اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٢

قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً)(١٢)

قوله : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) الآية.

في تقرير النظم وجوه :

أحدها : أنه تعالى لمّا بيّن في الآية المتقدمة ما أوصل إلى الخلق من نعم الدّين ، وهو القرآن ، أتبعه بما أوصله إليهم من نعم الدّنيا ، فقال عزوجل : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) فكما أنّ القرآن ممتزج من المحكم والمتشابه ، فكذلك الزّمان مشتمل على الليل والنهار ، فالمحكم كالنهار ، والمتشابه كاللّيل ، وكما أن المقصود من التكليف لا يتمّ إلّا بذكر المحكم والمتشابه ، فكذلك الوقت والزّمان لا يكمل الانتفاع به إلّا باللّيل والنّهار.

وثانيها : أنه تعالى لما بيّن أن هذا القرآن يهدي للّتي هي أقوم ، وليس الأقوم إلّا ذكر الدّلائل الدّالة على التّوحيد والنبوّة ، لا جرم أردفه بذكر دلائل التّوحيد ، وهو عجائب العالم العلويّ والسفليّ.

وثالثها : أنه لما وصف الإنسان بكونه عجولا ، أي : منتقلا من صفة إلى صفة ، ومن حالة إلى حالة بيّن أن أحوال كلّ هذا العالم كذلك ، وهو الانتقال من النّور إلى الظلمة وبالضّد (١) ، وانتقال نور القمر من الزيادة إلى النقصان.

قوله تعالى : (آيَتَيْنِ) : يجوز أن يكون هو المفعول الأوّل ، و (اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) ظرفان في موضع الثاني ، قدّما على الأوّل ، والتقدير : وجعلنا آيتين في اللّيل والنّهار ، والمراد بالآيتين : إمّا الشمس والقمر ، وإمّا تكوير هذا على هذا ، وهذا على هذا ، ويجوز أن يكون «آيتين» هو الثاني ، و (اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) هما الأول ، ثم فيه احتمالان :

أحدهما : أنه على حذف مضاف : إمّا من الأول ، أي : نيّري اللّيل والنهار ، وهما القمر والشمس ، وإمّا من الثاني ، أي : ذوي آيتين.

والثاني : أنه لاحذف ، وأنهما علامتان في أنفسهما ، لهما دلالة على شيء آخر. قال أبو البقاء (٢) : «فلذلك أضاف في موضع ، ووصف في آخر» يعني أنه أضاف الآية إليهما في قوله (آيَةَ اللَّيْلِ) و (آيَةَ النَّهارِ) ووصفهما في موضع آخر بأنّهما آيتان ؛ لقوله : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) هذا كلّه إذا جعلنا الجعل تصييرا متعدّيا لاثنين ، فإن جعلناه بمعنى «خلقنا» كان «آيتين» حالا ، وتكون حالا مقدّرة.

واستشكل بعضهم أن يكون «جعل» بمعنى صيّر ، قال : «لأنّه يستدعي أن يكون الليل والنهار موجودين على حالة ، ثم انتقل عنها إلى أخرى».

__________________

(١) في ب : وضده.

(٢) ينظر : الإملاء ٢ / ٨٩.

٢٢١

فصل في المقصود ب «آيتين»

ومعنى «آيتين» أي : علامتين دالّتين على وجودنا ، ووحدانيتنا ، وقدرتنا.

قيل : المراد من الآيتين نفس الليل والنهار ، أي أنّه تعالى جعلهما دليلين للخلق على مصالح الدّين والدنيا.

أمّا في الدّين فلأنّ كلّ واحد منهما مضادّ للآخر ، مغاير له ، مع كونهما متعاقبين على الدّوام من أقوى الدلائل على أنهما غير موجودتين بذاتيهما ، بل لا بدّ لهما من فاعل يدبّرهما ، ويقدّرهما بالمقادير المخصوصة.

وأما في الدنيا ؛ فلأنّ مصالح الدنيا لا تتمّ إلا باللّيل والنّهار ، فلولا الليل ، لما حصل السّكون والرّاحة ، ولولا النهار ، لما حصل الكسب والتّصرّف.

ثم قال تعالى : (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) وعلى هذا تكون الإضافة في آية الليل والنهار للتبيين ، والتقدير : فمحونا الآية الّتي هي الليل ، وجعلنا الآية الّتي هي النهار مبصرة ، ونظيره قولنا : نفس الشيء وذاته ، فكذلك آية الليل هي نفس الليل ، ومنه يقال : «دخلت بلاد خراسان» أي : دخلت البلاد الّتي هي خراسان ، فكذا هاهنا.

وقيل : على حذف مضاف ، أي : وجعلنا نيّري اللّيل والنهار ، وقد تقدّم.

وفي تفسير «المحو» قولان :

الأول : ما يظهر في القمر من الزيادة والنّقصان ، فيبدو في أوّل الأمر في صورة الهلال ، ثمّ يتزايد نوره ، حتّى يصير بدرا كاملا ، ثم ينقص قليلا قليلا ، وذلك هو المحو ، إلى أن يعود إلى المحاق.

والثاني : أنّ نور القمر هو الكلف الذي يظهر في وجهه ، يروى أن الشمس والقمر كانا سواء في النّور.

قال ابن عبّاس رضي الله عنه : «جعل الله تعالى نور الشّمس سبعين جزءا ، ونور القمر سبعين جزءا ، فمحا من نور القمر تسعة وستّين جزءا ، فجعلها مع نور الشّمس ، فأرسل الله تعالى جبريل ـ عليه الصلاة والسلام ـ فأمرّ جناحه على وجه القمر ، فطمس عنه الضّوء» (١).

ومعنى «المحو» في اللغة : إذهاب الأثر ، تقول : محوته أمحوه ، وانمحى ، وامتحى : إذا ذهب أثره.

وحمل المحو هاهنا على الوجه الأوّل أولى ؛ لأنّ اللام في قوله : (لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) متعلق بالوجه الأول ، وهو محو آية الليل ، وجعل آية

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٠٧) عن ابن عباس وروي معناه عن عكرمة ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٠٢) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

٢٢٢

النهار مبصرة ؛ لأنّ بسبب اختلاف أحوال نور القمر تعرف السّنون والحساب ، ويبتغى فضل الله تعالى.

وأهل التجارب بيّنوا أنّ اختلاف أحوال القمر في مقادير النور له أثر عظيم في أحوال هذا العالم ومصالحه ، مثل أحوال البحار في المدّ والجزر ، ومثل أحوال التجربات على ما يذكره الأطباء في كتبهم ، وبسبب زيادة نور القمر ونقصانه تحصل الشهور ، وبسبب معاودة الشّهور تحصل السّنون العربية المبنية على رؤية الهلال.

ويمكن أيضا إذا حملنا المحو على الكلف أن يكون برهانا قاهرا على صحّة قول المسلمين في المبدأ والمعاد ؛ لأن جرم القمر بسيط عند الفلاسفة ، فحصول الأحوال المختلفة الحاصلة بسبب المحو يدلّ على أنه ليس بسبب الطبيعة ، بل لأجل أن الفاعل المختار خصّص بعض أجزائه بالنّور الضعيف وبعض أجزائه بالنور القوي ، وذلك يدلّ على أن مدبّر العالم فاعل مختار بالذّات ، واعتذر الفلاسفة عنه بأنّه ارتكز (١) في وجه القمر أجسام قليلة الضوء مثل ارتكاز وجه الكواكب في أجرام الأفلاك ، فلمّا كانت تلك الأجرام أقلّ ضوءا من جرم القمر ، لا جرم شوهدت تلك الأجرام في وجه القمر ، كالكلف في وجه الإنسان ، وهذا ليس بشيء ؛ لأن جرم القمر لما كان متشابه الأجزاء ، فحصول تلك الأجرام الظلمانيّة في بعض أجزاء القمر دون سائر الأجزاء ليس إلّا لمخصّص حكيم ، وكذلك القول في أحوال الكواكب ؛ لأنّ الفلك جرم بسيط متشابه الأجزاء ، فلم يكن حصول جرم الكواكب في بعض جوانبه أولى من حصوله في سائر الجوانب ، وذلك يدلّ على أنّ اختصاص ذلك الكوكب بذلك الموضع المعيّن من الفلك لأجل تخصيص العالم الفاعل المختار.

