اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٢

سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ) [آل عمران : ١٢] ، ولما كان كلّ ما أخبر الله عن وقوعه ، فهو واجب الوقوع ، فكان من هذا الاعتبار كالواقع ، فلا جرم قال : (أَحاطَ بِالنَّاسِ).

وروي أنّه لما تزاحف الفريقان يوم بدر ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العريش ، مع أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ كان يدعو ، ويقول : اللهمّ ، إنّي أسألك عهدك ووعدك لي ، ثمّ خرج ، وعليه الدّرع يحرض النّاس ويقول : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ)(١) [القمر : ٤٥].

ثم قال تعالى : (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ).

والأكثرون على أنّ المراد منه ما رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة المعراج من العجائب والآيات.

قال ابن عباس : هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢) وهو قول سعيد بن جبير ، والحسن ، ومسروق ، وقتادة ، ومجاهد ، وعكرمة ، وابن جريح (٣) والأكثرين.

ولا فرق بين الرّؤية والرّؤيا في اللغة ، يقال : رأيت بعيني رؤية ورؤيا.

وقال بعضهم : هذا يدلّ على أن قصّة الإسراء إنما حصلت في المنام ، وتقدّم بيان ضعف هذا في أوّل السورة ، وقيل : إنّه تعالى أراه في المنام مصارع قريش ، فحين ورد ماء بدر ، قال : والله ، لكأنّي أنظر إلى مصارع القوم ، ثمّ أخذ يقول : هذا مصرع فلان ، هذا مصرع فلان ، فلما سمعوا قريش ذلك ، جعلوا رؤياه سخرية ، وكانوا يستعجلون بما وعده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل : المراد رؤياه التي رآها ؛ أنّه يدخل مكّة ، وأخبر بذلك أصحابه ، وعجل السّير قبل الأجل إلى مكة فصدّه المشركون ، فرجع إلى المدينة ، فلما منع عن البيت الحرام عام الحديبية ، ورجع ، كان ذلك فتنة لبعض القوم ، وقال عمر لأبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ : أليس قد أخبرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّا ندخل البيت ونطوف به؟ فقال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ : إنّه لم يخبر بأنّا نفعل ذلك في هذه السّنة ، فسنفعل ذلك في سنة أخرى ، فلمّا جاء العام المقبل ، دخلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنزل الله تعالى : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِ) [الفتح : ٢٧] واعترضوا على هذين القولين بأنّ هذه السورة مكيّة ، وهاتان الواقعتان مدنيتان ، وهو اعتراض ضعيف ؛ لأن هاتين الوقعتين ، وإن كانتا مدنيتين ، فرؤيتهما في المنام لا تبعد أن تكون مكيّة.

__________________

(١) تقدم.

(٢) أخرجه البخاري (٨ / ٢٥٠) كتاب التفسير باب : وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلّا فتنة للناس حديث (٤٧١٦) والترمذي (٥ / ٢٨٢) رقم (٣١٣٤) والنسائي في «الكبرى» (٦ / ٣٨١) والطبري في «تفسيره» (٨ / ١٠١) والحاكم (٢ / ٣٦٢) عن ابن عباس.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٤٥) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن مردويه وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في «الدلائل».

(٣) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٢٣١.

٣٢١

وقال سعيد بن المسيّب : رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بني أميّة ينزون (١) على منبره ، [نزو القردة](٢) ، فساءه ذلك ، وهو قول ابن عبّاس في رواية عطاء (٣) ، وفيه الاعتراض المذكور ؛ لأنّ هذه الآية مكيّة ، وما كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكّة منبر.

ويمكن أن يجاب عنه بأنّه لا يبعد أن يرى بمكة أنّ له بالمدينة منبرا يتداوله بنو أميّة.

قوله : «والشّجرة» : العامة على نصبها نسقا على «الرّؤيا» و«الملعونة» نعت ، قيل: هو مجاز ؛ إذ المراد : الملعون طاعموها ؛ لأن الشجرة لا ذنب لها ، وهي شجرة الزقّوم ، وقيل: بل على الحقيقة ، ولعنها : إبعادها من رحمة الله ؛ لأنّها تخرج في أصل الجحيم ، وقرأ زيد بن عليّ برفعها على الابتداء (٤) ، وفي الخبر احتمالان :

أحدهما : هو محذوف ، أي : فتنة.

والثاني : ـ قاله أبو البقاء (٥) ـ أنه قوله «في القرآن» وليس بذاك.

فصل

قال المفسّرون : هذا على التّقديم والتّأخير ، والتقدير : وما جعلنا الرؤيا الّتي أريناك والشّجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للنّاس.

وقيل : المعنى : والشجرة الملعونة في القرآن كذلك ، وهي شجرة الزقّوم ، والفتنة في الشجرة الملعونة من وجهين :

الأول : أن أبا جهل ، قال : زعم صاحبكم أنّ نار جهنّم تحرق الحجر ، حيث قال تعالى : (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) [البقرة : ٢٤] ثم يقول : إنّ في النّار شجرا ، والنّار تأكل الشّجر ، فكيف تولّد فيها الشّجر (٦).

والثاني : قال ابن الزبعرى : إن محمدا يخوفنا بالزقّوم ، وما نعلم الزقّوم إلّا التّمر والزّبد ، فتزقّموا منه ، فأنزل الله تعالى حين عجبوا أن يكون في النار شجر (إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ)(٧) [الصافات : ٦٣].

__________________

(١) في ب : يتداولون.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٠ / ١٨٨).

(٣) أخرجه البيهقي في «الدلائل» (٦ / ٥٠٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٤٦) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن سعيد بن المسيب.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٦٧٦ ، البحر المحيط ٦ / ٥٤ ، والدر المصون ٤ / ٤٠٣.

(٥) ينظر : الإملاء ٢ / ٩٣.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ١٠٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٤٦) وزاد نسبته إلى ابن المنذر.

(٧) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٢٢).

٣٢٢

فإن قيل : ليس في القرآن لعن هذه الشجرة.

فالجواب (١) من وجوه :

الأول : المراد لعن الكفّار الذين يأكلونها.

الثاني : أنّ العرب تقول لكلّ طعام ضارّ : إنّه ملعون.

الثالث : أنّ اللّعن في اللغة : هو الإبعاد ، فلما كانت هذه الشجرة مبعدة عن صفات الخير ، سمّيت ملعونة.

وقال ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ : الشجرة الملعونة في القرآن : بنو أميّة ، يعني : الحكم بن أبي العاص ، قال : رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المنام أنّ ولد مروان يتداولون منبره ، فقصّ رؤياه على أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ في خلوة من مجلسه ، فلمّا تفرّقوا ، سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الحكم يخبر برؤيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاشتدّ ذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واتّهم عمر في إفشاء سرّه ، ثم ظهر له أنّ الحكم كان يستمع إليهم ، فنفاه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢).

قال الواحديّ (٣) ـ رحمه‌الله ـ : هذه القصّة كانت في المدينة ، والسورة [مكية](٤) ، فيبعد هذا التفسير ، إلّا أن يقال : هذه الآية مدنية ، ولم يقل به أحد ، ويؤكّد هذا التّأويل قول عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ لمروان : لعن الله أباك ، وأنت في صلبه ، فأنت بعض من لعنة الله (٥).

وقيل : الشجرة الملعونة في القرآن هم اليهود ؛ لقوله تعالى : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [المائدة : ٧٨].

وقيل : الشّجرة الملعونة هي الّتي تلتوي على الشّجر ، فتخنقه ، يعني «الكشوث».

