اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٢

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٢

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٢

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة النحل

مكية (١) إلا قوله ـ سبحانه وتعالى ـ (وَإِنْ عاقَبْتُمْ) [الآية : ١٢٦] إلى آخر السورة وحكى الأصمّ رحمه‌الله عن بعضهم أنّها كلها مدنية (٢).

وقال آخرون : من أولها إلى قوله (كُنْ فَيَكُونُ) مدني ، وما سواه فمكّي ، وعن قتادة : بالعكس (٣) ، وتسمى سورة النّعم بسبب ما عدد الله فيها من النعم على عباده.

وهي مائة وثمانية وعشرون آية ، وألفان وثمانمائة وأربعون كلمة ، وعدد حروفها سبعة آلاف وسبعمائة وسبعة أحرف.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ)(٢)

قوله : (أَتى أَمْرُ اللهِ) في «أتى» وجهان :

أشهرهما : أنه ماض لفظا مستقبل معنى ، إذ المراد به يوم القيامة ، وإنّما أبرز في صورة ما وقع وانقضى تحقيقا له ولصدق المخبر به.

والثاني : أنّه على بابه.

والمراد به مقدماته وأوائله ، وهو نصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي : جاء أمر الله ودنا وقرب.

وقال ابن عرفة : «تقول العرب : أتاك الأمر وهو متوقّع بعد أي : أتى أمر الله وعدا فلا تستعجلوه وقوعا».

وقال قوم : المراد بالأمر ههنا عقوبة المكذّبين والعذاب بالسيف وذلك أنّ النّضر بن الحارث قال : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) [الأنفال : ٣٢] فاستعجل العذاب فنزلت هذه الآية ، وقتل النضر يوم بدر صبرا.

__________________

(١) وهو قول الحسن وعكرمة وجابر ذكره الماوردي في «النكت والعيون» (٣ / ١٧٧) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٠٤) عن ابن عباس وابن الزبير وعزاه إلى ابن مردويه.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٩ / ١٧٣).

(٣) ينظر : المصدر السابق.

٣

وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : قوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) [القمر : ١] قال الكفار بعضهم لبعض : إنّ هذا يزعم أنّ القيامة قد قربت فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتّى [ننظر](١) ما هو كائن ، فلما لم ينزل ، قالوا : ما نرى شيئا ، [فنزل قوله تعالى](٢)(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) [الأنبياء : ١] فأشفقوا ، فلما امتدّت الأيام ، قالوا : يا محمد ما نرى شيئا مما تخوّفنا به ، فنزل قوله تعالى (أَتى أَمْرُ اللهِ) فوثب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورفع الناس رءوسهم وظنّوا أنها قد أتت حقيقة ، فنزل قوله (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) فاطمأنّوا (٣).

والاستعجال : طلب الشيء قبل حينه. واعلم أنّه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لمّا كثر تهديده بعذاب الدنيا والآخرة ولم يروا شيئا نسبوه إلى الكذب فأجابهم الله ـ تعالى ـ بقوله (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) وتقرير هذا الجواب من وجهين :

أحدهما : أنه وإن لم يأت العذاب ذلك الوقت إلّا أنه واجب الوقوع ، والشيء إذا كان بهذه الحالة والصّفة فإنه يقال في الكلام المعتاد : إنه قد أتى ووقع إجراء لما يجب وقوعه مجرى الواقع ، يقال لمن طلب الإغاثة وقرب حصولها جاء الفوت.

والثاني : أن يقال : إنّ أمر الله بذلك وحكمه قد أتى وحصل ووقع ، فأمّا المحكوم به فإنّما لم يقع ، لأنّ الله ـ تعالى ـ حكم بوقوعه في وقت معين فلا يخرج إلى الوجود قبل مجيء ذلك الوقت ، والمعنى : أن أمر الله وحكمه بنزول العذاب قد وجد من الأزل إلى الأبد إلّا أنّ المحكوم إنّما لم يحصل ، لأنّه ـ تعالى ـ خصّص حصوله بوقت معيّن (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) قبل وقته ، فكأنّ الكفار قالوا : سلّمنا لك يا محمد صحة ما تقول : من أنّه ـ تعالى ـ حكم بإنزال العذاب علينا إمّا في الدنيا وإمّا في الآخرة ، إلّا أنا نعبد هذه الأصنام لتشفع لنا عند الله فنتخلص من العذاب المحكوم به فأجابهم الله ـ تعالى ـ بقوله (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ).

قوله : (عَمَّا يُشْرِكُونَ) يجوز أن تكون «ما» مصدرية فلا عائد لها عند الجمهور أي : عن إشراكهم به غيره ، وأن تكون موصولة اسمية.

وقرأ العامة فلا تستعجلوه بالتاء خطابا للمؤمنين أو للكافرين وقرأ ابن جبير بالياء (٤) من تحت عائدا على الكفار أو على المؤمنين.

وقرأ الأخوان (٥) «تشركون» بتاء الخطاب جريا على الخطاب في «تستعجلوه»

__________________

(١) في ب : تنظروا.

(٢) في أ: فأنزل الله تعالى.

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٦١) عن ابن عباس وأخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٥٥٦) عن ابن جريج مثله وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٠٥) عن ابن جريج وزاد نسبته إلى ابن المنذر.

(٤) ينظر : الشواذ ٧٢ ، والبحر ٥ / ٤٥٩ ، والدر المصون ٤ / ٣١١ ،

(٥) ينظر : التيسير ١٢١ ، والنشر ٢ / ٢٨٢ ، والإتحاف ٢ / ١٨٠ ، والحجة ٣٨٥ ، والشواذ ٧٢ ، والبحر ٥ / ٤٥٩ ، والدر المصون ٤ / ٣١١.

٤

والباقون بالياء عودا على الكفار ، وقرأ الأعمش وطلحة (١) والجحدري وجم غفير بالتاء من فوق في الفعلين.

قوله (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ) قد تقدم الخلاف في «ينزّل» بالنسبة إلى التشديد والتخفيف في البقرة (٢).

وقرأ زيد بن عليّ والأعمش وأبو بكر عن عاصم «تنزّل» [مشددا](٣) مبنيّا للمفعول وبالتاء من فوق. «الملائكة» رفعا لقيامه مقام الفاعل ، وقرأ الجحدري (٤) : كذلك إلا أنه خفّف الزّاي.

وقرأ الحسن ، والأعرج ، وأبو العالية (٥) ـ رحمهم‌الله ـ عن عاصم بتاء واحدة من فوق ، وتشديد الزاي مبنيا للفاعل ، والأصل تتنزل بتاءين.