روي أن ابن الكواء (٢) سأل عليّا ـ رضي الله عنه ـ عن السّواد الذي في القمر ، فقال : هو أثر المحو (٣).

قوله : «مبصرة» فيه أوجه :

أحدها : أنه من الإسناد المجازيّ ؛ لأنّ الإبصار فيها لأهلها ؛ كقوله : (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) [الإسراء : ٥٩] لمّا كانت سببا للإبصار ؛ لأن الإضاءة سبب لحصول الإبصار ، فأطلق الإبصار على الإضاءة إطلاقا لاسم المسبّب على السّبب.

وقيل : «مبصرة» : مضيئة ، وقال أبو عبيدة : قد أبصر النهار ، إذا صار الناس يبصرون فيه ، فهو من باب أفعل ، والمراد غير من أسند الفعل إليه ؛ كقولهم : «أضعف الرّجل» أي : ضعفت ماشيته ، و«أجبن الرّجل» إذا كان أهله جبناء ، فالمعنى أنّ أهلها بصراء.

__________________

(١) في ب : ارتكبت.

(٢) ينظر : معالم التنزيل ٣ / ١٠٧.

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢٠ / ١٤٨).

٢٢٣

وقرأ (١) علي بن الحسين وقتادة «مبصرة» بفتح الميم والصاد ، وهو مصدر أقيم مقام الاسم ، وكثر هذا في صفات الأمكنة نحو : «مذأبة».

ثم قال ـ عزوجل ـ : (لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) أي لتبصروا كيف تتصرّفون في أعمالكم ، (وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) أي لو ترك الله الشمس والقمر كما خلقهما ، لم يعرف الليل من النهار ؛ ولم يدر الصائم متى يفطر ، ولم يدر وقت الحجّ ، ولا وقت حلول الآجال ، ولا وقت السكون والرّاحة.

واعلم أن الحساب مبنيّ على أربع مراتب : الساعات ، والأيام ، والشّهور ، والسّنون ، فالعدد للسنين ، والحساب لما دون السنين ، وهي الشّهور ، والأيّام ، والسّاعات ، وبعد هذه المراتب الأربعة لا يحصل إلّا التّكرار ؛ كما أنّهم رتّبوا العدد على أربع مراتب : الآحاد ، والعشرات ، والمئات ، والألوف ، وليس بعدها إلّا التّكرار.

قوله : (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه منصوب على الاشتغال ، ورجّح نصبه ؛ لتقدم جملة فعلية ؛ وكذلك «وكلّ إنسان ألزمناه».

والثاني ـ وهو بعيد : ـ أنه منصوب نسقا على «الحساب» ، أي : لتعلموا كل شيء أيضا ، ويكون «فصّلناه» على هذا صفة.

والمعنى : أنه تعالى لمّا ذكر أحوال آيتي اللّيل والنّهار ، وهما من وجه : دليلان قاطعان على التّوحيد ، ومن وجه آخر : نعمتان عظيمتان من الله على الخلق ، فلما شرح الله تعالى حالهما ، وفصّل ما فيهما من وجوه الدلالة على الخالق ؛ ومن وجوه النّعم العظيمة على الخلق ، كان ذلك تفصيلا نافعا وبيانا كاملا ، فلا جرم قال : (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) أي : فصّلنا لكم كلّ ما تحتاجون إليه في مصالح دينكم ودنياكم ، فهو كقوله : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٣٨] وقوله : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) [النحل : ٨٩] وإنما ذكر المصدر ، وهو قوله : «تفصيلا» لأجل تأكيد الكلام وتقريره ، فكأنه قال : «وفصّلناه حقّا على الوجه الذي لا مزيد عليه».

قوله تعالى : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً)(١٤)

قوله : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) الآية.

في كيفية النّظم وجوه :

أولها : أنه تعالى لمّا قال : (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) كان معناه أن ما يحتاج إليه من شرح دلائل التّوحيد ، والنّبوّة ، والمعاد ، فقد صار مذكورا وأن كلّ ما يحتاج إليه من شرح

__________________

(١) ينظر : البحر ٦ / ١٣ ، والدر المصون ٤ / ٣٧٦.

٢٢٤

أحوال الوعد والوعيد ، والترغيب والترهيب ، فقد صار مذكورا ، وإذا كان الأمر كذلك ، فقد أزيحت الأعذار ، وأزيلت العلل ، فلا جرم : كل من ورد عرصة القيامة ، ألزمناه طائره في عنقه ، ونقول له : (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً).

وثانيها : أنه تعالى ، لمّا بيّن أنه أوصل إلى الخلق أصناف الأشياء النافعة لهم في الدّين والدنيا مثل آيتي الليل والنهار ، وغيرهما ، كان منعما عليهم بجميع وجوه النّعم ، وذلك يقتضي وجوب اشتغالهم بخدمته وطاعته ، فلا جرم : كلّ من ورد عرصة القيامة ، فإنه يكون مسئولا عن أعماله وأقواله.

وثالثها : أنه تعالى بيّن أنه ما خلق الخلق إلا ليشتغلوا بعبادته ، كما قال تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] فلما شرح أحوال الشمس والقمر والنهار والليل ، كان المعنى : إنما خلقت هذه الأشياء لتنتفعوا بها ، فتصيروا متمكّنين من الاشتغال بطاعتي وخدمتي ، وإذا كان كذلك ، فكل من ورد عرصة القيامة ، سألته ، هل أتى بتلك الخدمة والطّاعة ، أو تمرّد وعصى.

وقرىء «في عنقه» بإسكان النون وهو تخفيف شائع.

فصل

اختلفوا في الطائر ، فقال ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ : «عمله ، وما قدر عليه من خير أو شرّ ، فهو ملازمه ، أينما كان» (١).

وقال الكلبي ومقاتل : «خيره وشره معه لا يفارقه حتّى يحاسبه» ، وقال الحسن : يمنه وشؤمه ، وعن مجاهد : «ما من مولود إلّا في عنقه ورقة ، مكتوب فيها شقيّ أو سعيد» (٢).

وقال أهل المعاني : أراد بالطائر ما قضى عليه أنه عامله ، وما هو صائر إليه من سعادة أو شقاوة ، سمّي طائرا على عادة العرب فيما كانت تتفاءل وتتشاءم به من سوانح الطير وبوارحها ، فكانوا إذا أرادوا الإقدام على عمل من الأعمال ، وأرادوا أن يعرفوا أن ذلك العمل يسوقهم إلى خير أو إلى شرّ ، اعتبروا أحوال الطّير ، وهو أنه يطير بنفسه ، أو يحتاج إلى إزعاجه ، وإذا طار ، فهو يطير متيامنا أو متياسرا ، أو صاعدا إلى الجوّ ، أو إلى غير ذلك من الأحوال التي كانوا يعتبرونها ، ويستدلّون بكلّ واحد منها على أحوال الخير والشر بالطائر ، فلما كثر ذلك منهم ، سمي الخير والشر بالطائر تسمية للشيء باسم لازمه ، ونظيره قوله تعالى : (إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ) [يس : ١٨] وقوله عزوجل : (قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) [يس : ١٩] فالمعنى : أنّ كلّ إنسان ألزمناه عمله في عنقه.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٤٧) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٠٣) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٠٨).

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٠٨) عن الكلبي ومقاتل.

٢٢٥

وقال أبو عبيدة والقتيبيّ : الطائر عند العرب الحظّ ، وتسمّيه الفرس البخت ، فالطائر ما طار له من خير وشرّ من قولهم : طار سهم فلان بكذا ، وخصّ العنق من سائر الأعضاء ؛ لأنه موضع القلائد والأطواق وغيرهما مما يزين ، أو يشين ، فما يزين ، فهو كالتطوّق والحليّ ، وما يشين ، فهو كالغلّ ، فعمله إن كان خيرا فهو زينة كالتطوق ، أو كان شرّا ، فهو شين كالغلّ في رقبته ، فقوله : «في عنقه» كناية عن اللّزوم ؛ كما يقال : جعلت هذا في عنقك أي : قلّدتك هذا العمل ، وألزمتك الاحتفاظ به ، ويقال : قلّدتك كذا ، وطوّقتك كذا ، أي : صرفته إليك ، وألزمتك إياه ، ومنه «قلّده السّلطان كذا» أي صارت الولاية في لزومها له في موضع القلادة ، ومكان الطوق ، ومنه يقال : فلان يقلّد فلانا أي : جعل ذلك الاعتقاد كالقلادة المربوطة في عنقه.