فإن قيل : إنّ القوم طلبوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإتيان بالمعجزات القاهرة ، فأجاب بأنّه لا مصلحة في إظهارها ؛ لأنّها لو ظهرت ، ولم يؤمنوا ، نزل عليهم عذاب الاستئصال ، وذلك غير جائز ، فأيّ تعلق لهذا الكلام بذكر الرؤيا التي صارت فتنة للنّاس وبذكر الشجرة [التي صارت فتنة للنّاس].

فالجواب : أنّ التقدير كأنّه قيل : إنّهم لما طلبوا هذه المعجزات ، ثم إنّك لم تظهرها ، صار عدم ظهورها شبهة لهم في أنّك لست بصادق في دعوى (٦) النبوّة ، إلّا أنّ وقوع هذه الشبهة لا يضيق صدرك ، ولا يوهن أمرك ، ولا يصير سببا لضعف حالك ؛ ألا ترى أنّ تلك الرؤيا صارت سببا لوقوع الشبهة العظيمة عندهم ، ثم إنّ قوة تلك الشبهات ما أوجبت ضعفا في أمرك ، فكذلك هذه الشبهة الحاصلة بسبب عدم ظهور هذه المعجزات لا يوجب فتورا في حالك ، ولا ضعفا في أمرك.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ١٨٩.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٠ / ١٨٩).

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) في ب : مدينة.

(٥) ينظر : المصدر السابق.

(٦) في أ: دعوة.

٣٢٣

ثم قال تعالى : (وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ) أي التخويف (إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً) ، أي : تمرّدا وعتوا عظيما ، والمقصود من ذلك وجه آخر في أنّه ما أظهر المعجزات التي اقترحوها ؛ لأنّ هؤلاء خوفوا بأشياء كثيرة من الدنيا والآخرة ، وبشجرة الزّقوم ، فما زادهم هذا التخويف إلّا طغيانا كبيرا ؛ وذلك يدلّ على قسوة قلوبهم ، وتماديهم في الغيّ والطّغيان.

وإذا كان كذلك فبتقدير أن يظهر الله لهم تلك المعجزات التي اقترحوها ، لم ينتفعوا بها ، ولم يزدادوا إلّا تماديا في الجهل والعناد ، وإذا كان كذلك ، وجب في الحكمة ألّا يظهر الله لهم ما اقترحوه من الآيات والمعجزات.

قرأ العامة «ونخوّفهم» بنون العظمة ، والأعمش (١) بياء الغيبة.

قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً)(٦١)

في النظم وجوه :

أولها : أنه تعالى ، لمّا ذكر أنّ الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ كان في محنة عظيمة من قومه ، بيّن أنّ حال جميع الأنبياء مع أهل زمانهم كذلك ؛ ألا ترى أنّ الأول منهم آدم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ثمّ إنّه كان في محنة من إبليس.

وثانيها : أنّ القوم ، إنّما نازعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعاندوه ، واقترحوا عليه الاقتراحات الباطلة لأمرين : الكبر والحسد ، فبيّن سبحانه وتعالى أنّ هذا الكبر والحسد هما اللذان حملا إبليس على الكفر ، والخروج من الإيمان ، فهذه بليّة عظيمة قديمة.

وثالثها : أنّهم لما وصفهم الله تعالى بقوله : (فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً) بيّن ما هو السبب لحصول هذا الطّغيان ، وهو قول إبليس «لأحتنكنّ ذريته إلا قليلا» فلهذا المقصود ذكر الله تعالى قصّة آدم وإبليس.

واعلم أنّ هذه القصّة ذكرها الله تعالى في سبع سور ؛ البقرة ، والأعراف ، والحجر ، وهذه السورة ، والكهف ، وطه ، وص ، وقد تقدم الاستقصاء عليها في البقرة ، فليلتفت إليه. وقوله : (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) استفهام بمعنى الإنكار ، معناه : أنّ أصلي أشرف من أصله ؛ فوجب أن أكون أشرف منه ، والأشرف لا يخدم الأدنى.

قوله تعالى : «طينا» : فيه أوجه :

أحدها : أنه حال من «لمن» فالعامل فيها «أأسجد» أو من عائد هذا الموصول ، أي: خلقته طينا ، فالعامل فيها «خلقت» وجاز وقوع طين حالا ، وإن كان جامدا ، لدلالته على الأصالة ؛ كأنه قال : متأصّلا من طين.

__________________

(١) ينظر : البحر ٦ / ٥٤ ، والإتحاف ٢ / ٢٠٠ ونسبها إلى المطوعي.

٣٢٤

الثاني : أنه منصوب على إسقاط الخافض ، أي : من طين ، كما صرّح به في الآية الأخرى: (وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ).

الثالث : أنه منتصب على التمييز ، قاله الزّجّاج (١) ، وتبعه ابن عطيّة ، ولا يظهر ذلك ؛ إذ لم يتقدّم إبهام ذات ولا نسبة.

قوله تعالى : (قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً)(٦٢)

قوله تعالى : (أَرَأَيْتَكَ) : قد تقدم مستوفى في الأنعام [الآية : ٤٠]. وقال الزمخشريّ: «الكاف للخطاب ، و«هذا» مفعول به ، والمعنى : أخبرني عن هذا الذي كرّمته عليّ ، أي : فضّلته ، لم كرّمته ، وأنا خير منه؟ فاختصر الكلام». وهذا قريب من كلام الحوفيّ ـ رحمه‌الله ـ.

قال ابن عطيّة : «والكاف في «أرأيتك» حرف خطاب ، لا موضع لها من الإعراب ، ومعنى «أرأيت» أتأمّلت ونحوه ، كأنّ المخاطب ينبّه المخاطب ؛ ليستجمع لما ينصّ عليه بعد. وقال سيبويه (٢) : «هي بمعنى أخبرني» ، ومثل بقوله : «أرأيتك زيدا ، أبو من هو؟» وقول سيبويه صحيح ؛ حيث يكون بعدها استفهام كمثاله ، وأمّا في الآية فهو كما قلت ، وليست التي ذكر سيبويه» قلت : وهذا الذي ذكره ليس بمسلّم ، بل الآية كمثاله ، غاية ما في الباب : أنّ المفعول الثاني محذوف ، وهو الجملة الاستفهاميّة المقدّرة ؛ لانعقاد الكلام من مبتدأ وخبر ، لو قلت : هذا الذي كرّمته عليّ ، لم كرّمته؟.

وقال الفرّاء (٣) : «الكاف في محلّ نصب ، أي : أرأيت نفسك ؛ كقولك : أتدبّرت آخر أمرك ، فإني صانع فيه كذا ، ثم ابتدأ : هذا الذي كرّمت عليّ».

وقال ابن الخطيب (٤) : يمكن أن يقال : «هذا» مبتدأ محذوف عنه حرف الاستفهام ، و«الّذي» مع صلته خبره ، تقديره : أخبرني ، أهذا الذي كرّمته عليّ ؛ وهذا على وجه الاستصغار ، والاستحقار ، وإنّما حذف حرف الاستفهام ؛ لأنّه حصل في قوله : «أرأيتك» فأغنى عن تكريره.

وقال أبو البقاء (٥) : «والمفعول الثاني محذوف ، تقديره : تفضيله أو تكريمه». قال شهاب الدين : وهذا لا يجوز ؛ لأنّ المفعول الثاني في هذا الباب لا يكون إلا جملة مشتملة على استفهام.

قال أبو حيّان : «ولو ذهب ذاهب إلى أنّ الجملة القسميّة هي المفعول الثاني ، لكان

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن للزجاج ٣ / ٢٤٩.

(٢) ينظر : الكتاب ١ / ١٢٢.

