اللّباب في علوم الكتاب - ج ١١

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١١

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥١٠

وقال سعيد بن جبير : لحجّت اليهود ، والمجوس ، ولكنه قال : (أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ) فهم المسلمون (١).

(وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ) ممّا رزقت سكان القرى ذوات الماء : (لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) وذلك يدل على أن المقصود من منافع الدنيا : أن يتفرغ لأداء العبادات.

ثم قال ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ : (رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ) من أمورنا.

قال ابن عباس ومقاتل : من الوجد بإسماعيل ، وأمه حيث أسكنهما بواد غير ذي زرع(٢). (وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ).

قيل : هذا كله قول إبراهيم عليه‌السلام ، وقال الأكثرون : قول الله تعالى ؛ تصديقا لقول إبراهيمصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ) في «على» وجهان :

أحدهما : أن «على» على بابها من الاستعلاء المجازي.

والثاني : أنها بمعنى «مع» كقوله : [المنسرح]

٣٢٣٣ ـ إنّي على ما ترين من كبري

أعلم من حيث تؤكل الكتف (٣)

قال الزمخشري : «ومحلّ هذا [الجار](٤) النصب على الحال من الياء في : «وهب لي».

الآية تدلّ على أنه ـ تعالى ـ أعطى إبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحاق ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ على الكبر والشيخوخة فأمّا مقدار سنه فغير معلوم من القرآن ، فالمرجع فيه إلى الروايات.

فروي لما ولد إسماعيل كان سن إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ تسعا وتسعين سنة ، ولما ولد إسحاق كان سنة مائة واثنتي عشرة سنة.

وقيل : ولد إسماعيل لأربع وستين سنة ، وولد إسحاق [لتسعين](٥) سنة.

وعن سعيد بن جبير ـ رضي الله عنه ـ لم يولد لإبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة، [وإنما ذكر هذا الكبر ؛ لأن المنة بهبة الولد في هذا السن أعظم ؛](٦) لأنه زمن اليأس من الولد.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٤٦٥) وذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٣٨).

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٣٨).

(٣) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٢٣ ، روح المعاني ١٣ / ٢٤٢ ، الكشاف ٢ / ٤٣٦ ، حاشية الشهاب ٥ / ٢٧٤ ، الرازي ١٩ / ١٤١ ، السراج المنير ٢ / ١٨٧ ، شواهد الكشاف ٤ / ٤٥٨ ، الدر المصون ٤ / ٢٧٥.

(٤) في ب : الحمد.

(٥) في ب : لسبعين.

(٦) سقط من ب.

٤٠١

فإن قيل : إن إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ إنّما دعا بهذا الدّعاء عندما أسكن هاجر وابنها إسماعيل في ذلك الوادي ، وفي ذلك الوقت لم يكن ولد إسحاق فكيف قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ)؟.

فالجواب : قال القاضي ـ رحمه‌الله ـ : «هذا الدّليل يقتضي أن إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ إنّما ذكر هذا الكلام في زمان آخر لا عقيب ما تقدّم من الدعاء ويمكن أيضا أنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ إنّما ذكر هذا [الدعاء](١) بعد كبر إسماعيل وظهور إسحاق ـ صلوات الله وسلامه عليهما ـ وإن كان ظاهر الروايات بخلافه».

فصل

المناسبة بين قوله (رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) وبين قوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) ، وذلك أنه كان في قلبه أن يطلب من الله سبحانه وتعالى إعانتهما ، وإعانة ذريتهما بعد موته ، ولكنّه لم يصرّح بهذا المطلوب بل قال : (رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ) أي : تعلم ما في قلوبنا وضمائرنا ، فقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) يدلّ ظاهرا على أنّهما يبقيان بعد موته على سبيل الرمز والتعريض ، وذلك يدلّ على أن الاشتغال بالثناء عند الحاجة إلى الدعاء أفضل من الدعاء.

قال ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ حاكيا عن ربّه عزوجل أنه قال : «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السّائلين» (٢).

ثم قال : (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) لما ذكر الدعاء على سبيل التعريض لا على وجه التصريح ، قال : (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) من قولك : «سمع الأمير كلام فلان» إذا اعتدّ به وقبله ، ومنه «سمع الله لمن حمده».

قوله : (لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) فيه أوجه :

أحدها : أن يكون «فعيل» مثال مبالغة مضافا إلى مفعوله وإضافته من نصب ، وهذا دليل سيبويه على أن «فعيلا» يعمل عمل اسم الفاعل ، وإن كان قد خالفه جمهور البصريين والكوفيين.

الثاني : أنّ الإضافة ليست من نصب ، وإنّما هو كقولك : «هذا ضارب زيد أمس».

الثالث : أن «سميعا» مضاف لمرفوعه ، ويجعل دعاء الله سميعا على المجاز والمراد : سماع الله ، قاله الزمخشريّ.

قال أبو حيّان (٣) : «وهو بعيد لاستلازمه أن يكون من الصفة المشبهة والصفة متعدية

__________________

(١) في ب : الكلام.

(٢) تقدم تخريجه.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٢٣.

٤٠٢

وهذا إنما يتأتى على قول الفارسي رحمه‌الله تعالى فإنه يجيز أن تكون الصفة المشبهة من الفعل المتعدي بشرط أمن اللبس ، نحو : زيد ظالم العبيد ، إذا علم أنّ له عبيد ظالمين ، وأما ههنا فاللبس حاصل ، إذ الظاهر من إضافة المثل للمفعول لا الفاعل».

قال شهاب الدين (١) : «واللّبس أيضا هنا منتف ؛ لأنّ المعنى على الإسناد المجازي كما تقرر».

قوله : (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ) أي : من المحافظين عليها.

واحتجّوا بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله ـ تعالى ـ لأنّ قول إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) يدلّ على أن ترك المنهيات لا يحصل إلا من الله تعالى.

وقوله : (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) يدل على أن فعل المأمورات لا يحصل إلا من الله تعالى.

قوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) «عطف على المفعول الأول ل «اجعلني» أي : واجعل بعض ذريتي مقيم الصلاة ، وهذا الجار في الحقيقة صفة لذلك المفعول المحذوف ، أي : وبعضا من ذريتي».

وإنّما ذكر هذا التبعيض ؛ لأنه علم بإعلام الله سبحانه وتعالى أنّه يكون في ذريته جمعا من الكفار لقوله : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة : ١٢٤].

قوله (رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ) قرأ أبو عمرو ، وحمزة (٢) ، وورش ، والبزي بإثبات الياء وصلا وحذفها وقفا ، والباقون بحذفها وصلا ووقفا ، وقد روى بعضهم بإثباتها وقفا أيضا.

قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : معناه : تقبل عملي ، وعبادتي ، سمى العبادة دعاء(٣).

قال ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ : «الدّعاء مخّ العبادة» (٤).

وقال إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ : (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) [مريم : ٤٨] وقيل : معناه : استجب دعائي.

قوله : (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) العامة على «والديّ» بالألف بعد الواو وتشديد الياء ،

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٧٦.

(٢) ينظر : اختلاف السبعة في هذه القراءة في الحجة ٥ / ٣٣ ، ٣٤ وإعراب القراءات السبع ١ / ٣٣٧ ، والإتحاف ٢ / ١٧١ والمحرر الوجيز ٣ / ٣٤٣ والبحر المحيط ٥ / ٤٢٣ والدر المصون ٤ / ٢٧٦.

