اللّباب في علوم الكتاب - ج ١١

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١١

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥١٠

قميصه ، ولطّخوه بالدّم ، وعرضوه على أبيه ، ولمّا شهد الشّاهد قال : (وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) [يوسف : ٢٧ ـ ٢٨] وقال : (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا) [يوسف : ٩٣] ولما أتى البشير إلى يعقوب بقميصه ، وألقي على وجهه ، فارتدّ بصيرا (١).

قال القرطبيّ (٢) : «هذا مردود ، فإنّ القميص الذي جاءوا عليه بالدّم ، غير القميص الذي قدّ ، وغير القميص الذي أتى به البشير ، وقيل : إنّ القميص الذي أتى به البشير إلى يعقوب ، فارتدّ بصيرا هو القميص الذي قدّ من دبر».

فصل

قال بعض العلماء ـ رضي الله عنهم ـ : لمّا أرادوا أن يجعلوا الدّم علامة على صدقهم ؛ قرن الله بهذه العلامة علامة تعارضها ، وهي سلامة القميص من التّخريق ، إذ لا يمكن افتراس الذّئب ليوسف ، وهو لابس القميص ، ويسلم القميص من التّخريق ولمّا تأمّل يعقوب ـ عليه‌السلام ـ القميص لم يجد فيه خرقا ، ولا أثرا ، استدلّ بذلك على كذبهم ، وقال لهم : تزعمون أن الذّئب أكله ، ولو أكله لشقّ قميصه.

فصل

استدلّ العلماء بهذه [الآية](٣) في إعمال الأمارات في مسائل من الفقه كالقسامة (٤)

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٨ / ٨٢).

(٢) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ٩ / ٩٩.

(٣) في ب : الآيات.

(٤) (القسامة) بفتح القاف وتخفيف السّين ، مشتقّة من القسم والإقسام وهو اليمين ؛ قال الشافعية وابن فارس والجوهري وجماعة من أهل اللّغة : القسامة اسم للأيمان ، وقال الأزهري : القسامة اسم للأولياء الّذين يحلفون على استحقاق دم القتيل ، ونقل الرّافعي عن الأئمّة أنّ القسامة في اللّغة اسم للأولياء. وفي لسان الفقهاء : اسم للأيمان ؛ وهذا النقل عن أهل اللغة ليس قول كلهم بل بعضهم كما ذكرناه ، والصّحيح أنّها اسم للأيمان.

تنوعت آراء العلماء في مشروعية القسامة والحكم بها ـ على قولين الأول :

يقول بمشروعية القسامة ووجوب العمل بها جمهور العلماء من السلف والخلف منهم أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي والمغيرة بن شعبة وابن الزبير ، ومعاوية ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وجملة من الصحابة ، والحسن وشريح ، والشعبي ، وسفيان الثوري ، وسعيد بن المسيب ، والزهري وعروة بن الزبير ، ومروان بن الحكم ، وعبد الملك بن مروان وأبي حنيفة ، ومالك والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وداود الظاهري وابن حزم.

والقول الثاني لا يرى مشروعية القسامة وعدم العمل بها وهو قول سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، وعمر بن عبد العزيز ، وأبي قلابة ، وإبراهيم بن علية ، والناصر وقتادة ومسلم بن خالد.

استدل كل مذهب على صحة مدعاه بالسنة والأثر فمن السنة :

٤١

وغيرها ، كما استدلّ يعقوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ على كذبهم بصحّة القميص ، فيجب

__________________

ـ ما روي عن سهل بن أبي حثمة عن رجال من كبراء قومه أن عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود خرجا إلى خيبر من جهد أصابهم فأتى محيصة أن عبد الله بن سهل قد قتل وطرح في عين فأتى يهود فقال : أنتم والله قتلتموه قالوا : ما قتلناه ، فأقبل هو وأخوه حويصة وعبد الرحمن بن سهل فذهب محيصة ليتكلم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إما أن يدوا صاحبكم ، وإما أن يأذنوا بحرب فكتب إليهم في ذلك.

فكتبوا : إنا والله ما قتلناه. فقال لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن بن سهل أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم قالوا : لا. وفي رواية عند مسلم قالوا لم نحضر ولم نشهد. قال : فتحلف لكم يهود قالوا : ليسوا مسلمين [في لفظ قالوا : لا نرضى بأيمان اليهود ـ وفي لفظ كيف نأخذ بأيمان كفار] فوداه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عنده فبعث إليهم مائة ناقة قال سهل : فقد ركضتني منها ناقة حمراء هذا الحديث أصل كبير في ثبوت القسامة وهو ظاهر الدلالة على ثبوتها وكيفيتها. وليس أدل على المشروعية وجود العمل بها من فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ونقل ابن حجر عن القاضي عياض قوله : هذا الحديث أصل من أصول الشرع وقاعدة من قواعد الأحكام وركن من أركان مصالح العباد وبه أخذ كافة الأئمة من السلف من الصحابة والتابعين وعلماء الأمة وفقهاء الأمصار من الحجازيين والشاميين والكوفيين وإن اختلفوا في صورة الأخذ به.

وأيضا ما أخرجه مسلم والنسائي من طريق الزهري عن سليمان بن يسار ، وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أن القسامة كانت في الجاهلية وأقرها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما كانت عليه في الجاهلية ، وقضى بها بين ناس من الأنصار في قتيل ادعوه على يهود خيبر.

وأيضا ما رواه عباد عن حجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : خرج حويصة ومحيصة ابنا مسعود وعبد الرحمن وعبد الله ابنا سهل إلى خيبر يمتارون فتفرقوا لحاجتهم فمروا بعبد الله بن سهل قتيلا فرجعوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : تحلفون خمسين يمينا قسامة تستحقون به قتيلكم ، قالوا : نحلف على أمر غبنا عنه ، قال فيحلف اليهود خمسين يمينا فيبرؤون. فقالوا : نتقبل أيمان قوم كفار ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمال من مال الصدقة فوداه من عنده.

وهذا الحديث ظاهر في دلالته على ثبوت القسامة لأنها لو لم تكن مشروعة لما فعلها صلى‌الله‌عليه‌وسلم. من الأثر : ما أخرجه البيهقي وعبد الرزاق عن أبي سعيد بن أبي عمر وعن أبي العباس الأصم عن الربيع بن سليمان عن الشافعي عن سفيان عن منصور عن الشعبي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب في قتيل وجد بين خيوان ووداعة أن يقاس ما بين القريتين فإلى أيهما كان أقرب أخرج إليهم منهم خمسين رجلا حتى يوافوه مكة فأدخلهم الحجر فأحلفهم ثم قضى عليهم بالدية فقالوا ما وقت أموالنا أيماننا ، ولا أيماننا أموالنا ـ قال عمر رضي الله عنه كذلك الأمر. وفي رواية فقال : حققت أيمانكم دماءكم ولا يطل دم رجل مسلم.

وقال الحافظ ابن حجر ـ له شاهد مرفوع من حديث أبي سعيد عن أحمد أن قتيلا وجد بين حيين فأمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقاس إلى أيهما أقرب فألقى ديته على الأقرب. ولكن سنده ضعيف وما أخرجه الدار قطني والبيهقي عن صفوان بن سليم عن سعيد بن المسيب أنه قال : لما حج عمر حجته الأخيرة التي لم يحج غيرها غودر رجل من المسلمين قتيلا في بني وداعة فبعث إليهم عمر في تلك بعد ما قضى النسك ، فقال لهم هل علمتم لهذا القتيل قاتلا منكم؟ قال القوم : لا فاستخرج منهم خمسين شيخا فأدخلهم الحطيم فاستحلفهم بالله رب هذا البيت الحرام ورب هذا البلد الحرام ، ورب هذا الشهر الحرام ، أنكم لم تقتلوه ولا علمتم له قاتلا فحلفوا بذلك فلما حلفوا قال : أدوا دية مغلظة في أسنان الإبل ، أو من الدنانير والدراهم دية وثلثا ، فقال رجل منهم يقال له سنان يا أمير المؤمنين أما تجزيني ـ

٤٢

على النّاظر أن يلحظ الآيات ، والعلامات إذا تعارضت ، فما ترجّح منها قضى بجانب التّرجيح ، وهي قوّة التّهمة ، [قال ابن العربي] ولا خلاف في الحكم بها.

