اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٢

فأما علم الأصول : فهو بتمامه موجود في القرآن.

وأما علم الفروع : فالأصل براءة الذّمّة ، إلا ما ورد على سبيل التفصيل في هذا الكتاب ، وذلك يدلّ على أنه لا تكليف من الله إلّا ما ورد في هذا القرآن ، وإذا كان كذلك ، كان القول بالقياس باطلا ، وكان القرآن وافيا بتبيان كل الأحكام.

قال الفقهاء : إنّما كان القرآن (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) ، لأنه دلّ على أنّ الإجماع حجّة ، وخبر الواحد ، والقياس حجة ، فإذا ثبت حكم من الأحكام بأحد هذه الأصول ، كان ذلك الحكم ثابتا بالقرآن ، وقد تقدمت هذه المسألة في سورة الأعراف.

قال المفسرون : (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) يحتاج إليه من الأمر ، والنهي ، والحلال ، والحرام ، والحدود ، والأحكام ، (وَهُدىً) من الضّلالة ، «ورحمة» و«بشرى» وبشارة «للمسلمين» ، قوله : «للمسلمين» متعلق ب «بشرى» ، وهو متعلق من حيث المعنى ب (هُدىً وَرَحْمَةً) أيضا.

وفي جواز كون هذا من التنازع ، نظر ، من حيث لزوم الفصل بين المصدر ، ومعموله بالظرف ، حال إعمالك غير الثالث ؛ فتأمّله.

وقياس من جوّز [التنازع] في فعل التعجب ، والتزام إعمال الثاني ؛ لئلّا يلزم الفصل أن يجوز هذا على هذه الحالة.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٩١) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(٩٧)

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) الآية لما شرح الوعد ، والوعيد ، والتّرغيب ، والتّرهيب ، أتبعه بقوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) فجمع في هذه الآية ما

١٤١

يتصل بالتكاليف ؛ فرضا ، ونفلا ، وما يتصل بالأخلاق ، والآداب : عموما وخصوصا.

روى ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : أن عثمان بن مظعون الجمحيّ قال : ما أسلمت أوّلا إلّا حياء من محمد ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ولم يتقرر الإسلام في قلبي فحضرته ذات يوم ، فبينما هو يحدّثني ، إذ رأيت بصره شخص إلى السماء ، ثم خفضه عن يمينه ، ثم عاد لمثل ذلك ؛ فسألته ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فقال : «بينما أنا أحدّثك إذ بجبريل ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ينزل عن يميني ، فقال : يا محمد ، إنّ الله ـ تعالى ـ يأمرك بالعدل : شهادة أن لا إله إلا الله ، والإحسان : القيام بالفرائض ، وإيتاء ذي القربى ، أي : صلة القربى ، وينهى عن الفحشاء : الزّنا ، والمنكر : ما لا يعرف في شريعة ، ولا سنة ، والبغي : الاستطالة». قال عثمان: فوقع الإيمان في قلبي ، فأتيت أبا طالب ؛ فأخبرته ، فقال : يا معشر قريش ، اتّبعوا ابن أخي ؛ ترشدوا ، ولئن كان صادقا أو كاذبا ، فإنه ما يأمركم إلا بمكارم الأخلاق ، فلما رأى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم من عمه اللّين قال : يا عمّاه ، أتأمر الناس أن يتّبعوني ، وتدع نفسك! وجهد عليه ؛ فأبى أن يسلم ؛ فنزل : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ)(١).

وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ «إنّ أجمع آية في القرآن لخير وشرّ هذه الآية» (٢).

وعن قتادة : ليس في القرآن من خلق حسن ، كان في الجاهلية يعمل ، ويستحسن ، إلّا أمر الله ـ تعالى ـ به في هذه الآية ، وليس من خلق سيّىء ، إلّا نهى الله عنه في هذه الآية (٣).

وعن عليّ ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : «أمر الله ـ تعالى ـ نبيّه أن يعرض نفسه على قبائل العرب ؛ فخرج ، وأنا معه وأبو بكر ـ رضي الله عنه ـ فوقفنا على مجلس عليهم الوقار ، فقال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ : ممّن القوم؟ فقالوا : من شيبان ، فدعاهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الشهادتين إلى أن ينصروه ؛ فإنّ قريشا كذّبوه ، فقال مقرون بن عمرو : إلام تدعونا ، أخا قريش؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) الآية فقال

__________________

(١) ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٧ / ٥١) وعزاه إلى أحمد والطبراني وقال : رواه أحمد والطبراني وشهر وثقه أحمد وجماعة وفيه ضعف لا يضر.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٤١) وعزاه إلى أحمد والبخاري في «الأدب» وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٦٣٥) والحاكم (٢ / ٣٥٦) وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٤١) وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور والبخاري في الأدب المفرد ومحمد بن نصر في «الصلاة» وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في «الشعب».

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٦٣٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٤٢) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.

١٤٢

مقرون : دعوت والله ، إلى مكارم [الأخلاق] ومحاسن الأعمال ، ولقد أفك قوم كذّبوك ، وظاهروا عليك» (١).

فصل

قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : العدل : التوحيد ، والإحسان : أداء الفرائض ، وعنه: العدل : الإخلاص في التوحيد ، وهو معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أن تعبد الله كأنّك تراه» وسمّي هذا إحسانا ؛ لأنه محسن إلى نفسه (٢).

وقيل : العدل : في الأفعال ، والإحسان : في الأقوال ؛ فلا تفعل إلّا ما هو عدل ، ولا تقل إلّا ما هو إحسان.

قوله : (وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) مصدر مضاف لمفعوله ، ولم يذكر متعلقات العدل والإحسان والبغي ؛ ليعمّ جميع ما يعدل فيه ، ويحسن به وإليه ويبغي فيه ، ولذلك لم يذكر المفعول الثاني للإيتاء ، ونصّ على الأول حضّا عليه ؛ لإدلائه بالقرابة ، فإنّ إيتاءه صدقة وصلة. قال ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ : «إنّ أعجل الطّاعة ثوابا صلة الرّحم» (٣).

وقوله : (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ) قيل : الزّنا ، وقيل : البخل ، وقيل : كل [ذنب](٤) صغيرة كانت أو كبيرة ، وقيل : ما قبح من القول أو الفعل ، وأما المنكر فقيل : الكفر بالله ، وقيل: ما لا يعرف في شريعة ولا سنة ، والبغي : التّكبر والظّلم.

فصل

قال ابن الخطيب (٥) ـ رحمه‌الله تعالى ـ كلاما حاصله : «إنّ في المأمورات كثرة ، وفي المنهيّات كثرة ، وإنما يحسن في تفسير لفظ بمعنى إذا كان بين ذلك اللفظ والمعنى مناسبة ، وألا يكون ذلك التفسير فاسدا ، فإذا فسّرنا العدل بشيء مثلا ، وجب أن يتبيّن مناسبة العدل لذلك المعنى ، وألّا يكون مجرّد تحكم ، فنقول : إنه ـ تعالى ـ أمر في هذه الآية بثلاثة أشياء ؛ وهي : العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، ونهى عن ثلاثة أشياء ؛ وهي : الفحشاء والمنكر والبغي ، فوجب أن يكون كل ثلاثة منها متغايرة ؛ لأن العطف

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي (٢٠ / ٨١).

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٠ / ٨١).

