اللّباب في علوم الكتاب - ج ١١

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١١

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥١٠

أفرأيت قوله : (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) [الجن : ٩] الآية قال : وقد غلظت ، وشدّد أمرها حين بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال ابن قتيبة : إنّ الرجم كان قبل مبعثه ، ولكن لم يكن في شدة الحراسة بعد مبعثهصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل : إن النجم ينقضّ ، ويرمي الشيطان ، ثم يعود إلى مكانه.

فصل

قال القرطبي : «اختلفوا في الشّهاب : هل يقتل أم لا؟.

فقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : الشّهاب يجرح ، ويحرق ، ويخبل ؛ ولا يقتل (١).

وقال الحسن ، وطائفة : يقتل (٢) ، فعلى هذا في قتلهم بالشهب قبل إلقائها السمع إلى الجنّ قولان :

أحدهما : يقتلون قبل إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم من الجن ، ولذلك ما يعودون إلى استراقه.

والثاني : أنهم يقتلون بعد إلقائهم ، ولو لم يصل لانقطع الاستراق ، وانقطع الاحراق ، ذكره الماوردي».

قال القرطبي (٣) : «والقول الأول أصح ؛ على ما يأتي بيانه في «الصافات»».

فصل

قال ابن الخطيب (٤) : «في هذا الموضع أبحاث دقيقة على ما ذكرناها في سورة الملك ، وفي سورة الجن ، ونذكر ههنا إشكالا واحدا وهو : أنّ لقائل أن يقول : إذا جوّزتم في الجملة ، أن يصعد الشيطان إلى السماوات ، ويختلط بالملائكة ، ويسمع أخبار الغيوب منهم ، ثم إنه ينزل ، ويلقي تلك الغيوب ، فعلى هذا يجب أن يخرج الإخبار عن المغيّبات عن كونه معجزا ، لأنّ كل غيب يخبر عنه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقوم فيه هذا الاحتمال ؛ فيخرج عن كونه معجزا دليلا على الصدق ، ولا يقال : إن الله ـ تعالى ـ أخبر عنهم أنّهم عجزوا بعد مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنّا نقول : هذا العجز لا يمكن إثباته إلا بعد القطع بكون محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبكون القرآن الكريم حقّا ، والقطع بهذا ، لا يمكن إلّا بواسطة المعجز ، وكون الإخبار عن الغيب معجزا ، لا يثبت إلا بعد إبطال هذا الاحتمال ، وحينئذ يلزم الدور ، وهو محال باطل.

ويمكن أن يجاب عنه : بأنا نثبت كون محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسولا ، بسائر المعجزات ، ثم بعد

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٠ / ٩) وأخرجه الطبري (٧ / ٥٠٠) من طريق الضحاك عن ابن عباس.

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٠ / ١٠.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ١٩ / ١٣٤.

٤٤١

العلم بنبوته ، نقطع بأن الله عجّز الشياطين عن تلقف الغيب ، وبهذا الطريق يندفع الدّور».

قوله : (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) «الأرض» : نصب على الاشتغال ، ولم يقرأ بغيره ؛ لأنه أرجح من حيث العطف على جملة فعلية قبلها ، وهي قوله : (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً).

وقال أبو حيّان (١) : «ولما كانت هذه الجملة بعدها جملة فعلية ، كان النّصب أرجح من الرفع».

قال شهاب الدين (٢) : لم يعدّوا هذا من القرائن المرجحة للنصب ، وإنما عدوا عطفها على جملة فعلية قبلها ، لا عطف جملة فعلية عليها ، ولكنه القياس ، إذ يعطف فيه فعلية على مثلها ، بخلاف ما لو رفعت ، إذ تعطف فعلية على اسمية ، لكنهم لم يعتبروا ذلك.

والضمير في «فيها» : للأرض. وقيل : للرّواسي. وقيل : لهما.

فصل

لما شرح الدلائل السماوية في تقرير التّوحيد ، أتبعها بذكر الدلائل الأرضية وهي أنواع :

الأول : قوله : (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) قال ابن عباس : بسطناها على وجه الماء ، وبسطت من تحت الكعبة (٣).

النوع الثاني : قوله : (وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) وهي الجبال الثوابت واحدها راس ، والجمع راسية وجمع الجمع رواسي ، قال ابن عباس : لما بسط الله الأرض على الماء ، مالت بأهلها كالسفينة ؛ فأرساها الله بالجبال ؛ لكيلا تميل بأهلها (٤).

النوع الثالث : قوله تعالى : (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) ، يجوز في «من» أن تكون تبعيضية ، وهو الصحيح ، وأن تكون مزيدة عند الكوفيين ، والأخفش ، والضمير في قوله : «فيها» يحتمل أن يكون راجعا إلى الأرض ، وأن يكون راجعا إلى الجبال الرواسي ، إلّا أنّ رجوعها إلى الأرض أولى ؛ لأن أنواع النبات المنتفع بها ، إنما تتولّد في الأرض ، وأما الجبلية ، فقليلة النفع.

وقيل : رجوع الضمير إلى الجبال أولى ؛ لأنّ المعادن من الذهب ، والفضة ، والحديد ، والنحاس ، وغيرها ؛ إنّما تتولد في الجبال ، والأشياء الموزونة في العرف والعادة ، هي المعادن لا النبات.

وفي المراد بالموزون وجوه :

قيل : المقّدر بقدر الحاجة ، أي : أنّ الله ـ تعالى ـ يثبت ذلك المقدار بقدر ما يحتاج

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٣٧.

(٢) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٩٢ ـ ٢٩٣.

(٣) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٩ / ١٣٥).

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٠ / ١٠).

٤٤٢

إليه الناس ؛ لقوله : (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) [الرعد : ٨] وقوله تعالى : (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) [الحجر : ٢١].

وقيل : المناسب المطابق للحكمة كقولهم : كلام موزون ، أي : متناسب بعيد عن اللغو ، والمعنى : موزون بميزان الحكمة ، والعقل.

وقيل : موزون ؛ بمعنى أنّ الذي تنبته الأرض نوعان : المعادن ، والنبات ، أما المعادن : فهي بأسرها موزونة ، وأما النبات : فيرجع عاقبته إلى الوزن ، كالمخترف ، والفواكه في الأكثر.

قوله تعالى : (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) جمع معيشة ، أراد الله بها المطاعم ، والمشارب ، والملابس ، وقيل : ما يعيش به المرء في الدنيا ، وقد تقدّم الكلام على المعايش في الأعراف.

قوله تعالى : (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) ، يجوز فيه خمسة أوجه :

أحدها : قول الزجاج : أنه منصوب بفعل مقدر ، تقديره : وأغنينا من لستم له برازقين ، كالعبد ، والدّواب ، والوحوش.

الثاني : أنه منصوب عطفا على «معايش» ، أي : وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين من الدّواب المنتفع بها.

الثالث : أنه منصوب عطفا على محل «لكم».

الرابع : أنه مجرور عطفا على «كم» المجرور بها اللام ؛ وجاز ذلك من غير إعادة الجار على رأي الكوفيين ، وبعض البصريين ، وتقدم تحقيقه في البقرة ، عند قوله : (وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [البقرة : ٢١٧].