فصل

قال محمد بن إسحاق : اشتمل فعلهم على جرائم من قطيعة الرّحم وعقوق الوالد ، وقلّة الرّأفة بالصّغير الذي لا ذنب له ، والغدر بالأمانة ، وترك العهد ، والكذب مع أبيهم ، وعفا الله عنهم ذلك كلّه حتى لا ييأس العبد من رحمة الله تعالى.

قال بعض العلماء : إنّهم عزموا على قتله ، وعصمهم الله رحمة بهم ، ولو فعلوا لهلكوا.

قوله تعالى : (بَلْ سَوَّلَتْ) قبل هذه الجملة جملة محذوفة تقديرها : لم يأكله الذّئب بل سوّلت ، أي : زيّنت وسهّلت ، قاله ابن عباس ـ رضي الله عنه (١).

والتّسويل : تقدير معنى في النّفس مع الطّمع في إتمامه.

قال الأزهريّ : «كأن التسويل تفعيل من سؤال الإنسان ، وهو أمنيته التي يطلبها ، فتزين لطالبها الباطل وغيره». وأصله مهموز على أنّ العرب يستثقلون فيه الهمز.

قال الزمخشري (٢) : «سوّلت : سهلت من السّول ، وهو الاسترخاء».

وإذا عرفت هذا فقوله : «بل» ردّ لقولهم : (أَكَلَهُ الذِّئْبُ) كأنه قال : ليس كما تقولون ، بل سولت لكم أنفسكم أمرا في شأنه ، أي : زيّنت لكم أنفسكم أمرا غير ما تصفون.

واختلف في السّبب الذي عرف به كونهم كاذبين ، فقيل : عرف ذلك بسبب أنّه كان يعرف الحسد الشّديد منهم في قلوبهم ، وقيل : كان عالما بأنه حيّ ، لقوله ليوسف : (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) [يوسف : ٦] وذلك دليل قاطع على كونهم كاذبين في ذلك الوقت.

وقال سعيد بن جبير ـ رضي الله عنه ـ : لما جاءوا على قميصه بدم كذب ، وما كان مخرّقا ، قال : كذبتم لو أكله الذّئب لخرق قميصه (٣). وعن السدي أنه قال : إنّ يعقوب ـ عليه‌السلام ـ قال : إنّ هذا الذّئب كان رحيما ، كيف أكل لحمه ، ولم يخرق قميصه (٤)؟.

__________________

ـ من مالي؟ قال : لا إنما قضيت عليكم بقضاء نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فأخذوا ديته دنانير دية وثلث دية وأخرج البيهقي من طريق القاسم بن عبد الرحمن أن عمر قال : القسامة توجب العقل ولا تسقط الدم.

وقد دلت تلك الآثار على ثبوت القسامة والعمل بها ، وأكد عمر بأن ذلك قضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١٦٣) عن قتادة وذكره الرازي في تفسيره (١٨ / ٨٢).

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٥١.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١٦١) من طريق سعيد بن جبير عن الحسن وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٦) وزاد نسبته إلى الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٤) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٨ / ٨٣).

٤٣

وقيل : إنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما قال ذلك قال بعضهم : بل قتله اللصوص ، فقال : كيف قتلوه ، وتركوا قميصه ، وهم إلى القميص أحوج منه إلى قتله ، فلمّا اختلفت أقوالهم ؛ عرف بذلك كذبهم.

وقال القاضي (١) : «لعلّ غرضهم في نزع قميصه عند إلقائه في الجبّ أن يلطّخوه بالدّم توكيدا لصدقهم ؛ لأنّه يبعد أن يفعلوا ذلك طمعا في نفس القميص ، ولا بد في المعصية من أن يقرن بهذا الخذلان ، فلو خرقوه مع لطخه بالدّم ، لكان الإيهام أقوى ، فلما شاهد يعقوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ القميص صحيحا ؛ علم كذبهم».

قال عند ذلك : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) يجوز أن يكون مبتدأ ، وخبره محذوف ، أي : صبر جميل أمثل بي ، ويجوز أن يكون خبرا محذوف المبتدأ ، أي : أمري صبر جميل قال الخليل : الذي أفعله صبر جميل. وقال قطرب : معناه فصبري صبر جميل.

وهل يجب حذف مبتدأ هذا الخبر ، أو خبر هذا المبتدأ؟.

وضابطه : أن يكون مصدرا في الأصل بدلا من اللفظ بفعله ، فعبارة بعضهم تقتضي الوجوب ، وعبارة آخرين تقتضي الجواز ، ومن التصريح بخبر هذا النّوع ، ولكنه في صورة شعر ، قوله : [الطويل]

٣٠٦٨ ـ فقالت على اسم الله أمرك طاعة

وإن كنت قد كلّفت ما لم أعوّد (٢)

وقول الشاعر : [الرجز]

٣٠٦٩ ـ يشكو إليّ جملي طول السّرى

صبر جميل فكلانا مبتلى (٣)

ويحتمل أن يكون مبتدأ أو خبرا كما تقدم.

وقرأ أبيّ وعيسى (٤) بن عمر : «فصبرا جميلا» نصبا ، ورويت عن الكسائي وكذلك هي في مصحف أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ وتخريجها على المصدر الخبري ، أي : أصبر أنا صبرا ، وهذه القراءة ضعيفة إن خرجت هذا التّخريج ؛ لأنّ سيبويه لا ينقاس ذلك عنده ، إلّا في الطّلب ، فالأولى أن يجعل التّقدير : أنّ يعقوب رجع ، وأمر نفسه ، فكأنّه قال : اصبري يا نفس صبرا.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ١٨ / ٨٢.

(٢) البيت لعمر بن أبي ربيعة : ينظر : ملحق ديوانه ص ٤٩٠ وخزانة الأدب ٤ / ١٨١ والأغاني ١ / ١٨٥ وشرح شواهد المغني ١ / ٣٢١ ، ٢ / ٩٢٨ وتذكرة النحاة ص ٦٠١ والخصائص ٢ / ٣٦٢ وابن الشجري ١ / ٣٢٠ والمغني ٧٠١ والدر المصون ٤ / ١٦٤.

(٣) تقدم برقم ٥١٤.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٥١ وقرأ بها أيضا الأشهب. ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٢٧ والبحر المحيط ٥ / ٢٩٠ وينظر : الدر المصون ٤ / ١٦٤.

٤٤

وروي البيت أيضا بالرّفع ، والنّصب على ما تقدّم ، والأمر فيه ظاهر.

فصل

روى الحسن قال : سئل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «صبر لا شكوى فيه ، فمن بثّ لم يصبر» ، ويدلّ على ذلك قوله : «إنّما أشكو بثّي وحزني إلى الله» (١) وقال مجاهد (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) ، أي : من غير جزع (٢). وقال الثوريّ : «من الصّبر ألّا تحدّث بوجعك ، ولا بمصيبتك» (٣).

وقال ابن الخطيب (٤) : «وههنا بحث ، وهو أنّ الصّبر على قضاء الله واجب ، وأما الصّبر على ظلم الظّالم ، فغير واجب ، بل الواجب إزالته لا سيّما في الضّرر العائد إلى الغير ، وههنا أنّ إخوة يوسف قد ظهر كذبهم ، وخيانتهم ، فلم صبر يعقوب على ذلك؟ ولم لم يبالغ في التّفتيش ، ولا البحث عنه ، ولا السّعي في تخليص يوسف من البليّة ، والشّدّة إن كان حيّا ، وفي إقامة القصاص إن صحّ أنهم قتلوه فثبت أنّ الصّبر في هذا المقام مذموم».