وهذه الآية أدلّ دليل على أنّ كلّ ما قدّره الله ـ تعالى ـ على الإنسان ، وحكم به عليه في سابق علمه ، فهو واجب الوقوع ، ممتنع العدم ؛ لأنه تعالى بيّن أن ذلك العمل لازم له ، وما كان لازما للشّيء ؛ كان ممتنع الزّوال عنه ، واجب الحصول له ، وأيضا : فإن الله ـ تعالى ـ أضاف ذلك الإلزام إلى نفسه بقوله : «ألزمناه» ، وذلك تصريح بأنّ الإلزام إنما صدر منه كقوله تعالى : (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) [الفتح : ٢٦] وقال ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ : «جفّ القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة» (١).

قوله تعالى : (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً).

العامة على «نخرج» بنون العظمة مضارع «أخرج» ، و«كتابا» فيه وجهان :

أحدهما : أنه مفعول به.

والثاني : أنه منصوب على الحال من المفعول المحذوف ؛ إذ التقدير : ونخرجه له كتابا ، أي: ونخرج الطائر.

ويروى عن أبي جعفر : «ويخرج» مبنيّا للمفعول ، «كتابا» نصب على الحال ، والقائم مقام الفاعل ضمير الطائر ، وعنه أنّه رفع «كتابا» وخرّج على أنه مرفوع بالفعل المبنيّ للمفعول ، والأولى قراءة قلقة.

وقرأ الحسن (٢) : «ويخرج» بفتح الياء وضمّ الراء ، مضارع «خرج» «كتاب» فاعل به ، وابن محيصن ومجاهد كذلك ، إلا أنهما نصبا «كتابا» على الحال ، والفاعل ضمير الطائر ، أي: ويخرج له طائره في هذا الحال ، وقرىء (٣) «ويخرج» بضمّ الياء وكسر الراء ، مضارع «أخرج» والفاعل ضمير الباري تعالى ، «كتابا» مفعول.

__________________

(١) أخرجه الطبراني في «الكبير» (١١ / ٢٢٣) والبيهقي في «الأسماء والصفات» ص (٧٦).

(٢) ينظر في قراءاتها النشر ٢ / ٣٠٦ ، والإتحاف ٢ / ١٩٤ ، والقرطبي ١٠ / ١٥٠ ، والبحر ٦ / ١٥ ، والدر المصون ٣ / ٣٧٦.

(٣) نسبها الفراء في معاني القرآن ٢ / ١١٨ إلى أبي جعفر المدني ، وينظر : البحر ٦ / ١٤ ، والدر المصون ٤ / ٣٧٦.

٢٢٦

قوله تعالى : «يلقاه» صفة ل «كتابا» ، و«منشورا» حال من هاء «يلقاه» وجوّز الزمخشريّ وأبو البقاء (١) وأبو حيّان أن يكون نعتا ل «كتابا» ، وفيه نظر ؛ من حيث إنه يلزم تقدم الصفة غير الصريحة على الصّريحة ، وقد تقدّم ما فيه.

وقرأ ابن عامر (٢) وأبو جعفر «يلقّاه» بضمّ الياء وفتح اللام وتشديد القاف ، مضارع لقّي بالتشديد قال تعالى : (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) [الإنسان : ١١] والباقون بالفتح والسكون والتخفيف مضارع «لقي».

فصل

قال الحسن : بسطنا لك صحيفة ، ووكّل بك ملكان ، فهما عن يمينك ، وعن شمالك ، فأمّا الذي عن يمينك ، فيحفظ حسناتك ، وأما الذي عن شمالك ، فيحفظ سيّئاتك ؛ حتّى إذا متّ طويت صحيفتك ، وجعلت معك في قبرك ؛ حتى تخرج لك يوم القيامة ، فقوله : (وَنُخْرِجُ لَهُ) أي : من قبره (٣).

قوله تعالى : (اقْرَأْ كِتابَكَ) : على إضمار القول ، أي : يقال له : اقرأ ، وهذا القول : إمّا صفة أو حال ، كما في الجملة قبله. وهذا القائل هو الله تعالى.

قال الحسن : «يقرءوه أمّيّا كان ، أو غير أمّيّ» (٤).

وقال أبو بكر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ : يؤتى المؤمن يوم القيامة بصحيفته ، وحسناته في ظهرها ، يغبطه الناس عليها ، وسيئاته في جوف صحيفته ، وهو يقرؤها ، حتّى إذا ظنّ أنها قد أوبقته ، قال الله له : «قد غفرت لك فيما بيني وبينك» فيعظم سروره (٥) ويصير من الّذين قال الله ـ عزوجل ـ في حقهم : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) [عبس : ٣٨ ، ٣٩].

قوله تعالى : (كَفى بِنَفْسِكَ) فيه ثلاثة أوجه :

المشهور عند المعربين : أنّ «كفى» فعل ماض ، والفاعل هو المجرور بالباء ، وهي فيه مزيدة ، ويدلّ عليه أنها إذا حذفت ارتفع ؛ كقوله : [الطويل]

٣٣٨٨ ـ ويخبرني عن غائب المرء هديه

كفى الهدي عمّا غيّب المرء مخبرا (٦)

وقوله : [الطويل]

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ٨٩.

(٢) ينظر : السبعة ٣٧٨ ، والنشر ٢ / ٣٨ ، والتيسير ١٣٩ ، والحجة ٣٩٨ ، والحجة للقراء السبعة ٥ / ٨٧ ، والقرطبي ١٠ / ١٥٠ ، والبحر ٦ / ١٤.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٤٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٠٤) وعزاه إلى الطبري.

(٤) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٠ / ١٣٥).

(٥) ينظر : المصدر السابق.

(٦) البيت لزياد بن زيد العدوي ينظر : البحر ٦ / ١٤ ، الفراء ٢ / ١١٩ ، روح المعاني ١٥ / ٣٣ ، التهذيب واللسان «هدى» الدر المصون ٤ / ٣٧٧.

٢٢٧

٣٣٨٩ ـ ...........

كفى الشّيب والإسلام للمرء ناهيا (١)

وعلى هذا ؛ فكان ينبغي أن يؤنّث الفعل ؛ لتأنيث فاعله ، وإن كان مجرورا ؛ كقوله : (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ) [الأنبياء : ٦] (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ) [الأنعام : ٤]. وقد يقال: إنه جاء على أحد الجائزين ؛ فإن التأنيث مجازيّ.

والثاني : أن الفاعل ضمير المخاطب ، و«كفى» على هذا اسم فعل أمر ، أي : اكتف ، وهو ضعيف ؛ لقبول «كفى» علامات الأفعال.

الثالث : أن فاعل «كفى» ضمير يعود على الاكتفاء ، وتقدّم الكلام على هذا. و«اليوم» نصب ب «كفى».

قوله : «حسيبا» فيه وجهان :

أحدهما : أنه تمييز ، قال الزمخشريّ : «وهو بمعنى حاسب ؛ كضريب القداح ؛ بمعنى ضاربها ، وصريم بمعنى صارم ، ذكرهما سيبويه (٢) ، و«على» متعلقة به من قولك : حسب عليه كذا ، ويجوز أن يكون بمعنى الكافي ووضع موضع الشّهيد ، فعدّي ب «على» لأنّ الشاهد يكفي المدّعي ما أهمّه ، فإن قلت : لم ذكر «حسيبا»؟ قلت : لأنه بمنزلة الشاهد ، والقاضي ، والأمين ، وهذه الأمور يتولّاها الرجال ؛ فكأنّه قيل : كفى بنفسك رجلا حسيبا ، ويجوز أن تتأوّل النفس بمعنى الشخص ، كما يقال : ثلاثة أنفس». قلت : ومنه قول الشاعر : [الوافر]

٣٣٩٠ ـ ثلاثة أنفس وثلاث ذود

لقد جار الزّمان على عيالي (٣)

والثاني : أنه منصوب على الحال ، وذكر لما تقدم ، وقيل : حسيب بمعنى محاسب ؛ كخليط وجليس بمعنى : مخالط ومجالس.

قال الحسن ـ رضي الله عنه ـ : «عدل ، والله ، في حقّك من جعلك حسيب نفسك»(٤).

وقال السديّ : «يقول الكافر يومئذ : إنّك قضيت أنّك لست بظلام للعبيد ، فاجعلني أحاسب نفسي فيقال له : اقرأ كتابك ، كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا» (٥).

