اللّباب في علوم الكتاب - ج ١١

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١١

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥١٠

وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ دخل حبر من اليهود على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسمع منه [قراءة](١) سورة يوسف ، فعاد إلى اليهود ، فأعلمهم أنّه سمع كما في التّوراة ، فانطلق نفر منهم ، فسمعوا كما سمع ؛ فقالوا له : من علّمك هذه القصّة؟ فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «الله علّمني» فنزلت : (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) (٢).

قال ابن الخطيب (٣) : «وهذا الوجه عندي بعيد ؛ لأن المفهوم من الآية : أن في واقعة يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ آيات للسّائلين ، وعلى ما قلناه : ما كانت الآيات في قصّة يوسف ، بل كانت في إخبار محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنها ، من غير تعلّم ولا مطالعة.

الثاني : أن أكثر أهل مكّة كانوا أقارب الرّسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، وكانوا ينكرون نبوّته ، ويظهرون العداوة الشّديدة معه بسبب الحسد ، فذكر الله ـ تعالى ـ هذه القصّة ، وبيّن أنّ إخوة يوسف بالغوا في إيذائه لأجل الحسد ، وبالآخرة إن الله نصره ، وقواه ، وجعلهم تحت يده ، ومثل هذه الواقعة إذا سمعها العاقل ، كانت زاجرة له عن الإقدام على الحسد.

الثالث : أن يعقوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما عبر رؤيا يوسف ، وقع ذلك التّعبير ، ودخل في الوجود بعد ثمانين سنة ، فكذلك أن الله ـ تعالى ـ كما وعد محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنّصر والظفر ، كان الأمر كما قدّره الله ـ تعالى ـ لا كما سعى فيه الأعداء في إبطال أمره».

قوله (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا) اللام في «ليوسف» : لام الابتداء أفادت توكيدا لمضمون الجملة ، أرادوا أنّ زيادة محبّته لهما أمر ثابت لا شبهة فيه «وأخوه» : هو بنيامين ، وإنّما قالوا : «وأخوه» وهم جميعا إخوة ؛ لأن أمّهما كانت واحدة. و «أحبّ» أفعل تفضيل ، وهو مبنيّ من «حبّ» المبنيّ للمفعول ، وهو شاذّ ، وإذا بنيت أفعل التّفضيل ، من مادّة الحبّ والبغض ، تعدّى إلى الفاعل المعنوي ب «إلى» وإلى المفعول المعنوي ب «اللام» ، أو ب «في» فإذا قلت : زيد أحبّ إليّ من بكر ، تعني : أنك تحبّ زيدا أكثر من بكر ، فالمتكلّم هو الفاعل ، وكذلك : «هو أبغض إليّ منه» أنت المبغض ، وإذا قلت : زيد أحبّ إليّ من عمرو ، أو أحبّ فيّ منه ، أي : إنّ زيدا يحبّني أكثر من عمرو ؛ قال امرؤ القيس : [الطويل]

٣٠٥٠ ـ لعمري لسعد حيث حلّت دياره

أحبّ إلينا منك فافرس حمر (٤)

وعلى هذا جاءت الآية الكريمة ؛ فإن الأب هو فاعل المحبّة.

__________________

(١) زيادة من ب.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (٧٤١٨).

(٣) ينظر : الفخر الرازي ١٨ / ٧٤.

(٤) ينظر البيت في ديوانه (٧٥) وروايته في الديوان لعمري لسعد في الضّباب إذا غدا ......

وينظر الكامل ٢ / ١٤٩ والدر المصون ٤ / ١٥٦.

٢١

و «أحبّ» : خبر المبتدأ ، وإنّما لم يطابق ؛ لما عرفت من حكم أفعل التّفضيل.

وقيل : اللّام في : «ليوسف» : جواب القسم ، تقديره : والله ليوسف وأخوه ، والواو في: (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) : للحال ، فالجملة بعدها في محلّ نصب على الحال ، والعامة على رفع «عصبة» خبرا ل «نحن».

وقرأ أمير المؤمنين (١) ـ رضي الله عنه ـ بنصبها على أنّ الخبر محذوف ، والتقدير : ونحن نرى أو نجتمع ، فتكون «عصبة» حالا ، إلا أنّه قليل جدّا ؛ وذلك لأنّ الحال لا يسدّ مسدّ الخبر إلا بشروط ذكرها النّحاة ، نحو : ضربي زيدا قائما ، وأكثر شربي السّويق ملتوتا.

قال ابن الأنباري : «هذا كما تقول العرب : إنّما العامريّ عمّته ، أي : يتعمم عمّته».

قال أبو حيّان (٢) : «وليس مثله ؛ لأن «عصبة» ليس بمصدر ولا هيئة ، فالأجود أن يكون من باب (٣) : حكمك مسمّطا».

قال شهاب الدّين : «ليس مراد ابن الأنباري إلّا التشبيه ؛ من حيث إنه حذف الخبر ، وسدّ شيء آخر مسدّه في غير المواضع المنقاس فيها ذلك ، ولا نظر لكون المنصوب مصدرا أو غيره».

وقال المبرد : هو من باب : «حكمك مسمّطا» أي : لك حكمك مسمّطا ، قال الفرزدق :

٣٠٥١ ـ يا لهذم حكمك مسمّطا (٤)

أراد لك حكمك مسمّطا.

قال : واستعمل هذا فكثر حتى حذف استخفافا ؛ لعلم ما يريد القائل ؛ كقولك : الهلال والله ، أي : هذا الهلال ، والمسمّط : المرسل غير المردود وقدره غير المبرّد : حكمك ثبت مسمّطا ، وفي هذا المثال نظر ؛ لأن النّحويّين يجعلون من شرط سدّ الحال مسدّ الخبر : أن لا يصلح جعل الحال خبرا لذلك المبتدأ ، نحو : ضربي زيدا قائما ، بخلاف : «ضربي زيدا شديد» فإنّها ترفع على الخبريّة ، وتخرج المسألة من ذلك ، وهذه الحال ، أعني : «مسمّطا» يصلح جعلها خبرا للمبتدأ ، إذ التقدير : حكم مرسل لا مردود ، فيكون هذا المثل على ما تقرّر من كلامهم شاذّا.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٤٦ والدر المصون ٤ / ١٥٦.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٨٣.

(٣) مجمع الأمثال ١ / ٣٧٦ ، أي : مرسل مردود لا يعقب ، ويروى : خذ حكمك مسمطا ، أي مجوزا نافذا ، والمسمط : الذي لا يرد.

(٤) ينظر : البحر ٥ / ٢٨٣ ، روح المعاني ١٢ / ٢٩٠ ، الدر المصون ٤ / ١٥٦.

٢٢

والعصبة : ما زاد على العشرة ، عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ ؛ وعنه : ما بين العشرة إلى الأربعين (١).

وقيل : الثلاثة نفر ، فإذا زادت على ذلك إلى تسعة ؛ فهو رهط ، فإذا بلغوا العشرة فصاعدا ، فعصبة.

وقيل : ما بين الواحد إلى العشرة.

وقيل : من عشرة إلى خمسة عشر.

وقيل : ستة. وقيل : سبعة. والمادّة تدلّ على الإحاطة من العصابة ؛ لإحاطتها بالرّأس.

فصل

بيّنوا السبب الذي لأجله قصدوا إيذاء يوسف : وهو أن يعقوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان يفضّل يوسف وأخاه على سائر أولاده في الحبّ ، فتأذّوا منه لوجوه :

أحدها : كانوا أكبر منه سنّا.

وثانيها : أنّهم كانوا أكثر قوّة ، وأكثر قياما بمصالح الأب منهما.