(٣) ينظر : معاني القرآن للفراء ١ / ٣٣٣.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ٤.

(٥) ينظر : الإملاء ٢ / ٩٤.

٣٢٥

حسنا». قال شهاب الدين : يردّ ذلك التزام كون المفعول الثاني جملة مشتملة على استفهام ، وقد تقرّر جميع ذلك في الأنعام ، فعليك باعتباره ههنا.

قوله : (لَئِنْ أَخَّرْتَنِ) قرأ (١) ابن كثير بإثبات ياء المتكلّم وصلا ووقفا ، ونافع وأبو عمرو بإثباتها وصلا ، وحذفها وقفا ، وهذه قاعدة من ذكر في الياءات الزائدة على الرّسم ، والباقون بحذفها وصلا ووقفا ، وكل هذا في حرف هذه السورة ، أمّا الذي في المنافقين [الآية : ١٠] في قوله (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي) فأثبته الكلّ ؛ لثبوتها في الرسم الكريم.

قوله «لأحتنكنّ» جواب القسم الموطّأ له باللام ، ومعنى «لأحتنكنّ» لأستولينّ عليهم استيلاء من جعل في حنك الدابّة حبلا يقودها به ، فلا تأبى ولا [تشمس] عليه ، يقال : حنك فلان الدّابة ، واحتنكها ، أي : فعل بها ذلك ، واحتنك الجراد الأرض : أكل نباتها ، قال : [الرجز]

٣٤٣٤ ـ نشكو إليك سنة قد أجحفت

جهدا إلى جهد بنا فأضعفت

واحتنكت أموالنا وجلّفت (٢)

وحكى سيبويه (٣) ـ رحمه‌الله ـ : «أحنك الشّاتين» ، أي : آكلهما ، أي : أكثرهما [أكلا].

وذكر المفسرون في الاحتناك قولين :

أحدهما : أنه عبارة عن الأخذ بالكليّة ، يقال : احتنك فلان مال فلان : إذا استقصاه ، فأخذه بالكلّيّة ، واحتنك الجراد الزّرع : إذا أكله بالكليّة.

والثاني : أنه من قول العرب : حنّك الدابّة يحنكها ، إذا جعل في حنكها الأسفل حبلا يقودها به.

فعلى الأوّل معناه : لأستأصلنهم بالإغواء.

وعلى الثاني : لأقودنّهم إلى المعاصي ، كما تقاد الدابّة بحبلها.

ثم قال : «إلّا قليلا» وهم المعصومون الذين استثناهم الله تعالى في قوله تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) [الحجر : ٤٢].

فإن قيل : كيف ظنّ إبليس اللّعين هذا الظنّ الصّادق بذريّة آدم ـ صلوات الله عليه ـ؟.

قيل : فيه وجهان :

__________________

(١) ينظر : السبعة ٣٨٢ ، النشر ٢ / ٣٠٩ ، والإتحاف ٢٠١ ، والتيسير ١٤١ ، والحجة للقراء السبعة ٥ / ١٠٩ ، والدر المصون ٤ / ٤٠٤.

(٢) الأبيات للزفيان السعدي ينظر : في تفسير الطبري ١٥ / ٨٠ ، القرطبي ١٠ / ١٨٦ ، البحر المحيط ٦ / ٤٣ ، روح المعاني ١٥ / ١١٠ الدر المصون ٤ / ٤٠٤.

(٣) ينظر : الكتاب ٢ / ٢٥٢.

٣٢٦

الأول : أنه سمع الملائكة يقولون : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) [البقرة : ٣٠] فعرف ذلك.

والثاني : أنه وسوس إلى آدم ـ صلوات الله عليه ـ فلم يجد له عزما ، فقال : الظاهر أنّ أولاده يكونون مثله في ضعف العزم.

وقيل : لأنه عرف أنه مركب من قوّة بهيمية شهوانية ، وقوّة وهميّة شيطانية ، وقوة عقليّة ملكيّة ، وقوّة سبعيّة غضبيّة ، وعرف أنّ بعض تلك القوى تكون هي المستولية في أوّل الخلقة ، ثم إنّ القوّة العقليّة إنما تكمل في آخر الأمر ، ومتى كان الأمر كذلك ، كان ما ذكره إبليس لازما.

قوله تعالى : (قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً)(٦٣)

قوله تعالى : (اذْهَبْ فَمَنْ) : تقدّم أن الباء تدغم في الفاء في ألفاظ منها هذه ، عند أبي عمرو ، والكسائي ، وحمزة في رواية خلاد عنه ؛ بخلاف في قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ) [الحجرات : ١١].

وهذا ليس من الذّهاب الذي هو ضدّ المجيء ، وإنما معناه : امض لشأنك الذي اخترته ، والمقصود التخلية ، وتفويض الأمر إليه ، كقول موسى ـ صلوات الله عليه ـ : (فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ) [طه : ٩٧] ثم قال عزوجل : (فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً).

فإن قيل : الأولى أن يقال : فإن جهنّم جزاؤهم ؛ ليعود الضمير إلى قوله : (فَمَنْ تَبِعَكَ)؟ فالجواب (١) من وجوه :

الأول : تقديره : جزاؤهم وجزاؤكم ؛ لأنه تقدّم غائب ومخاطب في قوله : (فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) فغلّب المخاطب على الغائب ، فقيل : جزاؤكم.

والثاني : يجوز أن يكون الخطاب مرادا به «من» خاصة ، ويكون ذلك على طريق الالتفات.

والثالث : أنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ قال : «من سنّ سنّة سيّئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» (٢) فكل معصية توجد فيحصل لإبليس مثل وزر ذلك العامل ، فلما كان إبليس هو الأصل في كلّ المعاصي ، صار المخاطب بالوعيد هو إبليس.

قوله تعالى : «جزاء» في نصبه أوجه :

أحدها : أنّه منصوب على المصدر ، الناصب له المصدر قبله ، وهو مصدر مبين لنوع المصدر الأوّل.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ٥.

(٢) تقدم.

٣٢٧

الثاني : أنه منصوب على المصدر أيضا ، لكن بمضمر ، أي : يجازون جزاء.

الثالث : أنه حال موطئة ك «جاء زيد رجلا صالحا».

الرابع : أنه تمييز ، وهو غير متعقّل.

و«موفورا» اسم مفعول ، من وفرته ، ووفر يستعمل متعدّيا ، ومنه قول زهير : [الطويل]

٣٤٣٥ ـ ومن يجعل المعروف من دون عرضه

يفره ومن لا يتّق الشّتم يشتم (١)

والآية الكريمة من هذا ، ويستعمل لازما ، يقال : وفر المال يفر وفورا ، فهو وافر ، فعلى الأول : يكون المعنى جزاء موفّرا ، وعلى الثاني : يكون المعنى جزاء وافرا مكمّلا يقال : وفرته أفره وفرا.

قوله تعالى : (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (٦٤) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً)(٦٥)

قوله تعالى : (وَاسْتَفْزِزْ) : جملة أمرية عطفت على مثلها من قوله «اذهب». و«من استطعت» يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أنها موصولة في محلّ نصب مفعولا للاستفزاز ، أي : استفزز الذي استطعت استفزازه منهم.

والثاني : أنها استفهامية منصوبة المحلّ ب «استطعت» قاله أبو البقاء (٢) ، وليس بظاهر ؛ لأن «استفزز» يطلبه مفعولا به ، فلا يقطع عنه ، ولو جعلناه استفهاما ، لكان معلقا له ، وليس هو بفعل قلبيّ [فيعلق].

