اللّباب في علوم الكتاب - ج ١١

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١١

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥١٠

وقيل : يأتيه الموت من الجهات السّت (وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) فيستريح.

قال ابن جريج : تعلق روحه عند حنجرته ، ولا تخرج من فيه فيموت ، ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فيستريح فتنفعه الحياة ، نظيره : (لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) [طه : ٧٤].

قوله : (وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) في الضمير وجهان :

أظهرهما : أنه عائد على «كلّ جبّار».

والثاني : أنه عائد على العذاب المتقدم.

قيل : العذاب الغليظ : الخلود في النار.

وقيل : إنّه في كل وقت يستقبله يتلقى عذابا أشدّ مما قبله ، وتقدم الكلام على معنى (مِنْ وَرائِهِ).

قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ)(٢٠)

قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) الآية لما ذكر أنواع عذابهم بين بعده أن سائر أعمالهم تصير ضائعة باطلة ، وذلك هو الخسران الشديد.

وفي ارتفاع : «مثل» أوجه :

أحدها : وهو مذهب سيبويه أنّه مبتدأ محذوف الخبر ، تقديره : فيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا بربهم ، وتكون الجملة من قوله : (أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ) مستأنفة جوابا لسؤال مقدر ، كأنه قيل : كيف مثلهم؟ فقيل : كيت وكيت «والمثل : مستعار للصفة التي فيها غرابة ، كقوله : صفة زيد عرضه مصون ، وماله مبذول».

الثاني : أن يكون «مثل» مبتدأ ، و «أعمالهم» مبتدأ ثان ، و «كرماد» خبر الثاني ، والثاني وخبره خبر المبتدأ الأوّل.

قال ابن عطيّة : «وهذا عندي أرجح الأقوال ، وكأنك قلت : المتحصل في النفس مثالا للذين كفروا هذه الجملة المذكورة» وإليه نحا الحوفي.

قال أبو حيان (١) : «وهو لا يجوز ؛ لأن الجملة التي وقعت خبرا للمبتدأ لا رابط فيها يربطها بالمبتدأ ، وليست نفس المبتدأ فيستغنى عن رابط».

قال شهاب الدّين (٢) ـ رحمه‌الله ـ : «بل الجملة نفس المبتدأ ، فإن نفس مثلهم هو (أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ) في أنّ كلّا منهما لا يفيد شيئا ، ولا يبقى له أثر ، فهو نظير قولك :

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٠٥.

(٢) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٥٨.

٣٦١

«هجّيرى أبي بكر لا إله إلّا الله» وإلى هذا الوجه ذهب الزمخشري أيضا ؛ فإنه قال : «أي صفة الذين كفروا أعمالهم كرماد ، كقولك : «صفة زيد عرضه مصون وماله مبذول» فنفس عرضه مصون هو نفس صفة زيد».

الثالث : أنّ «مثل» زائدة ، قاله الكسائي والفراء ، أي : الذين كفروا أعمالهم كرماد ، ف «الّذين» مبتدأ ، و «أعمالهم» مبتدأ ثان و «كرماد» خبره ، وزيادة الأسماء ممنوعة.

الرابع : أن يكون «مثل» مبتدأ ، و «أعمالهم» بدل منه على تقدير : مثل أعمالهم و «كرماد» الخبر ، قاله الزمخشري. وعلى هذا فهو بدل كلّ من كلّ على حذف مضاف كما تقدم.

الخامس : أنه يكون «مثل» مبتدأ ، و «أعمالهم» بدل منه بدل اشتمال و «كرماد» الخبر. كقول الزباء : [الرجز]

٣٢٠٤ ـ ما للجمال مشيها وئيدا

أجندلا يحملن أم حديدا (١)

__________________

(١) ينظر البيت في : معاني الفراء ٢ / ٧٣ ، الأشموني ٢ / ٤٦ ، الهمع ١ / ١٥٩ ، الدرر ١ / ١٤١ ، الكامل ٢ / ٨٥ ، المغني ٢ / ٥٨٠ ، التصريح ٥ / ٢٧١ ، روح المعاني ١٣ / ٣٠٣ ، الدر المصون ٤ / ٢٥٨.

وأجاز الكوفيون تقديم الفاعل مع بقاء فاعليته تمسكا بقول الزباء الذي ذكره المصنف.

ووجه التمسك أن مشيها روي مرفوعا ولا جائز أن يكون مبتدأ إذ لا خبر له لنصب وئيدا على الحال فنفيه أن يكون فاعلا بوئيدا مقدما عليه وإذا فقد تقدم الفاعل على المسند.

وأوله المانعون مطلقا من البصريين بجعل مشيها مبتدأ محذوف الخبر سدّ الحال مسده والتقدير «مشيها يظهر وئيدا».

وخرجه المانعون في الاختيار على أنه ضرورة والضرورة تتيح تقدم الفاعل كما مر في قوله : «وقلما وصل» وقيل إن مشيها بدل من الظرف المنتقل إليه بعد حذف الاستقرار وذلك أن ما استفهامية في محل رفع مبتدأ وللجمال خبره وهو جار ومجرور وفيه ضمير مستتر على الفاعلية عائد على ما وهذه التخريجات ضعيفة.

أما الأول فلأنه تخريج على شاذ لعدم استكمال شروط حذف الخبر الذي سدّ الحال مسده لفقدان في شرط عدم صلاحية الحال لأن تكون خبرا إذ هذه الحال تصلح لأن تكون خبرا لأنها حال من ضميره بخلاف الحال التي لا تصلح بأنها تكون من ضمير عائد على معمول المبتدأ أو معمول ما أضيف إليه المبتدأ نحو «ضربي العبد مسيئا وأتم تبييني الحق منوطا إلخ» فإن مسيئا حال من فاعل كان المحذوفة العائد على العبد ، العبد الذي هو مفعول المصدر الذي هو ضربي الواقع مبتدأ. وكذا منوطا ـ حال من فاعل كان المحذوفة العائد على الحق الذي هو معمول لتبييني الذي هو مضاف إلى أتمّ الذي هو مبتدأ. وأما الثاني فلأنه لا ضرورة في البيت إذ يمكن نصب مشيها على المصدرية والعامل يكون مقدرا «أي تمشي» أو جره على البدلية بدل اشتمال من الجمال كما ورد في الروايتين الأخريين هذا على أن الضرورة ما ليس للشاعر عنه مندوحة أما على أنها ما وقع في الشعر فيكون هذا التخريج سالما من الخدش.

وأما الثالث فلأن مشيها عليه إما بدل بعض أو بدل اشتمال وكلاهما لا بد فيه من ضمير يعود على المبدل منه لفظا أو تقديرا ولا ضمير هنا على أنه لو كان بدلا لاقترن بهمزة الاستفهام لأنه بدل من ـ

٣٦٢

السادس : أن يكون التقدير : مثل أعمال الذين كفروا ، أو هذه الجملة خبرا لمبتدأ ، قاله الزمخشريّ (١).

السابع : أن يكون «مثل» مبتدأ ، و «أعمالهم» خبره ، أي : مثل أعمالهم فحذف المضاف ، و «كرماد» على هذا خبر مبتدأ محذوف.

وقال أبو البقاء (٢) حين ذكر وجه البدل : «ولو كان في غير القرآن لجاز إبدال «أعمالهم» من : «الّذين» ، وهو بدل اشتمال».

يعني أنّه كان يقرأ «أعمالهم» مجرورة لكنّه لم يقرأ به.

«والرّماد معروف وهو ما سحقته النار من الأجرام ، وجمعه في الكثرة على رمد وفي القلة على أرمدة ، كجماد وجمد وأجمدة ، وجمعه على أرمداء شاذ».

