اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٢

روي عن محمد بن القاسم عن عبد الله بن بسر المازنيّ : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وضع يده على رأسه ، وقال : «سيعيش هذا الغلام قرنا» وقال محمد بن القاسم ـ رضي الله عنه ـ : فما زلنا نعدّ له ؛ حتّى تمت له مائة سنة ، ثمّ مات (١).

وقال الكلبيّ : ثمانون سنة (٢).

وقيل : أربعون سنة (٣).

قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً)(٢٠)

قوله ـ تعالى ـ : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ) الآية.

«من» شرطية ، و«عجّلنا» جوابها ، و«ما يشاء» مفعولها ، و«لمن نريد» بدل بعض من كلّ ، من الضمير في «له» بإعادة العامل ، و (لِمَنْ نُرِيدُ) تقديره : لمن نريد تعجيله له.

[قوله :] (ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ) «جعل» هنا تصييرية.

وقوله : «يصلاها» الجملة حال : إمّا من الضمير في «له» وإمّا من «جهنّم» و«مذموما» حال من فاعل «يصلاها» قيل : وفي الكلام حذف ، وهو حذف المقابل ؛ إذ الأصل : من كان يريد العاجلة ، وسعى لها سعيها ، وهو كافر لدلالة ما بعده عليه ، وقيل : بل الأصل : من كان يريد العاجلة بعمله للآخرة كالمنافق.

ومعنى «يصلاها» : يدخلها.

«مذموما» : مطرودا ، «مدحورا» : مبعدا.

وقوله : «سعيها» : فيه وجهان :

أحدهما : أنه مفعول به ؛ لأنّ المعنى : وعمل لها عملها.

والثاني : أنه مصدر ، و«لها» أي : من أجلها.

والجملة من قوله : (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) هذه الجملة حال من فاعل «سعى».

قوله تعالى : (كُلًّا نُمِدُّ) : «كلّا» منصوب ب «نمدّ» و«هؤلاء» بدل ، «وهؤلاء عطف عليه ، أي : كلّ فريق نمدّ هؤلاء الساعين بالعاجلة ، وهؤلاء الساعين للآخرة ، وهذا

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٥٤) من طريق محمد بن القاسم عن عبد الله بن بسربه.

ورواه الحاكم (٢ / ٥٤٩) من وجه آخر عن عبد الله أيضا.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٧١) وزاد نسبته إلى ابن مردويه.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٠٩).

(٣) ينظر : المصدر السابق.

٢٤١

تقدير جيد ، وقال الزمخشري في تقديره : «كلّ واحد من الفريقين [نمدّ]». قال أبو حيان : «كذا قدّره الزمخشري ، وأعربوا «هؤلاء» بدلا من «كلّا» ولا يصح أن يكون بدلا من «كل» على تقدير : كلّ واحد ؛ لأنّه إذ ذاك بدل كلّ من بعض ، فينبغي أن يكون التقدير : كلّ الفريقين».

و«من عطاء» متعلّق ب «نمدّ» والعطاء اسم مصدر واقع موقع اسم المفعول.

والمحظور : الممنوع ، وأصله من الحظر ، وهو : جمع الشيء في حظيرة ، والحظيرة : ما يعمل من شجر ونحوه ؛ لتأوي إليه الغنم ، والمحتظر : من يعمل الحظيرة.

فصل

قال القفال (١) ـ رحمه‌الله ـ : هذه الآية داخلة في معنى قوله : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) : ومعناه : أن العمّال في الدنيا قسمان :

منهم من يريد بعمله الدنيا والرياسة ، فهذا يأنف من الانقياد للأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ ، والدخول في طاعتهم ؛ خوفا من زوال الرّياسة عنهم ، فهذا قد جعل طائر نفسه شؤما ؛ لأنه في قبضة الله ؛ فيؤتيه الله في الدنيا منها قدرا لا كما يشاء ذلك الإنسان ، بل كما يشاء الله. بل إن عاقبته جهنّم يدخلها فيصلاها بحرّها مذموما ملوما ، مدحورا مطرودا من رحمة الله.

وفي لفظ هذه الآية فوائد :

أحدها : أنّ العقاب (٢) عبارة عن مضرّة مقرونة بالإهانة بشرط أن تكون دائمة خالية عن المنفعة.

وثانيها : أن من الجهّال من إذا ساعدته الدنيا اغترّ بها ، وظنّ أن ذلك لأجل كرامته على الله ـ تعالى ـ فبيّن ـ تعالى ـ بهذه الآية أن مساعدة الدنيا لا ينبغي أن يستدلّ بها على رضا الله تعالى لأنّ الدنيا قد تصلح مع أنّ عاقبتها المصير إلى العذاب والإهانة ، فهذا الإنسان أعماله تشبه طائر السّوء في لزومها له ، وكونها سائقة له إلى أشدّ العذاب.

وثالثها : قوله : (لِمَنْ نُرِيدُ) يدلّ على أنّه لا يحصل الفوز بالدنيا لكلّ أحد ، بل كثير من الكفّار يعرضون عن الدّين في طلب الدنيا ، ثم يبقون محرومين عن الدنيا ، وعن الدّين ، فهؤلاء هم الأخسرون أعمالا الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.

وأما القسم الثاني : وهو قوله تعالى : (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ).

فشرط تعالى فيه ثلاثة شروط :

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ١٤٢.

(٢) في أ: الخطاب.

٢٤٢

أحدها : أن يريد بعمله الآخرة أي : ثواب الآخرة ، فإنه إن لم ينو ذلك ، لم ينتفع بذلك العمل ؛ لقوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [النجم : ٣٧] وقوله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ : «إنّما الأعمال بالنّيّات».

والثاني : قوله جلّ ذكره : (وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ) ، وذلك يقتضي أن يكون ذلك العمل من باب القرب والطّاعات ، وكثير من الضّلال يتقرّبون بعبادة الأوثان ، ولهم فيها تأويلان :

أحدهما : أنهم يقولون : إله العالم أجلّ وأعظم من أن يقدر الواحد منّا على إظهار عبوديته ، وخدمته ، ولكن غاية قدرتنا أن نشتغل بعبوديّة بعض المقربين من عباد الله ، مثل أن نشتغل بعبادة الكواكب ، أو ملك من الملائكة ، ثمّ إنّ الملك أو الكواكب يشتغلون بعبادة الله ـ تعالى ـ.

فهؤلاء يتقرّبون إلى الله ـ تعالى ـ بهذا الطريق ، وهذه طريق فاسدة ، فلا جرم لم ينتفع بها.

والتأويل الثاني : أنّهم قالوا : اتخذنا هذه التماثيل على صور الأنبياء والأولياء ، والمراد من عبادتها أن يصير أولئك الأنبياء والأولياء شفعاءنا عند الله ـ تعالى ـ ، وهذا الطريق أيضا فاسد ؛ فلا جرم لم ينتفع بها.

وأيضا : نقل عن الجنيد أنّهم يتقرّبون إلى الله ـ تعالى ـ بقتل أنفسهم تارة ، وبإحراق أنفسهم أخرى ، وهذا الطريق أيضا فاسد ، فلا جرم لم ينتفع بها ، وكذا القول في جميع فرق المبطلين الذين يتقرّبون إلى الله ـ تعالى ـ بمذاهبهم الباطلة.

والشرط الثالث : قوله تعالى : (وَهُوَ مُؤْمِنٌ).

وهذا الشرط معتبر ؛ لأنّ الشرط في كون أعمال البرّ موجبة للثواب هو الإيمان ، فإذا لم يوجد ، لم يحصل المشروط ، ثمّ إنّه ـ تعالى ـ أخبر أنّ عند حصول هذه الشرائط يصير السعي مشكورا ، والعمل مبرورا.

واعلم أن الشّكر عبارة عن مجموع أمور ثلاثة :

اعتقاد كونه محسنا في تلك الأعمال ، والثناء عليه بالقول ، والإتيان بأفعال تدلّ على كونه معظما عند ذلك الشّاكر ، والله ـ تعالى ـ يعامل المطيعين بهذه الأمور الثلاثة ، فإنّه تعالى عالم بكونهم محسنين في تلك الأعمال ، وإنه تعالى يثني عليهم بكلامه ؛ وإنّه تعالى يعاملهم بمعاملة دالّة على كونهم مطيعين عند الله ـ تعالى ـ.

