اللّباب في علوم الكتاب - ج ١١

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١١

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥١٠

والتوسّم : تفعل من الوسم ، والوسم أصله : التّثبت ، والتّفكر مأخوذ من الوسم ، وهو التّأثير بحديد في جلد البعير ، أو غيره.

وقال ثعلب : الواسم النّاظر إليك من [قرنك](١) إلى قدمك ، وفيه معنى التّثبيت.

وقال الزجاج : حقيقة المتوسّمين في اللغة : المتثبتون في نظرهم حتّى يعرفوا سمة الشيء ، وصفته وعلامته وهو استقصاء وجوه التّعرف قال : [الكامل]

٣٢٨٧ ـ أو كلما وردت عكاظ قبيلة

بعثت إليّ عريفها يتوسّم (٢)

وقيل : هو تفعّل من الوسم ، وهو العلامة ، توسّمت فيك خيرا ، أي : ظهر لي ميسمه عليك.

قال ابن رواحة يمدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [البسيط]

٣٢٨٨ ـ إنّي توسّمت فيك الخير أعرفه

والله يعلم أنّي ثابت البصر (٣)

وقال آخر : [الطويل]

٣٢٨٩ ـ توسّمته لمّا رأيت مهابة

عليه ، وقلت المرء من آل هاشم (٤)

ويقال : اتّسم الرّجل ، إذا اتّخذ لنفسه علامة يعرف بها ، وتوسّم : إذا طلب كلأ الوسمي ، أي : العشب النّابت في أوّل المطر.

واختلف المفسّرون : فقال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ للنّاظرين (٥).

وقال مجاهد للمتفرّسين (٦) ، وقال قتادة للمعتبرين (٧) ، وقال مقاتل للمتفكرين (٨).

__________________

(١) في ب : فرقك.

(٢) البيت لطريف بن تميم العنبري ينظر : الكتاب ٤ / ٧ ، معاهد التنصيص ١ / ٢٠٤ ، المنصف ٣ / ٦٦ ، ودلائل الإعجاز ١١٦ ، الأصمعيات ١٢٧ ، شواهد التلخيص ١ / ٢٠٤ ، شرح أبيات سيبويه ٢ / ٣٨٩ ، شرح شواهد الشافية ص ٣٧٠ ، ولسان العرب «ضرب» ، «عرف» ، أدب الكاتب ص ٥٦١ ، الأشباه والنظائر ٧ / ٢٥٠ ، جمهرة اللغة ص ٣٧٢ ، ٧٦٦ ، ٩٣٠ ، البحر المحيط ٥ / ٤٥٠ ، القرطبي ١٠ / ٤٣ ، روح المعاني ١٤ / ٧٤ والدر المصون ٤ / ٣٠٥.

(٣) ينظر : الديوان ١٥٩ ، الروض الأنف ٧ / ١١ ، شرح المغني للسيوطي ٢٩٣ ، وحاشية الأمير ٩٢ والبحر المحيط ٥ / ٤٤٤ ، والقرطبي ١٠ / ٤٣ ، روح المعاني ١٤ / ٧٤ والدر المصون ٤ / ٣٠٥.

(٤) البيت لأعرابي مجهول. ينظر : القرطبي (٥ / ٤٥٣) ، البحر المحيط ٥ / ٤٤٤ ، الخزانة ٣ / ٥٠٢ ، الدر المصون ٤ / ٣٠٥.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٥٢٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٩٢) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم ، وذكره البغوي (٣ / ٥٥).

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٥٢٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٩٢) وزاد نسبته إلى ابن المنذر. وذكره البغوي في «تفسيره» (م / ٥٥).

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٥٢٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٩٢) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ في العظمة. وذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٥٥).

(٨) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٥٥).

٤٨١

قوله : (وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ) الظاهر عود الضمير على المدينة ، أو القرى وقيل على الحجارة وقيل : على الآيات ، والمعنى : بطريق واضح قال مجاهد هذا طريق (١) معلم ، وليس بخفيّ ، ولا زائل.

ثم قال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) ، أي : كل من آمن بالله ، ويصدق بالأنبياء ، والرّسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ ؛ عرف أنّما كان انتقام الله من الجهّال لأجل مخالفتهم ، وأمّا الذين لا يؤمنون ؛ فيحملونه على حوادث [العالم](٢) ، وحصول القرانات الكوكبية ، والاتصالات الفلكية.

قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ)(٧٩)

قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ) «إن» هي المخففة ، واللام فارقة وهي للتأكيد ، وقد تقدّم حكم ذلك [البقرة : ١٤٣].

و «الأيكة» : الشّجرة الملتفّة ، واحدة الأيك. قال : [الكامل]

٣٢٩٠ ـ تجلو بقادمتي حمامة أيكة

بردا أسفّ لثاته بالإثمد (٣)

ويقال : ليكة ، وسيأتي بيانه عند اختلاف القرّاء فيه في الشعراء : [١٧٦] إن شاء الله ـ تعالى ـ.

وأصحاب الأيكة : قوم شعيب كانوا أصحاب غياض ، وشجر ملتفّ.

قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : وكان عامة شجرهم الدوم ، وهو المقل (٤).

(فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) بالعذاب.

روي أنّ الله ـ تعالى ـ سلّط عليهم الحر سبعة أيّام ، فبعث الله ـ سبحانه ـ سحابة فالتجئوا إليها يلتمسون الرّوح ؛ فبعث الله عليهم منها نارا ، فأحرقتهم ، فهو عذاب يوم الظّلة.

قوله تعالى : (وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) في ضمير التثنية أقوال :

أرجحها : عوده على [قريتي](٥) قوم لوط ، وأصحاب الأيكة ، وهم : قوم شعيب ؛ لتقدّمهما ذكرا.

__________________

(١) سقط من : ب.

(٢) في ب : العوالم.

(٣) البيت للنابغة ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٤٤ ، القرطبي ١٠ / ٤٥ ، روح المعاني ١٤ / ٧٥ ، الدر المصون ٤ / ٣٠٦.

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٥٥) ولم يعزه لأحد وأخرجه الطبري (٧ / ٥٣٠) عن قتادة بمثله وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٩٣ ـ ١٩٤) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٥) في ب : قرى.