والرّماد : الشبه المحكم ، يقال : أرمد الماء ، أي : صار بلون الرّماد.

والأرمد : ما كان على لون الرّماد ، وقيل للبعوض : رمد لذلك ، ويقال : رماد رمدد ، أي: صار هباء.

قوله تعالى : (اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ) في محل جر صفة ل «رماد» ، و «في يوم» متعلق ب «اشتدّت» وفي «عاصف» أوجه :

أحدها : أنه على تقدير : عاصف ريحه ، أو عاصف الريح ، ثم حذف الريح وجعلت الصفة ل «يوم» مجازا ، كقولهم : يوم ماطر ، وليل قائم.

قال الهرويّ : فحذفت لتقدم ذكرها ، كما قال : [الطويل]

٣٢٠٥ ـ إذا جاء يوم مظلم الشّمس كاسف

 ........... (٣)

__________________

ـ ضمير ما الاستفهامية وحكم ضمير الاستفهام حكم ظاهره كما صرح به المغني فالأولى الجواب بأن الخبر محذوف لدلالة الحال عليه وترك دعوى أن تلك الحال سدت مسد الخبر لأن ذلك في مواضع ليس هذا منها.

وهل لهذا الخلاف من فائدة؟

نعم له فائدة تظهر في التثنية والجمع فتقول على رأي الكوفيين «الزيدان قام ، الزيدون قام».

وعلى رأي البصريين يجب أن تقول : «الزيدان قاما ، الزيدون قاموا» فتأتي بألف وواو في آخر الفعل يكونان هما الفاعلين.

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٤٧.

(٢) ينظر : الإملاء ٢ / ٦٧.

(٣) عجز بيت لمسكين الدارمي وصدره :

فيضحك عرفان الدروع جلودنا

ينظر : الطبري ٦ / ٥٥٤ ، الفراء ٢ / ٧٤ ، القرطبي ٩ / ٣٥٣ ، الخزانة ٩ / ٨٩ ، البحر المحيط ٥ / ٤٠٥ ، اللسان (عصف) ، الدر المصون ٤ / ٢٥٩.

٣٦٣

أي : كاسف الشمس.

الثاني : أنه عائد على النّسب ، أي : ذي عصوف ، كلابن وتامر.

الثالث : أنه خفض على الجوار ، أي : كان الأصل أن يتبع العاصف الريح في الإعراب ، فيقال : اشتدت به الريح العاصفة في يوم ، فلمّا وقع بعد اليوم أعرب بإعرابه ، كقولهم : «جحر ضبّ خرب».

وفي جعل هذا من باب الخفض على الجوار نظر ؛ لأنّ من شرطه أن يكون بحيث لو جعل صفة لما قطع عن إعرابه ليصحّ كالمثال المذكور ، وهنا لو جعلت صفة للريح لم يصحّ لتخالفها تعريفا ، وتنكيرا في هذا [التركيب](١) الخاص.

وقرأ الحسن (٢) وابن أبي إسحاق : [«يوم عاصف»](٣) وهي على حذف الموصوف ، أي : في يوم ريح عاصف ، فحذف لفهم المعنى الدال على ذلك.

ويجوز أن يكون من باب إضافة الموصوف إلى صفته عند من يرى ذلك نحو : «البقلة الحمقاء». ويقال : ريح عاصف ومعصف ، وأصله من العصف ، وهو ما يكبر من الزرع ، فقيل ذلك للريح الشديد ؛ لأنّها تعصف ، أي : تكسر ما تمرّ به.

قوله «لا يقدرون» مستأنف ، ويضعف أن يكون صفة ل «يوم» على حذف العائد أي : لا يقدرون فيه ، و «ممّا كسبوا» متعلق بمحذوف لأنه حال من «شيء» إذ لو تأخر لكان صفة ، والتقدير : على شيء مما كسبوا.

فصل

وجه المشابهة بين هذا المثل وبين أعمالهم : هو أنّ الريح العاصفة تطير الرماد وتفرق أجزاءه بحيث لا يبقى لذلك الرماد أثر ، فكذا كفرهم يبطل أعمالهم ويحبطها بحيث لا يبقى من أعمالهم معه أثر. واختلفوا في المراد بتلك الأعمال ، فقيل : ما عملوه من أعمال البرّ كالصدقة ، وصلة الرحم ، وبر الوالدين ، وإطعام الجائع ، فتبطل وتحبط بسبب كفرهم بالله ، ولو لا كفرهم لانتفعوا بها.

وقيل : المراد بتلك الأعمال عبادتهم الأصنام ، وكفرهم الذي اعتقدوه إيمانا وطريقا لخلاصهم ، وأتعبوا أبدانهم دهرا طويلا لينتفعوا بها ، فصارت وبالا عليهم.

وقيل : المراد من أعمالهم كلا القسمين ؛ لأنّ أعمالهم التي كانت في أنفسها خيرات قد بطلت ، والأعمال التي اعتقدوها خيرا ، وأفنوا فيها أعمالهم بطلت أيضا ، وصارت من

__________________

(١) في أ : الباب.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٣٣٢ والبحر المحيط ٥ / ٤٠٥ والدر المصون ٤ / ٢٥٩.

(٣) في أ : بإضافة «يوم» ل «عاصف».

٣٦٤

أعظم الموجبات لعذابهم ، ولا شك أنّه يعظم حسرتهم وندامتهم ولذلك قال : (هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ).

قوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) الآية لما بين بطلان أعمالهم بسبب كفرهم ، وإعراضهم عن قبول الحق ، وأنّ الله ـ تعالى ـ لا يبطل أعمال المخلصين ابتداء ، وكيف يليق بالحكمة أن يفعل ذلك والله تعالى ما خلق هذا العالم إلا لرعاية الحكمة والصواب.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ) قرأ أبو عبد الرحمن رحمه‌الله تعالى (١) : بسكون الراء ، وفيه وجهان :

أحدهما : أنه أجرى الوصل مجرى الوقف.

والثاني : أنّ العرب حذفت لام الكلمة عند عدم الجازم ، فقالوا : «ولو تر ما الصّبيان» فلما دخل الجازم تخيلوا أنّ الراء محل الجزم ، ونظيره «لم أبل» فإن أصله : أبالي ، ثم حذفوا لامه رفعا ، فلمّا جزموه لم يعتدوا بلامه ، وتوهموا الجزم في اللام ، والرّؤية هنا قلبية ف «أنّ» في محل المفعولين ، أو أحدهما على الخلاف.

وقرأ الأخوان (٢) هنا : (خالق السماوات والأرض) «خالق» اسم فاعل مضاف لما بعده فلذلك خفضوا ما عطف عليه ، وهو «الأرض» ، وفي «النور» : «خالق كلّ دابّة» [آية : ٤٥] اسم فاعل مضاف لما بعده ، والباقون : «خلق» فعلا ماضيا ، ولذلك نصبوا : «الأرض» و (كُلَّ دَابَّةٍ) [النور : ٤٥] وكسر «السّموات» في قراءة الأخوين خفض ، وفي قراءة غيرهما نصب ، ولو قيل : في قراءة الأخوين : يجوز نصب «الأرض» على أحد وجهين ، إمّا على المحل وإمّا على حذف التنوين لالتقاء الساكنين ، فتكون «السّموات» منصوبة لفظا وموضعا لم يمتنع ولكن لم يقرأ به.

و «بالحقّ» متعلق به «خلق» على أنّ الباء سببيّة ، أو بمحذوف على أنّها حالية إمّا من الفاعل ، أي : محقّا ، أو من المفعول ، أي : متلبسة بالحق.

قوله «بالحقّ» تقدم نظيره في يونس (ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ) [يونس : ٥] أي : لم يخلق ذلك عبثا بل لغرض صحيح.