وقرأ ابن أبي (٦) عبلة : «ننزّل» بنونين وتشديد الزّاي «الملائكة» نصبا ، وقتادة كذلك إلّا أنّه بالتخفيف.

قال ابن عطية (٧) : «وفيهما شذوذ كبير» ولم يبين وجه ذلك.

ووجهه أنّ ما قبله وما بعده ضمير غائب ، وتخريجه على الالتفات.

قوله «بالرّوح» يجوز أن يكون متعلقا بنفس الإنزال ، وأن يكون متعلقا بمحذوف على أنه حال من الملائكة ، أي : ومعهم الروح.

قوله (مِنْ أَمْرِهِ) حال من الروح ، و«من» إمّا لبيان الجنس ، وإما للتبعيض.

قوله (أَنْ أَنْذِرُوا) في «أن» ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّها المفسرة ؛ لأن الوحي فيه ضرب من [القول](٨) ، والإنزال بالروح عبارة عن الوحي ؛ قال تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) [الشورى : ٥٢] وقال : (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) [غافر : ١٥].

الثاني : أنها المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن محذوف ، تقديره : أنّ الشأن أقول لكم : أنه لا إله إلا أنا ، قاله الزمخشري (٩).

الثالث : أنها المصدرية التي من شأنها نصب المضارع ، ووصلت بالأمر ؛ كقولهم : كتبت إليه بأن قم ، وتقدم البحث فيه.

__________________

(١) ينظر : البحر ٥ / ٤٥٩ ، والدر المصون ٤ / ٣١١.

(٢) ينظر : الحجة ٣٨٥ ، والسبعة لأبي علي الفارسي ٥ / ٥٣ والبحر ٥ / ٤٥٩ ، والدر المصون ٤ / ٣١١.

(٣) في ب : بالتشديد.

(٤) ينظر : البحر ٥ / ٤٥٩ ، والدر المصون ٤ / ٣١١.

(٥) ينظر : المصدر السابق.

(٦) ينظر : المصدر السابق.

(٧) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٣٧٨.

(٨) في ب : القرآن.

(٩) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٩٣.

٥

فإن قلنا : إنّها المفسرة فلا محلّ لها ، وإن قلنا : إنها المخففة ، أو الناصبة ففي محلّها ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّها مجرورة المحل بدلا من «الرّوح» لأنّ التوحيد روح تحيا به النفوس.

الثاني : أنّها في محل جرّ على إسقاط الخافض ؛ كما هو مذهب الخليل.

الثالث : أنّها في محلّ نصب على إسقاطه ؛ وهو مذهب سيبويه (١).

والأصل : بأن أنذروا ؛ فلما حذف الجار جرى الخلاف المشهور.

قوله : (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) هو مفعول الإنذار ، والإنذار قد يكون بمعنى الإعلام ؛ يقال: أنذرته ، وأنذرته بكذا ، أي : أعلموهم بالتوحيد.

وقوله : «فاتّقون» التفات إلى التكلم بعد الغيبة.

فصل

وجه النّظم : أنّ الله ـ تعالى ـ لما أجاب الكفار عن شبهتهم ؛ تنزيها لنفسه ـ سبحانه وتعالى ـ عما يشركون ؛ فكأنّ الكفار قالوا : هب أنّ الله قضى على بعض عبيده بالشرّ ، وعلى آخرين بالخير ، ولكن كيف يمكنك أن تعرف هذه الأمور التي لا يعلمها إلا الله؟ وكيف صرت بحيث تعرف أسرار الله وأحكامه في ملكه وملكوته؟.

فأجاب الله ـ تعالى ـ بقوله : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) وتقرير هذا الجواب : أنّه ـ تعالى ـ ينزل الملائكة على من يشاء من عباده ، ويأمر ذلك العبد أن يبلغ إلى سائر الخلق أن إله الخلق كلفهم بالتوحيد ، وبالعبادة ، وبين لهم أنّهم إن فعلوا ، فازوا بخير الدنيا والآخرة ، فهذا الطريق ضرب مخصوص بهذه المعارف من دون سائر الخلق.

فصل

روى عطاء عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : يريد ب «الملائكة» جبريل وحده(٢).

وقال الواحديّ : يسمّى الواحد بالجمع ؛ إذا كان ذلك الواحد رئيسا مقدّما جائز ، كقوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنا) [القمر : ١٩] ، و (إِنَّا أَنْزَلْنا) [النساء : ١٠٥] ، و (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا) [الحجر : ٩].

والمراد بالروح الوحي كما تقدم ، وقيل : المراد بالروح هنا النبوة ، وقال قتادة رحمه‌الله تعالى : الرحمة (٣) ، وقال أبو عبيدة : إنّ الروح ههنا جبريل عليه‌السلام.

__________________

(١) ينظر : الكتاب ١ / ٤٦٤ ـ ٤٦٥.

(٢) ذكره الرازي في تفسيره (١٩ / ١٧٥).

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٥٥٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٠٥) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم.

وذكره الماوردي في «تفسيره» (٣ / ١٧٨) عن الحسن وقتادة والبغوي (٣ / ٦١) عن قتادة.

٦

والباء في قوله «بالرّوح» بمعنى «مع» كقولهم : «خرج فلان بثيابه» أي : ومعه ثيابه.

والمعنى : ننزّل الملائكة مع الروح ؛ وهو جبريل ، وتقرير هذا الوجه : أنّه ـ تعالى ـ ما أنزل على محمد ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ جبريل وحده في أكثر الأحوال ؛ بل كان ينزّل مع جبريل ـ عليه‌السلام ـ أقواما من الملائكة ؛ كما في يوم بدر ، وفي كثير من الغزوات ، وكان ينزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تارة ملك الجبال ، وتارة ملك البحار ، وتارة رضوان ، وتارة غيرهم.

وقوله (مِنْ أَمْرِهِ) أي أنّ ذلك النّزول لا يكون إلا بأمر الله ؛ كقوله : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) [مريم : ٦٤] وقوله تعالى : (وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [الأنبياء : ٢٧] ، وقوله : (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [التحريم : ٦].

وقوله : (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) يريد الأنبياء المخصوصين برسالته : (أَنْ أَنْذِرُوا) قال الزجاج : «أن» بدل من «الرّوح».

والمعنى : ينزّل الملائكة بأن أنذروا ، أي : أعلموا الخلائق ، أنّه لا إله إلا أنا ، والإنذار هو الإعلام مع التخويف.

