جنّة الحوادث في شرح زيارة وارث

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني

جنّة الحوادث في شرح زيارة وارث

المؤلف:

الملّا حبيب الله الشريف الكاشاني


المحقق: نزار الحسن
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: دار جلال الدين
المطبعة: باقري
الطبعة: ٢
ISBN: 964-94216-1-0
الصفحات: ١٩٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

اَلسَّلَامُ عَلَيْكَ يَا وَارِثَ نُوحٍ نَبِيِّ اللهِ .

وهو نوح بن لمك (١) الملقّب بشيخ الأنبياء ، بنجيّ الله ، لأنّ الله نجّاه من الطوفان بما أمره به من صنع السفينة كما قال : (فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا) (٢) . وقصّته معروفة .

وهو أحد أُولي العزم من الرُّسل ، وهم على المشهور خمسة : نوح ، وإبراهيم ، وموسىٰ ، وعيسىٰ ، ومحمّد ، لأنّ كلّاً منهم أتىٰ بعزم وشريعة ناسخة لشريعة مَنْ تقدّمه (٣) ، وعن بعض أنّهم نوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسىٰ ومحمّد .

________________________

١ ـ هو نوح بن لامك بن متو شالح بن أخنوخ بن يارد بن مهلئيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم أبي البشر . (راجع قصص الأنبياء ، لعبد الوهاب النجّار ص ٣٢) .

٢ ـ المؤمنون : ٢٧ .

٣ ـ روىٰ شيخنا الصدوق في علل الشرائع ج ١ ، ص ١٤٩ ، ح ٢ باب ١٠١ ، ط : بيروت الأعلمي ، عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : «إنّما سمّي أولوا العزم أولي العزم لأنّهم كانوا أصحاب العزائم والشرائع ، وذلك أنّ كلّ نبيّ كان بعد نوح عليه‌السلام كان على شريعته ومنهاجه ، وتابعاً لكتابه إلى زمان إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، وكلّ نبيّ كان في أيّام إبراهيم وبعده كان على شريعة إبراهيم ومنهاجه وتابعاً لكتابه إلى زمن موسى عليه‌السلام ، وكلّ نبي كان في زمن موسى عليه‌السلام وبعده كان على شريعة موسىٰ ومنهاجه ، وتابعاً لكتابه إلى أيّام عيسىٰ عليه‌السلام وبعده كان على منهاج عيسى وشريعته ، وتابعاً لكتابه إلى زمن نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهؤلاء الخمسة هم أولوا العزم ، وهم أفضل الأنبياء والرسل عليهم‌السلام ، وشريعة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله لا تنسخ إلى يوم القيامة ولا نبيّ بعده إلى يوم القيامة ، فمن ادّعىٰ بعد نبيّنا أو أتىٰ بعد القرآن بكتاب فدمه مباح لكلّ مَن سمع ذلك منه» .

٦١

وعن بعض أنّهم : نوح ، وإبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، ويوسف ، وأيّوب .

وقيل : إنّهم جميع الرُّسل لأنّهم كانوا أولي الجد والثبات والعزم على إقامة أمر الله والصبر على أذى أعداء الله ، وقد تقدّم من الروايات يُعيّن المشهور .

فإن قيل : فما الوجه في وصف نوح بكونه نبيّ الله مع أنّ جميعهم كذلك ؟

قلنا : لكونه أوّل أولي العزم من الرُّسل ولطول مكثه في قومه يدعوهم إلى الهدى ودين الحقّ ، فقد مكث في قومه ألف سنة إلّا خمسين عاماً (١) ، ولذا لقّب بشيخ الأنبياء ، وقصص أذىٰ قومه له وصبره على أذاهم في المدّة الطويلة مشهورة (٢) ، ولأنّ الله لمّا أهلك الناس بالطوفان لم يبق على وجه الأرض سواه وسوى ولده ، فنشأ الناس منهم ، ولذا سمّي بآدم الثاني فهو عليه‌السلام أظهر آثاراً في مرتبة النبوّة من سائر الأنبياء . ثمّ النبيّ على ما صرّح به كثير هو : الإنسان المخبر عن الله بغير واسطة بشر (٣) ، سواء كان له شريعة ، أو لم يكن له . مشتقّ من النبأ

________________________

وروى عليّ بن إبراهيم القمّي في تفسيره ج ٢ ، ص ٣٩ في تفسير سورة طه ط : الأعلمي . والشيخ الصدوق في علله ج ١ ص ١٤٩ ، ح ١ ، باب ١٠١ ، عن أبي جعفر ـ الباقر عليه‌السلام ـ : في قول الله عزّوجلّ : (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) قال : عهد إليه في محمّد والأئمّة من بعده فترك ، ولم يكن له عزم فيهم أنّهم هكذا ، وإنّما سمّي أولوا العزم لأنّهم عهد إليهم في محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله والأوصياء عليهم‌السلام من بعده ، والمهدي (عج) وسيرته فأجمع عزمهم أنّ ذلك كذلك والإقرار به) .

١ ـ راجع قصص الأنبياء للسيّد نعمة الله الجزائري قدس‌سره ص ٧٩ الباب الثالث ط : قم ، الشريف الرضي .

٢ ـ في نفس المصدر ذكر رحمه‌الله : (كان يضربه قومه حتّى يُغشىٰ عليه فإذا أفاق قال : (اللّهم إهد قومي فإنّهم لا يعلمون) وكانوا يثورون إلى نوح عليه‌السلام فيضربونه حتّى تسيل مسامعه دماً) .

٣ ـ الباب الحادي عشر للعلّامة الحلّي ص ٧٣ ، الفصل الخامس في النبوّة ، ط : قم .

