اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٢

قال أبو حيّان : أما قوله : «باتّفاق» إن عنى به من البصريين ، فصحيح ، وإن عنى به من النّحويين ، فليس بصحيح ؛ إذ قد ذهب بعضهم إلى أنّه وإن أضيف لا يعمل ، فإن وجد بعده منصوب أو مرفوع قدّر له عاملا ، وأما قوله : «في تقدير الانفصال» فليس كذلك ، إلا أن تكون إضافته غير محضة ؛ كما قال به ابن الطراوة وابن برهان ، ومذهبهما فاسد ؛ لأن هذا المصدر قد نعت وأكد بالمعرفة ، وقوله : «لا يعمل ... إلى آخره» ناقضه بقوله : «وقد جاء عاملا ... إلى آخره».

قال شهاب الدّين (١) : فغاية ما في هذا أنّه نحا إلى أقوال قال بها غيره ، وأمّا المناقضة ، فليست صحيحة ؛ لأنّه عنى أولا أنّه لا يعمل في السّعة ، وثانيا أنه قد جاء عاملا في الضرورة ، ولذلك قيّده فقال : «في قول الشّاعر».

قوله : «شيئا» فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه منصوب على المصدر ، أي : لا يملك لهم ملكا ، أي : شيئا من الملك.

والثاني : أنه بدل من «رزقا» أي : لا يملك لهم رزقا شيئا ، وهذا غير مقيّد ؛ إذ من المعلوم أن الرزق شيء من الأشياء ، ويؤيّد ذلك أن البدل يأتي لأحد معنيين : البيان أو التّأكيد ، وهذا ليس فيه بيان ؛ لأنه أعمّ ، ولا تأكيد.

الثالث : أنه منصوب ب «رزقا» على أنه اسم مصدر ، واسم المصدر يعمل عمل المصدر ، على خلاف في ذلك.

ونقل مكّي : أن اسم المصدر لايعمل عند البصريين إلا في شعر ، وقد اختلف النقلة عن البصريّين ؛ فمنهم من نقل المنع ، ومنهم من نقل الجواز.

وقد ذكر الفارسي انتصابه ب «رزقا» كما تقدّم.

ورد عليه ابن الطّراوة : بأن الرّزق اسم المرزوق ، كالرّعي ، والطحن. وردّ على ابن الطراوة ؛ بأنّ الرزق بالكسر أيضا مصدر ، وقد سمع فيه ذلك ، وظاهر هذا أنه مصدر بنفسه لا اسم مصدر.

قوله تعالى : (وَلا يَسْتَطِيعُونَ) يجوز في الجملة وجهان :

العطف على صلة «ما» ، والإخبار عنهم بنفي الاستطاعة على سبيل الاستئناف ، ويكون قد جمع الضمير العائد على «ما» باعتبار معناها ؛ إذ المراد بذلك آلهتهم.

ويجوز أن يكون الضمير عائدا على العابدين.

فإن قيل : قال ـ تعالى ـ : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ) فعبّر عن الأصنام بصيغة «ما» وهي لغير العاقل ، ثم جمع بالواو والنون فقال : (وَلا يَسْتَطِيعُونَ) ، وهو مختص بأولي العلم.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٤ / ٣٤٨.

١٢١

فالجواب : أنه عبّر عنها بلفظ «ما» اعتبارا باعتقادهم أنّها آلهة ، والفائدة في قوله : (وَلا يَسْتَطِيعُونَ) أنّ من لا يملك شيئا قد يوصف باستطاعته أن يمتلكه بطريق من الطرق ، فبيّن ـ تعالى ـ أنّ هذه الأصنام لا تملك وليس لها استطاعة تحصيل الملك.

ثم قال ـ تعالى ـ : (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) يعني : الأشباه فتشبهونه بخلقه وتجعلون له شريكا ؛ فإنه واحد لا مثل له ـ سبحانه وتعالى ـ.

ثم قال : (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) يعني : أن الله يعلم ما عليكم من العقاب العظيم ، وأنتم لا تعلمون خطأ ما تضربون من الأمثال ، وحذف مفعول العلم اختصارا أو اقتصارا.

قوله تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٧٥) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٧٧)

ثم ضرب مثلا للمؤمن والكافر ؛ فقال ـ تعالى ـ : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) ، هذا مثل الكافر رزقه الله مالا فلم يقدم فيه خيرا.

قوله : (وَمَنْ رَزَقْناهُ) يجوز في «من» هذه أن تكون موصولة ، وأن تكون موصوفة ، واختاره الزمخشري رحمه‌الله ، قال : «كأنه قيل : وحرّا رزقناه ليطابق عبدا» ومحلها النصب على «عبدا» ، وقد تقدّم الكلام [إبراهيم : ٢٤] في المثل الواقع بعد «ضرب».

وقوله : (سِرًّا وَجَهْراً) يجوز أن يكون منصوبا على المصدر ، أي : إنفاق سرّ وجهر ، ويجوز أن يكون حالا.

وهذا مثل المؤمن من أعطاه الله مالا ، فعمل فيه بطاعة الله وأنفقه في رضاه سرّا وجهرا ، فأثابه الله عليه الجنّة.

قوله تعالى : (هَلْ يَسْتَوُونَ) إنّما جميع الضمير وإن تقدّمه اثنان ؛ لأنّ المراد : جنس العبيد والأحرار المدلول عليها ب «عبدا» وب (مَنْ رَزَقْناهُ).

وقيل : على الأغنياء والفقراء المدلول عليهما بهما أيضا ، وقيل : اعتبارا بمعنى «من» فإنّ معناها جمع فراعى معناها بعد أن راعى لفظها.

فصل

قيل : المراد بقوله : (عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) هو الصّنم ؛ لأنّه عبد بدليل

١٢٢

قوله : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) [مريم : ٩٣] وهو مملوك لا يقدر على شيء ، والمراد بقوله : (وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً) : عابد الصّنم ؛ لأن الله ـ تعالى ـ رزقه المال ، فهو ينفق منه على نفسه وعلى أتباعه سرّا وجهرا فهما لا يتساويان في بديهة العقل ، بل صريح العقل شاهد بأن عابد الصّنم أفضل من الصّنم ، فكيف يجوز الحكم بأنه مساو لربّ العالمين في المعبوديّة؟.

وقيل : المراد بالعبد : المملوك عبد معيّن ، قيل : أبو جهل ، وب (مَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً) أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ.

وقيل : عامّ في كل عبد بهذه الصفة ، وفي كل حرّ بهذه الصفة.

فصل

دلّت هذه الآية على أن العبد لا يملك شيئا.

فإن قيل : دلّت الآية على أنّ عبدا من العبيد لا يقدر على شيء ، فلم قلتم : إن كل عبد كذلك؟.

فالجواب : أنه ثبت في أصول الفقه : أن الحكم المذكور عقيب الوصف المناسب يدلّ على كون ذلك الوصف علّة لذلك الحكم ، وكونه عبدا وصف مشعر بالذلّ والمقهورية وقوله : (لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) حكم مذكور عقيبه ، وهذا يقتضي أنّ العلّة لعدم القدرة على شيء ، هو كونه عبدا ، وأيضا قال بعده : (وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً) [فميز هذا القسم الثاني عن القسم الأول ، وهو العبد بهذه الصفة ، وهو أنه رزقه رزقا حسنا](١) فوجب ألا يحصل هذا الوصف للعبد ، حتّى يحصل الامتياز بين الثاني وبين الأوّل ، ولو ملك العبد ، لكان الله قد آتاه رزقا حسنا ؛ لأن الملك الحلال رزق حسن. ثم اختلفوا ؛ فروي عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ وغيره التشدد في ذلك ، حتى قال : لا يملك الطّلاق أيضا.