(٣) أخرجه ابن حبان (٢٠٣٨ ـ موارد) والخرائطي في «مكارم الأخلاق» رقم (٣٥) ، عن أبي بكرة.

(٤) في ب : الذنوب.

وله شاهد من حديث أبي هريرة.

أخرجه الطبري في «الأوسط» كما في «المجمع» (٨ / ١٥٥) وقال الهيثمي : وفيه أبو الدهماء النصري وهو ضعيف جدا.

(٥) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ٨٢.

١٤٣

يوجب المغايرة ، فنقول : العدل عبارة عن الأمور المتوسّطة بين طرفي الإفراط والتّفريط ، وذلك واجب الرّعاية في جميع الأشياء ، فنقول : التّكليف إمّا في الاعتقادات وإما في أعمال الجوارح.

أما الاعتقاد فنذكر منه أمثلة :

أحدها : ما قاله ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : إن العدل هو قولنا : لا إله إلّا الله ، وتحقيقه : أنّ نفي الإله تعطيل محض ، وإثبات أكثر من إله واحد إشراك وتشبيه ، وهما مذمومان ، والعدل هو إثبات إله واحد.

وثانيها : أن القول بأنّ الإله ليس بموجود ولا شيء تعطيل محض ، والقول بأنه جسم مركب ومتحيّز تشبيه محض ، والعدل : إثبات إله واحد موجود منزّه عن الجسميّة والأجزاء والمكان.

وثالثها : أن القول بأنّ الإله غير موصوف بالصّفات من العلم والقدرة تعطيل محضّ ، والقول بأنّ صفاته حادثة متغيّرة تشبيه محض ، والعدل : إثبات أن الإله عالم قادر حيّ ، وأن صفاته ليست محدثة ولا متغيرة ـ سبحانه وتعالى ـ.

ورابعها : أن القول بأنّ العبد ليس له قدرة ولا اختيار جبر محض ، والقول بأن العبد مستقلّ بأفعاله قدر محض ؛ وهما مذمومان ، والعدل أن يقال : إن العبد يفعل الفعل بواسطة قدرة وداعية يخلقهما الله فيه.

وأما رعاية العدل في أفعال الجوارح فنذكر منه أمثلة :

أحدها : قال قوم : لا يجب على العبد شيء من الطّاعات ، ولا يجب عليه الاحتراز عن شيء من المعاصي ، ونفوا التّكاليف أصلا.

وقال المانويّة وقوم من الهند : إنه يجب على الإنسان أن يجتنب الطيّبات ، ويحترز عن كل ما يميل الطّبع إليه ، ويبالغ في تعذيب نفسه ، حتى إن المانويّة يخصّون أنفسهم ويحترزون عن التزوج ، ويحترزون عن أكل الطّعام الطيّب ، والهند يحرقون أنفسهم ، ويرمون أنفسهم من شاهق الجبل ، فهذان الطريقان مذمومان ، والعدل هو شرعنا.

وثانيها : قيل : إنه كان في شرع موسى ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ في القتل العمد استيفاء القصاص لا محالة ، وفي شرع عيسى ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ العفو ، وأمّا في شرعنا: فإن شاء استوفى القصاص ، وإن شاء عفا عن الدّية ، وإن شاء عفا مطلقا.

وقيل : كان في شرع موسى ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ الاحتراز العظيم عن الحائض ؛ حتّى إنّه يجب إخراجها من الدّار ، وفي شرع عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حلّ وطئها ، والعدل ما حكم به شرعنا ؛ وهو تحريم وطئها فقط.

وثالثها : قال ـ تعالى ـ : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣] وقال ـ جل

١٤٤

ذكره ـ : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) [الفرقان : ٦٧] وقال ـ جل ذكره ـ : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) [الإسراء: ٢٩] ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خير الأمور أوسطها».

ورابعها : أن شريعتنا أمرت بالختان ، والحكمة فيه : أن رأس الذّكر جسم شديد الإحساس ، فلو بقيت القلفة ، لبقي العضو على كمال قوّته ، فيعظم الالتذاذ ، أمّا إذا قطعت الجلدة ، بقي العضو عاريا ، فيلقى الثياب وسائر الأجسام ، فيتصلب فيضعف حسّه ويقل شعوره ، فيقلّ الالتذاذ بالوقاع ، فتقلّ الرغبة فيه ، فأمرت الشريعة بالختان ؛ سعيا في تقليل تلك اللذة ، حتّى يصير ميل الإنسان إلى الوقاع معتدلا ، وألّا تصير الرّغبة فيه داعية غالبة على الطّبع.

فالذي ذهب إليه المانويّة من الإخصاء وقطع الآلات مذموم ؛ لأنه إفراط ، وإبقاء تلك الجلدة مبالغة في تقوية تلك اللذة ، والعدل الوسط هو الختان.

واعلم أن الزّيادة على العدل قد تكون إحسانا ، وقد تكون إساءة ؛ فالعدل في الطاعات هو أداء الواجبات ، والزيادة على الواجبات طاعات ، فهي من جملة الإحسان ؛ ولهذا قال ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لجبريل ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ حين سأله عن الإحسان : «أن تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك».

وسمّي هذا المعنى بالإحسان ؛ لأنه بالمبالغة في الطاعة ، كأنه يحسن إلى نفسه بإيصال الخير والفعل الحسن ، ويدخل في الإحسان التعظيم لأمر الله ، والشّفقة على خلق الله ، ويدخل في الشّفقة على خلق الله أقسام كثيرة ، وأعظمها : صلة الرحم ؛ فلهذا أفرده ـ تعالى ـ بالذّكر ، فقال ـ تعالى ـ : (وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) وأما الثّلاثة التي نهى الله عنها ؛ وهي : «الفحشاء والمنكر والبغي» فنقول : إنه ـ تعالى ـ أودع في النّفس البشرية قوى أربعة ؛ وهي : الشّهوانيّة البهيميّة ، والغضبيّة السبعيّة ، والوهميّة الشيطانيّة ، والعقليّة الملكية.

فالعقلية الملكيّة لا يحتاج الإنسان إلى تهذيبها ؛ لأنه من جوهر الملائكة.

وأما القوّة الشهوانية فرغبتها في تحصيل اللذّات الشهوانية ، وهذا النّوع مخصوص بالفحشاء ، ألا ترى أنه ـ تعالى ـ سمى الزنا فاحشة ؛ فقال ـ جل ذكره ـ : (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً) [الإسراء : ٣٢] ، وقوله ـ تعالى ـ : (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ) المراد منه : المنع من تحصيل اللذات الشهوانيّة.

وأما القوّة الغضبية السبعية : فهي أبدا تسعى في إيصال الشرور والأذى إلى سائر النّاس ، وهذا ممّا ينكره الناس ، فالمنكر عبارة عن الإفراط الحاصل من آثار القوّة الغضبيّة.

وأما القوّة الوهميّة الشيطانية : فهي أبدا تسعى في الاستعلاء على الناس ، والترفع

١٤٥

وإظهار الرّئاسة والتكبّر ، وذلك هو المراد من البغي ؛ فإنه لا معنى للبغي إلا التّطاول على الناس والترفّع عليهم.

قوله : «يعظكم» يجوز أن يكون مستأنفا في قوّة التعليل للأمر بما تقدم ، أي : أن الوعظ سبب في أمره لكم بذلك ، وجوّز أبو البقاء أن يكون حالا من الضمير في «ينهى».