٦٢

وهو الخبر ، أو من النبوّة والنباوة (١) وهي الرفعة فهو أعمّ مطلقاً (٢) من الرسول ، لأنّه الإنسان المخبر عن الله بغير واسطة أحد من البشر وله شريعة مبتدأة كآدم عليه‌السلام ، أو ناسخة كموسىٰ وعيسىٰ ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وربما يُطلق الرسول على الملك أيضاً ، فالفرق عموم و خصوص من وجه (٣) ، وربما يُفرّق بينهما بوجوه أُخر (٤) .

وفي بعض الكتب المستظهرية أنّ النبوّة طريق بين الله ونبيّه ، والرسالة طريق بين النبيّ وأُمّته فالنبوّة بمنزلة الغمام والرسالة بمنزلة القطر ، والفائدة للتراب في المطر أمّا الغمام محلّه المطر والغمام اجتماع بخارات لطيفة متصاعدة ، والمطر تحليل تلك البخارات واستحالتها إلى صورة المائية من صورة الهوائية ، وبتلك الاستحالة نازلة إلى جهة الأسفل ، والرسالة مطر قطرت

________________________

١ ـ راجع لسان العرب لابن منظور ج ١٤ ، ص ٣٠ مادّة (نبا) ط : دار إحياء التراث العربي ، بيروت .

٢ ـ الأعمّ مطلقاً : يكون بين المفهومين اللذين يصدق أحدهما على جميع ما يصدق عليه الآخر . كالحيوان والإنسان ، فكلّ ما صدق عليه الإنسان يصدق عليه الحيوان (راجع المنطق للشيخ المظفر ج ١ ، ص ٧٧ ، ط قم) .

٣ ـ العموم والخصوص من وجه : وهو أيضاً من المصطلحات المنطقية التي تكون بين المفهومين اللذين يجتمعان في بعض مصاديقهما ، ويفترق كلّ منهما عن الآخر في مصاديق تخصّه ، كالطير والأسود ، فإنّهما يجتمعان في الغراب لأنّه طيرٌ وأسود ، ويفترق الطير عن الأسود في الحمام مثلاً ، والأسود عن الطير في الصوف الأسود مثلاً . (راجع نفس المصدر السابق)

٤ ـ راجع كتاب بصائر الدرجات ج ٨ ، ص ٣٦٨ ، الباب الأوّل حيث ذكر باباً في الفرق بين الأنبياء والرُّسل عليهم‌السلام .

٦٣

على أرض الأرواح من غمام النبوّة ينال النفوس فوائدها من الرسالة وهي متولِّدة من النبوّة ، إلى أن قال : فاعلم أنّ حقيقة النبوّة إقبال العقل الأوّل الذي هو الجوهر المبدع على إنسان كامل الذات إقبالاً كلّياً حقيقيّاً بحيث يصير مباشراً في ذاته فيتكلّم بلسانه ويرىٰ ببصره ويسمع بإذنه .

وقد يُقال : إنّ النبوّة هو كون الإنسان خليفة لله بالخلافة المشار إليها بقوله : (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (١) وتلك الخلافة الموروثة من آدم ما ظهرت بكمال ذاتها وتمام صفاتها إلّا في خمسة مراتب والمراتب التي ظهرت الخلافة الربّانية فيها هم أشخاص أولي العزم من الرسل عليهم‌السلام ، وتلك الخلافة يستحقّها محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بالاصالة بحسب الباطن كما يستحقّها آدم عليه‌السلام كذلك بحسب الظاهر ولذا قيل لآدم أنّه آدم الصورة ولمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه آدم الحقيقة ، فكما أنّ آدم الصورة أوّل الإنسان كذلك آدم الحقيقة خاتم الأنبياء ، فنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أصلية يتفرّع عليها سائر النبوّات ، فلولاه ما ظهرت لنبيٍّ نبوّة أصلاً ، فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله نبي الله حقيقةً وأصالةً وسائر الأنبياء نبوّتهم من رشحات نبوّته .

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : (كنت نبيّاً وآدم بين الماء والطين) (٢) .

وهذا هو السرّ في بقاء شريعته إلى يوم الدِّين بخلاف شرائع سائر المرسلين فإنّها منصرمة منقطعة بشريعة خاتم النبيِّين صلى‌الله‌عليه‌وآله .

________________________

١ ـ البقرة : ٣٠ .

٢ ـ راجع دفع المناواة عن التفضيل والمساواة ص ٩١ ، ط قم مكتبة الأمين . وراجع مشارق أنوار اليقين للبرسي ص ٥٨ في فصل (أوّل الخلق نور محمّد وعليّ) ط : بيروت . وبحار الأنوار ج ٢٥ ، ص ٢٢ ، ح ٣٨ . والأنوار النعمانية للسيّد نعمة الله الجزائري ج ١ ، ص ٢٢ .

٦٤

اَلسَّلَامُ عَلَيْكَ يَا وَارِثَ اِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللهِ .

هو إبراهيم بن تارخ بن ناحور بن شاروخ (١) الملقّب بخليل الله ، وخليل الرحمٰن ، وأبي محمّد وأبي الأنبياء ، وأبي الضيفان ، وظاهر القرآن يقتضي كون آزر أباه (٢) . ولكن العرب كثيراً ما يطلقون الأب على العمّ (٣) ، وقد صرّح أهل التواريخ أنّ آزر كان عمّه عليه‌السلام (٤) ، وهذا هو الموافق لمذهب أهل الحقّ من أنّ آباء الأنبياء لا يكونون إلّا موحِّدين (٥) .

________________________

١ ـ تاريخ اليعقوبي ص ١٦ ح ١ ، ط النجف ١٩٦٤ م .

٢ ـ إشارة إلى قوله تعالى : (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ ...) .

٣ ـ وهذا الإطلاق أُستخدم حتّى في القرآن عن أولاد النبيّ يعقوب عليه‌السلام أنّهم قالوا : (نَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ) . ومعلوم أنّ إسماعيل كان عمّاً ليعقوب وقد أطلقوا عليه لفظ الأب فكذا هاهنا .

