اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٢

على أن الحجة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت ظاهرة باهرة ، وهذه الآية تدلّ على أن الكذب من أكبر الكبائر وأفحش الفواحش ؛ لأن كلمة «إنّما» للحصر ، والمعنى : أن الكذب والفرية لا يقدم عليهما إلا من كان غير مؤمن بآيات الله ـ تعالى ـ.

فإن قيل : قوله : (لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) فعل ، وقوله تعالى : (وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) اسم وعطف الجملة الاسميّة على الجملة الفعليّة قبيح فما السّبب في حصولها ههنا؟.

فالجواب : الفعل قد يكون لازما وقد يكون مفارقا ، ويدلّ عليه قوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ) [يوسف : ٣٥] ذكره بلفظ الفعل تنبيها على أن ذلك الحبس لا يدوم.

وقال فرعون لموسى : (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) [الشعراء : ٢٩] ذكره بصيغة الاسم تنبيها على الدّوام ، وقالوا في قوله ـ تعالى ـ : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) [طه : ١٢١] لا يجوز أن يقال : إن آدم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ عاص وغاو ؛ لأن صيغة الفعل لا تفيد الدّوام ، وصيغة الاسم تفيده.

إذا عرفت هذه المقدمات ، فقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) تنبيه على أنّ من أقدم على الكذب فإنه دخل في الكفر.

ثم قال ـ جل ذكره ـ (وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) ؛ تنبيها على أن صفة [الكذب](١) فيهم ثابتة [راسخة](٢) دائمة ؛ كما تقول : كذبت ، وأنت كاذب ، فيكون قولك : «وأنت كاذب» زيادة في الوصف بالكذب ، ومعناه : إنّ عادتك أن تكون كاذبا.

واعلم أن الآية تدلّ على أن الكاذب المفتري هو الذي لا يؤمن بآيات الله ، والأمر كذلك ؛ لأنه لا معنى للكفر إلا إنكار الإلهيّة ونبوّة الأنبياء ، ولا معنى لهذا الإنكار.

روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قيل له : هل يكذب المؤمن؟ قال : «لا» ثم قرأ هذه الآية.

قوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ) يجوز فيه أوجه :

أحدهما : أن يكون بدلا من (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) ، أي : إنّما يفتري الكذب من كفر ، واستثنى منهم المكره ، فلم يدخل تحت الافتراء.

الثاني : أنه بدل من «الكاذبون».

الثالث : أنه بدل من «أولئك» ، قاله الزمخشري.

فعلى الأول يكون قوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) جملة معترضة بين البدل والمبدل منه.

__________________

(١) في أ: الكفر.

(٢) في ب : واضحة.

١٦١

واستضعف أبو حيّان الأوجه الثلاثة ؛ فقال : «لأن الأوّل يقتضي أنه لايفتري الكذب إلا من كفر بالله من بعد إيمانه ، والوجود يقتضي أن المفتري هو الّذي لا يؤمن بالله سواء كان ممن كفر بعد إيمانه أو كان ممن لم يؤمن قطّ ؛ بل الأكثر الثاني ، وهو المفتري.

قال : وأما الثاني : فيؤول المعنى إلى ذلك ؛ إذ التقدير : وأولئك ، أي : الذين لا يؤمنون هم من كفر بالله من بعد إيمانه ، والذين لا يؤمنون هم المفترون.

وأما الثالث : فكذلك ؛ إذ التقدير : أن المشار إليهم هم من كفر بالله من بعد إيمانه ، مخبرا عنهم بأنهم الكاذبون».

الوجه الرابع : قال الزمخشري : «أن ينتصب على الذّمّ».

قال ابن الخطيب (١) : وهو أحسن الوجوه عندي وأبعدها من التّعسّف.

الخامس : أن يرتفع على أنه خبر مبتدأ مضمر على الذّمّ.

السادس : أن يرتفع على الابتداء ، والخبر محذوف ، تقديره : فعليهم غضب ؛ لدلالة ما بعد «من» الثانية عليه.

السابع : أنها مبتدأ أيضا ، وخبرها وخبر «من» الثانية قوله : (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ).

قال ابن عطية رحمه‌الله : «إذ هو واحد بالمعنى ؛ لأنّ الإخبار في قوله ـ تعالى ـ : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ) إنّما قصد به الصنف الشارح بالكفر».

قال أبو حيّان (٢) : «وهذا وإن كان كما ذكر ، إلا أنّهما جملتان شرطيتان ، وقد فصل بينهما بأداة الاستدراك ، فلا بدّ لكل واحدة منهما على انفرادها من جواب لا يشتركان فيه ، فتقدير الحذف أجري على صناعة الإعراب ، وقد ضعّفوا مذهب الأخفش في ادّعائه أن قوله ـ تعالى ـ : (فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) [الواقعة : ٩١] وقوله ـ جل ذكره ـ : (فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ) [الواقعة : ٨٩] جواب ل «أمّا» و«إن» ، هذا ، وهما أداتا شرط وليست إحداهما الأخرى».

الثامن : أن تكون «من» شرطية ، وجوابها مقدّر ، تقديره : فعليهم غضب ؛ لدلالة ما بعد «من» الثانية عليه ، وقد تقدّم أن ابن عطيّة جعل الجزاء لهما معا ، وتقدم الكلام معه فيه.

قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) فيه أوجه :

أحدها : أنه مستثنى مقدم من قوله : «فأولئك عليهم غضب» وهذا يكون فيه منقطعا ؛ لأن المكره لم يشرح بالكفر صدرا.

وقال أبو البقاء : وقيل : ليس بمقدّم ؛ فهو كقول لبيد : [الطويل]

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ٩٧.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٥٢٠ ـ ٥٢١.

١٦٢

٣٣٦٠ ـ ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل

 ........... (١)

فظاهر كلامه يدلّ على أن بيت لبيد لا تقديم فيه ، وليس كذلك ؛ فإنه ظاهر في التقديم جدّا.

الثاني : أنه مستثنى من جواب الشرط ، أو من خبر المبتدأ المقدّر ، تقديره : فعليهم غضب من الله إلا من أكره ، ولذلك قدر الزمخشري جزاء الشّرط قبل الاستثناء وهو استثناء متصل ؛ لأنّ الكفر يكون بالقول من غير اعتقاد كالمكره ، وقد يكون ـ والعياذ بالله ـ باعتقاد ، فاستثنى الصنف الأول.

(وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌ) جملة حاليّة (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) في هذه الحالة ، وهذا يدلّ على أن محلّ الإيمان القلب ، والذي [محله](٢) القلب إما الاعتقاد ، وإما كلام النّفس ؛ فوجب أن يكون الإيمان عبارة : إما عن المعرفة ، وإما عن التّصديق بكلام النّفس.

قوله تعالى : (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ) الاستدراك واضح ؛ لأن قوله : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) قد يسبق الوهم إلى الاستثناء مطلقا ، فاستدرك هذا ، وقوله : (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌ) لا ينفي ذلك الوهم ، و«من» إما شرطية أو موصولة ، ولكن متى جعلت شرطية ، فلا بدّ من إضمار مبتدإ قبلها ؛ لأنّه لايليها الجمل الشرطيّة ، قاله أبو حيّان ؛ ثم قال : ومثله : [الطويل]

٣٣٦١ ـ ..........

ولكن متى يسترفد القوم أرفد (٣)

أي : ولكن أنا متى يسترفد القوم.

وإنّما لم تقع الشرطية بعد «لكن» ؛ لأنّ الاستدراك لا يقع في الشروط ، هكذا قيل ، وهو ممنوع.

