اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٢

وروى مالك بن صعصعة أنّ نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حدثهم عن ليلة الإسراء به قال : «بينا أنا في الحطيم ـ وربّما قال : في الحجر ـ بين النّائم واليقظان ، فأتيت بطست من ذهب مملوءة حكمة وإيمانا ، فشقّ من النّحر إلى مراق البطن واستخرج قلبي ، فغسل ، ثمّ حشي ، ثمّ أعيد».

وفي رواية سعيد وهشام : «ثمّ غسل البطن بماء زمزم ، ثمّ ملىء إيمانا وحكمة ، ثمّ أتيت بالبراق ، وهو دابّة أبيض طويل فوق الحمار ، ودون البغل ، تقع حافره عند منتهى طرفه ، فركبته فانطلقت مع جبريل عليه‌السلام ، حتّى أتيت البيت المقدس قال : فربطته في الحلقة الّتي تربط بها الأنبياء» قال : «ثمّ دخلت المسجد ، فصلّيت فيه ركعتين ، ثمّ خرجت ، فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن ، فأخذت اللّبن ، فقال جبريل : أخذت الفطرة ، فانطلق بي جبريل ؛ حتّى أتى السّماء الدّنيا ..» الحديث (١).

واحتجّ المنكرون بوجوه عقليّة ونقليّة :

أما العقلية : فأوّلها : أن الحركة البالغة في السّرعة إلى هذا الحدّ غير معقولة.

وثانيها : أنّ صعود الجرم الثقيل إلى السّموات غير معقول.

وثالثها : أنّ صعوده إلى السماوات يوجب انخراق الأفلاك ، وذلك محال ، ولأنّ هذا المعنى ، لو صحّ ، لكان أعظم من سائر معجزاته ، فكان يجب أن يظهر ذلك عند اجتماع النّاس حتّى يستدلّوا به على صدقه في ادعاء النبوّة ، فأما أن يحصل ذلك في وقت لا يراه أحد ، ولا يشاهده يكون عبثا ؛ وذلك لا يليق بالحكيم.

وأمّا النقل : فقوله تعالى : (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) [الإسراء : ١] وقوله : (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) [الإسراء : ٦] وما تلك الرؤيا إلّا حديث المعراج ، والرؤيا لما في المنام ، وإنما كانت فتنة للنّاس ؛ لأنّ كثيرا ممّن آمن به ، لمّا سمع هذا الكلام كذّبه وكفر ، وكان حديث المعراج سبب فتنة الناس.

وأيضا : فحديث المعراج اشتمل على أشياء بعيدة.

منها : ما روي من شقّ بطنه وتطهيره بماء زمزم ، وهو بعيد ؛ لأن الذي يمكن غسله بالماء هو النّجاسات العينيّة ، ولا تأثير لذلك في تطهير القلب عن العقائد الباطلة ، والأخلاق الذّميمة.

__________________

ـ ومسلم (١ / ١٤٨ ـ ١٤٩) کتاب الإيمان : باب الإسراء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديث (٢٦٣ / ١٦٣) من حديث أنس.

(١) أخرجه البخاري (٧ / ٢٤١ ـ ٢٤٢) كتاب مناقب الأنصار : باب المعراج حديث (٣٨٨٧) ومسلم (١ / ١٤٩ ـ ١٥٠) كتاب الإيمان : باب الإسراء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢٦٤ / ١٦٣).

٢٠١

وأيضا : فما روي من ركوب البراق ـ وهو بعيد ـ لأنّه تعالى ، لمّا سيّره من هذا العالم إلى عالم الأفلاك ، فأيّ حاجة إلى البراق.

وما روي أنه تعالى أوجب خمسين صلاة ، ثم إنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا زال يتردّد بين يدي الله ، وبين موسى عليه‌السلام.

قال القاضي (١) : وهذا يقتضي نسخ الحكم قبل حضور وقته ، فإنه يوجب البداء ، وذلك على الله محال ؛ فثبت أنّ ذلك الحديث مشتمل على ما لا يجوز قبوله ، فكان مردودا.

فالجواب عن الوجوه العقليّة قد سبق.

وأمّا قوله : (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) ، فهذا كلام مجمل ، وفي شرحه وجوه :

الأول : أن خيرات الجنّة عظيمة ، وأهوال النّار شديدة ، فلو أنه ـ عليه‌السلام ـ ما شاهدهما في الدنيا ، ثمّ شاهدهما في ابتداء يوم القيامة ، فربّما رغب في خيرات الجنة ، أو خاف من أهوال النّار ، أمّا لمّا شاهدهما في الدنيا في ليلة المعراج ، فحينئذ لا يعظم وقعهما في قلبه يوم القيامة ، فلا يبقى مشغول القلب بهما ، وحينئذ يتفرّغ للشّفاعة.

الثاني : لا يمتنع أن تكون مشاهدته ليلة المعراج للأنبياء والملائكة سببا لتكامل مصلحته أو مصلحتهم.

الثالث : لا يبعد أنه إذا صعد الفلك ، وشاهد أحوال السماوات ، والكرسيّ ، والعرش ، صارت مشاهدة أحوال هذا العالم وأهواله حقيرة في عينه ، فيحصل له زيادة قوّة في القلب ، باعتبارها يكون شروعه في الدعوة إلى الله تعالى أكمل ، وقلّة التفاته إلى أعداء الله أقوى ، يبين ذلك أنّ من عاين قدرة الله في هذا الباب لا يكون حاله في قوّة النّفس وثبات القلب على احتمال المكاره في الجهاد وغيره إلا أضعاف ما يكون لمن لم يعاين ، فقوله : (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) كالدّلالة على أن فائدة ذلك الإسراء مختصّة به ، وعائدة إليه ؛ على سبيل التعيين (٢) وأما قوله : (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ) فيأتي الجواب عند تفسير تلك الآية في هذه السورة ، ونبيّن أن تلك الرؤيا رؤيا عيان لا رؤيا منام.

وأما حديث المعراج ، فلا اعتراض على الله ـ تعالى ـ في أفعاله يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد.

واعلم أن العروج إلى السّماء ، وإلى ما فوق العرش ، فهذه الآية لا تدلّ عليه ، ومنهم من استدلّ عليه بأوّل سورة النجم ، ومنهم من استدل عليه بقوله : (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) [الانشقاق : ١٩] وسيأتي تفسيرها في موضعه إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ١٢١.

(٢) في أ: اليقين.

٢٠٢

فصل

روي لما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسري به فكان ب «ذي طوى» قال : «يا جبريل : إنّ قومي لا يصدّقونني ، قال : يصدّقك أبو بكر ، وهو الصّدّيق» (١).