٤ ـ قال الطبرسي قدس‌سره في تفسيره ج ٤ ، ص ٤٠١ عن الزجاج : (ليس بين النسّابين اختلاف أنّ اسم أبي إبراهيم تارخ) .

٥ ـ روى الشيخ الطبرسي في مجمع البيان ج ٤ ، ص ٤٠١ ط : مؤسسة التاريخ العربي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : (لم يزل ينقلني الله من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهّرات حتّى أخرجني في عالمكم هذا لم يدنّسني بدنس الجاهلية) .

وممّا يدلّ على أنّ آباء الأنبياء كانوا مسلمين وطاهرين وموحدين قوله تعالى في سورة الشعراء (٢١٩) : (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) حيث روى الطبرسي في تفسيره ج ٧ ، ص ٢٦٩ عن الإمام الباقر والصادق عليهما‌السلام : (قالا : تقلّبك في أصلاب النبيّين نبيّ بعد نبيّ حتى أخرجه من صلب أبيه من نكاح غير سفاح من لدن آدم عليه‌السلام) .

٦٥

والخليل من الخلّة ، وهي بالضمّ المودّة المتناهية في الإخلاص والصداقة (١) ، والدليل على كونه عليه‌السلام خليل الله قوله : (وَاتَّخَذَ اللَّـهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) (٢) أي نبيّاً مختصّاً به أو فقيراً محتاجاً إليه ، أو عبداً مصطفى له ، أو عبداً كثير الخلوص والمودّة على اختلاف ما قيل في تفسير الآية (٣) .

وفي بعض الأخبار : (إنّ الله اتّخذ إبراهيم عبداً قبل أنْ يتّخذه نبيّاً ، ونبيّاً قبل أنْ يتّخذه رسولاً ، ورسولاً قبل أن يتّخذه خليلاً ، وخليلاً قبل أنْ يتّخذه إماماً) (٤)

________________________

ويؤيّد هذا ما رواه الشيخ الصدوق قدس‌سره في كتاب من لا يحضره الفقيه ج ٤ ص ٤١٤ ـ ح ٥٩٠١ عن عبدالله بن جابر الأنصاري في حديث طويل يصف فيه وقوع النطفة في الرحم ، وانتقال الإنسان في بدء خلقه من حال إلى حال ، فقلتُ : يارسول الله فكيف حالك وحال الأوصياء بعدك في الولادة ؟ فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مليّاً ، ثمّ قال : (يا جابر لقد سألت عن أمرٍ جسيم لا يحتمله إلّا ذو حظٍّ عظيم ، إنّ الأنبياء والأوصياء مخلوقون من نور عظمة الله جلّ ثناؤه ، يودع الله أنوارهم أصلاباً طيّبة ، وأرحاماً طاهرة ، ويحفظها بملائكته ، ويرقبها بحكمته ، ويغذوها بعلمه ، فأمرهم يُجلّ عن أن يوصف ، وأحوالهم تدقّ عن أن تعلم ، لأنّهم نجوم الله في أرضه ، وأعلامه في بريته ، وخلفاؤه على عباده ...) .

وأيضاً قال الصدوق في اعتقاداته ص ٨٥ ، الباب الأربعون : (إعتقادنا في آباء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّهم مسلمون من آدم عليه‌السلام إلى أبيه عبدالله عليه‌السلام ، وأنّ أبا طالب كان مسلماً ، وأُمّه آمنة بنت وهب كانت مسلمة) .

١ ـ راجع المنجد في اللغة ص ١٩٠ ط : ١٩٩٦ م مادّة (خل) .

٢ ـ النساء : ١٢٥ .

٣ ـ راجع مجمع البيان ج ٣ ، ص ١٤٦ في تفسير الآية حيث ذكر تفصيلاً في تفسير الآية الشريفة ، ونقل أقوالاً عديدة للمفسِّرين .

٤ ـ البحار ج ٢٥ ، ص ٢٠٥ ، ح ١٧ .

٦٦

فلمّا جمع له هذه الأشياء قال : (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) (١) ففيه دلالة على أنّ الخلّة مقام فوق مقام الرسالة (٢) ، وحكاية اختبار جبرئيل له عليه‌السلام في أمر غنمه معروفة دالّة على كماله في مقام محبّة الله وغضّ النظر عمّا سواه ، ولا يخفى أنّ الخليل عليه‌السلام ما ألبسه الله تاج الخلّة إلّا لكونه من شيعة أمير المؤمنين عليه‌السلام كما قال : (وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ) (٣) (٤) وكفاه ذلك فخراً وشرفاً ، وقد أمر

________________________

١ ـ البقرة : ١٢٤ .

٢ ـ قال السيّد كاظم الحائري في كتابه (الإمامة وقيادة المجتمع) ص ٢٧ ، ط ، قم ١٩٩٦ م : ومن قوله عليه‌السلام : (إنّ الله اتّخذه رسولاً قبل أن يتّخذه خليلاً) يبدو أنّ مقام الخلّة فوق مقام الرسالة ، فليس كلُّ رسول يصل إلى مستوى أن يكون خليلاً الله تبارك وتعالى وإبراهيم خرج من كلّ الامتحانات بنجاح ولم يصدر منه حتّىٰ ما يُسمّى بترك الأولىٰ على ما يبدو من قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ...) .

٣ ـ الصافات : ٨٣ .

٤ ـ روى السيّد شرف الدِّين علي الحسيني الاسترابادي من علماء القرن العاشر الهجري في كتابه تأويل الآيات الظاهرة ص ٤٨٤ ، ط ، قم جامعة المدرّسين عن مولانا الصادق جعفر بن محمّد عليهما‌السلام أنّه قال : قوله عزّوجلّ : (وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ) أي أنّ إبراهيم عليه‌السلام من شيعة عليّ عليه‌السلام) .