الخامس : أنه مرفوع بالابتداء ، وخبره محذوف ، أي : ومن لستم له برازقين ، جعلنا له فيها معايش ، وسمع من العرب : ضربت زيدا ، وعمرو ، برفع «عمرو» ؛ مبتدأ محذوف الخبر ، أي : وعمرو ضربته ، و «من» يجوز أن يراد بها العقلاء ، أي : من لستم له برازقين من مواليكم الذين تزعمون أنكم ترزقونهم ، أو يراد بها غير العقلاء ، أي : من لستم له برازقين من الدوابّ ، وإن كنتم تزعمون أنكم ترزقونهم ؛ قال الله تعالى : (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) [النور : ٤٥] ، وقال سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) [النمل : ١٨] فذكرها بصيغة جمع العقلاء ، ويجوز أن يراد بها النوعان ؛ وهو حسن لفظا ومعنى.

قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ) ، «إن» : نافية ، و «من» مزيدة في المبتدإ ، و «عندنا» خبره ، و «خزائنه» فاعل به ؛ لاعتماده على النّفي ، ويجوز أن يكون «عندنا» خبرا ل «ما» بعده ، والجملة خبر الأولى ، والأول أولى ؛ لقرب الجارّ من المفرد.

٤٤٣

قال الواحدي : «الخزائن : جمع الخزانة ، وهي اسم المكان الذي يخزن فيه الشيء ، أي : يحفظ ، والخزانة ـ أيضا ـ عمل الخازن ، ويقال : خزن الشّيء يخزنه ، إذا أحرزه».

و «خزائنه» هو المطر ؛ لأنه سبب الأرزاق ، والمعايش لبني آدم ، وسائر الحيوانات.

قوله : «إلّا بقدر معلوم» يجوز أن يتعلق بالفعل قبله ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه

حال من المفعول ، أي : إلا ملتبسا بقدر.

قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : يريد : قدر الكفاية ، لكل أرض حدّ مقدر (١) ، وقال الحكم : ما من عام بأكثر مطر ، من عام آخر ؛ ولكنه يمطر قوم ، ويحرم آخرون ، وربما كان في البحر ، يعني أنه ـ تعالى ـ ينزل المطر كلّ عام بقدر معلوم ، غير أنّه يصرفه إلى من يشاء حيث يشاء (٢).

ولقائل أن يقول : لفظ الآية لا يدلّ على هذا المعنى ، فإن قوله تعالى : (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) ، لا يدلّ على أنه ـ تعالى ـ ينزله في جميع الأعوام على قدر واحد ، فتفسير الآية بهذا المعنى تحكّم بغير دليل.

وقال ابن الخطيب (٣) : «وتخصيص قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) بالمطر تحكم محض ؛ لأن قوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ) يتناول جميع الأشياء ، إلا ما خصه الدليل».

روى جعفر ، عن محمد ، عن أبيه ، عن جده ، قال : في العرش مثال جميع ما خلق الله في البر ، والبحر ، وهو تأويل قوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ)(٤).

قوله : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) الآية «لواقح» : حال مقدرة من «الرّياح» ، وفي اللواقح أقوال : أحدها : أنها جمع «ملقح» ؛ لأنه من ألقح يلقح ، فهو ملقح ، وجمعه ملاقح ، فحذفت الميم ؛ تخفيفا ، يقال : ألقحت الريح السّحاب ، كما يقال : ألقح الفحل الأنثى ؛ ومثله: الطّوائح ، وأصله المطاوح ؛ لأنه من أطاح يطيح ، قال : [الطويل]

٣٢٧١ ـ ليبك يزيد ضارع لخصومة

ومختبط ممّا تطيح الطّوائح (٥)

وهذا قول أبي عبيدة.

والثاني : أنه جمع لاقح ، يقال : لقحت الريح : إذا حملت الماء ، وقال الأزهري (٦) : حوامل تحمل السّحاب ؛ كقولك : ألقحت الناقة ، فلقحت ، إذا حملت الجنين في بطنها ، فشبّهت الريح بها ؛ ومنه قوله : [الطويل]

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٩ / ١٣٨).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٥٠٣ ، ٥٠٤) عن الحكم بن عتيبة وابن مسعود وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٧٨) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ في «العظمة».

(٣) ينظر : الفخر الرازي ١٩ / ١٣٨.

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٤٧).

(٥) تقدم.

(٦) ينظر : تهذيب اللغة ٥ / ٩٠.

٤٤٤

٣٢٧٢ ـ إذا لقحت حرب عوان مضرّة

ضروس تهرّ النّاس أنيابها عصل (١)

الثالث : أنّها جمع لاقح ، على النسب ؛ كلابن وتامر ، أي : ذات لقاح ، لأنّ الرّيح إذا مرّت على الماء ، ثم مرّت على السّحاب ، والماء ، كان فيها لقاح قاله الفراء.

فصل

قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : الرياح لواقح الشّجر والسّحاب (٢) ؛ وهو قول الحسن ، وقتادة ، والضحاك ؛ لأنها تحمل الماء إلى السحاب ؛ وأصله من قولهم : لقحت الناقة ، وألقحها الفحل ، إذا ألقى الماء فيها فحملت.

قال ابن مسعود في تفسير هذه الآية : بعث الله الرياح ؛ لتلقيح السحاب ، فتحمل الماء ، وتمجّه في السحاب ، ثم إنه يعصر السحاب ، ويدره كما يدر اللقحة (٣).

وقال عبيد بن عمير : يبعث الله الريح المبشرة ، فتقم الأرض قما ، ثم يبعث المثيرة فتثير السحاب ، ثم يبعث المؤلفة ، فتؤلف السحاب بعضه إلى بعض ، فتجعله ركاما ، ثم يبعث اللواقح ، فتلقح الشّجر ثم تلا عبيد : «وأرسلنا الرياح لواقح» (٤) قال أبو بكر بن عيّاش ـ رضي الله عنه ـ : لا تقطر القطرة من السماء إلا بعد أن تعمل الرياح الأربعة فيها ، فالصّبا تهيّجه ، والشّمال تجمعه والجنوب تدرّه ، والدّبور تفرّقه (٥).

فصل

قال القرطبيّ : «روي عن مالك ـ رضي الله عنه ـ في قوله تعالى : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) ، أي : ذوات لقح ، فلقاح القمح عندي أن يحبب ويسنبل ، ولقاح الشّجر كلها : أن تثمر ويسقط منها ما يسقط ، ويثبت منها ما يثبت».

قال ابن العربيّ ـ رحمه‌الله ـ : إنما عوّل مالك على هذا التفسير على تشبيه الشجر بلقاح الجمل ، وأنّ الولد إذا عقد وخلق ونفخ فيه الروح ، كان بمنزلة تحبب الثّمر ، وتسنبله ؛ لأنه سمّي باسم تشترك فيه كلّ حاملة ، وهو اللّقاح ، وعليه جاء الحديث : «نهى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن بيع الحبّ حتّى يشتد» (٦).

قال ابن عبد البرّ : «الإبار عند أهل العلم في النخل : التّلقيح ، وهو أن يأخذ شيئا

__________________

(١) تقدم.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٩ / ١٣٩).

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٥٠٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٧٩) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والخرائطي في «مكارم الأخلاق».

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٥٠٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٧٩) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ في «العظمة».

(٥) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٤٧).

(٦) أخرجه الحاكم (٢ / ١٩) والبيهقي (٥ / ٣٠٣) وقال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه إنما اتفقوا على حديث نافع عن ابن عمر في النهي عن بيع التمر حتى يزهى.