وإذا كان مجموع هذه الثلاثة حاصلا ، كانوا مشكورين على طاعتهم من قبل الله ـ تعالى ـ

يروى في كتب المعتزلة : أنّ جعفر بن حرب حضر عنده رجل (١) من أهل السنّة ،

__________________

(١) في أ: واحد.

٢٤٣

وقال : الدليل على أن الإيمان حصل بخلق الله تعالى : أنا نشكر على الإيمان ، ولو لم يكن الإيمان حاصلا بإيجاده ، لامتنع أن نشكره عليه ؛ لأنّ مدح الإنسان وشكره على ما ليس من عمله (١) قبيح. قال الله ـ تعالى ـ : (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) [آل عمران : ١٨٨].

فعجز الحاضرون على الجواب ، فدخل ثمامة بن الأشرس ، وقال : إنّا نمدح الله ـ تعالى ـ ونشكره على ما أعطانا من القدرة ، والعقل ، وإنزال الكتب ، وإيضاح الدلائل ، والله ـ تعالى ـ يشكرنا على فعل الإيمان ، قال الله ـ تعالى ـ : (فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) قالوا : فضحك جعفر بن حرب (٢) وقال : صعبت (٣) المسألة ، فسهلت.

واعلم أن قولنا : مجموع القدرة مع الداعي يوجب الفعل كلام واضح ؛ لأنه «تعالى» هو الذي أعطى الموجب التّامّ لحصول الإيمان ، فكان هو المستحقّ للشّكر ، ولما حصل الإيمان للعبد ، وكان الإيمان موجبا للسّعادة التّامّة ، صار العبد أيضا مشكورا ، ولا منافاة بين الأمرين.

فصل

اعلم أنّ كلّ من أتى بفعل ، فإمّا أن يقصد به تحصيل خيرات الدنيا ، أو تحصيل الآخرة ، أو يقصد به مجموعهما ، أو لم يقصد به واحد منهما.

فإن قصد به تحصيل خيرات الدنيا فقط ، أو تحصيل الآخرة فقط ، فالله ـ تعالى ـ ذكر حكم هذين القسمين في هذه الآية ، وأما القسم الثالث فينقسم ثلاثة أقسام : إمّا أن يكون طلب الآخرة راجحا أو مرجوحا ، أو يكون الطلبان متعادلين.

فإن كان طلب الآخرة راجحا ، فهل يكون هذا العمل مقبولا عند الله تعالى بحيث يحتمل أن يقال : إنه غير مقبول ؛ لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاكيا عن الله ـ تعالى ـ أنه قال : أنا أغنى الأغنياء عن الشّرك من عمل عملا أشرك فيه غيري تركته وشريكه (٤).

وأيضا : طلب رضوان الله ـ تعالى ـ إما أن يكون سببا مستقلا بكونه باعثا على ذلك الفعل ، وداعيا إليه ، وإمّا ألا يكون. فإن كان الأول امتنع أن يكون لغيره مدخل في ذلك البعث والدعاء ؛ لأنّ الحكم إذا أسند إلى سبب كامل تامّ ، امتنع أن يكون لغيره مدخل فيه ، وإن كان الثاني ، فيكون الدّاعي إلى ذلك الفعل هو المجموع ، وذلك المجموع ليس هو طلب الرضوان من الله ـ تعالى ـ ؛ لأنّ المجموع الحاصل من الشّيء ومن غيره يجب أن يكون مغايرا لطلب رضوان الله ؛ فوجب ألا يكون مقبولا ، ويحتمل أن يقال : لما كان

__________________

(١) في ب : فعله.

(٢) سقط من أ.

(٣) في أ: وقالوا سبطت.

(٤) أخرجه مسلم (٤ / ٢٢٨٩) كتاب الزهد والرقائق : باب من أشرك في عمله غير الله حديث (٤٦ / ٢٩٨٥) من حديث أبي هريرة.

٢٤٤

طلب الآخرة راجحا على طلب الدنيا تعارض المثل بالمثل ، فيبقى القدر الزائد داعية خالصة لطلب الآخرة ؛ فوجب كونه مقبولا.

وأمّا إذا كان طلب الدنيا وطلب الآخرة متعادلين ، أو كان طلب الدنيا راجحا ، فقد اتفقوا على أنه غير مقبول ، إلّا أنه على كلّ حال خير مما إذا كان طلب الدنيا خاليا بالكليّة عن طلب الآخرة.

وأما القسم الرّابع ، وهو الإقدام على الفعل من غير داع ، فهو مبنيّ على أنّ صدور الفعل من القادر ، هل يتوقّف على حصول الدّاعي أم لا؟.

فالذين يقولون : إنّه متوقّف على حصول الدّاعي ، قالوا : هذا القسم ممتنع الحصول ، والّذين قالوا : إنّه لايتوقّف ، قالوا : هذا الفعل لا أثر له في الباطن ، وهو محرّم في الظاهر ؛ لأنه عبث.

فصل في معنى الآية

معنى الآية أنه تعالى يمدّ الفريقين بالأموال ، ويوسّع عليهما في الرّزق ، والعزّ والزينة في الدنيا ؛ لأنّ عطاءه ليس بضيّق على أحد مؤمنا كان أو كافرا ؛ لأنّ الكلّ مخلوق في دار العمل ؛ فوجب إزاحة العذر وإزالة العلّة عن الكلّ.

والتنوين في «كلّا» عوض من المضاف إليه ، أي كلّ واحد من الفريقين.

قوله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً)(٢١)

«كيف» نصب : إمّا على التشبيه بالظرف ، وإمّا على الحال ، وهي معلقة ل «انظر» بمعنى فكّر ، أو بمعنى أبصر.

والمعنى : أنا أوصلنا إلى مؤمن ، وقبضنا عن مؤمن آخر ، وأوصلنا إلى كافر ، وقبضنا عن كافر آخر ، وقد بيّن ـ تعالى ـ وجه الحكمة في هذا التفاوت ، فقال جلّ ذكره : (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) [الزخرف : ٣٢].

وقال تعالى في آخر سورة الأنعام : (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) الآية.

ثم قال تعالى : (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) أي : من درجات الدنيا ، ومن تفضيل الدنيا ، والمعنى : أن الآخرة أعظم وأشرف من الدنيا.

أي : أن المؤمنين يدخلون الجنّة ، والكافرين يدخلون النّار ، فتظهر فضيلة المؤمنين على الكافرين ، ونظيره قوله ـ تعالى ـ : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) [الفرقان : ٢٤] قوله تعالى : (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً)(٢٢)

لما بيّن تعالى أن النّاس فريقان ؛ منهم : من يريد بعمله الدنيا فقط ، وهم أهل

٢٤٥

العذاب ، ومنهم : من يريد طاعة الله ، وهم أهل الثواب ، ثم شرط في ذلك ثلاثة شروط : أن يريد الآخرة ، وأن يعمل عملا ، ويسعى سعيا موافقا لطلب الآخرة ، وأن تكون مؤمنا لا جرم فصّل في هذه الآية تلك المجملات ، فبدأ أوّلا بشرح حقيقة الإيمان ، وأشرف أجزاء الإيمان هو التوحيد ، ونفي الشّرك ، فقال عزّ وعلا : (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ).

ثم ذكر عقيبه سائر الأعمال التي يكون المشتغل بها ساعيا سعي الآخرة.

قال المفسّرون (١) : الخطاب مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد غيره كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) [الطلاق : ١] وقيل : الخطاب للإنسان ، وهذا أولى ؛ لأنّه تعالى عطف عليه قوله ـ تعالى ـ : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٢٣] إلى قوله تعالى : (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما).

وهذا لا يليق بالنبي ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لأنّ أبويه ما بلغا الكبر عنده.

والمعنى : أنّ من أشرك بالله ، كان مذموما مخذولا ؛ ويدل على ذلك وجوه :

الأول : أنّ المشرك كاذب ، والكاذب يستوجب الذمّ ، والخذلان.