«فاتّقون» فخافون. يروى أن جبريل ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ نزل على آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ اثنتي عشرة مرة ، وعلى إدريس أربع مرات ، وعلى نوح ـ عليه الصلاة والسلام ـ خمسين مرّة ، وعلى إبراهيم اثنتين وأربعين مرة وعلى موسى أربع مرات ، وعلى عيسى عشر مرات ، وعلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى سائر الأنبياء أربعة وعشرين ألف مرّة.

قوله تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨) وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ)(٩)

قوله : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى) ارتفع (عَمَّا يُشْرِكُونَ) اعلم أنّ دلائل الإلهيات وقعت في القرآن على نوعين :

أحدهما : أن يتمسّك بالأظهر مترقيا إلى الأخفى ، فالأخفى كما ذكره في سورة البقرة في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) [البقرة : ٢١] فجعل تغير أحوال الإنسان دليلا على احتياجه إلى الخالق.

ثم استدل بتغير أحوال الآباء ، والأمهات ؛ قال تعالى : (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [البقرة: ٢١].

٧

ثم استدلّ بأحوال الأرض ؛ فقال تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) [البقرة : ٢٢] لأن الأرض أقرب إلينا من السماء.

ثمّ استدلّ بأحوال السماء بعد الأرض ؛ فقال تعالى : (وَالسَّماءَ بِناءً) [البقرة : ٢٢].

ثم استدلّ بالأحوال المتولدة من تركيب السماء ، والأرض ؛ فقال سبحانه : (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ).

النوع الثاني : أن يستدل بالأشرف ، فالأشرف نازلا إلى [الأدون فالأدون](١) ؛ كما ذكر في هذه الآية ، فاستدل على وجود الإله المختار بذكر الأجرام الفلكية العلوية ، فقال : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) وقد تقدم الكلام على الاستدلال بذلك أول الأنعام ، ثم استدل ثانيا بخلق الإنسان ، فقال عزوجل : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ).

واعلم أنّ أشرف الأجسام بعد الأفلاك والكواكب هو الإنسان.

واعلم أنّ الإنسان مركب من بدن ونفس ، فقوله تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) إشارة إلى الاستدلال ببدنه على وجود الصانع الحكيم سبحانه.

وقوله عزوجل : (خَصِيمٌ مُبِينٌ) إشارة إلى الاستدلال بأحوال نفسه على الصانع الحكيم جل ذكره ، أمّا الاستدلال ببدنه فإنه النطفة متشابهة الأجزاء بحسب المشاهدة ؛ إلّا أنّ بعض الأطباء يقول : إنه مختلف الأجزاء في الحقيقة ؛ لأنّ النطفة تتولد من فضلة الهضم.

الثالث : أنّ الغذاء يحصل له : في المعدة هضم أول ، وفي الكبد هضم ثان ، وفي العروق هضم ثالث ، وعند وصوله إلى جواهر الأعضاء هضم رابع.

ففي هذا الوقت حصل بعض أجزاء الغذاء إلى العظم ، وظهر فيه أثر من [الطبيعة](٢) العظيمة ، وكذا يقول في اللحم والعصب والعروق ، وغيرها.

ثم عند استيلاء الحرارة على البدن عند هيجان الشّهوة ويحصل ذوبان من جملة ذلك الأعضاء ؛ وذلك هو النطفة ، وعلى هذا التقدير تكون النطفة جسما مختلف الأجزاء والطبائع.

وإذا عرف هذا ، فالنطفة : إمّا أن تكون جسما متساوي الأجزاء في الطبيعة ، والماهية ، أو مختلف الأجزاء ، فإن كان الأول لم يجز أن يكون المقتضي لتوليد البدن منها هو الطبيعة الحاصلة في جوهر النطفة ودم الطّمث ؛ لأنّ الطبيعة تأثيرها بالذات والإيجاب لا بالتدبير والاختيار ، والقوة الطبيعية إذا عملت في مادة متشابهة الأجزاء وجب أن يكون فعلها هو الكره.

__________________

(١) في ب : الأدنى.

(٢) في ب : الصبغة.

٨

وعلى هذا الحرف عوّلوا في قولهم : البسائط يجب أن يكون شكلها الكرة ؛ وحيث لم يكن الأمر كذلك ؛ علمنا أنّ المقتضي لحدوث الأبدان الحيوانية ليس هو الطبيعة ؛ بل فاعل مختار ، وهو يخلق بالتّدبير ، والحكمة ، والاختيار ، وإن قلنا : إنّ النطفة جسم مركبّ من أجزاء مختلفة في الطبيعة والماهية ، فنقول : بتقدير أن يكون الأمر كذلك ، فإنه يجب أن يكون تولد البدن منها تدبير فاعل مختار حكيم ، وبيانه من وجهين :

الأول : أن النطفة رطوبة سريعة الاستحالة ، وإذا كان كذلك ؛ كانت الأجزاء الموجودة فيها لا تحفظ الوضع والنسبة ، فالجزء الذي هو مادة الدماغ قد يصير أسفل ، والجزء الذي هو مادة القلب قد يحصل فوق ، وإذا كان كذلك وجب اختلاف أعضاء الحيوان وحيث لم يكن الأمر كذلك وجب أن لا تكون أعضاء الحيوان على هذا الترتيب المعيّن أمرا دائما ؛ علمنا أنّ حدوث هذه الأعضاء على هذا الترتيب الخاصّ ليس إلا بتدبير الفاعل المختار.

الوجه الثاني : أنّ النطفة بتقدير أنّها جسم مركب من أجسام مختلفة الطبائع إلّا أنّه يجب أن ينتهي تحليل تركيبها إلى آخر يكون كل واحد منها في نفسه جسما بسيطا.

وإذا كان كذلك ، فلو كان المدبّر لها قوة طبيعية لكان كل واحد من تلك البسائط يجب أن يكون شكله هو الكرة فيلزم أن يكون الحيوان على شكل كرات مضمومة بعضها إلى بعض.

وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أنّ مدبّر أبدان الحيوانات ليس هي الطبائع ، ولا تأثيرات النجوم والأفلاك ، لأنّ تلك التأثيرات متشابهة ؛ فعلمنا أنّ مدبر أبدان الحيوانات فاعل مختار حكيم.

قوله تعالى : (مِنْ نُطْفَةٍ) متعلق ب «خلق» و«من» لابتداء الغاية.

والنّطفة : القطرة من الماء ؛ نطف رأسه ماء ، أي : قطر ، وقيل : هي الماء الصافي ، ويعبر بها عن ماء الرجل ، ويكنى بها عن اللؤلؤة ، ومنه : صبي منطّف إذا كان في أذنه لؤلؤة ، ويقال : ليلة نطوف إذا جاء فيها المطر ، والنّاطف : ما سال من المائعات يقال : نطف ينطف ، أي : سال فهو ناطف ، وفلان ينطف بسوء.