٤٤٥

من طلع ذكور النخل ؛ فيدخله بين ظهراني طلع الإناث ، [ومعنى] (١) ذلك في سائر الثمار [ظهور الثمرة](٢) من التّين ، وغيره ، حتّى تكون الثّمرة مرئية ، حين ينظر إليها ، والمعتبر عند مالك ـ رضي الله عنه ـ وأصحابه فيما يذكر من الثّمار التذكير ، وفيما لا يذكر أن يثبت من نواره ما يثبت ويسقط ما يسقط ، وفي الزروع ظهوره من الأرض».

فصل

قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ «من ابتاع نخلا بعد أن تؤبّر ، فثمرتها للبائع ، إلّا أن يشترط المبتاع» (٣) فلا يدخل الثمر المؤبّر مع الأصول في البيع إلا بالشرط ؛ لأنها موجودة يحاط بها أمنة من السقوط غالبا ، بخلاف التي لم تؤبّر ، إذ ليس سقوطها غالبا ، بخلاف التي لم تؤبر ، إذ ليس سقوطها مأمونا ، فلم يتحقق لها وجود ، فلم يجز للبائع اشتراطها ، ولا استثناؤها ؛ لأنها كالجنين.

فصل هل يجوز لمن اشترى النخل فقط أن يشتري الثمر قبل طيبه؟

اشترى النّخل ، وبقي الثمر للبائع ، جاز لمشتري الأصل شراء الثمرة قبل طيبها ، في المشهور عن مالك ـ رحمه‌الله ـ ويرى لها حكم التبعية ، وإن انفردت بالعقد ، وعنه في رواية أنه لا يجوز ، وبه قال الشافعيّ ، وأبو حنيفة ، والثّوريّ ، وأهل الظاهر.

فصل في النهي عن بيع الملاقح والمضامين

نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن بيع الملاقح والمضامين (٤) والملاقح : الفحول من الإبل ، الواحد ملقح ، والملاقح ـ أيضا ـ : الإناث التي في بطونها أولادها ، الواحدة : ملقحة ـ بفتح القاف ، ـ والملاقيح ما في بطون النوق من الأجنّة ، الواحدة : ملقوحة ، من قولهم : لقحت ، كالمحموم من حمّ ، والمجنون من جنّ ، وفي هذا جاء النّهي.

قال أبو عبيدة : المضامين ما في البطون وهي الأجنّة ، والملاقيح : ما في أصلاب الفحول ، وهو قول سعيد بن المسيّب ، وغيره.

وقيل : بالعكس.

__________________

(١) في ب : ويعتبر.

(٢) سقط في ب.

(٣) أخرجه البخاري (٥ / ٤٩) كتاب المساقاة : باب الرجل يكون له ممر أو شرب .... حديث (٢٣٧٩) ومسلم (٣ / ١١٧٣) كتاب البيوع : باب من باع نخلا عليها ثمر ، حديث (٨٠ / ١٥٤٣) والترمذي (١٢٤٤) والنسائي (٧ / ٢٩٧) من حديث ابن عمر.

(٤) ذكره الهيثمي في «المجمع» (٤ / ١٠٧) عن أبي هريرة وقال : رواه البزار وفيه صالح بن أبي الأخضر وهو ضعيف.

وله شاهد من حديث ابن عباس.

ذكره الهيثمي في «المجمع» (٤ / ١٠٧) وقال : رواه الطبراني في الكبير والبزار وفيه إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة وثقه أحمد وضعفه جمهور الأئمة.

٤٤٦

ونهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن بيع [المجر](١) وهو بيع ما في بطون الأمّهات.

قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ما هبّت ريح قطّ إلّا جثا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ركبتيه ، وقال : «اللهمّ اجعلها رحمة ، ولا تجعلها عذابا ، اللهمّ اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا» (٢). قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في كتاب الله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) [القمر : ١٩] ، (إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) [الذاريات : ٤١] وقال تعالى : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) [الحجر : ٢٢] وقال تعالى : (يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ) [الروم : ٤٦].

قوله تعالى : (فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ) ، قد تقدّم أنّ الماء : هل ينزل من السماء أو من السحاب.

وقوله : (فَأَسْقَيْناكُمُوهُ) ، قال الأزهريّ : «تقول العرب لكلّ ما في بطون الأنعام ، ومن السّماء ، أو نهر يجري : أسقيته ، أي : جعلته شربا له ، وجعلت له منها مسقى لشرب أرضه أو ماشيته ، فإذا كانت السّقيا لسقيه ، قالوا : سقاه ، ولم يقولوا : أسقاه».

ويؤكده اختلاف القراء في قوله : (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) ، فقرؤا باللغتين ، وسيأتي بيانهما في السورة التي بعدها ، ولم يختلفوا في قوله : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ) [الإنسان : ٢١] ، وفي قوله : (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) [الشعراء : ٧٩].

قال أبو علي : سقيته حتّى روي ، وأسقيته نهرا ، جعلته شربا ، وقوله : (فَأَسْقَيْناكُمُوهُ) جعلناه سقيا لكم ، وربما قالوا في «أسقى» سقى ؛ كقول لبيد يصف سحابا : [الوافر]

٣٢٧٣ ـ أقول وصوبه منّي بعيد

يحطّ السّيب من قلل الجبال

سقى قومي بني مجد وأسقى

نميرا والقبائل من هلال (٣)

فقوله «سقى قومي» ليس يريد به ما يروي عطاشهم ، ولكن يريد رزقهم سقيا لبلادهم ، يخصبون بها ، وبعيد أن يسأل لقومه ما يروي العطاش به ولغيرهم ما يخصبون به ، فأما سقيا السّقيّة ، فلا يقال فيها : أسقاه. وأما قول ذي الرّمة : [الطويل]

٣٢٧٤ ـ وأسقيه حتّى كاد ممّا أبثّه

تكلّمني أحجاره وملاعبه (٤)

[يريد بقوله : «أسقيه» : أدعو له بالسقاء ، وأقول : سقاه الله](٥).

__________________

(١) في ب : الملاقيح.

(٢) أخرجه الشافعي في «المسند» (١ / ١٧٥) رقم (٥٠٢) وأبو يعلى (٤ / ٣٤١) رقم (٢٤٥٦) والطبراني في «الكبير» (١١ / ٢١٣) رقم (١١٥٣٣) وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠ / ١٣٥ ـ ١٣٦) وقال : وفيه حسين بن قيس الملقب بحنش وهو متروك وقد وثقه حصين بن نمير وبقية رجاله رجال الصحيح.

وذكره الحافظ ابن حجر في «المطالب العالية» (٣٣٧١) وعزاه إلى مسدد وأبي يعلى.

وقال البوصيري : رواه أبو يعلى ومسدد بسند ضعيف لضعف حسين بن قيس.

(٣) تقدم برقم ٥٢١.

(٤) تقدم برقم ٢٦١.

(٥) سقط في ب.

٤٤٧

واتّصل الضميران هنا : لاختلافهما رتبة ، ولو فصل ثانيهما ، لجاز عند غير سيبويه وهذا كما تقدم في قوله تعالى : (أَنُلْزِمُكُمُوها) [هود : ٢٨].

قوله تعالى : (وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) جملة مستأنفة ، و «له» متعلق ب «خازنين» ، والمعنى : أنّ المطر في خزائننا ، لا في خزائنكم. [وقال سفيان : لستم بمانعين](١).

قوله تعالى : (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ) الآية ، هذا النّوع السادس من دلائل التوحيد ، وهو الاستدلال بالإحياء ، والإماتة على وجود الإله القادر المختار.

