اللّباب في علوم الكتاب - ج ١١

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١١

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥١٠

فصل

قال ابن عبّاس ، وأبيّ بن كعب ، ومجاهد وقتادة ـ رضي الله عنهم ـ وذكرهم بنعم الله (١). وقال مقاتل : بوقائع الله في الأمم السّالفة (٢). يقال : فلان عالم بأيّام العرب ، أي : بوقائعهم ، فأراد بما كان في أيّام الله من النّعمة ، والمحنة فاجتزأ بذكر الأيام عنه ؛ لأنّها كانت معلومة عندهم ، والمعنى : عظهم بالترغيب والترهيب ، والوعد ، والوعيد ، فالتّرغيب ، والوعد : أن يذكرهم ما أنعم الله عليهم وعلى من قبلهم ممن آمن بالله ممن سلف من الأمم والترهيب والوعيد أن يذكرهم بأس الله وعذابه النازل بمن كذب بالرسل فيما سلف من الأيّام ، كعاد ، وثمود وغيرهم.

واعلم أن أيّام الله في حقّ موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ منها ما كانت أيام محنة وبلاء ، وهي الأيام التي كانت بنو إسرائيل تحت قهر فرعون.

ومنها : ما كانت راحة ونعما كأيّام إنزال المن ، والسلوى ، وفلق البحر ، وتظليل الغمام.

(إِنَّ فِي ذلِكَ) التّذكر «لآيات» دلائل (لِكُلِّ صَبَّارٍ) كثير الصّبر (شَكُورٍ) كثير الشّكر.

فإن قيل : ذلك التذكر آيات للكلّ ، فلم خصّ الصّبّار الشّكور بالذّكر؟.

فالجواب : أنهم هم المنتفعون بالذكر بتلك الآيات كقوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ).

وقيل : لأن الانتفاع بهذا النّوع من الذكر لا يمكن حصوله إلا للصّبّار الشّكور.

ولما أمر موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يذكرهم بأيّام الله ، وحكى عن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنّه ذكّرهم فقال تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ).

فقوله : (أَنْجاكُمْ) ظرف للنعمة ، بمعنى الإنعام ، أي : اذكروا نعمة الله عليكم في ذلك الوقت.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٤١٧ ، ٤١٨) عن مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٣٢) عن ابن عباس وعزاه إلى ابن المنذر وعبد الرزاق.

وذكره الماوردي في «النكت والعيون» (٣ / ١٢٢) عن مجاهد وقتادة. وكذا البغوي في «تفسيره» (٣ / ٢٦).

وقد ورد هذا المعنى مرفوعا من حديث أبي بن كعب :

أخرجه عبد الله ابن الإمام أحمد في «زوائد المسند» (٥ / ١٢١) والنسائي في «الكبرى ـ كتاب التفسير» (٦ / ٣٧١).

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٣٢) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في «شعب الإيمان».

قال ابن كثير في «تفسيره» (٢ / ٥٢٣) : ورواه عبد الله أيضا موقوفا وهو أشبه.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٢٦).

٣٤١

قوله : (إِذْ أَنْجاكُمْ) يجوز فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون منصوبا ب «نعمة».

الثاني : أن يكون منصوبا ب «عليكم» ، ويوضح ذلك ما ذكره الزمخشري رحمه‌الله فإنه قال (١) : «إذ أنجاكم» ظرف للنعمة بمعنى الإنعام ، أي : إنعامه عليكم ذلك الوقت.

فإن قلت : هل يجوز أن ينتصب ب «عليكم»؟.

قلت : «لا يخلو إما أن يكون [إنعامه](٢) صلة للنعمة بمعنى الإنعام [أو غير](٣) صلة ، إذا أردت بالنعمة العطية ، فإذا كان صلة لم يعمل فيه ، وإذا كان غير صلة بمعنى اذكروا نعمة الله مستقرة عليكم عمل فيه ، ويتبين الفرق بين الوجهين ، أنّك إذا قلت : نعمة الله عليكم ، فإن جعلته صلة لم يكن كلاما حتى تقول فائضة أو نحوها وإلا كان كلاما».

الثالث : أنه بدل من نعمة أي : اذكروا وقت إنجائكم ، وهو بدل اشتمال ، وتقدم الكلام في «يسومونكم».

قوله : «ويذبحون» حال أخرى من آل فرعون ، وفي البقرة دون «واو» لأن قصد التفسير لسؤال العذاب ، وفي التفسير لا يحسن ذكر الواو ، تقول : أتاني القوم : زيد وعمرو ، وذلك قوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ) [الفرقان : ٦٨ ، ٦٩] لما فسر الآثام بمضاعفة العذاب حذف الواو ، وهاهنا أدخل الواو بمعنى أنهم يعذبونهم بالتذبيح وبغيره ، فالسوم هنا غير السوم هناك.

وقرأ ابن محيصن «يذبحون» مخففا ، و (يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) يتركونهن أحياء ، «وفي ذلك بلاء من ربكم عظيم» ، وفي كونه بلاء وجهان :

الأول : أن تمكين الله إياهم من ذلك الفعل بلاء من الله.

والثاني : أن ذلك إشارة إلى الإنجاء ، وهو بلاء عظيم ، والبلاء هو الابتلاء ، وذلك قد يكون بالنعمة تارة ، وبالمحنة أخرى ، قال تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء : ٣٥] وهذا أولى لأنه موافق لأول الآية وهو قوله : (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) ، قاله ابن الخطيب ـ رحمه‌الله ـ.

قوله : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ) يجوز أن يكون نسقا على : (إِذْ أَنْجاكُمْ) ، وأن يكون منصوبا ب «اذكروا» مفعولا لا ظرفا.

وجوّز فيه الزمخشري : أن يكون نسقا على : «نعمة» فهو من قول موسى ، والتقدير وإذ قال موسى اذكروا نعمة الله ، واذكروا حين تأذن ، وقد تقدّم نظير ذلك في الأعراف (٤).

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٤٠.

(٢) زيادة من أ.

(٣) في ب : أو لا يكون.

(٤) آية (١٤١).

٣٤٢

ومعنى : «تأذّن» آذن ربكم إيذانا بليغا ، أي : أعلم ، يقال : أذّن وتأذّن بمعنى واحد مثل : أوعد وتوعّد ، روي ذلك عن الحسن وغيره ومنه الأذان ؛ لأنه إعلام قال الشاعر : [الوافر]

٣١٩٥ ـ فلم نشعر بضوء الصّبح حتّى

سمعنا في مجالسنا الأذينا (١)

وكان ابن مسعود (٢) يقرأ «وإذ قال ربّكم» والمعنى واحد.

فيقال : «(لَئِنْ شَكَرْتُمْ») نعمتي ، وآمنتم ، وأطعتم : (لَأَزِيدَنَّكُمْ) في النعمة.

وقيل : لئن شكرتم بالطّاعة «لأزيدنكم» في الثواب.

والآية نصّ في أنّ الشكر سبب المزيد : (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ) نعمتي فجحدتموها ، ولم تشكروها : (إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ).

وقيل : المراد الكفر ؛ لأن كفران النعمة لا يحصل إلا عند الجهل بكون تلك النعمة من الله ـ تعالى ـ.