ويقوّي هذا السّؤال أنّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان عالما بأنه حي ؛ لأنّه قال له : (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) [يوسف : ٧]. الظّاهر أنه إنّما قال هذا الكلام من الوحي ، وإذا كان عالما بأنّه حيّ سليم ؛ فكان من الواجب أن يسعى في طلبه.

وأيضا : فإنّ يعقوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان رجلا عظيم القدر في نفسه ، وكان من بيت عظيم شريف ، وأهل العالم كانوا يعرفونه ، ويعتقدون تعظيمه ، فلو بالغ في البحث ، والطلب لظهر ذلك ، واشتهر ، ولزال وجه التّلبيس ، فما السّبب في أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ مع شدّة رغبته في حضور يوسف ، ونهاية حبّه له لم يطلبه مع أنّ طلبه كان من الواجبات ؛ فثبت أنّ هذا الصّبر مذموم عقلا وشرعا.

فالجواب أن نقول : إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ منعه من الطّلب تشديدا للمحنة عليه ، وتغليظا للأمر عليه ، وأيضا : لعلّه عرف بقرائن الأحوال أنّ أولاده أقوياء ، وأنّهم لا يمكنونه من الطّلب ، والفحص ، وأنّه لو بالغ في البحث فربما أقدموا على إيذائه ، وأيضا :

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١٦٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٧) وزاد نسبته إلى ابن أبي الدنيا في «كتاب الصبر» وابن المنذر وابن أبي حاتم عن حبان بن أبي جبلة قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله : فصبر جميل ..... فذكره.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١٦٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٧) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١٦٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٧) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وابن المنذر.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ١٨ / ٨٣.

٤٥

لعلّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ علم أنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ سيصون يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ عن البلاء والمحنة ، وأن أمره سيظهر بالآخرة ولم يرد هتك ستر أولاده ، وإلقائهم في ألسنة النّاس وذلك لأنّ أحد الولدين إذا ظلم أخاه ، وقع أبوه في العذاب الشّديد ؛ لأنه إذا لم ينتقم ؛ يحترق قلبه على الولد المظلوم ، وإن انتقم ، احترق قلبه على الولد المنتقم منه ، فلمّا وقع يعقوب في هذه البلية رأى أنّ الأصوب الصّبر ، والسّكون ، وتفويض الأمر بالكليّة إلى الله ـ تعالى ـ.

فصل

قال ابن أبي رفاعة «ينبغي لأهل الرّأي أن يتّهموا رأيهم عند ظنّ يعقوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهو نبيّ حين قال له بنوه : (إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) [يوسف : ١٧]. فقال : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) [يوسف : ١٨] فأصاب هنا ، ثمّ لما قالوا له : (إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) [يوسف : ٨١] ؛ قال : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ) [يوسف : ٨٣] فلم يصب».

فصل

قوله : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) يدل على أنّ الصّبر قسمان :

أحدهما : جميل ، والآخر : غير جميل ، فالصّبر الجميل هو : أن يعرف أنّ منزّل ذلك البلاء هو الله ـ تعالى ـ ثمّ يعلم أنّه ـ سبحانه ـ مالك الملك ، ولا اعتراض على المالك في أن يتصرّف في ملكه ، فيصير استغراق قلبه في هذا المقام مانعا من الشّكاية. وأيضا : يعلم أن منزّل هذا البلاء حليم لا يجهل ، عالم لا يغفل ، وإذا كان كذلك ، فكان كلّ ما صدر عنه حكمة وصوابا ، فعند ذلك يسكت ولا يعترض.

وأمّا الصّبر غير الجميل : فهو الصّبر لسائر الأغراض ، لا لأجل الرّضا بقضاء الله ـ سبحانه وتعالى ـ والضّابط في جميع الأقوال والأفعال والاعتقادات : أنه كلما كان لطلب عبودية الله ـ تعالى ـ كان حسنا وإلا فلا.

ثم قال : (وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) أي : أستعين بالله على الصّبر على ما تكذبون.

قوله تعالى : (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠) وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٢١)

قوله تعالى : (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ) [الآية : ١٩] واعلم أنه ـ تعالى ـ بيّن

٤٦

كيف السّبيل في خلاص يوسف من تلك المحنة فقال : (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ). قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : أي قوم يسيرون من مدين إلى مصر فأخطئوا (١) الطريق ، وانطلقوا يهيمون على غير طريق ، فهبطوا على أرض فيها جبّ يوسف ، وكان الجبّ في قفر بعيد من العمران لم يكن إلّا للرّعاة (٢). وقيل : كان ماؤه ملحا ، فعذب حين ألقي يوسف فيه ، وأرسلوا واردهم الذي يرد الماء ليستقي للقوم قال القرطبيّ : (فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ) ذكّر على المعنى ، ولو قال : فأرسلت واردها ؛ لكان على لفظ «وجاءت». والوارد : هو الذي يتقدّم الرّفقة إلى الماء فيهيىء الأرشية ، والدّلاء ، وكان يقال له : مالك بن دعر الخزاعيّ».

قوله : (فَأَدْلى دَلْوَهُ) يقال : أدلى دلوه ، أي : أرسلها في البئر ، ودلّاها إذا أخرجها ملأى ؛ قال الشاعر : [الرجز]

٣٠٧٠ ـ لا تقلواها وادلواها دلوا

إنّ مع اليوم أخاه غدوا (٣)

يقال : أدلى يدلي إدلاء : إذا أرسل ، ودلا يدلوا دلوا : إذا أخرج وجذب ، والدّلو معروفة ، وهي مؤنثة ، فتصغّر على «دليّة» ، وتجمع على دلاء ، وأدل والأصل : دلاو ، فقلبت الواو همزة ، نحو «كساء» ، و «أدلو» ، فأعلّ إعلال قاض و «دلوو» بواوين ، فقلبا ياءين ، نحو «عصيّ».

قوله : «يا بشراي» ههنا محذوف ، تقديره : فأظهروا يوسف ، قرأ الكوفيون (٤) بحذف ياء الإضافة ، وأمال ألف «فعلى» الأخوان وأمالها ورش بين بين على أصله ، وعن أبي عمرو الوجهان ، ولكن الأشهر عنه عدم الإمالة ، وليس ذلك من أصله على ما قرّر في علم القراءات ، وقرأ الباقون «يا بشراي» مضافة إلى ياء المتكلّم.

فصل

في قوله : «يا بشراي» قولان :

الأول : أنّها كلمة تذكّر عند البشارة ، كقولهم : يا عجبا من كذا ، وقوله : (يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) [يوسف : ٨٤] وعلى هذا القول ففي تفسير النّداء وجهان :

__________________

(١) في ب : فأخطأوا.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٨ / ٨٥) عن ابن عباس.

(٣) ينظر البيت في تخليص الشواهد ص ١٨٠ وجمهرة اللغة ص ٦٧١ ، ٦٨٢ ، ١٠٦١ ، ١٢٦٦ وخزانة الأدب ٧ / ٤٧٩ وشرح شافية ابن الحاجب ٣ / ٢١٥ ، ٧١٧ وشرح شذور الذهب ص ٥٧٥ وشرح شواهد الشافية ص ٤٤٩ وشرح المفصل ١ / ٢٣ ، ٥ / ٨ واللسان (ولا) والمقتضب ٢ / ٢٣٨ ، ٣ / ١٥٣ والممتع في التصريف ٢ / ٦٢٣ والمنصف ١ / ٦٤ ، ٢ / ١٤٩ وأمالي ابن الشجري ٢ / ٣٥ والمخصص ٩ / ٦٠ ، والدر المصون ٤ / ١٦٤.

(٤) ينظر : السبعة ٣٤٧ ، الحجة ٤ / ٤١٠ وإعراب القراءات السبع ١ / ٣٠٦ والإتحاف ٢ / ١٤٣ والمحرر الوجيز ٣ / ٢٢٩ والبحر المحيط ٥ / ٢٩١ والدر المصون ٤ / ١٦٥.

٤٧

الأول : قال الزجاج «معنى النّداء في هذه الأشياء : تنبيه المخاطبين ، وتوكيد القصّة ، فإذا قلت : يا عجباه ، فكأنك قلت : اعجبوا».

