اللّباب في علوم الكتاب - ج ١١

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١١

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥١٠

قرأ العامة : «متّكئا» بضم الميم ، وتشديد التاء ، وفتح الكاف والهمز ، وهو مفعول به ، ب «أعتدت» أي : هيّأت ، وأحضرت.

والمتّكأ : الشيء الذي يتكأ عليه ، من وسادة ونحوها ، والمتّكأ : مكان الاتّكاء ، وقيل : طعام يجزّ جزّا.

قال ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وقتادة ، ومجاهد ـ رضي الله عنهم ـ : «متّكئا ، أي : طعاما ، سمّاه «متّكئا» ؛ لأنّ أهل الطعام إذا جلسوا ، يتكئون على الوسائد ، فسمى الطعام متكئا ؛ على الاستعارة» (١).

وقيل : «متّكئا» ، طعام يحتاج إلى أن يقطع بالسكّين ؛ لأنه إذا كان كذلك ، احتاج الإنسان إلى أن يتكىء عليه عند القطع.

وقال القتبي : يقال : اتكأنا عند فلان ، أي : أكلنا.

وقال الزمخشري (٢) : من قولك : اتكأنا عند فلان ، طعمنا على سبيل الكناية ؛ لأنه من دعوته ليطعم عندك اتخذت له تكأة يتكىء عليها ؛ قال جميل : [الخفيف]

٣٠٨٣ ـ فظللنا بنعمة واتّكأنا

وشربنا الحلال من قلله (٣)

فقوله : «وشربنا» مرشح لمعنى «اتّكأنا» : أكلنا.

وقرأ (٤) أبو جعفر ، والزهريّ ـ رحمهما‌الله ـ : «متّكا» مشددة التاء ، دون همز ، وفيه وجهان :

أحدهما : أن يكون أصله : «متكأ» كقراءة العامّة ، وإنما خفف همزه ؛ كقولهم : «توضّيت» في توضّأت ، فصار بوزن «متّقى».

والثاني : أن يكون «مفتعلا» من أوكيت القربة ، إذا شددت فاها بالوكاء.

فالمعنى : أعتدت شيئا يشتددن عليه ؛ إمّا بالاتّكاء ، وإمّا بالقطع بالسكّين ، وهذا الثاني تخريج أبي الفتح.

وقرأ الحسن (٥) ، وابن هرمز : «متّكاء» بالتشديد والمد ، وهي كقراءة العامة ، إلّا أنه أشبع الفتحة ؛ فتولدت منها الألف ؛ كقوله : [الوافر]

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١٩٩) عن ابن عباس والحسن وقتادة وسعيد بن جبير وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٩) عن سعيد بن جبير وزاد نسبته إلى ابن المنذر.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٦٣.

(٣) ينظر البيت في ديوانه (٦٩) وشواهد المغني (١٢٦) وتأويل المشكل (١٨١) والقرطبي ٩ / ١٧٨ وروح المعاني ١٢ / ٢٢٨ واللسان (قلل) والخزانة ٤ / ١٩٩ وأساس البلاغة ٢ / ٢٧٣ وشرح شواهد المغني للسيوطي (١٢٦) والأغاني ٧ / ٧٩ والدر المصون ٤ / ١٧٤.

(٤) وقرأ بها أيضا شيبة بن نصاح ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٣٩ والبحر المحيط ٥ / ٣٠٢ وينظر : الدر المصون ٤ / ١٧٤.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٣٩ والبحر المحيط ٥ / ٣٠٢ والدر المصون ٤ / ١٧٤.

٨١

٣٠٨٤ ـ ...........

ومن ذمّ الرّجال بمنتزاح (١)

وقول الآخر : [الكامل]

٣٠٨٥ ـ ينباع من ذفرى أسيل جسرة

 ........... (٢)

وقوله : [الرجز]

٣٠٨٦ ـ أعوذ بالله من العقراب

الشّائلات عقد الأذناب (٣)

بمعنى : بمنتزح ، وينبع ، والعقرب الشّائلة.

وقرأ ابن عباس ، وابن عمر ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك (٤) ، والجحدري ، وأبان بن تغلب ـ رحمهم‌الله ـ : «متكا» بضمّ الميم ، وسكون التاء ، وتنوين الكاف ، وكذلك (٥) قرأ ابن هرمز ، وعبد الله ، ومعاذ ؛ إلّا أنهما فتحا الميم.

والمتك : بالضم والفتح : الأترجّ ، ويقال : الأترنج ، لغتان ؛ وأنشدوا : [الوافر]

٣٠٨٧ ـ فأهدت متكة لبني أبيها

تخبّ بها العثمثمة الوقاح (٦)

وقيل هو اسم لجميع ما يقطع بالسكين ، كالأترجّ ، وغيره من الفواكه ، وأنشدوا : [الخفيف]

٣٠٨٨ ـ نشرب الإثم بالصّواع جهارا

وترى المتك بيننا مستعارا (٧)

قيل : هو من متك ، بمعنى بتك الشيء ، أي : قطعه ، فعلى هذا يحتمل أن تكون الميم بدلا من الباء ، وهو بدل مطرد في لغة قوم ، ويحتمل أن تكون مادة أخرى وافقت هذه.

وقيل : بالضمّ : العسل الخالص عند الخليل ، والأترجّ عند الأصمعيّ ، ونقل أبو عمرو فيه اللغات الثلاث ؛ أعني : ضمّ الميم ، وفتحها ، وكسرها ، قال : وهو الشراب الخالص.

وقال المفضل : هو بالضم : المائدة ، أو الخمر ، في لغة كندة ، وقال ابن عباس : هو الأترجّ بالحبشة (٨) ، وقال الضحاك : الزّماورد (٩) ، وقال عكرمة : كل شيء يقطع بالسكين (١٠).

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٣٨ والبحر المحيط ٥ / ٣٠٢ والدر المصون ٤ / ١٧٤.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٠٢ ، والدر المصون ٤ / ١٧٤.

(٦) ينظر البيت في روح المعاني ١٢ / ٢٨٨ والكشاف ٢ / ٣١٦ والدر المصون ٤ / ١٧٤.

(٧) ينظر البيت في روح المعاني ١٢ / ٢٨٨ والتهذيب ١٥ / ١٦١ واللسان (أثم) والتاج (متك) والبحر المحيط ٥ / ٣٠٠ وفتح القدير ٣ / ٢١ والمحرر الوجيز ٩ / ٢٨٨ والدر المصون ٤ / ١٧٤ ، والقرطبي ٥ / ٢٣٥.

(٨) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٠٠) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٨) وزاد نسبته إلى مسدد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه.

وذكره الحافظ ابن حجر في «المطالب العالية» (٣ / ٣٤٥) رقم (٣٦٥٥) وعزاه لمسدد.

(٩) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٤٢٣).

(١٠) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٩) عن عكرمة وعزاه إلى ابن أبي حاتم وأخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٠١) عن الضحاك بمثله.

٨٢

وقوله : «لهنّ متّكئا» إما أن يريد : كلّ واحدة متكئا ؛ ويدلّ له قوله : (وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً) ، وإما أن يريد : الجنس.

والسّكين : تذكر وتؤنث ، قاله الكسائي ، والفراء ، وأنكر الأصمعي تأنيثه ، والسكّينة : فعلية من السكون ، قال الراغب (١) : سمي به لإزالة حركة المذبوح به ، فقوله : «وآتت» ، أي : أعطت (كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً) ، إما لأجل الفواكه ، أو لأجل قطع اللحم ، ثم أمرت يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ بأن يخرج عليهن ، وأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ما قدر على مخالفتها ؛ خوفا منها.

(فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ) ، الظاهر أنّ الهاء ضمير يوسف ، ومعنى «أكبرنه» : أعظمنه ، ودهشن من حسنه ، وقيل : هي هاء السكت ؛ قاله الزمخشري.