قوله : «لنحن» يجوز أن يكون مبتدأ ، و «نحيي» خبره ، والجملة خبر «إنا» ويجوز أن يكون تأكيدا ل «نا» في «إنّا» ، ولا يجوز أن يكون فصلا ؛ لأنه لم يقع بين اسمين ، وقد تقدم نظيره [الحجر : ٩].

وقال أبو البقاء (٢) : لا يكون فصلا لوجهين :

أحدهما : أن بعده فعلا.

والثاني : أنّ معه اللام.

قال شهاب الدّين (٣) ـ رحمه‌الله ـ : «الوجه الثاني : غلط ؛ فإن لام التوكيد لا يمنع دخولها على الفصل ، نصّ النحاة على ذلك ، ومنه قوله (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ) [آل عمران : ٦٢] ، جوّزوا فيه الفصل مع إقرانه باللام».

فصل

من العلماء من حمل الإحياء على القدر المشترك بين إحياء النبات والحيوان ، ومنهم من قال : وصف النبات بالإحياء مجاز ؛ فوجب تخصيصه بإحياء الحيوان ، وقوله ـ جل ذكره ـ : (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ) يفيد الحصر ، أي : لا قدرة على الإحياء والإماتة إلا لنا ، (وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) إذا مات جميع الخلائق ، فحينئذ يزول ملك كلّ أحد ، ويكون الله ـ سبحانه ـ هو الباقي المالك لكلّ المملوكات ، وحده لا شريك له ، فكان شبيها بالإرث.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : المستقدمين : الأموات ، والمستأخرين : الأحياء (٤).

وقال الشعبيّ ـ رضي الله عنه ـ : الأولين ، والآخرين (٥).

وقال عكرمة : المستقدمون : من خلق الله ، والمستأخرون : من لم يخلق (٦).

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ينظر : الإملاء ٢ / ٧٣.

(٣) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٩٤.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٥٠٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٨١) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٥٠٨) وذكره البغوي في تفسيره (٣ / ٤٨).

(٦) ينظر : المصدر السابق.

٤٤٨

وقيل : المستقدمين : القرون الأولى ، والمستأخرين : أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال الحسن : المستقدمين : في الطّاعة والخير ، والمستأخرين : في صفّ القتال (١).

وقال ابن عيينة : أراد من سلم ، ومن لم يسلم.

وقال الأوزاعيّ : أراد المصلّين في أول الوقت ، والمؤخّرين إلى آخره.

روى أبو الجوزاء ، عن ابن عباس : كانت امرأة حسناء تصلّي خلف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان قوم يتقدمون إلى الصف الأول ؛ لئلا يرونها ، وآخرون يتأخّرون ، ليرونها (٢).

وفي رواية : أنّ النساء كنّ يخرجن إلى الجماعة ، فيقفن خلف الرجال ، ومن النساء من في قلبها ريبة ؛ فتقدم إلى أول صفّ النساء ؛ لتقرب من الرجال ؛ فنزلت الآية ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خير صفوف الرّجال أوّلها وشرّها آخرها ، وخير صفوف النّساء آخرها وشرّها أوّلها»(٣).

وروي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رغّب في الصف الأول في الصلاة [فازدحم] الناس عليه ؛ فأنزل الله ـ تبارك وتعالى ـ هذه الآية (٤).

والمعنى : إنّا نجزيهم على قدر نيّاتهم.

فصل

قال القرطبي (٥) : «هذه الآية تدلّ على فضل أول الوقت في الصلاة ، وعلى فضل الصف الأوّل ، وكما تدل على فضل الصف الأول في الصّلاة ، كذلك تدلّ على فضل الصفّ الأول في القتال ؛ فإنّ القيام في وجه العدوّ ، وبيع العبد نفسه من الله ـ تعالى ـ لا يوازيه عمل ، ولا خلاف في ذلك».

واعلم أنّ ظاهر الآية يدل على أنه لا يخفى على الله شيء من أحوالهم ؛ فيدخل فيه

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٥٠٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٨١) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.

(٢) أخرجه أحمد (١ / ٣٠٥) والترمذي (٣١٢١) والنسائي في «الكبرى» (٦ / ٣٧٤) وابن ماجه (١٠٤٦) والطبري في «تفسيره» (٧ / ٥١٠) وابن خزيمة (٣ / ٩٧ ـ ٩٨) رقم (١٦٩٦) وابن حبان (١٧٤٩ ـ موارد) والحاكم (٢ / ٣٥٣) والبيهقي (٣ / ٩٨) والطبراني في «الكبير» (١٢ / ١٧١) رقم (١٢٧٩١) والطيالسي (٢ / ٢٠) رقم (١٩٦٠) والواحدي في «أسباب النزول» ص (٢٠٧) من طرق عن أبي الجوزاء عن ابن عباس.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

وصححه ابن خزيمة وابن حبان.

والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٨٠) وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.

(٣) أخرجه مسلم (١ / ٣٢٦) كتاب الصلاة : باب تسوية الصفوف رقم (١٣٢ / ٤٤٠).

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٨١) عن مجاهد مرسلا وعزاه إلى ابن أبي شيبة.

(٥) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٠ / ١٥.

٤٤٩

علمه بتقدّمهم ، وتأخرهم ، في الحدوث ، والوجود في الطاعات وغيرها ؛ فلا ينبغي أن تخص بحالة دون حالة.

ثم قال تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ) على ما علم منهم ، وذلك تنبيه على أنّ الحشر ، والنشر ، والبعث ، والقيامة ، أمر واجب (إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) أي : أنّ الحكمة تقتضي وجوب الحشر ، والنشر ، على ما تقرر في أول سورة يونس ـ عليه‌السلام ـ.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ)(٤٤)

قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ) الآية هذا هو النوع السابع من دلائل التوحيد ؛ لأنه ثبت بالدلائل القاطعة أنه يمتنع القول بوجود حوادث لا أوّل لها ، وإذا ثبت هذا وجب انتهاء الحوادث إلى حادث أوّل ، هو أول الحوادث ، وإذا كان كذلك ، وجب انتهاء الناس إلى إنسان هو أول الناس ، وذلك الإنسان الأول ، غير مخلوق من الأبوين ؛ فيكون مخلوقا ـ لا محالة ـ بقدرة الله ـ تعالى ـ.

فقوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) إشارة إلى ذلك الإنسان الأول ، وأجمع المفسرون على أن المراد آدم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ.

ونقل في كتب الشّيعة ، عن محمد بن علي الباقر ، أنّه قال : قد انقضى قبل آدم ـ صلوات الله عليه ـ الذي هو أبونا ألف ألف آدم ، أو أكثر.

قال ابن الخطيب (١) ـ رحمه‌الله ـ : «وهذا لا يقدح في حدوث العالم ، بل الأمر كيف كان لا بدّ من الانتهاء إلى إنسان أول ، هو أول الناس ، فأما أن ذلك الإنسان الأول هو أبونا آدم ، فلا طريق له إلّا من جهة السمع».

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ١٩ / ١٤٢.

٤٥٠

واعلم ـ أنه ـ تعالى ـ قال : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) [آل عمران : ٥٩] ، وقال تعالى : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) [ص : ٧] ، وقال هاهنا : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) ، فطريق الجمع أنه جعل التّراب طينا ، ثم تركه حتّى صار حمأ مسنونا ، ثم خلقه منه ، وتركه حتى جفّ ، ويبس وصار له صلصلة.