ويؤيّد هذا ما رواه أيضاً في نفس الكتاب عن أبي بصير يحيى بن القاسم قال : سأل جابر بن يزيد الجعفي جعفر بن محمّد الصادق عليهما‌السلام عن تفسير هذه الآية : (وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ) فقال عليه‌السلام : إنّ الله سبحانه لمّا خلق إبراهيم كشف له عن بصره فنظر فرأى نوراً إلى جنب العرش فقال : إلٰهي ما هذا النور ؟ فقيل له : هذا نور محمّد صفوتي من خلقي . ورأى نوراً إلى جنبه ، فقال : إلٰهي وما هذا النور ؟ فقيل له : هذا

٦٧

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله باتّباع ملّته بقوله تعالى : (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) (١) أي مستقيماً والسنن الباقية من ملّته في الشريعة المحمّدية صلى‌الله‌عليه‌وآله معروفة مشروحة في المبسوطات (٢) .

________________________

نور عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ناصر ديني . ورأى إلى جنبهم ثلاثة أنوار ، فقال : إلٰهي وما هذه الأنوار ؟ فقيل له : هذا نور فاطمة فطمت محبِّيها من النار ، ونور ولديها الحسن والحسين . فقال : إلٰهي وأرى تسعة أنوار قد أحدقوا بهم . قيل : يا إبراهيم هؤلاء الأئمّة من ولد عليّ وفاطمة ، فقال إبراهيم : بحقّ هؤلاء الخمسة إلّا عرّفتني مَنْ التسعة ؟ قيل : يا إبراهيم أوّلهم عليّ بن الحسين ، وابنه محمّد ، وابنه جعفر ، وابنه موسى ، وابنه عليّ ، وابنه محمّد ، وابنه عليّ ، وابنه الحسن ، والحجّة القائم ابنه . فقال إبراهيم : إلٰهي وسيِّدي أرى أنواراً قد أحدقوا بهم لا يُحصى عددهم إلّا أنت . قيل : يا إبراهيم هؤلاء شيعتهم شيعة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام . فقال إبراهيم : وبما تعرف شيعته ؟ قال : بصلاة إحدى وخمسين ، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، والقنوت قبل الركوع ، والتختّم في اليمين . فعند ذلك قال إبراهيم : اللّهم اجعلني من شيعة أمير المؤمنين . قال : فأخبر الله تعالى في كتابه فقال : (وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ) .

١ ـ النساء : ١٢٥ .

٢ ـ قال عليّ بن إبراهيم القمّي في تفسيره ج ١ ، ص ٦٨ ، ط بيروت الأعلمي : ـ السنن الباقية ـ وهي الحنفية العشرة وهي : خمسة في الرأس ، وخمسة في البدن ، فأمّا التي في الرأس ، فأخذ الشارب ، وإعفاء اللحىٰ ، وطم الشعر ، والسواك ، والخلال ، وأمّا التي في البدن ، فحلق الشعر من البدن ، والختان ، وقلم الأظفار ، والغسل من الجنابة ، والطهو بالماء ، فهذه خمسة في البدن وهو الحنفية الطهارة التي جاء بها إبراهيم ، فلم تُنسخ إلى يوم القيامة ، وهو قوله : (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) .

٦٨

اَلسَّلَامُ عَلَيْكَ يَا وَارِثَ مُوسىٰ كَلِيمِ اللهِ .

هو موسى بن عمران بن قهاث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه‌السلام (١) الملقّب بالكليم ، لأنّ الله ناجاه وكلّمه من دون واسطة كما قال : (وَكَلَّمَ اللَّـهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا) (٢) ، ومعنى كونه تعالى متكلِّماً أنّه موجد وخالق للحروف المسموعة المنتظمة في بعض الأجسام كالشجرة ونحوها (٣) ، وعن الأشعرية أنّه متكلِّم بلسان وشفتين (٤) .

وفساده واضح لاستلزامه الجسمية الباطلة (٥) ، وعن بعضهم أنّ الكلام صفة قديمة قائمة بالذات غير القدرة والعلم والإرادة (٦) ، وهو أيضاً باطل لاستلزامه

________________________

١ ـ تاريخ اليعقوبي ج ١ ، ص ٢٤ ، ط : النجف ١٩٦٤ م ، ولكن ذكر أبو الفداء الدمشقي في قصص الأنبياء ص ١٩٩ ، ط : المكتبة العصرية بيروت : (هو موسى بن عمران بن قاهث بن عازر بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه‌السلام) .

٢ ـ النساء : ١٦٤ .

٣ ـ قال العلّامة الحلّي قدس‌سره في الباب الحادي عشر ص ٤٠ : (أنّه ـ كلامه تعالىٰ ـ قائم بغيره لا بذاته كما أوجد الكلام في الشجرة فسمعه موسى عليه‌السلام) .

وهذا ما دلّت عليه الآية الكريمة من سورة القصص : (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللَّـهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) . حيث دلّت الآية على أنّه تعالى نادىٰ نبيّه موسىٰ عليه‌السلام وكلّمه من طريق الشجرة .

٤ ـ راجع شرح التجريد للقوشجي ص ٣١٩ .

٥ ـ وأيضاً يلزم كونه تعالى ذا حاسّة وهو باطل .

٦ ـ راجع شرح الباب الحادي عشر للسيوري ص ٣٩ في المقام الثاني من الصفحة

٦٩

تعدّد القدماء (١) ، فالحقّ أنّ كلامه مخلوق حادث كسائر صفاته الفعلية (٢) ، وتفصيل الكلام يُطلب من علم الكلام وكتب الأعلام (٣) .

وفي بعض الأخبار أنّ الذي كلّم موسىٰ كان هو أمير المؤمنين عليه‌السلام (٤) ، وأنّ النور الذي تجلّى عليه فخرّ صعقاً ، واندك به الجبل هو من نوره [عليه‌السلام] (٥) ، أو نور شيعته من الملائكة الكروبيين . وقال عليه‌السلام : (أنا ذلك النور الذي اقتبس موسىٰ منه الهدىٰ ، أنا صاحب الصور) (٦) .