وثالثها : أنّهم القائمون بدفع المضار والآفات ، والمشتغلون بتحصيل المنافع والخيرات ، وإذا كانوا كذلك لا جرم قالوا : (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

قال ابن الخطيب (٢) : «وها هنا سؤالات :

السؤال الأول : أن من المعلوم أن تفضيل بعض الأولاد على بعض ، يورث الحقد والحسد ، وهما يورثان الآفات ، فلما كان يعقوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ عالما بذلك ، فلم أقدم على هذا التفضيل؟ وأيضا : فالأسنّ ، والأعلم ، والأنفع مقدّم ، فلم قلب هذه القضية؟.

فالجواب : أنّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ما فضلهما على سائر أولاده إلا في المحبّة ، والمحبّة ليست في وسع البشر ، فكان معذورا فيه ، ولا يلحقه بسبب ذلك لوم ، قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «اللهمّ هذا قسمي فيما أملك ، فلا تلمني فيما لا أملك» حين كان يحبّ عائشة ـ رضي الله عنها ـ (٣).

السؤال الثاني : أن أولاد يعقوب إن كانوا قد آمنوا بكونه رسولا حقّا من عند الله ،

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٤١١).

(٢) ينظر : الفخر الرازي ١٨ / ٧٥.

(٣) أخرجه أحمد (٦ / ١٤٤) وأبو داود (١ / ٤٩٢) والترمذي (٢ / ٣٠٤) والنسائي (٧ / ٦٣ ـ ٦٤) والدارمي (٢ / ٤٠٤) وابن ماجه (١٩٧١) وابن أبي شيبة (٤ / ٣٨٦ ـ ٣٨٧) وابن حبان (١٣٠٥ ـ موارد) والحاكم (٢ / ١٨٧) والبيهقي (٧ / ٢٩٨) والخطيب في «الموضح» (٢ / ١٠٧) من طرق عن حماد بن سلمة عن أيوب عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد عن عائشة.

وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

٢٣

فكيف اعترضوا؟ وكيف زيّفوا طريقته وطعنوا في فعله؟ وإن كانوا مكذّبين بنبوته ، غير مقرّين بكونه رسولا حقّا من عند الله ، فهذا موجب تكفيرهم؟.

والجواب : أنّهم كانوا مؤمنين بنبوّة أبيهم ، مقرين بكونه رسولا حقّا من عند الله ، إلّا أنّهم لعلّهم جوّزوا من الأنبياء أن يفعلوا أفعالا مخصوصة بمجرد اجتهادهم ، ثم إنّ الاجتهاد أدّى إلى تخطئة أبيهم في ذلك الاجتهاد ؛ وذلك لأنّهم كانوا يقولون : هما صبيان ما بلغا العقل الكامل ، ونحن متقدّمون عليهما في السنّ ، والعقل ، والكفاية ، والمنفعة ، وكثرة الخدمة ، والقيام بالمهمات ، فإصراره على تقديم يوسف علينا ، يخالف هذا الدّليل ، وأما يعقوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ فلعله كان يقول : زيادة المحبّة ليست في الوسع والطّاقة ، فليس لله عليّ فيه تكليف ، وأما تخصيصهما بمزيد البرّ ، فيحتمل أنه كان لوجوه :

أحدها : أن أمّهما ماتت وهم صغار.

وثانيهما : أنه كان يرى فيه من آثار الرّشد ، والنّجابة ما لم يجد في سائر الأولاد ، والحاصل: أن هذه المسألة كانت اجتهاديّة ، وكانت بميل النّفس ، وموجبات الفطرة ، فلا يلزم من وقوع الاختلاف فيها طعن أحد الخصمين في دين الآخر ، أو في عرضه.

السؤال الثالث : أنهم نسبوا أباهم إلى الضّلال المبين ، وذلك مبالغة في الذمّ والطّعن ، ومن بالغ في الطّعن في الرسول كفر ، لا سيّما إذا كان الطّاعن ابنا ؛ فإن حقّ الأبوّة يوجب مزيد التّعظيم.

والجواب : المراد من الضلال : غير رعاية مصالح الدّين ، لا البعد عن طريق الرّشد ، والصواب.

السؤال الرابع : أن قولهم : (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا) محض الحسد ، والحسد من أمهات الكبائر ، لا سيّما وقد أقدموا بسبب ذلك الحسد على تضييع ذلك الأخ الصالح ، وإلقائه في ذلّ العبوديّة ، وتبعيده عن الأب المشفق ، وألقوا أباهم في الحزن الدائم ، والأسف العظيم ، وأقدموا على الكذب ، وأتوا بهذه الخصال المذمومة وكل ذلك يقدح في العصمة.

والجواب : أن المعتبر عصمة الأنبياء في وقت حصول النّبوّة ، فأمّا قبلها فذلك غير واجب».

(اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً) الآية.

في نصب «أرضا» ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون منصوبة على إسقاط الخافض تخفيفا ، أي : في أرض ؛ كقوله : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) [الأعراف : ١٦] ، وقول الشاعر : [الكامل]

٢٤

٣٠٥٢ ـ لدن بهزّ الكفّ يعسل متنه

فيه كما عسل الطّريق الثّعلب (١)

وإليه ذهب ابن عطيّة (٢).

قال النّحاس : «إلا أنّه في الآية حسن كثيرا ؛ لأنّه يتعدى إلى مفعولين ، أحدهما بالحرف ، فإذا حذفت الحرف ، تعدّى الفعل إليه».

والثاني : النصب على الظرفيّة.

قال الزمخشريّ : «أرضا منكورة مجهولة بعيدة عن العمران ، وهو معنى تنكيرها ، وإخلائها من النّاس ؛ ولإبهامها من هذا الوجه ، نصبت نصب الظّروف المبهمة».

وردّ ابن عطيّة هذا الوجه فقال : «وذلك خطأ ؛ لأن الظّرف ينبغي أن يكون مبهما ، وهذه ليست كذلك ، بل هي أرض مقيّدة بأنّها بعيدة ، أو قاصية أو نحو ذلك ، فزال بذلك إبهامها ، ومعلوم أن يوسف لم يخل من الكون في أرض ، فتبيّن أنّهم أرادوا أرضا بعيدة ، غير التي هو فيها قريبة من أبيه».

واستحسن أبو حيّان (٣) هذا الرّد ، وقال : «وهذا الردّ صحيح ، لو قلت : «جلست دارا بعيدة ، أو مكانا بعيدا» لم يصحّ إلا بواسطة في ولا يجوز حذفها ، إلا في ضرورة شعر ، أو مع «دخلت» على الخلاف في «دخلت» أهي لازمة أم متعدّية».

وفي الكلامين نظر ؛ إذ الظّرف المبهم : عبارة عمّا ليس له حدود تحصره ، ولا أقطار تحويه ، و «أرضا» في الآية الكريمة من هذا القبيل.

الثالث : أنها مفعول ثان ، وذلك أن معنى : «اطرحوه» : أنزلوه ، و «أنزلوه» يتعدى لاثنين ، قال ـ تعالى ـ : (أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً) [المؤمنون : ٢٩] وتقول : أنزلت زيدا الدّار. والطّرح : الرّمي ، ويعبر به عن الاقتحام في المخاوف ؛ قال عروة بن الورد : [الطويل]

٣٠٥٣ ـ ومن يك مثلي ذا عيال ومقترا

من المال يطرح نفسه كلّ مطرح (٤)

والمعنى : اطرحوه إلى أرض تبعد من أبيه ، وقيل : في أرض تأكله السّباع.

و «يخل لكم» جواب الأمر ، وفيه الإظهار والإدغام ، وتقدّم تحقيقهما عند قوله : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً) [آل عمران : ٨٥].

قوله : (وَتَكُونُوا) يجوز أن يكون مجزوما نسقا على ما قبله ، أو منصوبا بإضمار «أن» بعد الواو في جواب الأمر.

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٢٢.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٨٤.

(٤) ينظر البيت في ديوانه (٢٣) والعمدة لابن رشيق ١ / ٤٨ وروح المعاني ١٢ / ١٩٣ ، والمحرر الوجيز ٩ / ٢٥٣ والبحر ٥ / ٢٧٧ والدر المصون ٤ / ١٥٧.