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٣٩).

(٤) أخرجه الترمذي (٥ / ٤٥٦) كتاب الدعاء : باب ما جاء في فضل الدعاء حديث (٣٣٧١) وقال : هذا حديث غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلّا من حديث ابن لهيعة.

٤٠٣

وابن جبير (١) كذلك إلا أنه سكن الياء أراد والده وحده ، كقوله (وَاغْفِرْ لِأَبِي) [الشعراء : ٨٦].

وقرأ الحسين بن علي ، ومحمد بن زيد (٢) ابنا علي بن الحسين وابن يعمر ـ رضي الله عنهم ـ : «ولولديّ» دون ألف ، تثنية «ولد» ، ويعني بهما : إسماعيل ، وإسحاق وأنكرها الجحدري بأن في مصحف أبي «ولأبويّ» (٣) فهي مفسرة لقراءة العامة.

وروي عن ابن يعمر أنه قرأ : «ولولدي» (٤) بضم الواو ، وسكون الياء ، وفيها تأويلان :

أحدهما : أنه جمع ولد كأسد في أسد.

وأن يكون لغة في الولد ، كالحزن والحزن ، والعدم والعدم ، والبخل والبخل ، وعليه قول الشاعر : [الطويل]

٣٢٣٤ ـ فليت زيادا كان في بطن أمّه

وليت زيادا كان ولد حمار (٥)

وقد قرىء بذلك في مريم ، والزخرف ، ونوح في السبعة ، كما سيأتي إن شاء الله ـ تعالى ـ

و «يوم» [نصب](٦) ب «اغفر».

فإن قيل : طلب المغفرة إنّما يكون بعد الذنب ، وهو ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ كان قاطعا بأن الله يغفر له ، فكيف طلب ما كان قاطعا بحصوله؟.

فالجواب : المقصود منه الالتجاء إلى الله ، وقطع الطّمع إلّا من فضل الله تعالى وكرمه.

فإن قيل : كيف جاز أن يستغفر لأبويه ، وكانا كافرين؟.

فالجواب من وجوه :

الأول : أن المنع لا يعلم إلا بالتوقيف ، فلعلّه لم يجد [منعا](٧) ، فظن جوازه.

الثاني : أراد بالوالدين آدم وحواء ـ صلوات الله وسلامه عليهما ـ.

الثالث : كان ذلك بشرط الإسلام.

فإن قيل : لو كان الأمر كذلك لما كان ذلك الاستغفار باطلا ، ولو لم يكن باطلا لبطل قوله : (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) [الممتحنة : ٤].

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٦٢ والمحرر الوجيز ٣ / ٤٤٣ والبحر المحيط ٥ / ٤٢٣ والدر المصون ٤ / ٢٧٦.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٦٢ وقرأ بها أيضا الزهري والنخعي ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٣٤٣ والبحر المحيط ٥ / ٤٢٣ وينظر : الدر المصون ٤ / ٢٧٦.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٦٢ والمحرر الوجيز ٣ / ٣٤٣ والبحر المحيط ٥ / ٤٢٣ والدر المصون ٤ / ٢٧٦.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٣٤٣ والبحر المحيط ٥ / ٤٢٣ والدر المصون ٤ / ٢٧٦.

(٥) البيت لنافع بن صفار الأسلمي. وروي فلانا مكانا زيادا ، ينظر : البحر ٥ / ٤٢٣ ، المحتسب ١ / ٣٦٥ ، معاني الفراء ٢ / ١٧٣ ، التهذيب واللسان (ولد) ، إصلاح المنطق / ٣٧ ، الدر المصون ٤ / ٢٧٦.

(٦) في ب : منصوب.

(٧) في أ : مانعا.

٤٠٤

فالجواب : أن الله ـ تعالى ـ بين عذر خليله في استغفاره لأبيه في سورة التوبة.

وقال بعضهم : كانت أمه مؤمنة ، ولهذا خص أباه بالذكر في قوله : (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) [التوبة : ١١٤].

في قوله : (يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) قولان :

الأول : يقوم إلى بيت المقدس ، وهو مشتقّ من قيام القائم على الرجل ، كقولهم : قامت الحرب على ساقها ، ونظيره : قوله : قامت الشمس أي : اشتعلت ، وثبت ضوؤها كأنّها قامت على رجل.

الثاني : أن يسند إلى الحساب قيام أهله على سبيل المجاز ، كقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢].

قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦) فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ)(٥٢)

قوله : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) لما بين دلائل التّوحيد ثمّ حكى عن إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ أنه طلب من الله العظيم أن يصونه عن الشرك ، وأن يوفقه للأعمال الصّالحة ، وأن يخصه الله بالرحمة والمغفرة في يوم القيامة ، ذكر بعده ما يدل على وجود القيامة ، فهو قوله ـ عزوجل ـ (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) وذلك تنبيه على أنّه ـ تبارك وتعالى ـ لو لم ينتقم للمظلوم من الظّالم للزم إمّا أن يكون غافلا عن ذلك الظّالم ، أو عاجزا عن الانتقام ، أو كان راضيا بذلك الظّلم ولما كانت الغفلة ، والعجز ، والرّضا بالظّلم محالا على الله امتنع أن لا ينتقم من الظّالم للمظلوم.

فإن قيل : كيف يليق بالرّسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ أن يحسب الله ـ عزوجل ـ موصوفا بالغفلة؟.

٤٠٥

فالجواب من وجوه :

الأول : المراد به التثبيت على ما كان عليه من أنه لا يحسب إن كان غافلا ، كقوله تعالى : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ).

والثاني : المقصود منه بيان أنه لو لم ينتقم لكان عدم الانتقام لأجل غفلته عن ذلك الظالم ، ولما كان امتناع هذه الغفلة معلوما لكل أحد لا جرم كان عدم الانتقام محالا.

الثالث : أنّ المراد : ولا تحسبنه يعاملهم الله معاملة الغافل عمّا يعملون ، ولكن معاملة الرّقيب عليهم المحاسب على النقير ، والقطمير.

الرابع : أنّ هذا الخطاب ، وإن كان خطابا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الظاهر إلا أنه خطاب مع الأمّة.

قال سفيان بن عيينة ـ رضي الله عنه ـ : هذا تسلية للمظلوم ، وتهديد للظّالم (١).

قوله : (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ) أي : لأجل يوم ، فاللام للعلّة.

وقيل : بمعنى «إلى» أي : للغاية.

وقرأ العامة : «يؤخّرهم» بالياء ، لتقدم اسم الله ـ تعالى ـ. وقرأ (٢) الحسن والسلمي ، والأعرج ، [وخلائق](٣) ـ رضي الله عنهم ـ : «نؤخّرهم» بنون العظمة.

ويروى عن أبي عمرو «نؤخّرهم» بنون العظمة.

و «تشخص» صفة ل «يوم». ومعنى شخوص البصر حدّة النّظر ، وعدم استقراره في مكانه ، ويقال : شخص سمعه ، وبصره ، وأشخصهما صاحبهما ، وشخص بصره ، أي : لم يطرف جفنه ، وشخوص البصر يدلّ على الحيرة والدهشة ، ويقال : شخص من بلده أي : بعد ، والشخص : سواد الإنسان المرئيّ من بعيد.