ثم قال ـ عزوجل ـ (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) والمعنى : من كان قادرا على خلق السموات والأرض بالحق ، فبأن يقدر على [إفناء](٣) قوم وإماتتهم وعلى إيجاد آخرين

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٣٣٢ والبحر المحيط ٥ / ٤٠٦ والدر المصون ٤ / ٢٥٩.

(٢) ينظر : السبعة ٣٦٢ والحجة ٥ / ٢٨ وإعراب القراءات السبع ١ / ٣٣٤ ، ٣٣٥ وحجة القراءات ٣٧٦ ، ٣٧٧ والإتحاف ٢ / ١٦٧ ، والمحرر الوجيز ٣ / ٣٣٢ والبحر المحيط ٥ / ٤٠٦ والدر المصون ٤ / ٢٥٩.

(٣) في أ : قيام.

٣٦٥

أولى ؛ لأنّ القادر على الأصعب الأعظم ؛ يقدر على الأسهل الأضعف بطريق الأولى.

قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : هذا الخطاب مع كفّار مكّة يريد أميتكم يا معشر الكفّار ، وأخلق قوما خيرا منكم وأطوع منكم (١).

(وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) أي : ممتنع لما ذكرنا من الأولوية.

قوله تعالى : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ)(٢٣)

قوله : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) الآية لما ذكر عذاب الكفار وبطلان أعمالهم ذكر هنا كيفية حجتهم عند تمسك أتباعهم ، وكيفية افتضاحهم عندهم.

و «برز» معناه في اللغة : ظهر بعد الخفاء ، ومنه يقال للمكان الواسع البراز لظهوره.

وقيل : في قوله تعالى : (وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) [الكهف : ٤٧] أي : ظاهرة لا يسترها شيء وامرأة برزة : إذا كانت تظهر للنّاس ، ويقال : فلان برز على أقرانه ، إذا فاقهم وسبقهم ، وأصله في الخيل إذا سبق أحدهما قيل : برز عليها كأنّه قد خرج من غمارها.

وورد بلفظ الماضي وإن كان معناه الاستقبال ؛ لأنّ كل ما أخبر الله عنه فهو حقّ وصدق ، فصار كأنه قد حصل ، ودخل في الوجود ، كقوله تعالى : (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ) [الأعراف: ٥٠].

فصل

البروز في اللغة قد تقدّم أنه بمعنى الظّهور بعد الاستتار وهذا في حق الله محال ، فلا بد من التأويل ، وهو من وجوه :

الأول : أنهم كانوا يستترون من الغير عند ارتكاب الفواحش ويظنون أن ذلك يخفى على الله ـ تعالى ـ فإذا كان يوم القيامة انكشفوا عند الله ـ تعالى ـ وعلموا أن الله لا يخفى عليه خافية.

والثاني : أنّهم خرجوا من قبورهم ، فبرزوا لحساب الله ـ تعالى ـ قالت الحكماء :

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٩ / ٨٤).

٣٦٦

إنّ النفس إذا فارقت الجسد فكأنه زال الغطاء ، وبقيت متجردة بذاتها عارية عن كل ما سواها وذلك هو البروز لله ـ تعالى ـ.

ثم حكى أن الضعفاء يقولون للرؤساء (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) أي : إنما اتبعناكم لهذا اليوم (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ) دافعون : (عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ).

و «تبعا» يجوز أن يكون جمع تابع ، كخادم وخدم ، وغائب وغيب ونافر ونفر ، وحارس وحرس ، وراصد ورصد.

ويجوز أن يكون مصدرا ، نحو : قوم عدل ، ففيه التأويلات المشهورة.

قوله (مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) في «من» و «من» [أربعة] أوجه :

أحدها : أنّ «من» الأولى للتبيين ، والثانية للتبعيض ، تقديره : مغنون عنا بعض الشيء الذي هو عذاب الله ، قاله الزمخشريّ.

قال أبو حيان (١) : هذا يقتضي التقديم في قوله : «من شيء» على قوله : (مِنْ عَذابِ اللهِ) ؛ لأنه جعل (مِنْ شَيْءٍ) هو المبين بقوله : (مِنْ عَذابِ اللهِ) و «من» التبيينية مقدم عليها ما تبينه ولا يتأخر.

قال شهاب الدّين (٢) : كلام الزمخشري صحيح من حيث المعنى ؛ فإن (مِنْ عَذابِ اللهِ) لو تأخر عن «شيء» كان صفة له ، ومبينا ، فلما تقدم انقلب إعرابه من الصفة إلى الحال ، وأما معناه وهو البيان فباق لم يتغير.

الثاني : أن يكونا للتبعيض معا ، بمعنى : هل أنتم مغنون عنا بعض شيء هو بعض عذاب الله ؛ أي : بعض بعض عذاب الله ، قاله الزمخشري.

قال أبو حيان : وهذا يقتضي أن يكون بدلا ، فيكون بدل عام من خاص ، وهذا لا يقال ؛ فإن بعضية الشيء مطلقة ، فلا يكون لها بعض.

قال شهاب الدين : لا نزاع أنه يقال : بعض البعض ، وهي عبارة متداولة ، وذلك البعض المتبعض هو كل لأبعاضه بعض لكله ، وهذا كالجنس المتوسط ، هو نوع لما فوقه ، جنس لما تحته.

الثالث : أن «من» في «من شيء» مزيدة ، و «من» في (مِنْ عَذابِ) فيها وجهان :

أحدهما : أن تتعلق بمحذوف ؛ لأنها في الأصل صفة ل «شيء» فلما تقدمت نصبت على الحال.

والثاني : أنها تتعلق بنفس «مغنون» على أن يكون «من شيء» واقعا موقع المصدر ، أي : غناء ، ويوضح هذا ما قاله أبو البقاء ـ رحمه‌الله تعالى ـ قال : و «من» زائدة أي شيئا

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٠٧.

(٢) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٦٠.

٣٦٧

كائنا من عذاب الله سبحانه وتعالى ، ويكون محمولا على المعنى ، تقديره : هل تمنعون عنا شيئا؟ويجوز أن يكون «شيء» واقعا موقع المصدر ، أي غناء ، فيكون (مِنْ عَذابِ اللهِ) متعلقا ب «مغنون» ، و «من» في (مِنْ شَيْءٍ) لاستغراق الجنس زائدة للتوكيد.

فصل

هذه التبعية يحتمل أن يكون المراد منها التبعية في الكفر ، ويحتمل أن يكون المراد منها التبعية في أحوال الدنيا ، فعند ذلك قال الذين استكبروا للضعفاء : (لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : معناه لو أرشدنا الله لأرشدناكم. قال الواحدي : معناه أنهم إنما دعوهم إلى الضلال ؛ لأن الله تعالى أضلهم فلم يهدهم ، فدعوا أتباعهم إلى الضلال ، ولو هداهم لدعوهم إلى الهدى.

قال الزمخشري (١) : لعلهم قالوا ذلك مع أنهم كذبوا فيه ، ويدل عليه قوله تعالى حكاية عن المنافقين : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ) [المجادلة : ١٨].

واعلم أن المعتزلة (٢) لا يجوزون صدور الكذب على أهل القيامة ، فكان هذا القول منه مخالفا لأصول مشايخه ، فلا يقبل.

وقال الزمخشري (٣) : يجوز أن يكون المعنى : لو كنا من أهل اللطف ، فلطف بنا ربنا فهدانا إلى الإيمان لهديناكم إلى الإيمان.

وذكر القاضي هذا الوجه وزيفه بأن قال : لا يجوز حمل هذا على اللطف ؛ لأن ذلك قد فعله الله تعالى.