الثاني : قال أبو عليّ : «كأنه يقول : يا أيتها البشرى هذا الوقت وقتك ، ولو كنت ممّن يخاطب لخوطبت ، ولأمرت بالحضور».

واعلم أنّ سبب البشارة : أنهم وجدوا غلاما في غاية الحسن فقالوا : نبيعه بثمن عظيم ، ويصير ذلك سببا للغناء.

والقول الثاني : قال السديّ : الذي نادى كان اسم صاحبه بشرى فناداه فقال : يا بشراي ، كما تقول : «يا زيد» (١).

وعن الأعمش أنه قال : دعا امرأة اسمها بشرى.

قال أبو علي الفارسيّ (٢) إن جعلنا البشرى اسما للبشارة ، وهو الوجه ؛ جاز أن يكون في محلّ الرفع ، كما قيل : «يا رجل» لاختصاصه بالنّداء ، وجاز أن يكون موضع نصب على تقدير : أنه جعل هذا النّداء شائعا في جنس البشرى ، ولم يخص كما تقول : يا رجلا ، و (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) [يس : ٣٠].

وقرأ ورش (٣) عن نافع : «يا بشراي» بسكون الياء ، وهو جمع بين ساكنين على غير حدّه في الوصل ، وهذا كما تقدم في (عَصايَ) [طه : ١٨] وقال الزمخشري : «وليس بالوجه ، لما فيه من التقاء السّاكنين على غير حدّه إلّا أن يقصد الوقف».

وقرأ الجحدريّ (٤) ، وابن أبي إسحاق ، والحسن : «يا بشريّ» بقلب الألف ياء وإدغامها في ياء الإضافة ، وهي لغة هذليّة ، تقدم الكلام عليها في البقرة عند قوله : (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) [البقرة : ٣٨].

وقال الزمخشريّ (٥) : «وفي قراءة الحسن : «يا بشريّ» بالياء مكان الألف جعلت الياء بمنزلة الكسرة قبل ياء الإضافة ، وهي لغة للعرب مشهورة ، سمعت أهل السروات في دعائهم يقولون : يا سيّديّ ، وموليّ».

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١٦٤ ، ١٦٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٧) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

وذكره أيضا (٤ / ١٧) عن الشعبي مثله وعزاه إلى أبي الشيخ.

(٢) ينظر : الحجة ٤ / ٤١٢.

(٣) ينظر : الحجة ٤ / ٤١٠ وإعراب القراءات السبع ١ / ٣٠٦ ، والكشاف ٢ / ٤٥٢ والمحرر الوجيز ٣ / ٢٢٨ والبحر المحيط ٥ / ٢٩١ والدر المصون ٤ / ١٦٥.

(٤) وقرأ بها أيضا أبو الطفيل ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٢٨ والبحر المحيط ٥ / ٢٩١ والدر المصون ٤ / ١٦٥.

(٥) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٥٢.

٤٨

قوله : «وأسرّوه» الظّاهر أن الضمير المرفوع يعود على السّيّارة ، وقيل : هو ضمير إخوته ، فعلى الأول : أن الوارد ، وأصحابه أخفوا من الرفقة أنهم وجدوه في الجبّ ، وقالوا : إن قلنا للسّيّارة التقطناه شاركونا ، وإن قلنا : اشتريناه سألونا الشّركة ، فلا يضرّ أن نقول : إنّ أهل الماء جعلوه بضاعة عندنا على أن نبيعه بمصر.

وعلى الثاني : نقل ابن عبّاس : ـ رضي الله عنهما ـ «وأسرّوه» يعني إخوة يوسف أخفوا كونه أخاهم ، بل قالوا : إنّه عبد لنا أبق منا ، ووافقهم يوسف على ذلك ؛ لأنهم توعّدوه بالقتل بلسان العبرانيّة (١).

و (بضاعة) نصب على الحال. قال الزّجّاج كأنه قال : «وأسرّوه حال ما جعلوه بضاعة» ، وقيل : مفعول ثان على أن يضمّن «أسرّوه» معنى صيّروه بالسّرّ.

والبضاعة : هي قطعة من المال تعدّ للتّجارة من بضعت ، أي : قطعت ومنه : المبضع لما يقطع به.

ثم قال : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ) والمعنى : أنّ يوسف لما رأى الكواكب والشمس ، والقمر في النّوم سجدت له ، وذكر ذلك ؛ حسده إخوته ، فاحتالوا في إبطال ذلك الأمر عليه ، فأوقعوه في البلاء الشّديد ، حتى لا يتم له ذلك المقصود ؛ فجعل الله ـ تعالى ـ وقوعه في ذلك البلاء سببا لوصوله إلى «مصر» ، ثمّ تتابع الأمر إلى أن صار ملك مصر ، وحصل ذلك الذي رآه في النّوم ، فكان العمل الذي عمله إخوته دفعا لذلك المطلوب ، صيّره الله سببا لحصول ذلك المطلوب ، ولهذا المعنى قال : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ).

قوله تعالى : (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ) شرى بمعنى اشترى ، قال الشاعر : [الطويل]

٣٠٧١ ـ ولو أنّ هذا الموت يقبل فدية

شريت أبا زيد بما ملكت يدي (٢)

وبمعنى : باع ؛ قال الشاعر : [مجزوء الكامل]

٣٠٧٢ ـ وشريت بردا ليتني

من بعد برد كنت هامه (٣)

فإن قلنا : المراد من الشّراء نفس الشراء ، فالمعنى : أنّ القوم اشتروه ، وكانوا فيه من الزّاهدين ؛ لأنهم علموا بقرائن الأحوال أنّ إخوة يوسف كذبوا في قولهم : إنّه عبد لنا ، وأيضا : عرفوا أنّه ولد يعقوب ، فكرهوا أيضا شراءه ؛ خوفا من الله ـ تعالى ـ من ظهور تلك الواقعة ، إلّا أنّهم ـ مع ذلك ـ اشتروه بالآخرة ؛ لأنّهم اشتروه بثمن بخس ، وطمعوا

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١٦٦) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٧) وعزاه إلى الطبري.

(٢) ينظر البيت في روح المعاني ١٢ / ٢٠٤ والبحر ٥ / ٢٩١ والدر المصون ٤ / ١٦٥.

(٣) تقدم.

٤٩

في بيعه بثمن عظيم ، ويحتمل أن يقال : إنهم اشتروه مع أنهم أظهروا من أنفسهم كونهم فيه من الزّاهدين ، وغرضهم أن يتوصّلوا بذلك إلى تقليل الثّمن ، ويحتمل أن يقال : إنّ الإخوة لما قالوا : إنه عبد أبق منا صار المشتري عديم الرغبة فيه.

قال مجاهد ـ رحمه‌الله ـ كانوا يقولون : لئلا يأبق (١).

وإن قلنا : إنّ المراد من الشّراء البيع ففي ذلك البائع قولان :

الأول : قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : إنّ إخوة يوسف لمّا طرحوه في الجبّ ، ورجعوا عادوا بعد ثلاث يتعرّفون خبره ، فلمّا لم يروه في الجبّ ، ورأوا آثار السّيارة طلبوهم ، فلمّا رأوا يوسف قالوا : هذا عبد لنا أبق منا فقالوا لهم : فبيعوه منّا ، فباعوه منهم (٢) ، وإنّما وجب حمل الشّراء على البيع ؛ لأن الضمير في قوله : «وشروه» وفي قوله : (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) عائد إلى شيء واحد ، وإذا كان كذلك فهم باعوه ؛ فوجب حمل الشراء على البيع.

والثاني : أن بائع يوسف هم الّذين استخرجوه من الجبّ.

وقال محمد بن إسحاق : وربّك أعلم أإخوته باعوه ، أم السيارة؟.

والبخس : النّاقص ، وهو في الأصل مصدر ، وصف به مبالغة.