قوله : (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ) عطف هذه الجملة على ما قبلها ، فإن قيل : الفاء تدل على التعقيب ، ولا سيمّا وقد وجد معها «إذا» التي تقتضي المفاجأة ، وكونه خصيما مبينا لم يعقب خلقه من نطفة ، إنما توسّطت بينهما وسائط كثيرة.

فالجواب من وجهين :

أحدهما : أنه من باب التعبير عن حال الشيء بما يؤول إليه ، كقوله تعالى : (أَعْصِرُ خَمْراً).

والثاني : أنه أشار بذلك إلى سرعة نسيانهم مبدأ خلقهم.

٩

وقيل : ثمّ وسائط محذوفة.

والذي يظهر أن قوله «خلق» عبارة عن إيجاده ، وتربيته إلى أن يبلغ حدّ هاتين الصفتين.

و«خصيم» : فعيل مثال مبالغة من خصم بمعنى اختصم ، ويجوز أن يكون بمعنى مخاصم ، كالخليط والجليس ، ومعنى «خصيم» جدول بالباطل.

فصل

اعلم أنّه ـ سبحانه وتعالى ـ إنّما يخلق الإنسان من نطفة بواسطة تغيرات كثيرة مذكورة في قوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) [المؤمنون : ١٢] الآيات إلّا أنّه ـ تعالى ـ اختصرها هاهنا استغناء بذكرها هناك.

قال الواحديّ رحمه‌الله : الخصيم بمعنى المخاصم. وقال أهل اللغة : خصيمك الذي يخاصمك ، وفعيل بمعنى مفاعل معروف ، كالنّسيب والعشير.

ووجه الاستدلال بكونه خصيما على وجود الإله المدبّر الحكيم : أنّ [النفوس](١) الإنسانيّة في أول الفطرة أقل فهما وذكاء من نفوس سائر الحيوانات ؛ ألا ترى أنّ ولد الدجاجة حالما يخرج من قشر البيضة يميّز الصديق والعدوّ ، ويهرب من الهرّة ، ويلتجىء إلى الأمّ ويميز الغذاء الموافق ، والغذاء الذي لم يوافق.

وأمّا ولد الإنسان فإنّه حال انفصاله من بطن الأمّ لا يميز ألبتّة بين العدوّ والصديق ولا بين الضارّ والنافع ، فظهر أنّ الإنسان في أول الحدوث أنقص حالا ، وأقلّ فطنة من سائر الحيوانات.

ثم إنّ الإنسان بعد كبره يقوى عقله ويعظم فهمه ، ويصير بحيث يقوى على مساحة السماوات والأرض ، ويقوى على معرفة الله ـ عزوجل ـ وصفاته ، وعلى معرفة أصناف المخلوقات من الأرواح والأجسام والفلكيات والعنصريات ، ويقوى على إيراد الشبهات القوية في دين الله ـ تعالى ـ والخصومات الشديدة في كل المطالب ، فانتقال نفس الإنسان من تلك البلادة المفرطة إلى هذه الكياسة المفرطة لا بدّ وأن يكون بتدبير مدبر مختار حكيم بنقل الأرواح من نقصانها إلى كمالاتها ، ومن جهالاتها إلى معارفها بحسب الحكمة والاختيار فهذا هو المراد من قوله تعالى : (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ).

وفي معنى كونه خصيما مبينا وجهان :

الأول : أنه يجادل عن نفسه منازعا للخصوم بعد أن كان نطفة قذرة وجمادا ، لا حسّ فيه ولا حركة ، والمقصود منه أنّ الانتقال من تلك الحالة الخسيسة إلى هذه الحالة العالية الشريفة لا يحصل إلا بتدبير مدبر حكيم.

__________________

(١) في أ: النفس.

١٠

والثاني : فإذا هو خصيم لربّه ، منكر على خالقه ، قائل : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) [يس : ٧٨] والغرض وصف الإنسان بالإفراط في الوقاحة والجهل والتّمادي في كفران النّعمة.

كما نقل أنّها نزلت في أبي بن خلف الجمحي ؛ وكان ينكر البعث جاء بعظم رميم ، فقال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أتقول إنّ الله ـ تعالى ـ يحيي هذا بعد ما قد رمّ؟.

والصحيح أنّ الآية عامة ؛ لأنّ هذه الآيات ذكرت لتقرير الاستدلال على وجود الصّانع الحكيم لا لتقرير وقاحة النّاس وتماديهم في الكفر والكفران.

قوله تعالى : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ) الآية هذه الدلالة الثالثة ؛ لأنّ أشرف الأجساد الموجودة في العالم السفليّ بعد الإنسان سائر الحيوانات لاختصاصها بالقوى الشريفة ، وهي الحواسّ الظاهرة والباطنة والشهوة والغضب.

قوله : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها) العامة على النصب ، وفيه وجهان :

أحدهما : أنه نصب على الاشتغال وهو أرجح من الرفع لتقدم جملة فعليّة.

والثاني : أنه نصب على عطفه على «الإنسان» ، قاله الزمخشريّ ، وابن عطيّة فيكون «خلقها» على هذا مؤكدا ، وعلى الأول مفسرا.

وقرىء (١) شاذّا «والأنعام» رفعا وهي مرجوحة.

قوله : (لَكُمْ فِيها دِفْءٌ) يجوز أن يتعلق «لكم» ب «خلقها» ، أي : لأجلكم ولمنافعكم ، ويكون «فيها» خبرا مقدما ، و«دفء» مبتدأ مؤخر ، ويجوز أن يكون «لكم» هو الخبر ، أو يكون «فيها» هو الخبر ، و«لكم» متعلق بما تعلّق به الخبر ، أو يكون «فيها» حالا من «دفء» لأنه لو تأخر لكان صفة له ، أو يكون «فيها» هو الخبر ، و«لكم» متعلق بما تعلق به ، أو يكون حالا من «دفء» قاله أبو البقاء (٢).

وردّه أبو حيّان (٣) : بأنّه إذا كان العامل في الحال معنويّا ، فلا يتقدم على الجملة بأسرها ، ولا يجوز «قائما في الدّار زيد» فإن تأخّرت نحو «زيد في الدّار قائما» جاز بلا خلاف ، أو توسّطت بخلاف أجازه الأخفش ومنعه غيره.

ولقائل أن يقول : لما تقدم العامل فيها ، وهي معه جاز تقديمها عليه بحالها إلا أن نقول : لا يلزم من تقديمها وهو متأخر تقديمها عليه وهو متقدم لزيادة الفتح.