وانتصب «صدرا» على أنه مفعول للشرح ، والتقدير : ولكن من شرح بالكفر صدره ، وحذف الضمير ؛ لأنه لا يشكل بصدر غيره ؛ إذ البشر لا يقدر على شرح صدر غيره ، فهو نكرة يراد بها المعرفة ، والمراد بقوله : (مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) ، أي : فتحه ووسعه لقبول الكفر.

فصل

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : نزلت هذه الآية في عمّار بن ياسر ؛ وذلك أن المشركين أخذوه وأباه ياسر وأمّه سميّة وصهيبا وبلالا وخبّابا وسالما فعذبوهم.

وأما سميّة : فإنها ربطت بين بعيرين ووجىء في قبلها بحربة ، فقتلت وقتل زوجها ، وهما أول قتيلين في الإسلام ـ رضي الله عنهما (٤) ـ.

__________________

(١) تقدم.

(٢) في ب : في.

(٣) تقدم.

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٨٦).

١٦٣

وقال مجاهد : أول من أظهر الإسلام سبعة : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر ، وخبّاب ، وصهيب ، وبلال ، وعمّار ، وسميّة ـ رضي الله عنهم ـ.

أما الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمنعه أبو طالب ، وأما أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ فمنعه قومه ، وأخذ الآخرون ، وألبسوا الدروع الحديد ، ثم أجلسوهم في الشمس ، فبلغ منهم الجهد لحرّ الحديد والشمس ، وأتاهم أبو جهل يشتمهم ويشتم سميّة ، ثم طعنها في فرجها بحربة (١).

وقال آخرون : ما نالوا منهم غير بلال ؛ فإنهم جعلوا يعذّبونه ، ويقول : أحد أحد ، حتى ملوه فتركوه.

وقال خبّاب : ولقد أوقدوا لي نارا ما أطفأها إلا ودك ظهري ، وقال مقاتل : نزلت في جبر مولى عامر الحضرمي ، أكرهه سيّده على الكفر ، فكفر مكرها وقلبه مطمئنّ بالإيمان ، ثم أسلم مولى جبر وحسن إسلامهما ، وهاجر جبر مع سيّده.

فصل

الإكراه الذي يجوز عنده التلفّظ بكلمة الكفر : هو أن يعذّب بعذاب لا طاقة له به ؛ مثل: التّخويف بالقتل ؛ ومثل الضّرب الشّديد ، والإتلافات القويّة ، وأجمعوا على أن عند ذكر كلمة الكفر يجب عليه أن يبرىء قلبه عن الرّضا ، وأن يقتصر على التّعريضات ؛ مثل أن يقول : إن محمدا كذّاب ، ويعني عند الكفار أو يعني به محمّدا آخر ، أو يذكره على نيّة الاستفهام بمعنى الإنكار ، وهنا بحثان :

الأول : أنه إذا أعجله من أكرهه عن إحضار هذه النيّة ، أو لأنه لمّا عظم خوفه زال عن قلبه ذكر هذه النيّة كان ملوما وعفو الله متوقّع.

البحث الثاني : لو ضيّق المكره الأمر عليه وشرح له أقسام التّعريضات ، وطلب منه أن يصرّح بأنه ما أراد شيئا منها ، وما أراد إلّا ذلك المعنى ـ فههنا يتعيّن إما التزام الكذب ، وإما تعريض النفس للقتل ، فمن الناس من قال : يباح له الكذب ههنا ، ومنهم من قال : ليس له ذلك ، وهو الذي اختاره القاضي ؛ قال : لأن الكذب إنما يقبح لكونه كذبا ، فوجب أن يقبح على كل حال ، ولو جاز أن يخرج عن القبح لرعاية بعض المصالح ، لم يمنع أن يفعل الله الكذب لرعاية بعض المصالح ، وحينئذ لا يبقى وثوق بوعد الله ولا وعيده ؛ لاحتمال أنّه فعل ذلك الكذب لرعاية بعض المصالح التي لا يعرفها إلا الله ـ تعالى ـ.

فصل

أجمعوا على أنه لا يجب عليه التكلم بكلمة الكفر ، ويدل عليه وجوه :

أحدها : أن بلالا صبر على العذاب ، وكان يقول : أحد أحد ، ولم يقل رسول الله

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٠ / ٩٧).

١٦٤

صلى‌الله‌عليه‌وسلم بئس ما صنعت ، بل عظّمه عليه ، فدل ذلك على أنه لايجب التكلّم بكلمة الكفر.

وثانيها : ما روي أن مسيلمة الكذّاب أخذ رجلين ، فقال لأحدهما : ما تقول في محمّد؟ فقال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : ما تقول فيّ؟ قال : أنت أيضا فتركه ، وقال للآخر : ما تقول في محمد؟ قال : رسول الله ، فقال : ما تقول فيّ؟ قال : أنا أصمّ ، فأعاد عليه ثلاثا ، فأعاد جوابه ، فقتله ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أما الأول فقد أخذ برخصة الله ، وأما الثاني : فقد صدع بالحقّ ، فهنيئا له فسمّى التلفظ بكلمة الكفر رخصة ، وعظّم حال من أمسك عنه حتى قتل.

وثالثها : أن بذل [النفس](١)(٢) في تقرير الحق أشق ، فوجب أن يكون أكثر ثوابا ؛ لقوله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ : «أفضل العبادات أحمزها» (٣) أي : أشقّها.

ورابعها : أن الذي أمسك عن كلمة الكفر طهّر قلبه ولسانه عن الكفر ، وأمّا الذي تلفّظ بها فهب أن قلبه طاهر ، إلا أنّ لسانه في الظاهر قد تلطخ بتلك الكلمة الخبيثة ؛ فوجب أن يكون حال الأول أفضل.

فصل

الإكراه له مراتب :

أحدها : أن يجب الفعل المكروه عليه ؛ كما لو أكره على شرب الخمر ، وأكل الخنزير ، وأكل الميتة ، فإذا أكره عليه بالسّيف فهاهنا ، يجب الأكل ؛ وذلك لأن صون الرّوح عن الفوات واجب ، ولاسبيل إليه في هذه الصورة إلا بالأكل ، وليس في هذا

__________________

(١) في أ: الحق.

(٢) زيادة من : أ.

(٣) ذكره السخاوي في «المقاصد الحسنة» رقم (١٩٣) وقال :

قال المزي : هو من غرائب الأحاديث ولم يرو في شيء من الكتب الستة انتهى ، وهو منسوب في النهاية لابن الأثير لابن عباس بلفظ : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال أحمزها ، وهو بالمهملة والزاي أي أقواها وأشدها ، وفي الفردوس مما عزاه لعثمان بن عفان مرفوعا : أفضل العبادات أخفها ، فيجمع بينهما على تقدير ثبوتهما بأن القوة والشدة بالنظر لتبين شروط الصحة ونحوها فيها ، والخفة بالنظر لعدم الإكثار بحيث تمل ، ولكن الظاهر أن لفظ الثاني العيادة بالتحتانية لا بالموحدة ويروى عن جابر رفعه : أفضل العيادة أجرا سرعة القيام من عند المريض ، وفي فضائل العباس لابن المظفر من حديث هود بن عطاء سمعت طاوسا يقول : أفضل العيادة ما خف منها ، ومن الآثار في تخفيف العيادة ـ مما هو في سادس المجالسة للدينوري من جهة شيبان ـ عن أبي هلال قال عاد قوم بكر بن عبد الله المزني فأطالوا الجلوس ، فقال لهم بكر : إن المريض ليعاد والصحيح يزار ، ومن جهة الأصمعي قال : عاد قوم مريضا في بني يشكر فأطالوا عنده فقال لهم : إن كان لكم في الدار حق فخذوه ، ومن جهة الأصمعي أيضا قال : مرض أبو عمرو بن العلاء فأتى أصحابه إلّا رجلا منهم ثم جاءه بعد ذلك ، فقال إني أريد أن أسامرك الليلة فقال : أنت معافى وأنا مبتلى فالعافية لا تدعك تسهر ، والبلاء لا يدعني أنام ، والله أسأل أن يسوق إلى أهل العافية الشكر ، وإلى أهل البلاء الصبر.