______________________________________________________

السابعة ، وراجع شرح الاُصول الخمسة ص ٢٥٨ .

١ ـ قال الفاضل المقداد السيوري في شرحه للباب الحادي عشر ، ص ٤١ : (إنّه لو كان قديماً لزم تعدّد القدماء وهو باطل ، لأنّ القول بقدم غير الله كفرٌ بالإجماع . ولهذا كفرت النصارىٰ لإثباتهم قدِم الاقنوم) .

٢ ـ فقد روى الشيخ الصدوق قدس‌سره في توحيده الباب الثلاثون ، الحديث ٤ : أنّه كتب علي بن محمّد بن علي بن موسى الرضا عليه‌السلام إلى بعض شيعته ببغداد ، وفيه : «وليس الخالق إلّا الله عزّوجلّ وما سواه مخلوق والقرآن كلام الله لا تجعل له اسماً من عندك فتكون من الضالّين» .

٣ ـ راجع كشف المراد لنصير الدِّين الطوسي المتوفي سنة ٦٧٢ هـ الذي شرحه العلّامة الحلّي ، ص ٣١٥ ، ط : قم ، وحقّ اليقين للسيّد عبدالله شبّر ص ٥٥ ، ج ١ ، ط : قم أنوار الهدى .

٤ ـ راجع مشارق أنوار اليقين للبرسي ص ٣٠٦ . ط : قم .

٥ ـ إشارة إلى قوله تعالى في سورة الأعراف آية (١٤٣) : ( ... فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ...) .

٦ ـ مشارق أنوار اليقين ص ٣١٩ فصل (١٥٠) .

٧٠

اَلسَّلَامُ عَلَيْكَ يَا وَارِثَ عِيسىٰ رُوحِ اللهِ .

هذا هو عيسىٰ بن مريم الملقّب من عند الله بروح الله وكلمته (١) ، والإضافة تشريفيّة ، كما في قولهم : ناقة الله ، وبيت الله . أي روحٌ خلقه الله فشرّفه وكرّمه على سائر الأرواح .

وقد روي عن [الإمام] الباقر عليه‌السلام في قوله : (وَرُوحٌ مِّنْهُ) (٢) أنّه قال : روحٌ مخلوقة خلقها الله في آدم وعيسىٰ (٣) .

وعن الصادق عليه‌السلام في قوله : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي) (٤) إنّه قال : إنّ الروح متحرّك كالريح ، وإنّما سُمّي روحاً لأنّه اشتقّ اسمه من الريح وإنّما أخرجه على لفظ الريح ، لأنّ الروح مجانس للريح وإنّما أضافه إلى نفسه ، لأنّه اصطفاه على سائر الأرواح كما قال لبيتٍ من البيوت : بيتي ، وقال لرسول من الرُّسل : خليلي وأشباه ذلك وكلّ ذلك مخلوق مصنوع محدث (٥) .

والمراد بكونه عليه‌السلام روح الله أنّه مظهر الروح الشريفة التي نفخها فيه ، أو أنّه مظهر آثار قدرة الله وعجيب صنعه ، لأنّ الصادق عليه‌السلام قد فسَّر الروح في قوله :

________________________

١ ـ إشارة إلى قوله تعالى في سورة النساء آية (١٧١) : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّـهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ...) .

٢ ـ النساء : ١٧١ .

٣ ـ أخرجه الكليني في الكافي ج ١ ، ص ١٥٤ ، باب الروح ، ح ٢ ، ط : دار الأُسوة قم ، ولكن أخرجه عن الإمام الصادق عليه‌السلام .

٤ ـ الحجر : ٢٩ وص : ٧٢ .

٥ ـ الكافي ج ١ ، ص ١٥٤ ، ح ٣ ، باب الروح ، وذيل الحديث ( ... مربوبٌ مُدَبَّرُ) .

٧١

(وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ) (١) . بالقدرة ، قال أبو بصير في حديثٍ عنه عليه‌السلام قلت : ونفخ فيه من روحه ؟ قال : من قدرته (٢) . ويُحتمل أن يكون المراد كونه مظهراً للروح الأعظم الذي كان يتجلّى فيه أنبيائه بصورته ، وفي محمّد وآله بحقيقته ، وإليه الإشارة فيما رواه أبو أيّوب عن الصادق عليه‌السلام قال ؛ سمعته يقول : (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (٣) قال : ملك أعظم من جبرئيل وميكائيل لم يكن مع أحد ممّن مضىٰ غير محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو مع الأئمّة ، وليس كلّما طلبَ وجد (٤) .

وقال الباقر عليه‌السلام : (إنّ الله خلق الأنبياء والأئمّة على خمسة أرواح : روح القوّة ، وروح الإيمان ، وروح الحياة ، وروح الشهوة ، وروح القدس . فروح القدس من الله ، وسائر الأرواح يُصيبها الحدثان ، فروح القدس لا يلهو ولا يتغيّر ولا يلعب ، وبروح القدس علموا يا جابر ما دون العرش إلى ما تحت الثرى (٥) .

________________________

١ ـ السجدة : ٩ .

٢ ـ أخرجها الصفّار في بصائر الدرجات ج ٩ ، ص ٤٦٢ ، الباب الثامن عشر ، ح ٨ ، ط : مكتبة المرعشي النجفي ، قم .

٣ ـ الإسراء : ٨٥ .

٤ ـ بصائر الدرجات ج ٩ ، ص ٤٦١ ، الباب الثامن عشر ، ح ٤ .

وأيضاً روى في نفس المصدر ح ٥ عن أبي بصير قال : قلت لأبي عبدالله عليه‌السلام : (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) . قال : هو خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول الله يوفّقه وهو معنا أهل البيت . وهناك الكثير من الروايات التي تذكر هذا المعنى ، ولكن اكتفينا بهذا المقدار وعليك بمراجعة نفس المصدر .