وقيل : «أكبرن» بمعنى : حضن ، والهاء للسّكت ؛ يقال : أكبرت المرأة : إذا حاضت ، وحقيقته : دخلت في الكبر ؛ لأنها بالحيض تخرج عن حدّ الصّغر إلى الكبر ؛ فإنّ أبا الطّيب ـ رحمه‌الله ـ أخذ من هذا التفسير قوله : [الطويل]

٣٠٨٩ ـ خف الله واستر ذا الجمال ببرقع

فإن لحت حاضت في الخدور العواتق (٢)

وكون الهاء للسّكت ، يردّه ضم الهاء ، ولو كانت للسكت ، لسكنت ، وقد يقال : إنه أجراها مجرى هاء الضمير ، وأجرى الوصل مجرى الوقف في إثباتها.

قال أبو حيّان (٣) رحمه‌الله : «وإجماع القراء على ضم الهاء في الوصل ، دليل على أنها ليست هاء السّكت ، إذ لو كانت هاء السّكت ، فكان من أجرى الوصل مجرى الوقف لم يضمّ الهاء».

قال شهاب الدّين (٤) : «وهاء السّكت قد تحرك بحركة هاء الضمير ؛ إجراء لها مجراها» ، وقد تقدّم تحقيق هذا في الأنعام ، وقد قالوا ذلك في قول المتنبيّ أيضا : [البسيط]

٣٠٩٠ ـ واحرّ قلباه ممّن قلبه شبم (٥)

فإنه روي بضم الهاء في «قلباه» ، وجعلوها هاء السّكت ، ويمكن أن يكون «أكبرن» بمعنى حضن ، ولا تكون الهاء للسكت ؛ بل تجعل ضميرا للمصدر المدلول عليه بفعله ، أي : أكبرن الإكبار ، وأنشدوا على أنّ الإكبار بمعنى الحيض ، قوله : [البسيط]

٣٠٩١ ـ يأتي النّساء على أطهارهنّ ولاك

يأتي النّساء إذا أكبرن إكبارا (٦)

__________________

(١) ينظر : المفردات ٢٣٧.

(٢) ينظر البيت في ديوانه ٢ / ٣٤٩ وروح المعاني ١٢ / ٢٢٩ والبحر المحيط ٥ / ٣٠٣ والدر المصون ٤ / ١٧٥ والكشاف ٢ / ٣١٧.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٠٣.

(٤) ينظر : الدر المصون ٤ / ١٧٥.

(٥) تقدم.

(٦) ينظر البيت في روح المعاني ١٢ / ٢٢٩ واللسان والتهذيب (كير) ١٠ / ٢١١ والمحرر الوجيز ٩ / ٢٩٠ ـ

٨٣

قال الطبريّ : البيت مصنوع.

فصل في صفة يوسف الخلقية

روى أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه : قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رأيت ليلة أسري بي إلى السّماء يوسف ، كالقمر ليلة البدر» (١).

وقال إسحاق بن أبي فروة : «كان يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ إذا سار في أزقّة مصر يرى تلألؤ وجهه على الجدران ، كما يرى نور الشّمس في الماء عليها» (٢).

وقال عليه الصلاة والسلام ـ في حديث الإسراء : «فمررت بيوسف فإذا هو قد أعطي شطر الحسن» (٣).

قال العلماء ـ رضي الله عنهم ـ : معناه أنه كان على النّصف من حسن آدم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ؛ لأنّ الله تعالى ـ خلقه بيده ؛ فكان في غاية الحسن البشريّ ؛ ولهذا يدخل أهل الجنة على صورته ، وكان يوسف على النصف ، ولم يكن بينهما أحسن منهما ، كما أنّه لم يكن بعد حوّاء ـ عليها‌السلام ـ أشبه بها من «سارّة» امرأة الخليل ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ.

قال أبو العالية : «هالهنّ أمره إنّهن من دهشتهنّ ، وحيرتهنّ ؛ قطّعن أيديهنّ ، وهنّ يحسبن أنّهن يقطّعن الأترجّ ، ولم يجدن الألم ؛ لشغل قلوبهنّ بيوسف» (٤).

وقال مجاهد : ما أحسسن إلا بالدّم ، وذلك كناية عن الجرح ، لا أنّهن أبنّ أيديهنّ ، كما قال قتادة (٥).

وقيل : إنهن لما دهشن ، صارت المرأة منهن بحيث لا تميز نصاب السّكين من حديدها ؛ فكانت تأخذ الجانب الحادّ من تلك السكين بكفّها ؛ فكانت تحصل تلك الجراحة بكفها.

__________________

ـ ومعاني الزجاج ٣ / ١٠٦ والطبري ١٢ / ١٢٢ والقرطبي ٥ / ٢٣٦ والدر المصون ٤ / ١٧٥ ، وروي (نأتي النساء) بالنون.

(١) له شاهد من حديث أنس بن مالك بلفظ : أعطي يوسف وأمه شطر الحسن.

أخرجه أحمد (٣ / ٢٨٦) والحاكم (٢ / ٥٧٠) والطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٠٥) وفي «تاريخه» (١ / ٣٣٠).

وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٠) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٤٢٣).

وذكره أيضا السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٠) وعزاه إلى أبي الشيخ.

(٣) أخرجه مسلم ١ / ١٤٥ في الإيمان باب الإسراء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى السماوات ، وفرض الصلوات (٢٥٩ ـ ١٦٢).

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٠٤) عن ابن عباس وقتادة والسدي وابن إسحاق بمعناه.

(٥) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٤٢٣).

٨٤

قال وهب : ماتت جماعة منهن.

قال ابن الخطيب (١) : وعندي أنّه يحتمل وجها آخر ، وهو أنهنّ إنّما أكبرنه ؛ لأنّهن رأين عليه نور النبوّة ، وبهاء الرّسالة وآثار الخضوع ، والإنابة ، وشاهدن منه معاني الهيبة ، والسكينة ، وهي عدم الالتفات إلى المطعوم والمنكوح ، وعدم الاعتداد بهنّ ، واقران هذه الهيبة الإلهية ، بذلك الجمال العظيم ، فتعجبن من تلك الحالة ، فلا جرم أكبرنه ، وعظمنه ، ووقع الرّعب والمهابة في قلوبهن ، وهذا عندي أولى.

فإن قيل : كيف يطابق على هذا التّأويل قولها : «فذلكنّ الّذي لمتنّني فيه»؟ وكيف تصير هذه الحالة عذرا لها في قوّة العشق ، وإفراط المحبّة؟.

قلت : تقرر أن المحبوب متبوع ، فكأنّها قالت لهنّ : هذا الخلق العجيب انضمّ إليه هذه السيرة الملكية الطّاهرة المطهرة. فحسنه يوجب الحب الشّديد ، والسّيرة الملكية توجب اليأس عن الوصول إليه ، فلهذا وقعت في المحبّة والحسرة ، وهذا التأويل أحسن ، ويؤيده قولهم : «ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم».

قوله : «حاشا لله» عدّها النحويون من الأدوات المترددة بين الحرفية والفعلية ، فإن جرّت ، فهي حرف ، وإن نصبت ، فهي فعل ، وهي من أدوات الاستثناء ، ولم يعرف سيبويه فعليّتها ، وعرفها غيره ، وحكوا عن العرب : «غفر الله لي ، ولمن سمع دعائي ، حاشا الشّيطان ، وابن أبي الأصبع» بالنصب ، وأنشدوا : [الوافر]

٣٠٩٢ ـ حشا رهط النبيّ فإنّ منهم

بحورا لا تكدّرها الدّلاء (٢)

بنصب «رهط» ، و «حشا» لغة في «حاشا» كما سيأتي.

قال الزمخشري (٣) : «حاشى» كلمة تفيد التنزيه ، في باب الاستثناء ، تقول : أساء القوم حاشى زيد ، وقال : [الكامل]

٣٠٩٣ ـ حاشى أبي ثوبان إنّ به

ضنّا عن الملحاة والشّتم (٤)

وهي حرف من حروف الجرّ ؛ فوضعت موضع التنزيه ، والبراءة ، فمعنى حاشا لله : براءة الله ، وتنزيه الله ، وهي قراءة ابن مسعود.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ١٨ / ١٠٢.

(٢) ينظر : الكتاب ٢ / ٣٠٩ ، الجنى الداني ص ٥٦٧ ، ورصف المباني ص ١٧٩ ، ولسان العرب «حرم» ، «حشا» ، والمقرب ١ / ١٧٢ ، والتهذيب ٥ / ٢٤ والدر المصون ٤ / ٨١٧٥

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٦٥.