الثاني : أنّه لما ثبت بالدّليل : أنّه لا إله ولا مدبّر إلّا الواحد الأحد ، فحينئذ : يكون جميع النّعم حاصلة من الله ـ تعالى ـ ، فمن أشرك بالله ، فقد أضاف بعض تلك النّعم إلى غير الله ، مع أن الحقّ أن كلّها من الله ، فحينئذ يستحقّ الذمّ ؛ لأنّ المستحقّ للشّكر على تلك النعم هو الخالق لها ، فلمّا جحد كونها من الله ـ تعالى ـ فقد قابل إحسان الله ـ تعالى ـ بالإساءة والجحود ، فاستوجب (٢) الذمّ ، ويستحقّ الخذلان ؛ لأنّه لما أثبت لله شريكا ، استحقّ أن يفوض أمره إلى ذلك الشّريك ، ولمّا كان ذلك الشريك معدوما ، بقي بلا ناصر ولا حافظ ولا معين ، وذلك عين الخذلان.

الثالث : أنّ الكمال في الوحدة ، والنقصان في الكثرة ، فمن أثبت الشّريك ، فقد وقع في جانب النقصان.

قوله تعالى : (فَتَقْعُدَ) : يجوز أن تكون على بابها ، فينتصب ما بعدها على الحال ، ويجوز أن تكون بمعنى «صار» فينتصب على الخبريّة ، وإليه ذهب الفراء والزمخشريّ ، وأنشدوا في ذلك :

٣٣٩٣ ـ لا يقنع الجارية الخضاب

ولا الوشاحان ولا الجلباب

من دون أن تلتقي الأركاب

ويقعد الأير له لعاب (٣)

أي : ويصير ، والبصريّون لا يقيسون هذا ، بل يقتصرون به على المثل في قولهم : «شحذ شفرته ؛ حتّى قعدت كأنّها حربة».

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ١٤٦.

(٢) في ب : فاستحق.

(٣) البيتان لبعض بني عامر ينظر : معاني الفراء ٢ / ٢٧٤ ، البحر ٦ / ٦٩ ، التهذيب واللسان «ركب» ، الدر المصون ٤ / ٣٨١.

٢٤٦

وقال الواحديّ (١) : «فتقعد» : انتصب ؛ لأنّه وقع بعد الفاء ؛ جوابا للنهي ، وانتصابه بإضمار «أن» كقولك : لا تنقطع عنّا ، فنجفوك ، والتقدير : لا يكن منك انقطاع ؛ فيحصل أن نجفوك ، فما بعد الفاء متعلّق بالجملة المتقدمة بحرف الفاء ، وإنّما سمّاه النحويون جوابا ؛ لكونه مشابها للجزاء في أنّ الثاني مسبّب عن الأول ؛ ألا ترى أنّ المعنى : إن انقطعت جفوتك ، كذلك تقدير الآية : إن جعلت مع الله إلها آخر ، قعدت مذموما مخذولا.

فصل في معنى القعود في الآية

ذكروا في هذا القعود وجوها :

أحدها : أن معناه المكث أي : فتمكث في النّاس مذموما مخذولا ، وهذه اللفظة مستعملة في لسان العرب والفرس في هذا المعنى ، إذا سأل الرجل غيره : ما يصنع فلان في تلك البلدة؟ فيقول المجيب : هو قاعد بأسوأ حال.

معناه : المكث ، سواء كان قائما أو قاعدا.

وثانيها : أنّ من شأن المذموم المخذول أن يقعد نادما متفكرا على ما فرط منه.

وثالثها : أنّ المتمكن (٢) من تحصيل الخيرات يسعى في تحصيلها ، والسّعي إنما يتأتى بالقيام ، وأما العاجز عن تحصيلها ، فإنّه لايسعى ، بل يبقى جالسا قاعدا عن الطّلب ، فلمّا كان القيام على الرّجل أحد الأمور التي يتمّ بها الفوز بالخيرات ، وكان القعود والجلوس علامة على عدم تلك المكنة والقدرة ، لا جرم جعل القيام كناية عن القدرة على تحصيل الخيرات ، والقعود كناية عن العجز والضعف.

قوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً)(٢٤)

قوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ).

لما ذكر في الآية المتقدمة ما هو الركن الأعظم في الإيمان ، أتبعه بذكر ما هو من شعائر الإيمان وشرائعه ، وهي أنواع :

الأول : أن يشتغل الإنسان بعبادة الله سبحانه وتعالى ، ويتحرّز عن عبادة غير الله تعالى.

والقضاء : الحكم الجزم البتّ الذي لا يقبل النسخ ؛ لأنّ الواحد منا ، إذا أمر غيره بشيء لا يقال : قضى عليه ، فإذا أمره أمرا جزما ، وحكم عليه بذلك على سبيل البتّ والقطع ، فها هنا يقال : قضى عليه ، وروى ميمون بن مهران عن ابن عبّاس ـ رضي الله

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ١٤٧.

(٢) في ب : التمكن.

٢٤٧

عنه ـ أنه قال في هذه الآية : كان الأصل : «ووصّى ربّك» ، فالتصقت إحدى الواوين بالصّاد ، فصارت قافا فقرىء «وقضى ربّك» (١).

ثم قال : ولو كان على القضاء ما عصى الله أحد قط ؛ لأنّ خلاف قضاء الله ممتنع ، هذا رواه عنه الضحاك بن مزاحم (٢) ، وسعيد بن جبير ، وهو قراءة عليّ وعبد الله.

وهذا القول بعيد جدّا ؛ لأنّه يفتح باب أنّ التحريف والتغيير قد تطرق إلى القرآن ، ولو جوّزنا ذلك ، لارتفع الأمان عن القرآن ، وذلك يخرجه عن كونه حجّة ، وذلك طعن عظيم في الدّين.

وقرأ الجمهور «قضى» فعلا ماضيا ، فقيل : هي على موضوعها الأصلي ؛ قال ابن عطية: «ويكون الضمير في «تعبدوا» للمؤمنين من الناس إلى يوم القيامة».

وقال ابن عبّاس وقتادة والحسن بمعنى : أمر (٣).

وقال مجاهد : بمعنى : أوصى (٤).

وقال الربيع بن أنس : أوجب وألزم (٥).

وقيل بمعنى : حكم.

وقرأ بعض ولد معاذ بن جبل : «وقضاء ربّك» اسما مصدرا مرفوعا بالابتداء ، و (أَلَّا تَعْبُدُوا) خبره.

قوله تعالى : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) : يجوز أن تكون «أن» مفسرة ؛ لأنها بعد ما هو بمعنى القول ، و«لا» ناهية ، ويجوز أن تكون الناصبة ، و«لا» نافية ، أي : بأن لا ، ويجوز أن تكون المخففة ، واسمها ضمير الشأن ، و«لا» ناهية أيضا ، والجملة خبرها ، وفيه إشكال ؛ من حيث وقوع الطّلب خبرا لهذا الباب ، ومثله في هذا الإشكال قوله : (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ) [النمل : ٨] ، وقوله : (أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها) [النور : ٩] لكونه دعاء ، وهو طلب أيضا ، ويجوز أن تكون الناصبة ، و«لا» زائدة. [قال أبو البقاء (٦) : «ويجوز أن

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٥٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٠٩) وزاد نسبته إلى الفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن الأنباري في «المصاحف» من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٠٩) وعزاه إلى ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن عباس.

وأخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٥٨) عن الضحاك من قوله.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٥٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٠٩) وزاد نسبته إلى ابن المنذر.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٥٨) وذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١١٠).

(٥) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١١٠).

(٦) ينظر : الإملاء ٢ / ٩٠.

٢٤٨

يكون في موضع نصب ، [أي :] ألزم ربّك عبادته و«لا» زائدة»]. قال أبو حيّان : «وهذا وهم ؛ لدخول «إلّا» على مفعول «تعبدوا» فلزم أن يكون نفيا ، أو نهيا».

قوله تعالى : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) قد تقدم نظيره في البقرة.

وقال الحوفي : «الباء متعلقة ب «قضى» ويجوز أن تكون متعلقة بفعل محذوف تقديره : وأوصى بالوالدين إحسانا ، و«إحسانا» مصدر ، أي : يحسنون بالوالدين إحسانا».