وقال أبو البقاء أيضا : «ويجوز أن يرتفع «دفء» ب «لكم» أو ب «فيها» والجملة كلّها حال من الضمير المنصوب».

قال أبو حيان «ولا يسمّى جملة ، لأنّ التقدير : خلقها كائن لكم فيها دفء ، أو خلقها لكم كائنا فيها دفء».

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ٧٨.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٦٠.

(٣) ينظر : الدر المصون ٤ / ٣١٣.

١١

قال شهاب الدّين : «قد تقدم الخلاف في تقدير متعلق الجار إذا وقع حالا أو صفة أو خبرا ، هل يقدر فعلا أو اسما ، ولعلّ أبا البقاء نحا إلى الأول فتسميته له جملة صحيح على هذا».

والدّفء : اسم لما يدفأ به ، أي : يسخن.

قال الأصمعيّ : ويكون الدفء السخونة ، يقال : اقعد في دفء هذا الحائط ، أي : في كنفه ، وجمعه أدفاء ، ودفىء يومنا فهو دفيء ، ودفىء الرّجل يدفأ دفأة فهو دفآن ، وهي دفأى ، كسكران ، وسكرى.

والمدفّئة بالتخفيف والتشديد ، الإبل الكثيرة الوبر والشّحم ، وقيل : الدّفء : نتاج الإبل وألبانها وما ينتفع به منها.

وقرأ زيد بن علي : «دف» بنقل حركة الهمزة إلى الفاء ، والزهريّ : كذلك إلّا أنّه شدّد الفاء ، كأنّه أجرى الوصل مجرى الوقف ، نحو قولهم : هذا فرخّ بالتشديد وقفا.

وقال صاحب اللّوامح : «ومنهم من يعوض من الهمزة فيشدّد الفاء وهو أحد وجهي حمزة بن حبيب وقفا».

قال شهاب الدّين (١) : والتشديد وقفا : لغة مستقلة وإن لم يكن ثمّ حذف من الكلمة الموقوف عليها.

قوله «ومنافع» أراد النّسل ، والدّرّ ، والركوب ، والحمل ، وغيرها ، فعبر عن هذا الوصف بالمنفعة ؛ لأنّه الأعمّ ، والدر والنسل قد ينتفع به بالبيع بالنقود ، وقد ينتفع به بأن تبدّل بالثياب ، وسائر الضّروريات ، فعبّر عن جملة الأقسام بلفظ المنافع ليعمّ الكل.

فصل

الحيوانات قسمان :

منها ما ينتفع به الإنسان ، ومنها ما لا يكون كذلك ، والقسم المنتفع به [أفضل](٢) من الثاني ، والمنتفع به إمّا أن ينتفع به الإنسان في ضروراته ، مثل الأكل واللبس أو في غير ضروراته ، والأول أشرف وهو الأنعام ، فلهذا بدأ بذكره فقال : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ) وهي عبارة عن الأزواج الثمانية ، وهي الضّأن والمعز والبقر والإبل.

قال الواحديّ : تمّ الكلام عند قوله : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها) ثم ابتدأ وقال : (لَكُمْ فِيها دِفْءٌ).

قال صاحب النّظم : أحسن الوجهين أن يكون الوقف عند قوله : «خلقها» ؛ لأنه عطف عليه (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ) والتقدير : لكم فيها دفء ولكم فيها جمال.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٤ / ٣١٣.

(٢) في ب : أشرف.

١٢

ولما ذكر الأنعام ، أتبعه بذكر المنافع المقصودة منها ، وهي إما ضرورية ، أو غير ضرورية ، فبدأ بذكر المنافع الضرورية ؛ فقال : (لَكُمْ فِيها دِفْءٌ) وقد ذكر هذا المعنى في آية أخرى ، فقال سبحانه : (وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) [النحل : ٨٠].

والمعنى : ملابس ولحفاء يستدفئون بها ، ثم قال : «ومنافع» والمراد ما تقدم من نسلها ودرّها.

ثم قال : (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) ، «من» ها هنا لابتداء الغاية ، والتبعيض هنا ضعيف.

قال الزمخشري (١) : «فإن قلت : تقديم الظرف مؤذن بالاختصاص ، وقد يؤكل من غيرها ، قلت : الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس ، وأمّا غيرها من البط والدجاج ونحوها من الصّيد ، فكغير المعتد به ؛ بل جار مجرى التّفكّه».

قال ابن الخطيب (٢) : «ويحتمل أن غالب أطعمتكم منها ؛ لأنّكم تحرثون بالبقر ، والحب والثّمار التي تأكلونها ، وتكتسبون بها ، وأيضا بإكراء الإبل وتبيعون نتاجها ، وألبانها ، وجلودها ، وتشترون بها جميع أطعمتكم».

فإن قيل : منفعة الأكل مقدمة على منفعة اللّبس ، فلم أخّر منفعة الأكل في الذكر؟.

فالجواب : أنّ الملبوس أكثر من المطعوم ؛ فلهذا قدّم عليه في الذّكر فهذه المنافع الضرورية الحاصلة من الأنعام ، وأمّا المنافع غير الضرورية الحاصلة من الأنعام فأمور :

الأول : قوله (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ) كقوله (لَكُمْ فِيها دِفْءٌ).

و«حين» منصوب بنفس «جمال» أو بمحذوف ، على أنه صفة له ، أو معمول لما عمل في «فيها» أو في «لكم».

وقرأ عكرمة ، والضحاك ، والجحدري (٣) ـ رحمهم‌الله ـ : «حينا» بالتنوين ؛ على أنّ الجملة بعده صفة له ، والعائد محذوف ، أي : حينا تريحون فيه وحينا تسرحون فيه ، كقوله (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ) [البقرة : ٢٨] وقدّمت الإراحة على [السرح](٤) ؛ لأنّ الأنعام فيها أجمل لملء بطونها وتحفّل ضروعها ، بخلاف التسريح ؛ فإنها عند خروجها إلى المرعى تخرج جائعة عادمة اللّبن ثم تتفرق وتنتشر.

فصل

قد ورد الحين على أربعة أوجه :

الأول : بمعنى الوقت كهذه الآية.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٩٤.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ١٩ / ١٨١.

(٣) ينظر : الشواذ ٧٢ ، والبحر ٨ / ٤٦١ ، والدر المصون ٤ / ٣١٣.

(٤) في ب : التسرع.

١٣

الثاني : منتهى الأجل ، قال : (وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) [يونس : ٩٨] ، أي : إلى منتهى آجالهم.

الثالث : إلى ستة أشهر ، قال تعالى : (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ) [إبراهيم : ٢٥].