قال ابن عبّاس وعائشة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لمّا كانت ليلة أسري بي ، فأصبحت بمكّة ، فضقت بأمري ، وعرفت النّاس مكذّبين» ، فروي أنه ـ عليه‌السلام ـ قعد معتزلا حزينا ، فمرّ به أبو جهل بن هشام ، فجلس إليه ، فقال كالمستهزىء : هل استفدت من شيء؟ قال : نعم ، أسري بي اللّيلة ، قال : إلى أين؟ قال : إلى بيت المقدس ، قال : ثمّ أصبحت بين ظهرانينا؟ قال : نعم ، قال أبو جهل : يا معشر بني كعب بن لؤيّ هلمّ ، فانفضّت إليه المجالس ، فجاءوا حتّى جلسوا إليهما قال : فحدّث قومك ما حدّثتني ، قال : نعم ، إنّي أسري بي اللّيلة ، قالوا : إلى أين؟ قال: إلى بيت المقدس ، قالوا : ثمّ أصبحت بين ظهرانينا؟ قال : نعم قال : فمن بين مصفّق ، ومن بين واضع يده على رأسه متعجّبا ، وارتدّ ناس ممّن كان آمن به وصدّقه ، وسعى رجل من المشركين إلى أبي بكر ، فقال : هل لك في صاحبك يزعم أنّه أسري به إلى بيت المقدس؟ قال : أو قد قال؟ قالوا : نعم ، قال : لئن قال ذلك ، لقد صدق ، قالوا : وتصدّقه أنّه ذهب إلى بيت المقدس في ليلة ، وجاء قبل أن يصبح؟ قال : نعم إنّي لأصدّقه بما هو أبعد من ذلك ، أصدّقه بخبر السّماء بغدوة أو روحة ، ولذلك سمّي أبو بكر «الصّديق» ، قال : وفي القوم من قد أتى المسجد الأقصى ، فقالوا : هل تستطيع أن تنعته لنا؟ قال : نعم ، قال : فذهبت أنعت وأنعت ، فما زلت أنعت حتّى التبس عليّ ، فجيء بالمسجد ، وأنا أنظر إليه ، فقال قوم : أمّا النّعت فو الله لقد أصاب ، ثمّ قالوا : يا محمّد ، أخبرنا عن عيرنا ، فهي أهمّ إلينا ، هل لقيت منها شيئا؟ قال : نعم ، مررت على عير بني فلان ، وهي بالرّوحاء ، وقد أضلّوا بعيرا لهم ، وهم في طلبه ، وفي رحالهم قدح من ماء ، فعطشت فأخذته فشربته ، ثمّ وضعته ، فسلوهم : هل وجدوا الماء في القدح حين رجعوا إليه ، قالوا : هذه آية.

قال : ومررت بعير بني فلان وفلان وفلان راكبان قعودا لهما بذي موضع ، فنفر بعيرهما منّي فرمى فلانا ، فانكسرت يده ، فسلوهما عن ذلك قالوا : وهذه آية.

قالوا : فأخبرنا عن عيرنا ، قال : مررت بها بالتّنعيم ، قالوا : فما عدّتها وأحمالها ، وهيئتها ، ومن فيها؟ فقال : نعم هيئتها كذا وكذا ، وفيها فلان ، يقدمها جمل أورق ، عليه غرارتان مخيطتان ، تطلع عليكم عند طلوع الشّمس ، قالوا : وهذه آية أخرى ، ثمّ خرجوا

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٨٤) وعزاه إلى سعيد بن منصور وابن سعد والطبراني في «الأوسط» وابن مردويه عن أبي هريرة.

٢٠٣

يشتدّون نحو الثّنيّة يقولون : لقد قصّ محمّد بيننا وبينه ، حتّى أتوا كدى فجلسوا عليها ، فجعلوا ينتظرون متى تطلع الشّمس فيكذّبونه ، إذ قال قائل منهم : «والله ، هذه الشّمس قد طلعت» وقال آخرون : والله ، هذه الإبل قد طلعت ، يقدمها بعير أورق ، وفيها فلان كما قال لهم فلم يؤمنوا ، وقالوا : «إن هذا إلّا سحر مبين» (١).

وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد رأيتني في الحجر ، وقريش تسألني عن مسراي ، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس ، لم أثبتها فكربت كربا ما كربت مثله قطّ ، قال : فرفعه الله إليّ أنظر إليه ، ما يسألونني عن شيء إلّا أنبأتهم به ، وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء ، فإذا موسى قائم يصلّي ، فإذا رجل بثوب جعد ، كأنّه من رجال شنوءة ، وإذا عيسى قائم يصلّي ، أقرب النّاس به شبها عروة بن مسعود الثّقفيّ ، وإذا إبراهيم قائم يصلّي ، أشبه النّاس به شبها صاحبكم ـ يعني نفسه ـ فحانت الصّلاة ، فأممتهم فلمّا فرغت من الصّلاة ، قال لي قائل : هذا مالك صاحب النّار ، فسلّم عليه ، فالتفت إليه فبدأني بالسّلام» (٢).

فصل

اختلفوا في الرؤية ، فقال ابن عباس : رآه بفؤاده مرّتين ، وأبو هريرة أطلق الرؤية وصرّح ابن خزيمة وآخرون بالرّؤية بالعينين ، وهو اختيار أبي الحسن الأشعريّ والنّوويّ في فتاويه ، واستدلّ من منع ذلك بما روى مسلم عن أبي ذرّ قال : قلت : يا رسول الله ، هل رأيت ربّك قال : «نور» وفي رواية : «رأيت نورا» (٣).

وقالوا : لم يمكن رؤية الباقي بالعين الفانية ، ولهذا قال تعالى لموسى فيما روي في الكتب الإلهية : «يا موسى ، إنّه لا يراني حيّ إلّا مات ولا يابس إلا تدهده».

قالت عائشة وجماعة : «إنّ ذلك كان رؤيا منام» (٤).

__________________

(١) أخرجه أحمد (١ / ٣٠٩) والنسائي في «الكبرى» (٦ / ٣٧٧ ـ ٣٧٨) والبيهقي في «دلائل النبوة» (٢ / ٣٦٣ ـ ٣٦٤) والبزار (١ / ٤٥ ـ ٤١ ـ كشف) رقم (٥٦) عن ابن عباس مختصرا.

وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١ / ٦٨) وقال : رواه أحمد والبزار والطبراني في «الكبير» و«الأوسط» ورجال أحمد رجال الصحيح. وذكره البغوي في «تفسيره» ٣ / ٩٦ ـ ٩٧) عن ابن عباس وعائشة بتمامه.

(٢) أخرجه مسلم (١ / ١٥٦ ـ ١٥٧) كتاب الإيمان : باب ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال حديث (٢٧٨ / ١٧٢) والنسائي في «التفسير» من الكبرى (٦ / ٣٧٧) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٧٨) وزاد نسبته إلى ابن مردويه.

(٣) أخرجه مسلم في «صحيحه» (١ / ١٦١) كتاب الإيمان : باب في قوله عليه‌السلام : نور أنى أراه وفي قوله : رأيت نورا حديث (٢٩٢ / ١٧٨) والترمذي (٣٢٨٢) وأحمد (٥ / ١٥٧) من حديث أبي ذر.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ١٦).

٢٠٤

وقال غيرهما من الصحابة : إنّ ذلك كان في اليقظة ، فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان لايرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصّبح.

واختلف العلماء في أنّ الإسراء والمعراج ، هل كانا في ليلة واحدة ، أو كل واحد في ليلة؟ فمنهم من زعم أن الإسراء في اليقظة ، والمعراج في المنام ، وذهب آخرون إلى أنّ الإسراء كان مرتين ، مرّة بروحه مناما ، ومرة بروحه وجسده يقظة ، وذهب آخرون إلى تعدّد الإسراء في اليقظة ، وقالوا : «إنّها أربع إسراءات» لتعدّد الروايات في الإسراء ، واختلاف ما يذكر فيها ، فبعضهم يذكر شيئا لم يذكره الآخر ، وبعضهم يذكر شيئا ذكره الآخر ، وهذا لا يدلّ على التعدّد ؛ لأنّ بعض الرواة قد يحذف بعض الخبر ؛ للعلم به ، أو ينساه ، أو يذكر ما هو الأهمّ عنده ، أو يبسط تارة ، فيسوقه كلّه ، وتارة يحدث المخاطب بما هو الأنفع له ، ومن جعل كلّ رواية إسراء على حدة ، فقد أبعد هذا ؛ لأنّ كل السياقات فيها السلام على الأنبياء ، وفي كلّ منها تعريفه بهم ، وفي كلّها تفرض عليه الصلوات ، فكيف يمكن أن يدعى تعدد ذلك ؛ وما عدد ذلك؟ هذا في غاية البعد والاستحالة ، والله أعلم ، ذكر هذا الفصل ابن كثير (١).

قوله تعالى : (وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً)(٢)

قوله تعالى : (وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) الآية.

لما ذكر الله ـ تعالى ـ في الآية الأولى إكرامه محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه أسرى به ، ذكر في هذه الآية إكرام موسى ـ عليه‌السلام ـ قبله بالكتاب الذي آتاه.