قوله تعالى : (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(١٥)

هذه الآية تدلّ على أنّ ثواب العمل الصّالح مختصّ بفاعله ، وعقاب الذنب مختصّ

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : الكتاب ٢ / ٢١٥.

(٣) تقدم.

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٠٨) والرازي في «تفسيره» (٢٠ / ١٣٥).

(٥) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٠ / ١٣٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٠٤) عن السدي وعزاه إلى ابن أبي حاتم.

٢٢٨

بفاعله ، لا يتعدّى منه إلى غيره ، كقوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) [النجم : ٣٩ ، ٤٠].

قال الكعبيّ : «الآية دالة على أنّ العبد متمكّن من الخير والشرّ ، وأنه غير مجبور على فعل بعينه أصلا ؛ لأنّ قوله تعالى جلّ ذكره : (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) إنما يليق بالقادر على الفعل المتمكّن منه ، كيف شاء وأراد ، وأمّا المجبور على أحد الطّرفين ، الممنوع من الطّرف الثاني ، فهذا لايليق بهذه الآية» وتقدّم الجواب. ثم إنّه تعالى أعاد تقرير أنّ كلّ أحد مختصّ بعمل نفسه ، فقال تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى).

قال الزجاج : يقال : وزر يزر ، فهو وازر ووزر وزرا وزرة ، ومعناه : أثم يأثم إثما.

وقال : في تأويل الآية وجهان :

الأول : أنّ المذنب لا يؤاخذ بذنب غيره ، بل كلّ أحد مختصّ بذنب نفسه.

والثاني : أنّه لا ينبغي أن يعمل الإنسان بالإثم ؛ لأنّ غيره عمله كقول الكفّار : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٣].

فصل

دلّت هذه الآية على أحكام :

الأول : قال الجبائي (١) : في الآية دلالة على أنه تعالى لا يعذّب الأطفال بكفر آبائهم ، وإلّا لكان الطفل يؤاخذ بذنب أبيه. وذلك خلاف ظاهر الآية.

الثاني : روى ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إنّ الميّت ليعذّب ببكاء أهله عليه».

وطعنت عائشة ـ رضي الله عنها ـ في صحّة هذا الخبر بهذه الآية (٢). فإن تعذيب الميت ببكاء أهله أخذ للإنسان بجرم غيره ، وهو خلاف هذه الآية.

والحديث لا شكّ في صحّته ؛ لأنّه في الصحيحين.

وفي الصحيحين أيضا عن عمر بن الخطّاب ـ رضي الله عنه ـ أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الميّت يعذّب ببكاء الحيّ» (٣).

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ١٣٧.

(٢) أخرجه البخاري ٣ / ١٨٠ ، في الجنائز : باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه (١٢٨٦) ، وأخرجه مسلم ٢ / ٦٤٠ ، في الجنائز : باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه (٢٢ / ٩٢٨).

(٣) أخرجه البخاري (٣ / ١٨١) كتاب الجنائز : باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه حديث (١٢٩٠) ومسلم (٢ / ٦٣٩) من حديث عمر.

٢٢٩

وفي صحيح البخاريّ : «الميّت يعذّب في قبره بما نيح عليه» (١).

وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إنّه من نيح عليه يعذّب بما نيح عليه» (٢).

وقال ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ : «الميّت يعذّب ببكاء الحيّ ، إذا قالت النّائحة : واعضداه ، وناصراه ، وكاسياه حبّذا الميّت ، قيل له : أنت عضدها ، أنت ناصرها ، أنت كاسيها» (٣).

وفي رواية : «ما من ميّت يموت فيقوم باكيهم ، فيقول : وا جبلاه ، وسنداه وأنساه ، ونحو ذلك ، إلّا وكّل به ملكان يلهذانه أهكذا كنت» (٤) اللهذ واللهز مثل اللّكز والدفع.

وروى البخاريّ عن النعمان بن بشير ، قال : أغمي على عبد الله بن رواحة ، فجعلت أخته عمرة تبكي ، وتقول : وا جبلاه وا كذا وا كذا ، تعدّد عليه ، فقال حين أفاق : ما قلت شيئا إلّا قيل لي : أنت كذلك (٥)؟ فلمّا مات لم تبك عليه.

فإن قيل : أنكرت عائشة وغيرها ذلك ، وقالت لما ذكر لها حديث ابن عمر : يغفر الله لأبي عبد الرّحمن ، أما إنّه لم يكذب ولكنّه نسي أو أخطأ إنّما مرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على يهودية يبكى عليها ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّهم ليبكون (٦) عليها وإنّها لتعذّب في قبرها» متّفق عليه (٧).

ولمسلم : إنّما مرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قبر يهوديّ ، فقال : «إنّه ليعذّب بخطيئته أو بذنبه ، وإنّ أهله ليبكون عليه الآن».

وفي رواية متّفق عليها : إنّما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه». وقالت : حسبكم القرآن (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى)(٨) [الإسراء : ١٥] وقال

__________________

(١) أخرجه البخاري (٣ / ١٩١) كتاب الجنائز : باب ما يكره من النياحة على الميت رقم (١٢٩٦٢) من حديث عمر.

(٢) أخرجه البخاري (٣ / ١٦١) كتاب الجنائز : باب ما يكره من النياحة على الميت حديث (١٢٩١) ومسلم (٢ / ٦٤٠) من حديث المغيرة بن شعبة.

(٣) تقدم.

(٤) أخرجه الترمذي (٣ / ٣٢٦ ـ ٣٢٧) كتاب الجنائز : باب ما جاء في كراهية البكاء على الميت حديث (١٠٠٣) وابن ماجه كتاب الجنائز : باب ما جاء في الميت يعذب بما نيح عليه حديث (١٥٩٤) من حديث أبي موسى.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب.

(٥) أخرجه البخاري (٧ / ٥٨٩) كتاب المغازي : باب غزوة مؤتة من أرض الشام حديث (٤٢٦٧).

(٦) في ب : يبكون.

(٧) أخرجه البخاري ٣ / ١٨١ ، في الجنائز : باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه» (١٢٨٩) ، ومسلم ١ / ٦٤٣ ، في الجنائز : باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه (٢٧ / ٩٣٢) ، وأخرجه مالك في الموطأ ١ / ٢٣٤ في الجنائز : باب النهي عن البكاء على الميت ٣٧.

(٨) تقدم.

٢٣٠

بعض العلماء : إنّما هذا فيمن أوصى أن يناح عليه كما كان أهل الجاهليّة.

والجواب أنه يجب قبول أن الحديث لا يمكن ردّه (١) ؛ لثبوته وإقرار أعيان الصّحابة له على ظاهره.

وعائشة ـ رضي الله عنها ـ لم تخبر أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفى ذلك ، وإنّما تأوّلت على ظاهر القرآن ، ومن أثبت وسمع حجة على من نفى وأنكر.

وظاهر القرآن لا حجّة فيه ؛ لأنّ الله ـ تعالى ـ نفى أن يحمل أحد من ذنب غيره شيئا ، والميّت لا يحمل من ذنب النائحة شيئا ، بل إثم النّوح عليها ، وهو قد يعذّب من جهة أخرى بطريق نوحها ، كمن سنّ سنّة سيئة ، مع من عمل بها ، ومن دعا إلى ضلالة ، مع من أجابه.

والحديث الذي روته حديث آخر لا يجوز أن يردّ به خبر الصّادق ؛ لأنّ القوم قد يشهدون كثيرا ممّا لا تشهد ، مع أنّ روايتها تحقّق ذلك الحديث ؛ فإنّ الله ـ تعالى ـ إذا جاز أن يزيد الكافر عذابا ببكاء أهله ، جاز أن يعذّب الميت ابتداء ببكاء أهله.

ثم في حديث ابن رواحة وغيره ممّا تقدّم ما ينصّ على أن ذلك في المسلم ؛ فإنّ ابن رواحة كان مسلما ، ولم يوص بذلك ، ثمّ إنّ الصحابة الذين رووه ، لو فهموا منه الموصي ، لما عجبوا منه ، وأنكره من أنكره ؛ فإنّ من المعلوم أنّ من أمر بمنكر ، كان عليه إثمه ، ولو كان ذلك خاصّا بالموصي ، لما خص بالنّوح ، دون غيره من المنكرات ، ولا بالنّوح على نفسه ، دون غيره من الأموات.