والاستفزاز : الاستخفاف ، واستفزّني فلان : استخفّني حتى خدعني لما يريده. قال : [الطويل]

٣٤٣٦ ـ يطيع سفيه القوم إذ يستفزّه

ويعصي حليما شيّبته الهزاهز (٣)

ومنه سمّي ولد البقرة «فزّا». قال الشاعر : [البسيط]

٣٤٣٧ ـ كما استغاث بسيء فزّ غيطلة

خاف العيون ولم ينظر به الحشك (٤)

__________________

(١) ينظر : ديوانه (٣٠) ، وشرح القصائد السبع ٢٨٧ ، وروح المعاني ١٥ / ١١٠ ، والبحر المحيط ٦ / ٥٥ ، والدر المصون ٤ / ٤٠٥.

(٢) ينظر : الإملاء ٢ / ٩٤.

(٣) ينظر البيت في البحر ٦ / ٦٣ ، الدر المصون ٤ / ٤٠٥.

(٤) تقدم.

٣٢٨

وأصل الفزّ : القطع ، يقال : تفزّز الثّوب ، أي : تقطّع.

ويقال : أفزّه الخوف ، واستفزّه ، أي : أزعجه ، واستخفّه.

واعلم أنّ إبليس ، لمّا طلب من الله تعالى الإمهال إلى يوم القيامة ؛ لأجل أن يحتنك ذريّة آدم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ذكر الله تعالى أشياء :

أولها : قوله عزوجل : (اذْهَبْ) أي : أمهلتك هذه المدّة.

وثانيها : قوله تعالى : (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ).

وتقدّم أن الاستفزاز : الاستخفاف ، وقيل : استنزل واستجهد.

وقوله : «بصوتك».

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ وقتادة : بدعائك إلى معصية الله (١).

وقال الأزهريّ : ادعهم دعاء تستخفّهم به إلى إجابتك.

وقال مجاهد : بصوتك ، أي : بالغناء واللهو (٢).

وهذا أمر تهديد ، كما يقال : اجتهد جهدك ؛ فسترى ما ينزل بك.

وثالثها : قوله : (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ) أي : اجمع عليهم الجموع من جندك ، يقال أجلب عليه وجلب ، أي : جمع عليه الجموع.

قال الفرّاء : هو من الجلبة ، وهو الصّياح.

وقال أبو عبيدة : أجلبوا وجلبوا : من الصّياح.

وقال الزجاج في «فعل ، وأفعل» : أجلب على العدوّ وجلب ، إذا جمع عليه الخيل.

وقال ابن السّكيت : يقال : هم يجلبون عليه ؛ بمعنى أنهم يعينون عليه.

وروى ثعلب عن ابن الأعرابيّ : أجلب الرجل على الرجل ، إذا توعّده بالشرّ ، وجمع عليه الجمع ، فعلى قول الفرّاء معنى الآية : صح عليهم بخيلك ورجلك ، وعلى قول الزجاج : اجمع عليهم كلّ ما تقدر عليه من مكائدك ، وعلى هذا تكون الباء في قوله : «بخيلك» زائدة.

وعلى قول ابن السّكيت : معناه : أعن عليهم بخيلك ورجلك ومفعول الإجلاب على هذا القول محذوف ، تقديره : استعن على إغوائهم بخيلك ورجلك ، وهو يقرب من قول ابن الأعرابيّ.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ١٠٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٤٨) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وابن المنذر.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ١٠٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٤٨) وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وابن أبي الدنيا في «ذم الملاهي» وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد.

٣٢٩

والمراد بالخيل والرجل : قال ابن عباس : كلّ راكب أو راجل في معصية الله ، فهو من خيل إبليس وجنوده (١).

وقال مجاهد وقتادة : إن لإبليس جندا من الشياطين بعضهم راكب ، وبعضهم راجل (٢).

وقيل : المراد ضرب المثل ؛ كما يقال للرجل المجدّ في الأمر : جئت بالخيل والرجل ، وهذا الوجه أقرب ، والخيل يقع على الفرسان ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا خيل الله ، اركبي» (٣).

وقد يقع على الأفراس خاصة.

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٤٨) وعزاه إلى الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس.

وأخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ١٠٩).

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٢٣) عن مجاهد وقتادة.

(٣) رواه الحازمي في كتابه الناسخ والمنسوخ ، في باب حديث المثلة : حدثنا محمد بن إبراهيم الفارسي ، أنا يحيى بن عبد الوهاب ، أنا محمد بن أحمد الكاتب ، أنا عبد الله بن محمد ، ثنا إسحاق بن أحمد ، ثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق ، سمعت أبي يقول : ثنا أبو حمزة ، عن عبد الكريم وسئل عن أبوال الإبل ، فقال : ثني سعيد بن جبير ، عن المحاربين فقا : كان ناس أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : نبايعك على الإسلام فبايعوه وهم كذبة ، ليس الإسلام يريدون ، ثم قالوا : إنا نجتوي المدينة ، فقال عليه‌السلام : «هذه اللقاح تغدو عليكم وتروح ، فاشربوا من ألبانها وأبوالها» فبينما هم كذلك إذ جاء الصريخ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن قتلوا الراعي ، وساقوا النعم ، فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنودي في الناس : «يا خيل الله اركبي» ، فركبوا لا ينتظر فارس فارسا ، وركب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أثرهم ، فلم يزالوا في طلبهم حتّى أدركوهم فقتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقطع وسمر الأعين ، قال : وما مثل رسول الله قبل ولا بعد ، ونهي عن المثلة وكان أنس بن مالك يقول نحو ذلك غير أنه قال : وأحرقهم بالنار بعد ما قتلهم. انتهى.

وفي عيون الأثر لأبي الفتح اليعمري ، في باب غزوة بني قريظة قال : وروى ابن عابد ، أخبرني الوليد بن مسلم ، أخبرني سعيد بن بشير ، عن قتادة ، قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الأحزاب مناديا ينادي : «يا خيل الله اركبي» انتهى.

وعجيب من السهيلي كيف عزا هذه اللفظة لمسلم ، ذكره في الروض الأنف ، في أول غزوة حنين ، وهي أواخر الكتاب.

وأما أبو داود فإنه قال في كتاب الجهاد في سننه : باب النداء عند النفير : «يا خيل الله اركبي».

ثم روى بسنده عن سمرة بن جندب أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمى خيلنا : خيل الله وفيه نظر لمن تأمله.

وهو في مستدرك الحاكم من قول علي ، رواه في تفسير سورة الإسراء ، من حديث أبي نضرة ، عن أسير بن جابر قال : قال لي صاحب وأنا بالكوفة : هل لك في أن تنظر رجلا ... فذكر قصة أويس القرني ... إلى أن قال : فنادى منادي عليّ : يا خيل الله اركبي وأبشري ... الحديث بطوله.

وهو في كتاب الردة للواقدي ، من قول خالد بن الوليد فقال : ثني محمد بن صالح بن دينار ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، عن محمود بن لبيد أن خالد بن الوليد قال لأصحابه يوم اليمامة : يا خيل الله اركبي ، فركبوا وساروا إلى بني حنيفة فقتلوهم وأسروهم.

٣٣٠

قوله : (وَرَجِلِكَ) قرأ حفص (١) بكسر الجيم والباقون بسكونها ، فقراءة حفص «رجل» فيها بمعنى «رجل» بالضم بمعنى : راجل ، يقال : رجل يرجل : إذا صار راجلا ، مثل : حذر وحذر ، وندس وندس ، وهو مفرد أريد به الجمع.

وقال ابن عطيّة : هي صفة ، يقال : فلان يمشي راجلا ، إذا كان غير راكب ، ومنه قول الشاعر :

٣٤٣٨ ـ ...........