قوله : (وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) أي : غني عن خلقه حميد محمود في أفعاله.

والمعنى : أن منافع الشكر ومضار الكفر لا تعود إلا إلى الشّاكر والكافر ، أمّا المعبود والمشكور فإنّه متعال عن أن ينتفع بالشّكر ، أو يستضر بالكفران ، فلا جرم قال تعالى : (وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ).

والغرض منه : بيان أنه ـ تعالى ـ إنّما أمر بهذه الطّاعات لمنافع عائدة إلى العابد لا إلى المعبود.

قوله تعالى : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ

__________________

(١) ينظر : القرطبي ٥ / ٣٧٩.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٤١ ، والبحر المحيط ٥ / ٣٩٦.

٣٤٣

لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ)(١٤)

ثم قال : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) الآية النّبأ : الخبر ، والجمع الأنباء ؛ قال الشاعر : [الوافر]

٣١٩٦ ـ ألم يأتيك والأنباء تنمي

 ........... (١)

قال أبو مسلم : «يحتمل أن يكون خطابا من موسى ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ [لقومه ، يخوفهم بمثل هلاك من تقدمهم ، ويجوز أن يكون مخاطبة من الله تعالى على لسان موسى ـ عليه‌السلام ـ](٢) لقومه : يذكرهم أمر القرون الأولى ؛ ليعتبروا بأحوال المتقدمين».

روي عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه قرأ هذه الآية ثمّ قال : «كذب النّسّابون» (٣).

وعن عبد الله بن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ قال : بين إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ وبين عدنان ثلاثون [أبا](٤) لا يعلمهم إلا (٥) الله وكان مالك بن أنس ـ رضي الله عنه ـ يكره أن ينسب الإنسان [نفسه أبا أبا](٦) إلى آدم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وكذلك في حق النبي ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ؛ لأنه لا يعلم أولئك الآباء أحد إلا الله تعالى ، ونظيره : قوله تعالى: (وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) [الفرقان : ٣٨] وقوله : (مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) [غافر : ٧٨] وكان ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ في نسبه لا يجاوز معد بن عدنان.

وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «تعلّموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم وتعلموا من النّجوم ما تستدلّون به على الطّريق» (٧).

__________________

(١) تقدم.

(٢) سقط في ب.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٤٢١) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٣٤) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وذكره الماوردي في «تفسيره» (٣ / ١٢٤) والبغوي (٣ / ٢٧).

(٤) في أ : قرنا.

(٥) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٣ / ١٢٤) والبغوي في «تفسيره» (٣ / ٢٧). وقد ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٣٥) وعزاه إلى أبي عبيد وابن المنذر.

(٦) في ب : أباه.

(٧) أخرجه أحمد (٢ / ٣٧٤) والترمذي (٤ / ٣٥١) كتاب البر والصلة : باب ما جاء في تعليم النسب حديث (١٩٧٩) والبغوي في «شرح السنة» (٦ / ٤٣٥).

ـ الشطر الأول منه ـ من حديث أبي هريرة.

وقال الترمذي : هذا حديث غريب من هذا الوجه.

٣٤٤

وقيل : المراد بقولهم : «لا يعلمهم» أي : عددهم ، وأعمارهم ، وكيفياتهم.

وقال عروة بن الزبير : «ما وجدنا أحدا يعرف ما بين عدنان ، وإسماعيل» (١).

قوله : «قوم نوح» بدل ، أو عطف.

قوله : (وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) «يجوز أن يكون عطفا على الموصول الأول ، أو على المبدل منه ، وأن يكون مبتدأ خبره : (لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) ، (وَجاءَتْهُمْ) خبر آخر وعلى ما تقدم يكون : (لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) حالا من «الّذين» أو من الضمير في : «من بعدهم» لوقوعه صلة».

وهذا عنى أبو البقاء (٢) بقوله : حال من الضمير في : «من بعدهم» ولا يريد به الضمير المجرور ؛ لأنّ مذهبه منع الحال من المضاف ، وإن كان بعضهم جوزه في صوره وجوز أيضا هو والزمخشري أن يكون استئنافا.

وقال الزمخشري (٣) : «والجملة من قوله : (لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) اعتراض».

ورد عليه أبو حيان (٤) : بأن الاعتراض إنما يكون بين جزءين ، أحدهما يطلب الآخر.

ولذلك لما أعرب الزمخشريّ : «والّذين» مبتدأ ، و «لا يعلمهم» خبره ، قال : «والجملة من المبتدأ ، والخبر اعتراض» ، واعترضه أبو حيّان أيضا بما تقدّم.

ويمكن أن يجاب عنه في الموضعين : بأن الزمخشري يمكن أن يعتقد أن : «جاءتهم» حال مما تقدّم ، فيكون الاعتراض واقعا بين الحال وصاحبها ، وهو كلام صحيح.

قوله تعالى : (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) يجوز أن تكون الضمائر للكفار ، أي : فردّ الكفار أيديهم في أفواههم من الغيظ ، لقوله : (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) [آل عمران : ١٠٩] قاله ابن عباس ، وابن مسعود (٥) ، والقاضي.

قال القرطبيّ : وهذا أصح الأقوال ، قال الشاعر : [الرجز]

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٣٥) وعزاه إلى أبي عبيد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) ينظر : الإملاء ٢ / ٦٦.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٤٢.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٩٧.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٤٢٢ ، ٤٢٣) عن ابن مسعود وابن عباس وأخرجه الحاكم (٢ / ٣٥٠ ـ ٣٥١) عن عبد الله بن مسعود.

وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٣٥) عن ابن مسعود وزاد نسبته إلى عبد الرزاق والفريابي وأبي عبيد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني.

وذكره الماوردي في «تفسيره» (٣ / ١٢٤) والبغوي (٣ / ٢٧).

٣٤٥

٣١٩٧ ـ لو أنّ سلمى أبصرت تخدّدي

ودقّة في عظم ساقي ويدي

وبعد أهلي وجفاء عوّدي

عضّت من الوجد بأطراف اليد (١)

وقد مضى هذا المعنى في آل عمران [١٠٩] ف «في» على بابها من الظرفية ، أي : فردّوا أيديهم على أفواههم ضحكا ، واستهزاء ، ف «في» بمعنى «على» وأشاروا إلى ألسنتهم وما نطقوا به من قولهم : إنّا كفرنا ، ف «عن» بمعنى «إلى» ويجوز أن يكون المرفوع للكفار ، والأحزان للرسل صلوات الله وسلامه عليهم على أن يراد بالأيدي : النّعم ، أي : ردوا نعم الرسل وهي مصالحهم في أفواه الرسل ؛ لأنهم إذا كذبوها كأنهم رجعوا بها من حيث جاءت على سبيل المثال ، ويجوز أن يراد المعنى ، والمراد بالأيدي : الجوارح ، ويجوز أن يكون الأولان للكفّار ، والأخير للرسل ، فرد الكفار أيديهم في أفواههم أي في أفواه الرسل ، أي : أطبقوا أفواههم يشيرون إليهم بالسّكوت ، أو وضعوها على أفواههم يمنعونهم بذلك من الكلام.

