اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٢

قال الزمخشري : «وحد يحد وحدا وحدة ، نحو : وعد يعد وعدا وعدة ، و«وحده» من باب «رجع عوده على بدئه» ، و«افعله جهدك وطاقتك» في أنه مصدر سادّ مسدّ الحال ، أصله: يحد وحده ، بمعنى واحدا». قلت : وقد عرفت أنّ هذا ليس مذهب سيبويه.

والثاني : أنه منصوب على الظرف وهو قول يونس ، واعلم أن هذه الحال بخصوصها ، أعني لفظة «وحده» ، إذا وقعت بعد فاعل ومفعول ، نحو : «ضرب زيد عمرا وحده» ، فمذهب سيبويه أنه حال من الفاعل ، أي : موحدا له بالضرب ، ومذهب المبرد أنه يجوز أن يكون حالا من المفعول. قال أبو حيّان : «فعلى مذهب سيبويه يكون التقدير : وإذا ذكرت ربك موحدا لله تعالى.

قال المفسرون : معناه : إذا قلت : لا إله إلا الله في القرآن وأنت تتلوه. وعلى مذهب المبرد يجوز أن يكون التقدير : موحدا بالذكر».

ثم قال : (وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) وفي «نفورا» وجهان :

أحدهما : أنه مصدر على غير المصدر ، لأن التولّي والنفور بمعنى.

قال الزجاج رحمه‌الله : بمعنى ولوا كافرين نفورا.

والثاني : أنه حال من فاعل «ولّوا» وهو حينئذ جمع نافر ، ك «قاعد» ، وقعود ، وجالس ، وجلوس. والضمير في «ولّوا» الظاهر عوده على الكفّار ، وقيل : يعود على الشّياطين ، وإن لم يجر لهم ذكر.

قال المفسرون : إن القوم كانوا في استماع القرآن على حالتين ، سمعوا من القرآن ما ليس فيه ذكر لله تعالى فبقوا مبهوتين متحيرين ؛ لا يفهمون منه شيئا وإذا سمعوا آيات فيها ذكر لله تعالى ، وذم المشركين ولوا نفورا وتركوا ذلك المجلس.

قوله تعالى : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٤٧) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً)(٤٨)

قوله تعالى : (بِما يَسْتَمِعُونَ) : الباء في «بما» متعلق ب «أعلم». وما كان من باب العلم والجهل في أفعل التفضيل ، وأفعل في التعجب تعدّى بالباء ؛ نحو : أنت أعلم به ، وما أعلمك به!! وهو أجهل به ، وما أجهله به!! ومن غيرهما يتعدّى في البابين باللام ؛ نحو : أنت أكسى للفقراء ، و«ما» بمعنى الذي ، وهي عبارة عن الاستخفاف والإعراض ، فكأنه قال : نحن أعلم بالاستخفاف ، والاستهزاء الذي يستمعون به ، قاله ابن عطيّة.

قوله : «به» فيه أوجه (١) :

__________________

(١) في ب : وجهان.

٣٠١

أحدها : أنه حال ، فيتعلق بمحذوف.

قال الزمخشري : «وبه في موضع الحال ، كما تقول : يستمعون بالهزء ، أي : هازئين».

الثاني : أنها بمعنى اللام ، أي : بما يستمعون له.

الثالث : أنها على بابها ، أي : يستمعون بقلوبهم أو بظاهر أسماعهم ، قالهما أبو البقاء.

الرابع : قال الحوفيّ : «لم يقل يستمعونه ، ولا يستمعونك ؛ لمّا كان الغرض ليس الإخبار عن الاستماع فقط ، وكان مضمّنا أنّ الاستماع كان على طريق الهزء بأن يقولوا : مجنون أو مسحور ، جاء الاستماع بالباء وإلى ، ليعلم أنّ الاستماع ليس المراد به تفهّم المسموع دون هذا المقصد» فعلى هذا أيضا تتعلّق الباء ب «يستمعون».

قوله تعالى : (إِذْ يَسْتَمِعُونَ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه معمول ل «أعلم». قال الزمخشري : «إذ يستمعون نصب ب «أعلم» أي : أعلم وقت استماعهم بما به يستمعون ، وبما يتناجون ؛ إذ هم ذوو نجوى».

والثاني : أنه منصوب ب «يستمعون» الأولى.

قال ابن عطيّة ـ رحمه‌الله ـ : «والعامل في «إذ» الأولى ، وفي المعطوف «يستمعون» الأولى».

وقال الحوفيّ : و«إذ» الأولى تتعلق ب «يستمعون» وكذا (وَإِذْ هُمْ نَجْوى) لأن المعنى : نحن أعلم بالذي يستمعون إليك ، وإلى قراءتك وكلامك ، إنما يستمعون لسقطك ، وتتبّع عيبك ، والتماس ما يطعنون به عليك ، يعني في زعمهم ؛ ولهذا ذكر تعديته بالباء و«إلى».

قوله ـ عزوجل ـ : «نجوى» يجوز أن يكون مصدرا ، فيكون من إطلاق المصدر على العين مبالغة ، أو على حذف مضاف ، أي : ذوو نجوى ، كما قاله الزمخشري ، ويجوز أن يكون جمع نجيّ ، كقتيل وقتلى ، قاله أبو البقاء.

قوله تعالى : (إِذْ يَقُولُ) بدل من «إذ» الأولى في أحد القولين ، والقول الآخر : أنّها معمولة ل «اذكر» مقدّرا.

قوله تعالى : «مسحورا» الظاهر أنّه اسم مفعول من «السّحر» بكسر السين ، أي : مخبول العقل ، أو مخدوعه ، وقال أبو عبيدة : معناه أنّ له سحرا ، أي : رئة بمعنى أنه لا يستغني عن الطّعام والشّراب ، فهو بشر مثلكم ، وتقول العرب للجبان : «قد انتفخ سحره» بفتح السين ، ولكلّ من أكل وشرب : مسحور ، ومسحر ، فمن الأول قول امرىء القيس : [الوافر]

٣٤٢٦ ـ أرانا موضعين لأمر غيب

ونسحر بالطّعام وبالشّراب (١)

أي : نغذّى ونعلّل ، ومن الثاني قول لبيد : [الطويل]

__________________

(١) تقدم.

٣٠٢

٣٤٢٧ ـ فإن تسألينا فيم نحن فإنّنا

عصافير من هذا الأنام المسحّر (١)

وردّ الناس على أبي عبيدة قوله ؛ لبعده لفظا ومعنى ، قال ابن قتيبة : «لا أدري ما الذي حمل أبا عبيدة على هذا التّفسير المستكره مع ما فسّره السّلف بالوجوه الواضحة».

قال شهاب الدين : وأيضا فإن «السّحر» الذي هو الرّئة لم يضرب له فيه مثل ؛ بخلاف «السّحر» فإنهم ضربوا له فيه المثل ، فما بعد الآية من قوله (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) [الإسراء : ٤٨] لا يناسب إلا «السّحر» بالكسر.

فصل في معنى قوله : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ)

قال المفسّرون : معنى الآية (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ) أي يطلبون سماعه ، (إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) وأنت تقرأ القرآن ، (وَإِذْ هُمْ نَجْوى) يتناجون في أمرك ، فبعضهم يقول : هذا مجنون ، وبعضهم يقول : شاعر (إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ) يعني الوليد بن المغيرة وأصحابه : (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) مطبوعا.

وقال مجاهد ـ رحمه‌الله ـ : مخدوعا (٢) ؛ لأنّ السّحر حيلة وخديعة ، وذلك لأنّ المشركين كانوا يقولون : إنّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتعلّم من بعض النّاس هذه الكلمات ، وأولئك النّاس يخدعونه بهذه الكلمات ، فلذلك قالوا : «مسحورا» أي : مخدوعا.