وقيل : هو بمعنى مفعول ، و «دراهم» بدل من «بثمن» ، و «فيه» متعلق بما بعده ، واغتفر ذلك للاتّساع في الظروف ، والجار ، أو بمحذوف وتقدم [البقرة : ١٣٠] مثله.

فصل

اعلم أنه ـ تعالى ـ وصف ذلك الثمن بصفات ثلاث :

إحداها : كونه بخسا ، قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : يريد حراما ؛ لأنّ ثمن الحرّ حرام ، وقال : وكلّ بخس في كتاب الله نقصان إلّا هذا فإنه حرام (٣).

قال الواحدي : «سمي الحرام بخسا ؛ لأن ناقص البركة».

وقال قتادة : بخس : ظلم ، والظّلم نقصان ، يقال : ظلمه ، أي : نقصه (٤) وقال عكرمة والشعبيّ : قليل (٥). وقيل : ناقص عن القيمة نقصانا ظاهرا وقيل : كانت الدّراهم زيوفا ناقصة العيار.

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٨ / ٢٦).

(٢) انظر : المصدر السابق.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١٦٩).

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١٦٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٨) وزاد نسبته إلى أبي الشيخ.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١٦٩) عن عكرمة والشعبي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٨) عن الشعبي وزاد نسبته إلى ابن المنذر.

٥٠

قال الواحديّ : وعلى الأقوال كلّها ، فالبخس مصدر وقع موقع الاسم ، والمعنى : بثمن مبخوس.

وثانيها : قوله : (دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) قيل : تعدّ عدّا ، ولا توزن إلا أنهم كانوا يزنون إذا بلغ الأوقية ، وهي أربعون ويعدّون ما دونها. فقيل للقليل معدود ، لأن الكثير لا يعدّ لكثرته ، بل يوزن قال ابن عباس ، وابن مسعود ، وقتادة ـ رضي الله عنهم ـ : كانت عشرين درهما ، فاقتسموها درهمين درهمين إلا يهوذا ، فإنّه لم يأخذ شيئا.

الثالث : أن الذين اشتروه كانوا فيه من الزّاهدين ، وقد سبق توجيه هذه الأقوال.

وقال مجاهد والسديّ : اثنين وعشرين درهما (١) (٢).

فإن قيل : إنّهم لما ألقوه في الجبّ حسدا ، فأرادوا تضييعه عن أبيه ، فلم باعوه؟.

فالجواب : أنّهم لعلّهم خافوا أن تذكر السيارة أمره ، فيردوه إلى أبيه ، لأنّه كان أقرب إليهم من مصر.

فإن قيل : هب أنّهم أرادوا ببيعه أيضا تبعيده عن أبيه ؛ فلم أحلّ لهم أخذ ثمنه؟.

فالجواب : أن الذي اشترى يوسف كان كافرا ، وأخذ مال الكافر حلال.

وثالثها : قوله : (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) ومعنى الزّهد : قلّة الرغبة ، يقال زهد فلان في كذا إذا لم يرغب فيه ، وأصله من القلّة ، يقال : رجل زهيد ، إذا كان قليل الجدة (٣) ، وفيه وجوه :

الأول : أنّ إخوة يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ باعوه ؛ لأنهم كانوا فيه من الزّاهدين.

الثاني : أنّ السيّارة كانوا فيه من الزّاهدين ؛ لأنّهم التقطوه ، والملتقط يتهاون ، ولا يبالي بأي شيء يباع ، أو لأنّهم خافوا أن يظهر المستحق ، فينزعه من يدهم ، فلا جرم باعوه بالأوكس من الأثمان.

والضمير في قوله : «فيه» يحتمل أن يعود إلى يوسف ، ويحتمل أن يعود إلى الثّمن البخس.

فصل

قال القرطبيّ : «في الآية دليل على شراء الشّيء الخطير بالثّمن اليسير ، ويكون البيع لازما».

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١٧٠) عن ابن مسعود وابن عباس وقتادة وذكره السيوطي في «الدر» (٤ / ١٩) عن ابن عباس وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١٧١) عن مجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٩) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٣) في أ : الهم.

٥١

قوله : (وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ) [الآية : ٢١] اعلم أنّه ثبت أنّ الذي اشتراه [إما] من الإخوة ، وإما من الواردين على الماء ذهب به إلى مصر وباعه.

قيل : إن الذي اشتراه هو العزيز ، وكان اسمه «قطفير» ، وقيل : إطفير الذي يلي خزائن مصر ، والملك يومئذ : الرّيّان بن الوليد ، رجل من العماليق ، وقد آمن بيوسف ، ومات في حياة يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما دخلوا مصر تلقّى العزيز مالك بن دعر فابتاع منه يوسف ، وهو ابن سبع عشرة سنة ، [وأقام في منزله ثلاث عشرة سنة ، وقيل : سبع عشرة سنة](١) ، واستوزره الرّيان ، وهو ابن ثلاثين سنة ، وآتاه الله العلم ، والحكم ، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ، وتوفي ، وهو ابن مائة وعشرين سنة (٢).

وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته قيل : كان اسمها زليخا وقيل : «راعيل». قال ابن كثير : «والظّاهر أنّ زليخا لقبها».

قوله : «من مصر» يجوز فيه أوجه :

أحدها : أن يتعلّق بنفس الفعل قبله ، أي : اشتراه من مصر ، كقوله : اشتريت الثّوب من بغداد ، فهي لابتداء الغاية ، وقول أبي البقاء : أي : «فيها ، أو بها» لا حاجة إليه.

والثاني : أنه متعلّق بمحذوف على أنه حال من «الّذي».

والثالث : أنه حال من الضمير المرفوع في : «اشتراه» فيتعلق بمحذوف أيضا.

وفي هذين نظر ؛ إذ لا طائل في هذا المعنى.

و «لامرأته» متعلق ب «قال» فهي للتبليغ ، وليست متعلقة ب : «اشتراه».

قوله (أَكْرِمِي مَثْواهُ) ، أي : منزله ، ومقامه عندك ، من قولك : ثويت بالمكان ، إذا أقمت فيه ، ومصدره الثّواء ، والمعنى : اجعلي منزلته عندك كريما حسنا مرضيّا ، بدليل قوله تعالى : (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) [يوسف : ٢٣] قال المحققون : أمر العزيز امرأته بإكرام مثواه دون إكرام نفسه ، يدلّ على أنه كان ينظر إليه على سبيل الإجلال ، والتعظيم.

(عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) أي : نبيعه بالرّبح إذا أردنا بيعه ، أو يكفينا إذا بلغ بعض أمورنا (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) نتبنّاه.

قال ابن مسعود : «أفرس النّاس ثلاثة : العزيز في يوسف حيث قال لامرأته : (أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) [يوسف : ٢١] وابنة شعيب حين قالت لأبيها في موسى : (اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) [القصص : ٢٦] ، وأبو بكر في عمر حين استخلفه».

__________________

(١) في أ : وقيل ثلاث عشرة سنة وأقام في منزله سبع عشرة سنة.

(٢) ينظر : البغوي في «تفسيره» (٢ / ٤١٦).

٥٢

قوله : (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ) الكاف ـ كما تقدم في نظائره ـ حال من ضمير المصدر ، أو نعت له ، أي : ومثل ذلك الإنجاء من الجبّ ، والعطف مكّنا له ، أي : كما أنجيناه ، وعطفنا عليه العزيز مكّنا له في أرض مصر ، أي : صار متمكنا من الأمر والنهي في أرض مصر ، وجعلناه على خزائنها.

قوله : (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) وهي تعبير الرّؤيا. واللام في «ولنعلّمه» فيها أوجه :

أحدها : أن تتعلّق بمحذوف قبله ، أي : وفعلنا ذلك لنعلمه.

والثاني : أنها تتعلّق بما بعده ، أي : ولنعلمه ، فعلنا كيت ، وكيت.

[الثالث : أن يتعلّق ب «مكّنّا» على زيادة الواو](١).

