اللّباب في علوم الكتاب - ج ١١

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١١

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥١٠

وقيل : الحفظة يكتبون جميع أعمال بني آدم وأقوالهم فيمحوا الله من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثواب ولا عقاب ، كقوله : أكلت. شربت. دخلت. خرجت ، ونحوها من الكلام هو صادق فيه ، ويثبت ما فيه ثواب وعقاب ، قاله الضحاك والكلبي (١) ورواه أبو بكر الأصم لأن الله تعالى قال في وصف الكتاب (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) [الكهف : ٤٩].

وقال تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة : ٧ ـ ٨].

فأجاب القاضي عنه : بأنه لا يغادر من الذنوب صغيرة ولا كبيرة ، ويمكن أن يجاب عن هذا : بأنكم خصصتم الكبيرة والصغيرة بالذنوب بمجرد اصطلاحكم ، وأما في أصل اللغة فالصغيرة والكبيرة تتناول كل فعل وعرض ، لأنه إن كان حقيرا فهو صغير وإن كان غير ذلك فهو كبير ، وعلى هذا يتناول المباحات.

وقال عطية عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : «هو الرجل يعمل بطاعة الله ثم يعود لمعصية الله فيموت على ضلاله ، فهو الذي يمحو والذي يثبت هو الرجل يعمل بطاعة الله فيموت في طاعته فهو الذي يثبت» (٢).

وقال الحسن : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ) أي : من جاء أجله يذهب به ويثبت من لم يجىء أجله إلى أجله (٣).

وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه : يمحو الله ما يشاء : من ذنوب العباد ويغفرها ويثبت ما يشاء فلا يغفرها (٤).

وقال عكرمة : ما يشاء من الذنوب بالتوبة ، ويثبت بدل الذنوب حسنات ، كما قال الله تعالى (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ)(٥) [الفرقان : ٧٠] وقيل غير ذلك.

قوله (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) أي : أصل الكتاب وهو اللوح المحفوظ الذي لا يبدل ولا يغير ، والأم : أصل الشيء ، والعرب تسمي كل ما يجري مجرى الأصل للشيء أمّا له ، ومنه أم الرأس للدماغ ، وأم القرى لمكة ، وكد مدينة فهي أمّ لما حولها من القرى.

قال ابن عباس في رواية عكرمة : هما كتابان : كتاب سمي أم الكتاب يمحو ما يشاء منه ويثبت وأم الكتاب لا يغير منه شيء ، وعلى هذا فالكتاب الذي يمحو منه ويثبت هو الكتاب الذي تكتبه الملائكة على الخلق (٦).

__________________

(١) ينظر : تفسير البغوي (٣ / ٢٣).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٤٠٠) وذكره البغوي (٣ / ٢٣).

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٤٠٢ ـ ٤٠٣) وذكره السيوطي (٤ / ١٢٦) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٢٣).

(٥) ينظر : المصدر السابق.

٣٢١

وعن عطاء عن ابن عباس ـ رضي الله عنهم ـ قال : إن لله لوحا محفوظا مسيرة خمسمائة عام من درة بيضاء له دفتان من ياقوت ، لله فيه كل يوم ثلاثمائة وستون لحظة يمحوا ما يشاء ويثبت (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) [وسأل ابن عباس كعبا عن أم الكتاب](١) فقال : «علم الله ما خلقه وما هو خالقه إلى يوم القيامة» (٢).

قوله تعالى : (وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ)(٤٠)

قوله : (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) من العذاب قبل وفاتك (٣)(أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) قبل ذلك (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) ليس عليك إلا ذلك (وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) والجزاء يوم القيامة.

قوله : (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) جواب للشرط قبله. قال أبو حيان (٤) : «والذي تقدم شرطان ، لأن المعطوف على الشرط شرط ، فأما كونه جوابا للشرط الأول فليس بظاهر ؛ لأنه لا يترتب عليه ، إذ يصير المعنى : وإما نرينك بعض ما نعدهم من العذاب (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) وأما كونه جوابا للشرط الثاني وهو (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) فكذلك لأنه يصير التقدير : إنما نتوفينك فإنما عليك البلاغ ولا يترتب جواب التبليغ عليه وعلى وفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن التكليف ينقطع [عند الوفاة](٥) فيحتاج إلى تأويل ، وهو أن يقدر لكل شرط ما يناسب أن يكون جزاء مترتبا عليه ، والتقدير : وإما نرينك بعض الذي نعدهم به من العذاب فذلك شافيك من أعدائك أو نتوفينك قبل حلوله بهم ، فلا لوم عليك ولا عتب».