٤٨٢

وقيل : يعود على لوط وشعيب ، [وشعيب] لم يجر له ذكر ، ولكن دلّ عليه ذكر قومه.

وقيل : يعود على الخبرين : خبر إهلاك قوم لوط ، وخبر إهلاك قوم شعيب.

وقيل : يعود على أصحاب الأيكة ، وأصحاب مدين ؛ لأنه مرسل إليهما ، فذكر أحدهما يشعر بالأخرى.

وقوله ـ جل ذكره ـ (لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) أي : بطريق واضح ، والإمام [اسم لما](١) يؤتمّ به.

قال الفراء ، والزجاج : «إنّما جعل الطّريق إماما ؛ لأنه يؤمّ ، ويتبع».

قال ابن قتيبة : لأنّ المسافر يأتمّ به حتى يصير إلى الموضع الذي يريده.

وقوله : «مبين» يحتمل أنه مبين في نفسه ، ويحتمل أنه مبين لغيره ، لأن الطريق تهدي إلى المقصد.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٨١) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ)(٨٦)

قوله : (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ).

قال صاحب «ديوان الأدب» : الحجر : ـ بكسر الحاء المهملة ، وتسكين الجيم ـ له ستّة معان :

فالحجر : منازل ثمود ، وهو المذكور هاهنا ، والحجر : الأنثى من الخيل. والحجر : الكعبة. والحجر : لغة في الحجر ، هو واحد الحجور في قوله تعالى : (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) [النساء : ٢٣] والحجر : العقل ، قال تعالى : (هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) [الفجر : ٥] ، والحجر : الحرام في قوله تعالى : (حِجْراً مَحْجُوراً) [الفرقان : ٥٣] أي : حراما محرما.

فصل

قال «المرسلين» ، وإنّما كذبوا صالحا وحده ؛ لأنّ من كذّب نبيّا ؛ فقد كذّب الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ لأنهم على دين واحد ولا يجوز التّفريق بينهم.

وقيل : كذّبوا صالحا ، وقيل : كذّبوا صالحا ومن تقدمه من النّبيين أيضا ، والله تعالى أعلم.

قال المفسرون : والحجر : اسم واد كان يسكنه ثمود قوم صالح ، وهو بين المدينة ، والشام ، والمراد ب «المرسلين» صالح وحده.

__________________

(١) في ب : الذي.

٤٨٣

قال ابن الخطيب (١) : «ولعلّ القوم كانوا براهمة منكرين لكل الرسل».

(وَآتَيْناهُمْ) يعني النّاقة ، وولدها ، والبئر ، والآيات في النّاقة : خروجها من الصّخرة ، وعظم خلقها ، وظهور نتاجها عند خروجها ، وقرب ولادتها ، وغزارة لبنها ، وأضاف الإيتاء إليهم ، وإن كانت النّاقة آية صالح ؛ لأنّها آيات رسولهم ، فكانوا عنها معرضين ؛ فذلك يدلّ على أنّ النّظر ، والاستدلال واجب ، وأنّ التقليد مذموم.

(وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) تقدّم كيفيّة النّحت في الأعراف (٢) : [٧٤] ، وقرأ الحسن ، وأبو حيوة : بفتح الحاء.

«ءامنين» من عذاب الله.

وقيل : آمنين من الخراب ، ووقوع السّقف عليهم.

(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) ، أي : صيحة العذاب «مصبحين» ، أي وقت الصّبح.

قوله : «فما أغنى» يجوز أن تكون نافية ، أو استفهامية فيها [معنى] التعجب ، وقوله : «ما كانوا» يجوز أن تكون «ما» مصدرية ، أي : كسبهم ، أو موصوفة ، أو بمعنى «الّذي» ، والعائد محذوف ، أي : شيء يكسبونه ، أو الذي يكسبونه.

فصل

وروى البخاري عن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا نزل الحجر في غزوة تبوك ، أمرهم ألّا يشربوا من بئرها ، ولا يستقوا منها ، فقال واحد : عجنّا ، وأستقينا ، فأمرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يهريقوا ذلك الماء ، وأن يطرحوا ذلك العجين» ، وفي رواية : «وأن يعلفوا الإبل العجين» (٣).

وفي هذا دليل على كراهة دخول تلك المواضع ، وعلى كراهة دخول مقابر الكفار ، وعلى تحريم الانتفاع بالماء المسخوط عليه ؛ لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمرهم بإهراقه وطرح العجين ، وهكذا حكم الماء النّجس ، ويدلّ على أنّ ما لا يجوز استعماله من الطعام ، والشراب ، يجوز أن يعلفه البهائم.

قوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) الآية. لما ذكر إهلاك الكفّار ، فكأنه قيل : كيف يليق الإهلاك بالرحيم؟.

فأجاب : بأني ما خلقت الخلق إلا ليشتغلوا بعبادي ، كما قال تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] فإذا تركوها ، وأعرضوا عنها ؛ وجب في الحكمة إهلاكهم ، وتطهير وجه الأرض منهم.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ١٩ / ١٦٣.

(٢) ينظر : الإتحاف ٢ / ١٧٩ ، والبحر المحيط ٥ / ٤٥١.

(٣) أخرجه البخاري (٦ / ٤٧٨) كتاب أحاديث الأنبياء حديث (٣٣٨٠).

٤٨٤

وهذا النّظم حسن ، إلا أنّه إنما يستقيم على قول المعتزلة ، وفي النظم وجه آخر : وهو أنه ـ تعالى ـ إنّما ذكر هذه القصّة تسلية لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن يصبره على سفاهة قومه ، فإنه إذا سمع [أنّ](١) الأمم السّالفة كانوا يعاملون بمثل هذه المعاملات ؛ سهل تحمّل تلك السّفاهات على محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ ثم إنّه ـ تعالى ـ لما بيّن أنه أنزل العذاب على الأمم السّالفة ، قال لمحمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ السّاعة لآتية» ، وإنّ الله لينتقم لك من أعدائك ، ويجازيهم ، وإيّاك ، فإنه ما خلق السماوات ، والأرض ، وما بينهما إلا بالحق ، والعدل والإنصاف ، فكيف يليق بحكمته إهمال أمرك؟.

ثم إنّه ـ تعالى ـ لما صبّره على أذى قومه ، رغّبه بعد ذلك في الصّفح عنهم ، فقال : (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ).