١٦٥

الأكل ضرر على حيوان ، وإلا إهانة لحقّ الله ، فوجب أن يجب ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة : ١٩٥].

المرتبة الثانية : أن يصير ذلك الفعل مباحا ولا يصير واجبا ؛ كما لو أكره على التلفّظ بكلمة الكفر ، فههنا يباح له ذلك ، ولكنه لا يجب.

المرتبة الثالثة : أنه لا يجب ولا يباح ، بل يحرم ؛ كما لو أكرهه إنسان على قتل إنسان ، أو على قطع عضو من أعضائه ، فههنا يبقى الفعل على الحرمة الأصلية ، وهل يسقط القصاص عن المكره أم لا؟.

قال الشافعي ـ رضي الله عنه ـ في أحد قوليه : يجب القصاص ؛ لأنّه قتله عمدا عدوانا ، فوجب عليه القصاص ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) [البقرة : ١٧٨] ، وأيضا : أجمعنا على أن المكره إذا قصد قتله فإنّ له أن يدفعه عن نفسه ولو بالقتل ، فلما كان يوهم إقدامه على القتل ، أوجب إهدار دمه ، فلأن يكون عند صدور القتل عنه حقيقة يصير دمه مهدرا أولى.

فصل

من الأفعال ما يمكن الإكراه عليه كالقتل والتكلم بكلمة الكفر ، ومنها ما لا يقبل الإكراه ، قيل : وهو الزّنا ؛ لأن الإكراه يوجب الخوف الشديد ، وذلك يمنع من انتشار الآلة ، فحيث دخل الزّنا في الوجود ، دل على أنّه وقع بالاختيار لا على سبيل الإكراه.

وقيل : الإكراه على الزّنا مقصور ؛ كما لو انتشر ذكره وهو نائم فاستدخلته المرأة في تلك الحالة ، أو كان به مرض الانتصاب ، فلا يزال منتشرا ، أو علم أنّه لا يخلص من الإكراه إلا باستحضار الأسباب الموجبة للانتشار.

فصل

قال القرطبي (١) ـ رحمه‌الله تعالى ـ : ذهب بعض العلماء إلى أنّ الرّخصة إنما جاءت في القول ، وأما في الفعل فلا رخصة فيه ؛ مثل أن يكره على السّجود لغير الله تعالى أو الصّلاة لغير القبلة ، أو قتل مسلم ، أو ضربه ، أو أكل ماله ، أو الزّنا ، أو شرب الخمر ، أو أكل الرّبا ، روي ذلك عن الحسن البصري ، وهو قول الأوزاعي والشافعي وبعض المالكيّة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ.

فصل

قال القرطبي : وأما بيع المكره والمضغوط فله حالتان :

الأول : أن يبيع ماله في حق وجوب عليه ، فذلك ماض سائغ لا رجوع فيه ؛ لأنّه

__________________

(١) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٠ / ١٢٠.

١٦٦

يلزمه أداء الحقّ من غير المبيع ، وأما بيع المكره ظلما أو قهرا ، فذلك لا يجوز عليه ، وهو أولى بمتاعه يأخذه بلا ثمن ، ويتبع المشتري بالثّمن ذلك الظالم فإن فات المتاع ، رجع بثمنه أو بقيمته بالأكثر من ذلك على الظالم إذا كان المشتري غير عالم بظلمه ، وأما يمين المكره فغير لازمة عند مالك والشافعي ـ رضي الله عنهما ـ وأكثر العلماء ، قال ابن العربي : «واختلفوا في الإكراه على الحنث هل يقع أم لا؟».

قال ابن العربي رحمه‌الله : «وأي فرق بين الإكراه على اليمين في أنّها لا تلزم ، وبين الحنث في أنه لا يقع».

فصل

إذا أكره الرّجل على أن يحلف وإلّا أخذ ماله ، فقال مالك : لا تقيّة في المال ، فإنّما يدرأ المرء بيمينه عن بدنه.

وقال ابن الماجشون : «لا يحنث وإن درأ عن ماله أيضا».

قال القرطبي (١) : «وأجمع العلماء على أنّ من أكره على الكفر فاختار القتل ، أنّه يكون أعظم أجرا عند الله ممّن اختار الرّخصة».

فصل

قال الشافعي وأحمد ـ رضي الله عنهما ـ : لايقع طلاق المكره ، وقال أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ : يقع.

واستدلّ الشافعي ـ رضي الله عنه ـ بقوله ـ تعالى ـ : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) [البقرة: ٢٥٦] ، ولا يمكن أن يكون المراد نفي ذاته ؛ لأن ذاته موجودة ؛ فوجب حمله على نفي آثاره ، أي : لا أثر له ولا عبرة به ، وقال ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ : «رفع عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه».

وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «لا طلاق في إغلاق» (٢) ، أي : إكراه.

فإن قالوا : طلقها ، فيدخل تحت قوله ـ تعالى ـ : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ) [البقرة : ٢٣٠].

فالجواب : لمّا تعارضت الدلائل ، وجب أن يبقى ما كان على ما كان هو لنا.

فصل

قال القرطبي ـ رحمه‌الله ـ : «وأما نكاح المكره : فقال سحنون : أجمع أصحابنا على إبطال نكاح المكره والمكرهة وقالوا : لا يجوز المقام عليه ؛ لأنّه لم ينعقد ، فإن وطئها المكره على النّكاح ، لزمه المسمّى من الصّداق ولا حد عليه».

__________________

(١) ينظر : المصدر السابق ١٠ / ١٢٤.

(٢) أخرجه أحمد (٦ / ٢٧٦) وأبو داود (٢١٩٣) من حديث عائشة.

١٦٧

قوله : (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ) أي : إنه ـ تعالى ـ حكم عليهم بالعذاب ، ثم وصف ذلك العذاب فقال ـ تعالى ـ : (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).

قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ) مبتدأ وخبره ؛ كما تقدم ، والإشارة ب «ذلك» إلى ما ذكر من الغضب والعذاب ؛ ولذلك وحّد ، كقوله : «بين ذلك» و: [الرجز]

٣٣٦٢ ـ كأنّه في الجلد ... (١)

قوله : (اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) أي : ذلك الارتداد وذلك الإقدام على الكفر ؛ لأجل أنّهم رجّحوا الدنيا على الآخرة ، (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) أي : ذلك الارتداد إنما حصل لأجل أنه ـ تعالى ـ ما هداهم إلى الإيمان ، وما عصمهم عن الكفر.

قال القاضي (٢) : المراد أن الله تعالى لا يهديهم إلى الجنّة ، وهذا ضعيف ؛ لأن قوله ـ تعالى ـ : (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) معطوف على قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) فوجب أن يكون قوله : (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) علّة وسببا موجبا لإقدامهم على ذلك الارتداد ، وعدم الهداية يوم القيامة إلى الجنة ليس سببا لذلك الارتداد ولا علّة ، بل كسبا عنه ولا معلولا له ، فبطل هذا التّأويل.