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ)(٤٣)

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) الآية.

لما وعد رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بأن يريه بعض ما وعده أو يتوفاه قبل ذلك ، بين ههنا أن آثار حصول تلك المواعيد وعلاماتها قد ظهرت ، فقال (أَوَلَمْ يَرَوْا) يعني أن أهل مكة الذين يسألون محمدا ـ عليه الصلاة والسلام ـ الآيات (أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) أكثر المفسرين على أن المراد : فتح ديار الشرك فإن ما زاد من دار الإسلام قد نقص من دار الشرك ؛ لأن المسلمين يستولون على أطراف مكة ويأخذونها من

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٤٠٠).

(٢) زيادة من أ.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٤٠٤) وذكره البغوي (٣ / ٢٣).

(٤) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٨٩.

(٥) في ب : بالموت.

٣٢٢

الكفرة قهرا وجبرا ، فانتقاض أحوال الكفرة وازدياد قوة المسلمين من أقوى العلامات على أن الله ـ تبارك وتعالى ـ ينجز وعده فلا يعتبرون بهذا ونظيره قوله تعالى : (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) [الأنبياء : ٤٤] وقوله تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) [فصلت : ٥٣].

وقال قوم : هو خراب الأرض ، أي : أو لم يروا أنا نأتي الأرض فنخربها ، ونهلك أهلها ، أفلا تخافون أن يفعل بكم ذلك؟ وروي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أيضا : ننقصها من أطرافها ، المراد موت كبرائها وأشرافها وعلمائها وذهاب الصلحاء.

قال الواحدي (١) : «وهذا القول وإن احتمله اللفظ إلا أن اللائق بهذا الموضع هو الوجه الأول ، ويمكن أن يقال : هذا الوجه أيضا لا يليق بهذا الموضع ؛ لأن قوله (أَوَلَمْ يَرَوْا) أنا نحدث في الدنيا من الاختلافات خراب بعد عمارة ، وموت بعد حياة ، وذل بعد عز ، ونقص بعد كمال ، وإذا كانت هذه التغيرات مشاهدة محسوسة فما الذي يؤمنهم أن الله يقلب الأمر على هؤلاء الكفرة ويصيرهم ذليلين بعد عزهم ومقهورين بعد قهرهم ، فناسب هذا الكلام ما قبله».

قوله «ننقصها» حال إما من فاعل «نأتي» أو من مفعوله.

وقرأ الضحاك (٢) «ننقّصها» بالتضعيف ، عداه بالتضعيف.

قوله «لا معقّب» جملة حالية ، وهي لازمة. والمعقب : هو الذي يكرّ على الشيء فيبطله ، قال لبيد : [الكامل]

٣١٨٨ ـ ...........

طلب المعقّب حقّه المظلوم (٣)

والمعنى : والله يحكم لا رادّ لحكمه. والمعقب : هو الذي يعقبه بالرد والإبطال ومنه قيل لصاحب الحق معقب ؛ لأنه يعقب غريمه بالاقتضاء والطلب كأنه قيل : والله يحكم نافذا حكمه خاليا عن المدافع والمعارض والمنازع (وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) قال ابن عباس رضي الله عنه : الانتقام (٤).

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ١٩ / ٥٤.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٣١٩ والبحر المحيط ٥ / ٣٩٠ والدر المصون ٤ / ٢٤٧.

(٣) عجز بيت وصدره :

حتى تهجر في الرواج وهاجة

ينظر : ديوانه (١٥٥) ، الإنصاف ١ / ٢٣٢ ، معاني الفراء ٢ / ٦٦ ، ابن الشجري ١ / ٢٢٨ ، أوضح المسالك ١ / ٢٢٠ ، البحر المحيط ٥ / ٣٩٠ ، شرح المفصل ٢ / ٤٦ ، الهمع ٢ / ١٤٥ ، الدرر ١ / ١٤١ ، التصريح ١ / ٧٨ ، الأشموني ٢ / ٤٧ ، لسان العرب ١ / ٦١٤ ، خزانة الأدب ٢ / ٢٤٢ ، شرح شواهد الإيضاح ص ١٣٣ ، المقاصد النحوية ٣ / ٥١٢ ، الدر المصون ٤ / ٢٤٧.

(٤) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٩ / ٥٤).