وأكثر الفقهاء على أنّه يملك الطلاق ، واختلفوا في أنّ المالك إذا ملكه شيئا ، هل يملكه أم لا؟ وظاهر الآية ينفيه.

فإن قيل : لم قال : (عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) وكل عبد فهو مملوك وغير قادر على التصرّف؟.

فالجواب : ذكر المملوك ليحصل الامتياز بينه وبين الحرّ ؛ لأنّ الحر قد يقال : إنه عبد الله ، وأما قوله : (لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) للتّمييز بينه وبين المكاتب والعبد المأذون ؛ لأنهما يقدران على التصرّف.

قوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ) قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ : على ما فعل بأوليائه وأنعم عليهم بالتّوحيد (٢).

__________________

(١) سقط من : ب.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٠ / ٦٦).

١٢٣

وقيل : المعنى أنّ الحمد كلّه لله ، وليس شيء من الحمد للأصنام ؛ لأنها لا نعمة لها على أحد.

وقوله عزوجل ـ : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي : أنهم لا يعلمون أنّ كل الحمد لي ، وليس شيء منه للأصنام.

وقال القاضي ـ رحمه‌الله ـ : قال للرّسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) [النمل : ٥٩].

وقيل : هذا خطاب لمن رزقه الله رزقا حسنا أن يقول : الحمد لله على أن ميّزه في هذه القدرة على ذلك العبد الضعيف.

وقيل : لما ذكر هذا المثل مطابقا للغرض (١) كاشفا عن المقصود ، قال بعده : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) يعني : الحمد لله على قوّة هذه الحجّة وظهور هذه البيّنة.

ثم قال : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ، أي : أنّها مع غاية ظهورها ونهاية وضوحها ، لا يعلمونها هؤلاء الجهّال.

قوله ـ تعالى ـ : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ) الآية وهذا مثل ثان لإبطال قول عبدة الأصنام ؛ وتقريره : أنّه لما تقرّر في أوائل العقول أنّ الأبكم العاجز لا يساوي في الفضل والشّرف النّاطق القادر الكامل مع استوائهما في البشرية فلأن يحكم بأنّ الجماد لا يكون مساويا لربّ العالمين في المعبوديّة أولى.

قال الواحدي : قال أبو زيد : الأبكم هو العييّ المفحم ، وقد بكم بكما وبكامة وقال أيضا : الأبكم : الأقطع اللسان ، وهو الذي لا يحسن الكلام.

روى ثعلب عن ابن الأعرابي : الأبكم الذي لا يعقل. وقال الزجاج : الأبكم المطبق الذي لا يسمع ولا يبصر.

ثم قال : (لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) إشارة إلى العجز التّام والنّقصان الكامل.

وقوله : (كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ) الكلّ الثّقيل ، والكلّ العيال ، والجمع : كلول ، والكلّ : من لا ولد له ولا والد ، والكلّ أيضا : اليتيم. سمّي بذلك ؛ لثقله على كافله ؛ قال الشاعر : [الطويل]

٣٣٤٩ ـ أكول لمال الكلّ قبل شبابه

إذا كان عظم الكلّ غير شديد (٢)

قال أهل المعاني : «أصل الكلّ من الغلظ الذي هو نقيض الحدّة ، يقال كلّ السّكين : إذا غلظت شفرته فلم تقطع ، وكلّ اللسان : إذا غلظ فلم يقدر على الكلام ، وكلّ

__________________

(١) في ب : للآخر.

(٢) ينظر : اللسان والتاج (كلل) ، التهذيب (كلّ) ، الألوسي ١٤ / ١٩٧ ، المحرر ٤ / ٧٠١ ، الدر المصون ٤ / ٣٤٩. البحر ٥ / ٥٠٢.

١٢٤

فلان عن الأمر : إذا ثقل عليه فلم ينبعث فيه ، فمعنى (كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ) ، أي : غليظ وثقيل على مولاه أهل ولايته».

قوله : (أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ) شرط وجزاؤه ، وقرأ ابن مسعود (١) ، وابن وثّاب ، وعلقمة : «يوجّه» بهاء واحدة ساكنة للجزم ، وفي فاعله وجهان :

أحدهما : ضمير الباري ـ تعالى ـ ، ومفعوله محذوف ؛ [تقديره كقراءة العامة](٢).

والثاني : أنه ضمير الأبكم ، ويكون «يوجّه» لازما بمعنى «يتوجّه».

يقال : وجّه وتوجّه بمعنى ، وقرأ علقمة أيضا وطلحة كذلك ، إلّا أنه بضم (٣) الهاء ، وفيها أوجه :

أحدها : أنّ «أينما» ليست هنا شرطيّة ، و«يوجّه» خبر مبتدأ مضمر ، أي : أينما هو يوجه ، أي : الله ـ تعالى ـ ، والمفعول محذوف ، وحذفت الياء من قوله : «لا يأت» تخفيفا ؛ كما حذفت في قوله : (يَوْمَ يَأْتِ) [هود : ١٠٥] و (إِذا يَسْرِ) [الفجر : ٤].

والثاني : أن لام الكلمة حذفت تخفيفا لأجل التضعيف ، وهذه الهاء هي الضمير ، فلم يحلها جزم ، ذكر هذين الوجهين أبو الفضل الرّازي.

الثالث : أن «أينما» أهملت حملا على «إذا» ؛ لما بينهما من الأخوّة في الشرط ؛ كما حملت «إذا» عليها في الجزم في بعض المواضع ، وحذفت الياء من «يأت» تخفيفا أو جزم على التوهّم ، ويكون «يوجّه» لازما بمعنى : «يتوجّه» كما تقدّم.

وقرأ (٤) عبد الله أيضا : «توجّهه» بهاءين بتاء الخطاب ، وقال أبو حاتم ـ وقد حكى هذه القراءة ـ : «إنّ هذه القراءة ضعيفة ؛ لأن الجزم لازم» وكأنه لم يعرف توجيهها ، وقرأ علقمة وطلحة أيضا : «يوجّه» بهاء واحدة ساكنة للجزم ، والفعل مبني للمفعول ؛ وهي واضحة.

وقرأ ابن (٥) مسعود أيضا : «توجّهه» كالعامة إلا أنه بتاء الخطاب ، وفيه التفات ، وفي الكلام حذف وهو حذف المقابل ؛ لقوله : (أَحَدُهُما أَبْكَمُ) كأنه قيل : والآخر ناطق متصرف في ماله ، وهو خفيف على مولاه (أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ) ، ودلّ على ذلك (هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ).

ونقل أبو البقاء ـ رحمه‌الله ـ أنه قرىء (٦) : «أينما توجّه» بالتّاء وفتح الجيم والهاء فعلا ماضيا فاعله ضمير الأبكم.

__________________

(١) ينظر : المحتسب ٢ / ١١ ، والشواذ ٧٣ ، والبحر ٥ / ٥٠٤ ، والدر المصون ٤ / ٣٥٠.

(٢) في ب : لدلالة المعنى عليه.

(٣) ينظر : البحر ٥ / ٥٠٤ ، والدر المصون ٤ / ٣٥٠.