وقيل : لو خلصنا الله من العذاب ، وهدانا إلى طريق الجنة ، لهديناكم ؛ بدليل أن هذا هو الذي التمسوه وطلبوه.

قوله : (سَواءٌ عَلَيْنا) إلى آخره فيه قولان :

أحدهما : أنه من كلام المستكبرين.

والثاني : أنه من كلام المستكبرين والضعفاء معا ، وجاءت كل جملة مستقلة من غير عاطف دلالة على أن كلّا من المعاني مستقل بنفسه كاف في الإخبار ، وقد تقدّم الكلام في التسوية والهمزة بعده في أول البقرة.

والجزع : عدم احتمال الشدّة ، قال امرؤ القيس : [الطويل]

٣٢٠٦ ـ جزعت ولم أجزع من البين مجزعا

وعزّيت قلبا بالكواعب مولعا (٤)

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٤٩.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ١٩ / ٨٦.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٤٩.

(٤) ينظر : ديوانه (٩٩) ، البحر المحيط ٥ / ٤٠٤ ، الدر المصون ٤ / ٢٦١.

٣٦٨

وقال الراغب (١) : «أصل الجزع : قطع الحبل ، يقال : جزعته فانجزع ومنه : جزع الوادي لمنقطعه ، ولانقطاع اللون بتغيره.

وقيل للخرز المتلون : جزع ، واللحم المجزّع : ما كان ذا لونين والبسرة المجزعة : أن تبلغ الأرطاب نصفها ، والجاذع : خشبة تجعل في وسط البيت فتلقى عليها رؤوس الخشب من الجانبين ، وصور الجزعة لما حمل عليه من العبء أو لقطعه بطوله وسط البيت».

والجزع أخص من الحزن ، فإن الجزع حزن يصرف الإنسان عما هو بصدده.

والمحيص : يكون مصدرا كالمغيب والمشيب ، ويكون اسم مكان ، كالمبيت والمضيق ويقال : حاص عنه وحاض بمعنى واحد ، ويقال : خاض ـ بالضاد المعجمة ، وجصنا بها بالجيم.

والمعنى : ما لنا من ملجأ ولا مهرب. فقام إبليس عند ذلك فخطبهم فقال (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِ).

قوله : (وَعْدَ الْحَقِ) يجوز أن يكون من باب إضافة الموصوف لصفته ، كقوله تعالى : (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) [ق : ٩] ومسجد الجامع ، أي : الوعد الحق ، وأن يراد ب «الحقّ» صفة الباري ـ تعالى ـ ، أي : وعدكم الله وعده الحق ، وأن يراد ب «الحقّ» البعث ، والجزاء على الأعمال ، فتكون إضافة صريحة.

وقيل : وعدكم الحق ثمّ ذكر المصد تأكيدا ، وفي الكلام إضمار من وجهين :

الأول : التقدير : أن الله وعدكم وعد الحق فصدقكم ووعدتكم فأخلفتكم وحذف لدلالة الحال على صدق ذلك الوعد ؛ لأنهم شاهدوه.

والثاني : قوله : ووعدتكم فأخلفتكم الوعد ، يقتضي مفعولا ثانيا ، وحذف للعلم به تقديره: ووعدتكم أن لا جنّة ، ولا نار ، ولا حشر ، ولا حساب.

فصل

لما [ذكر](٢) الله ـ سبحانه وتعالى ـ المناظرة التي وقعت بين الرؤساء والأتباع أردفها بالمناظرة التي وقعت بين الشيطان وأتباعه فقال : (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) قال المفسرون : إذا استقر أهل الجنّة في الجنّة ، وأهل النّار في النّار أخذ أهل النار في لوم إبليس وتقريعه ، فيقوم فيما بينهم خطيبا ، فيقول : (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ).

وقيل : المراد من قوله تعالى : (لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) أي : لما انقضت المحاسبة والمراد من الشيطان : إبليس لعنه الله!.

__________________

(١) ينظر : المفردات ٩٢.

(٢) في ب : طلب.

٣٦٩

قوله تعالى : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) أي : قدرة وتسلط ، وقهر فأقهركم على الكفر والمعاصي.

قوله : (إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ) فيه وجهان :

أظهرهما : أنه استثناء منقطع ؛ لأنّ دعاءه ليس من جنس السّلطان ، وهو الحجة البينة فهو كقولكم : ما تحيّتهم إلّا الضرب.

والثاني : أنه متصل ؛ لأن القدرة على حمل الإنسان على الشر تارة تكون بالقهر وتارة بتقوية الداعية في قلبه بإلقاء الوسوسة في قلبه ، فهو نوع من التسلّط.

وقرىء (١) «فلا يلوموني» بالياء من تحت على الالتفات ، كقوله تعالى : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) [يونس : ٢٢].

ظاهر هذه الآية يدل على أن الشيطان لا قدرة له على صرع الإنسان وتعويج أعضائه وجوارحه وإزالة عقله كما يقوله العوام.

ومعنى الآية : ما كان مني إلا الدعاء والوسوسة وأنتم سمعتم دلائل الله وشاهدتم مجيء أنبياء الله ؛ فكان من الواجب أن لا تغتروا بقولي ، ولا تلتفتوا إليّ ، فلما رجحتم الوسوسة على الدلائل الظاهرة كان اللّوم عليكم لا عليّ.

قالت المعتزلة (٢) : هذه الآية تدل على أشياء :

أحدها : أنه لو كان الكفر والمعصية من الله ـ تعالى ـ لوجب أن يقال : فلا تلوموني ولا تلوموا أنفسكم فإنّ الله ـ تعالى ـ قضى عليكم بالكفر ، وأجبركم عليه.

والثاني : أن ظاهر هذه الآية يدلّ على أنّ الشيطان لا قدرة له على تصريع الإنسان ، ولا على تعويج أعضائه وإزالة عقله.

والثالث : يدل على أنّ الإنسان لا يجوز لومه ، وذمه ، وعقابه بسبب فعل الغير ، وعند هذا يظهر أنه لا يجوز عقاب أولاد الكفار بسبب كفر آبائهم.

وأجاب بعضهم عن هذه الوجوه : بأن هذا قول الشيطان ، فلا يجوز التمسك به.

وأجاب الخصم عنه : بأنه لو كان هذا القول منه باطلا لبينه الله ـ تعالى ـ وأظهر إنكاره ، فلا فائدة في ذلك اليوم في ذكر الكلام الباطل ، والقول الفاسد.

ألا ترى أن قوله : (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ) كلام حق ، وقوله (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) قول حق بدليل قوله تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) [الحجر : ٤٢].

__________________

(١) ينظر البحر المحيط ٥ / ٤٠٨ والدر المصون ٤ / ٢٦١.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ١٩ / ٨٨.

٣٧٠

قال ابن الخطيب ـ رحمه‌الله ـ : دلت هذه الآية على أنّ الشيطان [الأصلي](١) هو النفس ؛ لأن الشيطان بين أنّه ما أتى إلّا بالوسوسة ، فلو لا الميل الحاصل بسبب الشهوة ، والغضب ، والوهم ، والخيال لم يكن لوسوسته تأثير ألبتّة ، فدل على أنّ الشيطان الأصلي هو النفس.

فإن قيل : لم قال الشيطان : (فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) وهو ملوم بسبب وسوسته؟.

فالجواب : أراد لا تلوموني على فعلكم : (وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) عليه ؛ لأنكم عدلتم عما توجه من هداية الله ـ تعالى ـ لكم.

قوله تعالى : (ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَ) العامّة على فتح الياء ؛ لأن الياء المدغم فيها تفتح أبدا ، لا سيما وقبلها كسرتان.