(٤) البيت للجميح الأسدي. ينظر : المحتسب ١ / ٣٤١ ، المفضليات ٣٦٧ ، مجاز القرآن ١ / ٣١٠ ، وشرح المفصل ٨ / ٤٧ ، الدرر ١ / ١٩٦ ، ١ / ٤٨ ، الإنصاف ١ / ٢٨٠ ، البحر المحيط ٥ / ٣٠٠ ، اللسان (حشا) والأصمعيات ص ٢١٨ ، والجنى الداني ص ٥٦٢ ، والمقاصد النحوية ٣ / ١٢٩ ، والدر المصون ٤ / ١٧٦ وله أو لسبرة بن عمرو الأسدي في خزانة الأدب ٤ / ١٨٢ وهمع الهوامع ١ / ٢٣٢.

٨٥

قال أبو حيّان (١) : وما ذكر أنها تفيد التنزيه في باب الاستثناء ، غير معروف عند النحويين ، لا فرق في قولك : قام القوم إلّا زيدا ، وقام القوم حاشا زيد ولمّا مثل بقوله : أساء القوم حاشا زيد ، وفهم من هذا التمثيل براءة زيد من الإساءة ، جعل ذلك مستفادا منها في كل موضع ، وأما ما أنشده من قوله : [الكامل]

حاشا أبي ثوبان

البيت.

فهكذا ينشده ابن عطيّة ، وأكثر النحاة ، وهو بيت ركّبوا فيه صدر بيت على عجز آخر من بيتين ، وهما : [الكامل]

٣٠٩٤ ـ حاشى أبي ثوبان إنّ أبا

ثوبان ليس ببكمة فدم

عمرو بن عبد الله إنّ به

ضنّا عن الملحاة والشّتم (٢)

قال شهاب الدّين (٣) : «قوله : «إنّ المعنى الذي ذكره الزمخشريّ لا يعرفه النحاة» ولم ينكروه ؛ وإنما لم يذكروه في كتبهم ؛ لأنّ غالب «فنّهم» صناعة الألفاظ دون المعاني ، ولما ذكروا مع أدوات الاستثناء «ليس» ، و «لا يكون» و «غير» ، لم يذكروا معانيها. إذ مرادهم مساواتها ل «إلّا» في الإخراج ، وذلك لا يمنع من زيادة معنى في تلك الأدوات».

وزعم المبرد ، وغيره كابن عطيّة : أنّها تتعين فعليتها ، إذا وقع بعدها حرف جرّ كالآية الكريمة ، قالوا : لأن حرف الجرّ لا يدخل على مثله إلا تأكيدا ؛ كقوله : [الوافر]

٣٠٩٥ ـ ...........

ولا لما بهم أبدا دواء (٤)

وقول الآخر : [الطويل]

٣٠٩٦ ـ فأصبحن لا يسألنه عن بما به

 ........... (٥)

فيتعيّن أن يكون فعلا فاعله ضمير يوسف ، أي : حاشى يوسف ، و «لله» جارّ ومجرور ، متعلق بالفعل قبله ، واللام تفيد العلّة ، أي : حاشا يوسف أن يقارف ما رمته به ؛ لطاعة الله ، ولمكانه منه ، أو لترفيع الله أن يرمى بما رمته به ، أي : جانب المعصية ؛ لأجل الله.

وأجاب النّاس عن ذلك : بأنّ «حاشا» في الآية الكريمة ، ليست حرفا ولا فعلا وإنّما هي اسم مصدر بدل من اللفظ بفعله ؛ كأنه قيل : تنزيها لله ، وبراءة له ، وإنما لم ينون ؛ مراعاة لأصله الذي نقل منه ، وهو الحرف ، ألا تراهم قالوا : «من عن يمينه» فجعلوا

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٠٠.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : الدر المصون ٤ / ١٧٦.

(٤) تقدم.

(٥) تقدم.

٨٦

«عن» اسما ، ولم يعربوه ، وقالوا : «من عليه» فلم يثبتوا ألفه مع الضمر بل أبقوا «عن» على بنائه ، وقلبوا ألف «على» مع المضمر ؛ مراعاة لأصلها ، كذا أجاب الزمخشريّ ، وتابعه أبو حيّان ، ولم يعز له الجواب ، وفيه نظر ؛ أما قوله : «مراعاة لأصله» فيقتضي أنه نقل من الحرفيّة ، إلى الاسمية ، وليس ذلك إلّا في جانب الأعلام ، يعني أنهم يسمّون الشّخص بالحرف ، ولهم ذلك مذهبان : الإعراب ، والحكاية. أما أنهم ينقلون الحرف إلى الاسم ، أي : يجعلونه اسما ، فهذا غير معروف.

وأما استشهاده ب «عن» ، و «على» فلا يفيده ذلك ؛ لأنّ «عن» حال كونها اسما بنيت ، لشبهها بالحرف في الوضع على حرفين ، لا أنّها باقية على بنائها ، وأما قلب ألف «على» مع الضمير ، فلا دلالة فيه ؛ لأنّا عهدنا ذلك ، فيما هو ثابت الاسمية بالاتفاق كالذي ، والأولى أن يقال : الذي يظهر في الجواب عن قراءة العامّة ، أنها اسم منصوب كما تقدم ، ويدلّ عليه قراءة (١) أبي السّمال : «حاشا لله» منصوبا منونا ، ولكنهم أبدلوا التنوين ألفا ؛ كما يبدلونه في الوقف ، ثم إنهم أجروا الوصل مجرى الوقف ، كما فعلوا ذلك في مواضع كثيرة ، تقدم منها جملة ، وسيأتي مثلها ، إن شاء الله تعالى.

وقيل في الجواب عن ذلك : بل بنيت «حاشا» في حال اسميتها ؛ لشبهها ب «حاشا» في حال حرفيّتها ، لفظا ومعنى ، كما بنيت «عن» ، و «على» لما ذكرناه.

وقال بعضهم : إنّ اللام زائدة ، وهذا ضعيف جدّا بابه الشّعر.

واستدلّ المبرد وأتباعه على فعليتها ، بمجيء المضارع منها ؛ قال النّابغة الذبيانيّ : [البسيط]

٣٠٩٧ ـ ولا أرى فاعلا في النّاس يشبهه

ولا أحاشى من الأقوام من أحد (٢)

قالوا : تصرف الكلمة من الماضي إلى المستقبل ، دليل على فعليتها ، لا محالة.

وقد أجاب الجمهور عن ذلك : بأنّ ذلك مأخوذ من لفظ الحرف ؛ كما قالوا : سوّفت بزيد ، ولو كيت له ، أي : قلت له : سوف أفعل ، وقلت له : لو كان ، ولو كان ، وهذا من ذلك ، وهو محتمل.

وممن رجح جانب الفعلية ، أبو علي الفارسي ـ رحمه‌الله ـ قال : «لا تخلو حاشى في قوله «حاشى لله» من أن يكون الحرف الجارّ في الاستثناء ، أو يكون فعلا على فاعل ، ولا يجوز أن يكون الحرف الجار ؛ لأنه لا يدخل على مثله ؛ ولأن الحروف لا يحذف

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٦٥ ، والبحر المحيط ٥ / ٣٠٣ والدر المصون ٤ / ١٧٧.

(٢) ينظر البيت في ديوانه ١٣ وابن يعيش ٢ / ٨٥ والإنصاف ١ / ٢٧٨ والأشموني ٢ / ١٦٧ والهمع ١ / ٢٣٣ وشواهد المغني للبغدادي ٣ / ٨٦ والدرر ١ / ١٩٨ والتهذيب واللسان «حشا» والمغني ١ / ١٢١ والخزانة ٣ / ٤٠٣ والبيان ٢ / ٣٩ والألوسي ١٢ / ٢٣١ والمشكل ١ / ٣٨٦ والدر المصون ٤ / ١٧٧.