وفي تخصيصه الحال بهذا الفاعل فقط نظر ؛ إذ يظهر جعله حالا من فاعل «يأمر» أيضا ، بل أولى ؛ فإنّ الوعظ يكون بالأوامر والنّواهي ، فلا خصوصية له بالنّهي.

ثم قال تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) قال الكعبي : دلّت الآية على أنّه ـ تعالى ـ لا يخلق الجور والفحشاء من وجوه :

الأول : أنه ـ تعالى ـ كيف ينهاهم عما يخترعه فيهم ، وكيف ينهى ويريد تحصيله فيهم؟ ولو كان الأمر ما قالوه ، لكان كأنّه ـ تعالى ـ قال : إنّما يأمركم بخلاف ما خلقه فيكم ، وينهاكم عن أفعال خلقها فيكم ، وذلك باطل في بديهة العقل.

الثاني : أنه ـ تعالى ـ أمر بالعدل ، والإحسان ، وإيتاء ذي القربى ، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، فلو أنّه ـ تعالى ـ أمر بتلك الثلاثة ، ثم إنّه ـ تعالى ـ ما فعلها ، لدخل تحت قوله ـ تعالى ـ : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٤٤] ، وقوله ـ عزوجل ـ : (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) [الصف : ٢ ، ٣].

الثالث : أن قوله ـ تعالى ـ : (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ليس المراد منه الترجّي والتّمني ؛ فإن ذلك محال على الله ـ تعالى ـ ، فوجب أن يكون معناه : أنه ـ تعالى ـ يعظكم لإرادة أن يذكروا طاعته ، وذلك يدلّ على أنه يريد الإيمان من الكلّ.

الرابع : أنه ـ تعالى ـ لو صرّح وقال : إنّ الله يأمر بالعدل ، والإحسان ، وإيتاء ذي القربى ، ولكنّه يمنع منه ويصدّ عنه ، ولا يمكن العبد منه ، ثم قال ـ تعالى ـ : (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) ، ولكنّه يوجد كل هذه الثلاثة في العبد شاء أم أبى ، وأراده منه ومنعه من تركه ، ومن الاحتراز عنه ؛ لحكم كل واحد عليه بالرّكاكة وفساد النظم والتركيب ، وذلك يدلّ على كونه ـ تعالى ـ منزّها عن فعل القبائح. والمعتمد في الجواب مسألة العلم والدّاعي.

فصل

اتّفق المتكلّمون من أهل السنّة ومن المعتزلة على أن تذكّر الأشياء من فعل الله ـ تعالى ـ لا من فعل العبد ؛ لأنّ التذكّر عبارة عن طلب المتذكر ، فحال الطّلب إمّا أن يكون لديه شعور أو لا يكون ؛ فإن كان له شعور به ، فذلك الذّكر حاصل ، والحاصل لا يطلب تحصيله ، وإن لم يكن له به شعور ، فكيف يطلبه بعينه ؛ لأنّ توجيه الطلب إليه بعينه حال ما لا يكون بعينه متصورا محال.

١٤٦

إذا ثبت هذا ، فقوله : (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) معناه : أن المقصود من هذا الوعظ أن يقدموا على تحصيل ذلك التذكّر ، فإذا لم يكن التذكر فعلا له ، فكيف طلب منه تحصيله؟ وهذا هو الذي يحتجّ به أهل السنّة على أنّ قوله : (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) لا يدلّ على أنه ـ تعالى ـ يريد ذلك منه.

قوله ـ تعالى ـ : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ) الآية لما جمع المأمورات والمنهيّات في الآية الأولى على سبيل الإجمال ، ذكر في هذه الآية بعض تلك الأقسام ، فبدأ بذكر الوفاء بالعهد.

قال الزمخشري : عهد الله : هي البيعة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الإسلام ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠] ، (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها) وقيل : كل عهد يلتزمه الإنسان باختياره. قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ : والوعد من العهد (١).

وقال ميمون بن مهران : من عاهدته ، أوف بعهده مسلما كان أو كافرا ، فإنّما وفاء العهد لله ـ تعالى ـ (٢).

وقال الأصم : المراد منه الجهاد ، وما فرض الله في الأموال من حق ، وقيل : عهد الله هو اليمين بالله.

قال الشعبي : العهد يمين الله ، وكفّارته كفارة يمين ، وإنما يجب الوفاء باليمين إذا لم يكن الصلاح في خلافه (٣) ؛ لقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الّذي هو خير وليكفر عن يمينه» (٤).

واعلم أن قوله ـ تعالى ـ : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ) يجب أن يكون مختصّا بالعهود التي يلتزمها الإنسان باختيار نفسه ، ويؤيّده قوله ـ عزوجل ـ بعد ذلك : (وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً) ، وأيضا : يجب ألا يحمل العهد على اليمين ؛ لأنّا لو حملناه على اليمين ، لكان قوله بعد ذلك : (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها) تكرار ؛ لأنّ الوفاء بالعهد والمنع من النقض متقاربان ؛ لأن الأمر بالفعل يستلزم النّهي عن التّرك ؛ إلّا إذا قلنا : إن الوفاء بالعهد عامّ يدخل تحته اليمين ، ثم إنّه ـ تعالى ـ خصّ اليمين بالذّكر ؛ تنبيها على أنّه أولى أنواع العهد على ما تقدّم ، يلتزمه الإنسان باختياره ، ويدخل فيه عهد الجهاد ، وعهد الوفاء بالملتزمات من المنذورات والمؤكدات بالحلف.

قوله : (بَعْدَ تَوْكِيدِها) متعلق بفعل النّهي ، والتّوكيد مصدر وكّد يوكّد بالواو وفيه لغة أخرى : أكّد يؤكّد بالهمز ، ومعناه : التقوية ؛ وهذا كقولهم : أرّخت الكتاب وورّخته ،

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٠ / ٨٦).

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٨٦).

(٤) تقدم.

١٤٧

وليست الهمزة بدلا من واو كما زعم أبو إسحاق ؛ لأن الاستعمالين في المادّتين متساويان ، فليس ادّعاء كون أحدهما أصلا أولى من الآخر ، وتبع مكي الزجاج ـ رحمهما‌الله تعالى ـ في ذلك ، ثم قال : «ولا يحسن أن يقال : الواو بدل من الهمزة ، كما لا يحسن أن يقال ذلك في «أحد» ، إذ أصله «وحد» فالهمزة بدل من الواو» يعني : أنه لا قائل [بالعكس](١).

وكذلك تبعه في ذلك الزمخشري أيضا ، و«توكيدها» مصدر مضاف لمفعوله ، وأدغم أبو عمرو الدّال في التّاء ، ولا ثاني له في القرآن ، أعني : أنه لم يدغم دال مفتوحة بعد ساكن إلّا في هذا الحرف.

قوله تعالى : (وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ) الجملة حال : إمّا من فاعل «تنقضوا» ، وإمّا من فاعل المصدر وإن كان محذوفا.

فصل

المعنى : ولا تنقضوا الأيمان بعد تشديدها فتحنثوا فيها ، و (وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً) : شهيدا عليكم بالوفاء.

(إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) قالت الحنفيّة : يمين اللّغو هي يمين الغموس ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها) فنهى عن نقض الأيمان فوجب أن يكون كل يمين قابلا للبر والحنث ، ويمين الغموس غير قابلة للبر والحنث ، فوجب ألا يكون من الأيمان.