 ... رجلا إلا بأصحاب(٢)

يشير إلى البيت المشهور ، وهو : [البسيط]

أما أقاتل عن ديني على فرس

ولا كذا رجلا إلا بأصحاب (٣)

أراد فارسا ولا راجلا.

وقال الزمخشري : إن «فعلا» بمعنى «فاعل» ، نحو : تعب وتاعب ، ومعناه : جمعك الرجل ، وبضم جيمه أيضا فيكون مثل : حذر وحذر وندس وندس ، وأخوات لهما.

وأما قراءة الباقين ، فتحتمل أن تكون تخفيفا من «رجل» بكسر الجيم أو ضمها ، والمشهور : أنه اسم جمع لراجل ، كركب وصحب في راكب وصاحب ، والأخفش يجعل هذا النحو جمعا صريحا.

وقرأ (٤) عكرمة «ورجالك» جمع رجل بمعنى راجل ، أو جمع راجل كقائم وقيام. وقرىء (٥) «ورجّالك» بضم الراء وتشديد الجيم ، وهو جمع راجل ، كضارب وضرّاب.

وقال ابن الأنباري ـ رحمه‌الله ـ : أخبرنا ثعلب عن الفراء ، قال : يقال : راجل ورجل ورجل ورجلان بمعنى واحد.

والباء في «بخيلك» يجوز أن تكون الحالية ، أي : مصاحبا بخيلك ، وأن تكون مزيدة كما تقدم ، قال :

٣٤٣٩ ـ ...........

 .......... لا يقرأن بالسّور(٦)

ورابعها : قوله تعالى : (وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) والمشاركة في الأموال ، قال

__________________

(١) ينظر : النشر ٢ / ٣٠٨ ، الإتحاف ٢ / ٢٠١ ، والسبعة ٣٨٢ ، والحجة ٤٠٦ ، والتيسير ١٤٠ ، والحجة للقراء السبعة ٥ / ١٠٩ ، والقرطبي ١٠ / ١٨٧ ، والبحر ٦ / ٥٦ ، ومعالم التنزيل ٣ / ١٢٣ ، والرازي ٢١ / ٦ ، والدر المصون ٤ / ٤٠٥ ، والوسيط ٣ / ١١٦.

(٢) ينظر : التخريج الآتي.

(٣) البيت ليحيى بن وائل. ينظر : شرح المفصل ٥ / ١٣٣ ، واللسان (رجل) ، والبحر المحيط ٦ / ٥٦ ، والدر المصون ٤ / ٤٠٥.

(٤) ينظر : المحتسب ٢ / ٢١ ، والبحر ٦ / ٥٦ ، والدر المصون ٤ / ٤٠٦.

(٥) ينظر : الكشاف ٢ / ٦٧٨ والدر المصون ٤ / ٤٠٦.

(٦) تقدم.

٣٣١

مجاهد ، والحسن ، وسعيد بن جبير : كل ما أصيب من حرام ، أو أنفق في حرام (١).

وقال قتادة : هو جعلهم البحيرة والسّائبة والوصيلة والحام (٢).

وقال الضحاك : هو ما يذبحونه لآلهتهم (٣).

وقال عكرمة : هو تبكيتهم آذان الأنعام (٤).

وقيل : هو جعلهم من أموالهم شيئا لغير الله ؛ كقولهم : (هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا) [الأنعام : ١٣٦] والأوّل أظهر ، قاله القاضي (٥). وأما المشاركة في الأولاد ، فقال عطاء عن ابن عباس : هو تسمية الأولاد ب «عبد شمس ، وعبد العزّى ، وعبد الحارث ، وعبد الدّار ونحوها» (٦).

وقال الحسن وقتادة : هو أنّهم هوّدوا أولادهم ، ونصّروهم ومجّسوهم (٧).

وقيل : هو إقدامهم على قتل الأولاد.

وروي عن جعفر بن محمد ، أن الشّيطان يقعد على ذكر الرّجل فإذا لم يقل : بسم الله ، أصاب معه امرأته ، وأنزل في فرجها كما ينزل الرّجل (٨) وروي في بعض الأخبار «إنّ فيكم مغربين ، قيل : وما المغربون؟ قال : الذين يشارك فيهم الجنّ». وروي أنّ رجلا قال لابن عبّاس : إنّ امرأتي استيقظت وفي فرجها شعلة نار ، قال : ذلك من وطء الجنّ. وفي الآثار : إنّ إبليس ، لمّا أخرج إلى الأرض ، قال : يا ربّ ، أخرجتني من الجنّة ؛ لأجل آدم فسلّطني عليه ، وعلى ذرّيته ، قال : أنت مسلّط ، قال : لا أستطيعه إلا بك ، فزدني ، قال : استفزز من استطعت منهم بصوتك.

قال آدم : يا ربّ ، أسلّطت إبليس عليّ ، وعلى ذرّيتي ، وإنّني لا أستطيعه إلّا بك ، قال: لا يولد لك ولد إلّا وكّلت به من يحفظونه.

قال : زدني! قال : الحسنة بعشر أمثالها ، والسّيئة بمثلها ، قال : زدني ، قال : التّوبة معروضة ما دام الرّوح في الجسد ، قال : زدني ، فقال : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا) الآية [الزمر : ٥٣].

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ١٠٩) عن الحسن وقتادة ومجاهد.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ١١٠) وذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٢٣).

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٢٣) وذكره الرازي (٢١ / ٦).

(٥) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ٦.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ١١١) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٤٨) وزاد نسبته إلى ابن مردويه.

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ١١١) وذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٢٣).

(٨) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٢٣) عن جعفر بن محمد.

٣٣٢

وخامسها : قوله تعالى (وَعِدْهُمْ).

قيل : معناه : قل لهم : لا جنّة ، ولا نار ، ولا بعث.

وقيل : [خذ] منهم الجميل في طاعتك ، أي بالأماني الباطلة ؛ كقوله لآدم ـ صلوات الله عليه ـ : (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) [الأعراف : ٢٠].

وقيل : عدهم بشفاعة الأصنام عند الله ، والأنساب الشريفة ، وإيثار العاجل على الآجل.

واعلم أنّ مقصود الشيطان الترغيب في اعتقاد الباطل ، وعمله ، والتّنفير عن اعتقاد الحقّ ، ومعلوم أنّ الترغيب في الشيء لا يمكن إلّا بأن يقرر عنده ألّا ضرر ألبتة في فعله ، ومع ذلك ، فإنّه يفيد المنافع العظيمة ، والتنفير عن الشيء لا يمكن إلّا بأن يقرّر عنده أنه لا فائدة في فعله ، ومع ذلك يفيد المضارّ العظيمة ، وإذا ثبت هذا ، فالشيطان إذا دعا إلى معصية ، فلا بدّ وأن يتقرّر أولا: أنّه لا مضرّة في فعله ألبتّة ، وذلك لا يمكن إلا إذا قال : لا معاد ، ولا جنّة ولا نار ، ولا حياة غير هذه الحياة الدنيا ، فإذا فرغ من هذا المقام ، قرّر عنده أنّ هذا الفعل يفيد أنواعا من اللّذة والسّرور ، ولا حياة للإنسان في هذه الحياة الدنيا إلّا به ، فتفويتها غبن وخسران ؛ كقوله : [الطويل]

٣٤٤٠ ـ خذوا بنصيب من نعيم ولذّة

فكلّ وإن طال المدى يتصرّم

فهذا هو طريق الدّعوة إلى المعصية ، وأمّا طريق التنفير من الطاعات ، فهو أن يقرّر عنده أوّلا أنه لا فائدة فيها للعباد والمعبود ، فكانت عبثا ، وأنّها توجب التّعب والمحنة ، وذلك أعظم المضار.