قوله : «إلّا بالحقّ» نعت لمصدر محذوف ، أي : ملتبسة بالحقّ.

قال المفسّرون : هذه الآية منسوخة بآية القتال ، وهو بعيد ؛ لأنّ المقصود من ذلك أن يظهر الخلق الحسن ، والعفو ، والصفح ، فكيف يصير منسوخا؟.

ثم قال : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) ، أي خلق الخلق مع اختلاف طبائعهم ، وتفاوت أحوالهم ، مع علمه بكونهم كذلك وإذا كان كذلك ، فإنّما خلقهم مع هذا التّفاوت ، ومع العلم بذلك التّفاوت ، أمّا على قول أهل السنة فلمحض مشيئته ، وإرادته ، وعلى قول المعتزلة : لأجل المصلحة ، والحكمة.

وقرأ زيد بن علي ، والجحدري : «إنّ ربّك هو الخالق» ، وكذا هي في مصحف أبيّ وعثمان.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)(٩٩)

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) يحتمل أن يكون سبعا من الآيات ، وأن يكون سبعا من السّور ، وأن يكون سبعا من الفوائد ، وليس في اللفظ ما يدلّ على التّعيين.

__________________

(١) في ب : من.

٤٨٥

والثاني : صيغة جمع ، واحده مثناة ، والمثناة : كل شيء يثنّى ، أي : يجعل اثنين من قولك : ثنيت الشّيء ثنيا ، أي : عطفته ، أو ضممت إليه آخر ، ومنه يقال لركبتي الدّابة ومرفقيها مثاني ؛ لأنها تثنى بالفخذ ، والعضد ؛ ومثاني الوادي معاطفه.

وإذا عرف هذا ، فقوله : (سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) مفهومه سبعة أشياء من جنس الأشياء التي تثنى ، وهذا القدر مجمل ، ولا سبيل إلى تعيينه ، إلا بدليل منفصل ، وللنّاس فيه أقوال :

أحدها : قال عمر ، وعليّ ، وابن مسعود ، وأبو هريرة ، والحسن ، وأبو العالية ، ومجاهد والضحاك ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ـ رضي الله عنهم ـ : إنه فاتحة الكتاب (١).

روى أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ فاتحة الكتاب ، وقال : «هي السّبع المثاني» (٢).

وإنّما سمّيت بالسّبع ؛ لأنها سبع آيات ، وفي تسميتها بالمثاني وجوه :

أولها : قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ والحسن ، وقتادة : لأنها تثنى في الصلاة ، فتقرأ في كلّ ركعة (٣).

ثانيها : قال الزجاج : لأنّها تثنى مع ما يقرأ معها.

وثالثها : لأنها قسمت قسمين : نصفها ثناء ، ونصفها دعاء ، كما ورد في الحديث المشهور.

ورابعها : قال الحسين بن الفضل : لأنّها نزلت مرّتين ، مرة بمكّة ، ومرة بالمدينة (٤).

وخامسها : لأنّ كلماتها مثناة ، مثل : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ).

وفي قراءة عمر : (غير المغضوب عليهم وغير الضالين).

نقل القاضي عن أبي بكر الأصم أنّه قال : كان ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ لا يكتب في مصحفه فاتحة الكتاب ؛ رأى أنّها ليست من القرآن (٥).

قال ابن الخطيب : «لعلّ حجّته أنه عطف السّبع المثاني على القرآن والمعطوف مغاير للمعطوف عليه ؛ فوجب أن تكون غير القرآن العظيم» (٦) ، ويشكل هذا بقوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ) [الأحزاب : ٧] ، وكذلك قوله تعالى : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة : ٩٨].

__________________

(١) تقدمت في سورة الفاتحة.

(٢) تقدم.

(٣) تقدم.

(٤) تقدم.

(٥) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٩ / ١٦٥).

(٦) سقط من : ب.

٤٨٦

وللخصم أن يجيب بأنه يجوز أن يذكر الكلّ ، ثمّ يعطف عليه ذكر بعض أقسامه لكونه أشرف الأقسام ، وأمّا إذا ذكر شيء آخر كان المذكور أولا مغايرا للمذكور ثانيا ، وها هنا ذكر السبع المثاني (١). ثم عطف عليه القرآن فوجب التغاير.

ويجاب عليه : بأنّ بعض الشّيء مغاير لمجموعه ، فلم لا يكفي هذا القدر من المغايرة في حسن العطف؟.

واعلم أنّه لمّا كان المراد بالسّبع المثاني هو الفاتحة ؛ دلّ على أنّها أفضل سور القرآن ، لأن إفرادها بالذّكر مع كونها جزءا من القرآن ؛ يدلّ على مزيد اختصاصها بالفضيلة ، وأيضا : لما أنزلها مرّتين دلّ ذلك على أفضليتها ، وشرفها ، ولما واظب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قراءتها في جميع الصلوات طول عمره ، وما أقام [سورة أخرى](٢) مقامها في شيء من الصلوات ، دل ذلك على وجوب قراءتها ، وألّا يقوم شيء من القرآن مقامها.

القول الثاني : السّبع المثاني : هي السبع الطوال ، قاله ابن عمر ، وسعيد بن جبير في بعض الروايات عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما (٣) ـ وإنما سميت السبع الطوال مثاني ؛ لأنّ الفرائض ، والحدود ، والأمثال والخبر ، والعبر ثنيت فيها.

وأنكر الربيع هذا القول ، وقال : الآية مكية ، وأكثر هذه السورة مدنيّة ، وما نزل منها شيء في مكّة ، فكيف تحمل هذه الآية عليها؟.

وأجاب قوم عن هذا بأنه ـ تعالى جلّ ذكره ـ أنزل القرآن كلّه إلى سماء الدنيا ، ثم أنزل على نبيه منه نجوما ، فلمّا أنزله إلى سماء الدّنيا ، وحكم بإنزاله عليه فهو جملة من آتاه ، وإن لم ينزل عليه بعد.

وفي هذا الجواب نظر ، فإن قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) ذكره في [معرض](٤) الامتنان ، وهذا الكلام إنّما يصدق ، إذا وصل ذلك إلى محمّد ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فأمّا ما لم يصله بعد ، فلا يصدق ذلك عليه.