٢٥

فصل

اعلم : أنّه لما قوي الحسد ، وبلغ النّهاية ، قالوا : لا بدّ من تبعيد يوسف من أبيه ، وذلك لا يحصل إلا بأحد طريقين : القتل ، أو التّغريب ، ثم ذكروا العلّة فيه ، وهي قوله : (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) أي : أنّ يوسف شغله عنّا ، وصرف وجهه إليه ، فإذا فقده ، أقبل علينا بالميل والمحبّة ، (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ) أي : من بعد قتل يوسف ، (قَوْماً صالِحِينَ) : أي : نتوب بعد قتله.

وقيل : يصلح شأنكم ، وتتفرغوا لإصلاح شأن أمّهاتكم ، واختلفوا في قائل هذا القول.

فقيل : شاوروا أجنبيّا ؛ فأشار عليهم بقتله ، ولم يقل ذلك أحد من إخوته.

وقيل : القائل بعض إخوته ، واختلفوا فيه.

فقال وهب : شمعون ، وقال كعب : دان ، وقال مقاتل : روبيل.

فإن قيل : كيف يليق هذا بهم ، وهم أنبياء؟.

فأجاب بعضهم : بأنّهم كانوا في هذا الوقت مراهقين لم يبلغوا ، وهذا ضعيف ؛ فإنه يبعد في مثل يعقوب أن يبعث جماعة من الصّبيان من غير أن يكون معهم قائم عاقل يمنعهم من القبائح.

وأيضا : فإنّهم قالوا : (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ) وهذا يدلّ على أنّهم قبل النبوّة لا يكونوا صالحين ، وذلك ينافي كونهم من الصّبيان ، وأيضا : قولهم : (يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ) [يوسف : ٩٧] والصغير لا ذنب له.

فأجاب بعضهم : بأنّ هذا من باب الصّغائر ، وهذا أيضا ضعيف ؛ لأن إيذاء الأب الذي هو نبيّ معصوم ، والكيد معه ، والسعي في إهلاك الأخ الصّغير ، فكل واحد من ذلك من أمّهات الكبائر ، بل الجواب الصحيح : أنّهم ما كانوا أنبياء ، وإن كانوا أنبياء ، إلا أن هذه الواقعة أقدموا عليها قبل النبوة.

ثم إنّ قائلا منهم قال : (لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ).

قيل : إنه روبيل ، وكان ابن خالة يوسف ، وكان أحسنهم رأيا فيه ؛ فمنعهم من قتله.

وقيل : يهوذا ، وكان أقدمهم في الرّأي (١) والفضل ، والسّنّ ، وهو الصحيح.

قوله «في غيابة» قرأ نافع (٢) : «غيابات» بالجمع في الحرفين من هذه السّورة ، جعل

__________________

(١) في أ : أحسنهم رؤيا.

(٢) ينظر : السبعة ٣٤٥ والحجة للفارسي ٤ / ٣٩٩ وإعراب القراءات السبع ١ / ٣٠٠ ، ٣٠١ وحجة القراءات ٣٥٥ وقرأ بها أيضا أبو جعفر ينظر : الإتحاف ٢ / ١٤١ وينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٢٢ والبحر المحيط ٥ / ٢٨٥ والدر المصون ٤ / ١٥٧.

٢٦

ذلك المكان أجزاء ، وسمّى كل جزء غيابة ؛ لأن للجبّ أقطارا ونواحي ، فيكون فيها غيابات ، والباقون : بالإفراد ؛ لأن المقصود : موضع واحد من الجبّ يغيب فيه يوسف ، وابن هرمز كنافع ، إلا أنّه شدّد الياء ، والأظهر في هذه القراءة : أن يكون سمّي باسم الفاعل الذي للمبالغة ، فهو وصف في الأصل ، وألحقه الفارسي بالاسم الجائي على فعّال ، نحو ما ذكره سيبويه من الفيّاد قال ابن جني (١) : «ووجدت من ذلك : الفخّار : للخزف».

وقال صاحب اللّوامح : «يجوز أن يكو على «فعّالات» كحمّامات ، ويجوز أن يكون على «فيعالات» ، كشيطانات ، جمع شيطانه ، وكلّ للمبالغة».

وقرأ الحسن (٢) : «في غيبة» بفتح الياء ، وفيه احتمالان :

أحدهما : أن يكون في الأصل مصدرا ؛ كالغلبة.

والثاني : أن يكون جمع غائب ، نحو : صانع وصنعة.

قال أبو حيّان (٣) : «وفي حرف أبيّ : «في غيبة» بسكون الياء ، وهي ظلمة الرّكيّة».

قال شهاب الدين (٤) : «والضبط أمر حادث ، فكيف يعرف ذلك من المصحف ، وتقدّم نحو ذلك ، والغيابة ، قال الهروي : شبه لجف أو طاق في البئر فويق الماء يغيب ما فيه عن العيون».

وقال الكلبيّ : «الغيابة تكون في قعر الجبّ ؛ لأنّ أسفله واسع ، ورأسه ضيّق ، فلا يكاد النّاظر يرى ما في جوانبه».

وقال الزمخشري (٥) : «هي غورة ، وما غاب منه عن عين النّاظر ، وأظلم من أسفله».

قال المنخل : [الطويل]

٣٠٥٤ ـ فإن أنا يوما غيّبتني غيابتي

فسيروا بسيري في العشيرة والأهل (٦)

أراد : غيابة حفرته التي يدفن فيها ، والجبّ : البئر الذي لم تطو ، وسمّي بذلك : إما لكونه محفورا في جبوب الأرض ، أي : ما غلظ منها ؛ وإما لأنه قطع في الأرض والجبّ : القطع ، ومنه : الجبّ في الذّكر ؛ قال الأعشى : [الطويل]

__________________

(١) ينظر : المحتسب ١ / ٣٣٣.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٨٥ والدر المصون ٤ / ١٥٨.

(٣) ينظر : السابق.

(٤) ينظر : الدر المصون ٤ / ١٥٨.

(٥) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٤٧.

(٦) ينظر البيت في روح المعاني ١٢ / ١٩٢ ومجاز القرآن ١ / ٣٠٢ ومعجم الشعراء ٣٨٨٠ والبحر المحيط ٥ / ٢٨٥ الكشاف ٢ / ٤٤٧ ومعجم المرزباني (٣٨٨) والمؤتلف (٢٧١) والقرطبي ٥ / ١٩٤ والمحرر ٩ / ٢٥٤ والدر المصون ٤ / ١٥٨.

٢٧

٣٠٥٥ ـ لئن كنت في جبّ ثمانين قامة

ورقّيت أسباب السّماء بسلّم (١)

ويجمع على جبب ، وجباب ، وأجباب.

فصل

والألف واللام في «الجبّ» تقتضي المعهود السّابق ، واختلفوا فيه :

فقال قتادة : هو جبّ بئر بيت المقدس (٢) ، وقيل : بأرض الأردن.

وقال مقاتل : هو على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب (٣) ، وإنّما عيّنوا ذلك الجبّ ؛ للعلّة التي ذكروها ، وهي قولهم : «يلتقطه بعض السّيارة» لأن تلك البئر كانت معروفة يردون عليها كثيرا ، وكانوا يعلمون أنّه إذا طرح فيها ، كان إلى السّلامة أقرب ؛ لأن السيارة إذا وردوها ، شاهدوا ذلك الإنسان فيه ، فيخرجوه ، ويذهبوا به فكان إلقاؤه فيها أبعد عن الهلاك.

قوله «يلتقطه» قرأ العامّة : «يلتقطه» بالياء من تحت ، وهو الأصل وقرأ (٤) الحسن ، ومجاهد ، وأبو رجاء ، وقتادة : بالتّاء من فوق ؛ للتّأنيث المعنويّ ، والإضافة إلى مؤنّث ، وقالوا : قطعت بعض أصابعه.