ثم أكد أنه ـ تعالى ـ صرفهم عن الإيمان ؛ فقال ـ عزوجل ـ : (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) قال القاضي : الطبع ليس يمنع من الإيمان لوجوه :

الأول : أنه ـ تعالى ـ أشرك ذكر ذلك في معرض الذّم ، ولو كانوا عاجزين عن الإيمان به لما استحقوا الذّم بتركه.

الثاني : أنه ـ تعالى ـ أشرك بين السّمع ، والبصر ، والقلب في هذا الطبع ، ومعلوم أن مع فقد السمع والبصر قد يصحّ أن يكون مؤمنا ، فضلا عن طبع يلحقهما في القلب.

الثالث : وصفهم بالغفلة ، ومن منع من الشيء لا يوصف بأنه غافل عنه ، فثبت أن المراد بهذا الطّبع السّمة والعلامة التي يخلقها في القلب ، وتقدّم الجواب في أول سورة البقرة.

ثم قال ـ تعالى ـ : (وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : أي : عما يراد بهم في الآخرة (٣).

ثم قال : (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) ، أي : المغبونون ، والموجب لهذا الخسران أنه ـ تعالى ـ وصفهم بصفات ستة :

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ٩٩.

(٣) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٠ / ١٠٠) عن ابن عباس.

١٦٨

أولها : أنهم استوجبوا غضب الله.

وثانيها : أنّهم استحقّوا العذاب الأليم.

وثالثها : أنّهم استحبّوا الحياة الدّنيا على الآخرة.

ورابعها : أنه ـ تعالى ـ حرمهم من الهداية.

وخامسها : أنه ـ تعالى ـ طبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم.

وسادسها : أنه ـ تعالى ـ جعلهم من الغافلين عما يراد بهم من العذاب الشديد يوم القيامة ، فكل واحد من هذه الصّفات من أعظم الموانع عن الفوز بالسعادات والخيرات ، ومعلوم أنه ـ تعالى ـ إنما أدخل الإنسان في الدنيا ؛ ليكون كالتّاجر الذي يشتري بطاعته سعادات الآخرة ، فإذا حصلت هذه الموانع العظيمة ، عظم خسرانه ؛ فلهذا قال ـ تعالى ـ : (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي هم الخاسرون لا غيرهم.

قوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا) الآية لما ذكر في الآية المتقدمة حال من كفر بالله من بعد إيمانه ، وحال من أكره على الكفر ذكر [بعده] حال من هاجر من بعد ما فتن.

في خبر «إنّ» هذه ثلاثة أوجه :

أحدها : قوله ـ تعالى ـ : (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) ، و (إِنَّ رَبَّكَ) الثانية ، واسمها تأكيد للأولى واسمها ؛ فكأنه قيل : ثمّ إنّ ربّك إنّ ربّك لغفور رحيم ، وحينئذ يجوز في قوله : «للّذين» وجهان :

أحدهما : أن يتعلق بالخبرين على سبيل التنازع ، أو بمحذوف على سبيل البيان ؛ كأنه قيل: الغفران والرحمة للّذين هاجروا.

الثاني : أن الخبر هو نفس الجار بعدها ؛ كما تقول : إنّ زيدا لك ، أي : هو لك لا عليك ، بمعنى : هو ناصرهم لا خاذلهم ، قال معناه الزمخشري ، ثم قال : «كما يكون الملك للرجل لا عليه ، فيكون محميّا منفوعا غير مضرور».

قال شهاب الدّين : «قد يتوهّم أن قوله : «منفوعا» استعمال غير جائز ؛ لما قاله الأهوازي عليه رحمة الله في شرح موجز الرماني : إنّه لايقال : «منفوع» اسم مفعول من نفعته ، فإن الناس قد ردّوا على الأهوازي».

الثالث : أن خبر الأولى مستغنى عنه بخبر الثانية ، يعني : أنه محذوف لفظا ؛ لدلالة ما بعده عليه ، وهذا معنى قول أبي البقاء : «وقيل : لا خبر ل «إنّ» الأولى في اللّفظ ؛ لأنّ خبر الثانية أغنى عنه».

وحينئذ لا يحسن ردّ أبي حيّان عليه بقوله : «وهذا ليس بجيّد ؛ لأنه ألغى حكم الأولى ، وجعل الحكم للثانية ، وهو عكس ما تقدّم ، وهو لا يجوز».

١٦٩

قوله : (مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) قرأ (١) ابن عامر : «فتنوا» مبنيّا للفاعل ، أي : فتنوا أنفسهم فإن عاد الضمير على المؤمنين ، فالمعنى : فتنوا أنفسهم بما أعطوا المشركين من القول ظاهرا ، أو أنهم صبروا على عذاب المشركين ، فكأنهم فتنوا أنفسهم.

وإن عاد على المشركين ، فهو واضح ، أي : فتنوا المؤمنين.

والباقون «فتنوا» مبنيا للمفعول ، والضمير في «بعدها» للمصادر المفهومة من الأفعال المتقدمة ، أي : من بعد الفتنة ، والهجرة ، والجهاد.

وقال ابن عطيّة (٢) : «عائد على الفتنة ، أو الفتنة والهجرة أو الجهاد أو التوبة».

فصل

وجه القراءة الأولى أمور :

الأول : أن يكون المراد أنّ أكابر المشركين ـ وهم الذين آذوا فقراء المسلمين ـ لو تابوا وهاجروا وصبروا ، فإنّ الله يقبل توبتهم.

والثاني : أن «فتن» و«أفتن» بمعنى واحد ؛ كما يقال : مان وأمان بمعنى واحد.

والثالث : أن أولئك الضعفاء لما ذكروا كلمة الكفر على سبيل التقيّة ؛ فكأنهم فتنوا أنفسهم ؛ لأن الرخصة في إظهار كلمة الكفر ما نزلت في ذلك الوقت.

وأما وجه القراءة الثانية فظاهر ؛ لأن أولئك المفتونين هم المستضعفون الذين حملهم المشركون على الرجوع عن الإيمان ، فبين ـ تعالى ـ أنهم إذا هاجروا وجاهدوا وصبروا ، فإن الله تعالى يغفر لهم تكلمهم كلمة الكفر.

فصل

يحتمل أن يكون المراد بالفتنة : هو أنهم عذّبوا ، وأنهم خوّفوا بالتّعذيب ، ويحتمل أن يكون المراد : أن أولئك المسلمين ارتدّوا.

وقال الحسن ـ رضي الله عنه ـ : هؤلاء الذين هاجروا من المؤمنين كانوا بمكّة ، فعرضت لهم فتنة فارتدّوا ، وشكّوا في الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ثم أسلموا وهاجروا ، ونزلت هذه الآية فيهم (٣).

وقيل : نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وكان يكتب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستزلّه الشيطان فلحق بالكفّار ، فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم فتح مكّة بقتله ، فاستجار له عثمان ، وكان أخاه

__________________

(١) ينظر : السبعة ٣٧٦ ، والإتحاف ٢ / ١٩٠ ، والتيسير ٣٩٥ ، والبحر ٥ / ٥٢٢ ، والحجة ٣٩٥ ، والنشر ٢ / ٣٠٥ ، والوسيط ٣ / ٨٧.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٤٢٥.

(٣) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٠ / ١٠١).

١٧٠

لأمه ، فأجاره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم إنه أسلم وحسن إسلامه فأنزل الله هذه الآية ؛ قاله الحسن وعكرمة (١).