وأما قوله : إنه لما حكم بإنزاله على محمد ، كان ذلك جاريا مجرى ما نزل عليه ، فضعيف ؛ لأنّ إقامة ما لم ينزل عليه مقام النّازل عليه مخالف للظّاهر.

القول الثالث : أنّ السّبع المثاني : هو القرآن ، وهو منقول عن ابن عباس ـ رضي الله

__________________

(١) سقط من : ب.

(٢) في أشيئا من القرآن.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٥٣٣ ـ ٥٣٤) عن ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والضحاك.

وأخرجه أبو داود (١ / ٤٦١) رقم (١٤٥٩) والنسائي في «الكبرى» (٦ / ٣٧٥) والحاكم (٢ / ٣٥٥) عن ابن عباس.

وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

(٤) في ب : موضع.

٤٨٧

عنه ـ في بعض الروايات ، وهو قول طاوس ـ رضي الله عنه ـ لقوله تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ) [الزمر : ٢٣] فوصف كلّ القرآن بكونه مثاني ؛ لأنه كرّر فيه دلائل التّوحيد ، والنبوّة ، والتّكاليف.

قالوا : وهو ضعيف ؛ لأنه لو كان المراد بالسّبع المثاني القرآن لكان قوله : (وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) ، عطفا على نفسه ، وذلك غير جائز.

وأجيب عنه : بأنه إنّما حسن العطف فيه لاختلاف اللفظين ؛ كقول الشاعر : [المتقارب]

٣٢٩١ ـ إلى الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم (١)

واعلم أن هذا ، وإن كان جائزا إلا أنّهم أجمعوا على أن الأصل خلافه.

القول الرابع : أنه يجوز أن يكون المراد بالسبع الفاتحة ، وبالمثاني كل القرآن ، ويكون التقدير : ولقد آتيناك سبع آيات هي الفاتحة ، وهي من جملة المثاني الذي هو القرآن ، وهذا عين الأول.

و «من» في قوله : «من المثاني».

قال الزجاج ـ رحمه‌الله تعالى ـ : فيها وجهان :

أحدهما : أن تكون للتبعيض من القرآن ، أي : ولقد آتيناك سبع آيات من جملة الآيات التي يثنى بها على الله ، وآتيناك القرآن العظيم.

ويجوز أن تكون «من» صفة ، والمعنى : أتيناك سبعا هي المثاني ، كقوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) [الحج : ٣٠] ، أي اجتنبوا الأوثان ؛ لأن بعضها رجس.

قوله : «والقرآن» فيه أوجه :

أحدها : أنه من عطف بعض الصفات على بعض ، أي : الجامع بين هذين النعتين.

الثاني : أنه من عطف العام على الخاص ، إذ المراد بالسّبع : إمّا الفاتحة ، أو الطوال ، فكأنه ذكر مرتين بجهة الخصوص ، ثم باندراجه في العموم.

الثالث : أنّ الواو مقحمة ، وقرىء (٢) «والقرآن» بالجر عطفا على : «المثاني».

قوله تعالى : (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا) الآية لما عرف رسوله عظيم نعمه عليه فيما يتعلق بالدّين ، وهو أنه تعالى آتاه سبعا من المثاني ، والقرآن العظيم نهاه عن الرغبة في الدنيا فقال : (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) ، أي لا تشغل سرك ، وخاطرك بالالتفات إلى الدنيا ، وقد أوتيت القرآن العظيم.

قال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ «من أوتي القرآن فرأى أنّ أحدا أوتي من الدنيا أفضل

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٥٢.

٤٨٨

ممّا أوتي ، فقد صغّر عظيما وعظّم صغيرا» (١). وتأوّل سفيان بن عيينة هذه الآية بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس منّا من لم يتغنّ بالقرآن» أي لم يستغن (٢).

وقال ابن [عبّاس](٣) ـ رضي الله عنهما ـ : «لا تمدّنّ عينيك» ، أي لا تتمنّ ما فضلنا به أحدا من متاع الدّنيا (٤).

وقرّر الواحديّ هذا المعنى فقال : «إنّما يكون مادّا عينيه إلى الشيء ، إذا أدام النّظر نحوه ، وإدامة النّظر إلى الشّيء تدلّ على استحسانه ، وتمنّيه ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ينظر إلى ما يستحسن من متاع الدنيا».

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نظر إلى نعم بني المصطلق ، وقد [عبست](٥) في أبوالها ، وأبعارها ؛ فتقنّع في ثوبه ؛ وقرأ هذه الآية» (٦).

قوله : «عبست في أبوالها وأبعارها» هو أن تجف أبعارها ، وأبوالها على أفخاذها ، إذا تركت من العمل أيّام الربيع ؛ فيكثر شحومها ، ولحومها ، وهي أحسن ما تكون.

قوله : (أَزْواجاً مِنْهُمْ).

قال ابن قتيبة : أي أصنافا من الكفّار ، والزّوج في اللغة : الصّنف (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) ؛ لأنهم لم يؤمنوا ، فيتقوى بإسلامهم ، ثم قال عزوجل (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ).

الخفض : معناه في اللغة : نقيض الرفع ، ومنه قوله تعالى في وصف القيامة (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) [الواقعة : ٣] ، أي : أنّها تخفض أهل المعاصي ، وترفع أهل الطّاعة ، وجناح الإنسان: يده.

قال الليث ـ رضي الله عنه ـ : يد الإنسان : جناحه ، قال تعالى : (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) [القصص : ٣٢] ، وخفض الجناح كناية عن اللّين ، والرّفق ، والتّواضع ، والمقصود : أنه نهاه عن الالتفات إلى الأغنياء من الكفار ، وأمره بالتّواضع لفقراء المؤمنين [ونظيره](٧)(أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) [المائدة : ٥٤] ، وقوله : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح : ٢٩].

قوله : (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) لما أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالزّهد في الدنيا ، وخفض الجناح للمؤمنين ، أمره أن يقول للقوم : (أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) ، وهذا يدخل تحته كونه مبلغا لجميع التّكاليف ، وكونه [شارحا لمراتب](٨) الثّواب والعقاب ، والجنّة والنّار ،

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٩ / ١٦٧).

(٢) تقدم.

(٣) في أ : مسعود.

(٤) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٩ / ١٦٧).