قال الشّاعر : [الوافر]

٣٠٥٦ ـ إذا بعض السّنين تعرّقتنا

كفى الأيتام فقد أبي اليتيم (٥)

وتقدّم الكلام بأوسع من هذا في الأنعام والأعراف [الأنعام : ١٦٠ ـ الأعراف : ٥٦].

والالتقاط : تناول الشيء المطروح ، ومنه : اللّقطة واللّقيط ؛ قال الشاعر : [الرجز]

٣٠٥٧ ـ ومنهل وردته التقاطا

 ...........(٦)

قال ابن عرفة : الالتقاط وجود الشيء على غير طلب ، ومنه قوله تعالى (يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ) أي : يجده من غير أن يحتسب.

__________________

(١) تقدم.

(٢) أخرجه الطبري (٧ / ١٥٣).

وذكره القرطبي في «تفسيره» (٩ / ٨٨) والرازي (١٨ / ٧٧).

(٣) انظر المصدر السابق.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٢٢ والبحر المحيط ٥ / ٢٨٥ والدر المصون ٤ / ١٥٨.

(٥) البيت لجرير ينظر : ديوانه ص ٢١٩ وخزانة الأدب ٤ / ٢٢٠ ، ٢٢١ والكتاب ١ / ٥٢ ، ٦٤ والأشباه والنظائر ٣ / ١٩٧ وشرح المفصل ٥ / ٩٦ واللسان (صوت) والمقتضب ٤ / ١٩٨ وروح المعاني ١٢ / ١٩٢ والبحر ٥ / ٢٨٥ والكامل ٢١٢ والدر المصون ٤ / ١٥٨ وشرح أبيات سيبويه ١ / ٥٦.

(٦) البيت لنقادة الأسدي. ينظر : الكتاب ١ / ٣٧١ وإصلاح المنطق ص ٦٨ ، ٩٦ واللسان (لقط) والمخصص ٤ / ٢٦٠ والألوسي ١٢ / ١٩٢ والدر المصون ٤ / ١٥٨.

٢٨

فصل

اختلفوا في الملقوط فقيل : إن أصله الحرية ؛ لغلبة الأحرار على العبيد ، وروى الحسين بن علي رضي الله عنهما بأنه قضى بأن اللقيط حرّ ، وتلا قوله تعالى : (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) وهذا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه ويروى عن علي وجماعته ، وقال إبراهيم النخعي : إن نوى رقه فهو مملوك ، وإن نوى الاحتساب فهو حر.

فصل

والسّيارة : جمع سيّار ، وهو مثال مبالغة ، وهم الجماعة الذين يسيرون في الطريق للسّفر ، وقال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : يريد : المارّة (١) ، ومفعول «فاعلين» محذوف ، أي : فاعلين ما يحصل به غرضكم. وهذا إشارة إلى أن الأولى : أن لا تفعلوا شيئا من ذلك ، وأما إن كان ولا بد ، فاقتصروا على هذا القدر ، ونظيره قوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) [النحل : ١٢٦] يعني : الأولى ألّا تفعلوا ذلك.

قوله تعالى : (قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ) الآية.

«تأمنّا» حال وتقدّم نظيره ، وقرأ العامّة : تأمنّا بالإخفاء ، وهو عبارة عن تضعيف الصّوت بالحركة ، والفصل بين النّونين ؛ لا لأن النون تسكن رأسا ؛ فيكون ذلك إخفاء ، لا إدغاما.

قال الدّاني : «وهو قول عامّة أئمّتنا ، وهو الصواب ؛ لتأكيد دلالته وصحّته في القياس».

وقرأ بعضهم ذلك (٢) : بالإشمام وهو عبارة عن ضمّ الشفتين ، إشارة إلى حركة الفعل مع الإدغام الصّريح ، كما يشير إليها الواقف ، وفيه عسر كثير ، قالوا : وتكون الإشارة إلى الضمة بعد الإدغام ، أو قبل كماله ، والإشمام يقع بإزاء معان هذا من جملتها.

ومنها : [إشراب](٣) الكسرة شيئا من الضمّ [نحو قيل ، (وَغِيضَ) [هود : ٤٤] وبابه ، وقد تقدم في أول البقرة](٤).

ومنها إشمام أحد الحرفين شيئا من الآخر ؛ كإشمام الصاد زايا في (الصِّراطَ) [الفاتحة : ٦] ، (وَمَنْ أَصْدَقُ) [النساء : ٨٧ ، ١٢٢] وبابهما ، وقد تقدم في الفاتحة ، والنساء ، فهذا خلط حرف بحرف ، كما أن ما قبله خلط حركة بحركة.

ومنها : الإشارة إلى الضّمّة في الوقف خاصّة ، وإنما يراه البصير دون الأعمى ،

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٨ / ٧٧) عن ابن عباس.

(٢) ينظر : الدر المصون ٤ / ١٥٩.

(٣) في ب : إشمام.

(٤) سقط في أ.

٢٩

وقرأ (١) أبو جعفر : بالإدغام الصّريح من غير إشمام ، وقرأ الحسن (٢) ذلك : بالإظهار مبالغة في بيان إعراب الفعل. وللمحافظة على حركة الإعراب ، اتّفق الجمهور على الإخفاء ، أو الإشمام ، كما تقدّم تحقيقه.

وقرأ ابن (٣) هرمز : «لا تأمنّا» بضم الميم ، نقل حركة النّون الأولى عند إرادة إدغامها ، بعد سلب الميم حركتها ، وخط المصحف بنون واحدة ، ففي قراءة الحسن مخالفة لها. وقرأ أبو رزين ، وابن (٤) وثّاب : «لا تيمنّا» بكسر حرف المضارعة ، إلا أنّ ابن وثّاب سهّل الهمزة.

قال أبو حيّان (٥) : «ومجيئه بعد «ما لك» والمعنى : يرشد إلى أنّه نفي لا نهي ، وليس كقولهم : «ما أحسنّا» في التعجّب ؛ لأنه لو أدغم ، لالتبس التّعجب بالنّفي».

قال شهاب الدّين (٦) : وما أبعد هذا عن توهّم النّهي ، حتى ينصّ عليه بقوله : «لالتبس بالنّفي الصحيح».

فصل

هذا الكلام يدلّ على أن يعقوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان يخافهم على يوسف ، ولو لا ذلك ، لما قالوا هذا القول.

واعلم : أنّهم لما أحكموا العزم ، أظهروا عند أبيهم أنّهم في غاية المحبّة ليوسف ، ونهاية الشفقة عليه ، وكانت عادتهم أن يغيبوا عنه مدّة إلى الرّعي ، فسألوه إرساله معهم ، وكان يعقوب ـ عليه‌السلام ـ يحب تطييب قلب يوسف ، فاغترّ بقولهم ، وأرسله معهم حين قالوا له : (وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ) والنّصح هنا : القيام بالمصلحة.

وقيل : البرّ والعطف ، أي : عاطفون عليه قائمون بمصلحته ، نحفظه حتّى نرده إليك.

قيل للحسن : أيحسد المؤمن؟ قال : ما أنساك ببني يعقوب ، ولهذا قيل : الأب جلّاب ، والأخ سلّاب ، وعند ذلك أجمعوا على التّفريق بينه وبين ولده بضرب من الاحتيال ، وقالوا ليعقوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ (ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ).

__________________

(١) وقرأ بها أيضا الزهري ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٢٤ وقرأ بها أيضا زيد بن علي والزهري وعمرو بن عبيد ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٨٥ وينظر : الدر المصون ٤ / ١٥٩.

(٢) وقرأ بها أيضا أبيّ وطلحة بن مصرف والأعمش ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٨٦ وينظر : الدر المصون ٤ / ١٥٩.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٨٥ والدر المصون ٤ / ١٥٩.

(٤) وقرأ بها أيضا الأعمش ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٢٣ وينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٨٦ والدر المصون ٤ / ١٥٩.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٨٥.