(٤) ينظر : القرطبي ١٠ / ٩٩ ، والدر المصون ٤ / ٣٥٠ ، وقد تقدمت قراءة عبد الله بن مسعود في أول الآية يوصّه.

(٥) ينظر : السابق.

(٦) ينظر : الدر المصون ٤ / ٣٥٠.

١٢٥

قوله : (وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) الرّاجح أن يكون مرفوعا ؛ عطفا على الضمير المرفوع في «يستوي» ، وسوّغه الفصل بالضمير ، والنصب على المعيّة مرجوح ، والجملة من قوله : (وَهُوَ عَلى صِراطٍ) إمّا استئناف أو حال.

فصل

لمّا وصف الله أحد الرّجلين بهذه الصّفات الأربع ، وهذه صفات الأصنام وهو أنّه أبكم لا يقدر على شيء ، أي : عاجز كلّ على مولاه ، ثقيل ، أينما يرسله لايأت بخير ؛ لأن أبكم لا يفهم ، قال : هل يستوي هذا الموصوف بهذه الصفات الأربع ، وهذه صفات الأصنام لا تسمع ولا تعقل ولا تنطق ، وهو كلّ على عابده يحتاج إلى أن يحمله ويخدمه ويضعه ، (هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) يعني : الله قادر متكلّم يأمر بالتّوحيد ، (وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

قال الكلبي : يدلكم على صراط مستقيم.

وقيل : هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل : كلا المثلين للمؤمن والكافر ، يرويه عطيّة عن ابن عباس رضي الله عنه.

قال عطاء : الأبكم : أبيّ بن خلف ، (وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) : حمزة ، وعثمان بن عفان وعثمان بن مظعون ـ رضي الله عنهم (١) ـ.

وقال مقاتل : نزلت في هاشم بن عمرو بن الحارث بن ربيعة القرشي ، وكان قليل الخير ، يعادي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢).

وقيل : نزلت في عثمان بن عفّان ومولاه ، كان مولاه يكره الإسلام (٣).

وقيل : المراد كل عبد موصوف بهذه الصفات الذّميمة ، وكل حرّ موصوف بتلك الصفات الحميدة ، وهذا أولى من القول الأول ؛ لأن وصفه ـ تعالى ـ إياهما بكونهما رجلين يمنع من حمل ذلك على الوثن ، وكذلك وصف الآخر بأنه على صراط مستقيم يمنع من حمله على الله ـ تعالى ـ

قوله ـ تعالى ـ : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآية لما مثّل الكافر بالأبكم العاجز ، ومثّل نفسه بالذي يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ، ومعلوم أنه لا يكون آمرا بالعدل وهو على صراط مستقيم إلّا إذا كان كاملا في العلم والقدرة فذكر في هذه الآية بيان كونه كاملا في العلم والقدرة.

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٧٨).

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) هو مروي عن ابن عباس ذكره الماوردي في «تفسيره» (٣ / ٢٠٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٣٥ ـ ٢٣٦) وعزاه إلى ابن سعد وابن أبي شيبة والبخاري في «تاريخه» وابن أبي حاتم وابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس.

١٢٦

أمّا بيان كمال العلم ، فقوله ـ تعالى ـ : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أفاد الحصر بأنّ العلم بهذه الغيوب ليس إلا لله ـ تعالى ـ.

وأما بيان كمال القدرة ، فقوله ـ عزوجل ـ : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ) والسّاعة : هي الوقت الذي تقوم فيه القيامة ، سمّيت ساعة ؛ لأنّها تفجأ الإنسان في ساعة يموت الخلق كلهم بصيحة واحدة أي إذا قال له : (كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨٢] والمراد ب «لمح البصر» : طرفة العين وهو النظر بسرعة ، يقال : لمحه ببصره لمحا ولمحانا ، وقيل : أصله من لمحان البرق ، وقولهم : لأرينّك لمحا باصرا ، أي : أمرا واضحا ، والمراد بيان كمال القدرة.

وقوله : (أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) ليس المراد منه الشّك ، بل المراد : بل هو أقرب.

قال الزجاج : المراد به : الإبهام على المخاطبين أنه ـ تعالى ـ يأتي بالسّاعة إما بقدر لمح البصر ، أو بما هو أسرع ؛ لأنّ لمح البّصر عبارة عن انتقال الطّرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها ، والحدقة مركبة من أجزاء لا تتجزّأ ، فلمح البصر عبارة عن المرور على جملة أجزاء الحدقة ، ولا شكّ أنّ تلك الأجزاء كثيرة ، والزّمان الذي يحصل فيه لمح البصر مركب من أزمان متعاقبة ، والله ـ تعالى ـ قادر على إقامة القيامة في زمان واحد من تلك الأزمان ؛ فلهذا قال ـ تعالى ـ : (أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) تنبيها على ذلك ، فقوله : (أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) ، أي : أمره ، فالضمير للأمر ، والتقدير : أو أمر الساعة أقرب من لمح البصر.

(إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) نزلت في الكفّار الذين استعجلوا القيامة استهزاء.

قوله تعالى : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ)(٨٣)

قوله ـ تعالى ـ : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) لما بين كمال القدرة والعلم ، عاد إلى الدلائل الدالة على وجود الصانع المختار ، فقال : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ).

قرأ حمزة (١) والكسائي : «إمّهاتكم» بكسر الهمزة ، والباقون بضمّها ، وأصل

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٠ / ١٠٠ ، والبحر المحيط ٥ / ٥٠٥.

١٢٧

«أمّهاتكم» : إمّاتكم ، إلا أنه زيدت الهاء فيه كما زيدت في «أراق» فقيل : أهراق ، وشدّت زيادتها في الواحدة في قوله : [الرجز]

٣٣٥٠ ـ أمّهتي خندف والياس أبي (١)

والجملة من قوله : (لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) حال من مفعول «أخرجكم» غير عالمين و«شيئا» إمّا مصدر ، شيئا ، من العلم ، وإمّا مفعول به والعلم هنا العرفان ، وتقدّم الكلام في «أمّهاتكم» في النّساء.

فصل

خلق الإنسان في مبدأ الفطرة خاليا عن معرفة الأشياء.

ثم قال ـ تعالى ـ : (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) والمعنى : أن النّفس الإنسانية كانت في أول الخلقة خالية عن المعارف والعلوم ثم إن الله تعالى أعطاها هذه الحواس ؛ لتستفيد بها المعارف والعلوم ، وتحقيق الكلام فيه أن يقال : التّصوّرات والتّصديقات إمّا أن تكون كسبيّة أو بديهيّة ؛ والكسبيّة لا يمكن حصولها إلا بواسطة تركيبات البديهيّات ، فلا بد من سبق العلوم البديهيّة.

فإن قيل : هذه العلوم البديهيّة إمّا أن يقال : كانت حاصلة منذ خلقنا ، أو ما كانت حاصلة ؛ والأول باطل ؛ لأنا بالضرورة نعلم أنّا حين كنّا جنينا في رحم الأمّ ما كنّا نعرف أن النّفي والإثبات لا يجتمعان ، وما كنّا نعرف أن الكلّ أعظم من الجزء.

وأما القسم الثاني : فإنه يقتضي أن هذه العلوم البديهية حصلت في نفوسنا بعد أنّها ما كانت حاصلة ، وحينئذ لا يمكن حصولها إلا بكسب وطلب ، وكلّ ما كان كسبا فهو مسبوق بعلوم أخرى إلى غير نهاية ، وذلك محال.