وأيضا : كانوا يقولون : إنّ الشيطان يتخيّل له ، فيظنّ أنه ملك ، فقالوا : إنه مخدوع من قبل الشّيطان.

وقيل : مصروفا عن الحقّ (٣) ، يقال : ما سحرك عن كذا ، أي : ما صرفك ، وقيل : المسحور هو الشّيء المفسود ، يقال : طعام مسحور ، إذا فسد ، وأرض مسحورة ، إذا أصابها من المطر أكثر ممّا ينبغي فأفسدها.

فإن قيل : إنّهم لم يتبعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكيف يصحّ أن يقولوا : (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً).

فالجواب أنّ معناه : إن اتّبعتموه ، فقد اتّبعتم رجلا مسحورا. ثم قال تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) ، أي : كلّ أحد شبّهك بشيء ، فقالوا : كاهن ، وساحر ، وشاعر ، ومعلّم ، ومجنون ، فضلّوا عن الحقّ ، فلا يستطيعون سبيلا ، أي : وصولا إلى طريق الحقّ.

قوله تعالى : (وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٤٩) قُلْ

__________________

(١) ينظر : ديوانه ٧١ ، مجاز القرآن ١ / ٣٨١ ، الطبري ٢ / ٣١ ، روح المعاني ١٥ / ٩٠ ، الدر المصون ٤ / ٣٩٧ اللسان [سحر].

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١١٨).

(٣) ينظر : المصدر السابق.

٣٠٣

كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (٥١) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً)(٥٢)

قوله تعالى : (أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً) الآيات.

لما تكلّم أوّلا في الإلهيّات ، ثمّ أتبعه بذكر شبهاتهم في النبوّات ، ذكر في هذه الآيات شبهاتهم في إنكار المعاد ، والبعث ، والقيامة ، وقد تقدّم أنّ مدار القرآن على هذه الأربعة ، وهي الإلهيّات ، والنبوّات ، والمعاد ، والقضاء والقدر ، وأيضا فالقوم وصفوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكونه مسحورا فاسد العقل ، فذكروا أن من جملة ما يدلّ على فساد عقله : أن يدعي أنّ الإنسان بعد ما يصير عظاما ورفاتا يعود حيّا ، كما كان.

قوله تعالى : (أَإِذا كُنَّا) : قد تقدم خلاف القرّاء في مثل هذين الاستفهامين في سورة الرعد ، والعامل في «إذا» محذوف [تقديره :] أنبعث أو أنحشر ، إذا كنّا ، دلّ عليه «لمبعوثون» ولا يعمل فيها «مبعوثون» هذا ؛ لأنّ ما بعد «إنّ» لا يعمل فيما قبلها ، وكذا ما بعد الاستفهام ، لا يعمل فيما قبله ، وقد اجتمعا هنا ، وعلى هذا التقدير : تكون «إذا» متمحّضة للظرفية ، ويجوز أن تكون شرطية ، فيقدّر العامل فيها جوابها ، تقديره : أإذا كنّا عظاما ورفاتا نبعث أو نعاد ، ونحو ذلك ، فهذا المحذوف جواب الشّرط عند سيبويه ، والذي انصبّ عليه الاستفهام عند يونس.

والرّفات : ما بولغ في دقّه ، وتفتيته ، وهو اسم لأجزاء ذلك الشيء المفتت ، وقال الفراء(١): «هو التّراب» وهو قول مجاهد ويؤيّده أنه قد تكرّر في القرآن (تُراباً وَعِظاماً). يقال : رفته يرفته بالكسر [أي : كسره].

وقيل : حطاما قال الواحدي (٢) : الرفت : كسر الشيء بيدك ؛ كما يرفت المدر والعظم البالي ، يقال : رفت عظام الجزور رفتا ، إذا كسرها ، ويقال للتبن : الرفت ؛ لأنّه دقاق الزّرع.

قال الأخفش : رفت رفتا ، فهو مرفوت ، نحو حطم حطما ، فهو محطوم.

والفعال يغلب في التفريق كالرّفات والحطام والعظام والدقاق والفتات ، والجذاذ والرضاض.

قوله تعالى : «خلقا» يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أنه مصدر من معنى الفعل ، لا من لفظه ، أي : نبعث بعثا جديدا.

والثاني : أنه في موضع الحال ، أي : مخلوقين.

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن للفراء ٢ / ١٢٥.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ١٧٩.

٣٠٤

فصل

تقرير شبهة القوم : هو أنّ الإنسان ، إذا جفّت أعضاؤه ، وتناثرت وتفرّقت في جوانب العالم ، واختلطت تلك الأجزاء بسائر أجزاء العالم ، فالأجزاء المائيّة (١) تختلط بمياه العالم ، والأجزاء الترابيّة تختلط بالتّراب ، والأجزاء الهوائيّة تختلط بالهواء ، وإذا كان كذلك ، فكيف يعقل اجتماعها بأعيانها مرّة أخرى ، وكيف يعقل عود الحياة إليها بأعيانها مرة أخرى؟! هذا تقرير شبهتهم.

والجواب عنها : أن هذا الإشكال لا يتمّ إلّا بالقدح في كمال علم الله تعالى ، وفي كمال قدرته.

أمّا إذا سلّمنا كونه تعالى عالما بجميع الجزئيات ، فحينئذ ، هذه الأجزاء ، وإن اختلطت بأجزاء العالم ، إلّا أنها متميّزة في علم الله تعالى ، ولما سلّم كونه ـ تعالى ـ قادرا على كلّ الممكنات ، كان قادرا على إعادة التأليف والتركيب ، والحياة ، والعقل ، إلى تلك الأجزاء بأعيانها ، فمتى سلم كمال علم الله تعالى ، وكمال قدرته ، زالت هذه الشبهة بالكليّة.

ثم قال تعالى : (قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً) وذلك أنّهم استبعدوا أن يردّهم أحياء بعد أن صاروا عظاما ورفاتا ، فإنّها صفة منافية لقبول الحياة بحسب الظاهر ، فقال : ولقد قدرتم أنّ هذه الأجسام بعد الموت تصير إلى صفة أخرى أشدّ منافاة لقبول الحياة من كونها عظاما ورفاتا ؛ مثل أن تصير حجارة أو حديدا ؛ فإنّ المنافاة بين الحجرية والحديدية وبين قبول الحياة أشدّ من المنافاة بين العظميّة وبين قبول الحياة ؛ لأنّ العظم كان جزءا من بدن الحيّ ، وأمّا الحجارة والحديد ، فما كانا ألبتّة موصوفين بالحياة ، فبتقدير أن تصير أبدان الناس حجارة أو حديدا بعد الموت ، فإن الله تعالى يعيد الحياة إليها ، ويجعلها حية عاقلة ، كما كان ، والدليل على صحّة ذلك أن تلك الأجسام قابلة للحياة والعقل ؛ إذ لو لم يكن القبول حاصلا ، لما حصل العقل والحياة لها في أوّل الأمر ، وإله العالم عالم بجميع الجزئيّات ، فلا يشتبه عليه أجزاء بدن زيد المطيع بأجزاء بدن عمرو العاصي ، وقادر على كل الممكنات.