فقوله : (وَعِدْهُمْ) يتناول جميع هذه الأقسام.

قوله تعالى : (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ) من باب الالتفات ، وإقامة الظاهر مقام المضمر ؛ إذ لو جرى على سنن الكلام الأوّل ، لقال : وما تعدهم ، بالتاء من فوق.

قوله تعالى : (إِلَّا غُرُوراً) فيه أوجه :

أحدها : أنه نعت مصدر محذوف وهو نفسه [مصدر] ، الأصل : إلا وعدا غرورا ، فيجيء فيه ما في «رجل عدل» [أي] : إلّا وعدا ذا غرور ، أو على المبالغة ، أو على : وعدا غارّا ، ونسب الغرور إليه مجازا.

الثاني : أنه مفعول من أجله ، أي : ما يعدهم ممّا يعدهم من الأماني الكاذبة إلّا لأجل الغرور.

الثالث : أنه مفعول به على الاتّساع ، أي : ما يعدهم إلا الغرور نفسه.

والغرور : تزيين الباطل مما يظنّ أنه حقّ.

فإن قيل : كيف ذكر الله هذه الأشياء ، وهو يقول : إنّ الله لا يأمر بالفحشاء.

٣٣٣

قيل : هذا (١) على طريق التهديد ؛ كقوله : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠] وكقول القائل : اعمل ما شئت ؛ فسترى.

ولما قال تعالى له : افعل ما تقدر عليه ، قال سبحانه : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ).

قال الجبائي (٢) ـ رحمه‌الله تعالى ـ : المراد كلّ عباد الله تعالى من المكلّفين ؛ [لأن الله](٣) تعالى استثنى منه في آيات كثيرة من تبعه بقوله : (إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ) [الحجر : ٤٢] ثم استدلّ بهذا على أنه لا سبيل لإبليس وجنوده على تصريع النّاس ، وتخبيط عقولهم ، وأنه لا قدرة له إلّا على الوسوسة ، وأكّد ذلك بقوله : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) [إبراهيم : ٢٢].

وأيضا : لو قدر على هذه الأفعال ، لكان يجب أن يخبط أهل الفضل والعلم ، دون سائر النّاس ؛ ليكون ضرره أتمّ ، ثم قال : وإنّما يزول عقله ؛ لأنّ الشيطان يقدم عليه ، فيغلب الخوف عليه ، فيحدث ذلك المرض.

وقيل : المراد بقوله تعالى : (إِنَّ عِبادِي) أهل الفضل والإيمان ؛ لما تقدّم من أنّ لفظة العباد في القرآن مخصوصة بالمؤمنين ؛ لقوله تعالى : (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) [النحل : ١٠٠].

ثم قال : (وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) أي : حافظا ، ومن توكل الأمور إليه ، وذلك أنّه تعالى ، لمّا وكل إبليس بأن يأتي بأقصى ما يقدر عليه من الوسوسة ، وكان ذلك سببا لحصول الخوف الشديد في قلب الإنسان ، قال : (وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) ، أي أنّ الشيطان ، وإن كان قادرا ؛ فإنّ الله تعالى أقدر منه ، وأرحم بعباده ، فهو يدفع عنهم كيد الشيطان.

وهذه الآية تدلّ على أنّ المعصوم من عصمه الله تعالى ، وأنّ الإنسان لا يمكنه أن يحترز بنفسه عن مواقع الإضلال لأنّه لو كان الإقدام على الحقّ ، والإحجام عن الباطل ، إنما يحصل للإنسان من نفسه ، لوجب أن يقال : وكفى للإنسان بنفسه في الاحتراز عن الشّيطان ، فلمّا لم يقل ذلك ، بل قال : (وَكَفى بِرَبِّكَ) علمنا أنّ الكل من الله تعالى ، ولهذا قال المحققون : لا حول عن معصية الله إلّا بعصمته ، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيقه.

فصل

قال ابن الخطيب (٤) : في الآية سؤالان :

__________________

(١) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٢٤.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ٨.

(٣) في أ: لأنه.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٢١ / ٨.

٣٣٤

الأول : أن إبليس ، هل كان عالما بأن الذي تكلم معه بقوله : (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ) هو إله العالم ، أو لم يعلم ذلك؟ فإن علم ذلك ، ثم إنه تعالى قال : (فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً) فكيف لم يصر هذا الوعيد الشديد مانعا له من المعصية ، مع أنّه سمعه من الله تعالى من غير واسطة؟ وإن لم يعلم أنّ هذا القائل هو إله العالم ، فكيف قال : «أرأيتك هذا الذي كرمت علي»؟!.

والجواب : لعلّه كان شاكّا في الكلّ أو كان يقول في كلّ قسم ما يخطر بباله على سبيل الظنّ.

والسؤال الثاني : ما الحكمة في كونه أنظره إلى يوم القيامة ، ومكّنه من الوسوسة ، والحكيم إذا أراد أمرا ، وعلم أنّ شيئا من الأشياء يمنع من حصوله ، فإنّه لا يسعى في تحصيل ذلك المانع؟.

والجواب : أمّا مذهبنا ، فظاهر في هذا الباب ، وأمّا المعتزلة ، فقال الجبائيّ : علم الله أن الذين كفروا عند وسوسته يكفرون ، بتقدير ألا يوجد إبليس ، وإذا كان كذلك ، لم يكن في وجوده مزيد مفسدة.

وقال أبو هاشم : لا يبعد أن يحصل من وجوده مزيد مفسدة ، إلّا أنه تعالى أبقاه تشديدا للتّكليف على الخلق ؛ ليستحقّوا بسبب ذلك التشديد مزيد الثّواب ، وقد تقدّم الكلام على ذلك في الأعراف والحجر.

قوله تعالى : (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٦٦) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً)(٦٨)

قوله تعالى : (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ) الآية.

اعلم أنه تعالى عاد إلى ذكر الدلائل الدالة على قدرته وحكمته ورحمته ، وقد تقدم أن المقصود في هذا الكتاب الكريم تقرير دلائل التوحيد ، فإذا امتدّ الكلام في فصل من الفصول عاد الكلام بعده إلى ذكر دلائل التوحيد ، فذكر هاهنا وجوه الإنعامات في أحوال ركوب البحر ، فأوّل كيفية حركة الفلك على وجه البحر ، فقال جلّ ذكره : (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ) والإزجاء سوق الشيء حالا بعد حال ، وقد تقدّم في تفسير قوله تعالى : (بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ) [يوسف : ٨٨] أي : ربّكم الّذي يسير لكم الفلك على وجه البحر ؛ (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) في طلب التجارة (إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) ، والخطاب في قوله : «ربّكم» وفي قوله «بكم» للكلّ ، والمراد من الرحمة : منافع الدنيا ومصالحها.

والثاني : قوله : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ) أي : خوف الغرق «ضلّ» ، بطل (مَنْ

٣٣٥

تَدْعُونَ) من الآلهة (إِلَّا إِيَّاهُ) إلا الله ، فلم تجدوا مغيثا سواه ، (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ) من الغرق ، والشدة ، وأهوال البحر ، وأخرجكم (إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ) عن الإيمان ، والإخلاص ، والطاعة ؛ كفرا منكم لنعمه ، (وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً).

قوله تعالى : (إِلَّا إِيَّاهُ) : فيه وجهان :

أحدهما : أنه استثناء منقطع ؛ لأنه لم يندرج فيما ذكر ، إذ المراد به آلهتهم من دون الله.

والثاني : متصل ؛ لأنهم كانوا يلجئون إلى آلهتهم ، وإلى الله تعالى.