قوله : (مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) حالان من المضاف المحذوف إذ التقدير : أصحاب الأبصار ، إذ يقال : شخص زيد بصره ، أو تكون الأبصار دلّت على أربابها فجاءت الحال من المدلول عليه ، قالهما أبو البقاء.

وقيل : «مهطعين» منصوب بفعل مقدر ، أي : تبصرهم مهطعين ، ويجوز في «مقنعي» أن يكون حالا من الضمير في : «مهطعين» فيكون حالا ، وإضافة : «مقنعي» غير حقيقية ؛ فلذلك وقعت حالا.

والإهطاع : قيل : الإسراع في المشي ؛ قال : [البسيط]

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٩ / ١١١).

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٣٤٤ والبحر المحيط ٥ / ٤٢٤ والدر المصون ٤ / ٢٧٦.

(٣) في ب : وخلف.

٤٠٦

٣٢٣٥ ـ إذا دعانا فأهطعنا لدعوته

داع سميع فلفّونا وساقونا (١)

وقال : [الكامل]

٣٢٣٦ ـ وبمهطع سرح كأنّ عنانه

في رأس جذع ... (٢)

وقال أبو عبيدة : قد يكون الإسراع [مع] إدامة النّظر.

وقال الراغب : «هطع الرّجل ببصره إذا صوّبه ، وبعير مهطع إذا صوّب عنقه».

وقال الأخفش : هو الإقبال على الإصغاء ، وأنشد : [الوافر]

٣٢٣٧ ـ بدجلة دارهم ولقد أراهم

بدجلة مهطعين إلى السّماع (٣)

والمعنى : مقبلين برءوسهم إلى سماع الدّاعي.

وقال ثعلب : «هطع الرّجل إذا نظر بذلّ وخشوع لا يقلع ببصره إلى السماء». وهذا موافق لقول أبي عبيدة ؛ فقد سمع فيه : «أهطع وهطع» رباعيّا وثلاثيّا.

والإقناع : رفع الرّأس ، وإدامة النّظر من غير التفات إلى غيره ، قاله القتبيّ ، وابن عرفة.

ومنه قوله ـ يصف إبلا ترعى أعالي الشّجر ؛ فترفع رءوسها ـ : [الوافر]

٣٢٣٨ ـ يباكرن العضاه بمقنعات

نواجذهنّ كالحدإ الوقيع (٤)

ويقال : أقنع رأسه ، أي : طأطأها ، ونكّسها فهو من الأضداد ، والقناعة : الاجتزاء باليسير ، ومعنى قنع عن كذا : أي : رفع رأسه عن السؤال. وفم مقنّع : معطوف الأسنان إليه داخلة ، ورجلّ مقنّع ـ بالتشديد ـ ، ويقال : قنع يقنع قناعة ، وقنعا ، إذا رضي ، وقنع قنوعا ، إذا سأل ، [فوقع] الفرق بالمصدر.

وقال الراغب : قال بعضهم : أصل هذه الكلمة من القناع ، وهو ما يغطّي الرّأس

__________________

(١) البيت لعمران بن حطان. ينظر : الدر المنثور ٤ / ٨٨ ، الدر المصون ٤ / ٢٧٧.

(٢) البيت لامرىء القيس وقيل : لأنيق بن جبلة. وروي :

ومستقلل الذفرى ...

في رأس ...........

ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤١٨ ، الطبري ١٣ / ٢٣٨ ، مجاز القرآن ١ / ٣٢٢ ، اللسان والتاج (أول) ، الدر المصون ٤ / ٢٧٧.

(٣) البيت ليزيد الحميري. وروي : بدجلة أهلها .. في ديوانه / ١١٠. ينظر : مجاز القرآن ١ / ٣٤٣ ، البحر المحيط ٥ / ٤٢٤ ، روح المعاني ١٣ / ٢٤٥ ، التاج والتهذيب واللسان (هطع) إعراب القرآن ٣ / ١٦٦ ، الدر المصون ٤ / ٢٧٧.

(٤) البيت للشماخ. ينظر : ديوانه (٢٢٠) وفيه : (يبادرن) بدلا من (يباكرن) ، مجاز القرآن ١ / ٢٤٣ ، روح المعاني ١٣ / ٢٢٠ ، المخصص ١٢ / ٢٨٧ ، الصاحبي (٢٦٣) ، التهذيب واللسان (قنع) القرطبي ٥ / ٤٠٩ ، إعراب القرآن ٣ / ١٦٦ ، الطبري ١٣ / ١٥٧ الدر المصون ٤ / ٢٧٧.

٤٠٧

والقانع : من يلجّ في السؤال فيرضى بما يأتيه ، كقوله : [الوافر]

٣٢٣٩ ـ لمال المرء يصلحه فيغني

مفاقره أعفّ من القنوع (١)

ورجل مقنّع : تقنّع به ؛ قال : [الطويل]

٣٢٤٠ ـ ...........

شهودي على ليلى عدول مقانع (٢)

ومعنى الآية : أنّ المعتاد فيمن شاهد البلاء أنّه يطرق رأسه عنه لئلا يراه ، فبين ـ تعالى ـ أنّ حالهم بخلاف هذا المعتاد ، وأنهم يرفعون رءوسهم.

والرّءوس : جمع رأس ، وهو مؤنّث ، ويجمع في القلّة على أرؤس ، وفي الكثرة على «رءوس» والأراس : العظيم الرأس ، ويعبر به عن الرّجل العظيم كالوجه ، والرّسّ مشتقّ من ذلك ورياس السّيف مقبضه ، وشاة رأسى : اسودّت رأسها.

قوله : (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) في محل نصب على الحال من الضمير في : «مقنعي» ويجوز أن يكون بدلا من : «مقنعي» ، كذا قاله أبو البقاء ، يعني أنه يحل محله ، ويجوز أن يكون استئنافا ، والطرف في الأصل مصدر ، وأطلق على الفاعل ، كقولهم : «ما فيهم عين تطرف» ، والطّرف هنا : العين قال الشاعر : [الكامل]

٣٢٤١ ـ وأغضّ طرفي ما بدت لي جارتي

حتّى يواري جارتي مأواها (٣)

والطّرف : الجفن أيضا ، يقال : ما طبق طرفه ، أي : جفنه على الآخر ، والطّرف أيضا : تحريك الجفن.

ومعنى الآية : دوام ذلك الشّخوص.

قوله : (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) «يجوز أن يكون استئنافا ، وأن يكون حالا ، والعامل فيه إمّا «يرتدّ» وإمّا ما قبله من العوامل ، وأفرد : «هواء» ، وإن كان خبرا عن جمع ؛ لأنّه في معنى فارغة متجوفة ، ولو لم يقصد ذلك لقال : أهوية ليطابق الخبر مبتدأه».

والهواء : الخالي من الأجسام ويعبّر به عن الجبن ، يقال : جوفه هواء ، أي : فارغ ؛ قال زهير : [الوافر]

__________________

(١) البيت للشماخ. ينظر : ديوانه (٢٢١) ، مجاز القرآن ٢ / ٥١ ، المخصص ١٢ / ٢٨٧ ، الصاحبي (٢٦٣) ، التهذيب واللسان (قنع) فصيح ثعلب / ١٥ ، المفردات ٤٢٩ ، أحكام القرآن ٣ / ١٢٩٤ ، المسائل البصريات ١ / ٦١٣ ، الدر المصون ٤ / ٢٧٧.