وقيل : «في» هنا بمعنى الباء. قال الفراء : «قد وجدنا من العرب من يجعل «في» موضع الباء ، يقال : أدخلت بالجنّة ، وأدخلت في الجنّة» وأنشد : [الطويل]

٣١٩٨ ـ وأرغب فيها عن لقيط ورهطه

ولكنّني عن سنبس لست أرغب (٢)

أي : أرغب بها.

وقال أبو عبيدة ـ رحمه‌الله ـ : هذا ضرب مثل يقوله العرب : رد يده إلى فيه إذا ترك ما أمر به.

ورد عليه : بأن من حفظ حجّة على من لم يحفظ.

وقال أبو مسلم : المراد باليد : ما نطقت به الرّسل من الحجج ؛ لأنّ إسماع الحجّة إنعام عظيم ، والإنعام يسمى يدا ، يقال لفلان عندي يد ، إذا أولاه معروفا وقد يذكر اليد والمراد منها صفقة البيع والعقد ، كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [الفتح : ١٠] فالبينات التي ذكرها الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ وقرّروها لهم نعم وأياد ، وأيضا : العهود التي أتوا بها مع القوم أيادي. وجمع اليد في القلة : أيدي ، وفي الكثرة أيادي.

وإذا ثبت أنّ بيانات الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وعهودهم يصح تسميتها بالأيدي والنصائح ، والعهود إنّما تظهر من الفم ، فإذا لم تقبل صارت مردودة إلى حيث جاءت فلما كان القبول تلقيا بالأفواه عن الأفواه كان الدفع ردّا في الأفواه.

__________________

(١) ينظر : القرطبي ٥ / ٣٨١ ، الكامل ١ / ١١٨ ، فتح القدير ٣ / ٩٧.

(٢) ينظر : اللسان (ذرأ) ، التهذيب (ذرأ) ، البحر المحيط ٥ / ٣٩٨ ، الطبري ١٦ / ٥٣٥ ، روح المعاني ١٣ / ١٩٣ ، معاني الفراء ٢ / ٧٠ ، الدر المصون ٤ / ٢٥٣.

٣٤٦

ونقل محمد بن جرير عن بعضهم : أنّ معنى قوله تعالى : (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) أي : سكتوا عن الجواب ، يقال للرجل إذا أمسك عن الجواب : ردّ يده في فيه ، إذا لم يجبه ، ثمّ زيف هذا الوجه وقال : إنّهم أجابوا بالتّكذيب وقالوا : إنّا بما أرسلتم به كافرون وقالوا : (إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ).

قوله تعالى : (وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) قرأ طلحة (١) : «تدعونّا» بإدغام نون الرفع في نون الضمير كما يدغم في نون الوقاية ، والمعنى : في شكّ مريب موقع في الريبة أي : ذي ريبة من أرابه ، والريبة : لقلق النفس ، وألّا [تطمئن](٢) إلى الأمر.

فإن قيل : لما ذكروا أنهم قالوا : إنّا كافرون برسالتكم ، وإن لم ندع هذا الجزم واليقين ، فلا أقل من أن نكون شاكين مرتابين في صحة نبوتكم وعلى هذا التقدير فلا سبيل إلى الاعتراف بنبوتكم.

قوله تعالى : (قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌ) الآية لما قالوا للرّسل : وإنا لفي شك ، قالت لهم رسلهم وهل تشكون في الله ، وهو فاطر السموات ، والأرض وفاطر أنفسنا ، وأرواحنا ، وأرزاقنا إنّا لا ندعوكم إلا لعبادة هذا الإله المنعم ، ولا نمنعكم إلا من عبادة غيره ، وهذه المعاني يشهد لها العقل بصحتها ، فكيف قلتم : وإنّا لفي شكّ؟.

قوله : (أَفِي اللهِ شَكٌ) استفهام بمعنى الإنكار ، وفي «شكّ» وجهان :

أظهرهما : أنه فاعل بالجار قبله ، وجاز ذلك لاعتماده على الاستفهام.

والثاني : أنه مبتدأ ، وخبره الجار ، والأول أولى ؛ بل كان ينبغي أن يتعين ؛ لأنه يلزم من الثاني الفصل بين الصفة ، والموصوف بأجنبيّ ، وهو المبتدأ وهذا بخلاف الأوّل ، فإن الفاصل ليس أجنبيّا ، إذ هو فاعله ، والفاعل كالجزء من رافعه.

ويدلّ على ذلك تجويزهم : «ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد» بنصب «أحسن» صفة ورفع «الكحل» فاعلا ب «أفعل» ولم يضر الفصل به بين «أفعل» وبين «من» لكونه كالخبر من رافعه ولم يجيزوا رفع : «أحسن» خبرا مقدما ، و «الكحل» مبتدأ مؤخر لئلا يلزم الفصل بين «أفعل» وبين «من» بأجنبي.

ووجه الاستشهاد في هذه المسألة : أنّهم جعلوا المبتدأ أجنبيّا بخلاف الفاعل ولهذه المسألة موضع غير هذا.

وقرأ العامة «فاطر» بالجر وفيه وجهان : النعت والبدلية.

قال أبو البقاء وفيه نظر ؛ لأنّ الإبدال بالمشتقات يقلّ ، ولو جعله عطف بيان كان أسهل.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٣٢٧ والبحر المحيط ٥ / ٣٩٨ ، والدر المصون ٤ / ٢٥٤.

(٢) في ب : تظهر.

٣٤٧

قال الزمخشريّ (١) : «أدخلت همزة الانكار على الظرف ؛ لأنّ الكلام ليس في الشكّ إنّما هو في المشكوك فيه ، وأنّه لا يحتمل الشّك لظهور الأدلّة ، وشهادته عليه».

قوله : (يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ) اللام متعلقة بالدّعاء ، أي : لأجل غفران ذنوبكم ؛ كقوله : [المتقارب]

٣١٩٩ ـ دعوت لمّا نابني مسورا

فلبّى فلبّي يدي مسور (٢)

ويجوز أن تكون اللام معدية كقولك : «دعوتك لزيد» ، وقوله : «إذ تدعون إلى الإيمان» ، والتقدير : يدعوكم إلى غفران ذنوبكم.

لما استفهم بمعنى نفي ما اعتقدوه ، أردفه بالدلائل الدالة على وجود الصانع المختار ، فقال : (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي خالق السماوات والأرض (يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي : ذنوبكم و «من» صلة ، وقيل : «من» تبعيضية ، وقيل : بمعنى البدل ، أي : بدل عقوبة ذنوبكم كقوله تعالى : (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) [التوبة : ٣٨] وسيأتي الكلام على هذه الوجوه.

(وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) إلى حين استيفاء أجلكم ، ولا يعاجلكم بالعذاب ، قال بعض العلماء : إن الفطرة شاهدة بوجود الصانع المختار قبل الوقوف على الدلائل ، وذلك من وجوه :

الأول : قال بعض العقلاء : إن من لطم وجه صبي لطمة ، فتلك اللطمة تدل على وجود الصانع المختار ، وعلى وجود التكليف ، وعلى وجود دار الجزاء ، وعلى وجود النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أما دلالتها على وجود الصانع ؛ فإن الصبي العاقل إذا لطم يصيح ويقول من ذا الذي لطمني؟ وما ذاك إلا أن فطرته شاهدة بأن هذه اللطمة لما حدثت بعد عدمها وجب أن يكون حدوثها لأجل فعل فاعلها ، فلما شهدت فطرته الأصلية بافتقار ذلك الحادث الحقير إلى الفاعل ، فبأن تشهد جميع حوادث العالم بالافتقار إلى الفاعل أولى.