(٥) في ب : غرست.

(٦) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٩٧) وعزاه إلى أبي عبيد وابن المنذر عن يحيى بن أبي كثير مرسلا.

(٧) سقط من : ب.

(٨) في أ : شاملا.

٤٨٩

ومعنى «المبين» الآتي بجميع البيّنات الوافية.

قوله : (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) فيه أقوال :

أحدها : أنّ الكاف [تتعلق](١) ب «آتيناك» ، وإليه ذهب الزمخشريّ فإنه قال : «أنزلنا عليك» ، مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب ، وهم المقتسمون : (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ).

الثاني : أنه نعت لمصدر محذوف منصوب ب «آتيناك» تقديره : آتيناك إتيانا كما أنزلنا.

الثالث : أنه منصوب نعت لمصدر محذوف ، ولكنّه ملاق ل «آتيناك» من حيث المعنى لا من حيث اللفظ ، تقديره : أنزلنا إليك إنزالا كما أنزلنا ؛ لأنّ «آتيناك» بمعنى أنزلنا إليك.

الرابع : أنه نعت لمصدر محذوف ، والعامل فيه مقدّر أيضا ، تقديره : ومتعناهم تمتيعا كما أنزلنا ، والمعنى : نعمنا بعضهم كما عذّبنا بعضهم.

الخامس : أنه صفة لمصدر دلّ عليه التقدير ، والتقدير : أنا النّذير إنذارا كما أنزلنا ، أي : مثل ما أنزلنا.

السادس : أنه نعت لمفعول محذوف ، النّاصب له : «النّذير» ، تقديره : النّذير عذابا (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) وهم قوم صالح (٢) ؛ لأنهم قالوا : «لنبيتنّه» (٣) وأقسموا على ذلك ، أو يراد بهم قريش حين قسموا القرآن إلى سحر ، وشعر ، وافتراء.

وقد ردّ بعضهم هذا : بأنه يلزم منه إعمال الوصف موصوفا ، وهو غير جائز عند البصريين جائز عند الكوفيين ، فلو عمل ثمّ وصف جاز عند الجميع.

السابع : أنّه مفعول به ناصبه : «النّذير» أيضا.

قال الزمخشريّ : «والثاني : أن يتعلق بقوله : (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) ، أي : وأنذر قريشا مثل ما أنزلنا على المقتسمين ، يعني اليهود ، وما جرى على بني قريظة ، والنضير».

وهذا مردود بما تقدّم من إعمال الوصف موصوفا.

قال ابن الخطيب (٤) : وهذا الوجه لا يتمّ إلّا بأحد أمرين : إمّا التزام إضمار ، أو التزام حذف.

أمّا الإضمار فهو أن يكون التقدير : إني أنا النذير [المبين](٥) عذابا ، كما أنزلنا على المقتسمين ، وعلى هذا الوجه : المفعول محذوف ، وهو المشبه ، ودلّ عليه المشبه به ، كما

__________________

(١) في أ : متعلقة.

(٢) سقط من : ب.

(٣) سورة النحل : آية ٤٩.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ١٩ / ١٦٨.

(٥) سقط من : ب.

٤٩٠

تقول : رأيت كالقمر في الحسن ، أي : رأيت إنسانا كالقمر في الحسن ، وأمّا الحذف ، فهو أن يقال : الكاف زائدة محذوفة ، والتقدير : إني أنا النذير [المبين ما](١) أنزلناه على المقتسمين ، وزيادة الكاف له نظير ، وهو قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١].

الثامن : أنه منصوب نعتا لمفعول به مقدر ، والناصب لذلك المحذوف مقدر أيضا لدلالة لفظ «النّذير» عليه ، أي : أنذركم عذابا مثل العذاب المنزّل على المقتسمين ، وهم قوم صالح ، أو قريش ، قاله أبو البقاء (٢) ـ رحمه‌الله ـ وكأنه فرّ من كونه منصوبا بلفظ «النّذير» كما تقدّم من الاعتراض البصريّ.

وقد ردّ ابن (٣) عطية على القول السادس بقوله : والكاف في قوله : «كما» متعلقة بفعل محذوف ، تقديره : وقل إنّي أنا النذير المبين عذابا كما أنزلنا ، فالكاف : اسم في موضع نصب ، هذا قول المفسّرين.

وهو غير صحيح ؛ لأنّ : «كما أنزلنا» ليس ممّا يقوله محمد ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بل هو من كلام الله ـ تعالى ـ فيفصل الكلام ، وإنّما يترتب هذا القول بأن يقدر أن الله ـ تعالى ـ قال له : أنذر عذابا كما.

والذي أقول في هذا المعنى : «وقل إنّي أنا النذير المبين كما قال قبلك رسلنا وأنزلنا عليهم كما أنزلنا عليك».

ويحتمل أن يكون المعنى : وقل : إنّي أنا النّذير المبين ، كما قد أنزلنا في الكتب أنّك ستأتي نذيرا على أن المقتسمين ، هم أهل الكتاب ، وقد اعتذر بعضهم عمّا قاله أبو محمد فقال : الكاف متعلقة بمحذوف دلّ عليه المعنى ، تقديره : أنا النذير بعذاب مثل ما أنزلنا ، وإن كان المنزل الله ، كما تقول بعض خواصّ الملك : أمرنا بكذا ، وإن كان الملك هو الآمر.

وأما قول أبي محمد : «وأنزلنا عليهم ، كما أنزلنا عليك» ؛ كلام غير منتظم ، ولعلّ أصله : وأنزلنا عليك كما أنزلنا عليهم ، كذا أصلحه أبو حيان. وفيه نظر ، كيف يقدر ذلك ، والقرآن ناطق بخلافه ، وهو قوله : (عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ).

التاسع : أنه متعلق بقوله : «لنسألنّهم» تقديره : لنسألنّهم أجمعين ، مثل ما أنزلنا.

العاشر : أنّ الكاف مزيدة ، تقديره : أنا النذير ما أنزلناه على المقتسمين.

ولا بد من تأويل ذلك على أنّ «ما» مفعول ب «النذير» عند الكوفيين ، فإنّهم يعملون الوصف للموصوف ، أو على إضمار فعل لائق أي : أنذركم ما أنزلناه كما يليق بمذهب البصريين.

__________________

(١) سقط من : ب.