(٢) عجز بيت لقيس بن الملوح وصدره :

وبايعت ليلى بالخلاء ولم يكن

ينظر : ديوانه (١٨٦) ، اللسان (قنع) جمهرة اللغة ص ٩٤٢ ، شرح المفصل ١ / ١٣ ، ٣ / ٥١ ، أمالي القالي ١ / ١٩٦ ، الكامل ١ / ٢٦٥ ، الراغب / ٦٢٤ ، ٦٢٥ ، معجم البلدان (القانع) ، الدر المصون ٤ / ٢٧٨.

(٣) البيت لعنترة. ينظر : ديوانه (٧٦) ، البحر المحيط ٥ / ٤١٩ ، تفسير القرطبي ٩ / ٣٧٧ ، روح المعاني ١٣ / ٢٤٦ ، الدر المصون ٤ / ٢٧٨.

٤٠٨

٣٢٤٢ ـ كأنّ الرّجل منها فوق صعل

من الظّلمان جؤجؤه هواء (١)

وقال حسّان بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ : [الوافر]

٣٢٤٣ ـ ...........

فأنت مجوّف نخب هواء (٢)

النّخب : الذي أخذت نخبته أي : خياره ، ويقال : قلب فلان هواء : إذا كان جبانا للقوة في قلبه.

والمعنى : أنّ قلوب الكفار خالية يوم القيامة عن جميع الخواطر ، والأفكار لعظم ما نالهم من الحيرة لما تحقّقوه من العذاب ، وخالية من كلّ سرور لكثرة ما هم فيه من الحزن.

قوله : (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ) قال أبو البقاء : (يَوْمَ يَأْتِيهِمُ) مفعول ثان ل : «أنذر» ، أي : خوفهم عذاب يوم ، وكذا قاله الزمخشريّ.

وفيه نظر ، إذ يؤول إلى قولك : أنذرهم عذاب يوم يأتيهم العذاب ، ولا حاجة إلى ذلك ، ولا جائز أن يكون ظرفا ؛ لأنّ ذلك اليوم لا إنذار فيه سواء قيل : إنه يوم القيامة ، أو يوم هلاكهم ، أو يوم تلقاهم الملائكة.

والألف واللام في : «العذاب» للمعهود السّابق ، أي : وأنذرهم يوم يأتيهم العذاب الذي تقدّم ذكره ، وهو شخوص الأبصار ، وكونهم مهطعين مقنعي رءوسهم.

فصل

حمل أبو مسلم قوله : (يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ) على أنه حال المعاينة ، لأنّ هذه الآية شبيهة بقوله تعالى : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) [المنافقون : ١٠] ، وظاهر الآية يشهد بخلافه ؛ لأنه ـ تعالى ـ وصف اليوم بأن العذاب يأتيهم فيه ، وأنهم يسألون الرجعة ، ويقال لهم : (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ)؟ ولا يليق ذلك إلا بيوم القيامة.

ثمّ حكى تعالى عنهم ما يقولون في ذلك اليوم : (فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) قال بعضهم : طلبوا الرجعة إلى الدنيا ليتلافوا ما فرّطوا فيه.

__________________

(١) ينظر : ديوانه (٩) ، شرح الديوان ٦٣ ، تفسير غريب القرآن ٢٣٤ ، القرطبي ٥ / ٤٠٩ ، الطبري ١٣ / ١٥٩ ، الكشاف ٢ / ٣٨٢ شواهد الكشاف / ٣١٧ ، الألوسي ١٣ / ٢٤٧ ، الكامل ١ / ١٩٥ ، المحرر الوجيز ٤ / ٥٦٠ ، الدر المصون ٤ / ٢٧٨.

(٢) عجز بيت وصدره :

ألا أبلغ أبا سفيان عني

ينظر : الديوان (٩) ، الكشاف ٢ / ٣٨٢ ، القرطبي ٥ / ٤٠٩ ، الألوسي ١٣ / ٢٤٧ ، مجاز القرآن ١ / ٣٤٤ ، الطبري ١٣ / ١٤٤ ، اللسان والتاج (هوى ، جوف) ، الدر المصون ٤ / ٢٧٨.

٤٠٩

وقيل : طلبوا الرّجوع إلى حال التّكليف لقولهم : «نجب دعوتك ونتّبع الرّسل» ، فقوله «نجب» جواب الأمر.

قوله : (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ) قال الزمخشري : «على إرادة القول وفيه وجهان : أن تقولوا ذلك أشرا وبطرا ، أو تقولوه بلسان الحال حيث بنوا شديدا ، وأملوا بعيدا».

و «ما لكم» جواب القسم ، وإنّما جاء بلفظ الخطاب لقوله : «أقسمتم» ، ولو جاء بلفظ المقسمين لقيل : «ما لنا».

وقدّر أبو حيّان ذلك القول هنا من قول الله ـ عزوجل ـ أو الملائكة ـ عليهم‌السلام ـ أي : فيقال لهم : «أو لم تكونوا» ، وهو أظهر من الأول ، أعني : جريان القول من غيرهم لا منهم ، والمعنى : (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ) أراد قوله : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها) [الأنعام : ١٠٩] إلى غير ذلك ممّا كانوا ينكرونه.

قوله : (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) وأصل «سكن» التّعدي ب «في» كما في هذه الآية ، وقد يتعدى بنفسه.

قال الزمخشريّ : «السكنى من السكون الذي هو اللّبث ، والأصل تعديه ب «في» كقولك : قرّ في الدّار وأقام فيها ، ولكنّه لما نقل إلى سكون خاص تصرف فيه ، فقيل : سكن الدّار كما قيل : تبوّأها ، وأوطنها ، ويجوز أن يكون من السّكون ، أي : قرّوا فيها واطمأنّوا».

والمعنى : وسكنتم في مساكن الذين كفروا قبلكم كقوم نوح ، وعاد ، وثمود و : (ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالكفر ؛ لأن من شاهد هذه الحال ؛ وجب عليه أن يعتبر ، وإذا لم يعتبر يستوجب الذّم والتقريع.

قوله : «وتبيّن لكم» فاعله مضمر لدلالة الكلام عليه ، أي حالهم وخبرهم وهلاكهم ، و «كيف» نصب ب «فعلنا» وجملة الاستفهام ليست معمولة ل «تبيّن» ؛ لأنه من الأفعال التي لا تعلق ، ولا جائز أن يكون : «كيف» فاعلا ؛ لأنّها إمّا شرطية ، أو استفهامية وكلاهما لا يعمل فيه ما تقدمه ، والفاعل لا يتقدّم عندنا.

وقال بعض الكوفيين : إنّ جملة : «كيف فعلنا» هو الفاعل ، وهم يجيزون أن تكون الجملة فاعلا ، وقد تقدّم هذا في قوله : (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ) [يوسف : ٣٥].

والعامة على : «تبيّن» فعلا ماضيا ، وقرأ عمر (١) بن الخطاب ، والسلمي ـ رضي الله

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٢٥ ، والدر المصون ٤ / ٢٧٩.