وأما دلالتها على وجود التكليف ؛ فبأن الصبي يصيح ويقول : ضربني ذلك الضارب ، وهذا يدل على أن فطرته شهدت بأن الأفعال الإنسانية داخلة تحت الأمر والنهي ، ومندرجة تحت التكليف ، وأن الإنسان ما خلق ليفعل ما اشتهى.

وأما دلالتها على وجود دار الجزاء فهو : أن ذلك الصبي يطلب بطبعة الجزاء على تلك اللّطمة ولا يتركه ، فلما شهدت فطرته الأصلية بوجوب الجزاء على ذلك العمل القليل ، فبأن تشهد على وجوب الجزاء على جميع العباد والأعمال أولى.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٤٢.

(٢) تقدم.

٣٤٨

وأما دلالتها على وجوب النبوة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنهم يحتاجون إلى إنسان يبين لهم مقدار العقوبة الواجبة في تلك الجناية ، كم هي؟ ولا معنى للنبي إلا الإنسان الذي قدر هذه ويبين هذه الأحكام ؛ فثبت أن فطرة العقل حاكمة بأن الإنسان لا بد له من هذه الأربعة.

الوجه الثاني في أنّ الإقرار بوجود الصّانع بديهي : وهو أنّ الفطرة شاهدة بأن حدوث دار بنقوش عجيبة ، وتركيبات لطيفة موافقة للحكمة ، والمصلحة تستحيل إلّا من نقاش عالم ، وبان حكيم ، ومعلوم أنّ آثار الحكمة في العالم العلوي ، والسفلي أكثر من الآثار الموجودة في تلك الدار المختصرة ، فلمّا شهدت الفطرة الأصليّة بافتقار النّقش إلى النّقاش ، والبناء إلى الباني ، فبأن تشهد بافتقار كل هذا العالم إلى الفاعل المختار الحكيم أولى.

الوجه الثالث : أنّ الإنسان إذا وقع في محنة شديدة ، فإنه بأصل فطرته ، وخلقته يتضرّع إلى من يخلصه منها ، وما ذاك إلّا شهادة فطرته بالافتقار إلى الصّانع القادر المدبر.

الرابع : أن الموجود إمّا أن يكون غنيّا عن المؤثر ، أو لا يكون ، فإن كان غنيا عن المؤثر فهو الموجود الواجب لذاته ؛ لأنه لا معنى للواجب لذاته إلّا الموجود الذي لا حاجة له إلى غيره ، وإن لم يكن غنيّا عن المؤثر فهو محتاج ، والمحتاج لا بد له من المحتاج إليه ، وذلك هو الصّانع المختار.

الوجه الخامس : أن الاعتراف بوجود الصانع المختار المكلف وبوجود المعاد أحوط فوجب المصير إليه ، أما كون الإقرار بوجود الصّانع أحوط لأنه لو لم يكن موجودا فلا ضرر في الإقرار بوجوده ، وإن كان موجودا ففي إنكاره أعظم المضار.

وأمّا كون الإقرار بكونه فاعلا مختارا أحوط ، فلأنه إن لم يكن موجودا فلا خير في الإقرار بكونه مختارا.

أمّا لو كان موجودا ففي إنكار كونه مختارا أعظم المضار.

وأمّا كون الإقرار بكونه مكلفا لعباده أحوط ، فلأنه لو لم يكلف أحدا من عبيده شيئا فلا ضرر في اعتقاد أنه كلف العباد ففي إنكار التكاليف أعظم المضار.

وأمّا كون الإقرار [بوجود](١) المعاد أحوط ؛ فلأنه إن كان الحق أن لا معاد ؛ فلا ضرر في الإقرار بوجود المعاد فإنه لا يفوت إلا هذه اللذات الجسمانية ، وهي منقضية فانية ، فإن كان الحق وجوب المعاد ففي إنكاره أعظم المضار ، فظهر أن الإقرار بهذه المقامات أحوط فوجب المصير إليه ، لأن بديهة العقل حاكمة بوجوب دفع الضرر عن النّفس بقدر الإمكان ، والله أعلم.

__________________

(١) في ب : بدار.

٣٤٩

فصل

لما استدلّ بكونه فاطر السموات والأرض وصف نفسه بكمال الرحمة والكرم ، والجود من وجهين :

الأول : قوله : (يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ).

قال الزمخشريّ (١) ـ رحمه‌الله ـ : «لو قال قائل : ما معنى التبعيض في قوله تعالى : (مِنْ ذُنُوبِكُمْ)؟.

ثم أجاب : فقال : ما جاء هكذا إلّا في خطاب الكفار ، كقوله تعالى : (وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) [نوح : ٣ ، ٤] ، و (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) [الأحقاف : ٣١] وقال في الخطاب للمؤمنين : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) [الصف : ١٠] إلى أن قال : (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) [الصف : ١٢] قال : والاستقراء يدلّ على صحّة ما ذكرناه.

ثم قال : وكان ذلك للتّفرقة بين الخطابين لئلا يسوّى بين الفريقين في المعاد.

وقيل : أريد به : يغفر لهم ما بينهم وبين الله بخلاف ما بينهم وبين العباد من المظالم.

وقال الواحدي : قال أبو عبيدة : «من» زائدة ، وأنكر سيبويه زيادتها وإذا قلنا : ليست بزائدة ، ففيها وجهان :

أحدهما : أنه ذكر البعض ههنا ، وأراد الجمع توسعا.

والثاني : أن «من» ههنا للبدل ، أي : لتكون المغفرة بدلا من الذّنوب فدخلت «من» لتضمن المغفرة معنى إبدالها من الذّنوب.

وقال القاضي (٢) : ذكر الأصم أنّ كلمة «من» ههنا تفيد التبعيض ، أي : أنكم إذا [تبتم](٣) يغفر لكم الذّنوب التي هي من الكبائر ، وأمّا التي تكون من الصغائر ، فلا حاجة إلى غفرانها ؛ لأنها في أنفسها مغفورة.

قال القاضي (٤) : وقد أبعد في هذا التأويل ؛ لأنّ الكفار صغائرهم ، ككبائرهم لا تغفر إلا بالتّوبة ، وإنما تكون الصّغائر مغفورة من الموحدين من حيث يزيد ثوابهم على عقابهم فأمّا من لا ثواب له أصلا ، فلا يكون شيء من ذنوبه صغيرة ، فلا يغفر له شيء ، ثم قال : وفيه وجه آخر : وهو أنّ الكافر قد ينسى بعض ذنوبه في حال توبته ، وإيمانه ؛ فلا يغفر له شيء من ذنوبه ، فلا تكون المغفرة إلا لما ذكره وتاب عنه.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٤٣.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ١٩ / ٧٤.

(٣) في ب : آمنتم.

(٤) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٩ / ٧٤.