فالجواب : أن هذه العلوم البديهيّة ما كانت حاصلة في نفوسنا أولا ، ثم إنها حدثت ، وحصلت ، أما قوله : فيلزم أن تكون كسبية ، فهذه المقدمة ممنوعة ، بل نقول : إنها إنما حدثت في نفوسنا بعد عدمها ، بواسطة إعانة الحواسّ التي هي السّمع والبصر ، فإن النفس كانت في مبدأ الخلقة خالية عن جميع العلوم ، إلا أنّه تعالى خلق السمع والبصر فإذا أبصر الطفل شيئا أو سمعه مرة بعد أخرى ، ارتسم في خياله ماهيّة ذلك المبصر والمسموع ؛ وكذلك القول في سائر الحواسّ ، فيصير حصول الحواسّ سببا لحضور ماهيّات المحسوسات في النّفس والعقل.

__________________

(١) البيت لقصي بن كلاب وتمامه : عند تناديهم بهال وهبي. ينظر : جمهرة اللغة ٣ / ٢٦٧ ، شواهد العيني ٤ / ٥٦٥ ، الخزانة ٣ / ٣٠٦ ، اللسان (أمم) ، الأمالي ٢ / ٣٠١ ، المحتسب ٢ / ٢٢٤ ، الممتع ١ / ٢١٧ ، سر صناعة الإعراب ٢ / ٥٦٤ ، الرازي ٢٠ / ٩١ ، شرح شواهد الشافية ٣٠١ ، التصريح ٢ / ٣٦٢ ، الهمع ١ / ٢٣ ، الدرر ١ / ٥.

١٢٨

ثم إنّ تلك الماهيّات على قسمين :

أحدهما : ما يكون حضوره موجبا تاما في جرم الذّهن ، بإسناد بعضها إلى بعض بالنّفي أو الإثبات ، مثل أنه إذا حضر في الذّهن أن الواحد ما هو؟ وأن نصف الاثنين ما هو؟ كان حضور هذين التّصوّرين في الذّهن علّة تامة في جرم الذّهن ؛ بأنّ الواحد محكوم عليه بأنّه نصف الاثنين ، وهذا القسم هو العلوم البديهيّة.

والقسم الثاني : ما لا يكون كذلك ، وهو العلوم النّظريّة ؛ مثل أنّه إذا حضر في الذّهن بأنّ الجسم ما هو؟ والمحدث ما هو؟ فإن مجرّد هذين التصوّرين في الذّهن لا يكفي في جزم الذهن بأنّ الجسم محدث ، بل لا بدّ فيه من [دليل](١) منفصل وعلوم سابقة.

والحاصل أن العلوم الكسبيّة إنما يمكن اكتسابها بواسطة العلوم البديهيّة ، وحدوث العلوم البديهيّة إنما تكون عند حدوث تصوّر موضوعاتها ، وتصوّر محمولاتها ، وحدوث التّصورات إنّما كان بسبب إعانة هذه الحواس على إحداثها ؛ فظهر أن السبب الأول لحدوث هذه المعارف في النّفوس والعقول هو أنّه ـ تعالى ـ أعطى هذه الحواس.

فلهذا قال ـ تعالى ـ : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) ليصير حصول هذه الحواس سببا لانتقال نفوسكم من الجهل إلى العلم بالطّريق المذكور.

وقال المفسرون : (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ) لتسمعوا مواعظ الله تعالى ، «والأبصار» لتبصروا دلائل [آلاء](٢) الله ، «والأفئدة» لتعقلوا عظمة الله.

و«الأفئدة» جمع فؤاد ؛ نحو : أغربة وغراب ، قال الزجاج : ولم يجمع «فؤاد» على أكثر العدد ، وما قيل : «فئدان» كما قيل : «غراب وغربان».

ولعلّ الفؤاد إنّما جمع على جمع القلّة ؛ تنبيها على أنّ السّمع والبصر كثيران ، وأن الفؤاد قليل ؛ لأن الفؤاد إنّما خلق للمعارف الحقيقيّة ، والعلوم اليقينيّة ، وأكثر الخلق ليسوا كذلك ، بل يكونوا مشغولين بالأفعال البهيميّة والصّفات السبعية ، فكأن فؤادهم ليس بفؤاد ؛ فلهذا جمع جمع القلّة قاله ابن الخطيب.

وقال الزمخشري ـ رحمه‌الله تعالى ـ : إنّه من الجموع التي استعملت للقلّة والكثرة ، ولم يسمع فيها غير القلّة ، نحو : «شسوع» ، فإنّها للكثرة ، وتستعمل في القلّة ، ولم يسمع غير شسوع. كذا قال وفيه نظر فقد سمع فيهم «أشساع» فكان ينبغي أن يقال : غلب «شسوع».

فإن قيل : قوله ـ عزوجل ـ : (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) ، عطف على قوله :

__________________

(١) في ب : ضمير.

(٢) زيادة من : ب.

١٢٩

«أخرجكم» وهذا يقتضي أن يكون جعل السّمع والبصر متأخّرا عن الإخراج من البطن ؛ وليس كذلك.

فالجواب : أنّ حرف الواو لا يوجب التّرتيب ، وأيضا إذا حملنا السمع على الإسماع والبصر على الرؤية ، زال السؤال ، هذا إذا جعلنا قوله ـ تعالى ـ : «وجعل» معطوفا على «أخرجكم» فيكون داخلا فيما أخبر به عن المبتدأ ويجوز أن يكون مستأنفا.

فصل

قيل : معنى الكلام : لا تعلمون شيئا ممّا أخذ عليكم من الميثاق في أصلاب آبائكم ، وقيل: لا تعلمون شيئا ممّا قضى عليكم به من السّعادة والشقاوة ، وقيل : لا تعلمون شيئا ، أي : من منافعكم.

قال البغوي ـ رحمه‌الله ـ : «تمّ الكلام عند قوله ـ تعالى ـ : (لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) ثمّ ابتدأ فقال : (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) ؛ لأنّ الله ـ تعالى ـ جعل هذه الأشياء لهم قبل الخروج من بطون الأمّهات ، وإنّما أعطاهم العلم بعد الخروج».

وسيأتي الكلام في حكمة ذكره السمع بلفظ المصدر ، والأبصار والأفئدة بلفظ الاسم في سورة السّجدة إن شاء الله ـ تعالى ـ.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ) ، أي لتسمعوا به الأمر والنهي ، «والأبصار» أي : لتبصروا بها آثار منفعة الله ، «والأفئدة» لتصلوا بها إلى معرفته ـ سبحانه وتعالى ـ وقوله: و (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ، أي : نعمه.

قوله ـ تعالى ـ : (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ) الآية هذا دليل آخر على كمال قدرة الله وحكمته.

قرأ ابن عامر (١) وحمزة والكسائي : «ألم تروا» بالتاء من فوق ، والباقون : بالياء على الحكاية لمن تقدّم ذكره من الكفّار.

قوله : (ما يُمْسِكُهُنَ) يجوز أن تكون الجملة حالا من الضمير المستتر في «مسخّرات» ، ويجوز أن تكون حالا من الطير ، ويجوز أن تكون مستأنفة.

ومعنى «مسخّرات» : مذللات ، (فِي جَوِّ السَّماءِ) وهو الهواء بين السّماء والأرض ؛ قال : [الطويل]

٣٣٥١ ـ فلست لإنسيّ ولكن لملأك

تنزّل من جوّ السّماء يصوب (٢)

وقيل : الجوّ ما يلي الأرض في سمت العلوّ واللوح والسّكاك أبعد منه.