الرابع : أربعون سنة ، قال تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) [الإنسان : ١].

أي : أربعون سنة ، يعني آدم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ حين خلقه من طين قبل أن ينفخ فيه الروح.

والجمال : مصدر جمل بضمّ الميم يجمل فهو جميل وهي جميلة ، وحكى الكسائي : جملاء كحمراء ؛ وأنشد : [الرمل]

٣٢٩٧ ـ فهي جملاء كبدر طالع

بذّت الخلق جميعا بالجمال (١)

ويقال أراح الماشية وهراحها بالهاء بدلا من الهمزة ، وسرح الإبل يسرحها سرحا ، أي : أرسلها ، وأصله أن يرسلها لترعى ، والسّرح : شجر له ثمر ، الواحدة سرحة ، قال أبيّ : [الطويل]

٣٢٩٨ ـ أبى الله إلّا أنّ سرحة مالك

علي كلّ أفنان العضاه تروق (٢)

وقال : [الكامل]

٣٢٩٩ أـ بطل كأنّ ثيابه في سرحة

يحذى نعال السّبت ليس بتوءم (٣)

ثم أطلق على كلّ إرسال ، واستعير أيضا للطلاق ، يقال : سرح فلان امرأته كما استعير الطلاق أيضا من إطلاق الإبل من عقلها ، واعتبر من السّرح المضي فقيل : ناقة [سرح](٤) ، أي: سريعة ، وقيل : [الكامل]

٣٢٩٩ ب ـ سرح اليدين كأنّها ...

 ...........

وحذف مفعولي «تريحون وتسرحون» مراعاة للفواصل مع العلم بها.

فصل

الإراحة : ردّ الإبل بالعشيّ إلى مراحها حيث تأوي إليه ليلا ، وسرح القوم إبلهم سرحا ، إذا أخرجوها بالغداة إلى المرعى.

قال أهل اللغة : هذه الإراحة أكثر ما تكون أيّام الربيع إذا سقط الغيث ، وكثر الكلأ ، وخرجت العرب للنّجعة ، وأحسن ما يكون النعم في ذلك الوقت.

__________________

(١) ينظر : اللسان والتاج والصحاح (جمل) ، شرح المفصل ١ / ١٥ ، البحر المحيط ٥ / ٤٦١ ، روح المعاني ١٤ / ٩٩ ، الدر المصون ٤ / ٣١٤.

(٢) تقدم.

(٣) تقدم.

(٤) في ب : سرحة.

١٤

ووجه التجمل بها أنّ الراعي إذا روحها بالعشيّ وسرّحها بالغداة تزينت عند تلك الإراحة والتسريح الأفنية ، وكثر فيها النفاء والرغاء ، وعظم وقعهم عند الناس لكونهم مالكين لها.

والمنفعة الثانية قوله : (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ).

الأثقال : جمع ثقل ، وهو متاع السّفر إلى بلد. قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : «يريد من مكة إلى [المدينة](١) والشام ومصر» (٢).

وقال الواحديّ ـ رحمه‌الله ـ : «والمراد كلّ بلد لو تكلفتم بلوغه على غير إبل لشقّ عليكم».

وخصّ ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ هذه البلاد لأنّها متاجر أهل مكة.

قوله (لَمْ تَكُونُوا) صفة ل «بلد» ، و«إلّا بشقّ» حال من الضمير المرفوع في «بالغيه» ، أي : لم تبلغوه إلا ملتبسين بالمشقة (٣).

والعامة على كسر الشّين. وقرأ أبو جعفر ورويت عن نافع ، وأبي عمرو بفتحها ؛ فقيل : هما مصدران بمعنى واحد ، أي : المشقّة فمن الكسر قول الشاعر : [الطويل]

٣٣٠٠ ـ رأى إبلا تسعى ويحسبها له

أخي نصب من شقّها ودءوب (٤)

أي : من مشقّتها.

وقيل : المفتوح المصدر ، والمكسور الاسم.

وقيل : بالكسر نصف الشيء. وفي التفسير : إلّا بنصف أنفسكم ، كما تقول : لم تنله إلا بقطعه من كيدك على المجاز.

فصل

إذا حملنا الشقّ على المشقّة كان المعنى : لم تكونوا بالغيه إلّا بالمشقّة ، وإن حملناها على نصف الشيء كان المعنى : لم تكونوا بالغيه إلا عند ذهاب نصف قوتكم ونقصانها.

قال بعضهم : المراد من قوله تعالى (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ) الإبل فقط ، لأنه

__________________

(١) في أ: اليمن.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٩ / ١٨٢).

(٣) ينظر : الإتحاف ٢ / ١٨١ ، والمحتسب ٢ / ٧ ، والبحر ٥ / ٤٦٢ ، والقرطبي ١٠ / ٤٨ ، والدر المصون ٤ / ٣١٤.

(٤) البيت للنمر بن تولب. ينظر : اللسان والتاج والصحاح (شقق) ، البحر المحيط ٥ / ٤٦٢ ، مجاز القرآن ١ / ٣٥٦ ، الكامل ١ / ١٣٧٣ ، القرطبي ١٠ / ٤٨ ، روح المعاني ١٤ / ١٠٠ ، الطبري ١٤ / ٨١ ، الدر المصون ٤ / ٣١٤.

ويروى صدره هكذا :

وذي إبل يسعى ويحسبها لها

١٥

وصفها في آخر الآية بقوله ـ عزوجل ـ (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ) وهذا لا يليق إلّا بالإبل فقط.

والجواب : أنّ هذه الآيات وردت لتعديد منافع الأنعام ، فبعض تلك المنافع حاصل في الكلّ ، وبعضها يختص بالبعض ، لأنّ قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ) حاصل في البقر والغنم أيضا.

(إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) بخلقه حيث جعل لهم هذه المنافع.

فصل

احتجّ منكرو كرامات الأولياء بهذه الآية ، لأنّ هذه الآية دلت على أنّ الإنسان لا يمكنه الانتقال من بلد إلى بلد إلا بشقّ الأنفس ، وحمل الأثقال على [الجمال](١) ، فيكون الانتقال من بلد إلى بلد بعيد في ليلة واحدة من غير تعب ، وتحمّل مشقة خلاف هذه الآية ، فيكون باطلا.

ولمّا بطل القول بالكرامات في هذه الصورة ، بطل القول بها في سائر الصّور ؛ لأنه لا قائل بالفرق.

والجواب : أنّا نخصّ هذه الآية بالأدلّة الدالة على وقوع الكرامات.