وقال بعض العلماء : لمّا كان الغالب على النّاس النّوح على الميّت ، وهو من أمور الجاهليّة التي لا يدعونها في الإسلام ، ولا يتناهى عنها أكثر النّاس خرّج الحديث على الأعمّ الأغلب فيمن لم ينه عن النّائحة ، وهي عادة النّاس ، فيكون تركه للنّهي مع غلبة

__________________

(١) وخلاصة القول أن الأئمة قاطبة مجمعون على اتخاذ الحديث الصحيح قاعدة أساسية بعد كتاب الله تعالى وأنه يجب العمل به في القضاء والإفتاء ولو خالف مذاهبهم.

حتى أن بعضهم يعتصم بالحديث حتى كاد يقصر اجتهاده عليه ، وبعضهم أسس مذهبه على ظاهره وأنكر ما عداه ولا غرابة فإنه المعين الذي لا ينضب بعد كتاب الله ، فيه يجد المجتهد مجالا واسعا لاستنباط الأحكام وهو مفتاح القرآن ومرقاة الوصول إلى فهمه على وجهه فقد فصل ما أجمل وأحكم ما تشابه وكمل ما سكت عنه ـ وإذا كان الحديث بهذه المثابة فلا بأس أن نسرد أقوال الأئمة فيه ونبين مقدار تمسكهم به في تشريعهم فها هو الإمام الشافعي رضي الله عنه يقول : إذا صح الحديث فهو مذهبي ، وإذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله فدعوا قولي وقولوا بسنة رسول الله. وقد سلك أصحابه هذا المسلك فكانوا يفتون بالحديث. بل كان بعضهم إذا رأى مسألة تعارض فيها الحديث ومذهب الشافعي أخذ بالحديث وأفتى به قائلا هكذا مذهب الشافعي وجاء في شرح الهداية لابن الشحنة : إذا صح الحديث وكان مخالفا للمذهب عمل بالحديث ويكون ذلك مذهب من صح عنده. ثم قال. لا يخرج مقلده عن كونه حنفيا بالعمل به. لما روي عن أبي حنيفة أن قال : إذا صح الحديث فهو مذهبي. وقد حكى ذلك ابن عبد البر عن أبي حنيفة وغيره من الأئمة.

٢٣١

ظنّه بأنّها تفعل إقرارا للمنكر وتركا لإنكاره ، فيعذب على ما تركه من الإنكار ، ورضي به من المنكر ، وأما من نهى عنه ، وعصي أمره ، فالله أكرم من أن يعذّبه.

قال ابن تيمية : وهذا قريب. وأجود منه ، إن شاء الله ـ تعالى ـ أن العذاب على قسمين:

أحدهما : ألم وأذى يلحق الميّت بسبب غيره ، وإن لم يكن من فعله ؛ كما يلحق أهل القبور من الأذى بمجاورة الجار السيّيء ، وبالأعمال القبيحة عند القبور ، والجلوس على القبر ، أو التغوّط عليه ، إلى غير ذلك من الأشياء التي يتألّم الإنسان بها حيّا وميتا ، وإن لم تكن من فعله. فهذا الميّت لما عصي الله بسببه ، ونيح عليه ، لحقه عذاب وألم من هذه المعصية.

قال القاضي : سئلت عن ميّت دفن في داره ، وبقرب قبره أولاد يشربون ويستعملون آلة اللهو ، هل يتأذّى الميّت؟.

فأجبت : أنّه يتأذّى.

وروى بإسناده عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الميّت يؤذيه في قبره ما يؤذيه في بيته» (١).

وعن ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ : إذا مات لأحدكم الميّت ، فأحسنوا كفنه ، وعجّلوا إنفاذ وصيته ، وأعمقوا له في قبره ، وجنّبوه جار السّوء.

قيل : يا رسول الله : وهل ينفع الجار الصّالح في الآخرة؟ قال : وهل ينفع في الدّنيا؟ قالوا : نعم ، قال : وكذلك ينفعه في الآخرة (٢).

الثاني : أنّ طبع البشر يحبّ في حياته أن يبكى عليه بعد موته ؛ لما فيه من الشّرف والذّكر ، كما يحبّ أن يثنى عليه ، ويذكر بما يحبّ ، وكما يحبّ أن يكون المال والسلطان لعقبه ، وإن أيقن أنّه لا لذّة له بذلك بعد الموت ، فعوقب بنقيض هذه الإرادة من عذاب

__________________

(١) ذكره ابن أبي حاتم في «العلل» (١ / ٣٧٢) رقم (١١٠٤) وقال : سألت أبي عن حديث رواه ابن لهيعة عن بكير بن الأشج عن القاسم بن محمد عن عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ... فذكره وقال : قال أبي : هذا حديث منكر وذكره العجلوني في «كشف الخفاء» (١ / ٢٦٩) قال : رواه الديلمي بلا سند عن عائشة مرفوعا.

ويشهد له ما أخرجه أبو داود وابن ماجه وغيرهما عنها رفعته : كسر عظم البيت ككسر عظمه حيا وقال النجم وعند الطبراني والحاكم وابن مندة عن عمارة بن حزم قال رآني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالسا على قبر ، فقال يا صاحب القبر انزل عن القبر ، لا تؤذ صاحب القبر ولا يؤذيك ، ورواه ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال أذى المؤمن في موته كأذاه في حياته ، ورواه ابن مندة عن القاسم بن مخيمرة قال لأن أطأ على سنان محمي حتى ينفذ من قدمي أحب إلي من أطأ على قبر ، وإن رجلا وطىء على قبر وإن قلبه ليقظان إذ سمع صوتا إليك عني يا رجل ولا تؤذني. انتهى.

(٢) ذكره السيوطي في «اللآلىء المصنوعة» (٢ / ٤٣٩).

٢٣٢

النّوح والبكاء ؛ ليعلم النّاس بذلك ، فيتناهون عن هذه أو يكرهونه ، فمن لم يكره النّوح والبكاء ، فهو باق على موجب طبعه ، ومن كرهه ، كانت تلك الكراهة مانعة من لحوق الذمّ به.

الثالث : قال القاضي (١) : دلّت هذه الآية على أنّ الوزر والإثم ليس من فعل الله ـ تعالى ـ ، وذلك من وجوه :

أحدها : أنه لو كان كذلك ، لامتنع أن يؤاخذ العبد به ، كما لا يؤاخذ بوزر غيره.

وثانيها : أنّه كان يحبّ ارتفاع الوزر أصلا ؛ لأنّ الوزر إنّما يصحّ أن يوصف بذلك ، إذا كان مختارا يمكنه التحرّز ، ولهذا المعنى لا يوصف الصّبيّ بذلك.

الرابع : أنّ جماعة من الفقهاء المتقدّمين امتنعوا من ضرب الدّية على العاقلة ، قالوا : لأنّ ذلك يفضي إلى مؤاخذة الإنسان بفعل الغير ، وذلك مضاد لهذه الآية.

ونجيب عنها بأنّ المخطىء [غير مؤاخذ](٢) على ذلك الفعل ، فكيف يصير غيره مؤاخذا بسبب ذلك الفعل ، بل ذلك تكليف واقع ابتداء من الله تعالى.

ثم قال تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً).

إقامة للحجّة وقطعا للعذر.

واستدلّوا بهذه الآية على أنّ وجوب شكر النّعم لا يثبت بالعقل ، بل بالسّمع ؛ كقوله تعالى: (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً).

وذلك لأنّ الوجوب لايتقرّر إلّا بترتيب العقاب على التّرك ، ولا عقاب قبل الشّرع بهذه الآية ، وبقوله تعالى : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) النساء : ١٦٥].

وقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) [طه : ١٣٤].

ولقائل أن يقول : هذا الاستدلال ضعيف من وجهين :

الأول : أنه لو لم يثبت الوجوب العقليّ ، لم يثبت الوجوب الشرعيّ ألبتة ، وهذا باطل.

فذلك باطل ، وبيان الملازمة من وجوه :

أنه إذا جاء الشّارع ، وادعى كونه نبيّا من عند الله ـ تعالى ـ وأظهر المعجزة ، فهل يجب على المستمع استماع قوله ، والتأمّل في معجزاته ، أو لا يجب؟.

فإن وجب بالعقل ، فقد ثبت الوجوب العقليّ ، وإن وجب بالشّرع ، فهو باطل ؛ لأنّ

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ١٣٨.