واعلم أنه ـ تعالى ـ قادر على خلقه من أي جنس أراد ، بل هو قادر على خلقه ابتداء ، وإنما خلقه على هذا الوجه ؛ إما لمحض المشيئة ، أو لما فيه من دلالة الملائكة ؛ لأنّ خلق الإنسان من هذه الأمور أعجب من خلق الشّيء من جنسه.

وسمّي إنسانا : إما لظهوره وإدراك البصر إياه ، وإمّا من النسيان ؛ لأنه عهد إليه فنسي.

عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : بعث الله ـ تعالى ـ جبريل ـ عليه‌السلام ـ إلى الأرض ؛ ليأتيه بطين منها ، فقالت الأرض : أعوذ بالله منك أن تنقص منّي ؛ فرجع ولم يأخذ ، فقال يا ربّ : إنها عاذت بك ، فأعذتها ، فبعث ميكائيل ـ صلوات الله عليه ـ فعاذت منه ، فأعاذها ؛ فرجع ، فقال كما قال جبريل ، فبعث ملك الموت ، فعاذت منه ، فقال : وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره ، فأخذ من وجه الأرض ، وخلطه ، ولم يأخذ من مكان واحد ، وأخذ من تربة حمراء ، وبيضاء ، وسوداء ، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين (١).

وسمّي آدم ؛ لأنه خلق من أديم الأرض ، وصعد به ، فقال الله تبارك وتعالى : «أما رحمت الأرض حين تضرعت إليك»؟ فقال : رأيت أمرك أوجب من قولها ، فقال ـ جل ذكره ـ : «أنت تقبض أرواح ولده قبل التراب حتى عاد طينا لازبا ، وهو يلتصق بعضه ببعض ، ثم ترك ، حتى أنتن ، وصار حمأ مسنونا ، وهو المنتن.

ثم قال للملائكة : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) ، فخلقه الله بيده ؛ لئلا يتكبّر إبليس عليه ، لقول الله تعالى : أتتكبّر على ما عملت بيدي ، ولم أتكبر أنا عليه؟.

فخلقه فكان جسدا من طين أربعين عاما ، فلما رأته الملائكة ، فزعوا منه ، وكان أشدّهم منه فزعا إبليس فكان يمرّ به ، فيضربه ؛ فيصوت الجسد كما يصوت الفخّار ، وتكون له صلصلة ؛ فذلك قوله : (مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) [الرحمن : ١٤] ، ويقول : لأمر ما خلقت! ويدخل في فيه ، ويخرج من دبره ، ويقول للملائكة : لا ترهبوا منه ؛ فإنه أجوف ، ولئن سلّطت عليه ، لأهلكنّه ، فلمّا نفخ فيه الروح ، ووصل إلى رأسه ، عطس ، فقالت الملائكة ـ عليهم‌السلام ـ : قل : الحمد لله ، فقال : الحمد لله ، فقال الله له : رحمك ربّك ، فلما دخل الروح في عينيه ، نظر إلى ثمار الجنة ، فلما دخلت الروح

__________________

(١) تقدم تخريجه.

٤٥١

جوفه ، اشتهى الطعام ؛ فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه ؛ عجلان إلى ثمار الجنّة ، فذلك قوله تعالى : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) [الأنبياء : ٣٧].

قوله تعالى : (مِنْ صَلْصالٍ) ، «من» : لابتداء الغاية ، أو للتبعيض ، والصلصال : قال أبو عبيدة (١) : هو الطين المختلط بالرمل ، ثم يجفّ ؛ فيسمع له صلصلة ، أي : تصويت ، قال : والصلصلة : الصّوت ؛ وأنشدوا : [الكامل]

٣٢٧٥ ـ شربت أساويّ القطاة من الكدر

وسرت فترمي أحياؤها بصلاصل (٢)

أراد : صوت أجنحة أفراخها ، حين تطير ، أو أصوات أفراخها.

وقال الزمخشريّ : «الطّين اليابس الذي يصلصل من غير طبخ ، فإذا طبخ ، فهو فخار».

وقال أبو الهيثم : «هو صوت اللّجام ، وما أشبهه ؛ كالقعقعة في الثوب».

وقال الزمخشري (٣) ـ أيضا ـ : قالوا : إذا توهّمت في صوته مدّا ، فهو صليل ، وإن توهمت فيه خفاء ، فهو صلصلة ، وقيل : هو من تضعيف «صلّ» ، إذا أنتن انتهى.

و «صلصال» هنا ، بمعنى مصلصل ؛ كزلزال ، بمعنى مزلزل ، ويكون «فعلال» ـ أيضا ـ مصدرا ، ويجوز كسره أيضا ، وفي وزن هذا النّوع ، أي : ما تكررت فاؤه ، وعينه خلاف.

فقيل وزنه : فعفع ؛ كرّرت الفاء والعين ، ولا لام للكلمة ؛ قاله الفراء ، وغيره. وهو غلط ؛ لأنّ أقلّ الأصول ثلاثة : فاء ، وعين ، ولام.

والثاني : أنّ وزنه «فعفل» ؛ وهو قول الفرّاء.

الثالث : أنه «فعّل» بتشديد العين ، وأسله «صلّل» فلما اجتمع ثلاثة أمثال ، أبدل الثاني من جنس فاء الكلمة ، وهو مذهب كوفيّ ، وخصّ بعضهم هذا الخلاف ، بما إذا لم يختل المعنى ، بسقوط الثالث ، نحو «لملم» و «كبكب» فإنّك تقول فيهما : «لمّ» ، و «كبّ» ، فلو لم يصحّ المعنى بسقوطه ؛ نحو : «سمسم» ، قال : فلا خلاف في أصالة الجميع.

قوله تعالى : (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه في محلّ جر صفة ل «صلصال» ؛ فيتعلق بمحذوف.

والثاني : أنه بدل من «صلصال» بإعادة الجارّ. والحمأ : الطّين الأسود المنتن.

__________________

(١) ينظر : مجاز القرآن ١ / ٣٥٠.

(٢) البيت في المخطوط هكذا :

وتشرب أساوى القطا الكدر

بعدما سرب فرمى أحياؤها بصلصل

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٧٦.

٤٥٢

قال الليث ـ رحمه‌الله ـ : واحده «حمأة» بتحريك العين جعله اسم جنس ؛ وقد غلط في ذلك ؛ فإن أهل اللغة قالوا : لا يقال إلّا «حمأة» [بالإسكان](١) ، ولا يعرف التحريك ؛ نصّ عليه أبو عبيدة ، وجماعة ؛ وأنشدوا لأبي الأسود : [الوافر]

٣٢٧٦ ـ تجيء بملئها طورا وطورا

تجيء بحمأة وقليل ماء (٢)

فلا يكون «الحمأة» واحدة «الحمأ» ؛ لاختلاف الوزنين.

والمسنون : المصبوب ؛ من قولهم : سننت الشّراب ، كأنّه لرطوبته جعل مصبوبا ، كغيره من المائعات ، فكأن المعنى : أفرغ صورة إنسان ، كما تفرغ الجواهر المذابة.

قال الزمخشريّ (٣) : وحقّ «مسنون» بمعنى مصور : أن يكون صفة ل «صلصال» ؛ كأنه أفرغ الحمأ ، فصوّر منه تمثال شخص. يعني أنه يصير التقدير : من صلصال مصوّر ، ولكن يلزم تقديم الوصف المؤول على الصّريح ؛ إذا جعلنا : «من حمأ» صفة ل «صلصال» ، أمّا إذا جعلناه بدلا منه ؛ فلا.