٣٥٠

فصل

قال ابن الخطيب (١) : دلت الآية على أنه ـ تعالى ـ يغفر الذنوب من غير توبة في حق المؤمن ، لأنه قال (يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) وعد بغفران الذنوب مطلقا من غير اشتراط التوبة ؛ فوجب أن يغفر بعض الذنوب مطلقا من غير التوبة ، وذلك البعض ليس هو الكفر لانعقاد الإجماع على أنه ـ تعالى ـ لا يغفر الكفر إلا بالتوبة عنه والدخول في الإيمان ؛ فوجب أن يكون البعض الذي يغفر من غير التوبة ما عدا الكفر من الذنوب.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إن كلمة «من» صلة على ما قاله أبو عبيدة أو نقول : المراد منه تمييز خطاب المؤمن عن الكافر على ما قاله الزمخشريّ ، أو نقول : المراد تخصيص الغفران بالكبائر على ما قاله الأصم ، أو نقول : المراد منه الذنوب التي يذكرها الكافر عند إسلامه ، كما قاله القاضي.

فنقول هذه الوجوه بأسرها ضعيفة ، أمّا كونها صلة فمعناه الحكم على كلمة من كلام الله ـ عزوجل ـ بأنّها عبث والعاقل لا يجوز له المصير إليه من غير ضرورة.

وأما قول الواحدي : المراد من كلمة «من» ههنا الكل فهو عين ما قاله أبو عبيدة ؛ لأن حاصله أنّ قوله تعالى ـ جل ذكره ـ (لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي : يغفر لكم ذنوبكم ، وهذا عين ما نقله عن أبي عبيدة ، وحكى عن سيبويه إنكاره.

وأما قوله : المراد منه إبدال السيئة بالحسنة ، فليس في اللغة أنّ كلمة «من» تفيد الإبدال.

وأما قول الزمخشري (٢) : المراد تمييز خطاب المؤمنين من خطاب الكافرين بمزيد التشريف فهو من باب الطاعات ، لأن هذا التبعيض إن حصل ، فلا حاجة إلى ذكر هذا الجواب وإن لم يحصل كان هذا الكلام فاسدا.

وأما قول الأصم ، فقد سبق بطلانه.

وأمّا قول القاضي (٣) : فجوابه أنّ الكافر إذا أسلم ؛ غفرت ذنوبه بأسرها ، لقوله ـ عليه‌السلام ـ : «التّائب من الذنب كمن لا ذنب له» (٤).

وقال تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [الأنفال : ٣٨] فثبت أنّ جميع ما ذكروه من التأويلات ضعيف ساقط ، بل المراد ما ذكرناه هو أنّه يغفر بعض ذنوبه من غير توبة ؛ بشرط أن يأتي بالإيمان ، فبأن تحصل هذه الحال للمؤمن أولى.

__________________

(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٩ / ٧٤.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٤٣.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٩ / ٧٥.

(٤) آية : (٢).

٣٥١

قال تعالى : (وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى). قيل : المعنى : إن آمنتم ، أخر الله موتكم إلى أجل مسمى ، وإلا عاجلكم بعذاب الاستئصال.

وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : يمنعكم في الدّنيا باللذات إلى الموت (١).

فإن قيل : أليس قال : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف : ٣٤]. فكيف قال هنا : (وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى)؟.

قلنا : تقدّم الكلام في هذه المسألة في قوله : (ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى) في الأنعام(٢).

ولما ذكر الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ هذا الكلام للكفار قالوا : «إن أنتم إلا بشر مثلنا» وهذا الكلام يشتمل على ثلاثة أنواع من الشبه :

الأولى : أن الأشخاص الإنسانية متساوية في تمام الماهية فيمتنع أن يبلغ التفاوت بين تلك الأشخاص إلى هذا الحد وهو أن يكون الواحد منهم رسولا من الله تعالى مطلعا على الغيب ، مخالطا لزمرة الملائكة ، والباقون غافلون عن هذه الأحوال أيضا كانوا يقولون : إن كنت قد فارقتنا في هذه الأحوال العالية الإلهية الشريفة وجب أيضا أن تفارقنا في الأحوال الخسيسة ، وهي الحاجة إلى الأكل ، والشرب ، والحديث والوقاع ، وهذه الشبهة هي المراد من قولهم (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) : أي في الصورة ولستم ملائكة ، وإنّما تريدون بقولكم أن تصدّونا عمّا كان يعبد آباؤنا.

وهذه الشبهة الثانية ، وهي التمسك بالتقليد ، وهي أنهم وجدوا آباءهم وعلماءهم مطبقين على عبادة الأوثان.

قالوا : ويبعد أن أولئك القدماء على كثرتهم وقوة خاطرهم لم يعرفوا بطلان هذا الدين.

الشبهة الثالثة : قالوا : المعجز لا يدلّ على الصدق ؛ لأن الذي جاء به أولئك الرسل طعنوا فيه وزعموا أنّها أمور معتادة ليست من باب المعجزات الخارجة عن قوّة البشر ؛ فلذلك قالوأ : (فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي : بحجة بينة على صحّة دعواكم.

قوله «تريدون» يجوز أن يكون صفة ثانية ل «بشر» وحمل على معناه ، لأنه بمنزلة القوم والرهط ، كقوله : (أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) [التغابن : ٦] وأن يكون مستأنفا.

وقوله : (أَنْ تَصُدُّونا) العامة على تخفيف النون ، وقرأ طلحة بتشديدها (٣) كما شدد : «تدعونّا» وفيها تخريجان :

__________________

(١) تقدم.

(٢) ذكره الرازي في تفسيره (١٩ / ٧٥).

(٣) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٩٩ ، الدر المصون ٤ / ٢٥٤.

٣٥٢

أحدهما : ما تقدّم في نظيرتها على أن تكون هي المخففة لا النّاصبة ، واسمها ضمير الشأن ، وشذّ عدم الفصل بينها ، وبين الجملة الفعلية.

والثاني : أنّها ناصبة ، ولكن أهملت حملا على «ما» المصدرية كقراء : (أَنْ يُتِمَ) [البقرة : ٢٣٣]. برفع «يتمّ» وقد تقدّم القول فيه.

قوله تعالى : (قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) الآية لما حكى عن الكفّار طعنهم في النّبوة حكى عن الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ جوابهم فقالوا : (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) سلموا أنّ الأمر كذلك لكنهم بيّنوا أن التماثل في البشرية لا يمنع من اختصاص بعض البشر بمنصب النبوة ؛ لأنّ هذا المنصب يمنّ الله به على من يشاء من عباده ، وإذا كان كذلك سقطت شبهتكم.

وأمّا الجواب عن شبهة التقليد وهي قولهم : إطباق السلف لذلك الدين يدل على كونه حقّا ، فجوابه عين الجواب المذكور ، وهو أنّه لا يبعد أن يظهر للرّجل الواحد ما لم يظهر للخلق الكثير ؛ لأن التمييز بين الحق ، والباطل ، والصدق ، والكذب عطية من الله وفضل منه ؛ فلا يبعد أن يخص عبده بهذه العطية ، ويحرم الجمع العظيم منها.