(٢) في ب ليس بمؤاخذ.

٢٣٣

ذلك الشارع إمّا أن يكون هو ذلك المدّعي أو غيره ، والأول باطل ؛ لأنه يرجع حاصل الكلام إلى أنّ ذلك الرجل يقول : الدليل على أنّه يجب قبول قولي أني أقوله. وهذا إثبات للشيء بنفسه ، وإن كان الشّارع غيره ، كان الكلام كما في الأول ، ولزم الدّور والتّسلسل ، وهما محالان.

وثانيها : أنّ الشّارع ، إذا جاء ، وأوجب بعض الأفعال ، وحرّم بعضها ، فلا معنى للإيجاب أو التّحريم إلا أن يقول : إن تركت كذا ، أو فعلت كذا ، عاقبتك ، فنقول : إمّا أن يجب عليه الاحتراز عن العقاب ، وذلك الاحتراز إمّا أن يجب بالعقل ، أو بالسّمع ، فإن وجب بالعقل ، فهو المقصود ، وإن وجب بالسّمع ، لم يتقرّر معنى هذا الوجوب إلّا بسبب ترتيب العقاب عليه ، وحينئذ يعود التقسيم الأول ، ويلزم التسلسل.

وثالثها : أنّ مذهب أهل السنّة أنه يجوز من الله ـ تعالى ـ أن يعفو عن العقاب على ترك الواجب ، وإذا كان كذلك ماهية الوجوب حاصلة ، مع عدم العقاب ، فلم يبق إلّا أن يقال : ماهية الوجوب إنّما تتقرّر بسبب حصول الخوف من الذّم والعقاب ؛ فثبت بهذه الوجوه أنّ الوجوب العقليّ لا يمكن دفعه ، وإذا ثبت هذا فنقول : في الآية قولان :

الأول : أن نجري الآية على ظاهرها ، ونقول : العقل هو رسول الله إلى الخلق ، بل هو الرسول الذي لولاه ، لما تقرّرت رسالة أحد من الرّسل.

فالعقل هو الرسول الأصليّ ، فكان معنى الآية : حتى نبعث رسولا ؛ أي رسول العقل.

والثاني : أن نخصّص عموم الآية ، فنقول : المراد وما كنا معذّبين حتّى نبعث رسولا أي رسول العقل في الأعمال التي لا سبيل إلى معرفة وجوبها إلّا بالشّرع لا بعد مجيء الشرع ، وتخصيص العموم وإن كان عدولا عن الظاهر إلّا أنه يجب المصير إليه عند قيام الدّلالة ، وقد بينا قيام الدلائل الثلاثة على أنا لو نفينا الوجوب العقلي ، لزمنا نفي الوجوب الشرعيّ.

قال ابن الخطيب (١) : والذي نذهب إليه : أن مجرّد العقل يدلّ على أنه يجب علينا فعل ما ينتفع به ، وترك ما يتضرّر به ؛ لأنّا مجبولون على طلب النفع ، والهرب من الضّرر ، فلا جرم : كان العقل وحده كافيا في الوجوب في حقّنا ، أما مجرد العقل فلا يدل على أنه يجب على الله تعالى شيء ، وذلك لأنه منزّه عن طلب النفع ، والهرب من الضّرر ، فامتنع أن يحكم العقل عليه بوجوب فعل أو تركه.

قوله تعالى : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً)(١٦)

قرأ العامّة «أمرنا» بالقصر والتخفيف ، وفيه وجهان :

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ١٣٩.

٢٣٤

أحدهما : أنه من الأمر الذي هو ضدّ النهي ، ثم اختلف القائلون بذلك في متعلق هذا الأمر ، فعن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ في آخرين : أنه أمرناهم بالطاعة ، ففسقوا ، وقد ردّ هذا الزمخشريّ ردّا شديدا ، وأنكره إنكارا بليغا في كلام طويل ، حاصله : أنه حذف ما لا دليل عليه ، وقدّر هو متعلق الأمر : الفسق ، أي : أمرناهم بالفسق ، قال : «أي : أمرناهم بالفسق ، فعملوا ، لأنه يقال : أمرته ، فقام ، وأمرته ، فقرأ ، وهذا لا يفهم منه إلا أنّ المأمور به قيام أو قراءة ، فكذا هاهنا ، لمّا قال : (أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها). وجب أن يكون المعنى : أمرناهم بالفسق ، ففسقوا ، ولا يقال : هذا يشكل بقوله : أمرته فعصاني ، أو فخالفني ؛ فإنّ هذا لا يفهم منه إلّا أنّ المأمور به قيام أو قراءة ، فكذا هاهنا ، كما قال : (أَمَرْنا مُتْرَفِيها ، فَفَسَقُوا فِيها). وجب أن يكون المعنى : أمرناهم بالفسق ، ففسقوا ، ولايقال : هذا يشكل بقوله : أمرته فعصاني ، أو فخالفني ؛ فإنّ هذا لا يفهم منه أنّي أمرته بالمعصية ، والمخالفة ؛ لأنّ المعصية مخالفة للأمر ، ومناقضة له ، فيكون كونها مأمورا بها محالا.

فلهذا الضرورة تركنا هذا الظّاهر ، وقلنا : الأمر مجاز ؛ لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم : افسقوا ، وهذا لا يكون ، فبقي أن يكون مجازا ، ووجه المجاز : أنه صبّ عليهم النعمة صبّا ، فجعلوها ذريعة إلى المعاصي ، واتّباع الشّهوات ، فكأنّهم مأمورون بذلك ؛ لتسبّب إيلاء النّعمة فيه ، وإنما خوّلهم فيها ليشكروا».

ثم قال : «فإن قلت : فهلّا زعمت أنّ معناه : أمرناهم بالطّاعة ففسقوا؟ قلت : لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائز ، فكيف حذف ما الدليل قائم على نقيضه؟ وذلك أنّ المأمور به ، إنّما حذف لأنّ «ففسقوا» يدلّ عليه ، وهو كلام مستفيض ؛ يقال : «أمرته ، فقام» و«أمرته فقرأ» لا يفهم منه إلّا أن المأمور به قيام أو قراءة ، ولو ذهبت تقدّر غيره ، رمت من مخاطبك علم الغيب ، ولا يلزم [على] هذا قولهم : أمرته ، فعصاني» أو«فلم يمتثل» لأنّ ذلك مناف للأمر مناقض له ، ولا يكون ما يناقض الأمر مأمورا به ، فكان محالا أن يقصد أصلا ؛ حتّى يجعل دالّا على المأمور به ، فكان المأمور به في هذا الكلام غير منويّ ، ولا مراد ؛ لأن من يتكلّم بهذا الكلام لا ينوي لأمره مأمورا به ؛ فكأنّه يقول : كان منّي أمر ، فكان منه طاعة ، كما أنّ من يقول : «فلان يأمر وينهى ، ويعطي ويمنع» لا يقصد مفعولا.

فإن قلت : هلّا كان ثبوت العلم بأنّ الله لا يأمر بالفحشاء دليلا على أن المراد : أمرناهم بالخير؟.

قلت : لأنّ قوله «ففسقوا» يدافعه ؛ فكأنك أظهرت شيئا ، وأنت تضمر خلافه ، ونظير «أمر» : «شاء» في أن مفعوله استفاض حذف مفعوله ؛ لدلالة ما بعده عليه ؛ تقول : لو شاء ، لأحسن إليك ، ولو شاء ، لأساء إليك ، تريد : لو شاء الإحسان ، ولو شاء الإساءة ، ولو ذهبت تضمر خلاف ما أظهرت ، وقلت : قد دلّت حال من أسندت إليه المشيئة أنه من

٢٣٥

أهل الإحسان ، أو من أهل الإساءة ، فاترك الظاهر المنطوق ، وأضمر ما دلّت عليه حال المسند إليه المشيئة ، لم تكن على سداد».