٣٢٣

قوله : (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني من قبل مشركي مكة والمكر : إيصال المكروه إلى الإنسان من حيث لا يشعر (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) أي : عند الله جزاء مكرهم.

قال الواحدي ـ رحمه‌الله ـ : يعني أن مكر جميع الماكرين حاصل بتخليقه وإرادته لأنه ـ تعالى ـ هو الخالق لجميع العباد والمكر لا يضر إلا بإذنه ، ولا يؤثر إلا بتقديره وفيه تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمان له من مكرهم ، فكأنه قيل : إذا كان حدوث المكر من الله وتأثيره في المأمور به من الله ـ تعالى ـ وجب أن لا يكون الخوف إلا من الله.

ثم قال ـ جل ذكره ـ (يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) ، أي : أن اكتساب العباد معلوم لله ـ تعالى ـ وخلاف المعلوم ممتنع الوقوع ، وإذا كان كذلك فلا قدرة للعبد على الفعل والترك ، فكان الكل من الله ـ تعالى ـ.

قالت المعتزلة (١) : الآية الأولى إن دلت على قولكم ، فقوله (يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) دليل على قولنا ، لأن الكسب هو الفعل المشتمل على دفع مضرة أو جلب منفعة ، ولو كان حدوث الفعل [بخلق](٢) الله ـ تعالى ـ لم تكن لقدرة العبد فيه أثر ، فوجب أن لا يكون للعبد فيه كسب.

والجواب : أن جميع القدرة مع الداعي مستلزم للفعل وعلى هذا التقدير فالكسب حاصل للعبد.

ثم إنه ـ تعالى ـ أكد ذلك التهديد فقال ـ جل ذكره ـ (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ) قرأ ابن عامر والكوفيون «الكفّار» جمع تكسير والباقون : «الكافر» (٣) بالإفراد ذهابا إلى الجنس.

وقرأ عبد الله (٤) «الكافرون» جمع سلامة.

قال الزمخشري (٥) : «قرىء : الكفّار والكافرون والذين (٦) كفروا ، والكافر».

قال المفسرون : والمراد بالكافر : الجنس ، كقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) [العصر : ٢].

وقال عطاء رحمه‌الله تعالى : يريد المستهزئين وهم خمسة ، والمقتسمين وهم ثمانية وعشرون (٧).

وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : يريد أبا (٨) جهل ، والأول هو الصواب.

قوله : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً) الآية لما حكى عن القوم أنهم أنكروا كونه رسولا من عند الله احتج عليهم بأمرين :

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ١٩ / ٥٥.

(٢) في أ : بقدرة.

(٣) ينظر : الحجة ٥ / ٢١ وإعراب القراءات السبع ١ / ٣٣٢ وحجة القراءات ٣٧٥ والإتحاف ٢ / ١٦٣ والمحرر الوجيز ٣ / ٣١٩ والبحر المحيط ٥ / ٣٩٠ والدر المصون ٤ / ٢٤٧.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٣١٩ والبحر المحيط ٥ / ٣٩٠ والدر المصون ٤ / ٢٤٧.

(٥) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٣٥.

(٦) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٣٥.

(٧) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٩ / ٥٥).

(٨) ينظر : المصدر السابق.

٣٢٤

الأول : شهادة الله ـ تعالى ـ على نبوته ، والمراد من تلك الشهادة أنه ـ تعالى ـ أظهر المعجزات على صدقه في ادعاء الرسالة ، وهذا أعظم مراتب الشهادة لأن الشهادة قول يفيد غلبة الظن ، وإظهار المعجزة فعل مخصوص يوجب القطع بكونه رسولا من عند الله ، فكان إظهار المعجزة أعظم مراتب الشهادة.

والثاني : قوله (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) العامة على فتح ميم «من» وهي موصولة ، وفي محلها أوجه :

أحدها : أنها مجرورة المحل نسقا على لفظ الجلالة ، أي : بالله وبمن عنده علم الكتاب كعبد الله بن سلام ونحوه.

والثاني : أنها في محل رفع عطفا على محل الجلالة ، إذ هي فاعلة ، والباء مزيدة فيها.

والثالث : أن يكون مبتدأ وخبره محذوف ، أي : ومن عنده علم الكتاب أعدل وأمضى قولا ، و (عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) يجوز أن يكون الظرف صلة و «علم» فاعل به ، واختاره الزمخشري وتقدم تقريره.

وأن يكون مبتدأ ، وما قبله الخبر ، والجملة صلة ل «من».