وهذه الرّواية إنا تصحّ إذا جعلنا هذه السورة مدنية أو جعلنا هذه الآية منها مدنيّة ، ويحتمل أن يكون المراد : أنّ أولئك الضعفاء المعذّبين تكلموا بكلمة الكفر على سبيل التقيّة ، فقوله : (مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) يحتمل كلّ واحد من هذه الوجوه ، وليس في اللفظ ما يدل على التّعيين.

وإذا كان كذلك ، فهذه الآية إن كانت نازلة فيمن أظهر الكفر ، فالمراد أن ذلك مما لا إثم فيه ، وأن حاله إذا هاجر وجاهد وصبر كحال من لم يكره ، وإن كانت نازلة فيمن ارتدّ ، فالمراد أن التوبة والقيام بما يجب عليه يزيل ذلك العقاب ، ويحصل له الغفران والرحمة.

قوله : (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ) يجوز أن ينتصب «يوم» ب «رحيم» ولا يلزم من ذلك [تقييد](٢) رحمته بالظرف ؛ لأنه إذا رحم في هذا اليوم ، فرحمته في غيره أحرى وأولى.

وأن ينتصب ب «اذكر» مقدّرة ، وراعى معنى «كل» فأنث الضمائر في قوله «تجادل ... إلى آخره» ؛ ومثله قوله : [الكامل]

٣٣٦٣ ـ جادت عليه كلّ عين ثرّة

فتركن كلّ قرارة كالدّرهم (٣)

إلا أنه زاد في البيت الجمع على المعنى ، وقد تقدّم أول الكتاب.

وقوله : (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) حملا على المعنى ؛ فلذلك جمع.

فإن قيل : النّفس لا تكون لها نفس أخرى ، فما معنى قوله : (تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها)؟.

فالجواب : أن النّفس قد يراد بها بدن [الإنسان](٤) الحيّ ، وقد يراد بها ذات الشيء وحقيقته ، فالنفس الأولى هي الجثّة والبدن ، والثانية : عينها وذاتها ؛ فكأنه قيل : يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته ، ولا يهمه شأن غيره ، قال ـ تعالى ـ : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس : ٣٧].

روي أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال لكعب الأحبار : خوّفنا ، قال يا أمير المؤمنين : والذي نفسي بيده لو وافيت يوم القيامة بمثل عمل سبعين نبيّا ، لأتت عليك تارات وأنت لا يهمّك إلا نفسك ، وإن لجهنّم زفرة ما يبقى ملك مقرّب ، ولا نبي مرسل إلا وقع جاثيا على ركبتيه ، حتّى إن إبراهيم خليل الرحمن ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ليدلي بالخلّة فيقول : يا ربّ ، أنا خليلك إبراهيم لا أسألك إلا نفسي ، وأن تصديق

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٦٥٤) عن عكرمة والحسن وذكره الرازي في «تفسيره» (٢٠ / ١٠١).

(٢) في ب : نصب.

(٣) تقدم.

(٤) زيادة من : أ.

١٧١

ذلك الذي أنزل عليكم : (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) ، ومعنى المجادلة عنها : الاعتذار ؛ كقولهم : (هؤُلاءِ أَضَلُّونا) [الأعراف : ٣٨] ، وكقولهم : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ)(١) [الأنعام : ٢٣].

(وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) فيه محذوف ، أي : جزاء ما عملت من غير بخس ولا نقصان ، (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) لا ينقصون.

روى عكرمة عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ في هذه الآية قال : «ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة ، حتى تخاصم الرّوح الجسد ، فتقول الرّوح : يا رب ، لم تكن لي يدّ أبطش بها ، ولا رجل أمشي بها ، ولا عين أبصر بها ، ولا أذن أسمع بها ، ولا عقل أعقل به ، حتى جئت فدخلت في هذا الجسد فضعّف عليه أنواع العذاب ، ونجّني ، ويقول الجسد : يا ربّ ، أنت خلقتني بيدك ، فكنت كالخشبة ، وليس لي يد أبطش بها ، ولا رجل أمشي بها ، ولا عين أبصر بها ، ولا سمع أسمع به ، فجاء هذا كشعاع النّور ، فيه نطق لساني ، وأبصرت عيني ، ومشت رجلي ، وسمعت أذني ، فضعّف عليه أنواع العذاب ، ونجّبني منه ، قال : فيضرب الله لهما مثلا ؛ أعمى ومقعدا دخلا [بستانا](٢) فيه ثمار ، فالأعمى لا يبصر الثّمر ، والمقعد لا يتناوله ، فحمل الأعمى المقعد فأصابا من الثمر ، [فغشيهما](٣) العذاب» (٤).

قوله تعالى : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)(١١٤)

قوله ـ تعالى ـ : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً) الآية.

اعلم أنه ـ تعالى ـ هدّد الكفار بالوعيد الشّديد في الآخرة ، وهدّدهم أيضا بآفات الدنيا ، وهي الوقوع في الجوع والخوف ؛ كما ذكر ـ تعالى ـ في هذه الآية.

واعلم أن المثل قد يضرب بشيء موصوف بصفة معيّنة ، سواء كان ذلك الشيء موجودا أو لم يكن ، وقد يضرب بشيء موجود معيّن ، فهذه القرية يحتمل أن تكون موجودة ويحتمل أن تكون غير موجودة.

فعلى الأول ، قيل : إنها مكّة ، كانت آمنة ، لايهاج أهلها ولا يغار عليها ، مطمئنة

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٨٧) والرازي (٢٠ / ١٠١).

(٢) في أ: حائطا.

(٣) في أ: فعليها.

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٨٧) والرازي (٢٠ / ١٠١).

١٧٢

قارة بأهلها لا يحتاجون إلى الانتجاع كما يفعله سائر العرب ، (يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ) يحمل إليها من البرّ والبحر ، (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ) جمع النّعمة ، وقيل : جمع نعمى ، مثل : بؤسى وأبؤس فأذاقهم لباس الجوع ، ابتلاهم الله بالجوع سبع سنين ، وقطعت العرب عنهم الميرة بأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى جهدوا وأكلوا العظام المحرقة ، والجيف ، والكلاب الميّتة والعلهز : وهو الوبر يعالج بالدّم.

قال ابن الخطيب (١) : والأقرب أنّها غير مكّة ؛ لأنّها ضربت مثلا لمكّة ، ومثل مكّة يكون غير مكّة.

وهذا مثل أهل مكّة ؛ لأنّهم كانوا في الطمأنينة والخصب ، ثم أنعم الله عليهم بالنّعمة العظيمة ، وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكفروا به ، وبالغوا في إيذائه ، فسلّط الله عليهم البلاء ، وعذّبهم بالجوع سبع سنين ، وأمّا الخوف فكان يبعث إليهم السّرايا فيغيرون عليهم. وفي الآية سؤالات :

السؤال الأول : أنه ـ تعالى ـ وصف القرية بصفات :

أحدها : كونها آمنة ، والمراد : أهلها ، لأنها مكان الأمن ، ثم قال «مطمئنّة» ، والاطمئنان هو الأمن ، فلزم التّكرار.

والجواب : أن قوله : «آمنة» إشارة إلى الأمن ، وقوله : «مطمئنّة» إشارة إلى الصحّة ؛ لأن هواء هذه البلد لمّا كان ملائما لأمزجتهم ، فلذلك اطمأنّوا واستقرّوا فيه ؛ قال العقلاء : [الرجز]

٣٣٦٤ ـ ثلاثة ليس لها نهايه

الأمن والصّحّة والكفاية (٢)

السؤال الثاني : الأنعم جمع قلّة ، فكان المعنى : أنّ أهل تلك القرية كفرت بأنواع قليلة من نعم الله ، فعذبها الله ، وكان اللائق أن يقال : إنهم كفروا بنعم عظيمة لله تعالى ، فاستوجبوا العذاب ، فما السّبب في ذكر جمع القلّة؟.

