه ؛ فيضرب على ظهره ؛ فيلزم أن يكون الإنسان شيئا آخر ، سوى الفرج ، وسوى الظّهر ، وهو شيء يستعمل الظهر في عمل ، والفرج في عمل ؛ فيكون المتلذذ المتألم هو ذلك الشيء بواسطة ذلك العضو ، وكل هذا يدل على أن الإنسان شيء غير الجسد.

ثم قال : واحتج المنكر بثلاثة (١) أوجه :

الأول : لو كانت مساوية لذات الله في كونه ليس بجسم ولا عرض لكانت مساوية له في تمام الماهية ، وذلك محال.

الثاني : قوله تعالى : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) [عبس : ١٧ ـ ٢٢].

وهذا تصريح بأنّ الإنسان شيء مخلوق من النّطفة ، وأنه يموت ، ويدخل القبر ، ثم إنّه تعالى يخرجه من القبر ، ولو لم يكن الإنسان عبارة عن هذه الجثّة ، وإلّا لم تكن الأحوال المذكورة في هذه الآية صحيحة.

الثالث : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً) إلى قوله : (فَرِحِينَ) [آل عمران : ١٦٩ ـ ١٧٠].

وهذا يدلّ على أنّ الروح جسم ؛ لأنّ الارتزاق والفرح من صفات الأجسام.

والجواب عن الأوّل : أنّ المساواة في أنّه ليس بمتحيّز ، ولا حالّ في المتحيّز مساواة في صفة سلبية ، والمساواة في الصّفة السلبيّة لا توجب المماثلة.

واعلم : أنّ جماعة من الجهّال يظنّون أنّه لما كان الروح موجودا ليس بمتحيّز ، ولا حالّ في المتحيز ، وجب أن يكون مثلا للإله ، أو جزءا له ، وذلك جهل فاحش ، وغلط قبيح.

وتحقيق القول : ما ذكرناه من أنّ المساواة في السّلوب ، لو أوجبت المماثلة ، لوجب القول باستواء كلّ المخالفات ؛ فإنّ كل ماهيتّين مختلفتين ، لا بدّ وأن يشتركا في سلب ما عداهما عنهما ، فليتفكر في هذه الدقيقة ؛ فإنّها مغلطة عظيمة للجهّال.

والجواب عن الثاني : أنه لمّا كان الاتّصاف في العرف والظّاهر عبارة عن هذه الجثّة أطلق عليه اسم الإنسان.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ٤٤.

٣٧٩

وأيضا : لقائل أن يقول : هب أنّا نجعل اسم الإنسان عبارة عن هذه الجثّة ، إلّا أنّا قد دلّلنا أنّ محلّ العلم والقدرة ليس هو الجثّة.

والجواب عن الثالث : أنّ الرّزق المذكور في الآية محمول على ما يقوّي حالهم ويكمل كمالهم ، وهو معرفة الله ومحبّته.

بل نقول : هذا من أدلّ الدلائل على صحّة قولنا ؛ لأنّ أبدانهم قد بليت في التّراب ، والله يقول : «إنّ أرواحهم تأوي في قناديل معلقة تحت العرش» وهذا يدلّ على أنّ الروح غير البدن.

قوله : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً).

أي : في جنب علم الله تعالى.

قال المفسّرون : هذا خطاب لليهود ، وذلك أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا قال لهم ذلك ، قالوا : نحن مختصّون بهذا الخطاب ، أم أنت معنا؟ فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «بل نحن وأنتم لم نؤت من العلم إلا قليلا» ، فقالوا : ما أعجب شأنك ، يا محمد ؛ ساعة تقول : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) [البقرة : ٢٦٩]. وساعة تقول هذا ، فنزل قوله : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) [لقمان : ٢٧].

وما ذكروه ليس بلازم ؛ لأنّ الشيء قد يكون قليلا بالنّسبة إلى شيء ، كثيرا بالنّسبة إلى شيء آخر ، فالعلوم التي عند الناس قليلة بالنّسبة إلى علم الله تعالى ، وبالنسبة إلى حقائق الأشياء ، ولكنّها كثيرة بالنسبة إلى الشّهوات الجسمانيّة ، واللذّات الجسدانية.

وقيل : هذا خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلم معنى الرّوح ، ولم يخبر به أحدا ؛ لأنّ ترك إخباره كان علما لنبوّته ، وقد تقدّم الكلام على ذلك ، قال البغويّ (١) : الأصحّ : أن الله تعالى استأثر بعلمه.

قوله : (مِنَ الْعِلْمِ) : متعلق ب «أوتيتم» ، ولا يجوز تعلّقه بمحذوف على أنه حال من «قليلا» ؛ لأنّه لو تأخّر ، لكان صفة ؛ لأنّ ما في حيّز «إلّا» لا يتقدّم عليها.

وقرأ عبد الله ، والأعمش (٢) «وما أوتوا» بضمير الغيبة.

قوله تعالى : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) الآية.

لما ذكر أنّه ما آتاهم من العلم إلّا قليلا ، قال ها هنا : إنه لو شاء أن يأخذ منهم ذلك القليل ، لقدر عليه ، وذلك بأن يمحو حفظه من القلوب ، وكتابته من الكتب ، والمراد بالذي أوحينا إليك القرآن.

__________________

(١) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٣٥.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٦ / ٧٤ ، الدر المصون ٤ / ٤١٧.

٣٨٠