وفي «آتينا» ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تعطف هذه الجملة على الجملة السابقة من تنزيه الربّ تبارك وتعالى ، ولا يلزم في عطف الجمل مشاركة في خبر ولا غيره.

الثاني : قال العسكريّ : إنه معطوف على «أسرى» واستبعده أبو حيّان.

ووجه الاستبعاد : أن المعطوف على الصّلة صلة ، فيؤدّي التقدير إلى صيرورة التركيب : سبحان الذي أسرى وآتينا ، وهو في قوة : الذي آتينا موسى ، فيعود الضمير على الموصول ضمير تكلّم من غير مسوّغ لذلك.

والثالث : أنه معطوف على ما في قوله «أسرى» من تقدير الخبر ، كأنه قال : أسرينا بعبدنا ، وأريناه آياتنا وآتينا ، وهو قريب من تفسير المعنى لا الإعراب.

__________________

(١) ينظر : تفسير ابن كثير ٣ / ٢٢.

٢٠٥

قوله : «وجعلناه» يجوز أن يعود ضمير النّصب للكتاب ، وهو الظاهر ، وأن يعود لموسى ـ عليه‌السلام ـ.

وقوله : (لِبَنِي إِسْرائِيلَ) يجوز تعلقه بنفس «هدى» كقوله : (يَهْدِي لِلْحَقِ) [يونس : ٣٥] ، وأن يتعلق بالجعل ، أي : جعلناه لأجلهم ، وأن يتعلق بمحذوف نعتا ل «هدى».

قوله : (أَلَّا تَتَّخِذُوا) يجوز أن تكون «أن» ناصبة على حذف حرف العلّة ، أي : وجعلناه هدى لئلّا تتخذوا. وقيل : «لا» مزيدة ، والتقدير : كراهة أن تتخذوا ، وأن تكون المفسرة بمعنى «أي» و«لا» ناهية ، فالفعل منصوب على الأوّل ، مجزوم على الثاني ، وأن تكون مزيدة عند بعضهم ، والجملة التي بعدها معمولة لقول مضمر ، أي : مقولا لهم : لا تتخذوا ، أو قلنا لهم : لاتتخذوا ، قاله الفارسيّ. وهذا ظاهر في قراءة الخطاب. وهذا مردود بأنه ليس من مواضع زيادة «أن».

وقرأ أبو عمرو (١) «ألّا يتّخذوا» بياء الغيبة ؛ جريا على قوله (لِبَنِي إِسْرائِيلَ) والباقون بالخطاب التفاتا. ومعنى الآية : (وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) ؛ لئلّا يتخذوا من دوني وكيلا أي : ربّا يكلون إليه أمورهم.

و«أن» في قراءة من قرأ بالياء في «ألّا يتّخذوا» في موضع نصب على حذف الخافض ، أي : لئلّا يتّخذوا ، ومن قرأ بالتاء فتحتمل «أن» ثلاثة أوجه :

أن تكون لا موضع لها ، وهي التفسيرية.

وأن تكون زائدة ، ويكون الكلام خبرا بعد خبر ؛ على إضمار القول.

وأن تكون في موضع نصب و«لا» زائدة ، وحرف الجرّ محذوف مع «أن» قاله مكيّ.

قوله تعالى : (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً)(٣)

قوله : (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ).

العامّة على نصب «ذريّة» وفيها أوجه :

أحدها : أنها منصوبة على الاختصاص ، وبه بدأ الزمخشري.

الثاني : أنّها منصوبة على البدل من «وكيلا» ، أي : ألّا تتخذوا من دوني ذرية من حملنا.

الثالث : أنها منصوبة على البدل من «موسى» ذكره أبو البقاء ، وفيه بعد.

__________________

(١) قال أبو حيان : قرأ ابن عباس ومجاهد وقتادة وعيسى وأبو رجاء وأبو عمرو من السبعة : يتخذوا بالياء على الغيبة.

ينظر : السبعة ٣٧٨ ، والتيسير ١٣٩ ، والحجة ٣٩٦ ، والنشر ٢ / ٣٦ ، والإتحاف ٢ / ١٩٣ ، والقرطبي ١٠ / ٦٤٠ ، والبحر ٦ / ٧.

٢٠٦

الرابع : أنها منصوبة على المفعول الأول ل «تتخذوا» والثاني هو «وكيلا» فقدّم ، ويكون «وكيلا» ممّا وقع مفرد اللفظ ، والمعنيّ به جمع ، أي : لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح وكيلا كقوله : (وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) [آل عمران : ٨٠].

الخامس : أنها منصوبة على النداء ، أي : يا ذرية من حملنا ، وهو قول مجاهد وخصّ الواحديّ هذا الوجه بقراءة الخطاب في «تتّخذوا» وهو واضح عليها ، إلا أنه لا يلزم ، وإن كان مكيّ قد منع منه ؛ فإنه قال : «فأمّا من قرأ» «لا يتخذوا» بالياء ف «ذرية» مفعول لا غير ، ويبعد النداء ؛ لأن الياء للغيبة ، والنداء للخطاب ، فلا يجتمعان إلا على بعد» وليس كما زعم ؛ إذ يجوز أن ينادي الإنسان شخصا ، ويخبر عن آخر ، فيقول : «يا زيد ، ينطلق بكر ، وفعلت كذا» و«يا زيد ليفعل عمرو كيت وكيت».

السادس : قال مكيّ : وقيل : نصب على إضمار «أعني» (١). وقرأت (٢) فرقة «ذريّة» بالرفع ، وفيها وجهان :

أحدهما : أنها خبر مبتدأ مضمر تقديره : هم ذريّة ، ذكره أبو البقاء (٣) وليس بواضح.

والثاني : أنها بدل من واو «تتخذوا» قال ابن عطية : «ولا يجوز ذلك في القراءة بالتاء ، لأنك لا تبدل من ضمير المخاطب ، لو قلت : «ضربتك زيدا» على البدل ، لم يجز».

وردّ عليه أبو حيّان هذا الإطلاق ، وقال : «ينبغي التفصيل ، وهو إن كان بدل بعض أو اشتمال ، جاز ، وإن كان كلّا من كلّ ، وأفاد الإحاطة ؛ نحو : «جئتم كبيركم وصغيركم» جوّزه الأخفش والكوفيون».

قال : «وهو الصحيح».

قال شهاب الدين : وتمثيل ابن عطيّة بقوله «ضربتك زيدا» قد يدفع عنه هذا الرّد.

وقال مكيّ : «ويجوز الرفع في الكلام على قراءة من قرأ بالياء على البدل من المضمر في «يتّخذوا» ولا يحسن ذلك في قراءة التاء ؛ لأنّ المخاطب لا يبدل منه الغائب ، ويجوز الخفض على البدل من بني إسرائيل».

قال شهاب الدّين : أمّا الرفع ، فقد تقدّم أنه قرىء به ، وكأنه لم يطّلع عليه ، وأمّا الجرّ فلم يقرأ به فيما علمت ، ويرد عليه في قوله «لأنّ المخاطب لا يبدل منه الغائب» ما ورد على ابن عطيّة ، بل أولى ؛ لأنه لم يذكر مثالا يبيّن مراده ، كما فعل ابن عطيّة.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) وهي قراءة مجاهد ينظر : الشواذ ٧٤ ، والكشاف ٢ / ٦٤٨ ، والبحر ٦ / ٧ ، والدر المصون ٤ / ٣٧٠.

(٣) ينظر : الإملاء ٢ / ٨٨.

٢٠٧

قوله : (مَنْ حَمَلْنا) : يجوز أن تكون موصولة ، وموصوفة.

قال قتادة : النّاس كلّهم ذرية نوح ـ عليه‌السلام ـ لأنّه كان معه في السّفينة ثلاث بنين : سام وحام ويافث ، والناس كلّهم من ذريّة أولئك ، فكأن قوله : يا ذرية من حملنا مع نوح قام مقام (يا أَيُّهَا النَّاسُ)(١) [البقرة : ٢١].