والجواب : أن المقصود التّنبيه بالأدنى على الأعلى ، يعني : أنّ كفران النّعم القليلة لما أوجب العذاب ، فكفران النّعم الكثيرة أولى بإيجاب العذاب.

و«أنعم» فيها قولان :

أحدهما : أنها جمع «نعمة» ؛ نحو : «شدّة وأشدّ». قال الزمخشري (٣) : «جمع نعمة على ترك الاعتداد بالتاء ؛ كدرع وأدرع».

وقال قطرب : هي جمع «نعم» ، والنّعم : النّعيم ؛ يقال : «هذه أيّام طعم ونعم فلا تصوموا».

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ١٠٢.

(٢) ينظر : البحر ٥ / ٥٢٤ ، الرازي ٢٠ / ١٣٠ ، الألوسي ١٤ / ٢٤٢.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٦٣٨.

١٧٣

السؤال الثالث : نقل أن ابن الرّاوندي قال لابن الأعرابي الأديب : هل يذاق اللّباس؟ قال ابن الأعرابي : لا باس ولا لباس ؛ يا أيّها النّسناس ، هب أنّك تشكّ أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان نبيّا أوما كان عربيّا؟ وكان مقصود ابن الرّاوندي الطّعن في هذه الآية ، وهو أن اللّباس لا يذاق بل يلبس ، فكان الواجب أن يقال : فكساهم الله لباس الجوع ، أو يقال : فأذاقهم الله طعم الجوع.

والجواب : من وجوه :

الأول : أن ما أصابهم من الهزال والشحوب ، وتغيير ظاهرهم عمّا كانوا عليه من قبل كاللّباس لهم.

الثاني : أن الأحوال التي حصلت لهم عند الجوع نوعان :

أحدهما : أن المذوق هو الطّعام ، فلما فقدوا الطعام صاروا كأنهم يذوقون الجوع.

والثاني : أن ذلك الجوع كان شديدا كاملا ، فصار كأنه أحاط بهم من كل الجهات ، فأشبه اللّباس.

فالحاصل أنه حصل في ذلك الجوع حالة تشبه المذوق ، وحالة تشبه الملبوس ، فاعتبر تعالى كلا الاعتبارين ، فقال : (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ).

الثالث : أن التقدير : عرفها الله لباس الجوع والخوف ، إلا أنه ـ تعالى ـ عبّر عن التعريف بلفظ الإذاقة ، وأصل الذّوق بالفم ، ثم يستعار فيوضع موضع التعريف والاختيار الذّواق بالفم ، تقول : ناظر فلانا وذق ما عنده ؛ قال الشاعر : [الطويل]

٣٣٦٥ ـ ومن يذق الدّنيا فإنّي طعمتها

وسيق إلينا عذبها وعذابها (١)

ولباس الجوع والخوف : ما ظهر عليهم من الضمور ، وشحوب اللون ، ونهكة البدن وتغيّر الحال ؛ كما تقول : تعرّفت سوء أثر الخوف والجوع على فلان ، فكذلك يجوز أن تقول : ذقت لباس الجوع والخوف على فلان.

الرابع : أن يحمل لفظ اللباس على المماسّة ، فصار التقدير : فأذاقها الله مساس الجوع والخوف.

ثم قال ـ تعالى ـ : (بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : يريد تكذيبهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإخراجه من مكّة وهمهم بقتله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال الفراء : ولم يقل بما صنعت ، ومثله في القرآن كثير ؛ كقوله : (فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) [الأعراف : ٤] ولم يقل : قائلة.

وتحقيق الكلام : أنه ـ تعالى ـ وصف القرية بأنّها مطمئنّة يأتيها رزقها رغدا فكفرت

__________________

(١) ينظر : الخازن ٤ / ١٢١ ، فتح القدير ٣ / ٢٠٠ ، الرازي ٢٠ / ١٣١.

١٧٤

بأنعم الله ، فكلّ هذه الصّفات وإن أجريت بحسب اللفظ على القرية ، إلا أن المراد في الحقيقة أهل القرية ، فلذلك قال : (بِما كانُوا يَصْنَعُونَ).

قوله : «والخوف» العامة على جرّ «الخوف» نسقا على «الجوع» ، وروي عن أبي عمرو نصبه ، وفيه [أوجه](١) :

أحدها : أنه يعطف على «لباس».

الثاني : أنه يعطف على موضع الجوع ؛ لأنه مفعول في المعنى للمصدر ، التقدير أي : ألبسهم الجوع والخوف ، قاله أبو البقاء.

وهو بعيد ؛ لأن اللباس اسم ما يلبس وهو استعارة بليغة.

الثالث : أن ينتصب بإضمار فعل ؛ قاله أبو الفضل الرّازي.

الرابع : أن يكون على حذف مضاف ، أي : ولباس الخوف ، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، قاله الزمخشري.

ووجه الاستعارة ما قال الزمخشري : «فإن قلت : الإذاقة واللباس استعارتان ، فما وجه صحّتهما والإذاقة المستعارة موقعة على اللباس المستعار فما وجه صحّة إيقاعها عليه؟.

قلت : الإذاقة جرت عندهم مجرى الحقيقة ؛ لشيوعها في البلايا ، والشدائد ، وما يمس الناس منها ، فيقولون : ذاق فلان البؤس والضر وإذاقة العذاب شبّه ما يدرك من أثر الضّرر والألم ، بما يدرك من طعم المرّ والبشع ، وأما اللّباس فقد شبّه به ؛ لاشتماله على اللّابس ما غشي الإنسان ، والتبس به من بعض الحوادث ، وأمّا إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف ، فلأنّه لما وقع عبارة عما يغشى منهما ويلابس ؛ فكأنه قيل : فأذاقهم ما غشيهم من الجوع والخوف ، ولهم في هذا طريقان :

أحدهما : أن ينظروا فيه إلى المستعار له ، كما نظروا إليه ههنا ؛ ونحوه قول كثيرة عزّة : [الكامل]

٣٣٦٦ ـ غمر الرّداء إذا تبسّم ضاحكا

غلقت لضحكته رقاب المال (٢)

استعار الرداء للمعروف ، لأنه يصون عرض صاحبه صون الرّداء لما يلقى عليه ، ووصفه بالغمر الذي هو وصف المعروف والنّوال لا وصف الرداء ؛ نظرا إلى المستعار له.

والثاني : أن ينظر فيه إلى المستعار ؛ كقوله : [الوافر]

__________________

(١) في أ: وجهان.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٣١ ، البيضاوي بهامش زاده ٣ / ٢٠٣ ، شروح التلخيص ٤ / ١٢٩ ، اللسان (ردى) ، معاهد التنصيص ٢ / ١٤٩ ، البحر ٥ / ٥٢٥ التهذيب ٨ / ١٢٨ ، الخصائص ٢ / ١٤٤٥ ، روح المعاني ١٤ / ٢٤٣ ، الدر المصون ٤ / ٣٦٣.