وقال الواحديّ : «الباء من صلة الإحسان ، فقدّمت عليه ؛ كما تقول : بزيد فانزل» (١) وقد منع الزمخشري هذا الوجه ؛ قال : «لأنّ المصدر لا يتقدّم عليه معموله». قال شهاب الدين : والذي ينبغي أن يقال : إنّ هذا المصدر إن عنى به أنّه ينحلّ لحرف مصدريّ ، وفعل ، فالأمر على ما ذكر الزمخشريّ ، وإن كان بدلا من اللفظ بالفعل ، فالأمر على ما قال الواحديّ ، فالجواز والمنع بهذين الاعتبارين.

وقال ابن عطية : «قوله (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) عطف على «أن» الأولى ، أي : أمر الله ألّا تعبدوا إلّا إيّاه ، وأن تحسنوا بالوالدين إحسانا». واختار أبو حيّان أن يكون «إحسانا» مصدرا واقعا موقع الفعل ، وأنّ «أن» مفسرة ، و«لا» ناهية ، قال : فيكون قد عطف ما هو بمعنى الأمر على نهي ؛ كقوله : [الطويل]

٣٣٩٤ ـ ...........

يقولون : لا تهلك أسى وتجمّل (٢)

قلت : و«أحسن» و«أساء» يتعدّيان ب «إلى» وب «الباء». قال تعالى : (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي) [يوسف : ١٠٠] وقال كثير عزّة : [الطويل]

٣٣٩٥ ـ أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة

 ............(٣)

وكأنه ضمّن «أحسن» لمعنى «لطف» فتعدّى تعديته.

فصل في نظم الآية

لما أمر بعبادة نفسه أتبعه ببرّ الوالدين ، ووجه المناسبة بين الأمرين أمور :

أوّلها : أنّ السبب الحقيقيّ لوجود الإنسان هو تخليق الله وإيجاده ، والسبب الظاهريّ هو الأبوان ، فأمر بتعظيم السبب الحقيقي ، ثم أتبعه بالأمر بتعظيم السبب الظاهري.

وثانيها : أنّ الموجود : إما قديم ، وإما محدث ، ويجب أن تكون معاملة الإنسان مع الإله القديم بالتعظيم والعبودية ، ومع المحدث بإظهار الشفقة ، وهو المراد من قوله ـ صلوات الله البرّ الرّحيم وسلامه عليه ـ : «والتعظيم لأمر الله ، والشفقة على خلق الله» (٤)

__________________

(١) في ب : فامرر.

(٢) تقدم.

(٣) تقدم.

(٤) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٠ / ١٤٨).

٢٤٩

وأحقّ الخلق بالشفقة الأبوان ؛ لكثرة إنعامهما على الإنسان. فقوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) إشارة إلى التّعظيم لأمر الله تعالى ، وقوله تعالى : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) إشارة إلى الشّفقة على خلق الله.

وثالثها : أنّ الاشتغال بشكر المنعم واجب ، ثمّ المنعم الحقيقي هو الخالق سبحانه وتعالى جلّ ذكره لا إله إلا هو ، وقد يكون بعض المخلوقين منعما عليك ، وشكره أيضا واجب ؛ لقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من لم يشكر النّاس ، لم يشكر الله» (١) ، وليس لأحد من الخلائق نعمة على الإنسان مثل ما للوالدين ، وتقريره من وجوه :

أحدها : أن الولد قطعة من الوالدين ؛ قال ـ عليه‌السلام ـ (٢) : «فاطمة بضعة منّي يؤذيني ما يؤذيها» (٣).

وأيضا شفقة الوالدين على الولد عظيمة ، وجدهما في إيصال الخير إلى الولد أمرّ طبيعيّ ، واحترازهما عن إيصال الضرر إليه أمر طبيعيّ أيضا ؛ فوجب أن تكون نعم الوالدين على الولد كثيرة ، بل هي أكثر من كلّ نعمة تصل من إنسان إلى إنسان.

وأيضا : حال ما يكون الإنسان في غاية الضّعف ونهاية العجز يكون جميع أصناف نعم الأبوين في ذلك الوقت واصلة إلى الولد ، وإذا وقع الإنعام على هذا الوجه ، كان موقعه عظيما.

وأيضا : فإيصال الخير إلى الغير قد يكون لداعية إيصال الخير إليه ، وإيصال الخير إلى الولد ليس لهذا الغرض ، فكان الإنعام فيه أتمّ وأكمل ، فثبت بهذه الوجوه أنه ليس لأحد من المخلوقين نعمة على غيره مثل ما للوالدين على الولد ، فلهذا بدأ الله بشكر نعمة الخالق ؛ فقال تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) ثم أردفه بشكر نعمة الوالدين ، فقال تعالى : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً). فإن قيل : إنّ الوالدين إنّما طلبا تحصيل اللذّة لأنفسهما ؛ فلزم منه دخول الولد في الوجود ، ودخوله في عالم الآفات والمخافات ، فأيّ إنعام للأبوين على الولد.

يحكى أن بعض المنتسبين للحكمة كان يضرب أباه ، ويقول : هو الذي أدخلني في عالم الكون والفساد ، وعرّضني للموت ، والفقر ، والعمى ، والزّمانة.

__________________

(١) أخرجه أبو داود (٤٨١١) والترمذي (٤ / ٢٩٨) كتاب البر والصلة : باب ما جاء في الشكر لمن أحسن إليك حديث (١٩٥٤) وأحمد (٢ / ٢٥٨) وابن حبان (٢٠٧٠ ـ موارد) من حديث أبي هريرة.

وقال الترمذي : هذا حديث صحيح.

وصححه ابن حبان.

(٢) سقط من : أ.

(٣) أخرجه البخاري (٧ / ١٣١ ـ ١٣٢) كتاب فضائل الصحابة : باب مناقب فاطمة حديث (٣٧٦٧) ومسلم (٤ / ١٩٠٢) كتاب فضائل الصحابة : باب فضائل فاطمة حديث (٩٣ / ٢٤٤٩). والبيهقي (٧ / ٦٤) والحاكم (٣ / ١٥٨) والبغوي في «شرح السنة» (٧ / ٢٣٢) من حديث المسور بن مخرمة.

٢٥٠

وقيل لأبي العلاء المعريّ : ماذا تكتب على قبرك؟ فقال اكتبوا عليه : [الكامل]

٣٣٩٦ ـ هذا جناه أبي علي

ي وما جنيت على أحد (١)

وقال في ترك التزوج والولد : [الكامل]

٣٣٩٧ ـ وتركت فيهم نعمة ال

عدم التي سبقت نعيم العاجل

ولو أنّهم ولدوا لعانوا شدّة

ترمي بهم في موبقات الآجل (٢)

وقيل للإسكندر : أستاذك أعظم منّة عليك أم والدك؟ فقال : الأستاذ أعظم منّة ؛ لأنّه تحمّل أنواع الشّدائد عند تعليمي وأوقفني في نور العلم ، وأمّا الوالد فإنه طلب تحصيل لذة الوقاع لنفسه ، فأخرجني إلى آفات عالم الكون والفساد. ومن الكلمات المشهورة المأثورة : «خير الآباء من علّمك» والجواب :

هب أنّه في أوّل الأمر طلب لذة الوقاع ، إلّا أن الاهتمام بإيصال الخيرات إليه ، ودفع الآفات من أوّل دخوله في الوجود إلى وقت بلوغه الكبر ، أليس أنّه أعظم من جميع ما يصل إليه من جهات الخيرات والمبرات؟ فسقطت هذه الشبهات.

واعلم أن لفظ الآية يدلّ على معان كثيرة ، كل واحد منها يوجب المبالغة في الإحسان إلى الوالدين ، منها أنه تبارك وتعالى قال في الآية المتقدمة : (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) ، ثم أردفه بهذه الآية المشتملة على الأعمال التي يحصل بها الفوز بسعادة الآخرة. وذكر من جملتها البرّ بالوالدين ، وذلك يدلّ على أنّ هذه الطاعة من أصول الطّاعات التي تفيد سعادة الآخرة.

ومنها أنّه تعالى بدأ بذكر الأمر بالتّوحيد ، وثنّى بطاعة الله ، وثلّث ببرّ الوالدين ، وهذه درجة عالية ومبالغة عظيمة في تعظيم هذه الطّاعة.