قوله : (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) الهاء في «أمره» يجوز أن تعود على الجلالة أي : أنه ـ تعالى ـ : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [البروج : ١٦] لا يغلبه شيء ، ولا يردّ حكمه رادّ ، لا دافع لقضائه ، ولا مانع من حكمه في أرضه ، وسمائه. ويجوز أن تعود على يوسف ، أي : أنه يدبره ، ولا يكله إلى غيره ، فقد كادوه إخوته ، فلم يضروه بشيء (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أنّ الأمر كله بيد الله.

قوله تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٢٢)

قوله تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) الآية لما بيّن ـ تعالى ـ أن إخوته لمّا أساءوا (٢) إليه ثمّ صبر على تلك الإساءة ، والشّدائد مكّنه الله في الأرض ، ثم لما بلغ أشده آتاه الله الحكم ، والعلم ، والمقصود أن جميع ما قام به من النّعم كان جزاء على صبره.

قوله : «أشدّه» فيه ثلاثة أقوال :

أحدها : وهو قول سيبويه (٣) : أنّه جمع مفرده شدّة ، نحو نعمة وأنعم.

الثاني : قول الكسائي أنّ «أشدّه» مفردة : «شدّ» بزنة «فعل» نحو : «صكّ ، وأصكّ» ويؤيده قول الشاعر : [الكامل]

٣٠٧٣ ـ عهدي بها شدّ النّهار كأنّما

خضب البنان ورأسه بالعظلم (٤)

والثالث : أنه جمع لا واحد له من لفظه ، قاله أبو عبيدة ، وخالفه الناس (٥) في ذلك ، وقد سمع «شدّه وشدّ» وهما صالحان له ، وهو من الشدّ ، وهو الرّبط على الشيء ، والعقد عليه.

__________________

(١) سقط في : أ.

(٢) في ب : أساؤا.

(٣) ينظر : الكتاب ٢ / ١٨٣.

(٤) تقدم.

(٥) في أ : القياس.

٥٣

قال الراغب (١) : وقوله تعالى : (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) فيه تنبيه على أنّ الإنسان ، إذا بلغ هذا القدر استوى خلقه الذي هو عليه ، فلا يكاد يزايله ، وما أحسن ما [نبه له](٢) الشاعر حين قال : [الطويل]

٣٠٧٤ ـ إذا المرء وافي الأربعين ولم يكن

له دون ما يهوى حياء ولا ستر

فدعه ولا تنفس عليه الّذي مضى

وإن جرّ أسباب الحياة له العمر (٣)

والأشدّ : منتهى شبابه ، وشدّته ، وقوّته. قال مجاهد عن ابن عبّاس رضي الله عنهما : ثلاثا وثلاثين سنة (٤). وقال السديّ : ثلاثين سنة (٥) وقال الضحاك : «عشرين سنة» (٦). وقال الكلبيّ : ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة (٧).

وسئل مالك رضي الله عنه عن الأشد قال : هو الحلم ، وقد تقدّم الكلام على الأشد في سورة الأنعام عند قوله : (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) [الأنعام : ١٥٢].

قوله : (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) فالحكم : النبوة ، والعلم : التفقّه في الدّين ، وقيل : يعني : إصابة في القول ، وعلما [بتفاصيل](٨) الرّؤيا. وقيل : الفرق بين الحكيم والعالم : أن العالم هو الذي يعلم الأشياء ، والحكيم : الذي يحكم بما يوجبه العلم.

قوله : «وكذلك» إمّا نعت لمصدر محذوف ، أو حال من ضمير المصدر ، وتقدّم نظائره.

(نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : المؤمنين (٩) ، وعنه أيضا : المهتدين (١٠). وقال الضحاك : الصّابرين على النّوائب كما صبر يوسف (١١).

قوله تعالى : (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ

__________________

(١) ينظر : المفردات ٢٥٦ ـ ٢٥٧.

(٢) في ب : كتبه.

(٣) البيتان لأيمن بن خريم بن فاتك ـ ينظر : أمالي القالي ١ / ٧٨ وقيل للأقيش كما في الشعر والشعراء ٢ / ٥٦٢ وينظر : روح المعاني ١٢ / ٢٠٩ والمفردات (٣٧٧) والدر المصون ٤ / ١٦٦.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١٧٥) عن ابن عباس ومجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٠) وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وابن أبي حاتم وابن الأنباري في كتاب «الأضداد» والطبراني في الأوسط وابن مردويه.

(٥) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٠) وعزاه إلى ابن أبي حاتم وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٤١٧).

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١٧٥) وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٤١٧).

(٧) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٤١٧).

(٨) في ب : بتأويله.

(٩) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٤١٧).

(١٠) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ١٧٦) وذكره البغوي (٢ / ٤١٧).

(١١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٤١٧).

٥٤

لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٥) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ) (٢٩)

قوله تعالى : (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ) [الآية : ٢٣] اعلم أنّ يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان في غاية الجمال ، فلما رأته المرأة ؛ طمعت فيه.

«وراودته» ، أي : طالبته برفق ولين قول ، والمراودة : المصدر ، والرّيادة : طلب النّكاح ، يقال : راود فلان جاريته عن نفسها ، وراودته عن نفسه ، إذا حاول كلّ واحد منها الوطء ، ومشى رويدا ، أي : برفق في مشيته (١) ، والرّود : الرّفق في الأمور ، والتّأنّي فيها ، وراودت المرأة في مشيها ترود رودانا من ذلك.

والمرودة هذه الآلة منه ، والإرادة منقولة من راد يرود إذا سعى في طلب حاجة ، وتقدّم ذلك في البقرة [٢٦].

وتعدى هنا ب «عن» ؛ لأنه ضمن معنى خادعته ، أي : خادعته عن نفسه ، والمفاعلة هنا من الواحد ، نحو : داويت المريض ، ويحتمل أن تكون على بابها ، فإنّ كلّا منهما كان يطلب من صاحبه شيئا برفق ، هي تطلب منه الفعل ، وهو يطلب منها التّرك.

والتشديد في «غلّقت» للتكثير لتعدّد المحالّ ، أي : أغلقت الأبواب وكانت سبعة.

قال الواحدي (٢) : «وأصل هذا من قولهم في كلّ فعل تشبث في شيء فلزمه قد غلق ، يقال : غلق في الباطل ، وغلق في غضبه ، ومنه غلق الرهن ثم يعدى بالألف ، فيقال : أغلق الباب إذا جعله بحيث يعسر فتحه ، والسبب في تغليق الأبواب أنّ [هذا الفعل](٣) لا يؤتى به إلّا في المواضع المستورة لا سيّما إذا كان حراما ، ومع الخوف الشديد».

قوله : «هيت لك» اختلف أهل النّحو في هذه اللفظة ، هل هي عربية أم معربة؟.

__________________

(١) في ب : مشيه.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ١٧ / ٩٠.

(٣) في أ : ذلك العمل.

٥٥

فقيل : معربة من القبطيّة بمعنى : هلمّ لك ، قاله السديّ (١). وقيل : من السّريانيّة ، قاله ابن عبّاس ، والحسن (٢). وقيل : من العبرانية ، وأصلها : هيتلخ أي : تعاله فعربه القرآن ، قاله أبو زيد الأنصاري. وقيل : هي لغة حورانيّة وقعت [إلى أهل](٣) الحجاز ، فتكلموا بها ، ومعناها : تعال ، قاله الكسائي والفراء ، وهو منقول عن عكرمة. والجمهور على أنّها عربية.

قال مجاهد : هي كلمة حثّ ، وإقبال (٤). ثمّ هي في بعض اللغات تتعيّن فعليتها وفي بعضها اسميتها ، وفي بعضها يجوز الأمران كما ستعرفه من القراءات المذكورة فيها.

فقرأ نافع ، وابن ذكوان (٥) : «هيت» بكسر الهاء ، وسكون الياء ، وفتح التّاء.

وقرأ ابن كثير «هيت» بفتح الهاء ، وسكون الياء ، وتاء مضمومة. وقرأ هشام «هئت» بكسر الهاء ، وهمزة ساكنة ، وتاء مفتوحة ، أو مضمومة. وقرأ الباقون : «هيت» بفتح الهاء ، وياء ساكنة ، وتاء مفتوحة. فهذه خمس قراءات في السّبع.