وأما الجواب عن الشبهة الثالثة وهي قولهم : إنا لا نرضى بهذه المعجزات التي أتيتم بها ، وإنما نريد معجزات قاهرة أقوى منها ، فأجابوا عنها بقولهم : (وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي : أنّ المعجزة التي أتينا بها حجة قاطعة قوية ودليل تام ، وأمّا الأشياء التي طلبتموها ، فأمور زائدة والحكم فيها لله ـ تعالى ـ فإن أظهرها فله الفضل ، وإن لم يظهرها فله العدل ، ولا يحكم بعد ظهور قدر الكفاية.

قوله : (وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ) يجوز أن يكون خبر : «كان» «لنا» ، و : (أَنْ نَأْتِيَكُمْ) اسمها ، أي : وما كان لنا إتيانكم بسورة ، و (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) حال ، ويجوز أن يكون الخبر (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) ، و «لنا» تبيين.

والظاهر أنّ الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ لما أجابوا عن شبهاتهم بهذا الجواب أخذ القوم في التّخويف ، والوعيد فعند ذلك قال الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ لا نخاف من تخويفكم بعد أن توكلنا على الله : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).

قوله : (وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ) كقوله سبحانه : (وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ) [البقرة : ٢٤٦].

والمعنى : وما لنا أن لا نتوكل على الله ، وقد عرفنا أنه لا ينال شيء إلا بقضائه وقدره : (وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا) بين لنا الرشد وبصرنا طريق النجاة.

قوله : «ولنصبرنّ» جواب قسم ، وقوله : (عَلى ما آذَيْتُمُونا) يجوز أن تكون «ما» مصدرية ، وهو الأرجح لعدم الحاجة إلى رابط ادعي حذفه على غير قياس.

٣٥٣

والثاني : أنها موصولة اسمية ، والعائد محذوف على التدريج ؛ إذ الأصل : آذيتمونا به ، ثم حذفت الباء فوصل الفعل إليه بنفسه وقرأ الحسن (١) ـ رحمه‌الله ـ : بكسر لام الأمر في : «فليتوكّل» وهو الأصل.

والمراد بهذا التوكل على الله في دفع شر الكفار فلا يلزم التكرار وقيل : الأول لاستحداث التوكل ، والثاني طلب دوامه.

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ) الآية لما حكى عن الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ توكلهم على الله في دفع شرور أعدائهم حكى عن الكفار أنهم بالغوا في لسفاهة وقالوا : «لنخرجنّكم من أرضنا أو لتعودنّ في ملّتنا» أي لا بد من أحد الأمرين.

قوله : «لنخرجنكم» جواب قسم مقدر ، كقوله : «ولنصبرن» وقوله : «أو لتعودن» في «أو» ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها على بابها من كونها لأحد الشيئين.

والثاني : أنها بمعنى «حتّى».

والثالث : أنها بمعنى «إلّا» كقولهم : لألزمنّك أو تقضيني حقّي.

والقولان الأخيران مردودان ، إذ لا يصح تركيب «حتّى» ولا تركيب «إلّا» مع قوله «لتعودن» بخلاف المثال المتقدم ، والعود هنا يحتمل أن يكون على بابه أي : لترجعن و (فِي مِلَّتِنا) متعلق به ، وأن يكون بمعنى الصيرورة ، فيكون الجار في محل نصب خبرا لها.

فإن قيل : هذا يوهم أنهم كانوا على ملتهم في أول الأمر حتى يعودوا فيها.

فالجواب من وجوه :

أحدها : أن الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ إنّما نشئوا في تلك البلاد ؛ وكانوا من تلك القبائل وفي أول الأمر ما أظهروا المخالفة مع الكفار ، بل كانوا ساكتين إلى حين الوحي فظن القوم أنهم كانوا على ملتهم لسكوتهم ، فلهذا قالوا : (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا).

وثانيها : أن هذا كلام الكفار ولا يجب في كل ما قالوه أن يكونوا صادقين.

وثالثها : قال الزمخشريّ : «العود هنا بمعنى الصّيرورة كثير في كلام العرب كثرة فاشية لا تكاد تسمعهم يستعملون : «صار» ولكن عاد : ما عدت أراه ، وعاد لا يكلمني ما عاد لفلان مال».

ورابعها : أن الخطاب وإن كان في الظاهر مع الرسل إلا أنّ المقصود بهذا الخطاب أتباعهم وأصحابهم ، فغلبوا في الخطاب الجماعة ، ولا بأس أن يقال : إنهم قبل ذلك الوقت كانوا على دين أولئك الكفار.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٣٢٩ والبحر المحيط ٥ / ٤٠٠ والدر المصون ٤ / ٢٥٥.

٣٥٤

وخامسها : لعل أولئك الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ كانوا قبل إرسالهم على ملّة من الملل ، ثم إنه ـ تعالى ـ نسخ تلك الملة وأمرهم بشريعة أخرى وبقي تلك الأقوام على تلك الشريعة المنسوخة مصرين عليها ، وعلى هذا التقدير ، فلا يبعد أن يطلبوا من الأنبياء صلوات الله عليهم أن يعودوا إلى تلك الملّة.

ولما ذكر الكفّار هذا الكلام أوحى الله ـ عزوجل ـ إليهم (لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ).

قوله «لنهلكنّ» جواب قسم مضمر ، وذلك القسم وجوابه فيه وجهان :

أحدهما : أنه على إضمار القول ، أي : قال لنهلكن.

والثاني : أنه أجرى الإيحاء مجرى القول ؛ لأنه ضرب منه.

وقرأ أبو حيوة «ليهلكنّ» و «ليسكننّكم» بياء الغيبة مناسبة لقوله : «ربّهم» والمراد بالأرض : أرض الظالمين ، وديارهم ، وأموالهم وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «من آذى جاره ورّثه الله داره» وهذه الآية تدلّ على أن من يتوكل على الله في دفع عدوه كفاه الله أمر عدوه.

قوله : (ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ) «ذلك» مبتدأ ، وهو مشار به إلى توريث الأرض ، ولمن خاف» هو الخبر ، و «مقامي» فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه مقحم ، وهو بعيد ؛ إذ الأسماء لا تقحم.

الثاني : أنه مصدر مضاف للفاعل.

قال الفراء : «مقامي» مصدر مضاف لفاعله أي : مقامي عليه بالحفظ.

الثالث : أنه اسم مكان.

قال الزجاج : «مكان وقوفه بين يدي الحساب ، كقوله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) [الرحمن : ٤٦] فأضاف قيام العبد إلى نفسه ، كقولك : ندمت على ضربك ، أي : على ضربي إيّاك ، و «خاف وعيد» أي : عقابي ، أثبت الياء هنا ، وفي «ق» في موضعين : (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ) ، (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) [ق : ٤٥] وصلا ، وحذفها وقفا (١) ورش ، والباقون وصلا ووقفا».

فصل

في تفسير المقام وجوه :

الأول : موقفي وهو موقف الحساب ؛ لأنّه الذي يقف فيه العباد يوم القيامة ، كقوله تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) [النازعات : ١٠].

الثاني : أن المقام مصدر كالقيام ، يقال : قام قياما ، ومقاما ، أي : لمن خاف مقامي ،

__________________

(١) ينظر : إعراب القراءات السبع ١ / ٣٣٨ والاتحاف ٢ / ١٦٧ والدر المصون ٤ / ٢٥٦.