١٧٥

٣٣٦٧ ـ ينازعني ردائي عبد عمرو

رويدك يا أخا عمرو بن بكر

لي الشّطر الذي ملكت يميني

ودونك فاعتجر منه بشطر (١)

أراد بردائه : سيفه ، ثم قال : «فاعتجر منه بشطر» فنظر إلى المستعار في لفظ الاعتجار ، ولو نظر إليه فيما نحن فيه لقال : فكساهم لباس الجوع والخوف ، ولقال كثير : صافي الرّداء إذا تبسّم ضاحكا» انتهى.

وهذا نهاية ما يقال في الاستعارة.

وقال ابن عطية (٢) : لمّا باشرهم ، صار ذلك كاللّباس ؛ وهذا كقول الأعشى : [المتقارب]

٣٣٦٨ ـ إذا ما الضّجيع ثنى جيدها

تثنّت عليه فكانت لباسا (٣)

ومثله قوله ـ تعالى ـ : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) [البقرة : ١٨٧] ؛ ومثله قول الشاعر : [الطويل]

٣٣٦٩ ـ وقد لبست بعد الزّبير مجاشع

لباس الّتي حاضت ولم تغسل الدّما (٤)

كأن العار لما باشرهم ولصق بهم ، كأنهم لبسوه.

وقوله : «فأذاقها» نظير قوله (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان : ٤٩] ؛ ونظيره قول الشاعر : [الرجز]

٣٣٧٠ ـ دونك ما جنيته فاحس وذق (٥)

وفي قراءة عبد (٦) الله : «فأذاقها الله الخوف والجوع» وفي مصحف أبيّ (٧) : «لباس الخوف والجوع».

قوله : (بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) يجوز أن تكون «ما» مصدريّة أو بمعنى الذي ، والعائد محذوف ، أي : بسبب صنعهم ، أو بسبب الذي كانوا يصنعونه.

والواو في «يصنعون» عائدة على «أهل» المقدّر قبل «قرية» ، ونظيره قوله : (أَوْ هُمْ

__________________

(١) ينظر : معاهد التنصيص ٢ / ١٥٠ ، وشروح التلخيص ٤ / ١٢١ والإيضاح : ٣٠١ والبيضاوي ٥٧٢ والكشاف ٢ / ٦٣٩.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٤٢٧.

(٣) تقدم.

(٤) البيت لجرير ينظر : ديوانه ٥٤٦ ، البحر المحيط ٥ / ٥٢٤ والمحرر الوجيز ٣ / ٤٢٧ والدر المصون ٤ / ٣٦٣.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٥٢٤ ، المحرر الوجيز ٣ / ٤٢٧ والدر المصون ٤ / ٣٦٣.

(٦) ينظر : الدر المصون ٤ / ٣٦٣.

(٧) ينظر : البحر ٥ / ٥٢٥ ، والدر المصون ٤ / ٣٦٣.

١٧٦

قائِلُونَ) بعد قوله : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) [الأعراف : ٣ ـ ٤].

قوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ) الآية لما ذكر المثل ذكر الممثل فقال : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ) يعني : أهل مكة ، (رَسُولٌ مِنْهُمْ) ، أي : من أنفسهم يعني : محمّداصلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ) قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ : يعني الجوع.

وقيل : القتل يوم بدر ، والأول أولى ؛ لقوله ـ تعالى ـ بعده : (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) ، أي : إنّ ذلك الجوع بسبب كفرهم ، فاتركوا الكفر حتى تأكلوا.

وقوله : (مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) ، أي من [الغنائم](١) ؛ قاله ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ.

وقال الكلبي : «إن رؤساء مكّة كلّموا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين جهدوا ، وقالوا : عاديت الرّجال ، فما بال النّساء والصّبيان؟ وكانت الميرة قد قطعت عنهم بأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأذن بحمل الطعام إليهم» (٢).

قوله تعالى : (وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ) صرّح هنا بالنّعمة ؛ لتقدم ذكرها مع من كفر بها ، ولم يجىء ذلك في البقرة ، بل قال : (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) [البقرة : ١٧٢] لما تقدّم ذلك ، وتقدّم نظير ما هنا.

قوله تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(١١٧)

قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ) الآية وقد تقدّم الكلام عليها في سورة البقرة ، وحصر المحرّمات في هذه الأشياء الأربعة مذكور عليها في سورة الأنعام ؛ عند قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) [الأنعام : ١٤٥] ، وفي سورة المائدة في قوله: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) [المائدة : ١] ، وأجمعوا على أن المراد بقوله : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) هو قوله ـ تعالى ـ في سورة البقرة : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) [البقرة : ١٧٣] وقوله ـ تعالى ـ : (وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) [المائدة : ٣] فهذه الأشياء داخلة في الميتة. ثم قال ـ تعالى ـ : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) وهذا أحد الأقسام الداخلة تحت قوله (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) ، فثبت أن هذه السّور الأربعة دالّة على حصر المحرّمات ، فيها سورتان مكّيتان ، وسورتان مدنيّتان ، فإن البقرة مدنيّة ، وسورة المائدة

__________________

(١) في أ: الغنيمة.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٠ / ١٠٤).

١٧٧

من آخر ما أنزل الله تعالى بالمدينة ، فمن أنكر حصر التحريم في هذه الأربعة ، إلا ما خصّه الإجماع والدلائل القاطعة كان في محلّ أن يخشى عليه ؛ لأن هذه السورة دلّت على أن حصر المحرّمات في هذه الأربعة كان مشروعا ثابتا في أول زمان مكّة وآخره ، وأول زمان المدينة وآخره وأنه ـ تعالى ـ أعاد هذا البيان في هذه السورة ، قطعا للأعذار وإزالة للرّيبة.

قوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) الآية لما حصر المحرّمات في تلك الأربعة ، بالغ في تأكيد زيادة الحصر ، وزيف طريقة الكفّار في الزّيادة على هذه الأشياء الأربعة تارة ، وفي النّقصان عنها أخرى ؛ فإنّهم كانوا يحرّمون البحيرة والسّائبة والوصيلة والحام ، وكانوا يقولون : (ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا) [الأنعام : ١٣٩] فقد زادوا في المحرّمات وزادوا أيضا في المحلّلات ؛ لأنهم حلّلوا الميتة ، والدّم ، ولحم الخنزير ، وما أهلّ به لغير الله ، فبيّن ـ تعالى ـ أن المحرّمات هذه هي الأربعة ، وبيّن أن الأشياء التي يقولون : هذا حلال وهذا حرام ، كذب وافتراء على الله تعالى ، ثم ذكر الوعيد الشديد على هذا الكذب.

قوله : «الكذب» العامة على فتح الكاف ، وكسر الذّال ، ونصب الباء ، وفيه أربعة أوجه :

أظهرها : أنه منصوب على المفعول به ، وناصبه : «تصف» ، و«ما» مصدرية ويكون معمول القول الجملة من قوله : (هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) ، و«لما تصف» علّة للنّهي عن قول ذلك ، أي : ولا تقولوا : هذا حلال وهذا حرام ؛ لأجل وصف ألسنتكم بالكذب ، وإلى هذا نحا الزجاج [رحمه‌الله تعالى] والكسائي.

والمعنى : لا تحلّلوا ولا تحرّموا لأجل قول تنطق به ألسنتكم من غير حجّة.

فإن قيل : حمل الآية عليه يؤدّي إلى التّكرار ؛ لأن قوله : (لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) عين ذلك.

فالجواب : أن قوله : (لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ) ليس فيه بيان أنه كذب على الله تعالى ، فأعاد قوله : (لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) ليحصل فيه هذا البيان الزّائد ؛ ونظائره في القرآن كثيرة وهو أنه تعالى يذكر كلاما ، ثم يعيده بعينه مع فائدة زائدة.