وهذا يدلّ على أنّه ذهب إلى أنه منصوب على النداء ، وقد تقدّم نقله عن مجاهد أيضا.

ثم إنه تعالى أثنى على نوح ، فقال : (إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) أي : كثير الشّكر ، روي أنه ـ عليه‌السلام ـ كان إذا أكل قال : «الحمد لله الّذي أطعمني ، ولو شاء لأجاعني» ، وإذا شرب ، قال : «الحمد لله الّذي أسقاني ولو شاء لأظمأني» ، وإذا اكتسى ، قال : «الحمد لله الّذي كساني ، ولو شاء أعراني» ، وإذا احتذى ، قال : «الحمد لله الّذي حذاني ، ولو شاء أحفاني» ، وإذا قضى حاجته ، قال : «الحمد لله الّذي أخرج عنّي الأذى في عافية ، ولو شاء حبسه»(٢).

وروي أنه كان إذا أراد الإفطار ، عرض طعامه على من آمن به فإن وجده محتاجا ، آثره به.

فإن قيل : ما وجه ملائمة قوله : (إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) بما قبله؟ فالجواب (٣) : التقدير : كأن قيل : لا تتّخذوا من دوني وكيلا ، ولا تشركوا بي ؛ لأنّ نوحا ـ عليه‌السلام ـ كان عبدا شكورا ، وإنما يكون شكورا ، إذا كان موحّدا لا يرى حصول شيء من النعم إلّا من فضل الله ، وأنتم ذرية قومه ، فاقتدوا بنوح ، كما أن آباءكم اقتدوا به.

قوله تعالى : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) (٤)

لما ذكر إنعامه على بني إسرائيل بإنزال التوراة ، وبأنه جعل التوراة هدى لهم ، بيّن أنهم ما اهتدوا بهداه ، بل وقعوا في الفساد ، فقال : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ) والقضاء في اللغة عبارة عن وضع الأشياء عن إحكام ، ومنه قوله : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) [فصلت : ١٢].

وقول الشاعر : [الكامل]

٣٣٧٥ ـ وعليهما مسرودتان قضاهما

 ........... (٤)

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ١٨) عن قتادة وورد معناه أيضا عن مجاهد ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٩٤) وعزاه إلى ابن أبي حاتم.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٠ / ١٤٠) عن عمران بن سليم.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ١٢٤.

(٤) تقدم.

٢٠٨

ويكون أمرا ؛ كقوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٢٣].

ويكون حكما ؛ كقوله : (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ) [يونس : ٩٣] ويكون خلقا ؛ كقوله : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) ومعناه [في] الآية : أعلمناهم ، وأخبرناهم فيما آتيناهم من الكتب أنه سيفسدون.

وقال ابن عباس وقتادة : «وقضينا عليهم» (١).

و«إلى» بمعنى «على» والمراد بالكتاب اللّوح المحفوظ.

و«قضى» يتعدّى بنفسه : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً) [الأحزاب : ٣٧] (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) [القصص : ٢٩] ، وإنما تعدّى هنا ب «إلى» لتضمّنه معنى : أنفذنا وأوحينا ، أي : وأنفذنا إليهم بالقضاء المحتوم. ومتعلق القضاء محذوف ، أي : بفسادهم.

وقوله «لتفسدنّ» جواب قسم محذوف تقديره : والله لتفسدنّ في الأرض مرّتين وهذا القسم مؤكّد لمتعلق القضاء.

ويجوز أن يكون «لتفسدنّ» جوابا لقوله : «وقضينا» ، لأنه ضمّن معنى القسم ، ومنه قولهم : «قضاء الله لأفعلنّ» فيجرون القضاء والنّذر مجرى القسم ، فيتلقّيان بما يتلقّى به القسم.

والعامة على (٢) توحيد «الكتاب» مرادا به الجنس ، وابن جبير وأبو العالية «في الكتب» جمعا ، جاءوا به نصّا في الجمع.

وقرأ العامة بضمّ التّاء وكسر السّين مضارع «أفسد» ، ومفعوله محذوف تقديره : لتفسدنّ الأديان ، ويجوز ألا يقدّر مفعول ، أي : لتوقعنّ الفساد.

وقرأ (٣) ابن عبّاس ونصر بن عليّ وجابر بن زيد (٤) «لتفسدنّ» ببنائه للمفعول ، أي : ليفسدنّكم غيركم : إمّا من الإضلال أو من الغلبة. وقرأ (٥) عيسى بن عمر بفتح التّاء وضمّ السين ، أي : فسدتم بأنفسكم.

قوله : «مرّتين» منصوب على المصدر ، والعامل فيه «لتفسدنّ» لأن التقدير : مرتين من الفساد.

وقوله : «علوّا» العامة على ضمّ العين واللام مصدر علا يعلو ، وقرأ (٦) زيد بن عليّ

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٢٠) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٩٦) عن ابن عباس وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.

(٢) ينظر : الشواذ ٧٤ ، والبحر ٦ / ٨ والدر المصون ٤ / ٣٧١.

(٣) ينظر : المحتسب ٢ / ١٤ ، والشواذ ٧٥ ، والكشاف ٢ / ٦٤٩ ، والقرطبي ١٠ / ١٤١ ، والبحر ٦ / ٨ ، والدر المصون ٤ / ٣٧١.

(٤) في أ: يزيد.

(٥) ينظر مراجع القراءة السابقة.

(٦) ينظر : البحر ٦ / ٨ ، والدر المصون ٤ / ٣٧١.

٢٠٩

«عليا» بكسرهما والياء ، والأصل الواو ، وإنما أعلّ على اللغة القليلة ؛ وذلك أن فعولا المصدر ، الأكثر فيه التصحيح ؛ نحو : عتا عتوا ، والإعلال قليل ؛ نحو (أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) [مريم : ٨] على أحد الوجهين ؛ كما سيأتي ، وإن كان جمعا ، فالكثير الإعلال ، نحو : «جثيّا» وشذّ : بهو وبهوّ ، ونجو ونجوّ ، وقاسه الفراء.

فصل

معنى (وَقَضَيْنا) : أوحينا (إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ) ، أي بالمعاصي وخلاف أحكام التوراة.

(فِي الْأَرْضِ) يعني أرض الشّام وبيت المقدس.

(وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) أي : يكون استعلاؤكم على النّاس بغير الحقّ استعلاءا عظيما ؛ لأنّه يقال لكلّ متكبّر متجبّر : قد علا وتعظّم.

قوله تعالى : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً)(٦)

قوله : (وَعْدُ) أي : موعود ، فهو مصدر واقع موقع مفعول ، وتركه الزمخشريّ على حاله ، لكن بحذف مضاف ، أي : وعد عقاب أولاهما. وقيل : الوعد بمعنى الوعيد ، وقيل : بمعنى الموعد الذي يراد به الوقت ، فهذه أربعة أوجه ، والضمير عائد على المرّتين.

قوله : (عِباداً لَنا) العامة على «عباد» بزنة فعال ، وزيد بن عليّ والحسن «عبيدا» على فعيل ، وتقدّم الكلام على ذلك.

وقوله : «فجاسوا» عطف على «بعثنا» ، أي : ترتّب على بعثنا إياهم هذا. وجوس بفتح الجيم وضمها مصدر جاس يجوس ، أي : فتّش ونقّب ، قاله أبو عبيد ، وقال الفراء (١) : «قتلوا» قال حسان : [الطويل]

٣٣٧٦ ـ ومنّا الّذي لاقى بسيف محمّد

فجاس به الأعداء عرض العساكر (٢)

وقال أبو زيد : «الجوس والجوس والحوس والهوس طلب الطّوف باللّيل». وقال قطرب : «جاسوا : نزلوا». وأنشد : [المتقارب]

٣٣٧٧ ـ فجسنا ديارهم عنوة

وأبنا بساداتهم موثقينا (٣)

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن للفراء ٢٠ / ١١٦.