وقال غيرهم : هي قول الإنسان في معرض حديثه : لا والله ، وبلى والله ؛ لأن قوله ـ تعالى ـ (بَعْدَ تَوْكِيدِها) إنما تقال للفرق بين الأيمان المؤكّدة بالعزم وبالعقد ، وبين غيرها.

واعلم أن قوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها) عامّ دخله التخصيص ؛ لما تقدّم من قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها ، فليأت الّذي هو خير وليكفر عن يمينه».

ثم إنه ـ تعالى ـ ضرب مثلا لنقض العهد ، فقال ـ جل ذكره ـ : (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ) ، أي : من بعد إبرامه وإحكامه.

قال الكلبيّ ومقاتل ـ رحمهما‌الله تعالى ـ : هي امرأة خرقاء حمقاء من قريش ، يقال لها : ريطة بنت عمرو بن سعد بن كعب بن زيد مناة بن تميم ، وتلقب ب «جعراء» ، وكانت بها وسوسة وكانت اتخذت مغزلا بقدر ذراع ، وصنّارة مثل الأصبع ، وفلكة عظيمة

__________________

(١) في ب : بذلك.

١٤٨

على قدرها ، وكانت تغزل الغزل من الصوف أو الشعر والوبر هي وجواريها ، فكنّ يغزلن إلى نصف النّهار ، فإذا انتصف النّهار ، أمرتهنّ بنقض جميع ما غزلن ، فكان هذا دأبها (١).

والمعنى : أنّها لم تكفّ عن العمل ؛ ولا حين عملت كفّت عن النقض ، فكذلك أنتم إذا نقضتم العهد لا كفّيتم عن العهد ، ولا حين [عهدتم](٢) وفيتم به.

وقيل : المراد بالمثل : الوصف دون التّعيين ؛ لأن القصد بالأمثال صرف المكلّف عن الفعل إذا كان قبيحا ، والدّعاء إليه إذا كان حسنا ، وذلك يتم دون التّعيين.

قوله تعالى : «أنكاثا» فيه وجهان :

أظهرهما : أنه حال من «غزلها» ، والأنكاث : جمع نكث بمعنى منكوث ، أي : منقوض.

والثاني : أنه مفعول ثان لتضمين «نقضت» معنى صيّرت ؛ كما تقول : فرقته أجزاء.

وجوّز الزجاج (٣) فيه وجها ثالثا ، وهو النصب على المصدرية ؛ لأنّ معنى نكثت : نقضت ، ومعنى نقضت : نكثت ؛ فهو ملاق لعامله في المعنى.

قيل : وهذا غلط منه ؛ لأنّ الأنكاث جمع نكث ، وهو اسم لا مصدر ، فكيف يكون قوله : «أنكاثا» بمعنى المصدر؟.

والأنكاث : الأنقاض ، واحدها نكث ؛ وهو ما نقض بعد الفتل غزلا كان أو حبلا.

فصل

قال ابن قتيبة : هذه الآية متّصلة بما قبلها ، والتقدير : وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ، فإنّكم إن فعلتم ذلك ، كنتم مثل امرأة غزلت غزلا وأحكمته ، فلما استحكم ، نقضته فجعلته أنكاثا.

قوله تعالى : (تَتَّخِذُونَ) يجوز أن يكون الجملة حالا من واو «تكونوا» ، أو من الضمير المستتر في الجارّ ؛ إذ المعنى : تكونوا مشبهين كذا حال كونكم متّخذين ، وهذا استفهام على سبيل الإنكار.

قوله : (دَخَلاً بَيْنَكُمْ) هو المفعول الثاني ل «تتّخذون» ، والدّخل : الفساد والدّغل.

وقيل : «دخلا» مفعول من أجله ، وقيل : الدّخل : الدّاخل في الشيء ليس منه.

قال الواحدي ـ رحمه‌الله تعالى ـ : «الدّخل والدّغل : الغشّ والخيانة».

وقيل : الدّخل : ما أدخل في الشيء على فساد ، وقيل : الدّخل والدّغل : أن يظهر الوفاء به ويبطن الغدر والنقض.

__________________

(١) ينظر : البغوي (٣ / ٨٦).

(٢) في أ: عملتم.

(٣) ينظر : معاني القرآن للزجاج ٣ / ٢١٧.

١٤٩

وقوله تعالى : (أَنْ تَكُونَ) أي : بسبب أن تكون ، أو مخافة أن تكون ، و«تكون» يجوز أن تكون تامة ؛ فتكون «أمّة» فاعلها ، وأن تكون ناقصة ، فتكون «أمّة» اسمها وهي مبتدأ ، و«أربى» خبره ، والجملة في محلّ نصب على الحال على الوجه الأول ، وفي موضع الجر على الوجه الثاني ، وجوّز الكوفيون أن تكون «أمّة» اسمها ، و«هي» عماد ، أي : ضمير فصل ، و«أربى» خبر «تكون» ، والبصريّون لا يجيزون ذلك ؛ لأجل تنكير الاسم ، فلو كان الاسم معرفة ، لجاز ذلك عندهم.

فصل

قال مجاهد ـ رحمه‌الله ـ : كانوا يحالفون الحلفاء ، فإذا وجدوا قوما أكثر منهم وأعزّ ، نقضوا حلف هؤلاء ، وحالفوا الأكثر ، فالمعنى : طلبتم العز بنقض العهد ؛ بأن كانت أمة أكثر من أمة ، فنهاهم الله ـ تعالى ـ عن ذلك (١).

ومعنى «أربى من أمّة» أي : أزيد في العدد ، والقوّة ، والشّرف.

ثم قال ـ جل ذكره ـ : (إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ) ، أي يختبركم الله بأمره إيّاكم بالوفاء بالعهد.

والضمير في «به» يجوز أن يعود على المصدر المنسبك من «أن تكون» ، تقديره : إنّما يبلوكم الله بكون أمّة ، أي : يختبركم بذلك.

وقيل : يعود على الرّبا المدلول عليه بقوله : «هي أربى».

وقيل : على الكثرة ؛ لأنّها في معنى الكثير.

قال ابن الأنباري رحمه‌الله تعالى : لما كان تأنيثها غير حقيقي ، حملت على معنى التّذكير ؛ كما حملت الصّيحة على الصّياح ولم يتقدم للكثرة للفظ ، وإنما هي مدلول عليها بالمعنى من قوله تعالى: (هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ).

ثم قال : (وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) في الدّنيا ، فيميّز المحقّ من المبطل.

قوله ـ تعالى ـ : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) الآية لما أمر القوم بالوفاء بالعهد وتحريم نقضه ، أتبعه ببيان أنه ـ تعالى ـ قادر على أن يجمعهم على هذا الوفاء ، وعلى سائر أبواب الإيمان ، ولكنّه ـ سبحانه وتعالى جل ذكره ـ بحكم الألوهية يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء.

والمعتزلة حملوا ذلك على الإلجاء ، أي : لو أراد أن يلجئهم إلى الإيمان أو إلى

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٦٣٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٤٣) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.

١٥٠

الكفر ، لقدر عليه ، إلّا أنّ ذلك يبطل التّكليف ، فلا جرم ما ألجأهم إليه ، وفوّض الأمر إلى اختيارهم ، وقد تقدّم البحث في ذلك.