وإذا ثبت أنّ عود الحياة إلى تلك الأجزاء ممكن في نفسه ، وثبت أنّ إله العالم عالم بجميع المعلومات ، قادر على كلّ الممكنات ، كان عود الحياة إلى تلك الأجزاء ممكنا قطعا سواء صارت عظاما ورفاتا أو أشياء أبعد من العظم في قبول الحياة ، مثل أن تصير حجارة أو حديدا ، وهذا ليس المراد منه الأمر ، بل المراد أنّكم لو كنتم كذلك ، لما أعجزتم الله تعالى عن الإعادة ؛ كقول القائل للرجل : أتطمع فيّ ، وأنا ابن فلان؟!! فيقول : كن من شئت كن ابن الخليفة فسأطلب منك حقّي. ثم قال تعالى : (أَوْ خَلْقاً مِمَّا

__________________

(١) في ب : الماهية.

٣٠٥

يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) أي : لو فرضتم شيئا آخر أبعد من قبول الحجر والحديد للحياة ، بحيث يستبعد عقلكم قبوله للحياة ، ولا حاجة إلى تعيين ذلك الشيء ؛ لأنّ المراد أنّ أبدان النّاس ، وإن انتهت بعد موتها إلى أيّ صفة فرضت ، وإن كانت في غاية البعد عن قبول الحياة ، فإنّ الله قادر على إعادة الحياة إليها.

قال ابن عبّاس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وأكثر المفسّرين ـ رضي الله عنهم ـ : إنّه الموت ؛ فإنّه ليس في نفس ابن آدم شيء أكبر من الموت ، أي : لو كنتم الموت بعينه ، لأميتنّكم ، ولأبعثنكم ، وهذا إنّما يحسن ذكره على سبيل المبالغة ، أما نفس الأمر بهذا ، فهو محال ؛ لأن أبدان النّاس أجسام ، والموت عرض ، والجسم لا ينقلب عرضا ، وبتقدير أن ينقلب عرضا ، فالموت لا يقبل الحياة ؛ لأنّ أحد الضّدين يمتنع اتصافه بالضدّ الآخر.

وقال بعضهم : يعني السّماء والأرض.

ثم قال تعالى : (فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا) ، أي : من الذي يقدر على إعادة الحياة ، فقال تعالى : (قُلِ) يا محمد : (الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي : خلقكم أوّل مرة ، ومن قدر على الإنشاء قدر على الإعادة.

قوله تعالى : (الَّذِي فَطَرَكُمْ) : فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه مبتدأ ، وخبره محذوف ، أي : الذي فطركم يعيدكم ، وهذا التقدير فيه مطابقة بين السؤال والجواب.

والثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : معيدكم الذي فطركم.

الثالث : أنه فاعل بفعل مقدّر ، أي : يعيدكم الذي فطركم ، ولهذا صرّح بالفعل في نظيره عند قوله : (لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) [الزخرف : ٩].

و (أَوَّلَ مَرَّةٍ) ظرف زمان ناصبه «فطركم».

قوله تعالى : (فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ) ، أي : يحرّكونها استهزاء ، يقال : أنغض رأسه ينغضها ، أي : يحركها إلى فوق ، وإلى أسفل إنغاضا ، فهو منغض ، قال : [الرجز].

٣٤٢٨ ـ أنغض نحوي رأسه وأقنعا

كأنّه يطلب شيئا أطمعا (١)

وقال آخر : [الرجز]

٣٤٢٩ ـ لمّا رأتني أنغضت لي الرّأسا (٢)

وسمي الظليم نغضا لأنه يحرك رأسه وقال أبو الهيثم : «إذا أخبر الرّجل بشيء ، فحرّك رأسه ؛ إنكارا له ، فقد أنغض».

__________________

(١) ينظر البيت في مجاز القرآن ١ / ٣٨٢ ، البحر المحيط ٦ / ٤٣ ، القرطبي ١٠ / ١٧٨ ، روح المعاني ١٥ / ٩٢ ، الدر المصون ٤ / ٣٩٨.

(٢) ينظر البيت في تفسير الطبري ١٥ / ٧٠ ، البحر ٦ / ٤٣ ، القرطبي ١٠ / ١٧٨ ، الدر المصون ٤ / ٣٩٨.

٣٠٦

قال ذو الرّمّة :

٣٤٣٠ ـ ظعائن لم يسكنّ أكناف قرية

بسيف ولم تنغض بهنّ القناطر (١)

أي : لم تحرّك ، وأمّا نغض ثلاثيّا ، ينغض وينغض بالفتح والضمّ ، فبمعنى تحرّك ، لا يتعدّى يقال : نغضت سنّه ، أي : تحرّكت ، تنغض نغضا ، ونغوضا. قال : [الرجز]

٣٤٣١ ـ ونغضت من هرم أسنانها (٢)

ثم قال تعالى : (وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ) ، أي : البعث والقيامة ، وهذا سؤال فاسد ؛ لأنّهم منعوا الحشر والنشر كما تقدّم ؛ ثمّ بين تعالى بالبرهان القاطع كونه ممكنا في نفسه ، فقولهم (مَتى هُوَ) كلام لا يتعلق بالبعث ؛ فإنّه لما ثبت بالدليل العقليّ كونه ممكن الوجود في نفسه ، وجب الاعتراف بإمكانه ، فإنه متى يوجد ، فذاك لا يمكن إثباته بالعقل ، بل إنما يمكن إثباته بالدّليل السمعي ، فإن أخبر الله تعالى عن ذلك الوقت المعيّن ، عرف ، وإلا فلا سبيل إلى معرفته.

وقد بين الله تبارك وتعالى في القرآن ؛ أنّه لا يطلع أحدا من الخلق على وقته المعيّن ، فقال جلّ ذكره : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) [لقمان : ٣٤] وقال : (إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) [الأعراف : ١٨٧] وقال تعالى : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها) [طه : ١٥] فلا جرم قال تعالى : (عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً).

قال المفسّرون : «عسى» من الله واجب ، معناه : أنه قريب ، فإن قيل : كيف يكون قريبا ، وقد انقرض سبعمائة سنة ، ولم يظهر.

فالجواب : قال ابن الخطيب (٣) : إن كان معنى : «أكثر ممّا بقي» كان الباقي قليلا ، ويحتمل أن يريد بالقرب أن إتيان السّاعة متناه ، وكل ما كان متناهيا من الزّمان فهو قليل ، بل أقلّ من القليل بالنسبة إلى الزّمان الذي بعده ؛ لأنّه غير متناه ؛ كنسبة العدد المتناهي إلى العدد المطلق ؛ فإنّه لا ينسب إليه بجزء من الأجزاء ، ولو قلّ.

ويقال في المثل «كل آت قريب».

قوله تعالى : (عَسى أَنْ يَكُونَ) يجوز أن تكون الناقصة ، واسمها مستتر فيها يعود على البعث والحشر المدلول عليهما بقوّة الكلام ، أو لتضمّنه في قوله «مبعوثون» و«أن يكون» خبرها ، ويجوز أن تكون التامة مسندة إلى «أن» وما في حيزها ، واسم «يكون» ضمير البعث ؛ كما تقدّم.

__________________

(١) ينظر البيت في ديوانه ٣٣١ وفيه «لم يسلكن» بدل «لم يسكن» ، وينظر : البحر المحيط ٦ / ٤٣ ، ومجاز القرآن ١ / ٣٨٣ ، الدر المصون ٤ / ٣٩٨.

(٢) ينظر البيت في تفسير الطبري ١٥ / ٧٠ ، مجاز القرآن ١ / ٣٨٢ ، البحر المحيط ٦ / ٤٣ ، القرطبي ١٠ / ١٧٨ ، الدر المصون ٤ / ٣٩٨.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ١٨١.

٣٠٧

وفي «قريبا» وجهان :

أحدهما : أنه خبر «كان» وهو وصف على بابه.