وقرأ حمزة بكسرها (٢) ، وهي لغة بني يربوع ، وقد اضطربت أقوال النّاس في هذه القراءة اضطرابا شديدا ، فمن مجترىء عليها ، ملحن لقارئها ، ومن مجوّز لها من غير ضعف قال : إنّها لغة بني يربوع ، والأصل : بمصرخين لي [فحذفت](٣) النون للإضافة وأدغمت ياء الجماعة في ياء الإضافة ، ومن مجوّز لها بضعف.

قال حسين الجعفيّ ـ رحمه‌الله ـ : سألت أبا عمرو عن كسر الياء ؛ فأجازه وهذه الحكاية تحكى عنه بطرق كثيرة منها ما تقدّم.

ومنها : سألت أبا عمرو ، قلت : إنّ أصحاب النحو يلحنوننا فيها ، فقال : هي جائزة أيضا ، إنّما أراد تحريك الياء ، فلست تبالي إذا حركتها إلى أسفل أم إلى فوق. وعنه : من شاء فتح ، ومن شاء كسر.

ومنها : أنه قال : إنّها بالخفض حسنة ، وعنه قال : قدم علينا أبو عمرو بن العلاء فسألته عن القرآن ، فوجدته به عالما ، فسألته عن شيء قرأ به الأعمش ، [واستقرأ](٤) به : (وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَ) بالجر ، فقال : هي جائزة ، فلما أجازها وقرأ بها الأعمش أخذت بها.

وقد أنكر أبو حاتم على أبي عمرو تحسينه لهذه القراءة ، ولا التفات إليه ؛ لأنّه علم من أعلام القرآن ، واللغة ، والنحو ، واطلع على ما لم يطلع عليه من فوق السجستاني : [البسيط]

__________________

(١) في أ : الأعلى.

(٢) ينظر : السبعة ٣٦٢ والحجة ٥ / ٢٨ وإعراب القراءات السبع ١ / ٣٣٥ وحجة القراءات ٣٧٧ والإتحاف ٢ / ١٦٧ ، ١٦٨ وقرأ بها أيضا الأعمش وابن وثاب ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٣٣٤ والبحر المحيط ٥ / ٤٠٨ والدر المصون ٤ / ٢٦١.

(٣) في ب : فذهبت.

(٤) في أ : واستشعر.

٣٧١

٣٢٠٧ ـ وابن اللّبون إذا ما لزّ في قرن

لم يستطع صولة البزل القناعيس (١)

ثم ذكر العلماء في ذلك توجيهات :

منها : أن الكسر على أصل التقاء الساكنين ، وذلك أنّ ياء الإعراب ساكنة وياء المتكلم أصلها السّكون ، فلما التقيا كسرت ؛ لالتقاء الساكنين.

الثاني : أنها تشبه هاء الضمير في أنّ كلّا منهما ضمير على حرف واحد و «هاء» الضمير توصل بواو إذا كانت مضمومة ، وبياء إذا كانت مكسورة ، وتكسر بعد الكسرة والياء ساكنة ؛ فتكسر كما تكسر الهاء في : «عليه» ، وبنو يربوع يصلونها بياء كما يصل ابن كثير نحو «عليهي» بياء ، فحمزة كسر هذه الياء من غير صلة ، إذ أصله يقتضي عدمها.

وزعم قطرب أنها لغة بني يربوع.

قال : يزيدون على ياء الإضافة ياء ؛ وأنشد : [الرجز]

٣٢٠٨ ـ ماض إذا ما همّ بالمضيّ

قال لها : هل لك يا تافيّ (٢)

وأنشده الفراء وقال : فإن يك ذلك صحيحا ، فهو مما يلتقي من الساكنين فنخفض الآخر منها.

وقال أبو علي (٣) : قال الفرّاء في كتاب التصريف له : زعم القاسم بن معن أنه صواب ، وكان ثقة بصيرا.

وممن طعن عليها أبو إسحاق قال : هذه القراءة عند جميع النحويين رديئة مرذولة ، ولا وجه لها إلا وجه ضعيف.

وقال أبو جعفر : «صار هذا إدغاما ، ولا يجوز أن يحمل كتاب الله ـ عزوجل ـ على الشذوذ».

وقال الزمخشري (٤) : هي ضعيفة ، واستشهدوا لها ببيت مجهول : [الرجز]

٣٢٠٩ ـ قال لها : هل لك يا تافيّ

قالت له : ما أنت بالمرضيّ (٥)

وكأنه قدر ياء الإضافة ساكنة ، وقبلها ياء ساكنة فحركها بالكسر لما عليه أصل التقاء الساكنين ، ولكنه غير صحيح ؛ لأنّ ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة حيث قبلها ألف نحو : عصاي ، فما بالها وقبلها ياء؟.

__________________

(١) تقدم.

(٢) البيت للأغلب العجلي. ينظر : إبراز المعاني (٥٥٠) ، معاني الفراء ٢ / ٧٦ ، الألوسي ١٣ / ٢١٠ حاشية يس ٢ / ٦٠ ، معاني الزجاج ٣ / ١٥٩ ، الخزانة ٢ / ٢٥٧ ، ٢٥٨ ، مشكل إعراب القرآن ١ / ٤٠٤ ، المحتسب ٢ / ٤٩ ، رسالة الغفران ٤٥٦ ، إعراب النحاس ٢ / ٣٦٩ ، الكشاف ٢ / ٣٧٤ ، الدر اللقيط ٥ / ٤١٩ ، الكشف ٢ / ٢٦ ، الدر المصون ٤ / ٢٦٢.

(٣) ينظر : الحجة ٥ / ٢٩.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٥١.

(٥) تقدم.

٣٧٢

فإن قلت : جرت الياء الأولى مجرى الحرف الصحيح لأجل الإدغام ، فكأنها ياء وقعت بعد حرف صحيح ساكن فحركت بالكسر على الأصل.

قلت : هذا قياس حسن ، ولكن الاستعمال المستفيض الذي هو بمنزلة الخبر المتواتر تتضاءل إليه القياسات.

قال أبو حيان (١) ـ رحمه‌الله تعالى ـ : «أما قوله : واستشهدوا لها ببيت مجهول ، فقد ذكر غيره أنه للأغلب العجلي ، وهي لغة باقية في أفواه كثير من النّاس إلى اليوم ، يقولون : ما فيّ أفعل كذا بكسر الياء».

قال شهاب الدّين (٢) : الذي ذكره صاحب هذا الرجز هو الشيخ أبو شامة قال ورأيته أنا في أوّل ديوانه ، وأول هذا الرجز :

٣٢١٠ ـ أقبل في ثوب معافريّ

عند اختلاط اللّيل والعشيّ (٣)

ثم قال أبو حيان (٤) : «وأما التقدير الذي ذكره فهو توجيه الفراء نقله عن الزجاج وأما قوله : في غضون كلامه حيث قبلها ألف ، فلا أعلم «حيث» يضاف إلى الجملة المصدرة بالظرف ، نحو : «قعد زيد حيث أمام عمرو بكر ، فيحتاج هذا التركيب إلى سماع».

قال شهاب الدين (٥) ـ رحمه‌الله ـ : «إطلاق النحاة قولهم : إنها تضاف إلى الجمل كاف في هذا ، ولا يحتاج تتبع كلّ فرد فرد مع إطلاقهم القوانين الكلية».

ثم قال : وأما قوله : لأن ياء الإضافة إلى آخره ، قد روي بسكون الياء بعد الألف ، وقد قرأ بذلك القراء ، نحو : (وَمَحْيايَ) [الأنعام : ١٦٢].