(٦) ينظر : الدر المصون ٤ / ١٥٩.

٣٠

وقيل : لما تفاوضوا وافترقوا على رأي المتكلّم الثاني ، عادوا إلى يعقوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ وقالوا هذا القول ، إذ فيه دليل على أنّهم سألوه قبل ذلك أن يخرج معهم يوسف ، فأبى.

قوله : (أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) في : (يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) أربع عشرة قراءة :

أحدها (١) : قراءة نافع : بالياء من تحت ، وكسر العين.

الثانية : قراءة (٢) البزّي ، عن ابن كثير : «نرتع ونلعب» بالنّون وكسر العين.

الثالثة : قراءة قنبل (٣) ، وقد اختلف عليه ، فنقل عنه ثبوت الياء بعد العين وصلا ووقفا ، وحذفها وصلا ووقفا ، فيوافق البزّي في أحد الوجهين عنه ، فعنه قراءتان.

الخامسة : قراءة أبي عمرو (٤) ، وابن عامر : «نرتع ونلعب» بالنّون ، وسكون العين ، والباء.

السادسة : قراءة الكوفيين (٥) : (يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) بالياء من تحت وسكون العين والباء.

وقرأ جعفر (٦) بن محمد : «نرتع» بالنّون ، «ويلعب» بالياء ، ورويت عن ابن كثير.

وقرأ العلاء (٧) بن سيابة : (يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) بالياء فيهما ، وكسر العين وضمّ الباء.

وقرأ أبو (٨) رجاء كذلك ، إلا أنّه بالياء من تحت فيهما.

والنخعي (٩) ويعقوب : «نرتع» بالنون ، «ويلعب» بالياء.

وقرأ مجاهد ، وقتادة ، وابن محيصن (١٠) : (يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) بالياء ، والفعلان في هذه القراءات كلها مبنيان للفاعل.

وقرأ زيد بن علي (١١) : («يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ)» بالياء من تحت فيهما مبنيين للمفعول.

وقرىء : «نرتعي ونلعب» (١٢) بثبوت الياء ، ورفع الباء.

__________________

(١) ينظر : الحجة ٤ / ٤٠٣ والإتحاف ٢ / ١٤١ والمحرر الوجيز ٣ / ٢٢٤ والدر المصون ٤ / ١٥٩.

(٢) ينظر : الحجة ٤ / ٤٠٢ وإعراب القراءات السبع ١ / ٣٠٥ والإتحاف ٢ / ١٤٢ والمحرر الوجيز ٣ / ٢٢٤ والدر المصون ٤ / ١٥٩.

(٣) ينظر : الدر المصون ٤ / ١٥٩.

(٤) ينظر : الحجة ٤ / ٤٠٢ وإعراب القراءات السبع ١ / ٣٠٣ والإتحاف ٢ / ١٤٢ والبحر المحيط ٥ / ٢٨٦ والدر المصون ٤ / ١٥٩.

(٥) ينظر : الدر المصون ٤ / ١٥٩.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٨٦ والدر المصون ٤ / ١٥٩.

(٧) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٤٨ والمحرر الوجيز ٣ / ٢٢٤ والبحر المحيط ٥ / ٢٨٦ ، والدر المصون ٤ / ١٥٩.

(٨) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٨٦ ، والدر المصون ٤ / ١٥٩ ، ١٦٠.

(٩) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٨٦ والدر المصون ٤ / ١٦٠.

(١٠) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٢٤ والبحر المحيط ٥ / ٢٨٦ والدر المصون ٤ / ١٥٩.

(١١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٨٦ والدر المصون ٤ / ١٦٠.

(١٢) ينظر : الدر المصون ٤ / ١٦٠.

٣١

وقرأ (١) ابن أبي عبلة : «نرعى ونلعب».

فهذه أربع عشرة قراءة منها ستّ في السّبع المتواتر وثمان في الشواذّ.

فمن قرأ بالنّون ، فقد أسند الفعل إلى إخوة يوسف.

سئل أبو عمرو بن العلاء : كيف قالوا : نلعب وهم أنبياء؟ قال : كان ذلك قبل أن ينبّئهم(٢) الله ـ عزوجل ـ.

قال ابن الأعرابي : الرّتع : الأكل بشدة ، وقيل : إنه الخصب.

وقيل : المراد من اللّعب : الإقدام على المباحات ، وهذا يوصف به الإنسان ، كما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال (٣) لجابر ـ : «هلّا بكرا تلاعبها وتلاعبك» (٤).

وقيل : كان لعبهم الاستباق ، والغرض منه : تعليم المحاربة ، والمقاتلة مع الكفّار ، ويدلّ عليه قولهم : (إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) وإنما سمّوه لعبا ؛ لأنه في صورة اللّعب.

وأما من قرأ بالياء ، فقد أسند الفعل إليه دونهم ، فالمعنى : أنه يبصر رعي الإبل ؛ ليتدرّب بذلك ، فمرّة يرتع ، ومرّة يلعب ؛ كفعل الصّبيان.

ومن كسر العين ، اعتقد أنه جزم بحذف حرف العلّة ، وجعله مأخوذا من يفتعل من الرّعي ؛ كيرتمي من الرّمي ، ومن سكن العين ، اعتقد أنه جزم بحذف الحركة ، وجعله مأخوذا من : رتع يرتع ، إذا اتّسع في الخصب قال :

٣٠٥٨ ـ ...........

وإذا يحلو له الحمى رتع (٥)

ومن سكّن الباء جعله مجزوما ، ومن رفعها ، جعله مرفوعا على الاستئناف ، أي : وهو يلعب ، ومن غاير بين الفعلين ، فقرأ بالياء من تحت في «يلعب» دون «نرتع» ؛ فلأن اللّعب مناسب للصّغار ، ونرتع : افتعال من : رعيت ، يقال : رعى الماشية الكلأ ، ترعاها رعيا ، إذا أكلته فالارتعاء للمواشي ، وأضافوه إلى أنفسهم ؛ لأنهم السّبب ، والمعنى : نرتع إبلنا ، فنسبوا الارتعاء والقيام بحفظ المال إلى أنفسهم ؛ لأنهم بالغون.

ومن قرأ : «نرتع» رباعيّا ، جعل مفعوله محذوفا ، أي : يرعى مواشينا ، ومن بناها للمفعول ، فالوجه : أنه أضمر المفعول الذي لم يسمّ فاعله ، وهو ضمير الغد ، والأصل : نرتع فيه ، ونلعب فيه ، ثم اتسع فيه ؛ فحذف حرف الجرّ ، فتعدى إليه الفعل بنفسه ، فصار

__________________

(١) ينظر : المصدر السابق.

(٢) في ب : ينبأهم.

(٣) سقط في : ب.

(٤) أخرجه البخاري (٩ / ٢٥٤) كتاب النكاح : باب تستحدّ المغيبة وتمتشط الشعثة حديث (٥٢٤٧) ومسلم (٣ / ١٢٢٢) كتاب المساقاة : باب بيع البعير واستثناء ركوبه حديث (١١ / ٧١٥).

(٥) عجز بيت لسويد بن أبي كاهل وصدره : ويحييني إذ لاقيته ..... ينظر : الخزانة ١٢٥ / ١٢٦ المقتضب ٤ / ٧٠ ، المفضليات (١٩٨) اللسان : (رتع) ، الدر المصون ٤ / ١٦٠.

٣٢

نرتعه ونلعبه ، فلما بناه للمفعول ، قام الضمير المنصوب مقام فاعله ، فانقلب مرفوعا فاستتر في رافعه ، فهو في الاتّساع كقوله : [الطويل]

٣٠٥٩ ـ ويوم شهدناه سليما وعامرا

 ........... (١)

ومن رفع الفعلين ، جعلهما حالين ، وتكون مقدّرة ، وأمّا إثبات الياء في «نرتعي» مع جزم «يلعب» وهي قراءة قنبل ، فقد تجرّأ بعض النّاس وردّها.