وروى الواحدي رحمه‌الله : أنّ عزيرا قال : ربّ ، خلقت الخلق فتضلّ من تشاء وتهدي من تشاء ، فقال : يا عزير ، أعرض عن هذا ، فأعاده ثانيا ، فقال : يا عزير أعرض عن هذا ، فأعاده ثالثا ، فقال : أعرض عن هذا وإلا محوت اسمك من [ديوان](١) النبوّة.

قالت المعتزلة (٢) : ومما يدلّ على أن المراد من هذه المشيئة مشيئته الإلجاء أنه ـ تعالى ـ قال بعده : (وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فلو كانت أعمال العباد بخلق الله ـ تعالى ـ ، لكان سؤالهم عنها عبثا ، وتقدّم جوابه.

قوله ـ تعالى ـ : (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ) الآية لمّا حذّر في الآية الأولى عن نقض العهود والأيمان مطلقا ، قال في هذه الآية : (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ) وليس المراد منه التّحذير عن نقض مطلق الأيمان ، وإلّا لزم التكرار الخالي عن الفائدة في موضع واحد ، بل المراد نهي أولئك الأقوام المخاطبين بهذا الخطاب عن بعض أيمان مخصوصة أو أقدموا عليها.

فلهذا قال المفسرون : المراد : نهي الذين بايعوا الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ عن نقض عهده ؛ لأن قوله : (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها) لا يليق بنقض عهد قبله ، وإنما يليق بنقض عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الإيمان به وبشرائعه.

وقوله ـ تعالى ـ : فنزل (قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها) منصوب بإضمار «أن» على جواب النهي.

وهذا مثل يذكر لكل من وقع في بلاء بعد عافية ، أو سقط في ورطة بعد سلامة ، أو محنة بعد نعمة.

قوله : (بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) «ما» مصدرية ، و«صددتّم» يجوز أن يكون من الصّدود ، وأن يكون من الصدّ ، ومفعوله محذوف ، ونكّرت «قدم» ؛ قال الزمخشري «فإن قلت : لم وحّدث القدم ونكّرت؟.

قلت : لاستعظام أن تزلّ قدم واحدة عن طريق الحقّ بعد أن ثبتت عليه ، فكيف بأقدام كثيرة؟».

قال أبو حيّان (٣) : «الجمع تارة يلحظ فيه المجموع من حيث هو مجموع ، وتارة يلحظ فيه اعتبار كل فرد فرد ، فإذا لوحظ فيه المجموع ، كان الإسناد معتبرا فيه الجمعيّة ، وإذا لو حظ فيه كل فرد فرد ، فإنّ الإسناد مطابق للفظ الجمع كثيرا ، فيجمع ما أسند إليه ، ومطابق لكل فرد فرد فيفرد ؛ كقوله : (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ) [يوسف : ٣١] لما كان

__________________

(١) زيادة من : أ.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ٨٨.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٥١٥.

١٥١

لوحظ في قوله : «لهنّ» معنى لكل واحدة ، ولو جاء مرادا به الجمعيّة أو على الكثير في الوجه الثاني ، لجمع المتّكأ ؛ وعلى هذا يحمل قول الشاعر : [الطويل]

٣٣٥٩ ـ فإنّي رأيت الضّامرين متاعهم

يموت ويفنى فارضخي من وعائيا (١)

أي : رأيت كلّ ضامر ، ولذلك أفرد الضمير في «يموت ويفنى» ، ولمّا كان المعنى : لا يتخذ كل واحد منكم جاء «فتزلّ قدم» مراعاة لهذا المعنى.

ثم قال : (وَتَذُوقُوا السُّوءَ) مراعاة للمجموع أو للفظ الجمع على الوجه الكثير ، إذا قلنا : إنّ الإسناد لكل فرد فرد ، فتكون الآية قد تعرّضت للنّهي عن اتّخاذ الأيمان دخلا باعتبار المجموع ، وباعتبار كل فرد فرد ، ودلّ على ذلك بإفراد «قدم» وبجمع الضمير في «وتذوقوا».

قال شهاب الدّين (٢) ـ رضي الله عنه ـ : وبهذا التقدير الذي ذكره أبو حيان يفوت المعنى الجزل الذي اقتنصه الزمخشري من تنكير «قدم» وإفرادها ، وأمّا البيت المذكور ، فإن النحويين خرّجوه على أن المعنى : يموت من ثم ومن ذكر ، وأفرد الضمير لذلك لا لما ذكر.

فصل

المعنى : وتذوقوا العذاب بصدّكم عن سبيل الله ، وقيل : معناه : سهّلتم نقض العهد على النّاس بنقضكم العهد ، (وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) ، أي : ذلك السوء الذي تذوقونه (عَذابٌ عَظِيمٌ).

ثم أكّد هذا التّحذير فقال ـ جل ذكره ـ : (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) أي : لا تنقضوا عهودكم تطلبون بنقضها عرضا قليلا من الدنيا ، ولكن أوفوا بها فإنّ ما عند الله من الثّواب لكم على الوفاء (هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) فضل ما بين العوضين.

ثم ذكر الدّليل القاطع على أنّ ما عند الله خير فقال : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) ، أي الدنيا وما فيها تفنى ، (وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) فقوله : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ) مبتدأ وخبر ، والنّفاد : الفناء والذهاب ، يقال : «نفد» بكسر العين «ينفد» بفتحها نفادا ونفودا ، وأما نفذ بالذّال المعجمة ففعله نفذ بالفتح ينفذ بالضمّ ، وسيأتي.

ويقال : أنفد القوم إذا فني زادهم ، وخصم منافد لينفد حجة صاحبه ، يقال : نافدته فنفدته.

وقوله : «باق» تقدّم الكلام عليه في الوقف في سورة الرعد ، وهذه الآية حجة عليه.

__________________

(١) ينسب البيت إلى منظور الدبيري ، ويروى :

فإني رأيت الباخلين متاعهم

يذم ويفنى فارضخي من وعائيا

ينظر : اللسان (حظل) ، أمالي المرتضى ٢ / ١٥٩ ، الدر اللقيط ٥ / ٥٣٢ ، البحر المحيط ٥ / ٥١٦ ، الألوسي ١٤ / ٢٢٤ ، الدر المصون ٤ / ٣٥٦.

(٢) ينظر : الدر المصون ٤ / ٣٥٧.

١٥٢

قوله تعالى : (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا) قرأ ابن كثير (١) ، وعاصم وابن ذكوان : «ولنجزينّ» بنون العظمة التفاتا من الغيبة إلى التكلّم ، وتقدم تقرير الالتفات.

والباقون بياء الغيبة رجوعا إلى الله ـ تعالى ـ ؛ لتقدم ذكره العزيز في قوله : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ).

قوله : (بِأَحْسَنِ ما كانُوا) يجوز أن يكون [«أفعل»](٢) على بابها من التفضيل ، وإذا جازاهم بالأحسن ، فلأن يجازيهم بالحسن أولى.

وقيل : ليست للتّفضيل ، وكأنهم فرّوا من مفهوم أفعل ؛ إذ لا يلزم من المجازاة بالأحسن المجازاة بالحسن ، وهو وهم ، لما تقدّم من أنّه من مفهوم الموافقة بطريق الأولى ، والمعنى : ولنجزين الذين صبروا على الوفاء في السّراء والضّراء (بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

ثم إنه رغّب المؤمنين في الإتيان بكلّ ما كان من شرائع الإسلام ؛ فقال تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) وفيه سؤال : وهو أن لفظة «من» في قوله : «من عمل» تفيد العموم ، فما الفائدة في ذكر الذّكر والأنثى؟.