٨٧

منها ، إذا لم يكن فيها تضعيف ، فثبت أنه فاعل من «الحشا» الذي يراد به الناحية. والمعنى : أنه صار في حشا ، أي : في ناحية ، وفاعل «حاشى» يوسف ، والتقدير : بعد من هذا الأمر ؛ لله ، أي : لخوفه».

فقوله : «حرف الجرّ لا يدخل على مثله» مسلّم ، ولكن ليس هو ـ هنا ـ حرف جرّ ، كما تقدم تقريره.

وقوله : «لا يحذف من الحرف إلا إذا كان مضعّفا» ، ممنوع ، ويدل له قولهم : «مذ» في «منذ» إذا جرّ بها ، فحذفوا عينها ولا تضعيف ، قالوا : ويدلّ على أنّ أصلها : «منذ» بالنون ، تصغيرها على «منيذ» وهذا مقرر في بابه.

وقرأ أبو عمرو (١) وحده : «حاشا» بألفين ألف بعد الحاء ، وألف بعد الشين ، في كلمتي هذه السورة وصلا ، وبحذفها وقفا ؛ اتباعا للرسم ، كما سيأتي ، والباقون بحذف الألف الأخيرة ؛ وصلا ، ووقفا. فأما قراءة أبي عمرو ، فإنه جاء فيها بالكلمة على أصلها ، وأما الباقون : فإنهم اتبعوا في ذلك الرسم ، ولما طال اللفظ ، حسن تخفيفه بالحذف ، ولا سيّما على قول من يدّعي فعليتها ، كالفارسيّ.

قال الفارسي (٢) : «وأما حذف الألف ، فعلى : لم يك ، ولا أدر ، وأصاب النّاس جهد ، ولو تر ما أهل مكّة ، وقوله : [الرجز]

٣٠٩٨ ـ وصّاني العجّاج فيما وصّني (٣)

في شعر رؤبة ، يريد : لم يكن ، ولا أدري ، ولو ترى ، ووصّاني». وقال أبو عبيدة : رأيتها في الذي يقال له إنه الإمام ـ مصحف عثمان ـ رضي الله عنه ـ «حاش لله» بغير ألف ، والأخرى مثلها.

وحكى الكسائيّ : أنه رآها في مصحف عبد الله ، كذلك. قالوا : فعلى ما قال أبو عبيد ، والكسائي : ترجّح هذه القراءة ؛ ولأن عليها ستة من السبعة.

ونقل الفراء : أن الإتمام لغة بعض العرب ، والحذف لغة أهل الحجاز ، قال : ومن العرب من يقول «حاشى زيدا» أراد «حشى لزيد» ، فقد نقل الفراء : أنّ اللغات الثلاث مسموعة ولكنّ لغة أهل الحجاز مرجحة عندهم.

__________________

(١) ينظر : الحجة ٤ / ٤٢٢ وإعراب القراءات السبع ١ / ٣٠٩ وحجة القراءات ٣٥٩ وقرأ بها أيضا اليزيدي وابن محيصن والمطوعي ينظر : الإتحاف ٢ / ١٤٦ وينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٣٩ والبحر المحيط ٥ / ٣٠٣ والدر المصون ٤ / ٤٢٣.

(٢) ينظر : الحجة ٤٢٣.

(٣) البيت لرؤبة ينظر : ملحقات ديوانه ١٨٧ والإنصاف ٢ / ٤٤٩ واللسان «وصى» والخصائص ٢ / ٩٣ والدر المصون ٤ / ١٧٨.

٨٨

وقرأ الأعمش (١) ، في طائفة «حشى لله» بحذف الألفين ، وقد تقدم أنّ الفراء حكاها لغة عن بعض العرب ؛ وعليه قوله : [الوافر]

٣٠٩٩ ـ حشى رهط النّبيّ ...

 ........... (٢)

البيت.

وقرأ أبي (٣) ، وعبد الله : «حاشى الله» بجر الجلالة ، وفيها وجهان :

أحدهما : أن تكون اسما مضافا للجلالة ، نحو سبحان الله ، وهو اختيار الزمخشريّ.

والثاني : أنه حرف استثناء ، جر به ما بعده ؛ وإليه ذهب الفارسيّ.

وفي جعله : «حاشا» حرف جرّ مرادا به الاستثناء ، نظر ؛ إذ لم يتقدم في الكلام شيء يستثنى منه الاسم المعظّم ، بخلاف : قام القوم حاشا زيد ، واعلم أنّ النحويين لما ذكروا هذا الحرف ، جعلوه من المتردّد بين الفعلية ، والحرفية كما عند من أثبت فعليّته ، وجعله في ذلك ك «خلا» و «عدا» ، وهذا عند من أثبت حرفيته ، وكان ينبغي أن يذكروه من المتردد بين الاسمية ، والفعلية ، والحرفية ، كما فعلوا ذلك في «على» فقالوا : تكون حرف جرّ في : «عليك» ، واسما في قوله : «من عليه» ، وفعلا في قوله : [الطويل]

٣١٠٠ ـ علا زيدنا يوم النّقا ........

 ........... (٤)

وإن كان فيه نظر ، تلخيصه : أنّ «علا» حال كونها فعلا غير «على» ، حال كونها غير فعل ؛ بدليل أنّ الألف الفعلية منقلبة عن واو ، ويدخلها التصريف ، والاشتقاق دون ذينك.

وقد يتعلق من ينتصر للفارسي بهذا ، فيقول : لو كان «حاشا» في قراءة العامّة اسما ، لذكر ذلك النحويون عند ترددها بين الحرفية ، والفعلية ، فلمّا لم يذكروه ، دلّ على عدم اسميتها.

وقرأ الحسن (٥) : «حاش» بسكون الشين ، وصلا ووقفا ، كأنه أجرى الوصل مجرى

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٦٥ والبحر المحيط ٥ / ٣٠٣ والدر المصون ٤ / ٢٧٨.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٣٩ والبحر المحيط ٥ / ٣٠٣ والدر المصون ٤ / ١٧٨.

(٤) جزء من صدر بيت لزيد من ولد عروة بن زيد الخيل وتمامه :

علا زيدنا يوم النقار رأس زيدكم

بأبيض ماضي الشفرتين يماني

ينظر : شواهد المغني ١ / ١٦٥ والخزانة ١٦٥ والخزانة ٢ / ٢٢٤ والمقاصد النحوية ٣ / ٣٧١ والأشباه والنظائر ٣ / ١٨٩ ، ١٩١ وجواهر الأدب ص ٣١٥ وسر صناعة الإعراب ٣ / ٤٥٢ ، ٤٥٦ وشرح الأشموني ١ / ١٨٦ وشرح التصريح ١ / ١٥٦٣ وشرح المفصل ١ / ٤٤ واللسان (زيد) والمغني ١ / ٥٢ والكامل ٣ / ١٥٧ والدر المصون ٤ / ١٧٨.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٣٩ والبحر المحيط ٥ / ٣٠٣ والدر المصون ٤ / ١٧٨.

٨٩

الوقف ، ونقل ابن عطية عن الحسن أنه قرأ (١) : «حاش الإله» قال محذوفا من «حاشا» يعني أنه قرأ بحذف الألف الأخيرة ، ويدلّ على ذلك ، ما صرّح به صاحب اللوامح ، فإنه قال : «بحذف الألف» ثم قال : وهذا يدلّ على أنه حرف جرّ ، يجر به ما بعده. فأما الإله : فإنه فكّه عن الإدغام ، وهو مصدر أقيم مقام المفعول ، ومعناه : المعبود ، وحذف الألف من «حاش» ؛ للتخفيف.

قال أبو حيّان (٢) : «وهذا الذي قاله ابن عطية ، وصاحب اللوامح : من أنّ الألف في «حاشا» في قراءة الحسن ، محذوفة ، لا يتعيّن إلّا أن ينقل عنه أنه يقف في هذه القراءة بسكون الشّين ، فإنه لم ينقل عنه في ذلك شيء ، فاحتمل أن تكون الألف حذفت ؛ لالتقاء الساكنين ، والأصل : حاشا الإله ، ثم نقل فحذف الهمزة ، وحرّك اللام بحركتها ، ولم يعتدّ بهذا التحريك ؛ لأنه عارض ، كما تحذف في نحو «يخشى الإله» ولو اعتد بالحركة لم يحذف الألف».