والمراد بمن عنده علم الكتاب : ابن سلام ، أو جبريل عليه الصلاة والسلام.

قال ابن عطية (١) : «ويعترض هذا القول بأن فيه عطف الصفة على الموصوف ولا يجوز وإنما يعطف الصفات».

فاعترض أبو حيان عليه (٢) : بأن «من» لا يوصف بها ولا بغيرها من الموصولات إلا ما استثني ، وبأن عطف الصفات بعضها على بعض لا يجوز إلا بشرط الاختلاف.

قال شهاب الدين : إنما عنى ابن عطية الوصف المعنوي لا الصناعي ، وأما شرط الاختلاف فمعلوم.

وقرأ أبيّ وعلي وابن عباس (٣) وعكرمة وعبد الرحمن بن أبي بكرة والضحاك وابن أبي إسحاق ومجاهد ـ رضوان الله عليهم ـ في خلق كثير «ومن عنده علم الكتاب» جعلوا «من» حرف جر ، و «عنده» مجرور بها ، وهذا الجار خبر مقدم ، و «علم» مبتدأ مؤخر ، و «من» لابتداء الغاية أي : ومن عند الله حصل علم الكتاب.

وقرأ علي أيضا والحسن (٤) وابن السميفع «ومن عنده علم الكتاب» يجعلون «من» جارة ، و «علم» مبنيّا للمفعول و «الكتاب» رفع به. وقرىء كذلك ؛ إلا أنه بتشديد «علّم» والضمير في «عنده» على هذه القراءات لله تعالى فقط.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٣٢٠.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٩١.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٣٢٠ والبحر المحيط ٥ / ٣٩١ والدر المصون ٤ / ٢٤٨.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٣٢٠ والبحر المحيط ٥ / ٣٩١ والدر المصون ٤ / ٢٤٨.

٣٢٥

وقرىء أيضا (١) : «وبمن» بإعادة الباء الداخلة على «من» عطفا على [«بالله»](٢).

فصل

على هذه القراءة الأولى المراد : شهادة مؤمني أهل الكتاب ، كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وتميم الداري. وقال أبو بشر : قلت لسعيد بن جبير : (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) أهو عبد الله بن سلام؟ ، فقال : وكيف يكون عبد الله بن سلام وهذه السورة مكية (٣) ، وهو ممن آمنوا بالمدينة بعد الهجرة؟.

وأجيب : بأن هذه السورة وإن كانت مكية إلا أن هذه الآية مدنية.

ويعترض هذا أيضا : بأن إثبات النبوة بقول الواحد والاثنين مع كونهما غير معصومين لا يجوز.

وقال الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير والزجاج (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) هو الله ـ سبحانه وتعالى (٤) ـ.

وقال الأصم : (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) أي : ومن عنده علم القرآن.

والمعنى : أن الكتاب الذي جئتكم به معجز قاهر ، إلا أنه لا يحصل العلم بكونه معجزا إلا لمن علم ما فيه من الفصاحة والبلاغة واشتماله على الغيوب وعلى العلوم الكثيرة فمن عرف هذا الكتاب من هذا الوجه دل على كونه معجزا.

وقيل : (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) أي : الذي حصل عنده علم التوراة والإنجيل يعني كل من كان عالما بهذين الكتابين علم اشتمالهما على البشارة بمقدم محمد ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فإذا أنصف ذلك العالم ولم يكذبه كان ذلك شاهدا على أن محمدا رسول حق من عند الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ.

وأما معنى القراءة الثانية : أي : أن أحدا لا يعلم الكتاب إلا من فضله وإحسانه وتعليمه ، والمراد العلم الذي هو ضد الجهل.

وأما القراءة على ما لم يسم فاعله ، فالمعنى : أنه ـ تعالى ـ لما أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يحتج عليهم بشهادة الله على نبوته ، وكان لا معنى لشهادة الله على نبوته إلا إظهار القرآن على وفق دعواه ، ولا يعلم كون القرآن معجزا إلا بعد الإحاطة بمعاني القرآن وأسراره ،

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٣٦ والدر المصون ٤ / ٢٤٨.

(٢) في أ : الجلالة.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٤١١) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٢٩) وزاد نسبته إلى إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في «ناسخه».

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٤١١) عن مجاهد والحسن وسعيد بن جبير وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٢٩) عن مجاهد وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.

٣٢٦

بين الله ـ تعالى ـ أن هذا العلم لا يحصل إلا من عند الله ، والمعنى : أن الوقوف على كون القرآن معجزا لا يحصل إلا لمن شرفه الله من عباده بأن يعلمه علم القرآن.