ومنها : أنه تعالى لم يقل : «وإحسانا بالوالدين» ، بل قال : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) ، فتقديم ذكرهما يدل على شدّة الاهتمام. ومنها : أنه تعالى قال : «إحسانا» بلفظ التنكير ، والتنكير يدلّ على التعظيم ، أي : إحسانا عظيما كاملا ؛ لأنّ إحسانهما إليك قد بلغ الغاية العظيمة ؛ فوجب أن يكون إحسانك إليهما كذلك ، وإن لم تحسن إليهما كذلك ، فلا تحصل المكافأة ؛ لأنّ إنعامهما عليك كان على سبيل الابتداء ، وفي الأمثال المشهورة : «إنّ البادىء بالبرّ لا يكافأ».

قوله تعالى : (إِمَّا يَبْلُغَنَ) قرأ الأخوان (٣) «يبلغانّ» بألف التثنية قبل نون التوكيد

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ١٤٩ ، وروح المعاني ٨ / ٦١.

(٢) ينظر : الرازي ٢٠ / ١٤٩ ، وروح المعاني ٨ / ٦١.

(٣) ينظر : السبعة ٣٧٩ ، والتيسير ١٣٩ ، والحجة ٣٩٩ ، والنشر ٢ / ٣٠٦ ، والإتحاف ٢ / ١٩٦ ، والبحر ٦ / ٢٤ ، والوسيط ٣ / ١٠٣.

٢٥١

المشددة المكسورة ، والباقون دون ألف وبفتح النون ، فأمّا القراءة الأولى ، ففيها أوجه :

أحدها : أن الألف ضمير الوالدين ؛ لتقدّم ذكرهما ، و«أحدهما» بدل منه ، و«أو كلاهما» عطف عليه ، وإليه نحا الزمخشريّ وغيره ، واستشكله بعضهم بأنّ قوله «أحدهما» بدل بعض من كلّ ، لا كل من كلّ ؛ لأنه غير واف بمعنى الأول ، وقوله بعد ذلك «أو كلاهما» عطف على البدل ، فيكون بدلا ، وهو من بدل الكلّ من الكلّ ؛ لأنه مرادف لألف التثنية ، لكنه لا يجوز أن يكون بدلا ؛ لعروّه عن الفائدة ؛ إذ المستفاد من ألف التثنية هو المستفاد من «كلاهما» فلم يفد البدل زيادة على المبدل منه.

قال شهاب الدين : هذا معنى قول أبي حيّان ، وفيه نظر ؛ إذ لقائل أن يقول : مسلّم أنّه لم يفد البدل زيادة على المبدل منه ، لكنه لايضرّ ؛ لأنه شأن التأكيد ، ولو أفاد زيادة أخرى غير مفهومة من الأول كان تأسيسا لا تأكيدا ، وعلى تقدير تسليم ذلك ، فقد يجاب عنه بما قال ابن عطيّة ؛ فإنه قال بعد ذكره هذا الوجه : وهو بدل مقسّم ؛ كقول الشاعر : [الطويل]

٣٣٩٨ ـ وكنت كذي رجلين رجل صحيحة

ورجل رمى فيها الزّمان فشلّت (١)

إلا أنّ أبا حيّان تعقّب كلامه ، فقال : «أمّا قوله : بدل مقسم ؛ كقوله :

٣٣٩٩ ـ «وكنت ............» (٢)

فليس كذلك ؛ لأنّ شرطه العطف بالواو ، وأيضر فشرطه : ألّا يصدق المبدل منه على أحد قسميه ، لكن هنا يصدق على أحد قسميه ؛ ألا ترى أنّ الألف ، وهي المبدل منه يصدق على أحد قسميها ، وهو «كلاهما» فليس من البدل (٣) المقسّم». ومتى سلّم له الشرطان ، لزم ما قاله.

الثاني : أن الألف ليست ضميرا ، بل علامة تثنية ، و«أحدهما» فاعل بالفعل قبله ، و«أو كلاهما» عطف عليه ، وقد ردّ هذا الوجه : بأنّ شرط الفعل الملحق به علامة تثنية : أن يكون مسندا لمثنى ؛ نحو : قاما أخواك ، أو إلى مفرّق بالعطف بالواو خاصة على خلاف فيه ؛ نحو : «قاما زيد وعمرو» ، لكنّ الصحيح جوازه ؛ لوروده سماعا كقوله : [الطويل]

٣٤٠٠ ـ ...........

وقد أسلماه مبعد وحميم (٤)

__________________

(١) البيت لكثير عزة. ينظر : ديوانه ٩٩ ، وأمالي المرتضى ١ / ٤٦ ، وخزانة الأدب ٥ / ٢١١ ، ٢١٨ ، والكتاب ١ / ٥٤٢ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٤٣٣ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٢٠٤ ، وشرح الأشموني ٢ / ٤٣٨ ، وشرح المفصل ٣ / ٧٨ ، ومغني اللبيب ص ٤٧٢ ، والمقتضب ٤ / ٢٩٠ ، والبحر المحيط ٦ / ٢٤ ، والدر المصون ٤ / ٣٨٢.

(٢) ينظر : التخريج السابق.

(٣) في أ: يقع.

(٤) تقدم.

٢٥٢

والفعل هنا مسند إلى «أحدهما» وليس مثنّى ، ولا مفرّقا بالعطف بالواو.

الثالث : نقل عن الفارسي أن «كلاهما» توكيد ، وهذا لا بد من إصلاحه بزيادة ، وهو أن يجعل «أحدهما» بدل بعض من كلّ ، ويضمر بعده فعل رافع لضمير تثنية ، ويقع «كلاهما» توكيدا لذلك الضمير تقديره : أو يبلغا كلاهما ، إلا أنه فيه حذف المؤكد وإبقاء التوكيد ، وفيها خلاف ، أجازها الخليل وسيبويه (١) نحو : «مررت بزيد ، ورأيت أخاك أنفسهما» بالرفع والنصب ، فالرفع على تقدير : هما أنفسهما ، والنصب على تقدير أعينهما أنفسهما ، ولكن في هذا نظر ؛ من حيث إنّ المنقول عن الفارسي منع حذف المؤكّد وإبقاء توكيده ، فكيف يخرّج قوله على أصل لايجيزه؟.

وقد نصّ الزمخشريّ على منع التوكيد ، فقال : «فإن قلت : لو قيل : «إمّا يبلغان كلاهما» كان «كلاهما» توكيدا لا بدلا ، فما لك زعمت أنه بدل؟ قلت : لأنه معطوف على ما لا يصحّ أن يكون توكيدا للاثنين ، فانتظم في حكمه ؛ فوجب أن يكون مثله» قلت : يعني أنّ «أحدهما» لا يصلح أن يكون توكيدا للمثنى ، ولا لغيرهما ، فكذا ما عطف عليه ؛ لأنه شريكه.

ثم قال : «فإن قلت : ما ضرّك لو جعلته توكيدا مع كون المعطوف عليه بدلا ، وعطفت التوكيد على البدل؟ قلت : لو أريد توكيد التثنية ، لقيل : «كلاهما» فحسب ، فلما قيل : «أحدهما أو كلاهما» علم أنّ التوكيد غير مراد ، فكان بدلا مثل الأول».

الرابع : أن يرتفع «كلاهما» بفعل مقدر تقديره : أو يبلغ كلاهما ، ويكون «أحدهما» بدلا من ألف الضمير بدل بعض من كلّ ، والمعنى : إمّا يبلغنّ عندك أحد الوالدين أو يبلغ كلاهما.

قال البغويّ (٢) ـ رحمه‌الله ـ فعلى قراءة حمزة والكسائي قوله : «أحدهما أو كلاهما» كلام مستأنف ؛ كقوله تعالى : (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ) [المائدة : ٧١] وقوله تعالى : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) [الأنبياء : ٣] فقوله : (الَّذِينَ ظَلَمُوا) ابتداء.