٣٥٥

أي : مقام العباد عندي ، وهو من باب إضافة المصدر إلى المفعول.

الثالث : لمن خاف مقامي ، أي : لمن خافني ، وذكر المقام هنا ، كقولك سلام على المجلس الفلاني ، والمراد : السّلام على فلان.

قوله : (وَخافَ وَعِيدِ) قال الواحدي : الوعيد اسم من أوعد إيعادا وهو التّهديد.

قال ابن عباس : خاف ما أوعدت من العذاب (١).

وهذه الآية تدلّ على أنّ الخوف من الله ـ تعالى ـ غير الخوف من وعيده ؛ لأنّ العطف يقتضي المغايرة.

قوله تعالى : (وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ)(١٧)

قوله : (وَاسْتَفْتَحُوا) العامة على «استفتحوا» فعلا ماضيا ، وفي ضميره أقوال :

أحدها : أنه عائد على الرّسل الكرام ، ومعنى الاستفتاح : الاستنصار كقوله : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) [الأنفال : ١٩].

وقيل : طلب الحكم من الفتاحة ، وهي الحكومة ، كقوله تعالى : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) [الأعراف : ٨٩].

الثاني : أن يعود على الكفار ، أي استفتح أمم الرسل عليهم ؛ كقوله تعالى : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) [الأنفال : ٣٢] وقيل : عائد على الفريقين ؛ لأن كلّا طلب النصر على صاحبه.

وقيل : يعود على قريش ؛ لأنهم في سني الجدب استمطروا فلم يمطروا ، وهو على هذا مستأنف ، وأما على غيره من الأقوال فهو عطف على قوله : (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ).

وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن محيصن رضي الله عنهم (وَاسْتَفْتَحُوا) على لفظ الأمر أمرا للرسل بطلب النصرة ، وهي تقوية لعوده في المشهورة على الرسل ، والتقدير : قال لهم : لنهلكن ، وقال لهم : استفتحوا.

قوله : «وخاب» هو في قراءة العامة عطف على محذوف ، وتقديره : استفتحوا ، فنصروا ، وخاب ، ويجوز أن يكون عطفا على «استفتحوا» على أن الضمير فيه للكفار ، وفي غيرها على القول المحذوف وقد تقدم أنه يعطف الطلب على الخبر وبالعكس.

إن قلنا : المستفتحون الرسل عليهم الصلاة والسلام ، فنصروا وظفروا ، وهو قول مجاهد

__________________

(١) ذكره الرازي في تفسيره ١٩ / ٨٠.

٣٥٦

وقتادة ، وذلك أنهم لما أيسوا من إيمان قومهم استنصروا الله ، ودعوا على قومهم بالعذاب ، كما قال نوح ـ صلوات الله عليه ـ : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح : ٢٦].

وإن قلنا : المستفتحون الكفرة كان المعنى أن الكفار استفتحوا على الرسل ظنّا منهم أنهم على الحق والرسل على الباطل ، وذلك أنهم قالوا : «اللهم إن كان هؤلاء الرسل صادقين فعذبنا» نظيره : (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال : ٣٢]. «وخاب» ما أفلح. وقيل : خسر. وقيل : هلك كل جبّار عنيد. والجبّار الذي لا يرى فوقه أحدا ، والجبرية طلب العلوّ بما لا غاية وراءه ، وهذا الوصف لا يكون إلا لله ـ عزوجل ـ.

وقيل : الجبّار الذي يجبر الخلق على مراده ، والجبّار هنا : المتكبر على طاعة الله ـ سبحانه وتعالى ـ وعبادته ، ومنه قوله تعالى : (وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا) [مريم : ١٤].

قال أبو عبيدة : «الأجبر يقال فيه جبريّة ، وجبروّة ، وجبروت».

وحكى الزجاج : «الجبر ، والجبرية ، والجبّارة ، والجبرياء».

قال الواحديّ : «فهذه سبع لغات في مصدر الجبّار ، ومنه الحديث : أن امرأة حضرت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمرها بأمر فأبت عليه ، فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «دعوها فإنّها جبّارة» أي: مستكبرة» (١) ، وأمّا العنيد فقال أهل اللغة في اشتقاقه :

قال البصريون : أصل العنود : الخلاف ، والتباعد ، والترك.

وقال غيرهم : أصله من العند وهو النّاحية ، يقال : هو يمشي عندا ، أي : ناحية فهو المعاند للحق بجانبه ، قاله مجاهد (٢).

وقال ابن عبّاس رضي الله عنه : هو المعرض عن الحق (٣). وقال مقاتل : هو المتكبّر (٤) وقال قتادة : العنيد الذي أبى أن يقال : لا إله إلّا الله (٥).

ثم ذكر كيفية عذابه فقال : (مِنْ وَرائِهِ) جملة في محلّ جر صفة ل «جبّار» ويجوز أن تكون الصفة وحدها الجار ، و «جهنم» فاعل به.

__________________

(١) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (٦ / ٢٩١) وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١ / ١٠٤) وقال : رواه الطبراني في الأوسط وأبو يعلى وفيه يحيى الحماني ضعفه أحمد ورماه بالكذب.

وذكره أيضا الحافظ ابن حجر في «المطالب العالية» (٣ / ١٨٩) ، رقم (٣٢١٥) وعزاه إلى أبي يعلى.

والحديث في «كنز العمال» (٤٥١٠٢) وعزاه إلى أبي يعلى عن أنس والشيرازي في الألقاب عن أبي هريرة.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٢٩).

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) ينظر : المصدر السابق.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٤٢٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٣٧) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم.

٣٥٧

وقوله : «ويسقى» صفة معطوفة على الصفة قبلها. عطف جملة فعلية على اسمية فإن جعلت الصفة الجار وحده ، وعلقته بفعل كان من عطف فعلية على فعلية.

وقيل : عطف على محذوف ، أي : يلقى فيها ، ويسقى.

و «وراء» هنا على بابها ، وقيل بمعنى أمام ، فهو من الأضداد ، وهذا عنى الزمخشري بقوله : «من بين يديه» وأنشد : [الوافر]

٣٢٠٠ ـ عسى الكرب الّذي أمسيت فيه

يكون وراءه فرج قريب (١)

وهو قول أبي عبيدة وابن السّكيت ، وقطرب ، وابن جرير ؛ وقال الشاعر في ذلك : [الطويل]

٣٢٠١ ـ أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي

وقوم تميم والفلاة ورائيا (٢)

أي : قدّامي ؛ وقال الآخر : [الطويل]

٣٢٠٢ ـ أليس ورائي إن تراخت منيّتي

لزوم العصا تحنى عليها الأصابع (٣)

وقال ثعلب : هو اسم لما توارى عنك سواء كان خلفك ، أم قدامك فيصح إطلاق لفظ الوراء على الخلف وقدام ، ويقال : الموت وراء كلّ أحد ، وقال تعالى : (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) [الكهف : ٧٩] أي : أمامهم.

وقال ابن الأنباري : وراء بمعنى بعد ، قال الشاعر : [الطويل]

٣٢٠٣ ـ ...........

وليس وراء الله للخلق مهرب (٤)

ومعنى الآية : أنه بعد الخيبة يدخلهم جهنم.