__________________

(١) ينظر : الحجة ٣٩٣ ، والإتحاف ٢ / ١٨٧ ، والنشر ٢ / ٣٠٤ ، والقرطبي ١٠ / ١٠٠ ، والبحر ٥ / ٥٠٦.

(٢) تقدم.

١٣٠

قال كعب الأحبار ـ رضي الله عنه ـ : إنّ الطير يرتفع اثنا عشر ميلا ولا يرتفع فوق هذا ، وفوق الجوّ السّكاك ، وفوق السّكاك السماء ، و (ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ)(١) تعالى ، أي : في حال القبض ، والبسط ، والاصطفاف ينزلهم كيف يعتبرونها في وحدانيّته.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) خصّ هذه الآيات بالمؤمنين ؛ لأنّهم هم المنتفعون بها.

فصل

جسد الطائر جسم ثقيل ، يمتنع بقاؤه في الجوّ معلّقا بلا علاقة ولا دعامة ، فوجب أن يكون الممسك له في الجوّ هو الله ـ تعالى ـ ، والظاهر أن إبقاءه في الجوّ فعله باختياره ، وهذا يدلّ على أنّ فعل العبد خلق الله ـ تعالى ـ.

قال القاضي (٢) ـ رحمه‌الله ـ : إنّما أضاف ـ تعالى ـ هذا الإمساك إلى نفسه ؛ لأنه ـ تعالى ـ هو الذي أعطى الآلات التي يمكن الطير بها من تلك الأفعال ، فلما كان ـ تعالى جلّ ذكره ـ هو المسبب لذلك ، صحّت هذه الإضافة.

والجواب : هذا ترك للظاهر من غير دليل.

قوله ـ تعالى ـ : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً) الآية وهذا نوع آخر من دلائل التوحيد.

قوله : «سكنا» يجوز أن يكون مفعولا أولا ، على أنّ الجعل تصيير والمفعول الثاني أحد الجارين قبله ، ويجوز أن يكون الجعل بمعنى الخلق فيتعدّى لواحد ، وإنّما وحد السكن ؛ لأنه بمعنى ما يسكنون فيه ، قاله أبو البقاء.

وقد يقال : إنه في الأصل مصدر ، وإليه ذهب ابن عطية ، فتوحيده واضح إلا أن أبا حيّان منع كون مصدرا ولم يذكر وجه المنع ، وكأنه اعتمد على قول أهل اللغة : إن السكن «فعل» بمعنى «مفعول» : كالقبض والنقض بمعنى المنقوض والمقبوض ؛ وأنشد الفراء فقال : [البسيط]

٣٣٥٢ ـ جاء الشّتاء ولمّا أتّخذ سكنا

يا ويح نفسي من حفر القراميص (٣)

والسّكن : ما سكنت إليه وما سكنت فيه ، قال الزمخشري : «السّكن ما يسكن إليه وينقطع إليه من بيت أو إلف».

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٧٩).

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ٧٣.

(٣) وروي بلفظ :

جاء الشتاء ولم أتخذ ربضا

يا ويح كفي من حفو القراميص

ينظر : اللسان والتاج والصحاح (قرفص) ، (ربص) ، زادة ٣ / ١٩٣ ، البحر المحيط ٥ / ٥٠٧ ، الرازي ٢٠ / ٩٣ ، الدر المصون ٤ / ٣٥١.

١٣١

واعلم أنّ البيوت الّتي يسكن فيها الإنسان على قسمين :

أحدهما : البيوت المتّخذة من الحجر والمدر ، وهي المرادة من قوله : (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً) وهذا القسم لا يمكن نقله بل الإنسان ينتقل إليه.

والثاني : البيوت المتّخذة من القباب والخيام والفساطيط ، وهي المرادة بقوله : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها) وهذا القسم يمكن نقله مع الإنسان.

قوله : (يَوْمَ ظَعْنِكُمْ) قرأ نافع ، وابن (١) كثير ، وأبو عمرو بفتح العين ، والباقون بإسكانها ، وهما لغتان كالنّهر والنّهر.

وزعم بعضهم أن الأصل الفتح ، والسكون تخفيف لأجل حرف الحلق ؛ كالشّعر والشعر».

والظّعن مصدر ظعن ، أي : ارتحل ، والظّعينة : الهودج فيه المرأة وإلا فهو محمل ، ثم كثر حتى قيل للمرأة : ظعينة.

فصل

والمعنى : جعل لكم من جلود الأنعام بيوتا ، يعني : الخيام ، والقباب والأخبية ، والفساطيط من الأنطاع والأدم ، «تستخفّونها» أي : يخف عليكم حملها (يَوْمَ ظَعْنِكُمْ) رحلتكم في سفركم ، والظّعن : سير [البادية](٢) لنجعة أو لحضور ماء أو طلب مرتع ، والظّعن أيضا : الهودج ؛ قال : [الهزج]

٣٣٥٣ ـ ألا هل هاجك الأظعان إذ بانوا

وإذ جادت بوشك البين غربان (٣)

(وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ) في بلدكم لا يثقل عليكم في الحالتين ، و«من» راجعة إلى الحالتين (وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها) يعني : أصواف الضّأن ، وأوبار الإبل ، وأشعار المعز ، والكنايات راجعة إلى الأنعام ، وذكر الأصواف والأوبار ولم يذكر القطن والكتان ؛ لأنهما لم يكونا ببلاد العرب.

قوله : «أثاثا» فيه وجهان :

أحدهما : أنه منصوب عطفا على «بيوتا» أي : وجعل لكم من أصوافها أثاثا ، وعلى هذا يكون قد عطف مجرورا على مجرور ، ومنصوبا على منصوب ، ولا فصل هنا بين حرف العطف والمعطوف حينئذ.

وقال أبو البقاء (٤) ـ رحمه‌الله ـ : «وقد فصل بينه وبين حرف العطف بالجار

__________________

(١) ينظر : السبعة ٣٧٥ ، والنشر ٢ / ٣٠٤ ، والإتحاف ٢ / ١٨٧ ، والحجة ٣٩٣ والبحر ٥ / ٥٠٧ والدر المصون ٤ / ٣٥١.

(٢) في ب : الدابة.

(٣) ينظر : القرطبي ١٠ / ١٠١.

(٤) ينظر : الإملاء ٢ / ٨٤.

١٣٢

والمجرور ، وهو قوله عزوجل : (وَمِنْ أَصْوافِها) وهو ليس بفصل مستقبح كما زعم في الإيضاح ؛ لأنّ الجارّ والمجرور مفعول ، وتقديم مفعول على مفعول قياس».

وفيه نظر ؛ لأنه عطف مجرورا على مثله ، ومنصوبا على مثله.

والثاني : أنه منصوب على الحال ، ويكون قد عطف مجرورا على مثله تقديره : وجعل لكم من جلود الأنعام ، ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها بيوتا حال كونها أثاثا ، ففصل بالمفعول بين المتعاطفين ، وليس المعنى على هذا ، إنما هو على الأول.