وقرأ ابن عباس ، وأبو الأسود ، والحسن ، وابن محيصن بفتح الهاء ، وياء ساكنة وتاء مكسورة. وحكى النحاس : أنه قرىء بكسر الهاء والتاء بينهما ياء ساكنة.

وقرأ ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أيضا : «هييت» بضمّ الهاء ، وكسر الياء بعدها ياء ساكنة ثم تاء مضمومة بزنة «حييت». وقرأ زيد بن علي ، وابن أبي إسحاق : بكسر الهاء ، وياء ساكنة ، وتاء مضمومة ، فهذه أربع قراءات في الشاذ ، فصارت تسع قراءات.

وقرأ السلمي ، وقتادة بكسر الهاء وضم التاء مهموزا ، يعني تهيأت لك ، وأنكره أبو عمرو ، والكسائي ، ولم يحك هذا عن العرب ، فيتعين كونها اسم فعل في غير قراءة ابن عبّاس «هييت» بزنة «حييت» ، وفي غير قراءة كسر الهاء سواء كان ذلك بالياء ، أم بالهمز ، فمن فتح التاء بناها على الفتح تخفيفا ، نحو : أين ، وكيف ، ومن ضمّها كابن كثير شبهها ب «حيث» ، ومن كسر فعلى أصل التقاء الساكنين ك : «جير» ، وفتح الهاء ، وكسرها لغتان ، ويتعيّن فعليتها في قراءة ابن عبّاس «هييت» بزنة : «حييت» فإنها فيها فعل ماض مبني للمفعول مسند لضمير المتكلّم من «هيّأت الشّيء».

__________________

(١) أخرجه الطبري (٧ / ١٧٦ ـ ١٧٧) عن ابن عباس والحسن والسدي وزر بن حبيش.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢١) عن ابن عباس وزاد نسبته إلى أبي عبيد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) أخرجه الطبري (٧ / ١٧٧) عن ابن عباس والحسن.

(٣) في ب : لأهل.

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٤١٧).

(٥) ينظر : اختلاف السبعة في قراءة هذه الكلمة في الحجة ٤ / ٤١٦ وإعراب القراءات السبع ١ / ٣٠٧ وحجة القراءات ص ٣٥٨ والإتحاف ٢ / ١٤٣ ، ١٤٤ والمحرر الوجيز ٣ / ٢٣٢ والبحر المحيط ٥ / ٢٩٤ والدر المصون ٤ / ١٦٧ والباقون في الدر المصون ٤ / ١٦٧.

٥٦

ويحتمل الأمرين في قراءة من كسر الهاء ، وضمّ التاء ، فتحتمل أن تكون فيه اسم فعل [بنيت على](١) الضم ، ك «حيث» ، وأن تكون فعلا مسندا لضمير المتكلم ، من : هاء الرّجل يهيء ، ك «جاء يجيء» ، وله حينئذ معنيان :

أحدهما : أن يكون بمعنى : حسنت هيئته.

والثاني : أن يكون بمعنى تهيّأ ، يقال : «هيئت ، أي : حسنت هيئتي ، أو تهيّأت».

وجوز أبو البقاء : أن تكون «هئت» هذه من : «هاء يهاء» ك «شاء يشاء».

وقد طعن جماعة على قراءة هشام الّتي بالهمز ، وفتح التّاء ، فقال الفارسي (٢) : يشبه أن يكون الهمز وفتح التاء وهما من الراوي ؛ لأنّ الخطاب من المرأة ليوسف ، ولم يتهيّأ لها بدليل قوله : (وَراوَدَتْهُ) ، و (أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) ، وتابعه على ذلك جماعة. وقال مكي بن أبي طالب: «يجب أن يكون اللفظ «هئت لي» أي : تهيّأت لي ، ولم يقرأ بذلك أحد ، وأيضا : فإنّ المعنى على خلافه ؛ لأنّه [لم يزل](٣) يفرّ منها ، ويتباعد عنها ، وهي تراوده ، وتطلبه ، وتقدّ قميصه ، فكيف تخبر أنه تهيأ لها؟».

وأجاب بعضهم عن هذين الإشكالين بأن المعنى : تهيأ لي أمرك لأنها لم تكن تقدر على الخلوة به في كل وقت ، أو يكون المعنى : حسنت هيأتك. و «لك» متعلق بمحذوف على سبيل البيان ، كأنها قالت : القول لك ، أو الخطاب لك ، كهي في «سقيا لك ورعيا لك».

قال شهاب الدّين (٤) : «واللّام متعلقة بمحذوف على كلّ قراءة إلّا قراءة ثبت فيها كونها فعلا ، فإنّها حينئذ تتعلق بالفعل ، إذ لا حاجة إلى تقدير شيء آخر». وقال أبو البقاء (٥) : «والأشبه أن تكون الهمزة بدلا من الياء ، أو تكون لغة في الكلمة التي هي اسم للفعل ، وليست فعلا ، لأنّ ذلك يوجب أن يكون الخطاب ليوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ». وهو فاسد لوجهين :

أحدهما : أنّه لم يتهيّأ لها ، وإنّما هي تهيّأت له.

الثاني : أنه قال «لك» ، ولو أراد الخطاب لقال : «هئت لي» ، وتقدم جوابه وقوله : «إنّ الهمزة بدل من الياء». هذا عكس لغة العرب ، إذ قد عهدناهم يبدلون الهمزة السّاكنة ياء إذا انكسر ما قبلها ، نحو : «بير» و «ذيب» ولا يقلبون الياء المكسور ما قبلها همزة ، نحو : ميل ، وديك ، وأيضا : فإنّ غيره جعل الياء الصّريحة مع كسر الهاء كقراءة نافع ، وابن ذكوان محتملة ؛ لأن تكون بدلا من الهمزة ، قالوا فيعود الكلام فيها ، كالكلام في قراءة هشام.

__________________

(١) في أ : هييت على.

(٢) ينظر : الحجة ٤ / ٤٢٠.

(٣) في ب : كان.

(٤) ينظر : الدر المصون ٤ / ١٦٧.

(٥) ينظر : الإملاء ٢ / ٥١.

٥٧

واعلم أنّ القراءة التي استشكلها الفارسي هي المشهورة عن هشام ، وأمّا ضمّ التاء فغير مشهور عنه.

ثمّ إنّه ـ تعالى ـ أخبر أنّ المرأة لما ذكرت هذا الكلام ، قال يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ «معاذ الله إنّه ربّي أحسن مثواي» «معاذ الله» منصوب على المصدر بفعل محذوف ، أي : أعوذ بالله معاذا ، يقال : عاذ يعوذ عياذا [وعياذة](١) ، ومعاذا ، وعوذا ؛ قال : [الطويل]

٣٠٧٥ ـ معاذ الإله أن تكون كظبية

ولا دمية ولا عقيلة ربرب (٢)

قوله «إنّه» يجوز أن تكون الهاء ضمير الشّأن ، وما بعده جملة خبرية له ، ومراده بربه : سيّده ، ويحتمل أن تكون الهاء ضمير الباري تعالى ، و «ربّي» يحتمل أن يكون خبرها ، و «أحسن» جملة حالية لازمة ، وأن تكون مبتدأ ، «أحسن» جملة خبرية له ، والجملة خبر ل «إنّ» وقرأ الجحدريّ (٣) ، وأبو الطفيل الغنوي «مثويّ» بقلب الألف ياء ، وإدغامها ك «بشريّ» و «هديّ».

و : (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ) هذه الهاء ضمير الشّأن ليس إلّا ؛ «فعلى قولنا : إنّ الضمير في قوله : (إِنَّهُ رَبِّي) يعود إلى زوجها قطفير ، أي : إنه ربّي سيّدي ، ومالكي أحسن مثواي حين قال لها : (أَكْرِمِي مَثْواهُ) ، فلا يليق بالعقل أن أجازيه على ذلك الإحسان بهذه الخيانة القبيحة وقيل : إنها راجعة إلى الله ـ تبارك وتعالى ـ أي : أنّ الله ربي أحسن مثواي ، أي : تولّاني ، ومن بلاء الجبّ عافاني : (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) يعني : إن فعلت هذا فخنته في أهله بعد ما أكرم مثواي ، فأنا ظالم ، ولا يفلح الظالمون.