وقيل : مسنون : مصوّر من سنّة الوجه ، وهي صورته ؛ قال الشاعر : [البسيط]

٣٢٧٧ ـ تريك سنّة وجه غير مقرفة

 ........... (٤)

وقال الزمخشريّ : والمسنون : المحكوك ، مأخوذ من سننت الحجر ، إذا حككته به ، فالذي يسيل بينهما سنن ولا يكون إلّا منتنا.

ومنه يسمّى المسن مسنّا ؛ لأنّ الحديد يحكّ عليه.

وقيل : المسنون : المنسوب إليه ، والمعنى ينسب إليه ذريته ، وكأن هذا القائل أخذه من الواقع ، وقيل : هو من أسنّ الماء إذا تغيّر ، وهذا غلط ؛ لاختلاف المادتين.

روي أنّ الله ـ تعالى ـ خمّر طينة آدم ، وتركه حتى صار متغيّرا أسود ، ثم خلق منه آدم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ.

قوله : (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ) منصوب على الاشتغال ، ورجّح نصبه ؛ لعطف جملة على جملة فعلية.

__________________

(١) في ب : بالسكون.

(٢) ينظر : الديوان ٣ ، مجاز القرآن ١ / ٤١٣ ، والبحر المحيط ٥ / ٤٣٢ والدر المصون ٤ / ٢٩٥.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٧٦.

(٤) صدر بيت لذي الرمة وعجزه :

ملساء ليس بها خال ولا ندب

ينظر : ديوانه (٨) ، الخزانة ٢ / ٣٢٤ ، اللسان والتاج «قرف» ، وشواهد المغني للبغدادي ٨ / ٧٤ ، والمعاني للفراء ٢ / ٧٤ ، الطبري ١٣ / ١٣٢ ، والبحر المحيط ٥ / ٤٤٠ ، والألوسي ١٤ / ٣٤ ، والقرطبي ٥ / ٤٣٥ ، والدر المصون ٤ / ٢٩٦.

٤٥٣

والجّانّ : أبو الجنّ ، وهو إبليس ؛ كآدم أبي الإنس ، وقيل : هو اسم لجنس الجن.

وقرأ الحسن (١) : «والجأن» بالهمز ، وقد تقدّم الكلام في ذلك في أواخر الفاتحة.

فصل

قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : الجان أبو الجن ؛ كما أنّ آدم أبو البشر ، وهو قول الأكثرين.

وروي أيضا عن ابن عباس ، والحسن ، ومقاتل ، وقتادة ـ رضي الله عنهم ـ : هو إبليس ، خلق قبل آدم (٢).

وقيل : الجانّ أبو الجن ، وإبليس أبو الشياطين ، وفي الجنّ : مسلمون ، وكافرون ، ويحيون ويموتون ، وأما الشّياطين ؛ فليس فيهم مسلمون ، ويموتون إذا مات إبليس.

وذكر وهب : أنّ من الجن من يولد له ، ويأكلون ، ويشربون بمنزلة الآدميّين ، ومن الجن من هم بمنزلة الرّيح : لا يتوالدون ، ولا يأكلون ، ولا يشربون.

قال ابن الخطيب (٣) : «والأصحّ أن الشياطين قسم من الجن ، فمن كان منهم مؤمن ، فإنه لا يسمّى بالشيطان ، ومن كان منهم كافر ، سمّي بهذا الاسم. وسمّوا جنّا ؛ لاستتارهم عن الأعين ، ومنه يسمّى الجنين ؛ لاستتاره عن الأعين ، في بطن أمّه ، والجنّة : ما تقي صاحبها ، وتستره ، ومنه سمّيت الجنة ؛ لاستتارها بالأشجار».

قوله تعالى : (مِنْ قَبْلِكَ) ، و «من نار» متعلقان ب «خلقناه» ؛ لأنّ الأولى لابتداء الغاية ، والثانية للتبعيض ، وفيه دليل على أنّ «من» لابتداء الغاية في الزمان ، وتأويل البصريين له ، ولنظائره بعيد.

فصل

قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : «يريد قبل خلق آدم صلوات الله وسلامه عليه»(٤). والسّموم : ما يقتل من إفراط الحرّ من شمس ، أو ريح ، أو نار ؛ لأنها تدخل المسامّ فتقتل.

قيل : سمّيت سموما ؛ لأنها بلطفها تدخل في مسامّ البدن ، وهي الخروق الخفيّة التي تكون في جلد الإنسان ، يبرز منها عرقه وبخار بطنه.

__________________

(١) وقرأ بها أيضا عمرو بن عبيد ينظر : الكشاف ٢ / ٥٧٦ وينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٣٥٩ والدر المصون ٤ / ٢٩٦.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٥١٣) عن قتادة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٨٣) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. وذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٤٩).

(٣) ينظر : الفخر الرازي ١٩ / ١٤٣.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٠ / ١٧).

٤٥٤

وقيل : السّموم ما كان ليلا ، والحرور ما كان نهارا. وعن ابن عباس : نار لا دخان لها (١).

قال أبو صالح : والصّواعق تكون منها ، وهي نار بين السماء وبين الحجاب ، فإذا أحدث الله أمرا ، خرقت الحجاب فهوت إلى ما أمرت به ، فالهدّة التي تسمعون ؛ خرق ذلك الحجاب.

وقيل : نار السموم : لهب النّار. وقيل : نار جهنّم.

وروى الضحاك ، عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : كان إبليس من جنس من الملائكة ، يقال لهم الجن ، خلقوا من نار السّموم ، وخلقت الجنّ الذين ذكروا من مارج من نار ، والملائكة خلقوا من نور (٢).

وقيل : (مِنْ نارِ السَّمُومِ) من إضافة الموصوف لصفته.

قوله : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ) الآية ، لما استدلّ بحدوث الإنسان ؛ على وجود الإله القادر المختار ؛ ذكر بعده واقعته ، وهو أنه ـ تعالى ـ أمر الملائكة بالسجود له ، والمراد بكونه بشرا ، أي : جسما يباشر ويلاقى ، والملائكة ، والجن لا يباشرون ؛ للطف أجسامهم ، والبشرة : ظاهر الجلد من كلّ حيوان ، وتقدّم ذكر الصلصال ، والحمأ المسنون.

(فَإِذا سَوَّيْتُهُ) أي : شكلته بالصورة الإنسانية ، والخلقة البشرية.

وقيل : سوّيت أجزاء بدنه : باعتدال الطّبائع ، وتناسب الأمشاج ، نفخت فيه من روحي ؛ فصار بشرا حيّا.

والرّوح : جسم لطيف ، يحيا به الإنسان ، وقيل : الرّوح : هي الرّيح ؛ لأنّ النّفخ أخذ الريح في تجاويف جسم آخر ؛ فظاهر قوله : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) يشعر بأنّ الروح هي الريح ، وإلا لما صحّ وصفها بالنّفخ ، وسيأتي بقية الكلام على الروح عند قوله : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء : ٨٥] ، وأضاف روح آدم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ إلى نفسه ، تشريفا وتكريما.

قوله تعالى : (فَقَعُوا لَهُ) ، يجوز أن تتعلق اللام بالفعل قبلها ، وأن تتعلق ب «ساجدين».

فصل

ظاهر قوله : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) يدل على وجوب

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٤٩).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٥١٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٨٣) وعزاه إلى الطبري.