والجواب : أن هذه الآية للوعد بالخيرات ، والمبالغة في تقرير الوعد من أعظم دلائل الكرم والرّحمة ، فأتى بذكر الذّكر والأنثى للتأكيد ، وإزالة الوهم بالتخصيص.

قوله : «من ذكر» «من» للبيان ، فتتعلق بمحذوف ، أعني : من ذكر ، ويجوز أن يكون حالا من فاعل «عمل» ، وقوله : (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) جملة حاليّة أيضا.

وهذه الآية تدلّ على أن الإيمان مغاير للعمل الصالح ؛ لأنه ـ تعالى ـ جعل الإيمان شرطا في كون العمل الصّالح موجبا للثّواب ، وشرط الشيء مغاير لذلك الشيء.

فإن قيل : ظاهر الآية يقتضي أنّ الإتيان بالعمل الصّالح إنما يفيد الأثر بشرط الإيمان ، وظاهر قوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) [الزلزلة : ٧] يدل على أن العمل الصالح يفيد الأثر سواء كان مع الإيمان أو عدمه.

فالجواب : أن إفادة العمل الصالح للحياة الطيبة مشروط بالإيمان ، أمّا إفادته لأثر غير هذه الحياة الطيبة وهو تخفيف العذاب ؛ فإنّه لا يتوقف على الإيمان.

فصل

قال سعيد بن جبير ـ رحمه‌الله ـ وعطاء : «الحياة الطّيّبة : هي الرّزق الحلال» (٣)

__________________

(١) ينظر : السبعة ٣٧٥ ، والحجة ٣٩٣ ، والحجة للقراء السبعة للفارسي ٥ / ٧٨ والقرطبي ١٠ / ١١٤ ، والدر المصون ٤ / ٣٥٧.

(٢) في ب : أحسن.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٦٤١) عن ابن عباس والضحاك وذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٨٣) ـ

١٥٣

وقال الحسن : هي القناعة (١) ، وقال مجاهد وقتادة : هي الجنّة (٢).

قال القاضي : الأقرب أنها تحصل في الدنيا ؛ لقوله تعالى : (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) والمراد : ما [لا](٣) يكون في الآخرة.

قوله : «ولنجزينّهم» راعى معنى «من» ، فجمع الضمير بعد أن راعى لفظها ، فأفرد في «لنحيينه» وما قبله ، وقرأ العامة : «ولنجزينه» بنون العظمة ؛ مراعاة لما قبله ، وقرأ ابن عامر في رواية بياء الغيبة ، وهذا ينبغي أن يكون على إضمار قسم ثان ، فيكون من عطف جملة قسميّة على جملة قسمية مثلها ، حذفتا وبقي جوابهما ، ولا جائز أن يكون من عطف جواب على جواب ؛ لإفضائه إلى [إخبار](٤) المتكلّم عن نفسه إخبار الغائب ، ولا يجوز ؛ لو قلت : «زيد قال : والله لأضربن هندا ولينفينّها زيد» لم يجز ، فإن أضمرت قسما آخر ، جاز ، أي : وقال : والله لينفينّها فإن لك في مثل هذا التركيب أن تحكي لفظه ، ومنه (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى) [التوبة : ١٠٧] وأن يحكي معناه ، ومنه (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا) [التوبة : ٧٤] ولو جاء على اللفظ ، لقيل ما قلنا.

قوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥) مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي

__________________

ـ عن سعيد بن جبير وعطاء وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٤٤) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٦٤٢).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٦٤٢) وذكره البغوي (٣ / ٨٤).

(٣) زيادة من : أ.

(٤) في ب : جواب.

١٥٤

الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(١١١)

قوله ـ تعالى ـ : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) الآية لما قال ـ تعالى ـ : (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ، أرشد إلى العمل الذي به يخلّص أعماله من الوساوس ، فقال ـ جل ذكره ـ : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) أي : فإذا أردت ، فأضمر الإرادة.

قال الزمخشري : «لأنّ الفعل يوجد عند القصد والإرادة من غير فاصل ، وعلى حسبه ، فكان منه بسبب قويّ وملابسة ظاهرة».

وقال ابن عطيّة (١) : «فإذا» وصلة بين الكلامين ، والعرب تستعملها في هذا ، وتقدير الآية : فإذا أخذت في قراءة القرآن ، فاستعذ».

وهذا مذهب الجمهور من القرّاء والعلماء ، وقد أخذ بظاهر الآية ـ فاستعاذ بعد أن قرأ ـ من الصحابة ـ أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ ، ومن الأئمة : مالك وابن سيرين وداود ، ومن القرّاء حمزة ـ رضي الله عنهم ؛ قالوا : لأنّ الفاء في قوله : (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) للتعقيب ، والفائدة فيه : أنه إذا قرأ القرآن يستحقّ به ثوابا عظيما ، فإذا لم يأت بالاستعاذة ، وقعت الوسوسة في قلبه ، وذلك الوسواس يحبط ثواب القراءة ، فإذا استعاذ بعد القراءة ، اندفعت تلك الوساوس ، وبقي الثّواب مصونا عن الانحطاط.

وذهب الأكثرون : إلى أنّ الاستعاذة مقدمة على القراءة ، والمعنى : إذا أردت أن تقرأ القرآن ، فاستعذ ؛ كقوله : إذا أكلت ، فقل : بسم الله ، وإذا سافرت ، فتأهّب ، وقوله ـ تعالى ـ : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) [المائدة : ٦] ، وأيضا : قد ثبت أن الشّيطان ألقى الوسوسة في أثناء قراءة الرّسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ؛ بدليل قوله ـ عزوجل ـ : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) [الحج : ٥٢] ، ومن الظاهر أنه ـ تعالى ـ إنما أمر الرّسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بالاستعاذة عند القراءة ؛ لدفع تلك الوساوس ، وهذا المقصود إنّما يحصل عند تقديم الاستعاذة.

وذهب عطاء إلى أنّ الاستعاذة واجبة عند قراءة القرآن ، كانت في الصّلاة أو غيرها.

ولا خلاف بين العلماء في أن التّعوذ قبل القراءة في الصّلاة أوكد.

واعلم أنّ هذا الخطاب للرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ، والمراد منه الكلّ ؛ لأن الرّسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ إذا كان محتاجا للاستعاذة عند القراءة ، فغيره أولى ، والمراد بالشيطان في هذه الآية : قيل : إبليس ، وقيل : الجنس ؛ لأنّ جميع المردة لهم حظّ في الوسوسة.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٤٢٠.

١٥٥

ولما أمر رسوله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بالاستعاذة من الشيطان ، وكان ذلك يوهم أنّ للشيطان قدرة على التصرّف في أبدان النّاس ، فأزال الله تعالى هذا الوهم وبيّن أنّه لا قدرة له ألبتّة على الوسوسة ؛ فقال ـ تعالى ـ : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) ويظهر من هذا أنّ الاستعاذة إنما تفيد إذا حضر في قلب الإنسان كونه ضعيفا ، وأنّه لا يمكنه التحفّظ عن وسوسة الشيطان إلا بعصمة الله ـ تعالى ـ ، ولهذا المعنى قال المحقّقون : لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله تعالى ، ولا قوّة على طاعة الله إلا بتوفيق الله ، والتّفويض الحاصل على هذا الوجه هو المراد من قوله : (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) ، والاستعاذة بالله هي الاعتصام به.