٤١٠

عنهما ـ في رواية عنهما : «ونبيّن» بضمّ النون الأولى والثانية ، مضارع : «بيّن» ، وهو خبر مبتدأ مضمر ، والجملة حال ، أي : ونحن نبين.

وقرأ السلمي فيما نقل المهدويّ (١) كذلك إلا أنه سكن النون للجزم نسقا على «تكونوا» ، فيكون داخلا في حيز التقدير.

فصل

والمعنى : عرفتم عقوبتنا إياهم ، وضربنا لكم الأمثال في القرآن ممّا يعلم به أنّه قادر على الإعادة كما قدر على الابتداء ، وقادر على التّعذيب المؤجّل كما يفعل الهلاك المعجّل.

قوله : (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ) قيل : الضمير عائد إلى الذين سكنوا في مساكن الذين ظلموا أنفسهم.

وقيل : أراد قوم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقوله تعالى : (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ) يا محمد ، وقد مكروا قومك مكرهم وذلك في قوله تعالى (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) [الأنفال : ٣٠].

وقيل : المراد من هذا المكر ما نقل : أن نمروذا حاول الصّعود إلى السماء ، فاتّخذ لنفسه تابوتا ، وربط قوائمه الأربعة بأربعة نسور ، وكان قد جوّعها ، وجعل لها في جوانب التابوت الأربعة عصيا ، وعلم عليها اللحم ، ثم جلس مع صاحب له في التابوت ، فلمّا أبصرت النسور اللحم تصاعدت في الجو ثلاثة أيام ، وغابت الدنيا عن عين نمروذ ، ثمّ نكّس العصيّ التي كان عليها اللحم فهبطت النّسور إلى الأرض.

قال القاضي ـ رحمه‌الله ـ : «وهذا بعيد جدّا ؛ لأنّ الخطر فيه عظيم ، ولا يكاد العاقل يقدم عليه ، وما جاء فيه خبر ، ولا دليل».

قال القشيري : وهذا جائز بتقدير خلق الحياة في الجبال ، وذكر الماورديّ عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنّ النمرود بن كنعان بنى الصّرح في قرية الرسّ من سواد الكوفة ، وجعل طوله خمسة آلاف ذراع ، وخمسة وعشرين ذراعا ، وصعد فيه مع النّسور ، فلمّا علم أنه ليس له سبيل إلى السماء اتّخذ حصنا ، وجمع فيه أهله وولده ليتحصن فيه ، فأتى الله بنيانه من القواعد ، فتداعى الصّرح عليهم ، فهلكوا جميعا فهذا معنى قوله ـ عزوجل ـ : (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ)(٢).

قوله : (وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) يجوز أن يكون هذا المصدر مضافا لفاعله كالأول بمعنى

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٣٤٥ والبحر المحيط ٥ / ٤٢٥ والدر المصون ٤ / ٢٧٩.

(٢) ذكره الماوردي في «تفسيره» المسمى ب «النكت والعيون» (٣ / ١٤٢).

٤١١

أنّ مكرهم الذي مكروه جزاؤه عند الله ، أو للمفعول ، بمعنى أن عند الله مكرهم الذي يمكرهم به ، أي : يعذبهم قالهما الزمخشريّ.

قال أبو حيان (١) : «وهذا لا يصحّ إلّا إن كان «مكر» يتعدى بنفسه كما قال هو إذ قد يمكرهم به ، والمحفوظ أن «مكر» لا يتعدّى إلى مفعول به بنفسه ، قال تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الأنفال : ٣٠] وتقول : زيد ممكور به ، ولا يحفظ : زيد ممكور بسبب كذا.

قوله : (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) قرأ العامة بكسر لام «لتزول» الأولى ، والكسائي بفتحها (٢).

فأما القراءة الأولى ، ففيها ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّها نافية ، واللام بعدها لام الجحود ؛ لأنّها بعد كون منفيّ ، وفي «كان» حينئذ قولان :

أحدهما : أنّها تامّة ، والمعنى ؛ تحقير مكرهم ، وأنّه ما كان لتزول منه الشّرائع التي كالجبال في ثبوتها وقوّتها (٣).

ويؤيد كونها نافية قراءة عبد الله : (وما كان مكرهم).

القول الثاني : أنّها ناقصة ، وفي خبرها القولان المشهوران بين البصريين والكوفيين ، هل هو محذوف ، واللام متعلقة به؟ وإليه ذهب البصريون ، أو هو اللام ، وما جرته كما [هو مذهب](٤) الكوفيين؟ وقد تقرّر هذا في آخر آل عمران.

الوجه الثاني : أن تكون المخففة من الثقيلة.

قال الزمخشري (٥) : «وإن عظم مكرهم وتبالغ في الشدة ، فضرب زوال الجبال منه مثلا لتفاقمه وشدته ، أي : وإن كان مكرهم معدّا لذلك».

وقال ابن عطية (٦) : «ويحتمل عندي أن يكون معنى هذه القراءة : تعظيم مكرهم ، أي : وإن كان شديدا إنما يفعل ليذهب به عظام الأمور» ، فمفهوم هذين الكلامين أنها مخففة ؛ لأنّه إثبات.

والثالث : أنها شرطية ، وجوابها محذوف ، أي : وإن كان مكرهم مقدرا لإزالة أشباه

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٢٥.

(٢) ينظر : الحجة ٥ / ٣١ وإعراب القراءات السبع ١ / ٣٣٦ ، ٣٣٧ وحجة القراءات ٣٧٩ والإتحاف ٢ / ١٧١ والمحرر الوجيز ٣ / ٣٤٦ والبحر المحيط ٥ / ٤٢٦ والدر المصون ٤ / ٢٧٩.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٦٦ والبحر المحيط ٥ / ٤٢٦ والدر المصون ٤ / ٢٨٠.

(٤) في أ : ذهب إليه.

(٥) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٦٥.

(٦) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٣٤٦.

٤١٢

الجبال الرّواسي ، وهي المعجزات ، والآيات ، فالله مجازيهم بمكرهم ، وأعظم منه.

وقد رجّح الوجهان الأخيران على الأوّل ، وهو : أنها نافية ؛ لأنّ فيه معارضة لقراءة الكسائي في ذلك ؛ لأنّ قراءته تؤذن بالإثبات ، وقراءة غيره تؤذن بالنّفي.

وقد أجاب بعضهم عن ذلك : بأنّ الجبال في قراءة الكسائي مشار بها إلى أمور عظام غير الإسلام ، ومعجزاته لمكرهم صلاحية إزالتها ، وفي قراءة الجماعة مشار بها إلى ما جاء به النبيّ المختار ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ من الدين الحق ، فلا تعارض إذ لم يتوارد على معنى واحد نفيا ، وإثباتا.

وأمّا قراءة الكسائيّ ففي : «إن» وجهان :

مذهب البصريين أنّها المخففة واللام فارقة ، ومذهب الكوفيين أنّها نافية ، واللام بمعنى : «إلّا» وقد تقدّم تحقيق المذهبين.

وقرأ عمر ، وعلي ، وعبد الله (١) ، وزيد بن علي ، وأبو سلمة وجماعة ـ رضي الله عنهم ـ (وإن كاد مكرهم لتزول) كقراءة الكسائي ، إلّا أنهم جعلوا مكان نون : «كان» دالا ، فعل مقاربة ، وتخريجها كما تقدّم ، ولكن الزوال غير واقع.