والأثاث : متاع البيت إذا كان كثيرا ، وأصله : من أثّ الشعر والنّبات ؛ إذا كثفا وتكاثرا ؛ قال امرؤ القيس : [الطويل]

٣٣٥٤ ـ وفرع يغشّي المتن أسود فاحم

أثيث كقنو النّخلة المتعثكل (١)

ونساء أثائث ، أي : كثيرات اللحم كأنّ عليهن أثاثا ، وفلان كثر أثاثه. وقال الزمخشري : الأثاث ما جدّ من فرش البيت ، والخرثيّ : ما قدم منها ؛ وأنشد : [البسيط]

٣٣٥٥ ـ تقادم العهد من أمّ الوليد بنا

دهرا وصار أثاث البيت خرثيّا (٢)

وهل له واحد من لفظه؟ فقال الفراء : لا ، وقال أبو زيد : واحده أثاثة وجمعه في القلّة : أثثة ؛ ك «بتات» و«أبتّة» ، وقال أبو حيّان : وفي الكثير على أثث ، وفيه نظر ؛ لأن «فعالا» المضعّف يلزم جمعه على أفعلة في القلّة والكثرة ، ولا يجمع على «فعل» إلا في لفظتين شذّتا ، وهما : عين وحجج جمع عيّان وحجّاج ، وقد نص النحاة على منع القياس عليهما ، فلا يجوز : زمام وزمم بل أزمّة وقال الخليل : الأثاث والمتاع واحد ، وجمع بينهما لاختلاف لفظهما ؛ كقوله : [الوافر]

٣٣٥٦ ـ ..........

وألفى قولها كذبا ومينا (٣)

وقوله : [الطويل]

٣٣٥٧ ـ ..........

وهند أتى من دونها النّأي والبعد (٤)

وقيل : متاعا : بلاغا ينتفعون به ، (إِلى حِينٍ) يعني : الموت ، وقيل : إلى حين البلى.

قوله ـ تعالى ـ : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً) الآية فالإنسان إما أن يكون مقيما أو مسافرا ، والمسافر إمّا أن يكون غنيّا يستصحب معه الخيام أو لا.

فالقسم الأول أشار إليه بقوله : (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً) ، وأشار إلى القسم

__________________

(١) تقدم.

(٢) البيت للحسن بن علي الطوسي.

ينظر : الكشاف ٢ / ٥٢١ ، شواهد الكشاف ٥٦٤ ، أمالي ابن الشجري ١ / ٩٩ ، الدر المصون ٤ / ٣٥٢.

(٣) تقدم.

(٤) تقدم.

١٣٣

الثاني بقوله : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً) وأشار إلى القسم الثالث بقوله تعالى : (جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً) فإن المسافر إذا لم يكن له خيمة يستظل بها ، فإنّه لا بد وأن يستظلّ إما بجدار أو شجر أو بالغمام ؛ كما قال ـ سبحانه ـ : (وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ) [الأعراف : ١٦٠].

قوله تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً) جمع «كنّ» ؛ وهو ما حفظ من الرّيح والمطر ، وهو في الجبل : الغار ، وقيل : كلّ شيء وقى شيئا ، ويقال : استكن وأكنّ ، إذا صار في كنّ.

واعلم أن بلاد العرب شديدة الحرّ ، وحاجتهم إلى الظلّ ودفع الحرّ شديدة ؛ فلهذا ذكر الله ـ تعالى ـ هذه المعاني في معرض النّعمة العظيمة ، وذكر الجبال ولم يذكر السهول وما جعل لهم من السهول أكثر ؛ لأنهم كانوا أصحاب جبال ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها) ؛ لأنّهم كانوا أصحاب وبر وشعر ، كما قال ـ عزوجل ـ : (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) [النور : ٤٣] وما أنزل من الثلج أكثر لكنهم كانوا لا يعرفون الثّلج. وقال (تَقِيكُمُ الْحَرَّ) وما يقي من البرد أكثر ؛ لأنهم كانوا أصحاب حرّ.

ولمّا ذكر الله ـ تعالى ـ أمر المسكن ، ذكر بعده أمر الملبوس ؛ فقال ـ جل ذكره ـ : (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) والسّرابيل : القمص واحدها سربال.

قال الزجاج ـ رحمه‌الله ـ : «كل ما لبسته فهو سربال ، من قميص أو درع أو جوشن أو غيره» ؛ وذلك لأن الله ـ تعالى ـ جعل السّرابيل قسمين :

أحدهما : ما يقي الحرّ والبرد. والثاني : ما يتقى به من البأس والحروب.

فإن قيل : لم ذكر الحرّ ولم يذكر البرد؟.

فالجواب من وجوه :

أحدها : قال عطاء الخراساني : المخاطبون بهذا الكلام هم العرب ، وبلادهم حارّة [يابسة](١) ، فكانت حاجتهم إلى ما يدفع الحرّ أشدّ من حاجتهم إلى ما يدفع البرد ؛ كما قال ـ سبحانه وتعالى ـ (وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها) وسائر أنواع الثياب أشرف ، إلا أنه ـ تعالى ـ ذكر هذا النّوع ؛ لأن عادتهم بلبسها أكثر (٢).

والثاني : قال المبرّد : ذكر أحد الضّدّين تنبيه على الآخر ؛ كقوله : [الطويل]

٣٣٥٨ ـ كأنّ الحصى من خلفها وأمامها

إذا حذفته رجلها حذف أعسرا (٣)

لمّا ثبت في العلوم العقليّة أن العلم بأحد الضّدين يستلزم العلم بالضدّ الآخر ، فإنّ

__________________

(١) زيادة من : ب.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٨٠) والرازي (٢٠ / ٧٦.

(٣) تقدم.

١٣٤

الإنسان إذا خطر بباله الحر ، خطر بباله البرد أيضا وكذا القول في النّور والظلمة ، والسّواد والبياض.

الثالث : قال الزجاج : «وما وقى من الحرّ وقى من البرد ، فكان ذكر أحدهما مغنيا عن الآخر».

فإن قيل : هذا بالضدّ أولى ؛ لأن دفع الحرّ يكفي فيه السّرابيل التي هي القمص دون تكلّف زيادة ، أما البرد فإنّه لا يندفع إلا بزيادة تكلّف.

فالجواب : أن القميص الواحد لمّا كان دافعا للحر ، كانت السّرابيل التي هي الجمع دافعة للبرد.

قوله : (كَذلِكَ يُتِمُ) ، أي : مثل ذلك الإتمام السابق ، (يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) في المستقبل.

وقرأ (١) ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : «تتمّ» بفتح التاء الأولى ، «نعمته» بالرفع على الفاعلية ، وقرأ أيضا (٢) : «نعمه» جمع نعمة مضافة لضمير الله ـ تعالى ـ ، وقرأ (٣) أيضا: «لعلكم تسلمون» بفتح التاء واللام مضارع سلم من السلامة ، وهو مناسب لقوله : (تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) ؛ فإنّ المراد به الدّروع الملبوسة في الحرب ، أو تؤمنوا فتسلموا من عذاب الله.

قوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) يجوز أن يكون ماضيا ، ويكون التفاتا من الخطاب المتقدّم ، وأن يكون مضارعا ، والأصل : تتولّوا ، فحذف نحو : «تنزّل وتذّكرون» ولا التفات على هذا ، بل هو جار على الخطاب السّابق.

ومعنى الكلام : فإن أعرضوا ، فلا يلحقك في ذلك عتب ولا تقصير ، وليس عليك إلّا ما فعلت من التّبليغ التّام.