والثالث : (أَفَأَمِنْتُمْ) بعد ذلك (أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ) ربكم يغور بكم [جانب](١) البر.

قال الليث ـ رحمه‌الله ـ : الخسف والخسوف دخول الشيء في الشيء (٢) ، يقال : عين خاسفة التي غابت حدقتها في الرأس ، وعين من الماء خاسفة ، أي : غائرة الماء ، وخسفت الشمس أي : احتجبت ، وكأنها وقعت تحت حجاب ، أو دخلت في جحر ، فقوله : (يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ) أي : يغيبكم في جانب البر ، وهو الأرض ، وإنما قال : جانب البر ؛ لأنه ذكر البحر أولا ، فهو جانب ، والبر جانب ، فأخبر الله سبحانه وتعالى ؛ أنه كما كان قادرا على أن يغيبهم في الماء ، فهو قادر على أن يغيبهم في الأرض ، فالغرق تغييب تحت الماء ، كما أن الخسف تغييب تحت التراب.

وتقرير الكلام أنه تعالى ذكر أولا أنهم كانوا خائفين من هول البحر ، فلما نجاهم منه آمنوا ، فقال : هب أنكم نجوتم من هول البحر ، فكيف أمنتم من هو البر ؛ فإنه قادر على أن يسلط عليكم آفات البر من جانب التحت ، أو من جانب الفوق ، فأما من جانب التحت ، فالخسف ، وأما من جانب الفوق ، فبإمطاركم الحجارة ، وهو المراد من قوله : (أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) فكما يتضرعون إلى الله تعالى عند ركوب البحر فكذا يتضرعون إليه في كل الأحوال ، والحصب في اللغة : المرمى ، يقال : حصبته أحصبه ، إذا رميته والحصب : الرمي ومنه قوله تعالى : (حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٩٨] ، أي : يلقون فيها ، ومعنى قوله «حاصبا» أي عذابا يحصبهم ، أي : يرميهم بحجارة.

قال أبو عبيدة والقتيبي : الحاصب : الريح التي ترمي بالحصباء ، وهي الحصى الصغار ؛ قال الفرزدق :

٣٤٤١ ـ مستقبلين شمال الشام تضربهم

حصباء مثل نديف القطن منثور (٣)

ويسمى السحاب الذي يرمي بالبرد والثلج حاصبا ، لأنه يرمي بهما رميا ، ولم يؤنثه : إما لأنه مجازي ، أو على النسب ، أي : ذات حصب.

__________________

(١) في ب : ناجية.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢١ / ٩).

(٣) ينظر : ديوانه (١ / ٢١٣) ، الكامل ٣ / ٥٧ ، الطبري ١٥ / ٨٣ ، البحر المحيط ٦ / ٤٤ ، القرطبي ١٠ / ١٨٩ ، روح المعاني ١٥ / ١١٦ ، الدر المصون ٤ / ٤٠٧.

٣٣٦

وقال الزجاج : الحاصب التراب الذي فيه الحصباء ، فالحاصب على هذا هو ذو الحصباء ، مثل اللابن والتامر.

(ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً) قال قتادة : مانعا (١).

قوله تعالى : (أَفَأَمِنْتُمْ) : استفهام توبيخ وتقريع ، وقدر الزمخشري على قاعدته معطوفا عليه ، أي : أنجوتم ، فأمنتم.

وقوله تعالى جل ذكره ولا إله إلا هو : (جانِبَ الْبَرِّ) فيه وجهان :

أظهرهما : أنه مفعول به ، كقوله : (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) [القصص : ٨١].

والثاني : أنه منصوب على الظرف. و«بكم» [يجوز] أن [تكون] حالية ، أي : مصحوبا بكم ، وأن تكون للسببية.

قيل : ولا يلزم من خسفه بسببهم أن يهلكوا.

وأجيب بأن المعنى : جانب البر الذي أنتم فيه ، فيلزم بخسفه هلاكهم ، ولو لا هذا التقدير ، لم يكن في التوعد به فائدة.

قوله : «أن نخسف» «أو نرسل» «أو نعيدكم» «فنرسل» [«فنغرقكم»] قرأها بنون العظمة (٢) ابن كثير ، وأبو عمرو ، والباقون بالياء فيها على الغيبة ، فالقراءة الأولى على سبيل الالتفات من الغائب في قوله «ربكم» إلى آخره ، والقراءة الثانية على سنن ما تقدم من الغيبة.

قوله تعالى : (أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً)(٦٩)

قوله تعالى : (أَمْ أَمِنْتُمْ) : يجوز أن تكون المتصلة ، أي : أي الأمرين كائن؟ ويجوز أن تكون المنقطعة ، و (أَنْ يُعِيدَكُمْ) مفعول به.

قوله «تارة» بمعنى مرة ، وكرة ، فهي مصدر ، ويجمع على تير وتارات ، قال الشاعر : [الطويل]

٣٤٤٢ ـ وإنسان عيني يا حسر الماء تارة

فيبدو ، وتارات يجم فيغرق (٣)

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ١١٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٤٩) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.

(٢) ينظر : النشر ٢ / ٣٨ ، والإتحاف ٢ / ٢٠٢ ، والسبعة ٣٨٣ ، والحجة ٤٠٦ ، والحجة للقراء السبعة ٥ / ١١١ ، والقرطبي ١٠ / ١٩٠ ، والبحر ٦ / ٥٨.

(٣) البيت لذي الرمة : ينظر : ديوانه ص ٤٦٠ ، خزانة الأدب ٢ / ١٩٢ ، الدرر ٢ / ١٧ ، المقاصد النحوية ١ / ٥٧٨ ، ٤ / ٤٤٩ ، ولكثير في المحتسب ١ / ١٥٠ ، الأشباه والنظائر ٣ / ١٠٣ ، ٧ / ٢٥٧ ، وأوضح المسالك ٣ / ٣٦٢ ، تذكرة النحاة ص ٦٦٨ ، شرح الأشموني ١ / ٩٢ ، مجالس ثعلب ص ٦١٢ ، مغني اللبيب ٢ / ٥٠١ ، المقرب ١ / ٨٣ ، همع الهوامع ١ / ٩٨ ، الدر المصون ٤ / ٤٠٧.

٣٣٧

وألفها تحتمل أن تكون عن واو أو ياء ، وقال الراغب : «وهو فيما قيل : [من] تار الجرح : التأم».

قوله تعالى : «قاصفا» القاصف يحتمل أن يكون من «قصف» متعديا ، يقال : قصفت الريح الشجر تقصفها قصفا ؛ قال أبو تمام : [البسيط]

٣٤٤٣ ـ إن الرياح إذا ما أعصفت قصفت

عيدان نجد ولم يعبأن بالرتم (١)

فالمعنى : أنها لا تلفي شيئا إلا قصفته ، وكسرته.

والثاني : أن يكون من «قصف» قاصرا ، أي : صار له قصيف ، يقال : قصفت الريح ، تقصف ، أي : صوتت ، و (مِنَ الرِّيحِ) نعت.

قوله تعالى : (بِما كَفَرْتُمْ) يجوز أن تكون مصدرية ، وأن تكون بمعنى «الذي» والباء للسببية ، أي : بسبب كفركم ، أو بسبب الذي كفرتم به ، ثم اتسع فيه ، فحذفت الباء ، فوصل الفعل إلى الضمير ، وإنما احتيج إلى ذلك ؛ لاختلاف المتعلق.