٥ ـ أخرجها الصفّار في بصائر الدرجات ج ٩ ، ص ٤٤٧ في الباب الرابع عشر ، ح ٤ ،

٧٢

وفي رواية أُخرى عن الصادق عليه‌السلام : (يا مفضّل أنّ الله جعل للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله خمسة أرواح : روح الحياة فيه دبّ ودرج ، وروح القوّة فيه نهض وجاهد ، وروح الشهوة فيه أكل وشرب وأتى النساء من الحلال ، وروح الإيمان فيه أمر وعدل ، وروح القدس فيه حمل النبوّة فإذا قُبض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله انتقل روح القدس فصار في الإمام ، وروح القدس لا ينام ولا يغفل ولا يلهو ولا يسهو ، والأربعة الأرواح تنام وتلهو وتغفل وتسهو ، وروح القدس ثابت يرىٰ به ما في شرق الأرض وغربها وبرّها وبحرها . قلت : جُعِلتُ فداك يتناول الإمام ما ببغداد بيده ؟ قال : نعم وما دون العرش) (١) .

______________________________________________________

ولكن الشارح رحمه‌الله لم ينقل هذه الرواية بشكلٍ دقيق وإليك نصّها : «عن جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن علم العالم . فقال : يا جابر أنّ في الأنبياء والأوصياء خمسة أرواح روح القدس ، وروح الإيمان ، وروح الحياة ، وروح القوّة ، وروح الشهوة ، فبروح القدس يا جابر علمنا ما تحت العرش إلى ما تحت الثرىٰ ، ثمّ قال : يا جابر أنّ هذه الأرواح يصيبه الحدثان إلّا أنّ روح القدس لا يلهو ولا يلعب» .

١ ـ بصائر الدرجات ج ٩ ، ص ٤٥٤ ، الباب الخامس عشر ، ح ١٣ . (والحديث عن المفضل بن عمر قال : قلتُ لأبي عبدالله عليه‌السلام سألته عن علم الإمام بما في أقطار الأرض وهو في بيته مرخىٰ عليه ستره) فأجابه عليه‌السلام بهذه الرواية المذكورة في المتن ، ولكن الشارح ما ذكر مقدّمة الرواية التي ذكرناها في الهامش .

٧٣

اَلسَّلَامُ عَلَيْكَ يَا وَارِثَ مُحَمَّدٍ حَبِيبِ اللهِ .

اقتصر من ذكر الأنبياء والمرسلين على هؤلاء الستّة ؛ إمّا لكونهم بأجمعهم أُولي العزم على ما يراه بعضهم ، وإن كان المشهور عدم عدّ آدم عليه‌السلام منهم لقوله تعالىٰ : (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) (١) فأخرجه الله من عدادهم (٢) ، وأنت خبير بأنّ الظاهر من الآية العزم على المعصية ، لا على إقامة أمر الله فلابعد في كونه منهم .

وأمّا لكون الخمسة من أُولي العزم وآدم عليه‌السلام أوّل إبداع البشر قد خلقه على

________________________

١ ـ طه : ١١٥ .

٢ ـ روي الكليني في الكافي ج ٢ ، ص ٨ ، والاسترآبادي ص ٣١٣ في تأويل الآيات عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : أخذ الله المثياق على النبيِّين فقال : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ) وأنّ هذا محمّد رسولي وأنّ عليّاً أمير المؤمنين ؟ قالوا : بلى . فثبتت لهم النبوّة ، ثمّ أخذ الميثاق على أُولي العزم أنّي ربّكم ومحمّد رسولي وعليّ أمير المؤمنين والأوصياء من بعده ولاة أمري وخزّان علمي وأنّ المهدي أنتصر به لديني وأظهر به دولتي وأنتقم به من أعدائي وأُعبد به طوعاً وكرهاً ؟ قالوا ؛ أقررنا يا ربّنا وشهدنا ، ولم يجحد آدم ولم يقرّ ، فثبتت العزيمة لهؤلاء الخمسة في المهديّ عليه‌السلام ولم يكن لآدم عزيمة على الإقرار وهو قول الله تبارك وتعالى : (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) .

وأيضاً روى الكليني في الكافي ج ١ ، ص ٤١٦ عن عبدالله بن سنان ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام في قوله عزّوجلّ : (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ) كلمات في محمّد وعليّ والحسن والحسين والأئمّة من ذرّيتهم (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) هكذا والله نزلت على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٧٤

صورته ، وجعله نسخة لملكه وملكوته وإنموذجاً للعالم الأكبر وخمَّر طينته بيده أربعين صباحاً ، وأسجد له ملائكته وعلّمه الأسماء كلّها (١) إلى غير ذلك من المزايا والفضائل التي يطول المختصر بذكرها فهؤلاء الستّة جامعون لجميع الكمالات الروحانية متّصفون بجميع الصفات الربّانية ، والباقون من فروعهم ورشحاتهم ورعاياهم ، فهم عليهم‌السلام أصول النبوّة وأركان الرسالة والباقون فروعها وأغصانها وأوراقها ، وأنّ اشتراك الكلّ في أصل النبوّة كما قال : (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ) (٢) .

قال بعض العارفين : اعلم أنّ الأنبياء في مرتبة النبوّة وذورتها على درجة واحدة ، غير أنّهم على تفاوت في وقت قبولها ، فمنهم تنبّأ في منامه ومنهم من تنبّأ في يقظته ، وكلّهم في النبوّة سواء لأنّ النبوّة كمال علم حصل من وحي الله في نفس عبد كامل هو في وقته أعقل عصره ، وتلك النبوّة التي هي نور العقل الأوّل ضوء كلمة الله العليا ، خلقه من الله لجميع الأنبياء ، ثمّ إنّ الأنبياء في مراتب الرسالة وكيفيّات الرسالات وكمّيات المقالات متفاوتة إذ لكلّ واحد منهم خاصّة يميّز بها عن غيره كما كان الكلام لموسىٰ ، والخلّة لإبراهيم ، والكلمة لعيسىٰ ، والرؤية لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأعني بذلك أنّ كلّ واحد منهم اشتهر بخاصّية انضافت تلك الخاصّية بذاته ، حتّى سمّى الناس له باسم تلك الخاصّية كما قيل : موسىٰ كليم الله ، وإبراهيم خليل الله ، وقد كان إبراهيم كليم الله كموسىٰ ، وموسىٰ خليل الله كإبراهيم ، لكن صار الكلام لموسىٰ خاصّة ذاته وباقي المراتب منازل نال

________________________

١ ـ إشارة إلى قوله تعالى في سورة البقرة آية (٣١) : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَـٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) .