(٢) ينظر : القرطبي ١٠ / ١٤٢ ، الدر المصون ٣ / ٣٧١ والبحر المحيط ٦ / ٤.

(٣) ينظر البيت في شواهد البحر ٦ / ٤ ، القرطبي ١٠ / ١٤٢ ، الدر المصون ٤ / ٣٧١.

٢١٠

وقيل : «جاسوا بمعنى داسوا» ، وأنشد : [الرجز]

٣٣٧٨ ـ إليك جسنا اللّيل بالمطيّ (١)

وقيل : الجوس : التردّد. قال الليث : الجوس ، والجوسان : التردّد وقيل : طلب الشيء باستقصاء ، ويقال : «حاسوا» بالحاء المهملة ، وبها قرأ (٢) طلحة وأبو السّمّال ، وقرىء (٣) «فجوّسوا» بالجيم ، بزنة نكّسوا.

و (خِلالَ الدِّيارِ) العامة على «خلال» وهو محتمل لوجهين :

أحدهما : أنه جمع خلل ؛ كجبال في جبل ، وجمال في جمل.

والثاني : أنه اسم مفرد بمعنى وسط ، ويدل له قراءة (٤) الحسن «خلل الدّيار».

قوله : (وَكانَ وَعْداً) ، أي : وكان الجوس ، أو وكان وعد أولاهما ، أو وكان وعد عقابهم.

قوله تعالى : (الْكَرَّةَ) : مفعول «رددنا» وهي في الأصل مصدر كرّ يكرّ ، أي : رجع ، ثم يعبّر بها عن الدّولة والقهر.

قوله : «عليهم» يجوز تعلّقه ب «رددنا» ، أو بنفس الكرّة ؛ لأنه يقال : كرّ عليه ، فتتعدّى ب «على» ويجوز أن تتعلق بمحذوف على أنها حال من «الكرّة».

قوله : «نفيرا» منصوب على التمييز ، وفيه أوجه :

أحدها : أنه فعيل بمعنى فاعل ، أي : أكثر نافرا ، أي : من ينفر معكم.

الثاني : أنه جمع نفر ؛ نحو : عبد وعبيد ، قاله الزجاج (٥) ؛ وهم الجماعة الصّائرون إلى الأعداء.

الثالث : أنه مصدر ، أي : أكثر خروجا إلى الغزو ؛ قال الشاعر : [المتقارب]

٣٣٧٩ ـ فأكرم بقحطان من والد

وحمير أكرم بقوم نفيرا (٦)

والمفضل عليه محذوف ، فقدره بعضهم : أكثر نفيرا من أعدائكم ، وقدّره الزمخشريّ : أكثر نفيرا ممّا كنتم.

فصل في معنى الآية

معنى الآية : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما) يعني أوّل المرّتين.

__________________

(١) ينظر البيت في البحر ٦ / ٤ ، والدر المصون ٤ / ٣٧٢.

(٢) ينظر : البحر ٦ / ٩ ، والدر المصون ٤ / ٣٧٢ ، والكشاف ٢ / ٤٦٩.

(٣) ينظر : الشواذ ٧٥ ، والكشاف ٢ / ٤٦٩ ، والبحر ٦ / ٩ ، والدر المصون ٤ / ٣٧٢.

(٤) ينظر الإتحاف ٢ / ١٩٣ ، والكشاف ٢ / ٤٦٩ ، والبحر ٦ / ٦ ، والدر المصون ٤ / ٣٧٢.

(٥) ينظر : معاني الزجاج ٣ / ٢٢٨.

(٦) البيت لتبع الحميري ينظر : البحر المحيط ٦ / ٩ ، روح المعاني ٥ / ١٨ الدر المصون ٤ / ٣٧٢.

٢١١

قال قتادة : «إفسادهم في المرّة الأولى ما خالفوا من أحكام التوراة وركبوا المحارم» (١).

وقال ابن إسحاق : «إفسادهم في المرّة الأولى قتل شعيا في الشجرة ، وارتكابهم المعاصي»(٢).

(بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا).

قال قتادة : «يعني جالوت وجنوده ، وهو الذي قتله داود ، فذاك هو عود الكرّة» (٣).

وقال سعيد بن جبير : «سنحاريب من أرض نينوى» (٤) وقال ابن إسحاق : «بختنصّر البابليّ وأصحابه» وهو الأظهر ، فقتل منهم أربعين ألفا ممّن يقرأ التوراة ، وذهب بالبقيّة إلى أرضه ، فبقوا هناك في الذلّ إلى أن قيّض الله ملكا آخر من أهل بابل ، واتّفق أن تزوّج بامرأة من بني إسرائيل ، فطلبت تلك المرأة من ذلك الملك أن يردّ بني إسرائيل إلى بيت المقدس ، ففعل ، وبعد مدة قامت فيهم الأنبياء ، ورجعوا إلى أحسن ما كانوا ، وهو قوله : (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ)(٥).

وقال آخرون : يعني بقوله : (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا) هو أنه تعالى ألقى الرّعب من بني إسرائيل في قلوب المجوس ، فلما كثرت المعاصي فيهم ، أزال ذلك الرعب عن قلوب المجوس ، فقصدوهم ، وبالغوا في قتلهم ، وإفنائهم ، وإهلاكهم.

واعلم أنه لا يتعلق كثير غرض في معرفة الأقوام بأعيانهم ، بل المقصود هو أنهم لمّا أكثروا من المعاصي ، سلّط الله عليهم أقواما قتلوهم وأفنوهم.

فصل في الاحتجاج على صحة القضاء والقدر

احتجّوا بهذه الآية على صحّة القضاء والقدر من وجهين :

الأول (٦) : أنه تعالى قال : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) ، وهذا القضاء أقلّ احتمالاته الحكم الجزم والخبر الحتم ، فثبت أنّه تعالى أخبر عنهم أنهم سيقدمون على الفساد والمعاصي خبرا وجزما ، حتما ، لا يقبل النّسخ ؛ لأنّ القضاء معناه الحكم الجزم ، ثمّ إنه الله تعالى أكّد القضاء بقوله : (وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً).

فنقول : عدم وقوع ذلك الفساد منهم يستلزم انقلاب خبر الله الصدق كذبا ، وانقلاب حكمه الجازم باطلا ، وانقلاب علمه الحقّ جهلا ، وكل ذلك محال ، فكان عدم إقدامهم

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٠٦).

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٢٧) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٩٩) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم. وذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٠٦).

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٢٧) وذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٠٦).

(٥) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٠٦) والرازي في «تفسيره» (٢٠ / ١٢٤).

(٦) ينظر : الرازي ٢٠ / ١٢٥.

٢١٢

على ذلك الفساد محالا ، وكان إقدامهم عليه واجبا ضروريا ، لا يقبل النّسخ والرفع ، مع أنّهم كلّفوا بتركه ، ولعنوا على فعله ؛ وذلك يدل على أن الله قد يأمر بالشيء ويصدّ عنه وقد ينهى عن الشيء ويسعى فيه.

الثاني : قوله : (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) والمراد به الذين تسلطوا على بني إسرائيل بالقتل والنّهب والأسر ، فبيّن تعالى أنّه هو الذي بعثهم على بني إسرائيل ، ولاشكّ أن قتل بني إسرائيل ونهب أموالهم وأسر أولادهم كان مشتملا على الظلم الكبير والمعاصي العظيمة.

ثم إنه تعالى أضاف كلّ ذلك إلى نفسه بنفسه بقوله : (ثُمَّ بَعَثْنا) وذلك يدلّ على أن الخير والشر والطاعة والمعصية من الله تعالى. أجاب الجبائيّ عنه من وجهين (١) :

الأول : قوله : «بعثنا» هو أنّه تعالى أمر أولئك القوم بغزو بني إسرائيل ؛ لما ظهر فيهم من الفساد ، فأضيف ذلك الفعل إلى الله من حيث الأمر.