وقيل : أراد الزناة ؛ لأنهم ظالمون لأنفسهم ؛ لأنّ عملهم يقتضي وضع الشيء في غير موضعه.

فصل

ذكر ابن الخطيب هاهنا سؤالات :

الأول : أن يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان حرا ، وما كان عبدا ، فقوله : (إِنَّهُ رَبِّي) يكون كذبا ، وذلك ذنب وكبيرة.

والجواب : أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أجرى هذا الكلام بحسب الظاهر على وفق ما كانوا يعتقدون فيه من كونه عبدا.

وأيضا : إنّه ربه ، وأنعم عليه بالوجوه الكثيرة ، فعنى بقوله : (إِنَّهُ رَبِّي) كونه مربيا

__________________

(١) في ب : ومعاذة.

(٢) تقدم برقم ٢٨.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٥٩٤ ، والدر المصون ٤ / ١٦٨.

٥٨

وهو من باب المعاريض الحسنة ، فإنّ أهل الظّاهر يحملونه على كونه ربّا ، وهو كأنه (١) يعني به أنه كان مربيا له ومنعما عليه.

السؤال الثاني : ذكر يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ في الجواب في كلامه ثلاثة أشياء :

أحدها : قوله : (مَعاذَ اللهِ).

والثاني : قوله : (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ).

والثالث : قوله : (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) فما وجه تعلّق هذه الجوابات بعضها ببعض؟.

والجواب : هذا الترتيب في غاية الحسن ؛ لأن الانقياد لأمر الله ـ تعالى ـ وتكاليفه أهم الأشياء لكثرة إنعامه ، وألطافه في حق العبد ، فقوله : (مَعاذَ اللهِ) إشارة إلى أنّ حقّ الله يمنع من هذا العمل.

وأيضا : حقوق الخلق واجبة الرعاية ، فلما كان هذا الرجل قد أنعم في حقّي ، فيقبح معامله [إنعامه](٢) بالإساءة.

وأيضا : صون النّفس عن الضّرر واجب ، وهذه اللذّة قليلة ، ويتبعها خزي في الدّنيا وعذاب في الآخرة ، وهذه اللذّة القليلة إذا تبعها ضرر شديد ؛ ينبغي تركها والاحتراز عنها ، لقوله: (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) فهذه الجوابات الثلاثة مرتبة على أحسن وجوه (٣) الترتيب.

السؤال الثالث : هل يدلّ قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ «معاذ الله» على صحّة القضاء والقدر؟.

والجواب : أنه يدل دلالة ظاهرة ؛ لأنه طلب من الله أن يعيذه من العمل ، وتلك الإعاذة ليست عبارة من لفظ الفعل ، والقدرة وإزاحة الأعذار ، وإزالة الموانع وفعل الألطاف ؛ لأن كل هذا قد فعله الله ـ تعالى ـ ، فيكون طلبه إمّا طلبا لتحصيل الحاصل ، أو طلبا لتحصيل الممتنع ، وأنّه محال ، فعلمنا أنّ تلك الإعاذة التي طلبها يوسف من الله ـ تعالى ـ لا معنى لها إلا أن يخلق فيه داعية جازمة في جانب الطاعة ، وأن يزيل عن قلبه داعية المعصية ، وهو المطلوب.

ويدلّ على ذلك : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما وقع بصره على زينب قال : «يا مقلّب القلوب ثبت قلبي على دينك» (٤) وكان المراد منه تقوية داعية الطّاعة ، وإزالة داعية المعصية ، فكذا هنا.

__________________

(١) في ب : كان.

(٢) في أ : إحسانه.

(٣) سقط في : ب.

(٤) أخرجه مسلم (٤ / ٢٠٤٥) كتاب القدر : باب تصريف الله تعالى القلوب كيف شاء (١٧ / ٢٦٥٤) وأخرجه الترمذي (٤ / ٣٩٠ ـ ٣٩١) كتاب القدر باب ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن (٢١٤٠) وقال : وفي الباب عن النواس بن سمعان وأم سلمة وعبد الله بن عمرو وعائشة وهذا حديث حسن ، وهكذا روى غير واحد عن الأعمش عن أبي سفيان عن أنس ، وروى بعضهم عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحديث أبي سفيان عن أنس أصح.

٥٩

وكذلك قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرّحمن» (١). قال : والمراد من الأصبعين : داعية الفعل وداعية التّرك ، وهاتان الدّاعيتان لا يحصلان إلا بخلق الله ـ تعالى ـ وإلا لافتقرت إلى داعية أخرى ، ولزم التّسلسل ؛ فثبت أن قول يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «معاذ الله» من أدل الدّلائل على صحّة القول بالقضاء ، والقدر.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) [الآية : ٢٤] جواب «لو لا» ما تقدّم عليها ، وقوله : «وهمّ بها» عند من يجيز تقديم جواب أدوات الشرط عليها ، وإما محذوف لدلالة هذا عليه عند من لا يرى ذلك ، وقد تقدّم تقرير المذهبين مرارا ، كقولهم : «أنت ظالم إن فعلت» ، أي : إن فعلت ، فأنت ظالم ، ولا تقول : إن «أنت ظالم» هو الجواب ، بل دلّ عليه دليل ، وعلى هذا فالوقف عند قوله : «برهان ربّه» والمعنى : لو لا رؤيته برهان ربه لهمّ بها ، لكنه امتنع همّه بها لوجود رؤية برهان ربّه ، فلم يحصل منه همّ ألبتّة ، كقولك : لو لا زيد لأكرمتك ، فالمعنى : إنّ الإكرام ممتنع لوجود زيد ، وبهذا يتخلّص من الإشكال الذي يورد ، وهو : كيف يليق بنبي أن يهم بامرأة.

قال الزمخشريّ (٢) : «فإن قلت : قوله : (وَهَمَّ بِها) داخل تحت القسم في قوله : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) أم خارج عنه؟. قلت : الأمران جائزان ، ومن حقّ القارىء إذا قصد خروجه من حكم القسم ، وجعله كلاما برأسه أن يقف على قوله : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) ويبتدىء قوله : (وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) ، وفيه أيضا إشعار بالفرق بين الهمّين.

فإن قلت : لم جعلت جواب «لو لا» محذوفا يدلّ عليه : «همّ بها» ، وهلّا جعلته هو الجواب مقدما؟.

قلت : لأن «لو لا» لا يتقدم عليها جوابها من قبل أنّه في حكم الشرط ، وللشّرط صدر الكلام ، وهو وما في حيّزه من الجملتين ، مثل كلمة واحدة ، ولا يجوز تقديم بعض الكلمة على بعض ، وأما حذف بعضها إذا دلّ عليه دليل ؛ فهو جائز».

فقوله : «وأما حذف بعضها .... إلخ» جواب عن سؤال مقدر ، وهو أنّه إذا كان جواب الشّرط مع الجملتين بمنزلة كلمة ؛ فينبغي أن لا يحذف منهما شيء ؛ لأنّ الكلمة لا يحذف منها شيء.

فأجاب بأنّه يجوز إذا دلّ دليل على ذلك ، وهو كما قال ، ثم قال : فإن قلت لم جعلت «لو لا» متعلقة ب «همّ بها» وحده ، ولم تجعلها متعلقة بجملة قوله : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها) ؛ لأن الهمّ لا يتعلق بالجواهر ، ولكن بالمعاني ، ولا بد من تقدير

__________________

(١) أخرجه مسلم (٤ / ٢٠٤٥) كتاب القدر : باب تصريف الله تعالى القلوب كيف شاء حديث (١٧ / ٢٦٥٤).

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٥٦.

٦٠