قوله : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ) العامة على نصبها ؛ نسقا على الأنعام ، وقرأ ابن أبي عبلة برفعها (٢) على الابتداء ، والخبر محذوف ، أي : مخلوقة ومعدّة لتركبوها ، وليس هذا ممّا ناب فيه الجارّ مناب الخبر لكونه كونا خاصّا.

قال القرطبي (٣) : «وسمّيت الخيل خيلا لاختيالها في مشيها ، وواحد الخيل خائل ، كضائن واحد ضأن. وقيل : لا واحد له ، ولما أفرد ـ سبحانه وتعالى ـ الخيل ، والبغال ، والحمير ، بالذكر ؛ دلّ على أنّها لم تدخل في لفظ الأنعام. وقيل : دخلت ؛ ولكن أفردها بالذكر لما يتعلق بها من الركوب ، فإنّه يكثر في الخيل والبغال والحمير».

قوله : «وزينة» في نصبها أوجه :

أحدها : أنه مفعول من أجله وإنّما وصل الفعل إلى الأول باللام في قوله تعالى (لِتَرْكَبُوها) وإلى هذا بنفسه لاختلاف الشّرط في الأول ، وعدم اتحاد الفاعل ، وأنّ الخالق الله والراكب المخاطبون.

الثاني : أنّها منصوبة على الحال ، وصاحب الحال إمّا مفعول «خلقها» وإمّا مفعول «لتركبوها» فهو مصدر ، وأقيم مقام الحال.

__________________

(١) في ب : الأحمال.

(٢) ينظر : البحر ٥ / ٤٦٢ ، والقرطبي ١٠ / ٤٩ ، والدر المصون ٤ / ٣٦٤.

(٣) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٠ / ٤٩.

١٦

الثالث : أن ينتصب بإضمار فعل ، فقدره الزمخشريّ ـ رحمه‌الله ـ وخلقها زينة.

وقدره ابن عطيّة وغيره : وجعلها زينة.

الرابع : أنّه مصدر لفعل محذوف أي : «ولتتزيّنوا بها زينة».

وقرأ قتادة عن ابن أبي عامر : «لتركبوها زينة» بغير واو ، وفيها الأوجه المتقدمة ؛ ويريد أن يكون حالا من فاعل «لتركبوها» متزينين.

فصل

لمّا ذكر منافع الحيوان التي ينتفع بها من المنافع الضرورية ، ذكر بعده منافع الحيوانات التي ليست بضرورية فقال : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) ، والخيل اسم جنس لا واحد له من لفظه كالإبل.

واحتجّ القائلون بتحريم لحوم الخيل ؛ وهو قول ابن عباس ، والحكم ، ومالك ، وأبي حنيفة ـ رضي الله عنهم ـ بهذه الآية ، قالوا : منفعة الأكل أعظم من منفعة الركوب ، فلو كان أكل لحوم الخيل جائزا ؛ لكان هذا المعنى أولى بالذّكر ، وحيث لم يذكره الله ـ تعالى ـ علمنا تحريم أكله.

ويقوّي هذا الاستدلال : أنّه قال ـ تعالى ـ في صفة الأنعام (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) وهذه الكلمة تفيد الحصر ، فيقتضي أن لا يجوز الأكل من غير الأنعام فوجب أن يحرّم أكل لحوم الخيل بمقتضى هذا الحصر.

ثمّ إنّه ـ تعالى ـ ذكر بعد هذا الكلام الخيل والبغال والحمير ، وذكر سبحانه أنها مخلوقة للركوب ، وهذا يقتضي أن منفعة الأكل مخصوصة بالأنعام.

وأيضا قوله تعالى : (لِتَرْكَبُوها) يقتضي أنّ تمام المقصود من خلق هذه الأشياء الثلاثة ، هو الركوب والزينة ، ولو حلّ أكلها لما كان تمام المقصود من خلقها هو الركوب ، بل كان حلّ أكلها أيضا مقصودا ؛ وحينئذ يخرج جواز ركوبها عن أن يكون تمام المقصود ؛ بل يصير بعض المقصود.

وأجاب الواحديّ ـ رحمه‌الله ـ : بأنّه لو دلّت هذه الآية على تحريم أكل الخيل ؛ لكان تحريم أكلها معلوما في مكّة ؛ لأنّ هذه السورة مكية.

ولو كان الأمر كذلك لكان قول عامة المفسرين والمحدّثين إنّ تحريم لحوم الحمر الأهلية كان عام خيبر باطلا ؛ لأنّ التحريم لما كان حاصلا قبل هذا اليوم ، لم يبق لتخصيص هذا التّحريم بهذه [السنة](١) فائدة.

وأجاب غيره : بأنه ليس المراد من الآية بيان التّحليل والتحريم ؛ بل المراد منه أن

__________________

(١) في ب : الشبهة.

اللّباب / ج ١٢ / م ٢

١٧

يعرّف الله ـ تعالى ـ عباده نعمه ، وتنبيههم على كمال قدرته وحكمته.

واحتجّوا بقول جابر ـ رضي الله عنه ـ : «نهى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر ورخّص في لحوم الخيل» (١).

ولمّا ذكر ـ تعالى ـ أصناف الحيوانات المنتفع بها ، ذكر بعده الأشياء التي لا ينتفع غالبا بها فذكرها على سبيل الإجمال.

فقال سبحانه وتعالى : (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) وذلك لأنّ أنواعها وأصنافها خارجة عن الإحصاء ؛ فذكر ذلك على سبيل الإجمال.

وروى عطاء ومقاتل والضحاك عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : «إنّ عن يمين العرش نهرا من نور مثل السّموات السّبع والبحار السّبعة والأرضين السبع يدخل فيه جبريل ـ عليه الصلاة والسلام ـ كلّ سحر فيزداد نورا إلى نوره وجمالا إلى جماله ، ثمّ ينتفض فيخلق الله ـ سبحانه وتعالى ـ من كلّ نقطة تقع من ريشه كذا وكذا ألف ملك ، يدخل منهم كلّ يوم سبعون ألفا البيت المعمور ، وفي الكعبة أيضا سبعون ألفا لا يعودون إلى يوم القيامة» (٢).

قوله : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) الآية والمعنى : إنما ذكرت هذه الدلائل وشرحتها ؛ إزاحة للعذر ؛ وإزالة للعلّة (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) [الأنفال : ٤٢].

قوله : (وَمِنْها جائِرٌ) الضمير يعود على السبيل ؛ لأنّها تؤنث (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي) [يوسف : ١٠٨] أو لأنّها في معنى سبل ، فأنّث على معنى الجمع ، والقصد مصدر يوصف به فهو بمعنى قاصد ، يقال : سبيل قصد وقاصد ، أي : مستقيم ، كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه.