٢ ـ البقرة : ٢٨٥ .

٧٥

بتبع الكلام ، وكذا إبراهيم وسائر الأنبياء فكلّهم في النبوّة لقبول الوحي ، واستعداد النفوس لقبول ضوء الوحي في مرتبة واحدة ، أمّا في الرسالة واختلاف الشريعة فكانوا بحسب الأوقات ، لأنّ النبوّة فوق الزمان والمكان ، فما اختلفت في موضع ولا وقت ، أمّا الرسالة فوقعت تحت الفلك لمصالح الناس ، ولا شكّ أنّ الطباع والأمزجة واللغات مختلفة ، وهي متعلِّقة باختلاف الأوقات والأزمان والأمكنة والقرون والمواضع والأقاليم ، فاختلفت الرسالة بحسب اختلافتها ، وإنّما اختلفت الرسالة لتختلف الشريعة وتختلف الكتب باختلاف اللغات والاصطلاحات الجارية بين الناس وكان لنوح عليه‌السلام في رسالته مرتبة ودرجة ودعوة ولغة بخلاف ما كانت لإبراهيم وإن كانا في النبوّة سواء وكان نوح في عصره على مزاج وطباع مع قوم لم يجد منهم رشداً ولم يعلم فيهم خيراً فرأى هلاكهم خيراً من حياتهم فدعا الله وقال عليه‌السلام : (لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) (١) .

وكان إبراهيم في عهدٍ غلب اللطافة على طباع قومه وظهرت الإلفة في مزاج أهل عصره فأمره بالتلطّف والترأف ، وقال : يا إبراهيم حسّن خلقك ولو مع الكفّار ، وهكذا كان عهد موسى فإنّ الله أمره بالتلطّف في الكلام وتخفيف الدعوة مع فرعون ، وقال له ولأخيه : (اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ) (٢) .

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الضحوك القتال كان يضحك مع قوم ، ويقتل لقومٍ كما رأى في مصالح رسالته ، وأراه الله في كمال نبوّته ، وكان لله أنبياء كثيرون

________________________

١ ـ نوح : ٢٦ .

٢ ـ طه : ٤٣ ـ ٤٤ .

٧٦

بأشخاص معدودين بعددٍ معلوم .

فيقال : كان مئة ألف وأربعة آلاف وعشرون شخصاً نبيّاً من الأصناف المختلفة ، وكان أكثرهم في بني إسرائيل فهذا المبلغ هم الأنبياء واختار منهم ثلاثمئة وثلاثة عشر للرسالة ، لأنّ النبوّة نور مفرد ، والرسالة نورٌ مركّب بانعكاسه وللمركب فائدة لا توجد في الفرد ، وكان عدد الرسل أقل من عدد الأنبياء لقلّة انعكاس نور النبوّة في بعض الأشخاص ، فالشمس يقع ضوئها على جميع المشففات واللطائف ولا ينعكس عليها إلّا إذا وقعت على التراب يظهر الشعاع بانعكاس ضوئها وإنكاسها مثل الرسالة وشروقها مثل النبوّة ولا يكون النهار إلّا بالضوء المنعكس الظاهر ، وكان لكلّ نبيّ قوّة خاصّة به من نور النبوّة ، وكان لكلّ رسول نور زائد على نور النبوّة من تكرار ضوء القدس ، فنور الأنبياء أكثر من نور المؤمنين ، ونور الرُّسل أكثر من نور الأنبياء ، فإنّ للنبي نوراً واحداً ، وللرسول نورين نور النبوّة ، ونور الرسالة ، وقد عرفت أنّ نور النبوّة من العقل ، ونور الرسالة من النفس واجتماع النورين لا يكون كنورٍ واحد ، فنور على نور هو اجتماع نور النبوّة والرسالة ، ولا شكّ أنّ اجتماع ثلاثة أنوار أكثر وأظهر من اجتماع نورين ، والأنوار الثلاثة نور النبوّة ، ونور الرسالة ، ونور الظهور ، وهو بمنزلة الوجود ، وهذه الأنوار الثلاثة في أُولي العزم من الرسل ، فالرسل مختارة من أُولي العزم ، وأولوا العزم مختارة من الرسل ، وكلّما ازداد نور الكمال قلَّ حجاب العدد ، وأولوا العزم أقلّ عدداً من الرسل ، والرسل أقلّ عدداً من الأنبياء ، فالرُّسل ثلاثمئة وثلاث عشر ، وأولوا العزم منهم ستّة كما أخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : (أولو العزم منهم ستّة : آدم ونوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ،

٧٧

ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

وفي تحقيق الكلام لم يكن آدم من عدد أولي العزم ، لإخراج الله له عن ذوي العزم في حقّه : (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) (٢) ، وإن لم يطلق هذا على عزم المعاصي كان آدم في جملتهم ، وأنّ الرسول الذي هو ذو العزم يعني أنّه صاحب الدورة التامّة ، وله الدائرة الكبرى التي تشتمل على الرسالة ، والنبوّة ، والكتاب ، والعزيمة ، والدعوة ، والمدّة ، والأمّة ، والشريعة ، والخليفة ، والدورة وهي تلف سنة : (وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ) (٣) فهذه الخصال والكمالات العشرة إذا وجدت في شخصٍ من الأنبياء فهو من أُولي العزم ولم توجد إلّا في ستّة أشخاص منهم .