والثاني : أنّ المراد : خلّينا بينهم وبين بني إسرائيل ، وما ألقينا الخوف من بني إسرائيل في قلوبهم ، فالمراد من هذا البعث التخلية وعدم المنع.

والجواب الأوّل ضعيف ؛ لأن الذين قصدوا تخريب بيت المقدس ، وإحراق التوراة ، وقتل حفّاظ التوراة لا يجوز أن يقال : إنهم فعلوا ذلك بأمر الله.

والجواب الثاني أيضا ضعيف ؛ لأنّ البعث عبارة عن الإرسال ، والتخلية عبارة عن عدم المنع ، فالأول فعل ، والثاني ترك ، فتفسير البعث بالتخلية تفسير لأحد الضدّين بالآخر ، وإنه لا يجوز ، فثبت صحّة ما ذكرناه.

قوله تعالى : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً)(٨)

قوله تعالى : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) الآية لما حكى تعالى عنهم بأنّهم لما عصوا ، سلّط الله عليهم أقواما قصدوهم بالقتل والنّهب ، فعند ذلك ظهر أنهم أطاعوا ، فقال تعالى : إن أطاعوا ، فقد أحسنوا إلى أنفسهم ، وإن أصرّوا على المعصية ، فقد أساءوا إلى أنفسهم ، وقد تقرّر في العقول أن الإحسان إلى النّفس حسن مطلوب ، وأن الإساءة إليها قبيحة ، فلهذا المعنى قال تعالى : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها).

قوله تعالى : (فَلَها) : في اللام أوجه : أحدها : أنها بمعنى «على» أي : فعليها كقوله : [الطويل]

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ١٢٦.

٢١٣

٣٣٨٠ ـ ..........

فخرّ صريعا لليدين وللفم (١)

أي : على اليدين. وحروف الإضافة يقوم بعضها مقام بعض ؛ كقوله : (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) [الزلزلة : ٥] أي : إليها.

والثاني : أنها بمعنى «إلى».

قال الطبريّ : «أي : فإليها ترجع الإساءة».

الثالث : أنها على بابها ، وإنما أتى بها دون «على» للمقابلة في قوله : «لأنفسكم» فأتى بها ازدواجا.

وهذه اللام يجوز أن تتعلق بفعل مقدر كما تقدّم في قول الطبريّ ، وإمّا بمحذوف على أنها خبر لمبتدأ محذوف تقديره : فلها الإساءة لا لغيرها.

قال الواحدي (٢) : «لا بدّ في الآية من إضمار ؛ والتقدير : وقلنا : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ ، أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) والمعنى : إن أحسنتم بفعل الطاعات ، فقد أحسنتم إلى أنفسكم من حيث إن تفعلوا تلك الطاعة يفتح الله عليكم أبواب الخيرات والبركات وإن أسأتم بفعل المحرّمات ، أسأتم إلى أنفسكم من حيث إنّ شؤم تلك المعاصي يفتح الله عليكم أبواب العقوبة (٣).

قال أهل المعاني : «هذه الآية تدلّ على أن رحمة الله تعالى غالبة على غضبه ؛ بدليل أنّه لما حكى عنهم الإحسان ، أعاده مرتين ؛ فقال : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) ولما حكى عنهم الإساءة ، اقتصر على ذكرها مرة واحدة ، فقال : (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) ولولا أن جانب الرحمة غالب ، وإلّا لما كان ذلك».

قوله : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) ، أي : المرّة الآخرة ، فحذفت «المرّة» للدلالة عليها ، وجواب الشرط محذوف ، تقديره : بعثناهم ، ليسوءوا وجوهكم ، وإنما حسن هذا الحذف لدلالة ما تقدّم عليه من قوله : (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا) والمرة الآخرة هي إقدامهم على قتل زكريا ويحيى ـ عليهما الصلاة والسلام ـ وقصدهم قتل عيسى حين رفع.

قال الواحدي (٤) : «فبعث الله عليهم بختنصّر البابليّ المجوسيّ ، فسبى بني إسرائيل ، وقتل ، وخرّب بيت المقدس ، وسلّط عليهم الفرس والرّوم : خردوش وطيطوس ؛ حتّى قتلوهم ، وسبوهم ، ونفوهم عن ديارهم».

قال ابن الخطيب (٥) : «والتواريخ تشهد أنّ بختنصر كان قبل بعث عيسى وزكريّا بسنين متطاولة ، ومعلوم أنّ الملك الذي انتقم من اليهود بسبب هؤلاء ملك من الرّوم ، يقال له : قسطنطين».

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ١٢٦.

(٣) سقط من : أ.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ١٢٧.

(٥) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ١٢٧.

٢١٤

قوله : (لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ) متعلق بالجواب المقدر.

يقال : ساءه يسوءه ، أي : أحزنه وإنما عزا الإساءة إلى الوجوه ؛ لأنّ آثار الأعراض النفسانيّة الحاصلة في القلب إنّما تظهر على الوجه ، فإن حصل الفرح في القلب ظهرت النّضرة والإشراق والإسفار في الوجه ، وإن حصل الحزن والخوف في القلب ظهر الكلوح والغبرة والسّواد في الوجه ، فلهذا عزيت الإساءة إلى الوجوه في هذه الآية ، ونظير هذا المعنى في القرآن كثير.

وقرأ ابن عامر (١) وحمزة وأبو بكر «ليسوء» بالياء المفتوحة وهمزة مفتوحة آخرا.

والفاعل : إما الله تعالى ، وإمّا الوعد ، وإمّا البعث ، وإمّا النّفير ، والكسائي بنون العظمة ، أي : لنسوء نحن ، وهو موافق لما قبله من قوله (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا) و«رددنا» و«أمددنا» وما بعده من قوله : «عدنا» و«جعلنا».

وقرأ الباقون «ليسوءوا» مسندا إلى ضمير الجمع العائد على العباد أو أولي البأس ، أو على النّفير ؛ لأنه اسم جمع ، وهو موافق لما بعده من قوله (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا) وفي عود الضمير على النفير نظر ؛ لأن النفير المذكور من المخاطبين ، فكيف يوصف ذلك النفير بأنه يسوء وجوههم؟ اللهم إلا أن يريد هذا القائل أنه عائد على لفظه ، دون معناه ؛ من باب «عندي درهم ونصفه».

وقرأ أبيّ «لنسوءن» بلام الأمر ونون التوكيد الخفيفة ونون العظمة ، وهذا جواب ل «إذا» ولكن على حذف الفاء ، أي : فلنسوءن ، ودخلت لام الأمر على فعل المتكلّم ؛ كقوله تعالى (وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) [العنكبوت : ١٢].

وقرأ ابن أبي طالب «ليسوءنّ» و«لنسوءنّ» بالياء والنون التي للعظمة ، ونون التوكيد الشديدة ، واللام التي للقسم ، وفي مصحف أبيّ «ليسوء» بضم الهمزة من غير واو ، وهذه القراءة تشبه أن تكون على لغة من يجتزىء عن الواو بالضمة ؛ كقوله : [الوافر]

٣٣٨١ ـ فلو أنّ الأطبّا كان حولي

 ........... (٢)

يريد : «كانوا حولي» وقول الآخر : [الكامل]

٣٣٨٢ ـ ...........

 ... إذا ما النّاس جاع وأجدبوا(٣)

__________________

(١) ينظر في قراءاتها : السبعة ٣٧٨ ، والنشر ٢ / ٣٠٦ ، الحجة ٣٩٧ ، البحر ٦ / ١٠ ، التيسير ١٣٩ ، والشواذ ٧٥ ، والقرطبي ١٠ / ١٤٦ ، والدر المصون ٤ / ٣٧٣.

(٢) تقدم.