قال شهاب الدّين (٣) ـ رحمه‌الله ـ : الظاهر أن الحسن يقف في هذه القراءة بسكون الشّين ، ويستأنس له ، بأنه سكّن الشين في الرواية الأخرى عنه ، فلما جيء بشيء محتمل ، ينبغي أن يحمل على ما خرج به ، وقول صاحب اللّوامح : وهذا يدلّ على أنه حرف جرّ يجرّ به ما بعده ، لا يصحّ ؛ لما تقدم من أنّه لو كان حرف جرّ ، لكان مستثنى به ، ولم يتقدم ما يستثنى منه بمجروره.

واعلم أنّ اللام الداخلة على الجلالة ، متعلقة بمحذوف على سبيل البيان ، كهي في «سقيالك» ، و «رعيا لزيد» عند الجمهور ، وأما عند المبرد ، والفارسي : فإنها متعلقة بنفس «حاشى» ؛ لأنها فعل صريح ، وقد تقدّم أن بعضهم يرى زيادتها.

قال المفسّرون : معنى قوله : «حاشى لله» أي : تنزّه الله تعالى عن العجز ، حيث قدر على خلق جميل مثله ، وقيل : معاذ الله أن يكون هذا بشرا.

قوله : (ما هذا بَشَراً) العامة على إعمال «ما» على اللغة الحجازيّة وهي اللغة الفصحى ، ولغة تميم الإهمال ، وقد تقدّم تخفيف هذا ، أول البقرة [البقرة : ٨] ، وما أنشده عليه من قوله : [الكامل]

٣١٠١ ـ وأنا النّذير بحرّة مسودّة

 ...........

البيتين (٤).

ونقل ابن عطيّة : أنه لم يقرأ أحد إلّا بلغة الحجاز ، وقال الزمخشري : ومن قرأ على

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٣٩ والبحر المحيط ٥ / ٣٠٣ والدر المصون ٤ / ١٧٨.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٠٣.

(٣) ينظر : الدر المصون ٤ / ١٧٩.

(٤) تقدما.

٩٠

سليقته من بني تميم ، قرأ «بشر» (١) بالرفع ، وهي قراءة ابن مسعود.

فادعاء ابن عطية ، أنه لم يقرأ به ، غير مسلم. وقرأ العامة : «بشرا» بفتح الباء على أنها كلمة واحدة ، ونصب بنزع حرف الخفض ، أي : ببشر.

وقرأ الحسن ، وأبو الحويرث (٢) الحنفي : «بشرى» بكسر الباء ، وهي باء جرّ ، دخلت على «شرى» فهما كلمتان ، جارّ ومجرور ، وفيها تأويلات :

أحدها : ما هذا بمشترى ، فوضع المصدر موضع المفعول به ، ك «ضرب الأمير».

الثاني : ما هذا بمباع ، فهو ـ أيضا ـ مصدر واقع موقع المفعول به ، إلّا أنّ المعنى مختلف.

الثالث : ما هذا بثمن ، يعنين أنه أرفع من أن يجري عليه شيء من هذه الأشياء ، وروى عبد الوارث ، عن أبي (٣) عمرو كقراءة الحسن ، وأبي الحويرث ، إلّا أنه قرأ عنه إلا «ملك» بكسر اللام ، واحد الملوك ، نفوا عنه ذلّ المماليك ، وأثبتوا له عزّ الملوك ، وذكر ابن عطية : كسر اللام عن الحسن ، وأبي الحويرث.

وقال أبو البقاء (٤) : وعلى هذا قرىء «ملك» بكسر اللام ، كأنه فهم أنّ من قرأ بكسر الباء ، قرأ بكسر اللام أيضا ؛ للمناسبة بين المعنيين ، ولم يذكر الزمخشريّ هذه القراءة مع كسر الباء ألبتة ؛ بل يفهم من كلامه أنّه لم يطلع عليها ، فإنه قال : وقرىء (٥) ما هذا بشرى أي : ما هو بعبد مملوك لئيم ، «إن هذا إلّا ملك كريم» ، تقول : «هذا بشرى» ، أي : حاصل بشرى ، بمعنى مشترى ، وتقول : هذا لك بشرى ، أو بكرى» والقراءة هي الأولى ؛ لموافقتها المصحف ، ومطابقة «بشر» ل «ملك».

قوله «لموافقتها المصحف» يعني أنّ الرّسم : «بشرا» بالألف ، لا بالياء ، ولو كان المعنى على «بشرى» لرسم بالياء ، وقوله : «ومطابقة بشرا الملك» ، دليل على أنه لم يطلع على كسر اللام ، فضلا عمن قرأ بكسر الباء.

فصل

في معنى قوله : «ما هذا بشرا ، إن هذا إلّا ملك كريم» وجهان :

أشهرهما : أن المقصود منه إثبات الحسن العظيم له ، قالوا : لأنه ـ تعالى ـ ركب في الطبائع أنّ لا حيّ أحسن من الملك ، كما ركّب فيها أنّ لا حيّ أقبح من الشّيطان ،

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٦٦ والبحر المحيط ٥ / ٣٠٤ والدر المصون ٤ / ١٧٩.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٠٤ والدر المصون ٤ / ١٧٩.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٠٤ والدر المصون ٤ / ١٧٩.

(٤) ينظر : الإملاء ٢ / ٥٢.

(٥) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٦٦ والبحر المحيط ٥ / ٣٠٤ والدر المصون ٤ / ١٧٩.

٩١

ولذلك قال في صفة شجرة جهنّم : (طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) [الصافات : ٦٥] وذلك لما تقرّر في الطبائع ، أنّ أقبح الأشياء ، هو الشيطان ، فكذا هاهنا ، تقرّر في الطبائع أنّ أحسن الأشياء ، هو الملك ، فلما أرادت النسوة المبالغة في وصف يوسف في الحسن ، لا جرم شبّهنه بالملك ، وقلن : «إن هذا إلّا ملك كريم» على الله من الملائكة.

والوجه الثاني : قال ابن الخطيب (١) : وهو الأقرب عندي ، أن المشهور عند الجمهور ، أنّ الملائكة مطهّرون عن بواعث الشهوة ، وحوادث الغضب ، ونوازع الوهم ، والخيال ، فطعامهم توحيد الله ، وشرابهم الثناء على الله ، ثم إنّ النسوة لما رأين يوسف ، لم يلتفت إليهن ، ورأين عليه هيبة النّبوة ، وهيبة الرسالة ، وسيما الطّهارة ، قلن : ما رأينا فيه أثرا من الشّهوة ، ولا شيئا من البشرية ، ولا صفة من الإنسانية ، ودخل في الملائكة ، فإن قالوا : فإن كان المراد ما ذكرتم ، فكيف يتمهد عذر المرأة عند النسوة؟ فالجواب قد سبق.

فصل فيمن احتج بالآية على أن الملك أفضل من البشر

احتج القائلون بأن الملك أفضل من البشر بهذه الآية فقالوا : لا شك أنهن إنما ذكرن هذا الكلام في معرض تعظيم يوسف ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ، فوجب أن يكون إخراجه من البشرية ، وإدخاله في الملكيّة ، سببا لتعظيم شأنه ، وإعلاء مرتبته ، وإنما يكون كذلك ، إذا كان الملك أعلى حالا من البشر.

ثم نقول : لا يخلو إما أن يكون المقصود بيان كماله في الحسن الظاهر ، أو بيان كمال حسن الباطن الذي هو الخلق الباطن (٢) ، والأول باطل لوجهين :

الأول : أنهن وصفنه بكونه كريما ؛ بحسب الأخلاق الباطنة ، لا بحسب الخلقة الظاهرة.

والثاني : أنا نعلم بالضرورة أنّ وجه الإنسان لا يشبه وجوه الملائكة ألبتة ، وأما كونه بعيدا عن الشهوة ، والغضب ، معرضا عن اللّذات الجسمانية ، متوجّها إلى عبودية الله ، مستغرق القلب والرّوح ، فهو مشترك فيه بين الإنسان الكامل ، وبين الملائكة.