والثاني : أنه ظرف ، أي : زمانا قريبا ، و«أن يكون» على هذا تامة ، أي : عسى أن يقع العود في زمان قريب.

قوله تعالى : (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ) : فيه أوجه :

أحدها : أنه بدل من «قريبا» ، إذا أعربنا «قريبا» ظرف زمان ، كما تقدّم.

والمعنى : عسى أن يكون يوم البعث يوم يدعوكم ، أي بالنداء الذي يسمعكم وهو النفخة الأخيرة ، كقوله تعالى : (يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) [ق : ٤١].

الثاني : أنه منصوب ب «يكون» قاله أبو البقاء (١). وهذا عند من يجيز إعمال الناقصة في الظرف ، وإذا جعلناها تامة ، فهو معمول لها عند الجميع.

الثالث : أنه منصوب بضمير المصدر الذي هو اسم «يكون» أي : عسى أن يكون العود يوم يدعوكم ، وقد منعه أبو البقاء (٢) قال : «لأنّ الضمير لا يعمل» يعني عند البصريّين ، وأمّا الكوفيون ، فيعملون ضمير المصدر ، كمظهره ، فيقولون : «مروري بزيد حسن ، وهو بعمرو قبيح» ف «بعمرو» عندهم متعلق ب «هو» لأنّه ضمير المرور ، وأنشدوا قول زهير على ذلك : [الطويل]

٣٤٣٢ ـ وما الحرب إلّا ما علمتم وذقتم

وما هو عنها بالحديث المرجّم (٣)

ف «هو» ضمير المصدر ، وقد تعلق به الجار بعده ، والبصريّون يؤوّلونه.

الرابع : أنه منصوب بفعل مقدّر ، أي : اذكر يوم يدعوكم.

الخامس : أنه منصوب بالبعث المقدر ، قالهما أبو البقاء (٤).

قوله تعالى : «بحمده» فيه قولان :

أحدهما : أنها حال ، أي : تستجيبون حامدين ، أي : منقادين طائعين.

وهذا مبالغة في انقيادهم للبعث ؛ كقولك لمن تأمره بعمل يشقّ عليه : ستأتي به ، وأنت حامد شاكر ، أي : ستأتي إلى حالة تحمد الله وتشكر على أن اكتفى منك بذلك العمل ، وهذا يذكر في معرض التهديد.

والثاني : أنها متعلقة ب «يدعوكم» قاله أبو البقاء (٥) ، وفيه قلق.

قوله تعالى : (إِنْ لَبِثْتُمْ) «إن» نافية ، وهي معلقة للظنّ عن العمل ، وقلّ من يذكر

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ٩٣.

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : الإملاء ٢ / ٩٣.

(٥) ينظر : المصدر السابق.

٣٠٨

«إن» النافية ، في أدوات تعليق هذا الباب ، و«قليلا» يجوز أن يكون نعت زمان أو مصدر محذوف ، أي : إلا زمانا قليلا ، أو لبثا قليلا.

فصل في معنى النداء والإجابة

المعنى : (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ) بالنّداء من قبوركم إلى موقف القيامة ، «فتستجيبون» أي : تجيبون ، والاستجابة موافقة الداعي فيما دعا إليه ، وهي الإجابة ، إلّا أنّ الاستجابة تقتضي طلب الموافقة ، فهي أوكد من الإجابة.

وقوله «بحمده» قال ابن عباس : بأمره (١).

وقال قتادة : بطاعته (٢) ؛ لأنّهم لما أجابوه بالتّسبيح والتّحميد ، كان ذلك معرفة منهم وطاعة ، ولكنّهم لا ينفعهم ذلك في ذلك اليوم.

وقيل : يقرّون (٣) بأنّه خالقهم وباعثهم ، ويحمدونه حين لا ينفعهم الحمد ، وهذا خطاب للكفّار.

وقيل : هذا خطاب للمؤمنين.

قال سعيد بن جبير : يخرجون من قبورهم ، وينفضون التّراب عن رءوسهم ، ويقولون : سبحانك وبحمدك ، وهو قوله : (فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ)(٤).

وقال أهل المعاني : أي تستجيبون حامدين ؛ كما تقول : جاء بغضبه ، أي : جاء غضبان ، وركب الأمير بسيفه ، أي : وسيفه معه ، ثم قال : (وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) أي : إن لبثتم في الدنيا ، أو في القبور (إِلَّا قَلِيلاً) لأنّ الإنسان لو مكث ألوفا من السّنين في الدنيا أو في القبور ، عدّ ذلك قليلا في مدّة القيامة والخلود.

وقال ابن عباس : يريد بين النفختين الأولى والثانية (٥) ، فإنه يزال عنهم العذاب في هذا الوقت ، ويدلّ عليه قوله تعالى في سورة يس (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) [يس : ٥٢] وذلك ظنّهم بأنّ هذا اللبث قليل ، أي : لبثهم فيما بين النّفختين.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٩٢) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٣٩) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.

وذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١١٩).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٩٢) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٤٠) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.

وذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١١٩).

(٣) في ب : مقرون.

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٣٩) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

وذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١١٩).

(٥) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٠ / ١٨٢) عن ابن عباس.

٣٠٩

وقيل : المراد استقلال لبثهم في عرصة القيامة ؛ لأنّه لما كان عاقبة أمرهم الدّخول في النّار ، استقصروا مدة لبثهم في برزخ القيامة.

قوله تعالى : (وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً)(٥٣)

تقدم إعراب قوله تعالى (وَقُلْ لِعِبادِي) في سورة إبراهيم [٣١]. وفي العباد ها هنا قولان :

الأول : المراد به المؤمنون ؛ لأنّ لفظ العباد في أكثر آيات القرآن مختصّ بالمؤمنين.

قال تعالى : (فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ) [الزمر : ١٧ ، ١٨] (فَادْخُلِي فِي عِبادِي) [الفجر : ٢٩] (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) [الإنسان : ٦].

وإذا عرف هذا ، فإنه تعالى لمّا ذكر الحجج القطعيّة في صحّة المعاد ، وهو قوله تعالى : (قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) قال ها هنا : قل ، يا محمد لعبادي : إذا أردتم الاستدلال على المخالفين ، فاذكروا تلك الدلائل بطريق الأحسن من غير شتم ، ولا سبّ ، ونظيره قوله تعالى : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل : ١٢٥] وقوله تعالى : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [العنكبوت : ٤٦] وذلك لأنّ ذكر الحجّة ، إذا اختلط به سبّ أو شتم ، لقابلوكم بمثله ، كما قال تعالى : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الأنعام : ١٠٨] ويزداد الغضب ، وتكمل النّفرة ، ويمتنع المقصود ، وإذا ذكرت الحجة بالطّريق الأحسن ، أثّر في القلب تأثيرا شديدا ، ثم نبّه تعالى على وجه المنفعة ، فقال تعالى : (إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) أي : يفسد بينهم ، ويغري بينهم.

قال الكلبي : كان المشركون يؤذون المسلمين ، فشكوا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى : (وَقُلْ لِعِبادِي) المؤمنين يقولوا للمشركين التي هي أحسن ، ولا يكافئوهم بسفههم.

قال الحسن : يقول له : يهديك الله ، وكان هذا قبل الإذن في الجهاد (١).

وقيل : نزلت في عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ شتمة بعض الكفّار ، فأمره الله تعالى بالعفو (٢).

وقيل : أمر المؤمنين بأن يقولوا ، ويفعلوا الخلّة التي هي أحسن (٣).

وقيل : الأحسن قول : لا إله إلا الله (٤).

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٩٣) وذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١١٩).

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١١٩).

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) ينظر : المصدر السابق.