قال شهاب الدين (٦) : مجيء السّكون في هذه الياء لا يفيده ههنا ، وإنّما كان يفيده لو جاء بها مكسورة بعد الألف فإنه محل البحث ، وأنشد النحاة بيت الذبياني بالكسر والفتح ، وهو قوله : [الطويل]

٣٢١١ ـ عليّ لعمرو نعمة بعد نعمة

لوالده ليست بذات عقارب (٧)

وقال الفراء (٨) في كتاب «المعاني» له : «وقد خفض الياء من «مصرخي» الأعمش

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٠٩.

(٢) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٦٢.

(٣) البيت للأغلب العجلي. ينظر : الخزانة ٤ / ٤٣١ ، حاشية يس ٢ / ٦٠ ، إبراز المعاني / ٥٥١ ، الدر المصون ٤ / ٢٦٣.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٠٩.

(٥) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٦٣.

(٦) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٦٣.

(٧) ينظر : ديوانه (٩) ، المحتسب ٢ / ٤٩ ، أمالي ابن الشجري ٢ / ١٨٠ ، الهمع ٢ / ٥٣ ، الدرر ٢ / ٦٨ ، الألوسي ١٣ / ٢١٠ ، الخزانة ٢ / ٣٦٠ ، شرح الكافية الشافية (١٠٠٨).

(٨) ينظر : معاني القرآن للفراء ٢ / ٧٥.

٣٧٣

ويحيى بن وثاب جميعا حدّثني بذلك القاسم بن معن عن الأعمش ، ولعلها من وهم القراء فإنه قلّ من سلم منهم من الوهم ، ولعله ظن أنّ الياء في (بِمُصْرِخِيَ) خافضة للفظ كله ، والياء للمتكلم خارجة عن ذلك ، قال : ومما [نرى](١) أنهم وهموا فيه قوله (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ) [النساء : ١١٥] بالجزم في الهاء» ، ثمّ ذكر غير ذلك.

وقال أبو عبيد : أمّا الخفض فإنا نراه غلطا ؛ لأنّهم ظنوا أنّ الياء تكسر كل ما بعدها ، وقد كان في القراء من يجعله لحنا ، ولا أحبّ أن أبلغ به هذا كله ، ولكن وجه القراءة عندنا غيرها.

وقال الأخفش (٢) : «ما سمعت بهذا من أحد من العرب ولا من أحد من النحويين».

قال النحاس (٣) : فصار هذا إجماعا ، ولا يجوز ، فقد تقدّم ما حكاه النّاس من أنها لغة ثابتة لبعض العرب.

وقد انتدب لنصرة هذه القراءة أبو علي الفارسي قال (٤) في حجّته : «وجه ذلك أن الياء ليست تخلو من أن تكون في موضع نصب أو جر ، فالياء في النصب والجر كالهاء فيهما وكالكاف في «أكرمتك» وهذا لك ، فكما أنّ الهاء قد لحقها الزيادة في «هذا لهو ، وضربهو» ، ولحق الكاف أيضا الزيادة في قول من قال : «أعطاكه» و «أعطيتكه» فيما حكاه سيبويه وهما أختا الياء ، ولحقت الياء الزيادة في قول الشاعر : [الهزج]

٣٢١٢ ـ رميتيه فأصميت

وما أخطأت [في] الرّميه (٥)

كذلك الحقوا الياء الزائدة من المد ، فقالوا : فيّ ، ثمّ حذفت الياء الزائدة على الياء كما حذفت الزيادة من الهاء في قول من قال : [الطويل]

٣٢١٣ ـ ...........

 ... له أرقان(٦)

وزعم أبو الحسن : أنّها «لغة». ومراد أبي علي بالتنظير بالبيت في قوله : «له أرقان» حذف الصلة ، واتفق أن في البيت أيضا حذف الحركة ولو مثل بنحو «عليه» و «فيه» لكان أولى.

ثمّ قال الفارسي (٧) : كما حذفت الزيادة من الكاف فقيل : أعطيتكه ، وأعطيتكيه كذلك حذفت الياء اللاحقة للياء كما حذفت من أختها ، وأقرت الكسرة التي كانت تلي

__________________

(١) في ب : يؤكد.

(٢) ينظر : معاني القرآن للأخفش ٢ / ٣٧٥.

(٣) ينظر : إعراب القرآن ٢ / ١٨٣.

(٤) ينظر : الحجة ٥ / ٢٩.

(٥) ينظر : الخزانة ٥ / ٢٦٨ ، إبراز المعاني (٥٥١) ، القوافي للمبرد ص ٧ ، القوافي للتنوخي ص ٨٠ ، مشكل إعراب القرآن ١ / ٤٠٣ ، شرح الحور العين ص ٩٥ ، تفسير القرطبي ٣ / ٣١١ ، شرح الكافية للرضي ٢ / ٢٢ ، الدر المصون ٤ / ٢٦٣.

(٦) تقدم.

(٧) ينظر : الحجة ٥ / ٢٩.

٣٧٤

الياء المحذوفة فبقيت الياء على ما كانت عليه من الكسر.

قال : فإذا كانت الكسرة في الياء على هذه اللغة ، وإن كان في غيرها أفشى منها ، وعضده من القياس ما ذكرنا ما لم يجز.

لقائل أن يقول : إنّ القراءة بذلك لحن ، [لاستقامة](١) ذلك في السّماع والقياس ، وما كان كذلك لا يكون لحنا ، وهذا [التوجيه] يوضح التوجيه الثاني الذي تقدّم ذكره ، وأما التوجيه الأول فأوضحه الفراء أيضا.

قال الزجاج (٢) : «أجاز الفراء (٣) على وجه ضعيف الكسر ؛ لأن أصل التقاء الساكنين الكسر».

قال الفراء : «ألا ترى أنهم يقولون : مذ اليوم ، ومذ اليوم ، والرفع في الذال هو الوجه ؛ لأنه أصل حركة «مذ» والخفض جائز ، فكذلك الياء من «مصرخيّ» خفضت ولها أصل في النصب».

قال شهاب الدين (٤) : تشبيه الفراء المسألة ب «مذ اليوم» فيه نظر ؛ لأن الحرف الأول صحيح لم يتوالي قبله كسر ، بخلاف ما نحن فيه ، وهذا هو الذي عناه الزمخشريّ بقوله المتقدم : فكأنّها وقعت بعد حرف صحيح ، وقد اضطرب النقل عن الفراء في هذه المسألة كما ترى من [نقل](٥) بعضهم عنه ، التخطئة مرة [والتصويب](٦) أخرى ، ولعل الأمر كذلك فإنّ العلماء يسألون فيجيبون مما يحضرهم حال السؤال ، وهي مختلفة التوجيه.

الثالث : أن الكسر للإتباع لما بعدها ، وهو كسر الهمزة من «إنّي» كقراءة «الحمد لله» وكقولهم : بعير وشعير ، وشهيد ، بكسر أوائلها إتباعا لما بعدها وهو ضعيف جدّا.

التوجيه الرابع : أنّ المسوغ لهذا الكسر في الياء ، وإن كان مستقلا أنها لما أدغمت فيها التي قبلها قويت بالإدغام ، فأشبهت الحروف الصحاح فاحتملت الكسر لأنه إنما يستثقل فيها إذا حذفت ، وانكسر ما قبلها ، ألا ترى أن حركات الإعراب تجري على المشدد ، وما ذاك إلا إلحاقه بالحروف الصحاح.

والمصرخ : المغيث ، يقال : استصرخته فأصرخني ، أي : فأغاثني فكأن همزه للسكت ، أي: أزال صراخي. والصّارخ : هو المستغيث ، قال : [الطويل]

٣٢١٤ ـ فلا تجزعوا إنّي لكم غير مصرخ

وليس لكم عندي غناء ولا نصر (٧)

ويقال : صرخ يصرخ صرخا وصرخة ؛ قال : [البسيط]

__________________

(١) في ب : لاستيعاب.