إذا ثبت هذا فنقول : تشبيه الإنسان بالملك ، في الأمر الذي حصلت المشابهة فيه على سبيل الحقيقة ، أولى من تشبيهه بالملك فيما لم تحصل فيه المشابهة ألبتة ؛ فثبت أن تشبيه يوسف بالملك في هذه الآية ، إنّما وقع في الخلق الباطن ، لا في الصّورة الظاهرة ، وإذا كان كذلك ، وجب أن يكون الملك أعلى (٣) حالا من الإنسان في هذه الفضائل.

قوله : «فذلكنّ» مبتدأ ، والموصول خبره ، أشارت إليه إشارة البعيد ، وإن كان

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ١٨ / ١٠٣.

(٢) سقط من : ب.

(٣) في ب : أحسن.

٩٢

حاضرا ؛ تعظيما له ، ورفعا منه لتظهر عذرها في شغفها.

وجوّز ابن عطية (١) : «أن يكون «ذلك» إشارة إلى حبّ يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ والضمير في «فيه» عائد على الحبّ ، فيكون «ذلك» إشارة إلى غائب على بابه».

يعني بالغائب : البعيد ، وإلا فالإشارة لا تكون إلّا لحاضر مطلقا.

وقال ابن الأنباري : «أشارت بصيغة «ذلك» إلى يوسف بعد انصرافه من المجلس».

وقال الزمخشريّ (٢) : «إنّ النسوة كنّ قلن : إنها عشقت عبدها الكنعانيّ ، فلمّا رأينه ، وقعن في تلك الدّهشة ، قالت : هذا الذي رأيتموه ، هو العبد الكنعاني الذي لمتنّني فيه ، يعني : أنكنّ لم تصورنه بحقّ صورته ، فلو حصلت في خيالكنّ صورته ، لتركتن هذه الملامة».

واعلم أنها لما أظهرت عذرها عند النسوة ، في شدّة محبّتها له ، كشفت عن حقيقة الحال ؛ فقالت : «ولقد راودته عن نفسه فاستعصم» وهذا تصريح بأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان بريئا من تلك التّهمة.

وقال السديّ : «فاستعصم» بعد حلّ السّراويل (٣).

قال ابن الخطيب (٤) : «وما أدري ما الذي حمله على إلحاق هذه الزيادة الفاسدة الباطلة بنص الكتاب؟! وذلك أنّها صرّحت بما فعلت ، فقالت : (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) أي : فامتنع ، وإنما صرّحت به ؛ لأنها علمت أنه لا ملامة عليها منهنّ ، وقد أصابهنّ ما أصابها ، من رؤيته.

قوله : «فاستعصم» في هذه السين وجهان :

أحدهما : أنها ليست على بابها من الطلب ، بل «استفعل» هنا بمعنى «افتعل» فاستعصم (٥) و «اعتصم» واحد وقال الزمخشريّ : «الاستعصام بناء للمبالغة يدلّ على الامتناع البليغ ، والتحفّظ الشّديد ، كأنه في عصمة ، وهو مجتهد في الزيادة فيها ، والاستزادة منها ، ونحوه: استمسك ، واستوسع الفتق ، واستجمع الرّأي ، واستفحل الخطب» فردّ السين إلى بابها من الطلب ، وهو معنى حسن ؛ ولذلك قال ابن عطية (٦) : «معناه طلب العصمة ، واستمسك بها وعصاني» قال أبو حيان : ذكره التّصريفيّون في «استعصم» : أنه موافق ل «اعتصم» ، و «استفعل» فيه : موافق ل «افتعل» وهذا أجود من جعل «استفعل» فيه للطلب ؛ لأن «اعتصم» يدلّ على اعتصامه ، وطلب العصمة لا يدلّ على حصولها ، وأما أنه بناء مبالغة يدلّ على الاجتهاد في الاستزادة من العصمة ، فلم

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٤١.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٦٧.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٠٧) وذكره الرازي في «تفسيره» (١٨ / ١٠٤).

(٤) ينظر : الفخر الرازي ١٨ / ١٠٤.

(٥) سقط من : ب.

(٦) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٤١.

٩٣

يذكر التصريفيون هذا المعنى ل «استفعل» ، وأما : استمسك ، واستجمع الرأي ، واستوسع (١) الفتق ، ف «استفعل» فيه لموافقة «افتعل» ، والمعنى : امتسك ، واتسع ، واجتمع ، وأما «استفحل الخطب» ف «فاستفعل» فيه موافقة ل «تفعّل» أي : تفحّل الخطب نحو «استكبر وتكبّر».

قوله : «ما آمره» في «ما» وجهان :

أحدهما : مصدرية.

والثاني : أنها موصولة ، وهي مفعول بها بقوله : «يفعل» ، والهاء في «آمره» تحتمل وجهين :

أحدهما : العود على «ما» الموصولة ، إذا جعلناها بمعنى الذي.

والثاني : العود على يوسف.

ولم يجوّز الزمخشريّ عودها على يوسف إلا إذا جعلت «ما» مصدرية ، فإنه قال : «فإن قلت : الضمير في : «ما آمره» راجع إلى الموصول أم إلى يوسف؟ قلت : بل إلى الموصول ، والمعنى : ما آمر به ، فحذف الجار ؛ كما في قوله : [البسيط]

٣١٠٢ ـ أمرتك الخير ...

 ........... (٢)

ويجوز أن تجعل «ما» مصدرية ، فيعود على يوسف ، ومعناه : ولئن لم يفعل أمري إيّاه ، أي : موجب أمري ، ومقتضاه».

وعلى هذا ، فالمفعول الأول محذوف ، تقديره : ما آمره به ، وهو ضمير يوسف عليه‌السلام.

قوله (وَلَيَكُوناً) قرأ العامة بتخفيف نون «وليكونا» ، ويقفون عليها بالألف ؛ إجراء لها مجرى التنوين ، ولذلك يحذفونها بعد ضمة ، أو كسرة ، نحو : هل تقومون ؛ وهل تقومين؟ في : هل تقومن؟ والنون الموجودة في الوقف ، نون الرفع ، رجعوا بها عند عدم ما يقتضي حذفها ، وقد تقرر فيما تقدّم أنّ نون التوكيد تثقّل ، وتخفف ، والوقف على قوله : «ليسجننّ» بالنّون ؛ لأنّها مشددة ، وعلى قوله : «وليكونا» بالألف ؛ لأنها مخففة ، وهي شبيهة بنون الإعراب في الأسماء ؛ كقولك : رأيت رجلا ، وإذا وقفت قلت : رجلا ، بالألف ، ومثله : (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) [العلق : ١٥].

و (مِنَ الصَّاغِرِينَ) من الأذلّاء ، وقرأت فرقة بتشديدها (٣) وفيها مخالفة لسواد المصحف ؛ لكتبها فيه ألفا ؛ لأن الوقف عليها كذلك ؛ كقوله : [الطويل]

٣١٠٣ ـ وإيّاك والميتات لا تقربنّها

ولا تعبد الشّيطان والله فاعبدا (٤)

__________________

(١) في ب : استودع.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٤١ والبحر المحيط ٥ / ٣٠٥ والدر المصون ٤ / ١٨٠.

(٤) تقدم.

٩٤

أي : فاعبدن ، فأبدلها ألفا ، وهو أحد الأقوال في قول امرىء القيس : [الطويل]

٣١٠٤ ـ قفا نبك .........

 ........... (١)

وأجرى الوصل مجرى الوقف.

قوله تعالى : (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٣) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٣٤)

قوله : (رَبِّ السِّجْنُ) العامة على كسر الباء ؛ لأنه مضاف لياء المتكلم ، اجتزىء عنها بالكسرة ، وهي الفصحى ، و «السّجن» : بكسر السين ، ورفع النّون ، على أنّه مبتدأ ، والخبر : «أحبّ» ، و «السّجن» : الحبس ، والمعنى : دخول السّجن.

وقرأ بعضهم : «ربّ السّجن» بضمّ الباء ، وجرّ النون ، على أنّ «ربّ» مبتدأ و «السّجن» خفض بالإضافة ، و «أحبّ» : خبره ، والمعنى : ملاقاة صاحب السجن ، ومقاساته أحبّ إليّ.