٣١٠

قوله تعالى : (إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) يجوز أن تكون هذه الجملة اعتراضا بين المفسّر والمفسّر ؛ وذلك أن قوله تعالى : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ) وقع تفسيرا لقوله (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وبيانا لها ، ويجوز ألّا تكون معترضة ، بل مستأنفة.

وقرأ (١) طلحة «ينزغ» بكسر الزاي ، وهما لغتان ، كيعرشون ويعرشون ، قاله الزمخشري. قال أبو حيان : ولو مثّل ب «ينطح» و«ينطح» كأنّه يعني من حيث إنّ لام كلّ منهما حرف حلق ، وليس بطائل.

والمعنى : أنّ الشّيطان يلقي العداوة بينهم (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً) ظاهر العداوة.

قوله تعالى : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً)(٥٤)

قوله تعالى : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ) يوّفقكم ، فتؤمنوا (أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ) يميتكم على الكفر ، فيعذّبكم ، قاله ابن جريج (٢).

وقال الكلبيّ : إن يشأ يرحمكم ، فينجيكم من أهل مكّة ، وإن يشأ يعذبكم بتسليطهم عليكم (٣).

(وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) حفيظا ، وكفيلا ، والمقصود إظهار اللّين والرّفق لهم عند الدّعوة ؛ فإنّ ذلك هو المؤثّر في القلب قيل : نسختها آية القتال.

قوله تعالى : (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (٥٥) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً)(٥٦)

قوله تعالى : (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : في هذه الباء قولان :

أشهرهما : أنها تتعلق ب «أعلم» كما تعلّقت الباء ب «أعلم» قبلها ، ولا يلزم من ذلك تخصيص علمه بمن في السماوات والأرض فقط.

والثاني : أنها متعلقة ب «يعلم» مقدّرا ، قاله الفارسيّ ، محتجّا بأنّه يلزم من ذلك تخصيص علمه بمن في السماوات والأرض ، وهو وهم ؛ لأنّه لا يلزم من ذكر الشيء نفي

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٦٠٢ ، والبحر ٦ / ٤٨ ، والدر المصون ٤ / ٣٩٩.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٩٣) عن ابن جريج وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٤٠ ـ ٣٤١) وزاد نسبته إلى ابن المنذر.

وذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١١٩).

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١١٩).

٣١١

الحكم عمّا عداه ، وهذا هو الذي يقول الأصوليّون : إنه مفهوم اللّقب ، ولم يقل به إلّا أبو بكر الدّقّاق في طائفة قليلة.

فصل

معنى الآية أنّ علمه غير مقصور عليكم ، ولا على أحوالكم ، بل علمه متعلّق بجميع الموجودات والمعدومات ، وبجميع ذرّات الأرضين ، والسّموات ، فيعلم حال كلّ أحد ، ويعلم ما يليق به من المصالح والمفاسد ، ولهذا جعلهم مختلفين في صورهم ، وأحوالهم ، وأخلاقهم ، وفضّل بعض النبيين على بعض ، وآتى موسى التوراة ، وداود الزّبور ، وعيسى الإنجيل ، ولم يبعد أيضا أن يؤتي محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن مع تفضيله على الخلق.

فإن قيل : ما السّبب في تخصيص داود بالذكر ها هنا؟.

فالجواب من وجوه :

الأول : أنّه تعالى ذكر أنّه فضّل بعض النّبيّين على بعض ، ثم قال : (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) يعنى أنّ داود آتاه ملكا عظيما ، ثم إنّه تعالى لم يذكر ما آتاه من الملك ، وذكر ما آتاه من الكتب ؛ تنبيها على أنّ التفضيل الذي ذكره قبل ذلك المراد منه التفضيل بالعلم والدّين ، لا بالمال.

والثاني : أنّ تخصيصه بالذّكر أنّه تعالى كتب في الزّبور أن محمّدا خاتم الأنبياء ، وأنّ أمّة محمّد خير الأمم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ.

قال تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء : ١٠٥] وهم محمد وأمته.

فإن قيل : هلا عرفه كقوله : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ).

فالجواب أن التنكير هاهنا يدل على تعظيم حاله ؛ لأن الزبور عبارة عن المزبور ، فكان معناه الكتاب ، وكان معنى التنكير أنه كامل في كونه كتابا.

ويجوز أن يكون «زبور» علما ، فإذا دخلت عليه «أل» كقوله : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ) كانت للمح الأصل كعبّاس والعباس ، وفضل والفضل.

وقيل : نكّره هنا دلالة على التبعيض ، أي : زبورا من الزّبر ، أو زبورا فيه ذكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فأطلق على القطعة منه زبور ، كما يطلق على بعض القرآن ، قرآن.

الثالث : أنّ السّبب في تخصيص داود ـ صلوات الله عليه ـ أنّ كفار قريش ما كانوا أهل نظر وجدل ، بل كانوا يرجعون إلى اليهود في استخراج الشّبهات ، واليهود كانوا يقولون : لا نبيّ بعد موسى ، ولا كتاب بعد التّوراة ، فنقض الله عليهم كلامهم بإنزال الزّبور على داود ، وتقدّم خلاف القراء في الزبور في آخر سورة النساء.

قوله تعالى : (الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) : مفعولا الزّعم محذوفان ؛ لفهم المعنى ، أي :

٣١٢

زعمتموهم آلهة ، وحذفهما اختصارا جائز ، واقتصارا فيه خلاف.

فصل في سبب نزول الآية

قال المفسرون : إن المشركين أصابهم قحط شديد ؛ حتّى أكلوا الكلاب والجيف واستغاثوا بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليدعو لهم ، قال الله تعالى (قُلِ) للمشركين (ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) أنها آلهة من دونه.

واعلم أنه ليس المراد الأصنام ؛ لأنّه تعالى قال في صفتهم :

(أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً)(٥٧)

وابتغاء الوسيلة إلى الله تعالى لا يليق بالأصنام ألبتّة ، وإذا ثبت هذا ، فنقول : إنّ قوما عبدوا الملائكة ، فنزلت هذه الآية فيهم.

وقال ابن عبّاس رضي الله عنه ومجاهد : إنّها نزلت في الذين عبدوا المسيح ، وعزيرا ، والملائكة ، والشمس ، والقمر ، والنجوم (١).

وقيل : إنّ قوما عبدوا نفرا من الجنّ ، فأسلم النّفر ، وبقي أولئك الناس متمسّكين بعبادتهم ، فنزلت فيهم الآية.

قال ابن عباس : كل موضع في كتاب الله ورد فيه لفظ الزعم ، فهو كذب (٢). ثم إنّه تعالى احتجّ على فساد مذهب هؤلاء بأنّ الإله المعبود هو القادر على إزالة الضرر ، وإيصال النفع وهذه الأشياء التي يعبدونها ، وهي الملائكة ، والجنّ ، والمسيح ، وعزير لا يقدرون على كشف الضرّ ، ولا على تحصيل النّفع ، فما الدليل على أنّ الأمر كذلك؟ فإن قلتم : لأنّا نرى أولئك الكفّار يتضرّعون إليها ، ولا تحصل الإجابة. قلنا : ونرى أيضا المسلمين يتضرّعون إلى الله تعالى ، ولا تحصل الإجابة والمسلمون يقولون بأجمعهم : إنّ القدرة على كشف الضرّ ، وتحصيل النفع ليست إلّا لله تعالى ، وعلى هذا التقدير ، فالدليل غير تامّ.

فالجواب : أنّ الدليل تامّ كامل ؛ لأنّ الكفّار كانوا مقرّين بأنّ الملائكة عباد الله تعالى ، وخالق الملائكة ، وخالق العالم لا بدّ وأن يكون أقدر من الملائكة ، وأقوى منهم ، وأكمل حالا منهم.