٤٥٥

السجود على الملائكة ؛ لأنه مذكور بفاء التّعقيب ؛ وذلك يمنع التّراخي.

قوله «أجمعون» تأكيد ثان ، ولا يفيد الاجتماع في الوقت ؛ خلافا لبعضهم.

وقال سيبويه : قوله : (كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) «توكيد بعد توكيد». وسئل المبرد عن هذه الآية فقال : لو قال «فسجد الملائكة» احتمل أن يكون سجد بعضهم فلما قال : كلّهم زال هذا الاحتمال ، فظهر أنهم بأسرهم سجدوا ، ثم بعد هذا بقي احتمال (١) وهو أنّهم : هل سجدوا دفعة واحدة؟ أو سجد كل واحد في وقت؟. فلما قال : أجمعون ظهر أن الكلّ سجدوا دفعة واحدة. ولما حكى الزجاج هذا القول ، عن المبرد ، قال : «وقول الخليل ، وسيبويه أجود ؛ لأن «أجمعين» معرفة ؛ فلا يكون حالا».

قال أبو البقاء : «لكان حالا لا توكيدا». يعني : أنّه يفيد إفادة الحال مع أنه توكيد ؛ وفيه نظر ؛ إذ لا منافاة بينهما بالنسبة إلى المعنى ، ألا ترى أنه يجوز : «جاؤوني جميعا» مع إفادته ، وقد تقدم تحرير هذا [البقرة : ٣٨] ، وحكاية ثعلب مع ابن قادم.

قوله : (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) تقدّم الكلام على هذا الاستثناء في البقرة.

قال القرطبيّ (٢) ـ رحمه‌الله ـ : «الاستثناء من الجنس غير الجنس صحيح عند الشافعي ـ رضي الله عنه ـ ، حتّى ولو قال له : عليّ دينار إلا ثوبا ، أو عشرة أثواب ، إلّا قفيز حنطة ، وما جانس ذلك يكون مقبولا ، ويسقط عنه من المبلغ قيمة الثوب ، والحنطة ويستوي في ذلك : المكيلات ، والموزونات ، والمقدّرات».

وقال مالك ، وأبو حنيفة ـ رضي الله عنهما ـ : استثناء المكيل من الموزون ، والموزون من المكيل جائز ؛ حتى لو استثنى الدّراهم من الحنطة ، والحنطة من الدراهم ، قبل ، أمّا إذا استثنى المقوّمات من المكيلات ، أو الموزونات ، والمكيلات من المقومات ؛ فلا يصحّ ؛ مثل أن يقول : له عشرة دنانير إلّا ثوبا ، أو عشرة أثواب إلّا دينارا ، فيلزم المقرّ جميع المبلغ.

قوله تعالى : (أَبى أَنْ يَكُونَ) ، استئناف ؛ وتقديره : أنّ قائلا قال : هلّا سجد؟ فقيل: أبى ذلك ، واستكبر عنه.

قوله تعالى : (قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) قال بعض المتكلمين : إنه تعالى أوصل هذا الخطاب إلى إبليس ، على لسان بعض رسله ؛ وهذا ضعيف ؛ لأنّ إبليس قال في الجواب : «لم أكن لأسجد لبشر خلقته» ، فقوله : «خلقته» خطاب الحضور ، لا خطاب الغيبة ؛ فظاهره يقتضي أنّ الله تعالى تكلم مع إبليس بغير واسطة.

__________________

(١) سقط من : ب.

(٢) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٠ / ١٨.

٤٥٦

فإن قيل : كيف يعقل هذا ؛ مع أنّ مكالمة الله ـ تعالى ـ من غير واسطة من أعظم المناصب ، وأعلى المراتب ، فكيف يعقل حصوله لرأس الكفرة؟.

فالجواب : أنّ مكالمة الله إنما تكون منصبا عاليا ، إذا كان على سبيل الإكرام والإعظام ، فأما إذا كان على سبيل الإهانة ، والإذلال ، فلا.

وقوله : (لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ) لتأكيد النّفي ، معناه : لا يصحّ منّي أن أسجد لبشر.

وحاصل كلامه : أن كون بشرا يشعر بكونه جسما كثيفا ، وهو كان روحانيّا لطيفا ، فكأنه يقول : البشر جسماني كثيف ، وأنا روحاني لطيف ، والجسماني الكثيف أدون حالا من الروحاني اللطيف ، فكيف يكون للأدنى سجود للأعلى؟.

وأيضا : فآدم مخلوق من صلصال ، تولّد من حمأ مسنون ، وهذا الأصل في غاية الدناءة ، وأصل «إبليس» : هو النار ، والنار هي أشرف العناصر ؛ فكان أصل إبليس أشرف من أصل آدم ؛ فوجب أن يكون إبليس أشرف من آدم ، والأشرف يقبح أن يؤمر بالسجود للأدنى ؛ فهذا مجموع [شبهة](١) إبليس.

(قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) ، وهذا ليس جوابا عن الشّبهة على سبيل التصريح ، بل جواب على سبيل التنبيه.

وتقديره : أن الذي قاله الله ـ تعالى ـ نصّ ، والذي قاله إبليس قياس ، ومن عارض النصّ بالقياس ، كان رجيما ملعونا ، وتمام الكلام في هذا المعنى مذكور في سورة الأعراف.

والضمير في : «منها» : قيل : من جنّة عدن ، وقيل : من السموات ، وقيل : من زمرة الملائكة.

(وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ) قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : يريد يوم الجزاء حيث يجازى العباد بأعمالهم (٢).

و (إِلى يَوْمِ) يجوز أن يتعلق بالاستقرار في : «عليك» ، ويجوز أن يتعلق بنفس اللعنة.

فإن قيل : كلمة «إلى» تفيد انتهاء الغاية ؛ فهذا يشعر بأنّ اللعن لا يحصل إلّا إلى يوم الدّين ، وعند القيامة يزول اللّعن.

فالجواب من وجوه :

الأول : أن المراد التأبيد ، وذكر القيامة أبعد غاية تذكرها الناس في كلامهم ؛ كقولهم : (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [هود : ١٠٨] في التّأبيد.

والثاني : أنك مذموم مدعو عليك باللعنة في السماوات والأرض إلى يوم الدين ،

__________________

(١) في ب : حجة.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٩ / ١٤٦).

٤٥٧

من غير أن يعذب ، فإذا جاء ذلك اليوم ، عذّب عذابا [ينسى](١) اللعن معه ، فيصير اللّعن حينئذ كالزائل ؛ بسبب أنّ شدّة العذاب تذهل عنه.

قوله : (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) وهذا متعلق بما تقدم ، والتقدير : إذا جعلتني رجيما إلى يوم القيامة ؛ فأنظرني ، أراد ألّا يموت ، والمراد من قوله : (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) ، يوم البعث ، والنّشور ، وهو يوم القيامة ؛ فقال تعالى : (قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) قيل : وقت النفخة الأولى حين يموت الخلائق ؛ لأن من المعلوم أن تموت الخلائق فيه.

وقيل : سمّي معلوما ؛ لأنه لا يعلمه إلا الله تعالى ؛ لقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) [لقمان : ٣٤].

وقيل : يوم الوقت المعلوم : يوم القيامة.

فإن قيل : لمّا أجابه الله إلى مطلوبه لزم ألّا يموت إلى وقت قيام القيامة ، [و] وقت قيام القيامة لا موت ، فلزم ألا يموت بالكلية فالجواب : يحمل قوله (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) : إلى ما يكون قريبا منه ، و [الوقت](٢) الذي يموت فيه كلّ المكلفين قريب من يوم البعث.