وقرأ عثمان ، ومولاه طارق ، وزيد بن علي (٢) ، والزهريّ ، وابن أبي إسحاق ، وابن هرمز ، ويعقوب : بفتح السّين ، وفي الباقي كالعامّة.

والسّجن : مصدر ، أي : الحبس أحبّ [إليّ] ، و «إليّ» متعلق ب «أحبّ» ، وقد تقدم [يوسف : ٨] : أنّ الفاعل هنا يجرّ ب «إلى» والمفعول باللام.

وفي الحقيقة : ليست هنا «أفعل» على بابها من التفضيل ؛ لأنه لم يحب ما يدعونه إليه قطّ ، وإنّما هذان شرّان ، فآثر أحد الشّرين على الآخر.

فصل

الظّاهر أنّ النسوة لما سمعن هذا التهديد ، قلن له : لا مصلحة لك في مخالفة أمرها ، وإلّا وقعت في السّجن وفي الصّغار ، فعند ذلك اجتمع في حقّ يوسف ، أنواع الترغيب في الموافقة :

أحدها : أنّ «زليخا» كانت في غاية الحسن.

والثاني : أنها كانت على عزم أن تبذل الكلّ ليوسف ، إن طاوعها.

__________________

(١) جزء من صدر بيت والبيت بتمامه :

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللوى بين الدخول فحومل

ينظر : ديوانه / ٨ والكتاب ٤ / ٢٠٥ والمحتسب ٢ / ٤٩ والإنصاف ٢ / ٦٥٦ وابن الشجري ٢ / ٣٩ وابن يعيش ٢ / ٤٩ والمغني ١ / ١٦١ ورصف المباني (٣٥٣) والهمع ٢ / ١٢٩ والدرر ٢ / ١٦٦ والخزانة ١١ / ٦ والصاحبي ١٤٢ ومعاهد التنصيص ٤ / ٢٢٤ والأشموني ٣ / ٣٠٩ والدر المصون ٤ / ١٨١.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٤١ والبحر المحيط ٥ / ٣٠٦ والدر المصون ٤ / ١٨١.

٩٥

الثالث : أن النسوة اجتمعن عليه ، وكلّ واحدة منهن كانت ترغبه ، وتخوفه بطريق غير طريق الأخرى ، ومكر النساء في هذا الباب شديد.

الرابع : أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان خائفا من شرّها ، ومن إقدامها على قتله ، وإهلاكه.

فاجتمع في حقّه جميع جهات الترغيب ؛ على موافقتها ، وجميع جهات التّخويف ؛ على مخالفتها ، فخاف صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تؤثر هذه الأسباب الكثيرة فيه ، والقوة البشريّة لا تفي بحصول هذه القضية القوية ؛ فعند ذلك التجأ إلى الله ـ تعالى ـ وقال : (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) وقدّم محبته ـ السّجن وإن كانت معصية ؛ لأنها أخفّ ، وذلك أنه متى لزم ارتكاب أحد قسمين ، كلّ واحد منهما يضرّ ، فارتكاب أقلّ الضررين أولى ؛ والأولى بالمرء أن يسأل الله العافية.

فإن قيل : كيف قال : (يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) وإنما دعته زليخا خاصّة؟.

فالجواب : أضافه إليهنّ ؛ خروجا من التصريح إلى التّعريض ، وأراد الجنس ، وقيل إنهن جميعا دعونه إلى أنفسهنّ ، وقيل أراد ترغيبهنّ له في مطاوعتها (١).

فصل

(وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَ) قرأ العامة بتخفيف الباء ، من : صبا يصبو ، أي : رقّ شوقه ، والصّبوة : الميل إلى الهوى ، ومنه «الصّبا» ؛ لأن النّفوس تصبو إليها ، أي : تميل إلى نسيمها وروحها ، يقال : صبا يصبو صباء وصبوّا ، وصبي يصبي صبا ، والصّبا بالكسرة : اللهو ، واللّعب.

وقرأت فرقة «أصبّ» (٢) بتشديدها من صببت صبابة ، فأنا صبّ ، والصّبابة : رقّة الشوق ، وإفراطه ؛ كأنه لفرط حبّه ينصبّ فيما يهواه كما ينصبّ الماء.

فصل

احتجّوا بهذه الآية على أنّ الإنسان لا ينصرف عن المعصية ، إلّا إذا صرفه الله عنها.

قالوا : لأن هذه الآية تدلّ على أنه إن لم يصرفه عن ذلك القبيح ، وقع فيه.

وتقريره : أنّ الداعي إلى الفعل ، والترك ، إن استويا ، امتنع الفعل ؛ لأن الفعل أحد رجحان الطرفين ، ومرجوحيّة الطرف الآخر ، وحصولهما حال استواء الطرفين جمع بين النقيضين ؛ وهو محال ، فإن حصل الرجحان في أحد الطرفين ، فذلك الرجحان ليس من

__________________

(١) سقط من : ب.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٦٧ والبحر المحيط ٥ / ٣٠٦ والدر المصون ٤ / ١٨١.

٩٦

العبد ، وإلا لذهبت المراتب إلى غير نهاية ، بل نقول : من الله ـ تعالى ـ ، فالصّرف عبارة عن جعله مرجوحا ؛ لأنه متى صار مرجوحا ، صار ممتنع الوقوع ؛ لأن الوقوع رجحان ، فلو وقع في حال المرجوحية ، لحصل الرجحان حال حصول المرجوحيّة ، وهو مقتضى حصول الجمع بين النقيضين ؛ وهو محال.

فثبت بهذا أنّ انصراف العبد عن القبيح ليس إلا من الله.

وأيضا : فإنّه كان قد حصل في «يوسف» جميع الأسباب المرغّبة في المعصية ، وهو الانتفاع بالمال والجاه ، والتّمتّع بالمطعوم ، والمنكوح ، ولم يحصل في الإعراض عنها جميع الأسباب المنفّرة ، وإذا كان كذلك ، فقد قويت دواعي الفعل ، وضعفت الدّواعي المعارضة لدواعي المعصية ؛ إذ لو لم يحصل هذا التعارض ، لحصل الترجيح للوقوع في المعصية خاليا عما يعارضه ؛ وذلك يوجب وقوع الفعل ، وهو المراد من قوله (أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) ، وفيه دليل على أنّ المؤمن إذا ارتكب ذنبا ، يرتكبه عن جهالة.

قوله (فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ) ، أجاب له ربّه ، (فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَ) ؛ وذلك يدلّ على أنّ الصارف عنه ، هو الله ـ تعالى ـ (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لدعائه ، (الْعَلِيمُ) بمكرهن.

قوله تعالى : (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٣٨) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٤٠) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (٤١) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢))

قوله (ثُمَّ بَدا لَهُمْ) ، في [فاعل «بدا»](١) أربعة أوجه (٢) :

__________________

(١) في ب : الفاعل.

(٢) في ب : أجوبة.

٩٧

أحسنها : أنّه ضمير يعود على «السّجن» بفتح السّين ، أي : ظهر لهم حبسه ؛ ويدلّ على ذلك اللّفظ ب «السّجن» في قراءة العامّة ، وهو بطريق اللازم ، ولفظ «السّجن» في قراءة من فتح السين.

والثاني : أنّ الفاعل ضمير المصدر المفهوم من الفعل ؛ وهو «بدا» ، أي : بدا لهم بداء ، وقد صرّح الشاعر به في قوله : [الطويل]

٣١٠٥ ـ ...........

بدا لك في تلك القلوص بداء (١)

والثالث : أنّ الفاعل مضمر يدلّ عليه السّياق ، أي : بدا لهم رأي.

والرابع : أنّ نفس الجملة من «ليسجننّه» هي الفاعل ، وهذا من أصول الكوفيين ، وهذا يقتضي إسناد الفعل إلى فعل آخر ؛ واتفق النحاة على أنّ ذلك لا يجوز.

فإذا قلت : «خرج ضرب» ، لم يفد ألبتة ، فقدّروا : ثمّ بدا لهم سجنه ، إلّا أنه أقيم هذا الفعل مقام ذلك الاسم.