وإذا ثبت هذا ، فنقول : كمال قدرة الله معلوم متفق عليه ، وكمال قدرة غير الله غير معلوم ، ولا متفق عليه ، بل المتّفق عليه أنّ قدرتهم بالنّسبة إلى قدرة الله تعالى قليلة حقيرة ، وإذا كان كذلك ، وجب أن يكون الاشتغال بعبادة الله أولى من الاشتغال بعبادة

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٠ / ١٨٤).

(٢) ينظر : المصدر السابق.

٣١٣

الملائكة ؛ لأنّ استحقاق الله العبادة معلوم ، وكون الملك كذلك مجهول ؛ والأخذ بالمعلوم أولى ، وسلك المتكلّمون من أهل السنّة طريقة أخرى ، وهو أنّهم أقاموا الحجة العقليّة على أنّه لا موجد (١) إلّا الله تعالى ، ولا يخرج الشيء من العدم إلى الوجود إلا الله ، وإذا ثبت ذلك ثبت أنه لا ضارّ ولا نافع إلا الله تعالى ، فوجب القطع بأنه لا معبود إلا الله تعالى ، وهذه الطريقة لا تتم للمعتزلة ، لأنهم لما (٢) جوزوا كون العبد موجدا لأفعاله امتنع عليهم الاستدلال على أن الملائكة ـ عليهم‌السلام ـ لا قدرة لها على الإحياء والإماتة ، وخلق الجسم ، وإذا عجزوا عن ذلك ، لايتمّ لهم هذا الدليل ، فهذا هو الدليل القاطع على صحّة قوله : (فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً) ، والتحويل عبارة عن النّقل من حال إلى حال ، ومن مكان إلى مكان ، يقال : حوّله ، فتحوّل.

قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ) : «أولئك» مبتدأ ، وفي خبره وجهان :

أظهرهما : أنّه الجملة من «يبتغون» ويكون الموصول نعتا ، أو بيانا أو بدلا ، والمراد باسم الإشارة الأنبياء أو الملائكة الذين عبدوا من دون الله ، والمراد بالواو العبّاد لهم ، ويكون العائد على «الّذين» محذوفا ، والمعنى : أولئك الأنبياء الذين يدعونهم المشركون ، لكشف ضرّهم ـ أو يدعونهم آلهة ، فمفعولها أو مفعولاها محذوفان ـ يبتغون.

ويجوز أن يكون المراد بالواو ما أريد بأولئك ، أي : أولئك الأنبياء الذين يدعون ربّهم أو النّاس إلى الهدى يبتغون ، فمفعول «يدعون» محذوف.

والثاني : أن الخبر نفس الموصول ، و«يبتغون» على هذا حال من فاعل «يدعون» أو بدل منه. وقرأ (٣) العامة «يدعون» بالغيب ، وقد تقدّم الخلاف في الواو ؛ هل تعود على الأنبياء أو على عابديهم ، وزيد بن عليّ بالغيبة أيضا ، إلا أنه بناه للمفعول ، وقتادة ، وابن مسعود بتاء الخطاب ، وهاتان القراءتان تقوّيان أنّ الواو للمشركين ، لا للأنبياء في قراءة العامة.

فصل

إذا أعدنا «يدعون» للعابدين ، و«يبتغون» للمعبودين ، فالمعنى : أولئك المعبودون يبتغون إلى ربّهم الوسيلة ؛ لأنّ الملائكة يرجعون إلى الله في طلب المنافع ، ودفع المضارّ ، يرجون رحمته ، ويخافون عذابه ، وإذا كانوا كذلك ، كانوا عاجزين محتاجين ، والله ـ تعالى ـ أغنى الأغنياء ، فكان الاشتغال [بعبادته](٤) أولى.

فإن قيل : لا نسلّم أنّ الملائكة محتاجون إلى رحمة الله تعالى ، وخائفون من عذابه.

__________________

(١) في ب : موجود.

(٢) في ب : لو.

(٣) ينظر في قراءاتها : الشواذ ٢٧٧ والقرطبي ١٠ / ١٨١ ، والبحر ٦ / ٥٠ ، والدر المصون ٤ / ٤٠٠.

(٤) في ب : بعبادة الله.

٣١٤

فالجواب : أنّ الملائكة : إمّا أن يقال : إنّها واجبة الوجود لذواتها ، أو يقال : إنّها ممكنة الوجود لذواتها ، والأول باطل ؛ لأن جميع الكفّار كانوا معترفين بأن الملائكة عباد الله ، ومحتاجون إليه.

وأما الثاني : فهو يوجب القول بأنّ الملائكة محتاجون في ذواتها ، وفي كمالاتها إلى الله تعالى ، فكان الاشتغال بعبادة الله تعالى أولى من الاشتغال بعبادة الملائكة.

وإن أعدنا «يدعون» إلى الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ المذكورين في قوله تعالى : (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) فالمعنى هو أنّ الذي عظمت منزلتهم ـ وهم الأنبياء ـ لا يعبدون إلا الله تعالى ، ولا يبتغون الوسيلة إلّا إليه ، فأنتم بالاقتداء بهم أحق ، فلا تعبدوا غير الله ـ عزوجل ـ والمراد بالوسيلة : الدّرجة العليا.

وقيل : كل ما يتقرّب إلى الله تعالى.

واحتجّوا على صحّة هذا القول بأنّ الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ، فلا يخافون عذابه ، فثبت أنّ هذا غير لائق بالملائكة ، وإنما هو لائق بالأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ.

وأجيب بأنّ الملائكة يخافون من عذاب الله ، لو أقدموا على الذنب ، قال تعالى : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٢٩] وقال تعالى : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) ثم قال عزوجل : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) أي من حقّه أن يحذر ، فإن لم يحذره بعض الناس لجهله ، فإنّه لا يخرج عن كونه يجب الحذر عنه.

قوله تعالى : (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) في «أيّ» هذه وجهان :

أحدهما : أنها استفهامية.

والثاني : أنها موصولة بمعنى «الّذي» وإنما كثر كلام المعربين فيها من حيث التقدير ، فقال الزمخشريّ : «وأيّهم بدل من واو «يبتغون» و«أيّ» موصولة ، أي : يبتغي من هو أقرب منهم وأزلف ، أو ضمّ ن «يبتغون الوسيلة» معنى يحرصون ، فكأنه قيل : يحرصون أيهم يكون أقرب». فجعلها في الوجه الأول موصولة ، وصلتها جملة من مبتدأ وخبر ، حذف المبتدأ ، وهو عائدها ، و«أقرب» خبر. واحتملت «أيّ» حينئذ أن تكون مبنية ، وهو الأكثر فيها ، وأن تكون معربة ، وسيأتي موضعه في مريم : [٦٩] إن شاء الله تعالى وفي الثاني جعلها استفهامية ؛ بدليل أنه ضمّن الابتغاء معنى شيء تعلق ، وهو يحرصون ، فيكون «أيّهم» مبتدأ و«أقرب» خبره ، والجملة في محلّ نصب على إسقاط الخافض ؛ لأنّ «تحرص» يتعدّى ب «على» قال تعالى : (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ) [النحل : ٣٧] ، (أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) [البقرة : ٩٦].

وقال أبو البقاء (١) : «أيّهم» مبتدأ ، و«أقرب» خبره ، وهو استفهام في موضع نصب

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ٩٣.

٣١٥

ب «يدعون» ، ويجوز أن يكون «أيّهم» بمعنى الذي ، وهو بدل من الضمير في «يدعون».