وأما القراءة الثانية فواضحة ، و«إمّا» هي «إن» الشرطية زيدت عليها «ما» توكيدا ، فأدغم أحد المتقاربين في الآخر بعد أن قلب إليه ، وهو إدغام واجب ، قال الزمخشريّ : «هي إن الشرطية زيدت عليها «ما» توكيدا لها ؛ ولذلك دخلت النون ، ولو أفردت «إن» لم يصحّ دخولها ، لا تقول : إن تكرمنّ زيدا ، يكرمك ، ولكن : إمّا تكرمنّه».

وهذا الذي قاله الزمخشريّ نصّ سيبويه على خلافه ، قال سيبويه (٣) :

وإن شئت ، لم تقحم النون ، كما أنك ، إن شئت ، لم تجىء ب «ما» قال أبو حيّان : «يعني مع النون وعدمها» وفي هذا نظر ؛ لأنّ سيبويه ، إنما نصّ على أنّ نون التوكيد لا

__________________

(١) ينظر : الكتاب ١ / ٢٤٧.

(٢) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١١٠.

(٣) ينظر : الكتاب ٢ / ١٥٢.

٢٥٣

يجب الإتيان بها بعد «أمّا» وإن كان أبو إسحاق قال بوجوب ذلك ، وقوله بعد ذلك : كما أنّك إن شئت لم تجىء ب «ما» ليس فيه دليل على جواز توكيد الشّرط مع «إن» وحدها.

و«عندك» ظرف ل «يبلغنّ» و«كلا» مثناة معنى من غير خلاف ، وإنما اختلفوا في تثنيتها لفظا : فمذهب البصريّين : أنها مفردة لفظا ، ووزنها على فعل ؛ ك «معى» وألفها منقلبة عن واو ، بدليل قلبها تاء في «كلتا» مؤنث «كلا» هذا هو المشهور ، وقيل : ألفها عن ياء ، وليس بشيء ، وقال الكوفيّون : هي مثناة لفظا ؛ وتبعهم السهيليّ مستدلّين على ذلك بقوله: [الرجز]

٣٤٠١ ـ في كلت رجليها سلامى واحده

 ........... (١)

فنطق بمفردها ؛ ولذلك تعرب بالألف رفعا والياء نصبا وجرا ، فألفها زائدة على ماهية الكلمة كألف «الزيدان» ، ولامها محذوفة عند السهيليّ ، ولم يأت عن الكوفيين نصّ في ذلك ، فاحتمل أن يكون الأمر كما قال السهيليّ ، وأن تكون موضوعة على حرفين فقط ، لأنّ مذهبهم جواز ذلك في الأسماء المعربة.

قال أبو الهيثم الرّازي (٢) وأبو الفتح الموصليّ ، وأبو عليّ الجرجانيّ إن «كلا» اسم مفرد يفيد معنى التثنية ، ووزنه فعل ، ولامه معتلّ بمنزلة لام «حجى ورضى» وهي كلمة وضعت على هذه الخلقة يؤكد بها الاثنان (٣) خاصة ، ولا تكون إلا مضافة (٤) ؛ لأنّها لو كانت تثنية ، لوجب أن يقال في النّصب والخفض : «مررت بكلي الرّجلين» بكسر الياء ، كما يقال : «بين يدي الرّجل» و (مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ) و (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ) و (طَرَفَيِ النَّهارِ) ، ولما لم يكن كذلك ، علمنا أنّها ليست تثنية ، بل هي لفظة مفردة ، وضعت للدلالة على التثنية ، كما أنّ لفظة «كل» اسم واحد موضوع للجماعة ، فإذن أخبرت عن لفظه ، كما تخبر عن الواحد ؛ كقوله تعالى : (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) [مريم : ٩٥] ، فكذا إن أخبرت عن «كلا» أخبرت عن واحد ، فقلت : كلا أخويك كان قائما.

قال الله تعالى : (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها) [الكهف : ٣٣]. ولم يقل : «آتتا».

وحكمها : أنّها متى أضيفت إلى مضمر أعربت إعراب المثنى ، أو إلى ظاهر ، أعربت إعراب المقصور عند جمهور العرب ، وبنو كنانة يعربونها إعراب المثنى مطلقا ، فيقولون : رأيت كلي أخويك ، وكونها جرت مجرى المثنى مع المضمر ، دون الظاهر يطول ذكره.

__________________

(١) ينظر : أسرار العربية ٢٨٨ ، الإنصاف ٢ / ٤٣٩ ، خزانة الأدب ١ / ١٢٩ ، ١٣٣ ، والدرر ١ / ١٢٠ ، وشرح الأشموني ١ / ٣٢ ، لسان العرب «كلا» ، اللمع في العربية ص ١٧٢ ، المقاصد النحوية ١ / ١٥٩ ، همع الهوامع ١ / ٤١ ، الدر المصون ٤ / ٣٨٤.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ١٥٠.

(٣) في أ: توكيدها الإتيان.

(٤) في أ: للإضافة.

٢٥٤

ومن أحكامها : أنّها لا تضاف إلّا إلى مثنى لفظا [ومعنى نحو : «كلا الرّجلين»] ، أو معنى لا لفظا ؛ نحو : «كلانا» ، ولا تضاف إلى مفرّقين بالعطف نحو : «كلا زيد وعمرو» إلا في ضرورة ؛ كقوله : [الطويل]

٣٤٠٢ ـ كلا السّيف والسّاق الّذي ذهبت به

على مهل باثنين ألقاه صاحبه (١)

وكذا لا تضاف إلى مفرد مراد به التثنية إلّا في ضرورة ؛ كقوله : [الرمل]

٣٤٠٣ ـ إنّ للخير وللشّرّ مدى

وكلا ذلك وجه وقبل (٢)

والأكثر مطابقتها فيفرد خبرها وضميرها ؛ نحو : كلاهما قائم ، وكلاهما ضربته ، ويجوز في قليل : قائمان ، وضربتهما ؛ اعتبارا بمعناهما ، وقد جمع الشاعر بينهما في قوله : [البسيط]

٣٤٠٤ ـ كلاهما حين جدّ الجري بينهما

قد أقلعا وكلا أنفيهما رابي (٣)

وقد يتعيّن اعتبار اللفظ ؛ نحو : كلانا كفيل صاحبه ، وقد يتعيّن اعتبار المعنى ، ويستعمل تابعا توكيدا ، وقد لا يتبع ، فيقع مبتدأ ، ومفعولا به ، ومجرورا ، و«كلتا» في جميع ما ذكر ك «كلا» وتاؤها بدل عن واو ، وألفها للتأنيث ، ووزنها فعلى ؛ كذكرى ، وقال يونس : ألفها أصل ، وتاؤها مزيدة ، ووزنها فعتل ، وقد ردّ عليه الناس ، والنسب إليها عند سيبويه (٤) : «كلوي» كمذكرها ، وعند يونس : كلتويّ ؛ لئلا تلتبس ، ومعنى الآية أنّهما يبلغان إلى حالة الضّعف والعجز ، فيصيران عندك في آخر العمر ، كما كنت عندهما في أوّل العمر.

قوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) قوله : أفّ : اسم فعل مضارع بمعنى أتضجّر ، وهو قليل ؛ فإنّ أكثر باب أسماء الأفعال أوامر ، وأقل منه اسم الماضي ، وأقلّ منه اسم المضارع ؛ ك «أف» وأوّه ، أي : أتوجّع ، ووي ، أي : أعجب ، وكان من حقّها أن تعرب ؛ لوقوعها موقع معرب ، وفيها لغات كثيرة ، وصلها الرّماني إلى تسع وثلاثين ، وذكر ابن عطيّة لفظة ، بها تمّت الأربعون ، وهي اثنتان وعشرون مع الهمزة المضمومة : أفّ ، أفّ ، أفّ ، بالتشديد مع التنوين وعدمه ، أف ، أف ، أف ، بالتخفيف مع التنوين وعدمه ، أف بالسكون والتخفيف ؛ أفّ بالسكون والتشديد ، أفّه ، أفّه ، أفّه ، أفّا من غير إمالة ، وبالإمالة

__________________

(١) ينظر : شرح المفصل ٣ / ٣ ، والمقرب ١ / ٢١١ ، والدر المصون ٤ / ٣٨٤ ، ويروى البيت هكذا :

كلا السيف والساق الذي ضربت به

على دهش يا بثن ألقاه صاحبه

(٢) تقدم.