(٢) ينظر : معاني القرآن للزجاج ٣ / ١٥٩.

(٣) ينظر : معاني القرآن للفراء ٢ / ٧٥.

(٤) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٦٤.

(٥) في ب : التوضيح.

(٦) في أ : تعليل.

(٧) البيت لأمية بن أبي الصلت. ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٠٤ ، القرطبي ٩ / ٣٥٧ ، الدر المصون ٤ / ٢٦٤.

٣٧٥

٣٢١٥ ـ كنّا إذا ما أتانا صارخ فزع

كان الصّراخ له قرع الظّنابيب (١)

يريد : كان بدل [الصراخ](٢) ، فحذف المضاف ، وأقام المصدر الثلاثي مقام المصدر الرباعي ، نحو (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح : ١٧].

والصّريخ : القوم المستصرخون ، قال : [الكامل]

٣٢١٦ ـ قوم إذا سمعوا الصّريخ رأيتهم

ما بين ملجم مهره أو سافع (٣)

والصّريخ : أيضا : المعينون ، فهو من الأضداد ، وهو محتمل أن يكون [وصفا](٤) على «فعيل» كالخليط ، وأن يكون مصدرا في الأصل ، قال : (فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) ، فهذا يحتمل ، وأن يكون فعيلا بمعنى المفعل ، أي : فلا مصرخ لهم ، أي : ناصر وتصرّخ تكلّف الصّراخ.

قوله : (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) يجوز في «ما» وجهان :

[أحدهما : أن يكون بمعنى الذي ، ثمّ في المراد بعد الموصول وجهان :](٥)

أحدهما : أنه الأصنام ، تقديره : بالصّنم الذي أشركتموني به ، أي : بالصنم الذي أطعتموني كما أطعتموه ، كذا قال أبو البقاء ، والعائد محذوف ، فقدره أبو البقاء : بما أشركتموني به ، ثم حذف يعني بعد حذف الجار ، ووصول الفعل إليه ، ولا حاجة إلى تقديره مجرورا بالياء ؛ لأن هذا الفعل متعدّ لواحد ، نحو : شركت زيدا ، فلما دخلت همزة الفعل أكسبته ثانيا ، هو العائد ، تقول : أشركت زيدا عمرا ، أي جعلته شريكا له.

الثاني : أنه الباري ـ تعالى ـ ، أي : بما أشركتموني به ، أي : بالله تعالى.

قال القرطبي (٦) : المعنى : أن إبليس قال : إني كفرت بالله الذي أشركتموني به من قبل كفركم ، أي : أنّ كفره كان قبل كفر أتباعه ، وتكون «ما» بمعنى «من» والكلام في العائد كما تقدّم ، إلا أن فيه إيقاع «ما» على العاقل والمشهور أنّها لغير العاقل.

قال الزمخشري (٧) : «ونحو «ما» هذه «ما» في قوله : «سبحان ما سخّركنّ لنا» ومعنى إشراكهم الشيطان بالله تعالى طاعتهم له فيما كان يزينه لهم من عبادة الأوثان».

قال أبو حيان (٨) : «ومن منع ذلك جعل سبحان هنا علما على معنى التّسبيح ، كما

__________________

(١) البيت لسلامة بن جندل. ينظر : الديوان (١٥) التهذيب (طنب) القرطبي ٥ / ٣٩١ ، اللسان والتاج (فزع) ، الكامل ١ / ٣ ، الدر المصون ٤ / ٢٦٤.

(٢) في أ : الإصراخ.

(٣) البيت لحميد بن ثور الهلالي ، ينظر : الديوان / ١١١ ، الكشاف ٤ / ٦٢٠ ، المغني ١ / ٦٣ ، ديوان الحماسة ١ / ٢٩ ، التصريح ٣ / ١٠٧ ، الأشموني ٣ / ١٠٧ ، الدر المصون ٤ / ٢٦٤.

(٤) في ب : وضع.

(٥) سقط من : أ.

(٦) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ٩ / ٢٣٥.

(٧) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٥١.

(٨) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٠٩.

٣٧٦

جعل «برّة» علما للمبرة ، و «ما» مصدرية ظرفية» ، أي : فيكون على حذف مضاف أي: سبحان صاحب تسخيركن ؛ لأن التسبيح لا يليق إلا بالله ـ عزوجل ـ.

الوجه الثاني : أن «ما» مصدرية ، أي : بإشراككم إياي مع الله ، لي الطاعة.

قوله «من قبل» متعلق ب «كفرت» على القول الأوّل ؛ أي كفرت من قبل حين أبيت السجود لآدم عليه‌السلام بالذي أشركتموني وهو الله ـ سبحانه وتعالى ـ ، وب «أشركت» على الثاني ، أي : كفرت اليوم بإشراككم إيّاي من قبل هذا اليوم أي : في الدنيا ، كقوله (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) [فاطر : ١٤] ، هذا قول الزمخشري ـ رحمه‌الله ـ.

وجوّز أو البقاء تعلقه ب «كفرت» وب «أشركتموني» من غير ترتيب على كون : «ما» مصدرية أو موصولة.

فقال : و «من قبل» متعلق ب «أشركتموني» ، أي : كفرت الآن بما أشركتموني من قبل.

وقيل : هي متعلقة ب «كفرت» أي : كفرت من قبل إشراككم ، فلا أنفعكم شيئا.

وقرأ أبو عمرو (١) بإثبات الياء في «أشركتموني» وصلا ، وحذفها وقفا ، وحذفها الباقون وصلا ووقفا ، وهنا تم كلام الشيطان.

وقوله (إِنَّ الظَّالِمِينَ) من كلام الله ـ تعالى ـ ، ويجوز أن يكون من كلام الشيطان.

و «عذاب» يجوز رفعه بالجار قبله على أنّه الخبر ، وعلى الابتداء وخبره الجار.

قوله تعالى : (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ) الآية لما شرح حال الأشقياء شرح أحوال السّعداء فقال ـ عزوجل ـ (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا) قرأ العامة «أدخل» ماضيا مبنيا للمفعول ، والفاعل الله أو الملائكة.

وقرأ الحسن (٢) وعمرو بن عبيد : «أدخل» مضارعا مستندا للمتكلم وهو الله ـ تعالى ـ فمحل الموصول على الأولى رفع ، وعلى الثانية نصب.

قوله : (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) في قراءة العامة يتعلق ب «أدخل» أي : أدخلوا بأمره ، وتيسيره.

ويجوز تعلقه بمحذوف على أنّه حال ، أي : ملتبسين بأمر ربهم.

وجوز أبو البقاء (٣) أن يكون من تمام : «خالدين» يعني : أنه متعلق به ، وليس بممتنع ، وكذا على قراءة الشّيخين.

__________________

(١) قرأ بها أيضا أبو جعفر ينظر الإتحاف ٢ / ١٦٨.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٥٢ والمحرر الوجيز ٣ / ٣٣٤ والبحر المحيط ٥ / ٤١٠ والدر المصون ٤ / ٢٦٦.

(٣) ينظر : الإملاء ٢ / ٦٨.

٣٧٧

فقال الزمخشريّ : فإن قلت : «فبم يتعلّق في القراءة الأخرى ، وقولك : وأدخل أنا بإذن ربهم كلام غير ملتئم؟.

قلت : الوجه في هذه القراءة أنّه يتعلق بما بعده ، أي : تحيتهم فيها سلام بإذن ربهم».

ورد عليه أبو حيّان (١) هذا بأنه لا يتقدم معمول المصدر عليه.

وقد علقه غير الزمخشريّ ب «أدخل» ، ولا تنافر في ذلك ؛ لأنّ كلّ أحد يعلم أنّ المتكلم في قوله : «وأدخل» أنه هو الله ـ تعالى ـ.