وفي رواية أُخرى في خمسة (٤) إلى آخر ما ذكره (٥) . وإنّما نقلناه بطوله لاشتماله على فوائد جليلة لا تخفى على المتأمِّل فيه ، ولكن ما ذكره من أنّ الأنبياء في مرتبة النبوّة على درجة واحدة يكشف عن أنّ إطلاق النبوّة على

________________________

١ ـ المناقب لابن شهرآشوب ، ج ٤ ص ٢١٥ .

٢ ـ طه : ١١٥ .

٣ ـ الحج : ٤٧ .

٤ ـ روى ابن فتال النيسابوري في روضة الواعظين ص ٥١ عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : أولوا العزم من الرسل خمسة : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمّد صلوات الله عليهم . وأولوا العزم هو مَن أتى بشريعة مستأنفة نسخت شريعة مَن تقدّم من الأنبياء .

والكافي ج ١ ، طبقات الأنبياء والرسل .

٥ ـ إلى هنا انتهى كلام العارف .

٧٨

جميع النبوّات من باب إطلاق المتواطئ على أفراده (١) ، وفيه نظر إذ النبوّة هي طريقٌ بين النبيّ وبين الله ، ولا ريب أنّ الطرق إليه كثيرة متفاوتة ، فكيف يقال : بأنّ الطريق واحدة ؟ وقد روي أنّ الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق (٢) .

أم كيف يجترئ المنصف على أن يقول : إنّ موسىٰ مثلاً مع محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله في درجة واحدة في مقام النبوّة مع أنّه قال : (لو أنّ موسى أدركني حيّاً ولم يؤمن بي لما نفعته نبوّته شيئاً) (٣) أو يقول : إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله مع آدم عليه‌السلام في درجة واحدة مع قول وصيّه عليه‌السلام : (إنّي وإنْ كنت ابن آدم صورة ولي فيه معنىٰ شاهد بأبوتي كيف ولم ينل الأنبياء ما نالوا من المراتب إلّا بالإذعان لمحمّد وآله) (٤) ، قال [صلى‌الله‌عليه‌وآله] : والكليم أُلبس حلّة الاصطفاء لما عاهدنا منه الوفاء (٥) .

والأخبار الواردة من طرقنا الشاهدة على هذا المقصد متواترة معنى كما لا يخفى ، فالحقّ أنّ هذا الإطلاق من باب الإطلاق المشكك (٦) المتفاوت بالأولوية

________________________

١ ـ المتواطئ : هو الذي تتوافق أفراده بالتساوي ، فإنّك لا تجد تفاوتاً بين الأفراد في صدق المفهوم ، مثلاً (محمّد ، وعلي ، وحسين) إلى آخر أفراد الإنسان من ناحية الإنسانية سواء من دون أن تكون إنسانية أحدهم أولى من إنسانية الآخر ، ولا أشدّ ولا أكثر ، ولا أي تفاوت آخر في هذه الناحية . (راجع المنطق للشيخ المظفر ج ١ ، ص ٧٠ ، ط ؛ قم) .

٢ ـ بحار الأنوار ، ج ٦٤ ص ١٣٧ .

٣ ـ بحار الأنوار ، ج ١٦ ص ٢٦٦ .

٤ ـ لم نعثر عليه في المصادر التي اعتمدناها .

٥ ـ بحار الأنوار ، ج ٢٦ ص ٢٦٥ .

٦ ـ المشكك هو عكس المتواطئ .

٧٩

والأوّلية ، لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان نبيّاً وآدم بين الماء والطين (١) ، وكان أحقّ بهذا النصب من غيره لما تقدّم من أن تجلّى الروح الأعظم فيه كان بالحقيقة وفي سائر الأنبياء بالظلّية بل الروح الأعظم في الحقيقة هو نفس الحقيقة المحمّدية فهذا من قبيل إطلاق الوجود على الله تعالى ، وعلى سائر الموجودات ، وكذا ما ذكره من أنّ الرؤية كانت لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّه فاسدٌ باطل قد دلّت البراهين العقلية والأدلّة النقلية على استحالة الرؤية على الله مطلقاً (٢) . اللّهم إلّا أن يُراد بالرؤية رؤية أكبر الآيات كما قال : (لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ) (٣) ، وسُئِلَ الكاظم عليه‌السلام : هل رأى رسول الله ربّه ؟ فقال : نعم رآه بقلبه ، أما سمعت الله يقول : (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ) (٤)) (٥) . لم يره بالبصر ولكن رآه بالفؤاد .

وكيف كان فإذا اجتمعت في مولانا سيّد الشهداء أرواح العالمين فداه كمالات هؤلاء الستّة صدقَ أنّه جامع لجميع الكمالات الناسوتية والملكوتية سوى النبوّة فيخلفها فيه الولاية ، لأنّها في الإمام عليه‌السلام بمنزلة النبوّة في النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

والمراد بالحبيب إمّا المحبّ أو المحبوب أو كلاهما على القول بجواز استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنىٰ واحد ، ولا ريبَ أنّ المحبّية لله مستلزمة للمحبوبيّة فمَن أحبّ الله أحبّه الله ، ومَن أحبّه الله أحبّ الله ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : (مَن

________________________

١ ـ العمدة لابن البطريق ، ص ٨٨ ، ص ٩٠ ، مشارق أنوار اليقين للبرسي ص ٢١٥ ، فصل (٩١) .

٢ ـ عقد الشيخ الكليني رحمه‌الله في الكافي باباً أسماه (إبطال الرؤية) ج ١ ، ص ٧٤ ، ط : المكتبة الإسلامية ، فراجع .

٣ ـ النجم : ١٨ .

٤ ـ النجم : ١١ .

٥ ـ الكافي ج ١ ص ٩٦ باب إبطال الرؤية .

٨٠