(٣) البيت للفرزدق ينظر : النوادر ١٦٢ ، الإنصاف ٢ / ٤٤٧ ، الخصائص ٢ / ٤٢١ ، شرح المفصل لابن يعيش ١ / ٥٤ ، المغني ١ / ٢٠٤ ، الهمع ١ / ٤١ ، الدرر ١ / ١٦ ، الأشموني ١ / ٧٨ ، التصريح ٢ / ٤٣ الدر المصون ٤ / ٣٨٤.

(٤) ينظر : الكتاب ٢ / ٨٢.

٢٥٥

المحضة ، وبالإمالة بين بين ، أفّو أفّي : بالواو والياء ، وإحدى عشرة مع كسر الهمزة : إفّ ، إفّ : بالتشديد مع التنوين وعدمه ، أف ، إف ، إف بالتخفيف مع التنوين وعدمه ، إفّا بالإمالة ، وست مع فتح الهمزة : أفّ أفّ ؛ بالتشديد مع التنوين وعدمه ، أف بالسكون ، أفا بالألف ، فهذه تسع وثلاثون لغة ، وتمام الأربعين : «أفاه» بهاء السكت ، وفي استخراجها بغير هذا الضّابط الذي ذكرته عسر ونصب ، يحتاج في استخراجه من كتب اللغة ، ومن كلام أهلها ، إلى تتبّع كثير ، وأبو حيان لم يزد على أن قال : «ونحن نسردها مضبوطة كما رأيناها» ، فذكرها ، والنّسّاخ خالفوه في ضبطه ، فمن ثمّ جاء فيه الخلل ، فعدلنا إلى هذا الضّابط المذكور ، ولله الحمد والمنة.

وقد قرىء من هذه اللغات بسبع : ثلاث في المتواتر ، وأربع في الشاذ ، فقرأ نافع (١) وحفص بالكسر والتنوين ، وابن كثير ، وابن عامر بالفتح دون تنوين ، والباقون بالكسر دون تنوين ، ولا خلاف بينهم في تشديد الفاء ، وقرأ نافع في رواية : أف بالرفع والتنوين ، وأبو السّمال بالضمّ من غير تنوين ، وزيد بن عليّ بالنصب والتنوين ، وابن عبّاس : «أف» بالسكون.

قال ابن الخطيب : والبحث المشكل هاهنا أنا لما نقلنا أنواعا من اللغات في هذه اللفظة ، فما السّبب في أنّهم تركوا أكثر تلك اللّغات في قراءة هذه اللفظة ، واقتصروا على وجوه قليلة منها؟.

فصل

في تفسير هذه اللفظة وجوه :

أحدها : قال الفراء : تقول العرب : «لعلّ فلانا يتأفّف من ريح وجدها» معناه : يقول : أفّ أفّ.

والثاني : قال الأصمعي : الأفّ : وسخ الآذان ، والتّفّ : وسخ الأظفار ، يقال ذلك عند استقذار الشيء ، ثم كثر ، حتّى استعملوه عند محلّ ما يتأذّون.

الثالث : قال أبو عبيدة ـ رحمه‌الله ـ : أصل الأفّ والتّفّ : الوسخ على الأصابع إذا فتلتها.

الرابع : الأفّ : ما يكون في المغابن من الوسخ ، والتّفّ ما يكون في الأصابع من الوسخ.

الخامس : الأفّ : وسخ الأظافر ، والتّفّ ما رفعت بيدك من الأرض من شيء حقير.

السادس : قيل : أفّ : معناه قلّة ، وهو مأخوذ من الأفيف ، وهو الشيء القليل ، وتفّ : إتباع له ؛ كقولهم شيطان ليطان ، خبيث نبيث.

__________________

(١) ينظر : السبعة ٣٧٩ ، والنشر ٢ / ٣٠٦ ، والتيسير ١٣٩ ، والحجة ٣٩٩ ، والإتحاف ٢ / ١٩٦ ، والشواذ ٧٦ ، والكشاف ٢ / ٦٥٧ ، والقرطبي ١٠ / ١٥٩ ، والبحر ٦ / ٢٥ ، والدر المصون ٤ / ٣٨٥.

٢٥٦

السابع : روى ثعلب عن ابن الأعرابيّ : الأفّ : الضجر.

الثامن : قال القتبيّ : أصل هذه الكلمة أنّه إذا سقط عليك تراب أو رماد ، نفخت فيه لتزيله ؛ والصّوت الحاصل عند تلك النفخة هو قولك : أفّ ، ثم إنّهم توسّعوا ، فذكروا هذه اللفظة عند كلّ مكروه يصل إليهم.

قال مجاهد : معنى قوله : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) أي : لا تتقذّرهما ؛ كما أنّهما لم يتقذّراك حين كنت تخرى وتبول (١).

وروي عن مجاهد أيضا : إذا وجدت منهما رائحة تؤذيك ، فلا تقل لهما : أفّ (٢).

فصل في دلالة الأفّ

قول القائل : «لا تقل لفلان : أفّ» مثل يضرب للمنع من كل مكروه وأذيّة ، وإن خفّ وقلّ.

واختلف الأصوليّون في أنّ دلالة هذا اللفظ على المنع من سائر أنواع الإيذاء دلالة لفظية ، أو دلالة مفهومة بالقياس ، فقيل : إنها دلالة لفظية ، لأنّ أهل العرف ، إذا قالوا : لا تقل لفلان أفّ ، عنوا به أنّه لا يتعرض له بنوع من أنواع الأذى ، فهو كقوله : فلان لا يملك نقيرا ولا قطميرا فهو بحسب العرف يدلّ على أنّه لا يملك شيئا.

وقيل : إنّ هذا اللفظ ، إنّما دلّ على المنع من سائر أنواع الأذى بالقياس الجليّ.

وتقريره : أنّ الشّرع ، إذا نصّ على حكم في صورة ، وسكت عن حكم في صورة أخرى ، فإذا أردنا إلحاق الصّورة المسكوت عن حكمها بالصورة المذكور حكمها ، فهذا على ثلاثة أقسام :

أحدها : أن يكون ثبوت ذلك الحكم في محلّ السكوت أولى من ثبوته في محلّ الذّكر كهذه الصورة ؛ فإنّ اللفظ إنما دلّ على المنع من التأفيف ، والضّرب أولى بالمنع.

وثانيها : أن يكون الحكم في محلّ السكوت مساويا للحكم في محلّ الذّكر ، وهذا يسمّيه الأصوليّون : «القياس في معنى الأصل» كقوله صلوات الله وسلامه عليه : «من أعتق شركا له في عبد ، قوّم عليه الباقي» (٣) فإنّ الحكم في الأمة وفي العبد سواء.

وثالثها : أن يكون الحكم في محلّ السكوت أخفى من الحكم في محلّ الذّكر ، وهو أكثر القياسات.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٥٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٠٩) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وابن المنذر.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٠ / ١٥١).

(٣) أخرجه مالك في الموطأ ٢ / ٧٧٢ ، كتاب العتق والولاء : باب من أعتق شركا له في مملوك والبخاري ٥ / ١٥١ ، كتاب العتق : باب إذا أعتق عبدا من اثنين (٢٥٢٢) ، ومسلم ٢ / ١١٣٩ ، كتاب العتق (١ / ١٥٠١).

٢٥٧

إذا عرف هذا ، فالمنع من التأفيف ، إنما دلّ على المنع من الضرب بالقياس الجليّ من باب الاستدلال بالأدنى على الأعلى ؛ لأنّ التأفيف غير الضرب ، فالمنع من التأفيف لا يكون منعا من الضرب ، وأيضا : المنع من التأفيف لا يستلزم المنع من الضرب عقلا ؛ لأنّ الملك الكبير ، إذا أخذ ملكا عظيما ، كان عدوّا له ، فقد يقول للجلّاد : إيّاك أن تستخفّ به أو تشافهه بكلمة موحشة ، لكن اضرب رقبته ، وإذا كان هذا معقولا في الجملة ، علمنا أنّ المنع من التأفيف يغاير المنع من الضرب ، وغير مستلزم للمنع من الضرب في الجملة إلّا أنّا علمنا في هذه الصورة : أنّ المقصود من هذا الكلام المبالغة في تعظيم الوالدين ، لقوله تعالى : (وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ).