روى ابن عباس عن أبي بن كعب ـ رضي الله عنهم ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة الرّعد أعطي من الأجر عشر حسنات بوزن كلّ سحاب مضى وكلّ سحاب يكون إلى يوم القيامة ، وكان يوم القيامة من الموفين بعهد الله ـ عزوجل ـ سبحانه ـ لا إله إلّا هو الملك الحقّ المبين» (١)

__________________

(١) أخرجه الثعلبي من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب وأخرجه أيضا ابن مردويه والواحدي ، ينظر : تخريج الكشاف للحافظ الزيلعي (٢ / ١٩٥ ـ ١٩٦).

٣٢٧

سورة إبراهيم

مكيّة في قول الحسن ، وعكرمة ، وجابر (١). وقال ابن عباس ، وقتادة ـ رضي الله عنهم ـ وهي مكيّة إلا اثنتين (٢) ، وقيل : ثلاث من قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) [الآية : ٢٨] إلى قوله تعالى : (فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) فإنها مدنية.

وهي اثنتان وخمسون آية ، وعدد كلماتها ثمان مائة وإحدى وثلاثون كلمة وعدد حروفها ثلاثة آلاف وأربعمائة وأربعة وثلاثون حرفا.

قال ابن الخطيب (٣) : ومتى لم يكن في السّورة ما لا يتصل بالأحكام فمكة والمدينة فيه سواء ، وإنّما يختلف الغرض في ذلك إذا حصل في السورة ناسخ ومنسوخ ؛ فيكون فيه فائدة عظيمة والله أعلم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ)(٣)

قوله تعالى : (الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ) يجوز أن يرتفع «كتاب» على أنّه خبر ل «الر» إن قلنا : إنّها مبتدأ ، والجملة بعده صفة ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر ، أي : هذا ، وأن يرتفع بالابتداء وخبره الجملة بعده ، وجاز الابتداء بالنكرة ؛ لأنّها موصوفة تقديرا ، تقديره : كتاب ، أي : كتاب يعني عظيما من بين الكتب السماوية.

قالت المعتزلة (٤) : النّازل ، والمنزل لا يكون قديما.

والجواب : أنّ الموصوف بالمنزل هو هذه الحروف وهي محدثة.

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٩ / ٢٢٢).

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٣٠) وعزاه إلى النحاس في «الناسخ والمنسوخ». وذكره القرطبي في «تفسيره» (٩ / ٢٢٢) عن ابن عباس وقتادة.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ١٩ / ٥٧.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ١٩ / ٥٧.

٣٢٨

قوله (لِتُخْرِجَ النَّاسَ) متعلق ب «أنزلناه». وقرىء (١) (ليخرج الناس) بفتح الياء وضمّ الراء ، من خرج يخرج. «النّاس» رفعا على الفاعليّة.

قالت المعتزلة : اللّام في «لتخرج» لام الغرض والحكمة ، تدلّ على أنه ـ تعالى ـ إنما أنزل هذا الكتاب لهذا الغرض ، فدل على أنّ أقوال الله ـ تعالى ـ وأفعاله معللة برعاية المصالح.

وأجيب : بأن من فعل فعلا لأجل شيء آخر ، فهذا إنّما يفعله إذا كان عاجزا عن تحصيل ذلك المقصود إلّا بهذه الواسطة ، وذلك محال في حقّ الله ـ تعالى ـ ، وإذا ثبت بالدّليل منع تعليل أفعال الله ـ تعالى ـ وأحكامه بالعلل ؛ ثبت أنّ كل ظاهر أشعر به فهو مؤول على معنى آخر.

فصل

قوله تعالى : (مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي : لتدعوهم من ظلمات [الضّلال](٢) إلى نور الإيمان.

قال القاضي (٣) ـ رحمه‌الله ـ : هذه الآية تبطل القول بالجبر من جهات :

أحدها : أنّه ـ تعالى ـ لو خلق الكفر في الكافر ، فكيف يصحّ إخراجه منه بالكتاب.

وثانيها : أنّه ـ تعالى ـ أضاف الإخراج من الظّلمات إلى النور إلى الرّسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فإن كان خالق الكفر هو الله ـ تعالى ـ فكيف يصحّ من الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ إخراجهم منه ، وكان للكافر أن يقول : إنّك تقول : إن الله خلق الكفر فينا فكيف يصحّ منك أن تخرجنا؟.