ثم قال : (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : «يطيعونه ، يقال : توليته ، أي : أطعته ، وتولّيت عنه ، أي : أعرضت عنه.

قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) الضمير في «به» الظاهر عوده على الشيطان ، لتتحد الضمائر ، والمعنى : والذين هم به مشركون بسببه ؛ كما تقول للرجل إذا تكلّم بكلمة مؤدّية إلى الكفر : كفرت بهذه الكلمة ، أي : من أجلها ؛ فكذلك قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) والمعنى : من أجل حمله إيّاهم على الشّرك صاروا مشركين.

وقيل : والذين هم بإشراكهم إبليس مشركون بالله ، ويجوز أن يعود على «ربّهم».

قوله : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) اعلم أنه ـ سبحانه جل ذكره ـ شرع في حكاية شبهات منكري نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : كان المشركون إذا نزلت آية فيها شدّة ، ثم نزلت آية ألين منها يقولون : إن محمّدا يسخر بأصحابه ؛ يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غدا ، ما هو إلا مفتر يتقوّله من تلقاء نفسه ، فأنزل الله ـ تعالى ـ : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ)(١) والتّبديل : رفع الشيء مع وضع غيره مكانه ، وهو هنا النسخ.

قوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما) ينزك في هذه الجملة وجهان :

أظهرهما : أنها اعتراض بين الشرط وجوابه.

والثاني : أنّها حاليّة ؛ فعلى الأول يكون المعنى : والله أعلم بما ينزّل من الناسخ والمنسوخ ، والتغليظ والتخفيف ، أي : هو أعلم بجميع ذلك في مصالح العباد ، وهذا توبيخ للكفار على قولهم: (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) ، أي : إذا كان هو أعلم بما ينزّل ، فما بالهم ينسبون محمدا إلى الافتراء ؛ لأجل التّبديل والنسخ ، وقوله : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي : لا يعلمون حقيقة القرآن ، وفائدة النسخ والتبديل ، وأن ذلك لمصالح العباد ، وقولهم : (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) نسبوا إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الافتراء بأنواع من المبالغات وهي الحصر

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٠ / ٩٣).

١٥٦

والخطاب ، واسم الفاعل الدال على الثّبوت والاستقرار ، ومفعول (لا يَعْلَمُونَ) محذوف للعلم به ، أي : لا يعلمون أنّ في نسخ الشّرائع وبعض القرآن حكما بالغة.

قوله : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ) تقدّم تفسيره في البقرة.

قال الزمخشري (١) رحمه‌الله : «روح القدس : جبريل ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ أضيف إلى القدس وهو الطّهر ؛ كما تقول : حاتم الجود ، وزيد الخير ، والمراد : الرّوح المقدس (٢) ، وحاتم الجواد ، وزيد الخيّر».

و«من» في قوله : (مِنْ رَبِّكَ) صلة للقرآن ، أي أن جبريل نزّل القرآن من ربك ؛ ليثبّت الذين آمنوا ، أي : ليبلوهم بالنسخ ، حتّى إذا قالوا فيه : هو الحقّ من ربّنا ، حكم لهم بثبات القدم في الدّين ، وصحّة اليقين بأن الله حكيم فلا يفعل إلا ما هو حكمة وصواب.

قوله تعالى : (وَهُدىً وَبُشْرى) يجوز أن يكون عطفا على محلّ «ليثبّت» فينصبان ، أو على لفظه باعتبار المصدر المؤوّل ؛ فيجران ، والتقدير : تثبيتا لهم ، وإرشادا وبشارة ، وقد تقدم كلام الزمخشري في نظيرهما وما ردّ به أبو حيّان عليه وجوابه.

وجوّز أبو البقاء ارتفاعهما خبر مبتدإ محذوف ، أي : وهو هدى ، والجملة حال. وقرىء(٣): «ليثبت» مخففا من «أثبت».

فصل

قد تقدّم أن أبا مسلم الأصفهاني ينكر النسخ في هذه الشريعة ، فقال : المراد ههنا : وإذا بدّلنا آية مكان آية ، أي : في الكتب المتقدمة ؛ مثل آية تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ، قال المشركون : أنت مفتر في هذا التبديل ، وأكثر المفسرين على خلافه ، وقالوا : إن النسخ واقع في هذه الشريعة.

فصل

قال الشافعي ـ رضي الله عنه ـ : القرآن لا ينسخ بالسنة ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) وهذا يقتضي أن الآية لا تنسخ إلا بآية أخرى ، وهذا ضعيف ؛ لأن هذه الآية تدلّ على أنّه ـ تعالى ـ يبدّل آية بآية أخرى ، ولا دلالة فيها على أنه ـ تعالى ـ لا يبدّل آية إلا بآية ، وأيضا : فجبريل ـ عليه‌السلام ـ قد ينزل بالسنة كما ينزل بالآية.

قوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) الآية هذه حكاية شبهة أخرى من شبهات منكري نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وذلك لأنهم كانوا يقولون : إن محمّدا ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ إنّما يذكر هذه القصص ، وهذه الكلمات إنما يستفيدها من إنسان آخر ويتعلمّها منه.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٦٣٤.

(٢) في أ: المقدس.

(٣) نسبها ابن خالويه في الشواذ ٧٤ إلى أبي حيوة ، ينظر : البحر ٥ / ٥١٨ والدر المصون ٤ / ٣٥٩ ،

١٥٧

واختلفوا في ذلك البشر : فقال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلّم فتى بمكة اسمه «بلعام» ، وكان نصرانيّا أعجمي اللسان يقال له : أبو ميسرة ، وكان يتكلم بالروميّة ، فكان المشركون يرون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدخل عليه ويخرج ، فكانوا يقولون : إنما يعلمه «بلعام» (١).

وقال عكرمة : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقرىء غلاما لبني المغيرة ، يقال له : «يعيش» ، وكان يقرأ الكتب ، فقالت قريش : إنما يعلمه «يعيش» (٢).

وقال الفراء : كان اسمه «عائش» مملوك لحويطب بن عبد العزى ، وكان قد أسلم وحسن إسلامه ، وكان أعجميّا ، وقيل : اسمه «عدّاس» غلام «عتبة بن ربيعة».

وقال ابن إسحاق : كان رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ كثيرا ما يجلس عند المروة إلى غلام روميّ نصراني عبد لبني الحضرمي ، يقال له : «جبر» ، وكان يقرأ الكتب ، وقال عبد الله بن مسلم الحضرمي : كان لنا عبدان من أهل عين التّمر ، يقال لهما : يسار ويكنى : أبا فكيهة ، وجبر ، وكانا يصنعان السيوف بمكّة ، وكانا يقرآن التوراة والإنجيل ، فربما مر بهما النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهما يقرآن ، فيقف ويسمع (٣).

قال الضحاك : وكان ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ إذا آذاه الكفّار يقعد إليهما ، فيستروح بكلامهما ، فقال المشركون : إنما يتعلّم محمد منهما فنزلت الآية (٤).

وقيل : سلمان الفارسي رضي الله عنه ، فكذبهم الله ـ تعالى ـ بقوله : (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ).

قوله تعالى : (لِسانُ الَّذِي) العامة على إضافة «لسان» إلى ما بعده ، والمراد باللسان هنا : القرآن ، والعرب تقول للغة : لسان.