قوله : (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) هو جواب الشّرط ، وفي الحقيقة جواب لشرط محذوف ، أي : فأنت معذور ، وأتى ذلك على إقامة السّبب مقام المسبب ؛ وذلك لأن تبليغه سبب في عذره ، فأقيم السّبب مقام المسبب ، ثمّ ذمّهم بأنهم يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها ، وذلك نهاية في كفران النّعمة ، وجيء ب «ثمّ» هنا للدّلالة أن إنكارهم أمر مستبعد بعد حصول المعرفة ؛ لأنّ من عرف النّعمة حقّه أن يعترف لا أن ينكر ، وفي المراد بالنّعمة وجوه :

قال القاضي (٤) : هي جميع ما ذكر الله تعالى في الآيات المتقدّمة ، ومعنى إنكارهم :

__________________

(١) ينظر : البحر ٥ / ٥٠٨ ، والقرطبي ١٠ / ١٠٦ ، وفيه نسبها إلى ابن محيصن وحميد.

(٢) ينظر : البحر ٥ / ٥٠٨ ، والدر المصون ٤ / ٣٥٣.

(٣) ينظر : القرطبي ١٠ / ١٠٦ ، والبحر ٥ / ٥٠٨ ، والدر المصون ٤ / ٣٥٣.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ٧٦.

١٣٥

أنهم ما أفردوه ـ تعالى ـ بالشّكر والعبادة ، بل شكروا غيره وقالوا : إنما حصلت هذه النعمة بشفاعة الأصنام.

وقيل : المراد بالنّعمة هنا : نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عرفوا أنّها حق ثمّ أنكروها ، ونبوته نعمة عظيمة ؛ كما قال ـ تعالى ـ : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧].

وقيل : (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها) ، أي : لا يستعملونها في طلب رضوان الله ، ثم قال جل ذكره : (وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ).

فإن قيل : ما معنى قوله : (وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) مع أنّهم كلهم كافرون؟.

فالجواب من وجوه :

الأول : إنما قال ـ عزوجل ـ (وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) ؛ لأنه كان فيهم من لم تقم عليه الحجّة ؛ كالصّبي وناقص العقل ، فأراد بالأكثر ؛ البالغين الأصحاء.

والثاني : أن المراد بالكافر : الجاحد المعاند ، فقال : «وأكثرهم» ؛ لأنه كان فيهم من لم يكن معاندا ، بل جاهلا بصدق الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ولم يظهر له كونه نبيّا حقّا من عند الله.

الثالث : ذكر الأكثر وأراد الجميع ؛ لأن أكثر الشيء ، يقوم مقام الكل ؛ كقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [لقمان : ٢٥].

قوله تعالى :(وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ)(٨٨)

قوله : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) الآية لما بيّن أنهم عرفوا نعمة الله ثمّ أنكروها ، وذكر أن أكثرهم كافرون أتبعه بذكر الوعيد ؛ فذكر حال يوم القيامة.

قوله : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ) فيه أوجه :

أحدها : منصوب بإضمار «اذكر».

الثاني : بإضمار «خوفهم».

الثالث : تقديره : ويوم نبعث ، وقعوا في أمر عظيم.

الرابع : أنه معطوف على ظرف محذوف ، أي : ينكرونها اليوم ويوم نبعث.

والمراد بأولئك الشهداء : الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ؛ كما قال ـ سبحانه

١٣٦

وتعالى ـ : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء : ٤١].

قوله : (ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) قال الزمخشري : «فإن قلت : ما معنى «ثمّ» هذه؟ قلت : معناه : أنهم يمنعون بعد شهادة الأنبياء عليه‌السلام بما هو أطمّ منه ، وهو أنهم يمنعون الكلام ، فلا يؤذن لهم في إلقاء معذرة ولا [إدلاء](١) حجة». انتهى.

ومفعول الإذن محذوف ، أي : لا يؤذن لهم في الكلام ؛ كما قال ـ تعالى ـ : (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) [المرسلات : ٢٦] أي : في الرّجوع إلى الدنيا.

وقيل : لا يؤذن لهم في الكلام أصلا ، (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أي : لا تزال عتابهم وهي ما يعتبون عليها ويلامون ؛ يقال : استعتبت فلانا بمعنى : أعتبته ، أي : أزلت عتباه ، و«استفعل» بمعنى : «أفعل» غير مستنكر ، قالوا : استدنيت فلانا وأدنيته بمعنّى واحد.

وقيل : السّين على بابها من الطّلب ، ومعناه : أنهم لا يسألون أن يرجعوا عما كانوا عليه في الدّنيا ، فهذا استعتاب معناه طلب عتابهم.

وقال الزمخشري (٢) «ولا هم يسترضون ، أي : لا يقال لهم : أرضوا ربكم ؛ لأن الآخرة ليست بدار عمل». وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله ـ تعالى ـ في سورة حم السجدة ؛ لأنه أليق لاختلاف القراء فيه. ثم إنّه ـ تعالى ـ أكّد هذا الوعيد فقال : (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ) أي : أن هؤلاء المشركين إذا رأوا العذاب ووصلوا إليه ، فعند ذلك (فَلا (٣) يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) ولا يؤخّرون ولا يمهلون ؛ لأن التوبة هناك غير موجودة.

قوله : «فلا يخفّف» هذه الفاء وما حيّزها جواب «إذا» ، ولا بدّ من إضمار مبتدأ قبل هذه الفاء ، أي : فهو لا يخفف ؛ لأن جواب «إذا» متى كان مضارعا ، لم يحتج إلى فاء سواء كان موجبا ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ) [الحج : ٧٢] أم منفيّا ؛ نحو : «إذا جاء زيد لا يكرمك».

قوله تعالى : (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ) وهذا من بقيّة وعيد المشركين ، وفي الشركاء قولان :

الأول : أن الله ـ تعالى ـ : يبعث الأصنام فتكذّب المشركين ، ويشاهدونها في غاية الذّلّ والحقارة ، وكل ذلك مما يوجب زيادة الغمّ والحسرة في قلوبهم.

والثاني : أن المراد بالشركاء : الشّياطين الذين دعوا الكفّار إلى الكفر ؛ قاله الحسن ـ رضي الله عنه ـ ، وإنّما ذهب إلى هذا القول ؛ ـ لأنه ـ تعالى ـ حكى عن الشركاء أنّهم كذّبوا الكفار ، والأصنام جمادات فلا يصحّ منهم هذا القول.

وهذا بعيد ؛ لأن الله ـ تعالى ـ قادر على خلق الحياة في الأصنام وعلى خلق العقل والنّطق فيها.

__________________

(١) في ب : إثبات.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٦٢٦.

١٣٧

قوله : (وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) العامة على فتح السين واللام.

وقرأ أبو عمرو (١) في رواية بسكون اللام ، ومجاهد بضمّ السين (٢) واللام ، وكأنّه جمع سلام ؛ نحو : قذال وقذل ، والسّلام والسّلم واحد ، وقد تقدّم الكلام عليهما في سورة النساء.

فصل

والمعنى : أن المشركين إذا رأوا تلك الشّركاء ، (قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا) تدعوا (مِنْ دُونِكَ) ، وفائدة هذا القول من وجهين :

الأول : قال أبو مسلم ـ رحمه‌الله ـ : «مقصود المشركين إحالة الذّنب على الأصنام ؛ ظنّا منهم أن ذلك ينجيهم من عذاب الله ، أو ينقص من عذابهم ، عند هذا تكذّبهم تلك الأصنام».