فإن قال لهم : أنا أخرجكم من الظّلمات التي هي كفر مستقبل لا واقع فلهم أن يقولوا : إنه كان الله سيخلقه فينا لم يصح ذلك الإخراج ، وإن لم يخلقه الله فنحن خارجون منه بلا إخراج.

وثالثها : أنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ إنّما يخرجهم من الكفر بالكتاب بأن يتلوه عليه ليتدبروه ؛ ولينظروا فيه فيعلموا بالنّظر ، والاستدلال كونه ـ تعالى ـ عالما قادرا حكيما ، ويعلموا بكون القرآن معجزة صدق الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فحينئذ يقبلوا منه كلّ ما جاءهم من الشّرائع ، وذلك إنّما يكون إذا كان الفعل لهم ويقع باختيارهم ، ويصحّ منهم أن يقدموا عليه ويتصرّفوا فيه.

والجواب عن الكل : أن يقال : الفعل الصادر من العبد.

إمّا أن يصدر عنه حال استواء الدّاعي إلى الفعل والترك.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٣٧ ، البحر المحيط ٥ / ٣٩٣ ، والدر المصون ٤ / ٢٤٩.

(٢) في أ : الضلالة.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ١٩ / ٥٨.

٣٢٩

أو حال رجحان أحد الطرفين على الآخر.

والأول باطل ؛ لأنّ صدور الفعل يقتضي رجحان جانب الوجود على جانب العدم وحصول الرّجحان حال حصول الاستواء محال ، والثاني عين قولنا ؛ لأنّه يمتنع صدور الفعل عنه إلّا بعد حصول الرجحان ، فإن كان ذلك الرجحان منه عاد السؤال ، وإن لم يكن منه بل من الله ، فحينئذ يكون المؤثر الأول هو الله ـ تعالى ـ وهو المطلوب.

قوله : (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) يجوز أن يتعلق بالإخراج ، أي : بتيسيره وتسهيله ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنّه حال من فاعل : «يخرج» أي : مأذونا لك.

وهذا يدلّ على أنّ فعل العبد مخلوق لله تعالى ، فإنّ قوله : (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) معناه : أنّ الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لا يمكنه إخراج النّاس من الظلمات إلى النّور إلا بإذن الله تعالى.

والمراد بهذا الإذن : إما الأمر وإما العلم وإما المشيئة والخلق ، وحمل الإذن على الأمر محال ؛ لأنّ الإخراج من الجهل إلى العلم لا يتوقف على الأمر فإنّه سواء حصل الأمر أم لم يحصل ، فإنّ الجهل متميز عن العلم ، والباطل متميز عن الحقّ.

وأيضا : حمل الإذن على العلم محال ؛ لأنّ العلم يتبع المعلوم على ما هو عليه فالعلم بالخروج من الظّلمات إلى النّور تابع لذلك الخروج ، ولا يمتنع أن يقال : إن حصول ذلك الخروج تابع للعلم بحصول ذلك الخروج ، ولما بطل هذان القسمان لم يبق إلا أن المراد من الإذن : المشيئة ، والتخليق ، وذلك يدلّ على أن الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لا يمكنه إخراج النّاس من الظلمات إلى النّور إلّا بمشيئة الله ـ تعالى ـ.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد من الإذن الإلطاف؟.

فالجواب : لفظ الإذن مجمل ، ونحن نفصل القول فيه.

فنقول : المراد بالإذن إمّا أن يكون أمرا يقتضي رجحان جانب الوجود على جانب العدم ، أو لا يقتضي ذلك ، فإنّ كان الثاني لم يكن له فيه أثر ألبتة ، وامتنع أن يقال : إنه إنّما حصل بسببه ، ولأجله فبقي الأول ، وهو أنّ المراد من الإذن معنى يقتضي رجحان ترجيح جانب الوجود على جانب العدم ، ومتى حصل الرجحان فيه حصل الوجود ولا معنى لذلك إلا الداعية الموجبة وهو قولنا.

فصل

دلّت الآية على أنّ طرق الكفر ، والضلالات كثيرة ، وأنّ طريق الحقّ ليس إلّا واحدا ؛ لأنّ الله ـ تعالى ـ عبر عن الجهل ، والكفر بالظلمات ، وهي صيغة جمع ، وعبّر عن الإيمان والهداية بالنّور وهو لفظ مفرد.