(٣) جزء من عجز بيت وهو :

يا رب ذي لقح ببابك فاحش

هلع ..........

ينظر : الهمع ١ / ٥٨ ، الدرر ١ / ٣٣ ، الدر المصون ٤ / ٣٧٣.

٢١٥

يريد «جاعوا» ، فكذا هذه القراءة ، أي : ليسوءوا ، كما في القراءة الشهيرة ، فحذف الواو.

وقرىء «ليسيء» بضمّ الياء وكسر السين وياء بعدها ، أي : ليقبّح الله وجوهكم ، أو ليقبّح الوعد ، أو البعث. وفي مصحف أنس «وجهكم» بالإفراد ؛ كقوله : [الوافر]

٣٣٨٣ ـ كلوا في بعض بطنكم تعفّوا

 .......... (١)

وكقوله : [الرجز]

٣٣٨٤ ـ ..........

في حلقكم عظم وقد شجينا (٢)

وكقوله :

٣٣٨٥ ـ ...........

وأمّا جلدها فصليب (٣)

قوله : (وَلِيَدْخُلُوا) من جعل الأولى لام «كي» كانت هذه أيضا لام «كي» معطوفة عليها ، عطف علّة على أخرى ، ومن جعلها لام أمر كأبيّ ، أو لام قسم ؛ كعلي بن أبي طالب ، فاللام في «ليدخلوا» تحتمل وجهين : الأمر والتعليل ، و (كَما دَخَلُوهُ) نعت مصدر محذوف ، أو حال من ضميره ، كما يقول سيبويه (٤) ، أي : دخولا كما دخلوه ، و (أَوَّلَ مَرَّةٍ) ظرف زمان ، وتقدّم الكلام عليها في براءة.

والمراد بالمسجد بيت المقدس ونواحيه.

قوله : (وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً) التتبير الهلاك ، يقال : تبر الشيء تبرا وتبارا وتبرية إذا هلك ، وتبّره : أهلكه ، وكلّ شيء جعلته مكسّرا مفتّتا ، فقد تبّرته ، ومنه قيل : تبر الزجاج ، وتبر الذّهب لمكسره ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ) [الأعراف : ١٣٩] ، وقوله : (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً) [نوح : ٢٨] وقوله : «ما علوا» يجوز في «ما» أن تكون مفعولا بها ، أي : ليهلكوا الذي علوه ، أي : غلبوا عليه وظفروا وقيل : ليهدموه ؛ كقوله : [الطويل]

٣٣٨٦ ـ وما النّاس إلّا عاملان ، فعامل

يتبّر ما يبني وآخر رافع (٥)

ويحتمل : «ويتبّروا ما داموا غالبين» أي : ما دام سلطانهم جاريا على بني إسرائيل ، وعلى هذا تكون ظرفية ، أي : مدّة استعلائهم ، وهذا يحوج إلى حذف مفعول ، اللهم إلا أن يكون القصد مجرّد ذكر الفعل ؛ نحو : هو يعطي ويمنع.

وقوله : «تتبيرا» ذكر للمصدر على معنى تحقيق الخبر ، وإزالة الشكّ في صدقه كما في قوله تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النساء : ١٦٤] أي حقّا ، والمعنى ليدمّروا ويخرّبوا ما غلبوا عليه.

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : الكتاب لسيبويه ١ / ١١٦.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٦ / ١١ ، القرطبي ١٠ / ١٤٦ ، روح المعاني ١٥ / ٢٠ ، الدر المصون ٤ / ٣٧٤.

٢١٦

ثم قال : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) والمعنى : لعلّ ربّكم أن يرحمكم ، ويعفو عنكم يا بني إسرائيل بعد انتقامه منكم بردّ الدّولة إليكم.

(وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) أي : إن عدتم إلى المعصية ، عدنا إلى العقوبة ، قال القفال : «وإنّما حملنا هذه الآية على عذاب الدنيا ؛ لقوله تعالى في سورة الأعراف خبرا عن بني إسرائيل : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ) [الأعراف : ١٦٧] ثم قال : (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) أي وإنهم قد عادوا إلى فعل ما لاينبغي ، وهو التكذيب بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم وكتمان ما ورد في التوراة والإنجيل ، فعاد الله عليهم بالتعذيب على أيدي العرب ، فجرى على بني النضير ، وقريظة وبني قينقاع ، ويهود خيبر ما جرى من القتل والجلاء ، ثم الباقون منهم مقهورون بالجزية ، لا ملك لهم ولا سلطان. ثم قال تعالى : (وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً).

يجوز أن تكون «حصيرا» بمعنى فاعل ، أي : حاصرة لهم ، محيطة بهم ، وعلى هذا : فكان ينبغي أن تؤنّث بالتاء كجبيرة. وأجيب : بأنها على النّسب ، أي ذات حصر ؛ كقوله : (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) [المزمل : ١٨] ، أي ذات انفطار ، وقيل : الحصير : الحبس ، قال لبيد: [الكامل]

٣٣٨٧ ـ ومقامة غلب الرّجال كأنّهم

جنّ لدى باب الحصير قيام (١)

وقال أبو البقاء (٢) : «لم يؤنثه ؛ لأنّ فعيلا بمعنى فاعل» وهذا منه سهو ؛ لأنه يؤدّي إلى أن تكون الصفة التي على فعيل ، إذا كانت بمعنى فاعل ، جاز حذف التاء منها ، وليس كذلك لما تقدّم من أن فعيلا بمعنى فاعل يلزم تأنيثه ، وبمعنى مفعول يجب تذكيره ، وما جاء شاذّا من النوعين يؤوّل.

وقيل : إنما لم يؤنّث لأنّ تأنيث «جهنّم» مجازيّ.

وقيل : لأنها في معنى السّجن والمحبس ، وقيل : لأنها بمعنى فراش.

ويجوز أن تكون بمعنى مفعول أي : جعلناها موضعا محصورا لهم ، والمعنى : أنّ عذاب الدنيا ، وإن كان شديدا إلا أنّه قد يتفلّت بعض النّاس عنه ، والذي يقع فيه يتخلّص عنه إمّا بالموت ، أو بطريق آخر ، وأما عذاب الآخرة ، فإنّه يكون محيطا به ، لا رجاء في الخلاص منه.

قوله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (١٠)

قوله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) الآية.

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : الإملاء ٢ / ٨٩.

٢١٧

لما شرح فعله (١) في حقّ عباده (٢) المخلصين ، وهو الإسراء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإيتاء التّوراة لموسى ـ عليه‌السلام ، وما فعله في حقّ العصاة ، وهو تسليط البلاء عليهم ـ كان ذلك تنبيها على أنّ طاعة الله توجب كلّ خير ، ومعصيته توجب كلّ بلية ، ولا جرم أثنى على القرآن ، فقال تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ).

قوله تعالى : (لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) : نعت لموصوف محذوف أي : للحالة ، أو للملّة ، أو للطريقة قال الزمخشريّ : «وأيّتما قدّرت ؛ لم تجد مع الإثبات ذوق البلاغة الذي تجده مع الحذف ؛ لما في إبهام الموصوف بحذفه من فخامة تفقد مع إيضاحه».

قال ابن الخطيب (٣) : وقولنا : هذا الشّيء أقوم من ذاك إنما يصح في شيئين اشتركا في معنى الاستقامة ، ثم كان حصول معنى الاستقامة في إحدى الصورتين ، أكثر وأكمل من حصوله في الصورة الثانية ، وهذا هنا محال ؛ فكان وصفه بأنه أقوم مجازا ، إلا أن لفظ «أفعل» قد جاء بمعنى الفاعل ، كقولنا : (اللهِ أَكْبَرُ) ، أو يحمل هذا اللفظ على الظاهر المتعارف ، ومثل هذه الكناية كثيرة الاستعمال في القرآن ؛ كقوله تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [المؤمنون : ٩٦] أي بالخصلة التي هي أحسن.