وتتبّعه أبو حيّان في هذا ، فقال : أمّا ما ارتكبه من المجاز ، فبعيد جدّا ، وأما قوله : «لأنّ حذف ما لا دليل عليه غير جائز» فتعليل لا يصح فيما نحن بسبيله ، بل ثمّ ما يدل على حذفه ، وقوله : «فكيف يحذف ما الدليل على نقيضه قائم» إلى (عِلْمُ الْغَيْبِ) فنقول : حذف الشيء تارة يكون لدلالة موافقه عليه ، ومنه ما مثّل به في قوله «أمرته ، فقام» ، وتارة يكون لدلالة خلافه أو ضدّه ، أو نقيضه ؛ كقوله تعالى : (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [الأنعام : ١٣] أي : ما سكن وتحرّك ، وقوله : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] ، أي : والبرد ، وقول الشاعر : [الوافر]

٣٣٩١ ـ وما أدري إذا يمّمت أرضا

أريد الخير أيّهما يليني

أألخير الّذي أنا أبتغيه

أم الشّرّ الّذي هو يبتغيني (١)

أي : وأجتنب الشّر ، وتقول : «أمرته ، فلم يحسن» فليس المعنى : أمرته بعدم الإحسان ، بل المعنى : أمرته بالإحسان ، فلم يحسن ، والآية من هذا القبيل ، يستدلّ على حذف النّقيض بنقيضه ، كما يستدلّ على حذف النظير بنظيره ، وكذلك : «أمرته ، فأساء إليّ» ليس المعنى : أمرته بالإساءة ، بل أمرته بالإحسان ، وقوله : «ولا يلزم هذا قولهم : أمرته فعصاني» نقول : بل يلزم ، وقوله «لأنّ ذلك مناف» أي : لأنّ العصيان مناف ، وهو كلام صحيح ، وقوله : «فكان المأمور به غير مدلول عليه ولا منوي» لا يسلّم بل مدلول عليه ومنويّ لا دلالة الموافق بل دلالة المناقض ؛ كما بيّنا ، وقوله : «لا ينوي مأمورا به» لا يسلّم ، وقوله «لأنّ «ففسقوا» يدافعه ، إلى آخره» قلنا : نعم ، نوى شيئا ، ويظهر خلافه ؛ لأنّ نقيضه يدل عليه ، وقوله : ونظير «أمر» «شاء» ليس نظيره ؛ لأن مفعول «أمر» كثر التصريح به. قال سبحانه جل ذكره : (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) [الأعراف : ٢٨] (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [يوسف : ٤٠] (يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) [النحل : ٧٦] (أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) [الأعراف : ٢٩] (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا) [الطور : ٣٢] ، وقال الشاعر : [البسيط]

٣٣٩٢ ـ أمرتك الخير فافعل ما أمرت به

 ........... (٢)

قال شهاب الدين رحمه‌الله : والشيخ ردّ عليه ردّ مستريح من النّظر ، ولولا خوف السامة على الناظر ، لكان للنظر في كلامهما مجال.

قال ابن الخطيب : ولقائل أن يقول : كما أنّ قوله : «أمرته ، فعصاني» يدلّ على أن المأمور به شيء غير المعصية من حيث إنّ المعصية منافية للأمر مناقضة له ، فكذلك قوله : أمرته ففسق يدلّ على أنّ المأمور به شيء غير الفسق ؛ لأن الفسق عبارة عن الإتيان

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

٢٣٦

بضدّ المأمور به ، فكونه فسقا ينافي كونه مأمورا به ، كما أنّ كونها معصية ينافي كونها مأمورا بها ؛ فوجب أن يدلّ هذا اللفظ على أنّ المأمور به ليس بفسق ، وهذا في غاية الظهور.

الوجه الثاني : أنّ «أمرنا» بمعنى كثّرنا قال الواحديّ : العرب تقول : أمر القوم : إذا أكثروا. ولم يرض به الزمخشريّ في ظاهر عبارته ، فإنه قال : وفسّر بعضهم «أمرنا» ب «كثّرنا» وجعله من باب : «فعّلته ، ففعل» ك «ثبّرته فثبر». وفي الحديث : «خير المال سكّة مأبورة ، ومهرة مأمورة» (١) ، أي : كثيرة النّتاج. وقد حكى أبو حاتم هذه اللغة ، يقال : أمر القوم ، وأمرهم الله ، ونقله الواحديّ عن أهل اللغة ، وقال أبو عليّ : «الجيّد في «أمرنا» أن يكون بمعنى كثّرنا» واستدلّ أبو عبيدة (٢) بما جاء في الحديث ، فذكره ؛ يقال : أمر الله المهرة ، أي : كثّر ولدها ، قال : «ومن أنك ر «أمر الله القوم» أي : كثّرهم [لم يلتفت إليه ؛ لثبوت ذلك لغة» ويكون ممّا لزم وتعدى بالحركة المختلفة ؛ إذ يقال : أمر القوم ، كثروا ، وأمرهم الله : كثّرهم] ، وهو من باب المطاوعة : أمرهم الله ، فأتمروا ، كقولك : شتر الله عينه ، فشترت ، وجدع أنفه فجدع ، وثلم سنّه ، فثلمت.

وقرأ (٣) الحسن ، ويحيى بن يعمر ، وعكرمة : «أمرنا» بكسر الميم ؛ بمعنى «أمرنا» بالفتح ، حكى أبو حاتم ، عن أبي زيد : أنه يقال : «أمر الله [ماله ،] وأمره» بفتح الميم وكسرها ، وقد ردّ الفراء (٤) هذه القراءة ، ولا يلتفت لردّه ؛ لثبوتها لغة بنقل العدول ، وقد نقلها قراءة عن ابن عبّاس أبو جعفر ، وأبو الفضل الرازيّ في «لوامحه» فكيف تردّ؟.

وقرأ عليّ بن أبي طالب ، وابن أبي إسحاق وأبو رجاء ـ رضي الله عنهم ـ في آخرين «آمرنا» بالمدّ ، ورويت هذه قراءة عن ابن كثير (٥) وأبي عمرو ، وعاصم ونافع ، واختارها يعقوب ، والهمزة فيه للتعدية.

وقرأ عليّ أيضا ، وابن عباس ، وأبو عثمان النهديّ : «أمرنا» بالتشديد ، وفيه وجهان :

أحدهما : أنّ التضعيف للتعدية ، عدّاه تارة بالهمزة ، وأخرى بتضعيف العين ، كأخرجته وخرّجته.

والثاني : أنه بمعنى جعلناهم أمراء ، واللازم من ذلك «أمّر» قال الفارسي : «لا وجه

__________________

(١) أخرجه أحمد (٣ / ٤٦٨) والبغوي في «شرح السنة» (٥ / ٥٣١) عن سويد بن هبيرة مرفوعا.

وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٥ / ٢٠٨) وقال : رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد ثقات.

(٢) ينظر : مجاز القرآن ١ / ٣٧٣.

(٣) ينظر : السبعة ٣٧٩ ، الشواذ ٧٩ ، الإتحاف ٢ / ١٩٥ ، المحتسب ٢ / ١٥ ، والنشر ٢ / ٣٠٦.

(٤) ينظر : معاني القرآن للفراء ٢ / ١١٩.

(٥) ينظر : السبعة ٣٧٩.

٢٣٧

لكون «أمّرنا» من الإمارة ؛ لأنّ رئاستهم لا تكون إلّا لواحد بعد واحد ، والإهلاك إنّما يكون في مدّة واحدة». وردّ على الفارسي : بأنّا لا نسلم أنّ الأمير هو الملك ؛ حتى يلزم ما قلت ، بل الأمير عند العرب من يأمر ويؤتمر به ، ولئن سلّم ذلك ، لا يلزم ما قال ؛ لأنّ المترف إذا ملك ، ففسق ، ثم آخر بعده ، ففسق ، ثم كذلك ، كثر الفساد ، ونزل بهم على الآخر من ملوكهم العذاب ، واختار أبو عبيدة قراءة العامة وقال : فإنّ المعاني الثلاثة تجتمع فيها ، يعني : الأمر ، والإمارة ، والكثير.

المترف في اللغة : المنعّم ، والغنيّ : الّذي قد أبطرته النّعمة ، وسعة العيش.

قوله تعالى : (فَفَسَقُوا فِيها) أي : خرجوا عمّا أمرهم الله.

(فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) : أي : وجب عليها العذاب.

(فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) أي : خرّبناها ، وأهلكنا من فيها ، وهذا كالتقرير ، لقوله ـ تعالى ـ (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥]. وقوله تعالى : (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً) [القصص : ٥٩].