قوله (إِلى صِراطِ) فيه وجهان :

٣٣٠

أحدهما : أنه بدل من قوله «إلى النّور» بإعادة العامل ، ولا يضر الفصل بالجارّ ؛ لأنه من معمولات العامل في المبدل منه.

والثاني : أنه متعلق بمحذوف على أنّه جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : إلى أيّ نور؟ فقيل: «إلى صراط» ، والمراد بالصّراط : الدّين والعزيز هو الغالب و «الحميد» المستحق للحمد.

وقدم ذكر العزيز على ذكر الحميد ؛ لأنّ أول العلم بالله العلم بكونه ـ تعالى ـ قادرا ، ثمّ بعد ذلك يعلم كونه عالما ، ثمّ بعد ذلك يعلم كونه غنيّا عن جميع الحاجات والعزيز هو القادر ، والحميد هو العالم الغنيّ ؛ فلذلك قدّم ذكر «العزير» على ذكر «الحميد».

قوله : (اللهِ الَّذِي) قرأ نافع (١) وابن عامر وأبو جعفر برفع الجلالة والباقون بالجر ورواها الأصمعي ، وكان يعقوب إذا وصل خفض.

وأما الرفع فعلى وجهين :

أحدهما : أنه مبتدأ خبره الموصول بعده ، أو محذوف ، تقديره : الله الذي له ما في السموات ، وما في الأرض العزيز الحميد ، حذف لدلالة ما تقدّم.

والثاني : أنّه خبر لمبتدأ مضمر ، أي : هو الله ، وذلك على المدح ، وأمّا الجرّ فعلى البدل عند أبي البقاء ، والحوفي ، وابن عطيّة والبيان عند الزمخشري قال : «لأنه جرى مجرى الأسماء لغلبته على المعبود بحقّ ، كالنّجم للثّريّا».

قال أبو حيان (٢) : «وهذا التعليل لا يتمّ إلّا أن يكون أصله «الإله» ثم فعل فيه ما تقدم أول الكتاب».

وقال ابن عصفور : «لا تقدّم صفة على موصوف إلّا حيث سمع» وهو قليل ، وللعرب فيه وجهان :

أحدهما : أن تتقدم الصفة بحالها ، وفيه إعرابان للنحويين :

أحدهما : أن يعرب صفة متقدمة.

والثاني : أن يجعل الموصوف بدلا من صفته.

والثاني ـ من الأولين ـ : أن تضيف الصفة إلى الموصوف ، فعلى هذا يجوز أن يعرب «العزيز الحميد» صفة متقدمة. ومن مجيء تقديم الصفة قوله : [البسيط]

٣١٨٩ ـ والمؤمن العائذات الطّير يمسحها

ركبان مكّة بين الفيل والسّعد (٣)

__________________

(١) ينظر الحجة ٥ / ٢٥ وإعراب القراءات السبع ١ / ٣٣٤ وحجة القراءات ٣٧٦ والإتحاف ٢ / ١٦٦ والمحرر الوجيز ٣ / ٣٢٢ والبحر المحيط ٥ / ٣٩٣ والدر المصون ٤ / ٢٥٠.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٩٣.

(٣) البيت للنابغة الذبياني. ينظر : ديوانه (١٥) ، شرح المفصل (٣ / ١١) ، المقرب (١ / ٢٢٧) ، البحر المحيط (٥ / ٣٩٣) ، روح المعاني (١٣ / ١٨٢) ، شواهد الكشاف (٣٨٠) ، شرح المعلقات العشر (٣٠٠) ، الدر المصون (٤ / ٢٥٠).

٣٣١

وقول الآخر : [الرجز]

٣١٩٠ ـ وبالطّويل العمر عمرا حيدرا (١)

يريد : الطير العائذات ، وبالعمر الطويل.

قال شهاب الدّين (٢) ـ رحمه‌الله ـ : «وهذا فيما لم يكن الموصوف نكرة ، أمّا إذا كان نكرة فتنصب تلك الصفة على الحال».

قال ابن الخطيب (٣) : «الله» : اسم على لذاته المخصوصة وإذا كان كذلك ، فإذا أردنا أن نذكر الصفات ذكرنا أولا قولنا : «الله» ، ثم وصفناه كقوله : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) [الحشر : ٢٢] الملك القدّوس ، ولا يمكننا أن نعكس الأمر فنقول : هو الرحمن الرحيم الله ، فعلمنا أنّ «الله» اسم علم للذّات المخصوصة ، وسائر الألفاظ دالة على الصّفات.