قال أبو حيّان : «علّق «يدعون» وهو ليس فعلا قلبيّا ، وفي الثاني فصل بين الصلة ومعمولها بالجملة الحاليّة ، ولا يضرّ ذلك ، لأنّها معمولة للصّلة». قال شهاب الدين : أمّا كون «يدعون» لا يعلق ، هو مذهب الجمهور ، وقال يونس : يجوز تعليق الأفعال مطلقا ، القلبية وغيرها ، وأمّا قوله «فصل بالجملة الحالية» يعني بها «يبتغون» فصل بها بين «يدعون» الذي هو صلة «الّذين» وبين معموله ، وهو (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) لأنه معلّق عنه ، كما عرفته ، إلّا أنّ الشيخ لم يتقدّم في كلامه إعراب «يبتغون» حالا ، بل لم يعربها إلّا خبرا للموصول ، وهذا قريب.

وجعل أبو البقاء أيّا الموصولة بدلا من واو «يدعون» ، ولم أر أحدا وافقه على ذلك ، بل كلّهم يجعلونها من واو «يبتغون» وهو الظاهر.

وقال الحوفي ـ رحمه‌الله ـ : (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) ابتداء وخبر ، والمعنى : ينظرون أيّهم أقرب ، فيتوسّلون به ، ويجوز أن يكون (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) بدلا من واو «يبتغون».

قال شهاب الدين : فقد أضمر فعلا معلقا ، وهو ينظرون فإن كان من نظر البصر ، تعدّى ب «إلى» وإن كان من نظر الفكر ، تعدّى ب «في» فعلى التقديرين : الجملة الاستفهامية في موضع نصب بإسقاط الخافض ، وهذا إضمار ما لا حاجة إليه.

وقال ابن عطيّة : «وأيّهم ابتداء ، و«أقرب» خبره ، والتقدير : نظرهم ووكدهم أيهم أقرب ، ومنه قول عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ : «فبات النّاس يدوكون أيّهم يعطاها» ، أي : يتبارون في القرب». قال أبو حيّان : «فجعل المحذوف «نظرهم ووكدهم» وهذا مبتدأ ، فإن جعلت (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) في موضع نصب ب «نظرهم» بقي المبتدأ بلا خبر ، فيحتاج إلى إضمار خبر ، وإن جعلت (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) الخبر ، لم يصحّ ؛ لأنّ نظرهم ليس هو (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) وإن جعلت التقدير : «نظرهم في أيهم أقرب» أي : كائن أو حاصل ، لم يصحّ ذلك ؛ لأنّ كائنا وحاصلا ليس ممّا يعلّق».

فقد تحصّل في الآية الكريمة ستّة أوجه :

أربعة حال جعل «أيّ» استفهاما :

الأول : أنها معلّقة للوسيلة ، كما قرّره الزمخشريّ.

الثاني : أنها معلّقة ل «يدعون» كما قاله أبو البقاء.

الثالث : أنها معلقة ل «ينظرون» مقدرا ، كما قاله الحوفيّ.

الرابع : أنها معلقة ل «نظرهم» كما قدّره ابن عطيّة.

واثنان حال جعلها موصولة :

الأول : البدل من واو «يدعون» كما قاله أبو البقاء.

٣١٦

الثاني : أنها بدل من واو «يبتغون» كما قاله الجمهور.

قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً)(٥٨)

قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ) الآية.

فلمّا قال : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) بيّن أنّ كلّ قرية مع أهلها ، فلا بدّ وأن يرجع حالها إلى أحد أمرين : إمّا الإهلاك ، وإمّا التّعذيب.

قال مقاتل : أما الصالحة فبالموت ، وأما الطالحة ، فبالعذاب (١).

وقيل : المعنى : وإن من قرية من قرى الكفّار ، فلا بدّ وأن يكون عاقبتها إمّا بالاستئصال بالكلّيّة ، وهو الهلاك ، أو بعذاب شديد من قتل كبرائهم ، وتسليط المسلمين عليهم بالسّبي ، واغتنام الأموال ، وأخذ الجزية (كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) في اللّوح المحفوظ.

قال صلوات الله وسلامه عليه : «أوّل ما خلق الله تعالى القلم قال : اكتب ، قال : ما أكتب؟ قال : القدر ، وما هو كائن إلى الأبد» (٢).

و«إن» نافية و«من» مزيدة في المبتدأ ، لاستغراق الجنس. وقال ابن عطيّة : هي لبيان الجنس ، وفيه نظر من وجهين :

أحدهما : قال أبو حيّان : «لأنّ التي للبيان ، لا بدّ أن يتقدّمها مبهم ما ، تفسّره ؛ كقوله تعالى : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ) [فاطر : ٢] ، وهنا لم يتقدم شيء مبهم» ثم قال «ولعلّ قوله «لبيان الجنس» من الناسخ ، ويكون هو قد قال : لاستغراق الجنس ؛ ألا ترى أنه قال بعد ذلك : «وقيل : المراد الخصوص».

وخبر المبتدأ الجملة المحصورة من قوله : (إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها).

والثاني : أنّ شرط ذلك أن يسبقها محلّى بأل الجنسيّة ، وأن يقع موقعها «الذي» كقوله : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) [الحج : ٣٠].

قوله تعالى : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً)(٥٩)

لما استدلّ على فساد قول المشركين ، وأتبعه بالوعيد ، أتبعه بذكر مسألة النبوة ، واعلم أنّ الكفّار كانوا يقترحون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إظهار المعجزات ، كما حكى الله

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٠ / ١٨٦) عن مقاتل.

(٢) أخرجه أحمد (٥ / ٣١٧) وابن أبي عاصم في «السنة» (١ / ٤٨) والترمذي (٢ / ٢٣٢) والطيالسي (٥٥٧) من حديث عبادة بن الصامت وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب.

٣١٧

تعالى عنهم ذلك في قولهم : (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) [الأنبياء : ٥].

وقال آخرون : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) [الإسراء : ٩٠] الآيات.

وقال سعيد بن جبير : إنّهم قالوا إنّك تزعم أنّه كان قبلك أنبياء منهم من سخّرت له الريح ، ومنهم من أحيا الموتى ، فأتنا بشيء من هذه المعجزات (١) ، فأجابهم الله تعالى بهذه الآية.

وفي تفسير (٢) هذا الجواب وجوه :

الأول : أن المعنى أنّي إن أظهرت تلك المعجزات ، ثم لم يؤمنوا بها ، بل بقوا مصرّين على الكفر ، فحينئذ : يصيرون مستحقين لعذاب الاستئصال ، لكنّ إنزال عذاب الاستئصال على هذه الأمّة غير جائز ؛ لأنّ الله تعالى علم [أن] فيهم من سيؤمن أو يؤمن من أولادهم ، فلهذا لم يظهر تلك المعجزات.

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ إنّ أهل مكّة سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجعل لهم الصّفا ذهبا ، وأن يزيل عنهم الجبال ، حتّى يزرعوا تلك الأرض ، فطلب الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ذلك من الله تعالى ، فقال سبحانه جلّ ذكره : إن شئت أن أستأني فعلت وإن شئت أن أوتيهم ما شاءوا فعلت لكن بشرط ؛ أنهم إن لم يؤمنوا ، أهلكتهم ، قال : لا أريد ذلك ، فنزلت هذه الآية (٣).

الثاني في تفسير هذا الجواب : أنّا لا نظهر المعجزات ؛ لأن آباءكم رأوها ، ولم يؤمنوا بها ، وأنتم مقتدون بهم ، فلو رأيتموها ، لم تؤمنوا بها أيضا.