فصل في الاحتجاج لأهل السنة

استدلّ أهل السنة بهذه الآية على صحّة مذهبهم من وجوه :

الأول : أنّ ظاهر الآية يدل على أنّه تعالى أراد إهلاكهم ابتداء ، ثم توسّل إلى إهلاكهم بهذا الطريق ؛ وهذا يدلّ على أنّه تعالى أراد إيصال الضرر إليهم ابتداء.

الثاني : دلّ ظاهر الآية على أنّه ـ تعالى ـ إنما خصّ المترفين بذلك الأمر لعلمه بأنّهم يفسقون ، وذلك يدلّ على أنّه تعالى أراد منهم الفسق.

الثالث : أنه ـ تعالى ـ قال : (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) أي : حقّ عليها القول بالتّعذيب والكفر ، ومتى حقّ عليها القول بذلك ، امتنع صدور الإيمان منهم ؛ لأنّ ذلك لا يستلزم انقلاب خبر الله الصدق كذبا ، وذلك محال ، والمفضي إلى المحال محال.

قال الكعبيّ (١) ـ رحمه‌الله ـ إنّ سائر الآيات دلّت على أنّه ـ تعالى ـ لا يبتدىء بالتعذيب والإهلاك ؛ لقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد : ١١]. وقوله عزوجل : (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ) [النساء : ١٤٧] وقوله ـ عز ذكره : (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) [القصص : ٥٩].

وكلّ هذه الآيات تدل على أنّه لا يبتدىء بالإضرار ، وأيضا : ما قبل هذه الآية يدلّ على هذا المعنى ، وهو قوله ـ تعالى ـ : (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الإسراء : ١٥].

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ١٤٠.

٢٣٨

ومن المحال أن يقع بين آيات القرآن تناقض ؛ فثبت أنّ هذه الآيات محكمة ، والآيات التي نحن في تفسيرها مجملة ؛ فيجب حمل هذه الآية على تلك الآيات.

واعلم أنّ أحسن الناس كلاما في تأويل هذه الآية على وجه يوافق قول المعتزلة : «القفّال» ـ رحمه‌الله تعالى ـ فإنه ذكر وجهين :

الأول : أنه ـ تعالى ـ أخبر أنّه لا يعذّب أحدا بما يعلمه منه ، ما لم يعمل به أي : لا يجعل علمه حجّة على من علم أنّه إذا أمره عصاه ، بل يأمره ، فإذا ظهر عصيانه للنّاس ، فحينئذ يعاقبه.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها).

معناه : وإذا أردنا إمضاء ما سبق من القضاء بإهلاك قوم بظهور معاصيهم ، فحينئذ (أَمَرْنا مُتْرَفِيها). أي : أمرنا المنعّمين فيها المتعزّزين الظّانين أن أموالهم وأولادهم وأنصارهم تردّ عنهم بأسنا بالإيمان والعمل بشرائع ديني ، على ما يبلّغهم عنّي رسولي ، ففسقوا ، فحينئذ يحقّ عليهم القضاء السابق بإهلاكهم ، لظهور معاصيهم ، فحينئذ أدمّرها.

والحاصل : أن المعنى : وإذا أردنا أن نهلك قرية بسبب علمنا بأنهم لا يقدمون إلا على المعصية لم نكتف [في تحقيق](١) ذلك الإهلاك بمجرّد ذلك العلم ، بل أمرنا مترفيها ، ففسقوا ، فإذا ظهر منهم ذلك الفسق ، فحينئذ نوقع العذاب الموعود به.

الوجه الثاني : أنّ التأويل : وإن أردنا أن نهلك قرية بسبب ظهور المعاصي من أهلها ، لم نعاجلهم بالعذاب في أوّل ظهور المعاصي بينهم ، بل أمرنا مترفيها بالرجوع عن تلك المعاصي.

وإنّما خصّ المترفين بذلك الأمر ؛ لأنّ المترف هو المنعّم ، ومن كثرت نعمة الله عليه ، كان قيامه بالشّكر أوجب ، فإذا أمرهم بالتوبة والرجوع عن المعاصي مرة بعد أخرى ، مع أنه لا يقطع عنهم تلك النّعم ، بل يزيدها حالا بعد حال ، فحينئذ يظهر عنادهم وتمرّدهم وبعدهم عن الرجوع عن الباطل إلى الحقّ ، فحينئذ يصبّ الله البلاء عليهم صبا.

ثم قال القفال ـ رحمه‌الله ـ : وهذان التأويلان راجعان إلى أنّ الله ـ تعالى ـ أخبر عن عباده أنّه لا يعاجل بالعقوبة أمة ظالمة ؛ حتى يعذر إليهم غاية الإعذار ، الذي يقع منه اليأس من إيمانهم ، كما قال ـ تعالى ـ في قوم نوح ـ عليه‌السلام ـ : (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) [نوح : ٢٧] ، وقال عزوجل : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) [هود : ٣٦] وقال تعالى في غيرهم: (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) [الأعراف : ٧] فأخبر الله تعالى عنهم أولا أنّه لا يظهر العذاب إلّا بعد بعثة الرسل ، ثم أخبر ثانيا في هذه الآية : أنه ـ تعالى ـ إذا بعث الرسل أيضا ، فكذّبوا ، لم يعاجلهم بالعذاب ، بل يتابع (٢) عليهم النصائح والمواعظ ، فإن بقوا مصرّين ، فهناك ينزل عليهم عذاب الاستئصال.

__________________

(١) في ب : بتحقيق.

(٢) في ب : يبالغ.

٢٣٩

وأجاب الجبائيّ (١) فقال : ليس المراد من الآية أنّه تعالى يريد إهلاكهم قبل أن يعصوا ويستحقّوا ذلك ؛ لأنّه لا يظلم ، وهو على الله محال ، بل المراد من الإرادة قرب تلك الحالة ، فكان التقدير : وإذا قرب وقت إهلاك قرية أمرنا مترفيها ، ففسقوا فيها ، وهو كقول القائل : إذا أراد المريض أن يموت ازدادت أمراضه شدّة ، وإذا أراد التّاجر أن يفتقر أتاه الخسران من كلّ جهة ، وليس المراد أنّ المريض يريد أن يموت على الذّنوب ، والتّاجر يريد أن يفتقر ، وإنّما يعنون أنه سيصير كذلك ؛ فكذا هاهنا.

واعلم أنّ هذه الوجوه جواب عن الوجه الأوّل من الوجوه الثلاثة المتقدمة في التمسّك بهذه الآية ، وكلها عدول عن ظاهر اللفظ ، وأما الوجه الثاني والثالث فبقي سليما عن الطّعن.

قوله تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً)(١٧)

والمراد منه أنّ الطريق الذي ذكرناه هو عادتنا مع الذين يفسقون ، ويتمرّدون فيما تقدم من القرون الذين كانوا بعد نوح ؛ كعاد ، وثمود ، وغيرهم ، ثم إنه ـ تعالى ـ خاطب رسوله ـ صلوات الله عليه ـ بما يكون خطابا وردعا وزجرا للكلّ ، فقال جلّ ذكره : (وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) وهذا تخويف لكفّار «مكّة».

و«كم» نصب بأهلكنا ، و«من القرون» تمييز ل «كم» و«من بعد نوح» : «من» لابتداء الغاية ، والأولى للبيان ، فلذلك اتّحد متعلقهما ، وقال الحوفيّ : «الثانية بدل من الأولى» ، وليس كذلك ؛ لاختلاف معنييهما ، والباء بعد «كفى» تقدم الكلام عليها ، وقال ابن عطيّة : «إنّما يجاء بهذه الباء في موضع مدح أو ذمّ» والباء في «بذنوب» متعلقة ب «خبيرا» وعلّقها الحوفيّ ب «كفى».

قال الفراء ـ رحمه‌الله ـ : لو ألغيت الباء ؛ من قوله : «بربّك» جاز ، وإنّما يجوز دخول الباء في المرفوع إذا كان يمدح به أو يذمّ ؛ كقولك : كفاك به ، وأكرم به رجلا ، وطاب بطعامك طعاما ، وجاد بثوبك ثوبا.

أما إذا لم يكن مدحا أو ذمّا ، لم يجز دخولها ، فلا يجوز أن يقال : «قام بأخيك» وأنت تريد : «قام أخوك».

فصل في مقدار القرن

قال عبد الله بن أبي أوفى : القرن : عشرون ومائة سنة ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أوّل قرن ، وكان آخره يزيد بن معاوية (٢) ، وقيل : مائة سنة.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ١٤١.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٥٤) وذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٠٩).

٢٤٠