(٢) ينظر : الإملاء ٢ / ٧٧.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٣٧٤.

٤٩١

الحادي عشر : أنه متعلق ب «قل» ، التقدير : وقل قولا كما أنزلنا على المقتسمين أنك نذير لهم ، فالقول للمؤمنين في النّذارة كالقول للكفّار المقتسمين ؛ لئلا يظنّوا أنّ إنذارك للكفار مخالف لإنذار المؤمنين ، بل أنت في وصف النذارة لهم بمنزلة واحدة ، تنذر المؤمن ، كما تنذر الكافر ، كأنه قال : أنا النذير المبين لكم ، ولغيركم.

فصل

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : المقتسمون : هم الّذين اقتسموا طرق مكّة يصدّون النّاس عن الإيمان برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقرب عددهم من أربعين (١).

وقال مقاتل بن سليمان ـ رحمه‌الله ـ : كانوا ستّة عشر رجلا بعثهم الوليد بن المغيرة أيّام الموسم ، فاقتسموا شعاب مكّة ، وطرقها يقولون لمن سلكها : لا تغتروا بالخارج منّا ، والمدعي للنبوّة ، فإنه مجنون ، وكانوا ينفّرون النّاس عنه بأنه ساحر ، أو كاهن ، أو شاعر ، فطائفة منهم تقول : ساحر ، وطائفة تقول : إنه كاهن ، وطائفة تقول : إنه شاعر ، فأنزل الله عزوجل بهم خزيا ؛ فماتوا أشدّ ميتة (٢).

وروي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أنهم اليهود ، والنصارى (جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) جزءوه أجزاء ، فآمنوا بما وافق التّوراة ، وكفروا بالباقي (٣).

وقال مجاهد : قسموا كتاب الله ـ تعالى ـ ففرقوه ، وبدلوه (٤).

وقيل : قسّموا القرآن ، وقال بعضهم : سحر ، وقال بعضهم : شعر ، وقال بعضهم : كذب ، وقال بعضهم : أساطير الأوّلين.

وقيل : الاقتسام هو أنهم فرّقوا القول في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال بعضهم : شاعر ، وقال بعضهم : كاهن.

قوله (الَّذِينَ جَعَلُوا) فيه أوجه :

أظهرها : أنه نعت ل «المقتسمين».

الثاني : أنه بدل منه.

الثالث : أنه بيان.

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٩ / ١٦٨).

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٥٤٤) والبخاري (٨ / ٢٣٣) كتاب التفسير : باب قوله : الذين جعلوا القرآن عضين رقم (٤٧٠٥).

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٩٨) وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور والحاكم والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٥٤٤) وذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٥٨).

٤٩٢

الرابع : أنه منصوب على الذّمّ.

الخامس : أنه خبر مبتدأ مضمر.

السادس : أنه منصوب ب «النّذير المبين» كما قاله الزمخشريّ.

وهو مردود بإعمال الوصف بالموصوف عند البصريين كما تقدّم.

و «عضين» جمع عضة ، وهي الفرقة ، والعضين : الفرق ، وتقدم معنى جعله القرآن كذلك ، ومعنى العضة : السّحر بلغة قريش ، يقولون : هو عاضه ، وهي عاضهة ، قال : [المتقارب]

٣٢٩٢ ـ أعوذ بربّي من النّافثا

ت في عقد العاضه المعضه (١)

وفي الحديث : «لعن الله العاضهة والمستعضهة» (٢) ، أي السّاحرة ، والمستسحرة وقيل : هو من العضه ، وهو : الكذب ، والبهتان ، يقال : عضهه عضها ، وعضيهة ، أي : رماه بالبهتان ، وهذا قول الكسائي رحمه‌الله تعالى.

وقيل : هو من العضاه ، وهو شجر له شوك مؤذ ، قاله الفرّاء.

وفي لام «عضة» قولان يشهد لكلّ منهما التصريف :

الأول : الواو ، لقولهم : عضوات ، واشتقاقها من العضو ؛ لأنّه جزء من كل كلمة ولتصغيرها على «عضيّة».

الثاني : الهاء ، لقولهم : عضيهة ، وعاضة ، وعاضهة ، وعضة ، وفي الحديث «لا تعضية في ميراث» (٣) ، وفسّر : بأن لا تفريق فيما يضر بالورثة تفريقه كسيف يكسر نصفين فينقص ثمنه.

وقال الزمخشريّ : «عضين» : أجزاء ، جمع عضة ، وأصلها عضوة ، فعلة من عضّى الشاة ، إذا جعلها أعضاء ؛ قال : [الرجز]

٣٢٩٣ ـ وليس دين الله بالمعضّى (٤)

وجمع «عضة» على «عضين» ، كما جمع سنة ، وثبة ، وظبة وبعضهم يجري النون بالحركات مع التاء ، وقد تقدم تقرير ذلك ، وحينئذ تثبت نونه في الإضافة ، فيقال : هذه عضينك.

وقيل : واحد العضين : عضة ، وأصلها : عضهة ، فاستثقلوا الجمع بين هاتين ،

__________________

(١) ينظر : التهذيب واللسان «عضه» ، والأشموني ١ / ٨٤ ، البحر المحيط ٥ / ٤٤٤ ، والقرطبي ٥ / ٤٦٧ والدر المصون ٤ / ٣٠٩.

(٢) ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٤ / ٤١٩).

(٣) أخرجه الدارقطني (٤ / ٢١٩) والبيهقي (١٠ / ١٣٣).

(٤) ينظر : ديوانه (٨١) ، الأشموني ١ / ٨٤ ، التصريح ١ / ٧٣ ، مجاز القرآن ١ / ٣٥٥ ، اللسان «عضا» ، منسوبا إلى ذي الرمة ، تفسير غريب القرآن ٢٣٩ ، شذور الذهب ٦٠ ، وفتح الباري ٨ / ٢٩٠ ، الكشاف ٢ / ٣٩٩ ، القرطبي ٥ / ٤٦٧ ، والطبري ١٤ / ٤١ ، الدر المصون ٤ / ٣٠٩.

٤٩٣

فقالوا : عضة ، كما قالوا : شفة ، والأصل : شفهة ، بدليل قولهم : شافهنا.