وقرأ أبو جعفر ، ومجاهد (٢) : «فتغرقكم» بالتاء من فوق أسند الفعل لضمير الريح ، وفي كتاب أبي حيان : «فتغرقكم» بتاء الخطاب مسندا إلى «الريح» والحسن وأبو رجاء بياء الغيبة ، وفتح الغين ، وتشديد الراء ، عداه بالتضعيف ، والمقرى لأبي جعفر كذلك إلا أنه بتاء الخطاب. قال شهاب الدين : هو إما سهو ، وإما تصحيف من النساخ عليه ؛ كيف يستقيم أن يقول بتاء الخطاب ، وهو مسند إلى ضمير الريح ، وكأنه أراد بتاء التأنيث ، فسبقه قلمه أو صحف عليه غيره.

وقرأ العامة «الريح» بالإفراد ، وأبو جعفر (٣) : «الرياح» بالجمع.

قوله : «به تبيعا» يجوز في «به» أن يتعلق ب «تجدوا» وأن يتعلق ب «تبيعا» ، وأن يتعلق بمحذوف ؛ لأنه حال من «تبيعا» والتبيع : المطالب بحق الملازم ، قال الشماخ : [الوافر]

٣٤٤٤ ـ ...........

كما لا ذ الغريم من التبيع (٤)

وقال آخر : [الطويل]

__________________

(١) ينظر البيت في البحر المحيط ٦ / ٤٤ ، الدر المصون ٤ / ٤٠٧.

(٢) ينظر : الحجة ٤٠٦ ، والنشر ٢ / ٣٠٨ ، والإتحاف ٢ / ٢٠٢ ، والحجة للقراء السبعة ٥ / ١١١ ، والقرطبي ١٠ / ١٩٠ ، والبحر ٦ / ٥٨ ، والدر المصون ٤ / ٤٠٧ ، والوسيط ٣ / ١١٧.

(٣) ينظر : الإتحاف ٢ / ٢٠٢ ، والنشر ٢ / ٢٢٣ ، والقرطبي ١٠ / ١٩٠ والدر المصون ٤ / ٤٠٨.

(٤) عجز بيت وصدره :

تلوذ ثعالب الشرقين منها

ينظر : ديوانه ٢٣٧ ، البحر ٦ / ٥٨ ، اللسان «تبع» ، الدر المصون ٤ / ٤٠٨.

٣٣٨

٣٤٤٥ ـ غدوا وغدت غزلانهم فكأنها

ضوامن من غرم لهن تبيع (١)

فصل

ومعنى الآية (أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ) ، يعني في البحر (تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً).

قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : أي عاصفا ، وهي الريح الشديدة (٢) وقال أبو عبيدة: هي الريح التي تقصف كل شيء ، أي : تدقه وتحطمه (فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً) ناصرا ولا ثائرا ، وتبيع بمعنى تابع ، أن تابعا مطالبا بالثأر.

وقال الزجاج ـ رضي الله عنه ـ : من يتبعنا بإنكار ما نزل بكم ، ولا من يتبعنا بأن نصرفه عنكم.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً)(٧٠)

وهذه نعمة أخرى عظيمة من نعم الله ـ تعالى ـ على الإنسان ، وهي تفضيل الإنسان على غيره.

واعلم أنه ليس المراد من الكرم في المال. وعداه بالتضعيف ، وهو من كرم بالضم ك «شرف» ، قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : كل شيء يأكل بفيه إلا ابن آدم يأكل بيديه(٣).

وروي عنه أنه قال : بالعقل (٤).

وقال الضحاك : بالنطق والتمييز (٥).

وقال عطاء : بتعديل القامة ، وامتدادها (٦).

وينبغي أن يشترط مع هذا شرط ، وهو طول العمر ، مع استكمال القوة العقلية والحسية والحركية ، وإلا فالأشجار أطول قائمة من الإنسان ، والدواب منكبة على وجوهها.

__________________

(١) ينظر البيت في تفسير الطبري ١٥ / ٨٥ ، البحر ٦ / ٥٨ ، الدر المصون ٤ / ٤٠٨.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ١١٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٤٩) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (٥ / ٧٧) رقم (٥٨٤١) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٥٠) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق عن ابن عباس.

وله شاهد من حديث جابر مرفوعا بلفظ : الكرامة الأكل بالأصابع ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٥١) وعزاه إلى الحاكم في «التاريخ» والديلمي في «مسند الفردوس».

وذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٢٥).

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٢٥).

(٥) ينظر : المصدر السابق.

(٦) ينظر : المصدر السابق.

٣٣٩

وقيل : بحسن الصورة ؛ كقوله تعالى : (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) [غافر : ٦٤] ولما ذكر خلقه للإنسان ، قال : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤] وقال جل ذكره : (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) [البقرة : ١٣٨].

وتأمل عضوا واحدا من أعضاء الإنسان ، وهو العين ، فخلق الحدقة سوداء ، ثم أحاط بذلك السواد بياض العين ، ثم أحاط بذلك البياض سواد الأشفار ، ثم أحاط بذلك السواد بياض الأجفان ، ثم خلق فوق بياض الجفن سواد الحاجبين ، ثم خلق فوق سواد الحاجبين بياض الجبهة ، ثم خلق فوق بياض الجبهة سواد الشعر.

وقيل : الرجال باللحى ، والنساء بالذوائب.

وقيل : بأن سخر لهم سائر الأشياء.

وقال بعضهم : من كرامات الآدمي أن آتاه الله الخط.

وتحقيق الكلام : أن العلم الذي يقدر الإنسان على استنباطه يكون قليلا ، فإذا أودعه في كتاب ، وجاء الإنسان الثاني ، واستعان بذلك الكتاب ، ضم إليه من عند نفسه آخر ، ثم لا يزالون يتعاقبون ، ويضم كل متأخر مباحث كثيرة إلى علم المتقدمين ، فكثرت العلوم ، وانتهت المباحث العقلية ، والمطالب الشرعية إلى أقصى الغايات ، وأكمل النهايات ، وهذا لا يتأتى إلا بواسطة الخط ، ولهذه الفضيلة ؛ قال تعالى : (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) [العقل : ٣ ـ ٥].

وقال بعضهم : إن المخلوقات أربعة أقسام :

قسم حصلت له القوة العقلية الحكمية ، ولم تحصل له القوة الشهوانية ، وهم الملائكة ـ صلوات الله عليهم ـ وقسم بالعكس ، وهم البهائم ، وقسم خلا عن القسمين ، وهم النبات والجمادات ، وقسم حصل النوعان فيه ، وهو الإنسان ، ولا شك أن الإنسان ؛ لكونه مستجمعا للقوة العقلية ، والقوة الشهوانية ، والبهيمية والنفسية والسبعية يكون أفضل من البهيمة والسبع ، وهو أيضا أفضل من الخالي عن القوتين ؛ كالنبات والجمادات ، وإذا ثبت ذلك ، ظهر أن الله تعالى فضل الإنسان على أكثر أقسام المخلوقات.

وأيضا : الموجود : إما أن يكون أزليا وأبديا معا ، وهو الله تبارك وتعالى.

وإما ألا يكون أزليا ولا أبديا ، وهم عالم الدنيا مع ما فيه من المعادن ، والنبات ، والحيوان ، وهذا أخس الأقسام ، وإما أن يكون أزليا ، ولا يكون أبديا ، وهو الممتنع الوجود ؛ لأن ما ثبت قدمه ، امتنع عدمه ، وإما ألا يكون أزليا ، ولكنه يكون أبديا ، وهو الإنسان ، والملك ، وهذا القسم أشرف من الثاني والثالث ، وذلك يقتضي كون الإنسان أشرف من أكثر المخلوقات.

ثم قال تعالى : (وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ).

٣٤٠