وقال ابن عطيّة (٢) : هي قراءة ضعيفة لا تجوز إلا في الشّعر ، وقيل : هي لغة من يجزم بالحركة المقدّرة ، وأنشد :

٣٠٦٠ ـ ألم يأتيك والأنباء تنمي

 ........... (٣)

وقد تقدّمت هذه المسألة.

و «نرتع» يحتمل أن يكون وزنه : نفتعل من الرّعي وهي أكل المرعى ؛ كما تقدّم ، ويكون على حذف مضاف ، أي : نرتع مواشينا ، أو من المراعاة للشيء ؛ قال : [الخفيف]

٣٠٦١ ـ ترتعي السّفح فالكثيب فذا قا

ر فروض القطا فذات الرّئال (٤)

ويحتمل أن يكون وزنه «نفعل» من رتع يرتع : إذا أقام في خصب وسعة ، ومنه قول الغضبان بن القبعثرى : «القيد والرّتعة وقلّة المنعة» ؛ وقال الشاعر : [الوافر]

٣٠٦٢ ـ أكفرا بعد ردّ الموت عنّي

وبعد عطائك المائة الرّتاعا (٥)

قوله : (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) : جملة حالية ، والعامل فيها أحد شيئين : إمّا الأمر ، وإمّا جوابه.

فإن قيل : هل يجوز أن تكون المسألة من الإعمال ؛ لأن كلّا من العاملين يصح تسلّطه على الحال؟.

فالجواب : لا يجوز ذلك ؛ لأنّ الإعمال يستلزم الإضمار ، والحال لا تضمر ؛ لأنّها لا تكون إلا نكرة ، أو مؤولة بها.

قوله : (أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ) فاعل : «يحزنني» ، أي : يحزنني ذهابكم ، وفي هذه الآية دلالة على أنّ المضارع المقترن بلام الابتداء لا يكون حالا ، والنّحاة جعلوها من القرائن المخصصة للحال ، ووجه الدلالة : أنّ «أن تذهبوا» مستقبل ؛ لاقترانه بحرف الاستقبال (٦) ، وهي وما في حيّزها فاعل ، فلو جعلنا «ليحزنني» حالا ، لزم سبق الفعل لفاعله ، وهو

__________________

(١) تقدم برقم ٤٦٣.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٢٤.

(٣) تقدم.

(٤) البيت للأعشى ينظر : ديوانه (١٣٨) وجمهرة أشعار العرب ١ / ١١٩ والبحر المحيط ٥ / ٢٧٧ واللسان والتاج والصحاح (سفح) والدر المصون ٤ / ١٦٠.

(٥) تقدم برقم ٣٣٩.

(٦) في ب : الاستنقال.

٣٣

محال وأجيب عن ذلك بأنّ الفاعل في الحقيقة مقدّر ، حذف هو وقام المضاف إليه مقامه ، والتقدير : ليحزنني توقع ذهابكم. وقرأ زيد بن علي وابن هرمز ، وابن محيصن : «ليحزنّي» بالإدغام.

وقرأ زيد بن (١) علي : «تذهبوا به» بضم التّاء من «أذهب» وهو كقوله : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) [المؤمنون : ٢٠] في قراءة من ضمّ التّاء ، فتكون التاء زائدة أو حالية.

والذئب يهمز ولا يهمز ، وبعدم الهمز قرأ السّوسيّ ، والكسائيّ ، وورش (٢) ، وفي الوقف لا يهمزه حمزة ، قالوا وهو مشتقّ من : تذاءبت الرّيح إذا هبّت من كلّ جهة ؛ لأنه يأتي كذلك ، ويجمع على ذائب ، وذؤبان ، وأذؤب ؛ قال : [الطويل]

٣٠٦٣ ـ وأزور يمشي في بلاد بعيدة

تعاوى به ذؤبانه وثعالبه (٣)

وأرض مذأبة : كثيرة الذّئاب ، وذؤابة الشّعر ؛ لتحرّكها ، وتقلبها من ذلك.

وقوله : (وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) : جملة حاليّة ، العامل فيها : «يأكله».

فصل

لما طلبوا منه إرسال يوسف عليه‌السلام معهم اعتذر إليهم بشيئين :

أحدهما : ليبيّن لهم أنّ ذهابهم به مما يحزنه ؛ لأنه كان لا يصبر عنه ساعة.

والثاني : خوفه عليه من الذّئب إذا غفلوا عنه برعيهم ، أو لعبهم أو لقلة اهتمامهم به.

فقيل : إنه رأى في النّوم أن الذّئب شدّ على يوسف فكان يحذره ، فلأجل هذا ذكر ذلك. وقيل : إن الذّئاب كانت كثيرة في أرضهم ، فلما قال يعقوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ هذا الكلام ، أجابوه بقولهم : (لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) وفائدة اللام في «لئن» من وجهين :

أحدهما : أن كلمة «إن» تفيد كون الشّرط مستلزما للجزاء ، أي : إن وقعت هذه الواقعة ، فنحن خاسرون ، فهذه اللام دخلت ؛ لتأكيد هذا الاستلزام.

والثاني : قال الزمخشري (٤) ـ رحمه‌الله ـ «هذه اللام تدلّ على إضمار القسم ، [تقديره:](٥) والله لئن أكله الذئب ، لكنّا خاسرين».

والواو في : (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) واو الحال ؛ فتكون الجملة من قوله : (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) جملة حاليّة. وقيل : معترضة ، و (إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) جواب القسم ، و «إذا» : حرف

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٨٧ والدر المصون ٤ / ١٦١.

(٢) ينظر : الحجة ٤ / ٤٠٧ وإعراب القراءات السبع ١ / ٣٠٥ وحجة القراءات ٣٥٧ والإتحاف ٢ / ١٤٢ والبحر المحيط ٥ / ٢٨٧ والدر المصون ٤ / ١٦١.

(٣) البيت لذي الرمة ينظر : ديوانه ص ٤٨ وشرح شواهد الإيضاح ص ٥٣ والتاج (ذور) والدر المصون ٤ / ١٦١.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٤٩.

(٥) في أ : التقدير.

٣٤

جواب ، وحذف جواب الشرط ، وقد تقدّم الكلام فيه مشبعا.

فصل

ونقل أبو البقاء (١) : أنه قرىء «عصبة» بالنصب ، وقدر ما تقدم في الآية الأولى. في المراد بقولهم : (إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) وجوه :

الأول : [عاجزون](٢) ضعفاء ، نظيره قوله ـ تعالى ـ : (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) [المؤمنون : ٣٤] أي : لعاجزون.

الثاني : أنهم يكونون مستحقّين لأن يدعى عليهم بالخسارة والدّمار ، وأن يقال : أخسرهم الله ، ودمّرهم حين أكل الذّئب أخاهم وهم حاضرون عصبة : عشرة تعصب بهم الأمور ، تكفى (٣) الخطوب بمثلهم.

الثالث : إذا لم نقدر على حفظ أخينا ، فقد هلكت مواشينا ، وخسرنا.

الرابع : أنّهم كانوا قد أتعبوا أنفسهم في خدمة أبيهم ، واجتهدوا في القيام بمهمّاته ، ليفوزوا منه بالدعاء والثناء ، فقالوا : لو قصّرنا في هذه الخدمة ، فقد أحبطنا كل تلك الأعمال ، وخسرنا كل ما صدر منّا من أنواع الخدمة.

فإن قيل : إنّ يعقوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ اعتذر بعذرين (٤) : شدة حبّه ، وأكل الذئب له ، فلم أجابوا عن أحدهما دون الآخر؟.

فالجواب : أن حقدهم ، وغيظهم كان بسبب المحبّة ، فتغافلوا عنه.

قوله تعالى : (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (١٥)

قوله تعالى : (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ) الآية : لا بدّ من الإضمار في هذه الآية في موضعين :

الأول : التقدير : قالوا : لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنّا إذا لخاسرون فأذن له ، وأرسله معهم ، ثم يتصل به قوله ـ تعالى ـ : (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ).