قوله (مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) في «صديد» ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّه نعت ل «ماء». وفيه تأويلان :

أحدهما : أنه على حذف أداة التشبيه ، أي : ماء مثل صديد ، وعلى هذا فليس الماء

__________________

(١) تقدم.

(٢) البيت لسوار بن المضرب. ينظر : الكامل ٢ / ١٠٢ ، مجاز القرآن ١ / ٣٣٧ ، البحر المحيط ٥ / ٤٠٢ ، الجمهرة ١ / ١٧٧ ، ٣ / ٤٩٥ ، اللسان (ورى) ، تفسير القرطبي ١٠ / ٣٥٠ ، ١١ / ٣٥ ، روح المعاني ١٣ / ٢٠١ ، الطبري ١٦ / ٢ ، الأضداد (٢٠) ، فتح القدير ٣ / ١٠٠ ، الدر المصون ٤ / ٣٥٧.

(٣) البيت للبيد. ينظر : ديوانه ١٧٠ ، اللسان (ورى) ، البحر المحيط ٥ / ٤٠٢ ، القرطبي ٩ / ٢٣٠ ، روح المعاني ١٣ / ٢٠١ ، تهذيب اللغة ١٥ / ٣٠٤ ، الدر المصون ٤ / ٢٥٧.

(٤) عجز بيت وصدره :

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة

وهو للنابغة. ينظر : ديوانه (٢٧) ، معاهد التنصيص ٣ / ٤٨ ، الألوسي ١٣ / ٢٠١ ، الرازي ١٩ / ١٠٤ ، القرطبي ٥ / ٣٨٦ ، البحر المحيط ٥ / ٤٠١ ، فتح القدير ٣ / ١٠٠.

٣٥٨

الذي تشربونه صديدا ، بل مثله في النّتن ، والغلظ ، والقذارة ، كقوله تعالى : (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ) [الكهف : ٢٩].

والثاني : أنّ الصديد لما كان يشبه الماء أطلق عليه ماء ، وليس هو بماء حقيقة ، وعلى هذا فيكون يشربون نفس الصديد المشبه للماء ، وهو قول ابن عطية ، وإلى كونه صفة ذهب الحوفي وغيره. وفيه نظر ، إذ ليس بمشتق إلّا على من فسّره بأنه صديد بمعنى مصدود ، أخذه من الصّدّ ، وكأنه لكراهته مصدود عنه ، أي : يمتنع عليه كل أحد.

الثاني : أنه عطف بيان ل «ماء» ، وإليه ذهب الزمخشري ، وليس مذهب البصريين [جريانه](١) في النكرات إنّما قال به الكوفيون وتبعهم الفارسي أيضا.

الثالث : أن يكون بدلا ، وأعرب الفارسي «زيتونة» من قوله تعالى (مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ) [النور : ٣٥] عطف بيان أيضا.

واستدلّ من جوّز كونه عطف بيان ، ومتبوعه نكرتين بهاتين الآيتين.

والصّديد : ما يسيل من أجساد أهل النّار. وقيل : ما حال بين الجلد واللّحم من القيح.

قوله : «يتجرّعه» يجوز أن تكون الجملة صفة ل «ماء» وأن تكون حالا من الضمير في «يسقى» ، وأن تكون مستأنفة ، وتجرّع : «تفعّل» وفيه احتمالات :

أحدها : أنه مطاوع ل «جرّعته» نحو «علّمته فتعلّم».

والثاني : أنه يكون للتكلف ، نحو «تحلّم» ، أي : يتكلّف جرعه ، ولم يذكر الزمخشري غيره.

الثالث : أنه دالّ على المهلة ، نحو تفهّمته ، أي : يتناوله شيئا فشيئا بالجرع كما يفهم شيئا فشيئا بالتفهيم.

الرابع : أنه بمعنى جرع المجرد ، نحو : عددت الشيء وتعدّيته.

والمعنى : يتحسّاه ويشربه لا بمرة واحدة ، بل يجرعه لمرارته وحرارته.

قوله (وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ) في «يكاد» قولان :

أحدهما : أن نفيه إثبات ، وإثباته نفي ، فقوله : (وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ) أي : يسيغه بعد إبطاء ؛ لأن العرب تقول : ما كدت أقوم أي : قمت بعد إبطاء ، قال تعالى : (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) [البقرة : ٧١] أي : فعلوا بعد إبطاء ، ويدلّ على حصول الإساغة قوله : (يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ) [الحج : ٢٠] ولا يحصل الصهر إلا بعد الإساغة.

وقوله : «يتجرّعه» يدل على أنهم ساغوا الشيء بعد الشيء.

__________________

(١) في ب : بأنه.

٣٥٩

والقول الثاني : أنّ «كاد» للمقاربة ، فقوله «ولا يكاد» لنفي المقاربة يعني ولم يقارب أن يسيغه ، فكيف تحصل الإساغة؟.

كقوله تعالى : (لَمْ يَكَدْ يَراها) [النور : ٤٠] ، أي : لم يقرب من رؤياها ، فكيف يراها؟.

فإن قيل : فقد ذكرتم الدليل على الإساغة ، فكيف يجمع بين القولين؟.

فالجواب من وجهين :

أحدهما : أنّ المعنى : ولا يسيغ جميعه.

والثاني : أنّ الدّليل الذي ذكرتم إنّما دلّ على وصول بعض ذلك الشّراب إلى جوف الكافر ، إلّا أنّ ذلك ليس بإساغة ؛ لأنّ الإساغة في اللغة : إجراء الشرب في [الحلق](١) بقبول النفس ، واستطابة المشروب ، والكافر يتجرّع ذلك الشرب على كراهية ولا يسيغه ، أي : لا يستطيبه ولا يشربه شربا مرة واحدة وعلى هذين الوجهين يصح حمل : «لا يكاد» على نفي المقاربة.

قوله : (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) أي : أن موجبات الموت أحاطت به من جميع الجهات.

واعلم أن الموت يقع على أنواع بحسب أنواع الحياة :

فمنها : ما هو بإزاء القوة النامية الموجودة في الحيوان والنبات ، كقوله تعالى : (يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) [الحديد : ١٧].

ومنها : زوال القوة العاقلة ، وهي الجهالة ، كقوله تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) [الأنعام : ١٢٢] (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) [النمل : ٨٠].

ومنها : الحزن والخوف المكدران للحياة ، كقوله تعالى : (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) [إبراهيم : ١٧].

ومنها : النوم ، كقوله تعالى ـ عزوجل ـ (وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) [الزمر : ٤٢].

وقد قيل : النوم : الموت الخفيف ، والموت : النوم الثقيل ، وقد يستعار الموت للأحوال الشاقة كالفقر والذل ، والسؤال ، والهرم ، والمعصية ، وغير ذلك ، ومنه الحديث «أوّل من مات إبليس لأنّه أوّل من عصى».

وحديث موسى ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ حين قال له ربه : «[أما](٢) تعلم أنّ من أفقرته فقد أمتّه».

ولنرجع إلى التفسير ، فنقول : قيل : بحدوث ألم الموت من كل مكان من أعضائه.

__________________

(١) في ب : الأصل.

(٢) في أ : ألم.

٣٦٠