وقيل : الضمير يعود على الخلائق ؛ ويؤيده قراءة (٣) عيسى ، وما في مصحف عبد الله : «ومنكم جائر» ، وقراءة (٤) عليّ : «فمنكم جائر» بالفاء.

وقيل : «أل» في «السّبيل» للعهد ؛ وعلى هذا يعود الضمير على السبيل التي تتضمنها معنى الآية ؛ لأنّه قيل : ومن السبيل فأعاد عليها ، وإن لم يجر له ذكر ؛ لأنّ مقابلها يدلّ عليها ، وأما إذا كانت «أل» للجنس فيعود على لفظها.

__________________

(١) أخرجه البخاري (٩ / ٥٦٥) كتاب الذبائح والصيد : باب لحوم الخيل (٥٥٢٠) ومسلم (١٥٤١٣) كتاب الصيد والذبائح : باب في أكل لحوم الخيل حديث (٣٦ / ١٩٤١) وأبو داود (٣٧٨٨) والدارمي (٢ / ٨٧) والبيهقي (٩ / ٣٢٦ ـ ٣٢٧) وأحمد (٣ / ٣٦١) والطحاوي (٢ / ٣١٨) والبغوي في «شرح السنة» (٦ / ٤٧) من طرق عن حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن جابر به.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٩ / ١٨٤).

(٣) ينظر : البحر ٥ / ٤٦٣ ، والدر ٤ / ٣١٥.

(٤) ينظر : السابق.

١٨

والجور : العدول عن الاستقامة ؛ قال النابغة : [الطويل]

٣٣٠١ ـ ...........

يجور بها الملّاح طورا ويهتدي (١)

وقال آخر : [الكامل]

٣٣٠٢ ـ ومن الطّريقة جائر وهدى

قصد السّبيل ومنه ذو دخل (٢)

وقال أبو البقاء (٣) : و«قصد» مصدر بمعنى إقامة السّبيل ، أو تعديل السبيل ، وليس مصدر قصدته بمعنى أتيته.

فصل

قوله : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) يعني بيان طريق الهدى من الضّلالة ، وقيل : بيان الحقّ من الباطل بالآيات والبراهين ، والقصد : الصراط المستقيم.

(وَمِنْها جائِرٌ) يعني : ومن السّبيل جائر عن الاستقامة معوجّ ، والقصد من السبيل دين الإسلام ، والجائر منها : اليهوديّة والنّصرانية وسائر ملل الكفر.

قال جابر بن عبد الله : (قَصْدُ السَّبِيلِ) بيان الشّرائع والفرائض.

وقال ابن المبارك وسهل بن عبد الله : (قَصْدُ السَّبِيلِ) السنة ، (وَمِنْها جائِرٌ) الأهواء والبدع ؛ لقوله تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) [الأنعام : ١٥٣].

فصل

قالت المعتزلة : دلت الآية على أنّه يجب على الله الإرشاد والهداية إلى الدّين وإزالة العلل [والأعذار](٤) ؛ لقوله (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) وكلمة «على» للوجوب ، قال تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [آل عمران : ٩٧] ودلت الآية أيضا على أنه تعالى لا يضلّ أحدا ولا يغويه ولا يصده عنه ، لأنه لو كان ـ تعالى ـ فاعلا للضّلال ؛ لقال (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) وعليه جائرها ، أو قال : وعليه الجائر فلمّا لم يقل ذلك ، بل قال في قصد السبيل أنه عليه ، ولم يقل في جور السبيل أنه عليه ، بل قال : (وَمِنْها جائِرٌ) دلّ على أنّه ـ تعالى ـ لا يضلّ عن الدين أحدا.

وأجيب : بأنّ المراد على أنّ الله ـ تعالى ـ بحسب الفضل والكرم ؛ أن يبين الدّين

__________________

(١) عجز بيت لطرفة بن العبد وليس كما قال المصنف رحمه‌الله وصدره :

عدوليّة أو من سفين ابن يامن

ينظر : ديوانه (٢٠) البحر المحيط ٥ / ٤٦٣ وشرح القصائد السبع ١٣٧ وشرح المعلقات العشر ٩٢ ، وتفسير القرطبي ١٠ / ٥٤ والخصائص ٢ / ١٢١ ، والمنصف ٢ / ١٢١ ، ورصف المباني ص ٤٤٧.

(٢) البيت لامرىء القيس ، ينظر : الديوان / ١٥٢ ، فتح القدير ٣ / ١٤٩ ، البحر المحيط ٥ / ٤٦٣ ، القرطبي ١٠ / ٥٤ ، الدر المصون ٤ / ٣١٥.

(٣) ينظر : الإملاء ٢ / ٧٨.

(٤) في ب : والأغلال.

١٩

الحق ، والمذهب الصحيح ، فأما أن يبين كيفية الإغواء والإضلال ؛ فذلك غير واجب.

قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) يدل على أنّه ـ تعالى ـ ما شاء هداية الكفار ، وما أراد منهم الإيمان ؛ لأنّ كلمة «لو» تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره ، أي : ولو شاء هدايتكم لهداكم أجمعين ، وذلك يفيد أنه ـ تعالى ـ ما شاء هدايتهم فلا جرم ما هداهم.

وأجاب الأصمّ : بأنّ المراد : لو شاء أن يلجئكم إلى الإيمان لهداكم ، وهذا يدل على أنّ مشيئة الإلجاء لم تحصل.

وأجاب الجبائيّ : بأنّ المعنى : ولو شاء لهداكم إلى الجنّة وإلى نيل الثواب ؛ لكنّه لا يفعل ذلك إلا بمن يستحقه ، ولم يرد به الهدى إلى الإيمان ؛ لأنّه مقدور جميع المكلّفين.

وأجاب بعضهم ؛ فقال المراد : ولو شاء لهداكم إلى الجنّة ابتداء على سبيل التفضل ، إلّا أنّه ـ تعالى ـ [عرّفكم](١) للمنزلة العظيمة بما نصب من الأدلة وبيّن ، فمن تمسّك بها فاز ، ومن عدل عنها فاتته وصار إلى العذاب. وتقدم الجواب عن ذلك مرارا.

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ)(١٧)

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) لمّا استدلّ على وجود الصانع الحكيم بأحوال الحيوان ، أتبعه بذكر الاستدلال على وجود الصانع الحكيم بعجائب أحوال النبات.

واعلم أنّ الماء المنزّل من السماء هو المطر وهو قسمان :

أحدهما : الذي جعله الله شرابا لنا ، ولكل حيّ.

__________________

(١) في أ: عرضكم.

٢٠