وقرىء : «لتزول» (٢) بفتح اللامين ، وتخريجها على إشكالها أنها جاءت على لغة من لا يفتح لام كي.

فصل

في الجبال التي عني زوالها بمكرهم وجهان :

أحدهما : جبال الأرض.

الثاني : الإسلام ، والقرآن ؛ لأنّ ثبوته ، ورسوخه كالجبال.

وقال القشيريّ : (وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) أي : هو عالم بذلك فيجازيهم ، أو عند الله جزاء مكرهم فحذف المضاف.

قوله تعالى : (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) لما بين في الآية الأولى أنه ينتصر للمظلوم من الظّالم بين هاهنا أنه لا يخلف الوعد.

قوله : (مُخْلِفَ وَعْدِهِ) العامة على إضافة : «مخلف» إلى «وعده» وفيها وجهان :

أظهرهما : أن «مخلف» يتعدّى لاثنين كفعله ، فقدم المفعول الثاني ، وأضيف إليه اسم الفاعل تخفيفا ، نحو : هذا كاسي جبّة زيد.

قال الفراء وقطرب : لما تعدّى إليهما جميعا ، لم يبال بالتقديم والتأخير.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٣٤٦ والبحر المحيط ٥ / ٤٢٥ والدر المصون ٤ / ٢٨٠.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٢٦ والدر المصون ٤ / ٢٨٠.

٤١٣

وقال الزمخشري : فإن قلت : هلّا قيل : مخلف رسله وعده؟ ولم قدّم المفعول الثاني على الأول؟.

قلت : قدم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد ، ثم قال : «رسله» ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحدا ، وليس من شأنه إخلاف المواعيد ، كيف يخلف رسله؟.

وقال أبو البقاء : هو قريب من قولهم : [الرجز]

٣٢٤٤ ـ يا سارق اللّيلة أهل الدّار (١)

وأنشد بعضهم ـ نظير الآية الكريمة ـ قول الشاعر : [الطويل]

٣٢٤٥ ـ ترى الثّور فيها مدخل الظلّ رأسه

وسائره باد إلى الشّمس أجمع (٢)

والحسبان هنا : الأمر [المتيقن](٣) ، كقوله : [الطويل]

٣٢٤٦ ـ فلا تحسبن أنّي أضلّ منيّتي

وكلّ امرىء كأس الحمام يذوق (٤)

الثاني : أنه متعد لواحد ، وهو «وعده» ، وأمّا «رسله» فمنصوب بالمصدر فإنّه ينحلّ بحرف مصدريّ ، وفعل تقديره : مخلف ما وعد رسله ، ف «ما» مصدريّة لا بمعنى الذي.

وقرأت (٥) جماعة : (مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) بنصب : «وعده» وجر : «رسله» فصلا بالمفعول بين المتضايفين ، وهي كقراءة ابن عامر : (قتل أولادهم شركائهم).

قال الزمخشري ـ جرأة منه ـ : «وهذه في الضعف [كقراءة](٦) (قتل أولادهم شركائهم).

ثم قال : (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ) غالب لأهل المكر ، ذو انتقام لأوليائه منهم.

قوله تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) [لما بين أنه عزيز ذو انتقام ، بين وقت انتقامه ، فقال : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ)(٧) ويجوز في «يوم» عدة أوجه :

أحدها : أن ينتصب منصوبا ب «انتقام» أي : يقع انتقامه في ذلك اليوم.

الثاني : أن ينتصب ب «اذكر».

الثالث : أن ينتصب بما يتلخص من معنى عزيز ذو انتقام.

الرابع : أن يكون بدلا من : «يوم يأتيهم».

__________________

(١) ينظر : الكتاب ١ / ١٧٥ ، أمالي ابن الشجري ٢ / ٢٥٠ ، الخزانة ٣ / ١٠٨ ، معاني الفراء ٢ / ٨٠ ، التبيان ٢ / ٧٧٤ ، ابن يعيش ٢ / ٤٥ ، ٤٦ ، الهمع ١ / ٢٠٣ ، الدرر ١ / ١٧٢ ، الألوسي ١٣ / ٢٥٣ ، الدر المصون ٤ / ٢٨١.

(٢) تقدم.

(٣) في ب : المتبين.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٢٦ ، الدر المصون ٤ / ٢٨١.

(٥) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٦٦ ، والمحرر الوجيز ٣ / ٣٤٦ والبحر المحيط ٥ / ٤٢٧ والدر المصون ٤ / ٢٨١.

(٦) في أ : كمن قرأ.

(٧) سقط من ب.

٤١٤

الخامس : أن ينتصب ب «مخلف».

السادس : أن ينتصب ب «وعده» ، و «إنّ» وما بعدها اعتراض.

ومنع أبو البقاء هذين الآخرين ، قال (١) : «لأن ما قبل «إنّ» لا يعمل فيما بعدها».

وهذا غير مانع ؛ لأنه كما تقدّم اعتراض ، فلا يبالى به فاصلا.

فصل

التّبديل يحتمل وجهين :

الأول : أن تكون الذّات باقية ، وتبدل الصفة بصفة أخرى ، كما تقول : بدلت الحلقة خاتما ، إذا أذبتها وسويتها خاتما فنقلتها من شكل إلى شكل آخر ، ومنه قوله تعالى : (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) [الفرقان : ٧٠] ، ويقال : بدّلت قميصي جبّة ، إذا قلبت عينه فجعلته جبّة ، وقال الشاعر : [الطويل]

٣٢٤٧ ـ فما النّاس بالنّاس الذين عرفتهم

ولا الدّار بالدّار الّتي أنت تعلم (٢)

الثاني : أن تفني الذات ، وتحدث ذاتا أخرى ، كقولك : بدّلت الدّراهم دنانير ومنه قوله تعالى : (وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ) [سبأ : ١٦].

وإذا عرفت أن اللفظ محتمل للوجهين ففي الآية قولان :

الأول : قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : هي تلك الأرض ، إلّا أنها تغير صفتها فتسير عنها جبالها ، وتفجر أنهارها ، وتسوى ، فلا (تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً)(٣) [طه : ١٠٧] وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تبدّل الأرض غير الأرض ، فيبسطها ، ويمدّها مدّ الأديم [العكاظي](٤) لا ترى فيها عوجا ولا أمتا». وتبدل السموات بانتثار كواكبها وانفطارها وتكوير شمسها ؛ وخسوف قمرها ، وكونها تكون تارة كالمهل ، وتارة كالدهان (٥).

والقول الثاني : تبديل الذات. قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : تبدل بأرض كالفضّة البيضاء النّقية ، لم يسفك فيها دم ، ولم يعمل عليها خطيئة (٦).

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ٧١.

(٢) ينظر : مجالس ثعلب ١ / ٤٩ ، روح المعاني ١٣ / ٢٥٤ ، الكشاف ٢ / ٣٨٤ ، شواهد الكشاف ٤ / ٢٥٨ ، البحر المحيط ٥ / ٤٢٧ ، العقد الفريد ٢ / ١٤٨ ، الدر المصون ٤ / ٢٨١.

(٣) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٩ / ١١٦).

(٤) في ب : العاكظي.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٤٨٢).

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٤٧٩) والحاكم (٤ / ٥٧٠) والطبراني في «الكبير» كما في «المجمع» (٧ / ٤٨).

وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وذكره الهيثمي في «المجمع» (٧ / ٤٨) وقال : وإسناده جيد.

وذكره أيضا السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٦٧) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ في «العظمة» والبيهقي في «البعث».

٤١٥

والقائلون بالقول الأول هم الذين يقولون عند قيام القيامة : لا يعدم الله الذوات والأجسام ، وإنّما يعدم صفاتها.

وقيل : المراد من تبديل الأرض والسموات : هو أنّ الله ـ تعالى ـ يجعل الأرض جهنم ، ويجعل السموات الجنة بدليل قوله تعالى (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) [المطففين : ٧] وقوله ـ عزوجل ـ (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) [المطففين : ١٨].

وقالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) [إبراهيم : ٤٨] أين تكون النّاس يومئذ؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «على الصّراط» (١).

وروى ثوبان ـ رضي الله عنه ـ أن حبرا من اليهود سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أين تكون النّاس يوم تبدّل الأرض غير الأرض؟ قال : «هم في الظّلمة دون الجسر» (٢).

قوله «والسّموات» تقديره : وتبدل السموات غير السموات.

وقرىء (٣) : «نبدّل» بالنون : «الأرض» نصبا «والسّموات» نسق عليه.

قوله «وبرزوا» فيه وجهان :

أحدهما : أنها جملة مستأنفة ، أي : يبرزون ، كذا قدّره أبو البقاء ، يعني أنه ماض يراد به الاستقبال ، والأحسن أنه مثل (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ) [الأعراف : ٥٠] (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ) [الأعراف : ٤٤] (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الحجر : ٢] (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١] لتحقّق ذلك.

والثاني : أنها حال من «الأرض» ، و «قد» معها مرادة ، قاله أبو البقاء ويكون الضمير في : «برزوا» للخلق دلّ عليه السّياق ، والرّابط بين الحال ، وصاحبها الواو.

وقرأ زيد (٤) بن علي «وبرّزوا» بضم الباء ، وكسر الرّاء مشددة على التّكثير في الفعل ومفعوله ، وتقدّم الكلام في معنى البروز عند قوله تعالى (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) [إبراهيم : ٢١] ، وإنما ذكر «الواحد القهّار» هنا ؛ لأنّ الملك إذا كان لمالك واحد غالب لا يغلب ،

__________________

(١) أخرجه مسلم (٤ / ٢١٥٠) كتاب صفات المنافقين : باب في البعث والنشور حديث (٢٩ / ٢٧٩١).

والترمذي (٥ / ٢٧٦) كتاب التفسير حديث (٣١٢١) وابن ماجه (٤٢٧٩) واستدركه الحاكم (٢ / ٣٥٢) من طريق داود ابن أبي هند عن الشعبي عن مسروق عن عائشة وهو في مسلم بهذا الإسناد.

والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٦٧) وزاد نسبته إلى أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وابن مردويه.

(٢) أخرجه مسلم (١ / ٢٥٢) كتاب الحيض : باب بيان صفة مني الرجل والمرأة حديث (٣٤٠ / ٣١٥) والطبري (٧ / ٤٨٣) والحاكم (٣ / ٤٨٢) من حديث ثوبان.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٦٧ والبحر المحيط ٥ / ٤٢٨ والدر المصون ٤ / ٢٨٢.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٢٨ والدر المصون ٤ / ٢٨٢.

٤١٦

قهّار لا يقهر ، فلا يستغاث بأحد غيره ، فكان الأمر في غاية الصعوبة ولما وصف نفسه ـ تعالى ـ بكونه قهارا ، بيّن عجزهم ، وذلتهم فقال : (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ) وصفهم بصفات :

الأولى : قوله : (مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) «يجوز أن يكون حالا على أنّ الرؤية بصريّة ، وأن يكون مفعولا ثانيا على أنّها علمية ، و «في الأصفاد» متعلق به.

وقيل : بمحذوف على أنه حال أو صفة ل «مقرّنين»».

والمقرن : من جمع في القرن ، وهو الحبل الذي يربط به ، قال : [البسيط]

٣٢٤٨ أ ـ وابن اللّبون إذا ما لزّ في قرن

لم يستطع صولة البزل القناعيس (١)

وقال آخر : [البسيط]

٣٢٤٨ ب ـ والخير والشّرّ ملزوزان في قرن (٢)

وقال آخر : [البسيط]

٣٢٤٨ ج ـ إنّي لدى الباب كالملزوز في قرن (٣)

يقال : قرنت الشّيء بالشّيء إذا شددته به ، ووصلته ، والقرن : اسم للحبل الذي يشدّ به ، ونكّره لكثرة ذلك.

والأصفاد : جمع صفد ، وهو الغلّ ، والقيد ، يقال : صفده يصفده صفدا ، قيّده ، والاسم الصّفد ، وصفّده مشددا للتكثير ؛ قال : [الوافر]

٣٢٤٩ ـ فآبوا بالنّهاب وبالسّبايا

وأبنا بالملوك مصفّدينا (٤)

والأصفاد من (٥) الصّفد ، وأصفده ، أي : أعطاه ، ففرّقوا بين «فعل» و «أفعل».

وقيل : بل يستعملان في القيد ، والعطاء ، قال النابغة الذبياني : [البسيط]

٣٢٥٠ ـ ...........

فلم أعرّض أبيت اللّعن بالصّفد (٦)

أي : بالإعطاء ، وسمي العطاء صفدا ؛ لأنّه يقيّد من يعطيه ، ومنه : أنا مغلول أياديك ، وأسير نعمتك.

فصل

قيل : يقرن كل كافر مع شيطان في سلسلة ، بيانه قوله : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ)

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٨٢.

(٣) تقدم.

(٤) في أ : الصفاد مثل.

(٥) تقدم.

(٦) البيت لعمرو بن ملقط.

وهو عجز بيت وصدره : مهما ليه الليلة مهما ليه.

ينظر : شرح المفصل ٧ / ٤٤ ، الخزانة ٩ / ١٨ ، المغني ١ / ١٠٨ ، الهمع ٢ / ٥٨ ، الدرر ٢ / ٧٤ ، التهذيب (مه) ، النوادر / ٦٢ ، الدر المصون ٤ / ٢٨٣.

٤١٧

[الصافات : ٢٢] يعني : قرناءهم من الشّياطين ، وقوله ـ جل ذكره ـ : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) [التكوير : ٧]. أي : قرنت.

وقيل : مقورنة أيديهم ، وأرجلهم إلى رقابهم بالأصفاد أي : بالقيود.

قوله : (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ) مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال من «المجرمين» وإمّا من : «مقرّنين» ، وإما من ضميره ، ويجوز أن تكون مستأنفة وهو الظاهر.

والسّرابيل : الثّياب ، وسربلته ، أي : ألبسته السّربال ؛ قال : [السريع]

٣٢٥١ ـ ...........

أودى بنعليّ وسرباليه (١)

وتطلق على ما يحصن في الحرب من الدّرع ، وشبهه قال تعالى : (وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) [النحل : ٨].

والقطران : ما يستخرج من شجر يسمّى الأبهل ، فيطبخ ويطلى به الإبل الجرب ليذهب جربها [بحدته ، وقد تصل حرارته إلى داخل الجوف ، ومن شأنه أن يسرع فيه اشتعال النار](٢) ، وهو أسود اللّون منتن الرّائحة ، وفيه لغات : «قطران» بفتح القاف وكسر الطاء ، وهي قراءة العامة.