وقرأ الحسن (٥) ـ رضي الله عنه ـ : اللّسان معرفا ب «أل» ، و«الّذي» نعت له وفي هذه الجملة وجهان :

أحدهما : لا محلّ لها ؛ لاستئنافها ، قاله الزمخشري.

والثاني : أنّها حال من فاعل «يقولون» ، أي : يقولون ذلك والحال هذه ؛ أي : علمهم بأعجميّة هذا البشر ، وإبانة عربيّة هذا القرآن كان ينبغي أن يمنعهم من تلك

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٦٤٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٤٧) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه وقال : بسند ضعيف.

(٢) أخرجه الطبري (٧ / ٦٤٨) وذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٨٥).

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٨٥).

(٤) ينظر : المصدر السابق.

(٥) ينظر : المحتسب ٢ / ١٢ ، والشواذ ٧٤ ، والبحر ٥ / ٥١٩ ، والدر المصون ٤ / ٣٥٩.

١٥٨

المقالة ؛ كقولك : تشتم فلانا وهو قد أحسن إليك ، أي : وعلمك بإحسانه إليك كان يمنعك من شتمه ، قاله أبو حيّان (١) رحمه‌الله.

ثم قال : «وإنّما ذهب الزمخشري (٢) إلى الاستئناف لا إلى الحال ؛ لأن من مذهبه أنّ مجيء الحال جملة اسميّة من غير واو شاذّ ، وهو مذهب مرجوح تبع فيه الفراء».

و«أعجميّ» خبر على كلتا القراءتين ، والإلحاد في اللغة : الميل ، يقال : لحد وألحد ؛ إذا مال عن القصد ، ومنه يقال للعادل عن الحقّ : ملحد.

وقرأ (٣) حمزة والكسائي : «يلحدون» بفتح الياء والحاء ، والباقون بضم الياء وكسر الحاء.

قال الواحدي ـ رحمه‌الله ـ : والأولى ضم الياء ؛ لأنه لغة القرآن ، ويدلّ عليه قوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ) [الحج : ٢٥] وتقدّم خلاف القراء في المفتوح في الأعراف.

والإلحاد قد يكون بمعنى الإمالة ؛ ومنه يقال : ألحدت له لحدا ؛ إذا حفرت له في جانب القبر مائلا عن الاستواء ، وقبر ملحد وملحود ، ومنه الملحد ؛ لأنه أمال مذهبه عن الأديان كلّها ، لم يمله عن دين إلى دين ، وفسّر الإلحاد في هذه الآية بالقولين.

قال الفراء : يميلون من الميل. وقال الزجاج : يميلون من الإمالة ، أي : لسان الذي يميلون القول إليه أعجمي.

والأعجمي : قال أبو الفتح الموصلي : «تركيب» «ع ج م» وضع في كلام العرب للإبهام والإخفاء ، وضدّه البيان والإيضاح ؛ ومنه قولهم : رجل أعجم وامرأة عجماء ؛ إذا كانا لا يفصحان ، والأعجمي : من لم يتكلم بالعربيّة. وقال الراغب : العجم خلاف العرب ، والعجم منسوب إليهم ، والأعجم : من في لسانه عجمه عربيّا كان أو غير عربي ؛ اعتبارا بقلّة فهمه من العجمة.

والأعجمي منسوب إليه ، ومنه قيل للبهيمة : عجماء ؛ لأنها لا تفصح عما في نفسها ، وصلوات النّهار عجماء ، أي : لا يجهر فيها ، والعجم : النّوى لاختفائه.

قال بعضهم : معناه أن الحروف المجرّدة لا تدلّ على ما تدلّ عليه الموصولة وأعجمت الكتاب ضد أعربته ، وأعجمته : أزلت عجمته ؛ كأشكيته : أزلت شكايته.

قال الفراء وأحمد بن يحيى : الأعجم : هو الذي في لسانه عجمة ، وإن كان من العرب ، والأعجمي والعجمي : الذي أصله من العجم قال أبو علي الفارسي : الذي لا

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٥١٩.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٦٣٥.

(٣) ينظر : الإتحاف ٢ / ١٨٩ ، الحجة ٣٩٤ ، والحجة للقراء السبعة للفارسي ٥ / ٧٨ ، والبحر ٥ / ٥١٩.

١٥٩

يفصح سواء كان من العرب أو من العجم ؛ ألا ترى أنهم قالوا : زياد الأعجم ؛ لأنه كانت في لسانه عجمة مع أنّه كان عربيّا؟ وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى في «الشعراء» ، و«حم السجدة».

وقال بعضهم : العجمي منسوب إلى العجم وإن كان فصيحا ، والعربي منسوب إلى العرب وإن لم يكن فصيحا.

فصل

المعنى : إنّ لسان الذي ينسبون التعلّم منه أعجمي ، وهذا القرآن عربي فصيح ، فتقرير هذا الجواب كأنه قال : هب أنه يتعلّم المعاني من ذلك الأعجمي ، إلا أنّ القرآن إنّما كان معجزا لما في ألفاظه من الفصاحة ، فبتقدير أن تكونوا صادقين في أن محمّدا ـ عليه الصلاة والسلام ـ يتعلم تلك المعاني من ذلك الرجل ، إلا أن ذلك لا يقدح في المقصود ؛ لأن القرآن إنما كان معجزا لفصاحته اللفظيّة.

ولما ذكر ـ تعالى ـ هذا الجواب ، أردفه بالتهديد ؛ فقال ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ) قال القاضي : لا يهديهم إلى طريق الجنّة لقوله بعده : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : أنهم لما تركوا الإيمان بالله ، لا يهديهم الله إلى الجنّة ، بل يسوقهم إلى النّار ، ثم إنه ـ تعالى ـ بين كونهم كاذبين في ذلك القول ، فقال ـ تعالى ـ : (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) والمقصود منه أنه ـ تعالى ـ بيّن في الآية السابقة أن الذي قالوه بتقدير أن يصح لم يقدح في المقصود ، ثم بين في هذه الآية أن الذي قالوه لم يصحّ ، وهم كذبوا فيه ، والدليل على كذبهم وجوه :

أحدها : أنهم لا يؤمنون بآيات الله تعالى وهم كافرون ، وإذا كان الأمر كذلك ، كانوا أعداء للرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وكلام العدو ضرب من الهذيان ولا شهادة لمتّهم.

وثانيها : أن التعلّم لا يتأتّى في جلسه واحدة ولايتم بالخفية ، بل التعلّم إنما يتمّ إذا اختلف المتعلّم إلى المعلّم أزمنة متطاولة ، وإذا كان كذلك ، اشتهر فيما بين [الخلق](١) أن محمدا ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ يتعلم العلوم من فلان ومن فلان.

وثالثها : أن العلوم الموجودة في القرآن كثيرة ، وتعلّمها لا يتأتى إلا إذا كان المعلم في غاية الفضل والتحقيق ، فلو حصل فيهم إنسان بلغ في العلم والتحقيق إلى هذا الحد ، لكان مشارا إليه بالأصابع في التحقيق والتدقيق في الدنيا ، فكيف يمكن تحصيل هذه العلوم العالية الشريفة والمباحث النفيسة من عند فلان وفلان؟.

وإذا كان الأمر كذلك ، فالطّعن في نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأمثال هذه الكلمات الرّكيكة يدلّ

__________________

(١) في ب : الناس.

١٦٠