الثالث : أنّ الأوّلين رأوا هذه المعجزات ، وكذّبوا بها ، فعلم الله منكم أيضا : أنّكم لو شاهدتموها ، لكذّبتم بها ، فكان إظهارها عبثا ، والحكيم لا يفعل العبث.

قوله تعالى : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ) : «أن» الأولى وما في حيزها في محلّ نصب أو جرّ على اختلاف القولين ؛ لأنها على حذف الجارّ ، أي : من أن نرسل ، والثانية وما في حيّزها في محلّ رفع بالفاعليّة ، أي : وما منعنا من إسال الرسل بالآيات إلا تكذيب الأوّلين ، أي : لو أرسلنا الآيات المقترحة لقريش ، لأهلكوا عند تكذيبهم ؛ كعادة من قبلهم ، لكن علم الله سبحانه أنّه يؤمن بعضهم ،

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٩٨).

(٢) في أتقدير.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٩٨) والبزار (٢٢٢٤ ـ كشف) والنسائي في «الكبرى» (٦ / ٣٨٠) والحاكم (٢ / ٢٦٢) والطبراني كما في «مجمع الزوائد» (٧ / ٥٣) عن ابن عباس.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

وقال الهيثمي : ورجاله رجال الصحيح.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٤٤) وعزاه إلى أحمد والنسائي والبزار وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وابن مردويه والبيهقي في «الدلائل» والضياء في «المختارة».

٣١٨

ويكذّب بعضهم من يؤمن ، فلذلك لم يرسل الآيات لهذه المصلحة.

وقدّر أبو البقاء (١) رحمه‌الله مضافا قبل الفاعل ، فقال : «تقديره : إلّا إهلاك التكذيب». كأنّه يعني أنّ التكذيب نفسه لم يمنع من ذلك ، وإنّما منع منه ما يترتّب على التّكذيب ، وهو الإهلاك ، ولا حاجة إلى ذلك ؛ لاستقلال المعنى بدونه.

قوله تعالى : (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً).

قرأ العامة بنصب «مبصرة» على الحال ، وزيد بن عليّ (٢) يرفعها على إضمار مبتدأ ، أي : هي ، وهو إسناد مجازي ، إذ المراد إبصار أهلها ، ولكنها لمّا كانت سببا في الإبصار ، نسب إليها ، وقرأ قوم بفتح الصّاد ، مفعول على الإسناد الحقيقيّ ، وقتادة بفتح الميم والصّاد ، أي : محل إبصار ، كقوله ـ عليه‌السلام ـ : «الولد مبخلة مجبنة» (٣) ، وكقوله : [الكامل]

٣٤٣٣ ـ ...........

والكفر مخبثة لنفس المنعم (٤)

أجرى هذه الأشياء مجرى الأمكنة ؛ نحو : أرض مسبعة ومذأبة.

قوله تعالى : (إِلَّا تَخْوِيفاً) يجوز أن يكون مفعولا له ، وأن يكون مصدرا في موضع الحال : إمّا من الفاعل ، أي : مخوّفين أو من المفعول ، أي : مخوّفا [بها].

فصل

المعنى أنّ الآية التي التمسوها مثل آية ثمود ، وقد آتينا ثمود النّاقة مبصرة ، أي : واضحة بيّنة ، ثم كفروا بها ، فاستحقّوا بها عذاب الاستئصال ، فكيف يتمنّاها هؤلاء على سبيل الاقتراح والتّحكّم.

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ٩٣.

(٢) ينظر في قراءاتها : الشواذ ٧٧ ، وفيه أن قتادة قرأ «مبصرة» وينظر : البحر ٦ / ٥١ ، والدر المصون ٤ / ٤٠٢.

(٣) أخرجه ابن ماجه (٢ / ١٢٠٩) كتاب الأدب : باب بر الوالد والإحسان إلى البنات حديث (٣٦٦٦) من حديث يعلى العامري.

وذكر البوصيري في «الزوائد» (٣ / ١٦٠ ـ ١٦١) : هذا إسناد صحيح رواه الإمام أحمد في «مسنده» من حديث يعلى بن مرة أيضا.

ورواه ابن أبي عمر العدني وزاد مجهلة بين مجبنة ومبخلة. ورواه ابن أبي شيبة في «مسنده» كما رواه ابن ماجه سواء.

(٤) عجز بيت لعنترة العبسي وصدره :

نبئت عمرا غير شاكر نعمتي

ينظر : ديوانه ٢٨ ، شرح القصائد العشر ٣٦٨ ، الفراء ٢ / ١٢٦ ، البحر ٦ / ٥١ ، العمدة ١ / ٢٨٣ ، التهذيب «سول» ، اللسان «خبث» ، الدر المصون ٤ / ٤٠٢.

٣١٩

قال الفراء : مبصرة : مضيئة.

قال تعالى : (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) [يونس : ٦٧] أي : مضيئا ، وقيل : مبصرة أي : ذات إبصار ، أي : فيها إبصار لمن تأمّلها يبصر بها رشده ، ويستدلّ بها على صدق ذلك الرسول ـ صلوات الله عليه ـ.

(فَظَلَمُوا بِها) أي : ظلموا أنفسهم بتكذيبها ، أي : فعاجلناهم بالعقوبة.

وقال ابن قتيبة (١) : ظلموا بها ، أي : جحدوا بأنّها من الله تعالى ، ثم قال تعالى : (وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) قيل : لأنه لا آية إلّا وتتضمّن التخويف عند التكذيب ، إمّا من العذاب المعجّل ، أو من العذاب المؤجّل عذاب الآخرة.

فإن قيل : المقصود الأعظم من إظهار الآيات أن يستدلّ بها على صدق المدّعى ، فكيف حصر المقصود من إظهارها في التّخويف؟.

فالجواب : أن مدّعي النبوّة ، إذا أظهر الآية ، فإذا سمع الخلق منه ذلك ، فهم لا يعلمون أنّ تلك الآية معجزة ، أو غير معجزة ، إلّا أنّهم يجوزون كونها معجزة ، وبتقدير أن تكون معجزة ، فلو لم يتفكّروا فيها ، ولم يستدلّوا على الصّدق ، لاستحقوا العذاب الشديد ، فهذا الخوف هو الذي يحملهم على التفكّر والتأمل في تلك المعجزات ، فهذا هو المراد من قوله : (وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً).

قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً)(٦٠)

قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ) الآية.

اعلم أنّ القوم ، لمّا طالبوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمعجزات القاهرة ، وأجاب الله بأنّ إظهارها ليس بمصلحة ، صار ذلك سببا لجرأة أولئك الكفار بالطّعن فيه ، وأن يقولوا له : لو كنت رسولا حقّا من عند الله تعالى ، لأتيت بهذه المعجزات التي اقترحناها ، كما أتى به موسى وغيره من الأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ ، فعند هذا قوّى الله قلبه ، وبيّن له أنّه ينصره ، ويؤيّده ، فقال تعالى : (وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ) أي : هم في قبضته لا يقدرون على الخروج عن مشيئته ، فهو حافظك (٢) منهم ، فلا تهبهم ، وامض لما أمرك به من تبليغ الرّسالة ، كقوله تعالى : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧].

وقيل : المراد بالنّاس أهل مكّة ، وإحاطة الله بهم هو أنّه تعالى يفتحها للمؤمنين ؛ فيكون المعنى : وإذ بشّرناك بأنّ الله أحاط بأهل مكّة ؛ بمعنى أنّه ينصرك ، ويظهر دولتك عليهم ؛ كقوله تعالى : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) [القمر : ٤٥] وقوله : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ١٨٧.

(٢) في ب : يحفظك.

٣٢٠