الثاني : في جواب (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ) أوجه :

أحدها : أنه محذوف ، أي : عرفناه ، وأوصلنا إليه الطمأنينة ، وقدره الزمخشريّ : «فعلوا به ما فعلوا من الأذى» وقدره غيره : عظمت فتنتهم ، وآخرون : جعلوه فيها ، وهذا أولى ؛ لدلالة الكلام عليه.

الثاني : أن الجواب مثبت ، وهو قوله : (قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا) أي : لمّا كان كيت وكيت ، قالوا. وفيه بعد ؛ لبعد الكلام من بعضه.

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ٥٠.

(٢) في أ : عجزة.

(٣) في ب : تكفى.

(٤) في ب : بشيئين.

٣٥

الثالث : أن الجواب هو قوله : (وَأَوْحَيْنا) والواو فيه زائدة ، أي : فلما ذهبوا به أوحينا ، وهو رأي الكوفيين ، وجعلوا من ذلك قوله ـ تعالى ـ : (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) [الصافات : ١٠٣ ، ١٠٤] ، أي : تله ، (وَنادَيْناهُ) ، أي : ناديناه ، وقوله عزوجل : (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) [الزمر : ٧٣] وقول امرىء القيس : [الطويل]

٣٠٦٤ ـ فلمّا أجزنا ساحة الحيّ وانتحى

بنا بطن حقف [ذي ركام عقنقل](١)

تقدم أي فلما أجزنا انتحى وهو كثير عندهم بعد «لمّا».

قوله : (أَنْ يَجْعَلُوهُ) «مفعول» «أجمعوا» أي : عزموا على أن يجعلوه ؛ لأنه يتعدّى بنفسه ، وب «على» فإنه يحتمل أن يكون على حذف الحرف ، وألّا يكون ، فعلى الأول : يحتمل موضعه (٢) النصب والجرّ ، وعلى الثاني : يتعين النّصب ، والجعل يجوز أن يكون بمعنى : الإلقاء ، وأن يكون بمعنى : التّصيير فعلى الأول : يتعلّق في «غيابة» بنفس الفعل قبله ، وعلى الثاني : بمحذوف ، والفعل من قوله : (وَأَجْمَعُوا) يجوز أن يكون معطوفا على ما قبله ، وأن يكون حالا ، و «قد» معه مضمرة عند بعضهم ، والضمير في «إليه» الظاهر عوده على يوسف ، وقيل : يعود على يعقوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ.

وقرأ العامّة : «لتنبئنّهم» بتاء الخطاب ، وقرأ ابن عمر (٣) : بياء الغيبة ، أي : الله ـ سبحانه وتعالى ـ.

قال أبو حيّان (٤) : «وكذا في بعض مصاحف (٥) البصرة» وقد تقدّم أن النقط حادث فإن قال : مصحف حادث غير مصحف عثمان رضي الله عنه فليس الكلام في ذلك. وقرأ (٦) سلّام : «لننبّئنّهم» بالنون ، وهذا صفة لقولهم. وقيل : بدل. وقيل : بيان.

قوله : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) جملة حالية ، يجوز أن يكون العامل فيها «أوحينا» أي : أوحينا إليه من غير شعور إخوته ـ بالوحي ، وأن يكون العامل فيها «لتنبئنّهم» أي تخبرهم وهم لا يعرفونك لبعد المدة وتغير الأحوال.

فصل

في المراد بقوله : (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) قولان :

الأول : المراد منه الوحي والنبوة والرسالة ، وهو قول أكثر المحققين ، ثم اختلف هؤلاء في أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ هل كان في ذلك الوقت بالغا أو كان صبيا؟.

قال بعضهم : كان بالغا وكان ابن سبع عشرة سنة. وقال آخرون : كان صغيرا إلا أن

__________________

(١) تقدم برقم ٤٧٧.

(٢) في ب : موضعها.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٨٨ والدر المصون ٤ / ١٦٢.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٨٨.

(٥) في ب : مصاحف.

(٦) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٢٥ والبحر المحيط ٥ / ٢٨٨ والدر المصون ٤ / ١٦٢.

٣٦

الله ـ تعالى ـ أكمل عقله وجعله صالحا لقبول الوحي والنبوة كما في حق عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ حين قالوا : (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) [مريم : ٢٩] فأجابهم بقوله: (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) [مريم : ٣٠].

والقول الثاني : أن المراد بهذا الوحي : الإلهام ، كقوله (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) [القصص : ٧] (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) [النحل : ٦٨]. والأول أولى ؛ لأنه الظاهر من الوحي.

فإن قيل : كيف يجعله نبيا في ذلك الوقت وليس هناك أحد يبلغه الرسالة؟.

فالجواب : لا يمتنع أن يشرفه الله ـ تعالى ـ بالوحي ويأمره بتبليغ الرسالة بعد أوقات ويكون فائدة تقديم الوحي تأنيسه وزوال الغم والوحشة عن قلبه والفائدة في إخفاء ذلك [الوحي](١) عن إخوته : أنهم لو عرفوه فربما ازداد حسدهم فكانوا يقصدون قتله.

فصل

إنما حملنا قوله ـ تبارك وتعالى ـ (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بأنك يوسف ، أي : لا يعرفونك لبعد المدة وتغير الأحوال ، لأن هذا أمرا من الله تعالى ليوسف في أن يستر نفسه عن أبيه [وأن لا يخبره بأحوال نفسه ، فلهذا السبب كتم أخبار نفسه عن أبيه](٢) طول تلك المدة مع علمه بوجد أبيه عليه خوفا من مخالفة أمر الله تعالى ، فصبر على تجرع تلك المرارة ، وكان الله سبحانه قد قضى على يعقوب أن يوصل إليه تلك الغموم الشديدة والهموم العظيمة ليوصله إلى الدرجات العالية التي لا يمكن الوصول إليها إلا بتحصيل المحن الشديدة.

قوله تعالى : (وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) (١٨)

قوله تعالى : (وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ) الآية في «عشاء» وجهان :

أصحهما : ـ وهو الذي لا ينبغي أن [يقال](٣) غيره ـ أنه ظرف ، أي : ظرف زمان أي : جاءوا في هذا الوقت. قال أهل المعاني : جاءوا في ظلمة العشاء ليكونوا أجرأ على الاعتذار بالكذب. و «يبكون» جملة حالية ، أي : جاءوه باكين.

والثاني : أن يكون «عشاء» جمع عاش ، كقائم وقيام.

قال أبو البقاء (٤) : «ويقرأ بضم العين ، والأصل : عشاة ، مثل : غاز وغزاة فحذفت

__________________

(١) في ب : الوقت.

(٢) سقط في : أ.

(٣) في ب : يحتال.

(٤) ينظر : الإملاء ٢ / ٥٠ ، وينظر في قراءتها البحر ٥ / ٢٨٨ ، والإتحاف ٢٦٣.

٣٧

الهاء وزيدت الألف عوضا عنها ، ثم قلبت الألف همزة».

وفيه كلام قد تقدم في آل عمران عند قوله (أَوْ كانُوا غُزًّى) [آل عمران : ١٥٦].

ويجوز أن يكون جمع فاعل على فعال ، كما جمع فعيل على فعال ، لقرب ما بين الكسر والضم ، ويجوز أن يكون كنؤام ورباب وهو شاذ.

وهذه قراءة الحسن ، وهو من العشوة. والعشوة : هي الظلام. رواه ابن جني «عشاء» بضم العين وقال : عشوا من البكاء. وقرأ الحسن (١) : «عشا» على وزن «دجى» نحو غاز وغزاة ، ثم حذفت منه تاء التأنيث [كما حذفوا تاء التأنيث من] «مألكة» فقالوا : مألك ، وعلى هذه الأوجه يكون منصوبا على الحال. وقرأ الحسن (٢) أيضا : «عشيّا» مصغرا.