و «قطران» بزنة سكران ، وبها قرأ (٣) عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنهما ـ وقال أبو النّجم : [الرجز]

٣٢٥٢ ـ لبّسه القطران والمسوحا (٤)

و «قطران» بكسر القاف ، وسكون الطاء بزنة «سرحان» ولم يقرأ بها فيما علمت.

قال شهاب الدين (٥) ـ رحمه‌الله ـ : وقرأ (٦) جماعة كثيرة منهم عليّ بن أبي طالب وابن عباس ، وأبو هريرة ـ رضي الله عنهم ـ : «قطر» بفتح القاف ، وكسرها وتنوين الراء «آن» بوزن «عان» جعلوها كلمتين ، والقطر : النّحاس ، وال «آن» اسم فاعل من أنى يأني ، أي : تناهى في الحرارة ؛ كقوله تعالى : (وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) [الرحمن : ٤٤].

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٢٨ والدر المصون ٤ / ٢٨٣.

(٣) ينظر : الديوان ٨٣ ، المحتسب ١ / ٣٦٧ ، اللسان (نتح) ، الطبري ١٣ / ١٦٧ ، الدر المصون ٤ / ٢٨٣ ، والقرطبي ٩ / ٣٨٥ ، والرواية في القرطبي والمحتسب «القطران» بكسر القاف ؛ وليس بفتحها كما استشهد به المؤلف.

(٤) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٨٣.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٣٤٨ والبحر المحيط ٥ / ٤٢٨ والدر المصون ٤ / ٢٨٣.

(٦) أخرجه الطبري (٧ / ٤٨٥ ـ ٤٨٦) عن ابن عباس وسعيد بن جبير مثله.

٤١٨

وعن عمر ـ رضي الله عنه ـ ليس بالقطران ، ولكنّه النحاس الذي يصير بلونه (١).

قال ابن الأنباري : «وتلك النّار لا تبطل ذلك القطران ، ولا تفنيه ، كما لا تهلك أجسادهم النّار ، والأغلال التي عليهم».

واعلم أنه يطلى بذلك القطران جلود أهل النّار حتّى يصير ذلك الطّلاء كالسّربال ، وهو القميص ، فيحصل بسببه أربعة أنواع من العذاب : لذع القطران وحرقته ، وإسراع النّار في جلودهم ، واللون الوحش ، ونتن الرّيح ، وأيضا : التفاوت بين قطران القيامة ، وقطران الدنيا كالتّفاوت بين النارين.

قوله : (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) قرىء (٢) «وتغشّى» بتشديد الشّين ، أي : وتتغشى فحذفت إحدى التّاءين.

وقرىء برفع : «وجوههم» (٣) ونصب «النّار» على سبيل المجاز ، جعل ورود الوجوه النار غشيانا.

والجملة من قوله : «وتغشى» قال أبو البقاء : «حال أيضا».

يعني أنّها معطوفة على الحال ، ولا يعني أنّها حال ، والواو للحال ؛ لأنّه مضارع مثبت.

فصل

المعنى : [تعلو](٤) النّار وجوههم ، ونظيره قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ) [الزمر : ٢٤] وقوله : (يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ) [القمر : ٤٨].

واعلم أنّ موضع المعرفة والنّكرة ، والعلم ، والجهل هو القلب ، وموضع الفكر ، والوهم والخيال هو الرّأس ، وتأثير هذه الأحوال يظهر في الوجه ، فلهذا السبب خص الله ـ تعالى ـ هذين العضوين بظهور آثار العقاب فيهما ، قال الله تعالى [في القلب] : (نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) [الهمزة : ٦ ، ٧] وقال تعالى في الوجه : (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ).

قوله (لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) في هذه اللام وجهان :

أظهرهما : أنّها تتعلق ب «برزوا» وعلى هذا فقوله : «وترى» جملة معترضة بين المتعلق ، والمتعلق به.

والثاني : أنها تتعلق بمحذوف ، أي : فعلنا بالمجرمين ، ذلك ليجزي كل نفس لأنه إذا عاقب المجرم ؛ أثاب الطّائع.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٦٨ والبحر المحيط ٥ / ٤٢٩ والدر المصون ٤ / ٢٨٣.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٣٤٨ والبحر المحيط ٥ / ٤٢٩ والدر المصون ٤ / ٢٨٣.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ١٩ / ١١٨.

(٤) في ب : تطل.

٤١٩

قال الواحدي (١) : «المراد : أنفس الكفّار ؛ لأن ما سبق ذكره لا يليق أن يكون جزاء لأهل الإيمان ، ويمكن إجراء اللفظ على عمومه ، وأنه ـ تعالى ـ يجزي كلّ نفس ما كسبت من عملها اللائق بها ، فيجزي الكفار بهذا العقاب المذكور ، ويجزي المؤمن المطيع الثّواب وأيضا ، فالله ـ تعالى ـ لما عاقب المجرمين بجرمهم ، فلأن يثيب المطيعين أولى».

ثم قال تعالى : (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) أي : لا يظلمهم ، ولا يزيد على عقابهم الذي يستحقونه.

قوله تعالى : (هذا بَلاغٌ) إشارة إلى ما تقدّم من قوله : «ولا تحسبنّ» إلى هنا ، أو إلى كلّ القرآن ، نزل منزلة الحاضر بلاغ ، أي : كافية في الموعظة.

قوله تعالى : (وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) فيه أوجه :

أحدها : أنه متعلق بمحذوف ، أي : ولينذروا أنزلنا عليك.

الثاني : [أنه معطوف على محذوف ، وذلك المحذوف متعلق ب «بلاغ» ، تقديره : لينصحوا ولينذروا](٢).

الثالث : أن الواو مزيدة : «ولينذروا» متعلق ب «بلاغ» ، وهو رأي الأخفش نقله الماورديّ.

الرابع : أنه محمول على المعنى ، أي : ليبلغوا ، ولينذروا.

الخامس : أن اللام لام الأمر ، وهو حسن ، لو لا قوله : «وليذّكّر» فإنه منصوب فقط.

قال شهاب الدين (٣) : قال بعضهم : لا محذور في ذلك ، فإن قوله : «ليذّكر» ليس معطوفا على ما تقدمه ، بل متعلق بفعل مقدر ، أي : وليذكر أنزلناه وأوحيناه.

السادس : أنه خبر لمبتدأ مضمر ، التقدير : هذا بلاغ ، وهو لينذروا قاله ابن عطيّة.

السابع : أنه عطف مفردا على مفرد ، أي : هذا بلاغ وإنذار ، قاله المبرد وهو تفسير معنى لا إعراب.

الثامن : أنه معطوف على قوله : «يخرج النّاس» في أول السورة ، وهذا غريب جدّا.

التاسع : قال أبو البقاء (٤) : «المعنى : هذا بلاغ للنّاس ، والإنذار متعلق بالبلاغ أو بمحذوف إذا جعلت النّاس صفة.

ويجوز أن يتعلق بمحذوف ، وتقديره : ولينذروا به أنزل ، أو تلي».

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) سقط من ب.

(٣) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٨٤.

(٤) ينظر : الإملاء ٢ / ٧١.

٤٢٠