الثاني : أن ينتصب مفعولا به للقول ، ويكون قوله : «هذا حلال» بدلا من «الكذب» ؛ لأنه عينه ، أو يكون مفعولا بمضمر ، أي : فيقولوا : هذا حلال وهذا حرام ، و«لما تصف» علّة أيضا ، والتقدير : ولا تقولوا الكذب لوصف ألسنتكم ، وهل يجوز أن تكون المسألة من باب التّنازع على هذا الوجه ؛ وذلك أن القول يطلب الكذب ، و«تصف» أيضا يطلبه ، أي : ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم ، وفيه نظر.

الثالث : أن ينتصب على البدل من العائد المحذوف على «ما» ، إذا قلنا : إنّها بمعنى

١٧٨

الذي ، والتقدير : لما تصفه ، ذكر ذلك الحوفي وأبو البقاء رحمهما‌الله تعالى.

الرابع : أن ينتصب بإضمار أعني ؛ ذكره أبو البقاء ، ولا حاجة إليه ولا معنى عليه.

وقرأ (١) الحسن ، وابن يعمر ، وطلحة : «الكذب» بالخفض ، وفيه وجهان :

أحدهما : أنه بدل من الموصول ، أي : ولا تقولوا لوصف ألسنتكم الكذب ، أو للذي تصفه ألسنتكم الكذب ، جعله نفس الكذب ؛ لأنّه هو.

والثاني : ـ ذكره الزمخشري ـ : أن يكون نعتا ل «ما» المصدرية.

ورده أبو حيّان : بأن النّحاة نصّوا على أن المصدر المنسبك من «أن» والفعل لا ينعت ؛ لا يقال : يعجبني أن تخرج السريع ، ولا فرق بين باقي الحروف المصدرية وبين «أن» في النّعت.

وقرأ ابن أبي عبلة ، ومعاذ بن جبل ـ رحمهما‌الله (٢) ـ : بضمّ الكاف والذّال ، ورفع الباء صفة للألسنة ، جمع كذوب ؛ كصبور وصبر ، أو جمع كاذب ، كشارف وشرف ، أو جمع كذّاب ؛ نحو «كتّاب وكتب» ، وقرأ مسلمة (٣) بن محارب فيما نقله ابن عطيّة كذلك ، إلا أنه نصب الباء ، وفيه ثلاثة أوجه ذكرها الزمخشري :

أحدها : أن تكون منصوبة على الشّتم ، يعني : وهي في الأصل نعت للألسنة ؛ كما في القراءة قبلها.

الثاني : أن تكون بمعنى الكلم الكواذب ، يعني : أنها مفعول بها ، والعامل فيها إما «تصف» ، وإمّا القول على ما مرّ ، أي : لا تقولوا الكلم الكواذب أو لما تصف ألسنتكم الكلم الكواذب.

الثالث : أن يكون جمع الكذاب ، من قولك : كذب كذابا ، يعني : فيكون منصوبا على المصدر ؛ لأنه من معنى وصف الألسنة ، فيكون نحو : كتب في جمع كتاب.

وقد قرأ الكسائي (٤) : «ولا كذابا» بالتخفيف ، كما سيأتي في سورة النبأ إن شاء الله ـ تعالى ـ.

واعلم أن قوله : (تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ) من فصيح الكلام وبليغه ، كأن ماهيّة الكذب وحقيقته مجهولة ، وكلامهم الكذب يكشف عن حقيقة الكذب ، ويوضّح ماهيته ، وهذه مبالغة في وصف كلامهم بكونه كذبا ؛ ونظيره قول أبي العلاء المعريّ : [الوافر]

٣٣٧١ ـ سرى برق المعرّة بعد وهن

فبات برامة يصف الكلالا (٥)

__________________

(١) ينظر : الإتحاف ٢ / ١٩٠ ، المحتسب ٢ / ١٢ ، والقرطبي ١٠ / ١٢٨ ، والبحر ٥ / ٥٢٦ والدر المصون ٤ / ٣٦٤.

(٢) ينظر : المحتسب ٢ / ١٢ ، والقرطبي ١٠ / ١٢٨ ، والبحر ٥ / ٢٧ والدر المصون ٤ / ٣٦٤.

(٣) ينظر : البحر ٥ / ٥٢٧ ، والمحرر ٨ / ٥٣٦ ، والدر المصون ٤ / ٣٦٥.

(٤) ينظر : السبعة ٦٦٩ ، الدر المصون ٤ / ٣٦٥.

(٥) ينظر : الرازي ٢٠ / ١٠٦.

١٧٩

المعنى : إذا سرى ذلك البرق يصف الكلال ، فكذا هاهنا.

فصل

وروى الدّارمي بإسناده عن الأعمش قال : «ما سمعت إبراهيم قط يقول : حلالا ولا حراما ، ولكن كان يقول : كانوا يتكرّهون ، وكان يستحبّون» (١) وقال ابن وهب : قال مالك : لم يكن من فتيا النّاس أن يقولوا : هذا حلال وهذا حرام ، ولكن يقولوا : إيّاكم كذا وكذا ، لم أكن لأصنع هذا (٢) ، ومعنى هذا : أن التّحليل والتّحريم إنّما هو لله ـ عزوجل ـ وليس لأحد أن يقول أو يصرّح بهذا في عين من الأعيان ، إلا أن يكون الباري ـ سبحانه وتعالى ـ فيخبر بذلك عنه ، فأما ما يئول إليه اجتهاده ، فإنه يحرم عليه أن يقول ذلك ، بل يقول : إني أكره كما كان مالك ـ رضي الله عنه ـ يفعل.

قوله : «لتفتروا» في هذه اللّام ثلاثة أوجه :

أحدها : قال الواحدي : إنه بدل من «لما تصف» ؛ لأن وصفهم الكذب هو افتراء [على الله].

قال أبو حيّان : «وهو على تقدير جعل «ما» مصدرية ، أما إذا كانت بمعنى الذي ، فاللّام فيها ليست للتّعليل ، فيبدل منها ما يفهم التعليل ، وإنّما اللام في «لما» متعلّقة ب «لا تقولوا» على حدّ تعلقها في قولك : لا تقولوا لما أحل الله هذا حرام ، أي : لا تسمّوا الحلال حراما ، وكما تقول : لا تقل لزيد : عمرو أي : لا تطلق عليه هذا الاسم».

قال شهاب الدين : وهذا وإن كان ظاهرا ، إلا أنه لا يمنع من إرادة التعليل وإن كانت بمعنى الذي.

الثاني : أنها للصّيرورة ؛ إذ لم يفعلوه لذلك الغرض ؛ لأن ذلك الافتراء ما كان غرضا لهم.

والمعنى : أنهم كانوا ينسبون ذلك التحريم والتحليل إلى الله ـ تعالى ـ ويقولون : إن الله أمرنا بذلك.

قال ابن الخطيب : فعلى هذا تكون لام العاقبة ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨].

الثالث : أنها للتعليل الصريح ، ولا يبعد أن يصدر عنهم مثل ذلك. ثم إنّه ـ تعالى ـ أوعد المفترين فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) ثم بيّن أن ما هم فيه من [متاع](٣) الدنيا يزول عنهم عن قرب ، فقال : (مَتاعٌ قَلِيلٌ) قال الزجاج : معناه : متاعهم

__________________

(١) أخرجه الدارمي في «سننه» (١ / ١٦٤) عن الأعمش.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٠ / ١٢٩).

(٣) في ب : نعيم.

١٨٠