قوله : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) يحتمل أن يعود الضمير إلى المقتسمين ؛ لأنه الأقرب ، ويحتمل أن يعود إلى جميع المكلفين ، لأنّ ذكرهم تقدّم في قوله تعالى : (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) أي : لجميع [الخلائق](١).

(عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) قال القرطبي : في البخاري : قال عدّة من أهل العلم في قوله تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ)(٢) عن لا إله إلا الله.

فإن قيل : كيف الجمع بين قوله تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) وبين قوله : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) [الرحمن : ٣٩].

فأجابوا بوجوه :

أولها : قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : لا يسألون سؤال استفهام ؛ لأنه تعالى عالم بكلّ أعمالهم ، بل سؤال تقريع ، فيقال لهم : لم فعلتم كذا؟ (٣).

وهذا ضعيف ؛ لأنه لو كان المراد من قوله : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ) [الرحمن : ٣٩] سؤال استفهام ، لما كان في تخصيص هذا النفي بقوله : «يومئذ» فائدة ؛ لأنّ مثل هذا السؤال على الله محال في كلّ الأوقات.

وثانيها : أنه يصرف النفي إلى بعض الأوقات ، والإثبات إلى وقت آخر ؛ لأنّ يوم القيامة ، يوم طويل ، وفيه مواقف يسألون في بعضها ، ولا يسألون في بعضها ، قاله عكرمة عن ابن عباس (٤) ونظيره قوله تعالى : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) [المرسلات : ٣٥] ، وقال في آية أخرى : (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) [الزمر : ٣١].

ولقائل أن يقول : قوله : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ) الآية تصريح بأنه لا يحصل السؤال في ذلك اليوم ، فلو حصل السؤال في جزء من أجزاء اليوم ، لحصل التّناقض.

وثالثها : أن قوله : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ) تفيد الآية النّفي ، وفي قوله (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ) يعود إلى المقتسمين ، وهذا خاص فيقدم على العام.

قوله (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) أصل الصّدع : الشّقّ ، صدعته فانصدع ، أي : شققته ، فانشقّ.

قال ابن السكّيت : الصّدع في اللغة : الشّقّ ، والفصل ؛ وأنشد لجرير : [البسيط]

٣٢٩٤ ـ هذا الخليفة فارضوا ما قضى لكم

بالحقّ يصدع ما في قوله جنف (٥)

__________________

(١) في أ : الخلق.

(٢) سقط من : ب.

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٨٥) والرازي (١٩ / ١٧٠).

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٨٦).

(٥) ينظر : الديوان ٣٩٠ ، اللسان والتاج «صدع» ، والمحتسب ١ / ١٤١ ، الرازي ١٩ / ٢١٩ ، شواهد المغني للبغدادي ٨ / ٣٦ ، الكشاف ١ / ٢٤٦ ، الضرائر لابن عصفور ٨٧ ، ٨٩.

٤٩٤

ومنه التفرقة أيضا ؛ كقوله : (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) [الروم : ٤٣] وقال : [الوافر]

٣٢٩٥ ـ ...........

كأنّ بياض غرّته صديع (١)

والصّديع : ضوء الفجر لانشقاق الظّلمة عنه ، يقال : انصدع ، وانفلق ، وانفجر ، وانفطر الصّبح ، ومعنى «فاصدع» فرق بين الحقّ والباطل وافصل بينهما.

وقال الراغب (٢) : الصّدع : الشقّ في الأجسام الصّلبة كالزجاج ، والحديد ، وصدّعته بالتشديد ، فتصدع وصدعته بالتخفيف ، فانصدع ، وصدع الرأس لتوهّم الانشقاق فيه ، وصدع الفلاة ، أي : قطعها ، من ذلك ، كأنّه توهم تفريقها.

ومعنى «فاصدع» قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ : أظهر (٣).

وقال الضحاك : أعلم (٤). وقال الأخفش : فرّق بين الحقّ والباطل ، وقال سيبويه : اقض.

و «ما» في قوله «بما تؤمر» مصدرية ، أو بمعنى الذي ، والأصل تؤمر به ، وهذا الفعل يطرد حذف الجار معه ، فحذف العائد فصيح ، وليس هو كقولك : جاء الذي مررت ، ونحوه : [البسيط]

٣٢٩٦ ـ أمرتك الخير فافعل ما أمرت به

 ........... (٥)

والأصل : بالخير.

وقال الزمخشريّ : «ويجوز أن تكون «ما» مصدرية ، أي : بأمرك مصدر مبنيّ للمفعول» انتهى.

وهو كلام صحيح ، والمعنى : فاصدع بأمرك ، وشأنك.

قالوا : وما زال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستخفيا حتى نزلت هذه الآية.

ونقل أبو حيّان عنه أنه قال : ويجوز أن يكون المصدر يراد به «أن» ، والفعل المبني للمفعول.

ثم قال أبو حيان (٦) : «والصحيح أنّ ذلك لا يجوز». قال شهاب الدين : الخلاف إنّما هو في المصدر ، والمصرح به هل يجوز أن ينحل بحرف مصدري ، وفعل مبني للمفعول أم لا يجوز؟ خلاف مشهور ، أمّا أنّ الحرف المصدري هل يجوز فيه أن يوصل بفعل مبني للمفعول ، نحو : يعجبني أن يكرم عمرو أم لا يجوز؟ فليس محل النّزاع.

__________________

(١) عجز بيت للشماخ وصدره :

ترى السرحان مفترشا يديه

ينظر : ملحق ديوانه ٤٤٧ ، ابن الشجري ٢ / ٢٤٠ ، البحر المحيط ٥ / ٤٥٤ ، اللسان «صدع» ، الدر المصون ٤ / ٣٠٩.

(٢) ينظر : المفردات ٢٧٦.

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٨٦).

(٤) ينظر : المصدر السابق.

(٥) تقدم.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٥٥.

٤٩٥

ثم قال تعالى : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) ، أي لا تبال عنهم ، ولا تلتفت إلى لومهم إياك على إظهار الدعوة.

قال بعضهم : هذا منسوخ بآية القتال ، وهو ضعيف ؛ لأن معنى هذا الإعراض ترك المبالاة ، فلا يكون منسوخا.