وقيل : (يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) لا يعلمه إلا الله.

قيل : لم تكن إجابة الله ـ تعالى ـ له في الإمهال ، إكراما له ، بل كان زيادة في بلائه وشقائه.

قوله : (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) الباء للقسم ، و «ما» مصدرية ، وجواب القسم (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ) والمعنى : أقسم بإغوائك إيايّ ، لأزينن ؛ كقوله : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) إلّا أنه ـ في هذا الموضع ـ أقسم بعزة الله ـ تعالى ـ وهي من صفات الذات ، وفي قوله : (بِما أَغْوَيْتَنِي) ، أقسم بإغواء الله ، وهو من صفات الأفعال ، والفقهاء قالوا : القسم بصفات الذّات صحيح ، واختلفوا في القسم بصفات الأفعال.

ونقل الواحديّ ـ هنا ـ عن بعضهم : أنّ الباء ـ هاهنا ـ سببية ، أي : بسبب كوني غاويا ، لأزيننّ ؛ كقول القائل : «أقسم فلان بمعصيته ، ليدخلنّ النّار ، وبطاعته ليدخلنّ الجنّة».

ومعنى : (أَغْوَيْتَنِي) : أضللتني ، وقيل : خيّبتني من رحمتك ، (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) حبّ الدنيا ، ومعاصيك.

والضمير في : «لهم» لذرية آدم ـ عليه‌السلام ـ وإن لم يجر لهم ذكر ؛ للعلم بهم.

و «لأغوينّهم» : لأضلّنّهم أجمعين. إلا عبادك منهم المخلصين قرأ (٣) ابن كثير ،

__________________

(١) في ب : يقتضي.

(٢) سقط في : ب.

(٣) ينظر : القرطبي ٢٠ / ٢٠.

٤٥٨

وابن عامر ، وأبو عمرو : «المخلصين» بكسر اللام ، والباقون : بفتح اللّام.

ومعنى القراءة الأولى : أنهم أخلصوا دينهم عن الشّوائب ؛ ومن فتح اللّام ، فمعناه : الذين أخلصهم الله بالهداية.

فصل

قال ابن الخطيب (١) : «واعلم أنّ الذي حمل «إبليس» على ذكر هذا الاستثناء ألّا يصير كاذبا في دعواه ، فلما احترز «إبليس» عن الكذب ، علمنا أنّ الكذب في غاية الخساسة».

فصل

قال رويم : «الإخلاص في العمل : هو ألّا يريد صاحبه عليه عوضا في الدّارين ، ولا عوضا من المكلفين».

وقال الجنيد ـ رضي الله عنه ـ : الإخلاص : سرّ بين العبد ، وبين الله ـ تعالى ـ لا يعلمه ملك فيكتبه ، ولا شيطان فيفسده ، ولا هوى فيميله.

وذكر القشيريّ ، وغيره عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «سألت جبريل ـ عليه‌السلام ـ عن الإخلاص ما هو؟ فقال : سألت ربّ العزّة عن الإخلاص ما هو؟ فقال : سرّي استودعته قلب من أحببته من عبادي» (٢).

قوله تعالى : (قالَ هذا صِراطٌ) «هذا» إشارة إلى الإخلاص المفهوم من المخلصين.

وقيل : إلى انتفاء تزيينه ، وإغوائه على من مرّ عليه ، أي : على رضواني ، وكرامتي.

وقيل : «على» بمعنى : «إلى» ، نقل عن الحسن.

وقال مجاهد : الحقّ يرجع إلى الله ـ تعالى ـ وعليه طريقه ، لا تعرج على شيء.

وقال الأخفش : يعني عليّ الدّلالة على الصراط المستقيم.

وقال الكسائي : هذا على التّهديد والوعيد ؛ كما يقول الرجل لمن يخاصمه : طريقتك علي أن لا تفلت منّي ، قال تعالى : (لَبِالْمِرْصادِ) [الفجر : ١٤].

وقرأ الضحاك (٣) ، وقتادة ، وأبو رجاء ، وابن سيرين ، ويعقوب في آخرين : «عليّ» ، أي : عال مرتفع.

وعبّر بعضهم عنه : رفيع أن ينال «مستقيم» أن يمال.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ١٩ / ١٤٩.

(٢) ذكره الزبيدي في «إتحاف السادة المتقين في شرح إحياء علوم الدين» (١٠ / ٤٤).

(٣) ينظر : المحتسب ٢ / ٣ ، الإتحاف ٢ / ١٧٥ ، البحر ٥ / ٤٤٢ ، والقرطبي ١٠ / ٢٠ ، والدر المصون ٤ / ٢٩٧.

٤٥٩

قوله تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) اعلم أن إبليس لما قال (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) أو هم أنّ له سلطانا على غير المخلصين ، فبيّن الله ـ تعالى ـ في هذه الآية أنه ليس له سلطان على أحد من عبيد الله سواء كان مخلصا أو غير مخلص ، لكن من اتبع منهم إبليس باختياره ؛ ونظيره قوله حكاية عن إبليس : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) [إبراهيم : ٢٢] ، وقوله تعالى : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) [النحل : ٩٩ ، ١٠٠] فعلى هذا يكون استثناء منقطعا.

قال الجبائيّ : «هذه الآية تدلّ على بطلان قول من زعم أنّ الشيطان ، والجنّ يمكنهم صرع الناس ، وإزالة عقولهم».

وقيل : الاستثناء متصل ؛ لأنّ المراد ب «عبادي» العموم ، طائعهم ، وعاصيهم وحينئذ يلزم استثناء الأكثر من الأقلّ.

وأراد بالعباد الخلّص ؛ لأنه أضافهم إليه إضافة تشريف ، فلم يندرج فيه الغاوون ؛ للضمير في موعدهم.

قال القرطبي (١) : «قال العلماء في معنى قوله تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) : يعني على قلوبهم».

وقال ابن عيينة : «يلقيهم في ذنب ثم أمنعهم بعفوي ، أو : هم الذين هداهم الله ، واجتباهم ، واختارهم ، واصطفاهم».

فإن قيل : قد أخبر الله تعالى ، عن آدم ، وحواء ـ صلوات الله وسلامه عليهما ـ بقوله : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ) [البقرة : ٣٦] وعن جملة من أصحاب نبيّه (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) [آل عمران : ١٥٥].

فالجواب : أنه ليس له سلطان على قلوبهم ، ولا موضع إيمانهم ، ولا يلقيهم في ذنب يؤول إلى عدم العفو ، بل يزيله بالتوبة ، ولم يكن خروج آدم عقوبة على ما تقدم بيانه في البقرة.

وأما أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد مضى القول عليه في «آل عمران» ، ثم إنّ قوله تعالى : (لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) يحتمل أن يكون حاصلا فيمن حفظ الله ، ويحتمل أن يكون في أكثر الأوقات ، وقد يكون في تسليطه تفريج كربه ، وإزالة غمه ؛ كما فعل ببلال ، إذ أتاه يهديه ، كما يهدّى الصبيّ حتى نام ، ونام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، فلم يستيقظوا حتى طلعت الشمس ، وفزعوا ، وقالوا : ما كفّارة ما صنعنا في تفريطنا في صلاتنا؟ فقال لهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ليس في النّوم تفريط» ؛ ففرّج عنهم.

__________________

(١) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٠ / ٢٠.

٤٦٠