قال القاضي (٣) : «هذا بعيد ؛ لأن الكفار يعلمون علما ضروريّا في الآخرة أنّ العذاب ينزل بهم ، ولا ينفعهم فدية ولا شفاعة».

والثاني : أن المشركين يقولون هذا الكلام تعجّبا من حضور تلك الأصنام ، مع أنه لا ذنب لها ، واعترافا بأنّهم كانوا مخطئين في عبادتها.

ثم حكى ـ تعالى ـ أنّ الأصنام يكذبونهم ، فقال : (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) ، والمعنى : أنه ـ تعالى ـ يخلق الحياة والعقل والنطق في تلك الأصنام فيلقوا إليهم ، أي: يقولون لهم : (إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ).

فإن قيل : إن المشركين لم يقولوا ، بل أشاروا إلى الأصنام ، فقالوا : هؤلاء شركاؤنا الذين كنّا ندعو من دونك ، وقد كانوا صادقين في كلّ ذلك ، فكيف قالت الأصنام (إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ)؟.

فالجواب من وجوه :

أصحها : أن المراد من قولهم : (هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا) ، أي : أنّ هؤلاء هم الّذين كنّا نقول: إنهم شركاء الله في المعبودية ، فالأصنام كذّبوهم في إثبات هذه الشركة.

وقيل : المراد : إنّهم لكاذبون في قولهم : إنّا نستحقّ العذاب بدليل قوله ـ تعالى ـ : (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ) [مريم : ٨٢].

ثم قال : (وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) قال الكلبي : استسلم العابد والمعبود ، وأقرّوا لله بالرّبوبية وبالبراءة عن الشركاء والأنداد.

__________________

(١) ينظر : البحر ٥ / ٥١٠ ، والمحرر ٨ / ٤٩١ ، والدر ٤ / ٣٥٤.

(٢) ينظر : البحر ٥ / ٥١٠ ، والدر المصون ٤ / ٣٥٤.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٢٠ / ٧٨.

١٣٨

وقيل : استسلم المشركون يومئذ إلى الله تعالى وإنفاذ الحكمة فيهم ولم تغن عنهم آلهتهم شيئا، (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) : زال عنهم ما كانوا يفترون من أنّها تشفع لهم عند الله ، وقيل : ذهب ما زيّن لهم الشيطان من أن لله صاحبة وشريكا.

وقوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا) يجوز أن يكون مبتدأ ، والخبر «زدناهم» وهو واضح ، وجوّز ابن عطية (١) أن يكون (الَّذِينَ كَفَرُوا) بدلا من فاعل «يفترون» ، ويكون «زدناهم» مستأنفا.

ويجوز أن يكون (الَّذِينَ كَفَرُوا) نصبا على الذّمّ أو رفعا عليه ، فيضمر النّاصب والمبتدأ وجوبا.

فصل

لما ذكر وعيد الذين كفروا ، أتبعه ب «وعيد» من ضمّ إلى كفره صدّ الغير عن سبيل الله ، وهو منعهم عن طريق الحقّ.

وقيل : صدهم عن المسجد الحرام ، (زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ) ؛ لأنهم زادوا على كفرهم صدّ الغير عن الإيمان.

قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «من سنّ سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها».

قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ [ومقاتل](٢) : «المراد بتلك الزيادة خمسة أنهار من صفر مذاب ؛ تسيل من تحت العرش ، يعذّبون بها ثلاثة بالليل واثنان بالنّهار» (٣).

وقال سعيد بن جبير : زدناهم عذابا بحيّات كالبخت ، وعقارب كالبغال تلسعهم ، وقيل : يخرجون من حرّ النار إلى زمهرير (٤).

وقيل : يضعّف لهم العذاب بما كانوا يفسدون ، أي : بذلك الصّد.

قوله تعالى : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ)(٨٩)

قوله تعالى : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) الآية.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٤١٥.

(٢) زيادة من : أ.

(٣) أخرجه أبو يعلى (٥ / ٦٦) رقم (٢٦٦٠) ثنا سريج ثنا إبراهيم بن سليمان عن الأعمش عن الحسن عن ابن عباس.

وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠ / ٣٩٠) وقال : رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح.

قلت : وفي سماع الحسن من ابن عباس كلام. فقد نفى سماعه علي بن المديني وأحمد وأبو حاتم ويحيى ابن معين ينظر : المراسيل لابن أبي حاتم ص (٣٣ ، ٣٤) وجامع التحصيل ص (١٦٣).

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٨١).

١٣٩

وهذا نوع آخر من التّهديد ، والأمة عبارة عن القرن والجماعة ، والمراد أن كلّ نبيّ شاهد على أمّته ؛ لأن الأنبياء كانت تبعث إلى الأمم من أنفسهم لا من غيرهم.

وقيل : المراد أن كل جمع وقرن يحصل في الدنيا ، فلا بدّ وأن يحصل فيهم واحد يكون شهيدا عليهم ، أمّا الشّهيد على الذين كانوا في عصر الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فهو الرسول ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) وقوله : (وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ).

وقال الأصم : المراد بالشّهيد هو أنّه ـ تعالى ـ ينطق عشرة من أعضاء الإنسان تشهد عليه ، وهي : الأذنان ، والعينان ، والرجلان ، واليدان ، والجلد واللسان.

قال : والدّليل عليه أنه قال في صفة الشّهيد أنّه من أنفسهم ، وهذه الأعضاء لا شكّ أنها من أنفسهم.

وأجاب القاضي عنه : بأنه ـ تعالى ـ قال : (شَهِيداً عَلَيْهِمْ) ، أي : على الأمّة ، فيجب أن يكون غيرهم ، وأيضا قال : «من كل أمة» فيجب أن يكون ذلك الشّهيد من الأمّة ، وآحاد الأعضاء لا يصح وصفها أنها من الأمة ، وأما حمل الشهداء على الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ فبعيد ؛ لأن كونهم مبعوثين إلى الخلق أمر معلوم بالضّرورة ، فلا فائدة في حمل هذه الآية عليه.

قوله : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً) يجوز أن يكون «تبيانا» في موضع الحال ، ويجوز أن يكون مفعولا من أجله ، وهو مصدر ولم يجىء من المصادر على هذه الزّنة إلا لفظتان : هذا والتّلقاء ، وفي الأسماء كثيرا ، نحو «التّمساح والتّمثال» وأما المصادر فقياسها فتح الأول ؛ دلالة على التكثير ك «التّطواف» و«التّجوال».

وقال ابن عطية : إنّ «التّبيان» اسم وليس بمصدر والنحويّون على خلافه.

قال شهاب الدّين (١) ـ رحمه‌الله ـ : وقد روى الواحديّ بإسناده ، عن الزجاج أنه قال : «التّبيان» اسم في معنى البيان.

وجه تعلّق هذا الكلام بما قبله : أنه ـ تعالى ـ قال : (وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) ، أي : أنه أزاح علتهم فيما كلّفوا ، فلا حجّة لهم ولا معذرة.

وقال نفاة القياس : دلّت هذه الآية على أنّ القرآن تبيان لكل شيء ، والعلوم إمّا دينية ، أو غير دينية ، فالتي ليست دينية ، لا تعلّق لها بهذه الآية ؛ لأنّا نعلم بالضرورة أنه تعالى إنما مدح القرآن بكونه مشتملا على علوم الدين ، وأمّا غير ذلك ، فلا التفات إليه ، وأما علوم الدّين : فإمّا الأصول ، وإما الفروع.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٤ / ٣٥٤.

١٤٠