قال ابن الخطيب (٢) : الاسم قد يكون خبرا ؛ كقولك : زيد قائم ، ف «قائم» اسم وخبر ، فعلمنا أنّ كون الشيء خبرا ، لا ينافي كونه مخبرا عنه ، وفي هذا الباب شكوك :

أحدها : أنّا إذا قلنا : «ضرب فعل» ، والمخبر عنه بأنّه فعل هو ضرب ، فالفعل صار مخبرا عنه.

فإن قالوا : المخبر عنه هو هذه الصيغة ، وهذه الصيغة اسم ، فنقول : فعلى هذا التقدير ؛ يلزم أن يكون المخبر عنه بأنه فعل هو هذه الصيغة (٣) وهذه الصيغة اسم ، لا فعل ، وذلك كذب باطل ، بل نقول : المخبر عنه بأنه فعل : إن كان فعلا ، فقد ثبت أنّ الفعل يصحّ الإخبار عنه ، وإن كان اسما ، كان معناه : أنّا أخبرنا عن الاسم بأنه فعل ؛ وذلك باطل.

و «حتّى» : غاية لما قبله ، وقوله : «ليسجننّه» ؛ على قول الجمهور : جواب لقسم محذوف ، وذلك القسم وجوابه معمول لقول مضمر ، وذلك القول المضمر في محل نصب على الحال ، أي : ظهر لهم كذا قائلين : والله ، لنسجننّه حتّى حين.

وقرأ الحسن (٤) : «لتسجننّه» ، بتاء الخطاب ، وفيه تأويلان :

أحدهما : أن يكون خاطب بعضهم بعضا بذلك.

والثاني : أن يكون خوطب به العزيز ؛ تعظيما له.

وقرأ ابن (٥) مسعود ـ رضي الله عنه ـ : «عتّى» بإبدال حاء «حتّى» عينا ، وأقرأ بها

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ١٨ / ١٠٦.

(٣) سقط من : ب.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٠٧ والدر المصون ٤ / ١٨٢.

(٥) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٦٨ والمحرر الوجيز ٣ / ٢٤٣ والبحر المحيط ٥ / ٣٠٧ والدر المصون ٤ / ١٨٢.

٩٨

غيره ، فبلغ ذلك عمر بن الخطّاب ـ رضي الله عنه ـ فكتب إليه : «إنّ هذا القرآن نزل بلغة قريش فأقرىء النّاس بلغتهم» وإبدال الحاء عينا لغة هذيل.

فصل في معنى الآية

المعنى : ثمّ بدا للعزيز ، وأصحابه في الرأي ؛ وذلك أنّهم أرادوا أن يقتصروا من أمر «يوسف» على الإعراض عنه ، ثم بدا لهم أن يحبسوه من بعد ما رأوا الآيات الدّالة على براءة «يوسف» من : قدّ القميص ، وكلام الشّاهد ، وقطع النساء أيديهنّ ، وذهاب عقولهنّ (لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) : إلى مدّة يرون فيها رأيهم.

وقال عطاء عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهم ـ : إلى أن تنقطع قالة النّاس (١) ، قال عكرمة : تسع سنين (٢) ، وقال الكلبيّ : خمس سنين (٣).

قال السديّ : وذلك أنّ المرأة قالت لزوجها : إنّ هذا العبرانيّ قد فضحني في الناس ؛ يخبرهم بأنّي راودته عن نفسه ، فإمّا أن تأذن لي أن أخرج ، فأعتذر إلى الناس ، وإما أن تحبسه ؛ فحبسه (٤).

قال ابن عبّاس ـ عثر يوسف ثلاث عثرات : حين همّ بها ؛ فسجن ، وحين قال : (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) [يوسف : ٤٢] ؛ (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) [يوسف : ٤٢] ، وحين قال لإخوته : (إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) [يوسف : ٧] ؛ (قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) (٥) [يوسف : ٧].

قوله : (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ) [يوسف : ٣٦] قيل : هما غلامان للملك الأكبر بمصر :

أحدهما : خبّاز ، صاحب طعامه.

والآخر : صاحب شرابه ، غضب الملك عليهما فحبسهما.

قوله «قال أحدهما» : مستأنف لا محلّ له ، ولا يجوز أن يكون حالا ؛ لأنهما لم

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٤٢٥).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢١١) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٢) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وأبي الشيخ. وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٤٢٥).

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٤٢٥).

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢١١) وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٤٢٥).

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢١١) والحاكم (٢ / ٣٤٦) من طريق خصيف عن عكرمة عن ابن عباس.

وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

وتعقبه الذهبي فقال : خبر منكر وخصيف ضعفه أحمد ومشاه غيره ولم يخرجا له والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٣٢) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

٩٩

يقولا ذلك حال الدّخول ، ولا جائز أن تكون مقدّرة ؛ لأنّ الدخول لا يئول إلى الرؤيا ، و «إنّي» وما في حيّزه : في محل نصب بالقول.

و «أراني» : متعدّية لمفعولين عند بعضهم ؛ إجراء للحلمية مجرى العلمية ؛ فتكون الجملة من قوله : «أعصر» في محلّ المفعول الثاني ، ومن منع ، كانت عنده في محلّ الحال.

وجرت الحلمية مجرى العلمية ـ أيضا ـ في اتحاد فاعلها ، ومفعولها ضميرين متّصلين ؛ ومنه الآية الكريمة ؛ فإنّ الفاعل والمفعول متّحدان في المعنى ؛ إذ هما للمتكلّم ، وهما ضميران متصلان ، ومثله : رأيتك في المنام قائما ، وزيد رآه قائما ، ولا يجوز ذلك في غير ما ذكر.

لا تقول : «أكرمتني» ، ولا «أكرمتك» ، ولا «زيد أكرمه» ؛ فإن أردت ذلك ، قل: أكرمت نفسي ، أو إيّاي ونفسك ، أو [أكرمت] إيّاك ونفسه ، وقد تقدّم تحقيق ذلك.

وإذا دخلت همزة النقل على هذه الحلمية ، تعدت لثالث ، وتقدم هذا في قوله تعالى : (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً) [الأنفال : ٤٢].

والخمر : العنب ، أطلق عليه ذلك ؛ مجازا ؛ لأنه آيل إليه ؛ كما يطلق الشيء على الشيء ؛ باعتبار ما كان عليه ؛ كقوله (وَآتُوا الْيَتامى) [النساء : ٢] ، ومجاز هذا أقرب ، وقيل : بل الخمر ؛ العنب حقيقة في لغة غسّان ، وأزد عمان.

وعن المعتمر : لقيت أعرابيّا حاملا عنبا في وعاء ، فقلت : ما تحمل؟ قال : خمرا.

وقراءة (١) «أبيّ» ، وعبد الله : «أعصر عنبا» ، لا تدلّ على الترادف ؛ لإرادتهما التفسير ، لا التلاوة ، وهذا كما في مصحف عبد الله : «فوق رأسي ثريدا» ، فإنه أراد التّفسير فقط.

و «تأكل الطّير» : صفة ل «خبزا» ، و «فوق» يجوز أن يكون ظرفا للحمل ، وأنيتعلق بمحذوف ، حالا من «خبزا» إلّا أنه في الأصل صفة له ، والضمير في قوله «نبّئنا بتأويله» : قال أبو حيّان (٢) : «عائد على ما قصّا عليه ، أجري مجرى اسم الإشارة ؛ كأنّه قيل : تأويله ما رأيت».

وقد سبقه إليه الزمخشريّ ، وجعله سؤالا ، وجوابا ، وقال غيره : إنّما وحد الضمير ؛ لأن كلّ واحد سأل عن رؤياه ؛ وكأن كلّ واحد منهما قال : نبئنا ما رأيت (٣).

و «ترزقانه» : صفة ل «طعام» ، وقوله «إلّا نبّأتكما» : استثناء مفرّغ ، وفي موضع الجملة بعدها وجهان :

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٦٨ والمحرر الوجيز ٣ / ٢٤٤ والبحر المحيط ٥ / ٣٠٨ والدر المصون ٤ / ١٨٣.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٠٨.

(٣) سط من : ب.

١٠٠