فكانت دلالة المنع من التأفيف على المنع من الضرب بالقياس من باب الاستدلال بالأدنى على الأعلى.

قوله : (وَلا تَنْهَرْهُما) أي : لا تزجرهما ، والنّهر : الزّجر بصياح وغلظة وأصله الظهور ، ومنه «النّهر» لظهوره ، وقال الزمخشري ـ رحمه‌الله تعالى ـ : «النّهي والنّهر والنّهم أخوات».

ويقال نهره وانتهره ، إذا استقبله بكلام يزجره ، قال تعالى : (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) [الضحى : ١٠].

فإن قيل : المنع من التأفيف يدلّ على المنع من الانتهار ؛ بطريق الأولى ، فلما قدم المنع من التأفيف ، كان المنع من الانتهار بعده عبثا ، ولو فرضنا أنه قدّم المنع من الانتهار على المنع من التأفيف ، كان مفيدا ؛ لأنّه يلزم من المنع من الانتهار المنع من التأفيف ، فما السّبب في رعاية هذا التّرتيب؟.

فالجواب (١) : أن المراد من قوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) المنع من إظهار الضّجر بالقليل والكثير ، والمراد من قوله (وَلا تَنْهَرْهُما) المنع من إظهار المخالفة في القول على سبيل الردّ عليه.

قوله تعالى : (وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) لمّا منعه من القول المؤذي ، وذلك لا يكون أمرا بالقول الطّيب ، فلا جرم : أردفه بأن أمره بالقول الحسن ، فقال : (وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً).

قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ : هو أن يقول له : يا أبتاه ، يا أمّاه (٢) ، وقال عطاء : هو أن تتكلّم معهما بشرط ألّا ترفع إليهما بصرك (٣).

وقال مجاهد : لا تسمّهما ولا تكنّهما (٤) ، فهو كقول عمر ـ رضي الله عنه ـ.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ١٥٢.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٠ / ١٥٢).

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١١٠).

٢٥٨

فإن قيل : إنّ إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ كان أعظم النّاس حلما وكرما وأدبا ، فكيف قال لأبيه : «يا آزر» على قراءة (لِأَبِيهِ آزَرَ) بالضمّ (إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الأنعام : ٧٤] فخاطبه بالاسم ، وهو إيذاء له ، ثم نسبه ونسب قومه إلى الضلال ، وهو أعظم أنواع الإيذاء.

فالجواب أن قوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) يدلّ على أنّ حقّ الله متقدّم على حقّ الأبوين ، فإقدام إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ على ذلك الإيذاء ، إنّما كان تقديما لحق الله تعالى على حقّ الأبوين.

قوله تعالى : (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ).

والمقصود المبالغة في التواضع ، وهذه استعارة بليغة.

قال القفّال (١) ـ رحمه‌الله تعالى ـ : وفي تقريره وجهان :

الأول : أنّ الطائر ، إذا أراد ضمّ فرخه إليه للتربية خفض له جناحه ، فلهذا صار خفض الجناح كناية عن حسن التربية ، فكأنّه قال للولد : اكفل والديك ؛ بأن تضمّهما إلى نفسك ، كما فعلا ذلك بك حال صغرك.

والثاني : أنّ الطائر ، إذا أراد الطّيران ، نشر جناحيه ، ورفعهما ؛ ليرتفع ، وإذا أراد ترك الطيران ، خفض جناحيه ، فجعل خفض الجناح كناية عن التواضع واللّين.

وقال الزمخشري : «فإن قلت : ما معنى جناح الذلّ؟ قلت : فيه وجهان :

أحدهما : أن يكون المعنى : واخفض لهما جناحك ، كما قال : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الحجر : ٨٨] فأضافه إلى الذّلّ [أو الذّلّ] ، كما أضيف حاتم إلى الجود على معنى : واخفض لهما جناحك الذّليل أو الذّلول.

والثاني : أن تجعل لذلّه أو لذلّه جناحا خفيضا ؛ كما جعل لبيد للشّمال يدا ، وللقرّة زماما ، في قوله : [الكامل]

٣٤٠٥ ـ وغداة ريح قد كشفت وقرّة

إذ أصبحت بيد الشّمال زمامها (٢)

مبالغة في التذلّل والتواضع لهما» انتهى ، يعني أنه عبّر عن اللين بالذلّ ، ثم استعار له جناحا ، ثم رشّح هذه الاستعارة بأن أمره بخفض الجناح.

ومن طريف ما يحكى : أن أبا تمام ، لمّا نظم قوله : [الكامل]

٣٤٠٦ ـ لا تسقني ماء الملام فإنّني

صبّ قد استعذبت ماء بكائي (٣)

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ١٥٣.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : ديوانه ص ١٠ ، البحر المحيط ٦ / ٢٦ ، الدر المصون ٤ / ٣٨٦.

٢٥٩

جاءه رجل بقصعة ، وقال له : أعطني شيئا من ماء الملام ، فقال : حتى تأتيني بريشة من جناح الذلّ ؛ يريد أن هذا مجاز استعارة كذاك ، وقال بعضهم : [الطويل]

٣٤٠٧ ـ أراشوا جناحي ثمّ بلّوه بالنّدى

فلم أستطع من أرضهم طيرانا (١)

وقرأ العامة (٢) «الذّلّ» بضم الذال ، وابن عبّاس في آخرين بكسرها ، وهي استعارة ؛ لأن الذلّ في الدوابّ ؛ لأنّه ضدّ الصعوبة ، فاستعير للأناسيّ ، كما أنّ الذل بالضم ضدّ العزّ.

قوله : (مِنَ الرَّحْمَةِ) فيه أربعة أوجه :

أحدها : أنها للتعليل ، فتتعلق ب «اخفض» ، أي : اخفض من أجل الرّحمة.

والثاني : أنها لبيان الجنس ؛ قال ابن عطيّة : «أي : إنّ هذا الخفض يكون من الرحمة المستكنّة في النّفس».

الثالث : أن تكون في محلّ نصب على الحال من «جناح».

الرابع : أنها لابتداء الغاية.

قوله : (كَما رَبَّيانِي) في هذه الكاف قولان :

أحدهما : أنها نعت لمصدر محذوف ، فقدّره الحوفيّ : «ارحمهما رحمة مثل تربيتهما [لي]». وقدّره أبو البقاء (٣) : «رحمة مثل رحمتهما» كأنّه جعل التربية رحمة.

والثاني : أنها للتعليل ، أي : ارحمهما ؛ لأجل تربيتهما ؛ كقوله : (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) [البقرة : ١٩٨].

قال القرطبيّ (٤) : أمر الله تعالى عباده بعبادته وتوحيده ، وجعل برّ الوالدين مقرونا بذلك ، كما قرن شكرهما بشكره ، فقال جل ذكره : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) [لقمان : ١٤] ومن البرّ إليهما أن يحسن إليهما ، ولا يسبّهما ولا يعقّهما ؛ فإنّ ذلك من الكبائر ، ولا يخالفهما في أغراضهما الجائزة لهما.

والأحاديث الدالة على الأمر ببرّ الوالدين كثيرة.

قال القرطبيّ (٥) : ولا يختصّ برّ الوالدين بأن يكونا مسلمين ، بل إن كانا كافرين يبرّهما ، ويحسن إليهما.

قال القفال (٦) ـ رحمه‌الله ـ : إنّه لم يقتصر في تعليم البرّ بالوالدين على تعليم

__________________

(١) ينظر : البحر ٦ / ٢٨ ، الدر المصون ٤ / ٣٨٦.

(٢) ينظر : المحتسب ٢ / ١٨ ، والكشاف ٢ / ٦٥٨ ، والقرطبي ١ / ١٥٩ والبحر ٦ / ٢٦ ، والشواذ ٧٦ ، والدر المصون ٤ / ٣٨٦. ونسبها الفراء في معاني القرآن ٢ / ١٢٢ إلى عاصم ، وقال القرطبي : ورويت عن عاصم.

(٣) ينظر : الإملاء : ٢ / ٩٠.

(٤) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٠ / ١٥٥.

(٥) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٠ / ١٥٦.

(٦) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ١٥٣.

٢٦٠