وأحسن من هذين أن يتعلق بما بعده ، أي : تحيتهم فيها سلام بإذن ربهم ورد في هذه القراءة بمحذوف على أنّه حال كما تقدّم تقديره.

و «تحيّتهم» مصدر مضاف لمفعوله ، أي : يحييهم الله تعالى ، أو ملائكته ، ويجوز أن يكون مضافا لفاعله ، أي : يحيى بعضهم بعضا.

ويعضد الأول (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) و (فِيها) [الرعد : ٢٣ ، ٢٤] متعلق به.

فصل

اعلم أنّ الثّواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم ، فأشار بقوله تعالى : (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) إلى المنفعة الخالصة وأشار بقوله: (خالِدِينَ فِيها) إلى دوامها ، وأشار إلى كونها مقرونة بالتعظيم بقوله (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي : بإذن الله وأمره ، وبقوله ـ عزوجل ـ (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) [يونس : ١٠] أي : أنهم يحيى بعضهم بعضا بهذه الكلمة ، أو الملائكة يحيونهم بها ، كما قال تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الرعد : ٢٣ ، ٢٤] والرّب الرحيم أيضا يحييهم [بهذه الكلمة](٢)(سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس : ٥٨] والسلام مشتق من السلامة ، أي : أنهم سلموا من آفات الدنيا وأمنوا من أمراضها وأسقامها.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦) يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ)(٢٧)

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) الآية لما شرح

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤١٠.

(٢) في ب : بهذا الكلام.

٣٧٨

أحوال الأشقياء ، وأحوال السعداء ذكر مثالا للقسمين وفي «ضرب» ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه متعد لواحد بمعنى اعتمد مثلا ووضعه ، و «كلمة» على هذا منصوبة بمضمر ، أي : جعل كلمة طيبة كشجرة طيبة ، وهو تفسير لقوله : «ضرب الله مثلا» كقولك : شرف الأمير زيدا كساه حلّة ، وحمله على ضربين ، وبه بدأ الزمخشريّ.

قال أبو حيان (١) ـ رحمه‌الله ـ : «وفيه تكلف إضمار ، ولا ضرورة تدعو إليه».

قال شهاب الدين (٢) : «بل معناه محتاج إليه فيضطر إلى تقديره محافظة على لمح هذا المعنى الخاص».

الثاني : أنّ «ضرب» متعدية لاثنين ؛ لأنها بمعنى «صيّر» لكن مع لفظ المثل خاصة ، وقد تقدّم تقرير هذا أوّل الكتاب ، فيكون «كلمة» مفعولا أول ، و «مثلا» هو الثاني مقدم.

الثالث : أنّه متعدّ لواحد ، وهو «مثلا» ، و «كلمة» بدل منه ، و «كشجرة» خبر مبتدأ مضمر ، أي : هي كشجرة طيبة وعلى الوجهين قبله يكون «كشجرة» نعتا ل : «كلمة».

وقرىء «كلمة» بالرفع ، وفيه وجهان :

أحدهما : أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي : هو ، أي : المثل كلمة طيبة ، ويكون «كشجرة» على هذا نعتا ل «كلمة».

والثاني : أنّها مرفوعة بالابتداء ، و «كشجرة» خبر.

وقرأ أنس (٣) بن مالك ـ رضي الله عنه ـ «ثابت أصلها».

قال الزمخشريّ (٤) : فإن قلت : أي فرق بين القراءتين؟ قلت : قراءة الجماعة أقوى معنى ؛ لأنّ قراءة أنس أجرت الصفة على الشجرة ، ولو قلت : مررت برجل أبوه قائم ، فهو أقوى من «رجل قائم أبوه» ؛ لأنّ المخبر عنه إنّما هو الأب ، لا «رجل». والجملة من قوله : «أصلها ثابت» في محلّ جرّ نعتا ل «شجرة».

وكذلك (تُؤْتِي أُكُلَها) ويجوز فيهما أن يكونا مستأنفين ، وجوز أبو البقاء في «تؤتي» أن يكون حالا من معنى الجملة التي قبلها ، أي : ترتفع مؤتية أكلها ، وتقدم الخلاف في «أكلها».

فصل

المعنى : ألم تعلم ، والمثل : قول سائر كتشبيه شيء بشيء : (كَلِمَةً طَيِّبَةً) هي قول : لا إله إلا الله (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) وهي النّخلة يريد : كشجرة طيبة الثمر.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤١٠.

(٢) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٦٦.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٥٣ والمحرر الوجيز ٣ / ٣٣٥ والبحر المحيط ٥ / ٤١١ والدر المصون ٤ / ٢٦٦.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٥٣.

٣٧٩

وقال أبو ظبيان عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : هي شجرة في الجنّة أصلها ثابت في الأرض ، وفرعها أعلاها في السماء ، كذلك أصل هذه الكلمة راسخ في قلب المؤمن بالمعرفة ، والتصديق ، فإذا تكلّم بها عرجت ، فلا تحجب حتى تنتهي إلى الله ـ عزوجل ـ قال تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)(١) [فاطر : ١٠]. ووصف الشجرة بكونها طيبة وذلك يشمل طيب الصورة والشكل والمنظر ، والطعم ، والرائحة والمنفعة ويكون أصلها ثابت ، أي : راسخ آمن من الانقطاع ، والزوال ويكون فرعها في السماء ؛ لأن ارتفاع الأغصان يدلّ على ثبات الأصل ، وأنّها متى ارتفعت كانت بعيدة عن عفونات الأرض ، فكانت ثمارها نقيّة طاهرة عن جميع الشّوائب ، ووصفها أيضا بأنها : (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها) والحين في اللغة هو الوقت ، والمراد أنّ ثمار هذه الشجرة تكون أبدا حاضرة دائمة في كلّ الأوقات ولا تكون مثل الأشجار التي تكون ثمارها حاضرة في بعض الأوقات دون بعض.

وقال مجاهد وعكرمة : والحين : سنة كاملة ؛ لأنّ النخلة تثمر كلّ سنة (٢). وقال سعيد بن جبير ، وقتادة والحسن : ستة أشهر من وقت إطلاعها إلى حين صرامها وروي ذلك عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنه (٣).

وقيل : أربعة أشهر من حين ظهورها إلى إدراكها.

وقال سعيد بن المسيب : شهران من حين أن يؤكل منها إلى الصرام (٤).

وقال الربيع بن أنس ـ رضي الله عنه ـ : كل حين ، أي : كل غدوة ، وعشية ، لأن ثمرة النخل تؤكل أبدا ليلا ونهارا صيفا وشتاء إما تمرا رطبا أو بسرا ، كذلك عمل المؤمن يصعد أوّل النهار وآخره ، وبركة إيمانه لا تنقطع أبدا ، بل تتصل في كلّ وقت (٥).

والحكمة في تمثيل الإيمان بالشجرة ، وهي أن الشجرة لا تكون إلا ثلاثة أشياء :

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٣٢).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٤٤٣) عن مجاهد وابن زيد وذكره الماوردي في «تفسيره» (٣ / ١٣٢) ، عن مجاهد والبغوي (٣ / ٣٢) عن مجاهد وعكرمة.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٤٤٢) عن عكرمة وسعيد بن جبير وابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٤٤) عن عكرمة وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.

وذكره عن ابن عباس وزاد نسبته إلى الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم.

وذكره الماوردي (٣ / ١٣٢) عن مجاهد.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٤٤٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٤٥) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٤٤٠ ـ ٤٤١) عن ابن عباس والربيع بن أنس. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٤٥) عن ابن عباس وزاد نسبته إلى البيهقي.

٣٨٠