ومعنى (هِيَ أَقْوَمُ) أي : إلى الطريقة التي هي أصوب.

وقيل : إلى الكلمة (٤) التي هي أعدل وهي شهادة أن لا إله إلا الله (وَيُبَشِّرُ) ـ يعني القرآن ـ (الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ) أي : بأنّ لهم (أَجْراً كَبِيراً) وهو الجنّة.

قوله تعالى : (وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) : فيه وجهان :

أحدهما : أن يكون عطفا على «أنّ» الأولى ، أي : يبشّر المؤمنين بشيئين : بأجر كبير ، وبتعذيب أعدائهم ، ولاشكّ أنّ ما يصيب عدوّك سرور لك ، وقال الزمخشري : «ويحتمل أن يكون المراد : ونخبر بأنّ الّذين».

قال أبو حيّان : «فلا يكون إذ ذاك داخلا تحت البشارة». قال شهاب الدّين : قول الزمخشري يحتمل أمرين :

أحدهما : أن يكون قوله «ويحتمل أن يكون المراد : ويخبر بأنّ» من باب الحذف ، أي : حذف «ويخبر» وأبقى معموله ، وعلى هذا فيكون «أنّ الّذين» غير داخل في حيّز البشارة بلاشكّ ، ويحتمل أن يكون قصده : أنه يريد بالبشارة مجرّد الإخبار ، سواء كان بخير أم بشرّ ، وهل هو فيهما حقيقة أو في أحدهما ، وحينئذ يكون جمعا بين الحقيقة والمجاز ؛ أو استعمالا للمشترك في معنييه ؛ وفي المسألتين خلاف مشهور ، وعلى هذا : فلا يكون قوله (وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) غير داخل في حيّز البشارة ، إلّا أنّ الظاهر من حال

__________________

(١) في أ: فقتله.

(٢) في أ: العباد.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ١٥٩.

(٤) في أ: الحكمة.

٢١٨

الزمخشريّ : أنّه لايجيز الجمع بين الحقيقة والمجاز ، ولا استعمال المشترك في معنييه.

فصل

اعلم أن العمل الصّالح ، كما يوجب لفاعله (١) النّفع الأكمل الأعظم ، كذلك تركه يوجب الضّرر الأكمل الأعظم ، فإن قيل : كيف يليق لفظ البشارة بالعذاب؟.

فالجواب (٢) : هذا مذكور على سبيل التهكّم ، أو من باب إطلاق أحد الضّدّين على الآخر ؛ كقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠] وتقدّم الكلام عليه قبل الفصل ، فإن قيل : هذه الآية [واردة] في شرح أحوال اليهود ، وهم ما كانوا ينكرون الإيمان بالآخرة ، فكيف يليق بهذا الموضع قوله تعالى : (وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً)؟.

فالجواب عنه من وجهين :

أحدهما : أنّ أكثر اليهود ينكرون الثواب والعقاب الجسمانيين (٣).

والثاني : أن بعضهم قال : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) [آل عمران : ٢٤] فهم بهذا القول صاروا كالمنكرين للآخرة.

قوله تعالى : (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً).

في الباءين ثلاثة أوجه :

أحدها : أنهما متعلقتان بالدّعاء على بابهما ؛ نحو : «دعوت بكذا» والمعنى : أنّ الإنسان في حال ضجره قد يدعو بالشرّ ، ويلحّ فيه ، كما يدعو بالخير ويلحّ فيه.

والثاني : أنهما بمعنى «في» بمعنى أنّ الإنسان إذا أصابه ضرّ ، دعا وألحّ في الدعاء ، واستعجل الفرج ؛ مثل الدعاء الذي كان يحبّ أن يدعوه في حالة الخير ، وعلى هذا : فالمدعوّ به ليس الشرّ ولا الخير ، وهو بعيد.

الثالث : أن تكون للسّبب ، ذكره أبو البقاء (٤) ، والمعنى لا يساعده ، والمصدر مضاف لفاعله.

وحذفت الواو ولفظها الاستقبال باللّام الساكنة ؛ كقوله تعالى : (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) [العلق : ١٨] وحذف في الخط أيضا ، وهي غير محذوفة في المعنى.

فصل في نظم الآية

وجه النّظم : أن الإنسان بعد أن أنزل الله ـ تعالى ـ عليه هذا القرآن ، وخصه بهذه

__________________

(١) في ب : لصاحبه.

(٢) ينظر : الرازي ٢٠ / ١٢٩.

(٣) في ب : الجسماني.

(٤) ينظر : الإملاء ٢ / ٨٩.

٢١٩

النعم العظيمة ، قد يعدل عن التمسّك بشرائعه ، والرّجوع إلى بيانه ، ويقدم على ما لا فائدة فيه ، فقال : (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ).

واختلفوا في المراد من دعاء الإنسان بالشرّ ، فقيل : المراد منه النضر بن الحارث ، حيث قال : اللهم ، إن كان هذا هو الحقّ من عندك. فأجاب الله دعاءه ، وضربت رقبته ، وكان بعضهم يقول : ائتنا بعذاب الله ، وآخرون يقولون : متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ، وإنّما فعلوا ذلك ؛ للجهل ، ولاعتقاد أن محمّدا ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ كاذب فيما يقول.

وقيل : المراد أنّ الإنسان في وقت الضجر يلعن نفسه ، وأهله وولده ، وماله ؛ كدعائه ربّه أن يهب له النعمة والعافية ، ولو استجاب الله دعاءه على نفسه في الشرّ ، كما يستجيب (١) له في الخير ، لهلك ، ولكنّ الله لايستجيب ؛ لفضله.

روي أن النبي المصطفى ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ دفع إلى سودة بنت زمعة أسيرا ، فأقبل يئنّ باللّيل ، فقالت له : ما لك تئنّ؟ فشكى ألم القدّ ، فأرخت له من كتافه ، فلمّا نامت أخرج يده ، وهرب (٢) فلمّا أصبح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا به ، فأعلم بشأنه ، فقال صلوات الله وسلامه عليه : اللهمّ اقطع يدها ، فرفعت سودة ـ رضي الله عنها ـ يدها تتوقّع أن يقطع الله يدها ، فقال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّي سألت الله أن يجعل دعائي على من لا يستحقّ عذابا من أهلي رحمة ؛ لأنّي بشر أغضب كما تغضبون (٣).

وقيل : يحتمل أن يكون المراد أنّ الإنسان قد يبالغ في الدّعاء طلبا للشّيء ، يعتقد أنّ خيره فيه ، مع أنّ ذلك الشيء منبع لشرّه وضرره ، وهو يبالغ في طلبه ؛ لجهله بحال ذلك الشّيء ، وإنما يقدم على مثل هذا العمل ؛ لكونه عجولا مغترّا بظواهر الأمور غير متفحّص عن حقائقها ، وأسرارها.

ثم قال تعالى : (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً).

قيل : المراد بهذا الإنسان آدم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لأنه لمّا انتهت الرّوح إلى سرّته ، نظر إلى جسده ، فأعجبه ما رأى ، فذهب لينهض ، فلم يقدر ، فهو قوله جلّ ذكره : (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً).

وقيل : المراد الجنس ؛ لأنّ أحدا من النّاس لا يعرى عن عجلة ، ولو تركها ، لكان تركها أصلح له في الدّين والدّنيا ، ومعنى القولين واحد ؛ لأنّا إذا حملنا الإنسان على آدم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فهو أبو البشر وأصلهم ، فإذا وصف بالعجلة ، كانت الصفة لازمة لأولاده.

وقال ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ : «عجولا» ضجورا لا صبر له على سرّاء ولا ضرّاء(٤).

__________________

(١) في أ: يستجاب.

(٢) سقط من : أ.

(٣) ذكره الزمخشري في الكشاف ٢ / ٦٥١.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٨ / ٤٥) وذكر البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٠٧).

٢٢٠