قوله : (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) يقول الله لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) ، ولا تخف أحدا غير الله ، فإن الله كافيك أعداءك كما كفاك المستهزئين ، وهم خمسة نفر من رؤساء قريش : الوليد بن المغيرة المخزوميّ ، وكان رأسهم ، والعاص بن وائل [السهمي](١) ، والأسود بن عبد المطلب بن الحرث بن أسد بن عبد العزى أبو زمعة ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد دعا عليه ، فقال : «اللهمّ أعم بصره ، وأثكله بولده» ، والأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة ، والحرث بن قيس بن الطلالة ؛ فأتى جبريل محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمستهزءون يطوفون بالبيت ، فقام جبريل ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى جنبه ، فمرّ به الوليد بن المغيرة ، فقال جبريل ـ عليه‌السلام ـ : يا محمد : كيف تجد هذا؟ قال : «بئس عبد الله» قال : قد كفيتكه (٢) ، وأومأ إلى ساق الوليد ، فمرّ برجل من خزاعه نبّال يريش نبلا ، وعليه برد يمان ، وهو يهز إزاره ، فتعلّقت شظية نبل بإزاره ، فمنعه الكبر أن يتطامن ، فينزعها ، وجعلت تضرب ساقه ؛ فخدشته فمرض منها حتّى مات. ومرّ به العاص بن وائل ، فقال جبريل : كيف تجد هذا يا محمد؟ قال : بئس عبد الله ، فأشار جبريل ـ عليه‌السلام ـ إلى أخمص رجليه ، وقال : قد كفيتكه ، فخرج على راحلته ، ومعه ابنان له يتنزّه ؛ فنزل شعبا من تلك الشّعاب ، فوطىء على شبرقة ، فدخلت شوكة في أخمص رجله ، فقال : لدغت لدغت ؛ فطلبوا ، فلم يجدوا شيئا ، وانتفخت رجله حتى صارت مثل عنق البعير ، فمات مكانه.

ومرّ به مربد بن الأسود بن المطلب ، فقال جبريل : كيف تجد هذا يا محمّد؟ قال : «عبد سوء» ، فأشار بيده إلى عينيه ، وقال : قد كفيتكه ، فعمي.

قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : رماه جبريل بورقة خضراء ؛ فذهب بصره ، ووجعت عينه ، فجعل يضرب برأسه الجدار حتّى هلك ، ومرّ به الأسود بن عبد يغوث ، فقال جبريل ـ عليه‌السلام ـ : كيف تجد هذا يا محمد؟ قال : بئس عبد الله على أنه [ابن] خالي ، فقال جبريل ـ عليه الصلاة والسلام ـ : قد كفيتكه فأشار إلى بطنه فاستسقى فمات ، ومرّ به الحارث بن قيس ، فقال جبريل ـ عليه‌السلام ـ كيف تجد هذا يا محمّد؟

ـ صلوات الله وسلامه عليك ـ ، قال : عبد سوء ، فأومأ ، فامتخط قيحا ؛ فمات (٣).

قيل : استهزاؤهم ، واقتسامهم أنّ الله ـ تعالى ـ لمّا أنزل في القرآن سورة البقرة ،

__________________

(١) في أ : التميمي.

(٢) في ب : كفيته.

(٣) ذكره الهيثمي في «المجمع» (٧ / ٤٩ ـ ٥٠) وقال : رواه الطبراني في «الأوسط» وفيه محمد بن عبد الحكيم النيسابوري ولم أعرفه.

٤٩٦

وسورة النحل ، وسورة العنكبوت ، كانوا يجتمعون ، ويقولون استهزاء ، يقول هذا إلى سورة البقرة ، ويقول هذا إلى سورة النحل ، ويقول هذا إلى سورة العنكبوت فأنزل الله تعالى : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ).

قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : فصلّ بأمر ربك : (وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) المصلين [المتواضعين](١).

قال ابن العربي «ظنّ بعض الناس أنّ المراد هنا بالسجود نفسه ، فرأى هذا الموضع محل سجود في القرآن ، وقد شاهدت الإمام بمحراب زكريا من البيت المقدس ـ طهره الله تعالى ـ يسجد في هذا الموضع ، وسجدت معه فيها ، ولم يره [جماهير](٢) العلماء».

قال [القرطبي](٣) ، وقد ذكر أبو بكر النقاش (٤) أنّ ههنا سجدة عند أبي حذيفة ـ رضي الله عنه ـ ويمان بن رئاب ، ورأى أنها واجبة. قال العلماء : إذ أنزل بالعبد بعض المكاره فزع إلى [الطاعات](٥) وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصّلاة» (٦).

(وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : يريد الموت ؛ لأنه أمر متيقن (٧).

فإن قيل : فأيّ فائدة لهذا التّوقيت مع أنّ كلّ واحد يعلم أنه إذا مات سقطت عنه العبادات؟.

فالجواب : المراد : «واعبد ربّك» في جميع زمان حياتك ، ولا تخل لحظة من لحظات الحياة من العبادة.

روى أبيّ بن كعب ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة الحجر كان له من الأجر عشر حسنات بعدد المهاجرين والأنصار والمستهزئين بمحمّد»(٨) صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرّف ، وبجّل ، ومجّد ، وعظّم (٩).

تمّ الجزء الحادي عشر ، ويليه الجزء الثّاني عشر وأوله : تفسير سورة النحل

__________________

ـ وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٠٠) وعزاه إلى الطبراني في «الأوسط والبيهقي وأبي نعيم كلاهما في «الدلائل».

(١) سقط من : ب.

(٢) في ب : جماعة.

(٣) في ب : أبو النقاش.

(٤) في ب : ابن العربي.

(٥) في ب : الصلاة.

(٦) تقدم.

(٧) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٦٠).

وأخرجه الطبري (٧ / ٥٥٤) عن سالم بن عبد الله ومجاهد وقتادة والحسن وابن زيد.

(٨) ذكره الزيلعي في تخريج أحاديث الكشاف (٢ / ٢٢١) وعزاه للثعلبي من طريق زر بن حبيش عن أبي بن كعب ولابن مردويه والواحدي في الوسيط وهو حديث أبي بن كعب في قراءة القرآن سورة سورة وهو حديث موضوع.

٤٩٧
٤٩٨

فهرس محتويات

الجزء الحادي عشر

من

تفسير اللّباب

٤٩٩
٥٠٠