و «نستبق» نتسابق. والافتعال والتّفاعل يشتركان نحو قولهم : ننتضل ونتناضل ونرتمي ونترامى ، و «نستبق» في محل نصب على الحال و «تركنا» حال من نستبق و «قد» معه مضمرة عند بعضهم.

قال الزجاج : «يسابق بعضنا بعضا في الرمي» ، ومنه قوله ـ عليه الصلاة والسلام : «لا سبق إلّا في نصل أو خفّ أو حافر» يعني بالنصل : الرمي وأصل السبق : الرمي بالسهم ، ثم يوصف المتراميان بذلك ، يقال : استبقا وتسابقا : إذا فعلا ذلك السبق ليتبين أيهما أسبق.

ويدل على صحة هذا التفسير ما روي في قراءة عبد الله (٣) : «إنّا ذهبنا ننتضل» وقال السدي ومقاتل : «نستبق» نشتد ونعدو (٤).

فإن قيل : كيف جاز أن يستبقوا وهم رجال بالغون ، وهذا من فعل الصبيان فالجواب : أن الاستباق منهم كان مثل الاستباق في الخيل ، وكانوا يجربون بذلك أنفسهم ويدربونها على العدو ، لأنه كالآلات لهم في محاربة العدو. وقوله (فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) قيل : أكل الذئب يوسف وقيل : عرّضوا ، وأرادوا أكل الذئب المتاع ، والأول أصح.

ثم قالوا : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) ، أي بمصدق لنا. وقولهم (وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) جملة حالية ، أي : ما أنت بمصدق لنا في كل حال حتى في حال صدقنا لما غلب على ظنك في تهمتنا ببغض يوسف وكراهتنا له.

فإن قيل : كيف قالوا ليعقوب : أنت لا تصدق الصادقين؟.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٢٦ والبحر المحيط ٥ / ٢٨٨ والدر المصون ٤ / ١٦٢.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٥٠ والبحر المحيط ٥ / ٢٨٨ والدر المصون ٤ / ١٦٢.

(٣) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ٩ / ٩٦.

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٤١٤) والرازي في «تفسيره» (١٨ / ٨١).

٣٨

قيل : المعنى أنك تتهمنا في هذا الأمر ؛ لأنك خفتنا في الابتداء ، واتهمتنا في حقه.

وقيل : المعنى لا تصدقنا ؛ لأنه لا دليل لنا على صدقنا وإن كنا صادقين عند الله تعالى.

فصل

احتجوا بهذه الآية على أن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق لقوله تعالى : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) ، أي بمصدق.

روي أن امرأة تحاكمت إلى شريح فبكت ، فقال الشعبي : يا أبا أمية (١) : أما تراها تبكي؟ قال : قد جاء إخوة يوسف يبكون وهم ظلمة كذبة لا ينبغي للإنسان أن يقضي إلا بالحق (٢).

قوله تعالى : (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) الآية (عَلى قَمِيصِهِ) في محل نصب على الحال من الدم.

قال أبو البقاء (٣) : «لأن التقدير : جاءوا بدم كذب على قميصه». يعني أنه لو تأخر لكان صفة للنكرة. ورد الزمخشري هذا الوجه.

قال «فإن قلت : هل يجوز أن تكون حالا متقدمة؟.

قلت : لا ، لأن حال المجرور لا يتقدم عليه».

وهذا الذي رد به الزمخشري أحد قولي النحاة ، قد صحح جماعة جوازه ؛ وأنشدوا : [الطويل]

٣٠٦٥ ـ ...........

فلن يذهبوا فرغا بفتل حبال (٤)

وقول الآخر : [الطويل]

٣٠٦٦ ـ لئن كان برد الماء هيمان صاديا

إليّ حبيبا إنّها لحبيب (٥)

وقول الآخر : [الخفيف]

٣٠٦٧ ـ غافلا تعرض المنيّة للمر

ءفيدعى ولات حين إباء (٦)

وقال الحوفيّ : (عَلى قَمِيصِهِ) : متعلق ب «جاءوا» ، وفيه نظر ؛ لأنّ مجيئهم لا يصلح أن يكون على القميص.

وقال الزمخشري (٧) : «فإن قلت : (عَلى قَمِيصِهِ) ما محله؟ قلت : محلّه النّصب على

__________________

(١) في أ : أمامه.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ١٥) وعزاه إلى ابن المنذر.

(٣) ينظر : الإملاء ٢ / ٥٠.

(٤) تقدم.

(٥) تقدم.

(٦) تقدم.

(٧) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٥١.

٣٩

[الظّرفية](١) ، كأنّه قيل : وجاءوا فوق قميصه بدم ، كما تقول : جاءوا على جماله بأحمال».

قال أبو حيان (٢) : ولا يساعد المعنى على نصب «على» على الظرفية ، بمعنى : فوق لأن العامل فيه إذ ذاك «جاءوا» وليس الفوق ظرفا لهم [بل يستحيل أن يكون ظرفا لهم].

وهذا الردّ هو الذي ردّ به على الحوفيّ في قوله : إنّ «على» متعلقة (٣) ب : «جاءوا».

ثمّ قال أبو حيان ـ رحمه‌الله ـ : «وأمّا المثال الذي ذكره وهو : [جاء](٤) على جماله بأحمال ، فيمكن أن يكون ظرفا للجائي ؛ لأنّه تمكن الظرف فيه باعتبار تبدّله من حمل إلى حمل ، ويكون «بأحمال» في موضع الحال ، أي : مصحوبا بأحمال».

وقرأ العامّة : «كذب» بالذّال المعجمة ، وهو من الوصف بالمصادر ، فيمكن أن يكون على سبيل المبالغة ، نحو : «رجل عدل».

وقال الفراء ، والمبرّد والزجاج ، وابن الأنباريّ : «بدم كذب» ، أي : مكذوب فيه ، إلا أنّه وصف بالمصدر ، جعل نفس الدّم كذبا ؛ للمبالغة ، قالوا : والمفعول ، والفاعل يسميان بالمصدر ، كما يقال : ماء سكب ، أي : مسكوب ، والفاعل كقوله : (إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) [الملك : ٣٠] ولما سمّيا بالمصدر سمي المصدر بهما ، فقالوا للعقل : المعقول ، وللجلد : المجلود ، ومنه قوله تعالى : (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) [القلم : ٦] أو على حذف مضاف ، أي : ذي كذب ، نسب فعل فاعله إليه.

وقرأ زيد (٥) بن عليّ : «كذبا» بالنصب ، فاحتمل أن يكون مفعولا من أجله ، واحتمل أن يكون مصدرا في موضع الحال ، وهو قليل ، أعني : مجيء الحال من النكرة ، وقرأت عائشة (٦) والحسن ـ [رضي الله عنهما] ـ : «كدب» بالدّال المهملة.

قال صاحب اللّوامح : «معناه : ذي كدب ، أي : أثر ؛ لأنّ الكدب هو بياض ، يخرج في [أظافير الشبان](٧) ويؤثر فيها ، فهو كالنقش ، ويسمى ذلك البياض : الفوف ، فيكون هذا استعارة لتأثيره في القميص ، كتأثير ذلك في الأظافر».

وقيل : هو الدّم الكدر ، وقيل : الطّريّ ، وقيل : اليابس.

فصل

قال الشعبيّ : قصة يوسف كلّها في قميصه ، وذلك أنّهم لمّا ألقوه في الجبّ ، نزعوا

__________________

(١) في أ : الظرف.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٨٩.

(٣) في ب : متعلق.

(٤) في ب : جاؤوا.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٨٩ ، والدر المصون ٤ / ١٦٣.

(٦) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٥١ والمحرر الوجيز ٣ / ٢٢٧ والبحر المحيط ٥ / ٢٨٩ والدر المصون ٤ / ١٦٣.

(٧) في ب : أظافر الشباب.

٤٠