وإذا ظهرت هذه المقدمة فالترتيب الحسن : أن يذكر الاسم ثم يذكر عقيبه الصفات ، كقوله : (هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ) [الحشر : ٢٤] فأمّا أن تعكس فتقول : هو الخالق المصور البارىء الله ؛ فذلك غير جائز ، وإذا ثبت هذا فنقول : الذين قرؤوا برفع الجلالة على أنّه مبتدأ ، وما بعده خبر هو الصحيح ، والذين قرءوا بالجرّ إتباعا لقوله : (الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) مشكل لما بيّنا من أنّ الترتيب الحسن أن يقال : الله الخالق ، وعند هذا اختلفوا في الجواب :

فقال أبو عمرو بن العلاء : القراءة بالخفض على التّقديم ، والتّأخير ، والتقدير : صراط الله العزيز الحميد الذي له ما في السموات [والأرض](٤).

وقيل : لا يبعد أن تذكر الصفة أولا ثمّ يذكر الاسم ، ثم تذكر الصّفة مرة أخرى كما يقال : الإمام الأجلّ محمد الفقيه ، وهو بعينه نظير قوله : (صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ).

وتحقيق القول فيه : أنّا بيّنا أنّ الصّراط إنّما يكون ممدوحا محمودا إذا كان صراطا للعالم القادر الغنيّ ، والله تعالى عبّر عن هذه الأمور الثلاثة بقوله : (الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) فوقعت الشبهة في أن ذلك : (الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) من هو؟ فعطف عليها قوله (اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) إزالة لتلك الشّبهة.

قوله : «وويل» مبتدأ ، وجاز الابتداء به ؛ لأنه دعاء ك «سلام عليكم» ، و «للكافرين» خبره ، و «من عذاب» متعلّق بالويل.

ومنعه أبو حيّان ؛ لأنّه يلزم منه الفصل بين المصدر ومعموله ، وهو ممنوع حيث

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٥٠.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ١٩ / ٦٠.

(٤) سقط في ب.

٣٣٢

يتقدّم المصدر بحرف مصدري وفعل ، وقد تقدم.

ولذلك جوزوا تعلق (بِما صَبَرْتُمْ) ب (سَلامٌ) [الرعد : ٢٤] ، ولم يعترضوا عليه بشيء ، ولا فرق بين الموضعين.

وقال الزمخشريّ (١) : «فإن قلت : ما وجه اتّصال قوله : (مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ) بالويل؟ قلت : لأنّ المعنى يولولون من عذاب شديد».

قال أبو حيان (٢) : فظاهره يدلّ على تقدير عامل يتعلق به (مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ).

ويجوز أن يتعلق بمحذوف ؛ لأنه صفة للمبتدأ ، وفيه سلامة من الاعتراض المتقدم ولا يضر الفصل بالخبر.

فصل

والمعنى : أنّهم لما تركوا عبادة الله المالك للسموات ، والأرض ، وكل ما فيها وعبدوا ما لا يملك نفعا ، ولا ضرّا ، ويخلق ، ولا يخلق ، ولا إدراك له ، فالويل كل الويل لمن هو كذلك ، وإنما خصهم بالويل ، لأنهم يولولون من عذاب شديد ، ويقولون : يا ويلاه نظيره قوله تعالى : (دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) [الفرقان : ١٣] ثم وصفهم الله تعالى بثلاثة أنواع :

الأول : قوله : (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ) يجوز أن يكون مبتدأ ، خبره : «أولئك» وما بعده.

وأن يكون خبر مبتدأ مضمر ، أي هم الّذين.

وأن يكون منصوبا بإضمار فعل على [المدح](٣) فيهما.

وأن يكون مجرورا على البدل ، أو البيان ، أو النعت ، قاله الزمخشريّ (٤) ، وأبو البقاء (٥) والحوفي وغيرهم.

ورده أبو حيان (٦) : بأن فيه الفصل بأجنبيّ ، وهو قوله ـ جل ذكره ـ (مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ) قال : «ونظيره إذا كان صفة أن تقول : الدّار لزيد الحسنة القرشي وهذا لا يجوز ؛ لأنك فصلت بين «زيد» وصفته بأجنبي منهما ، وهو صفة الدّار وهو لا يجوز ، والتركيب الصحيح أن تقول : الدّار الحسنة لزيد القرشيّ ، أو الدّار لزيد القرشي الحسنة».

و «يستحبّون» استفعل فيه بمعنى أفعل ، كاستجاب بمعنى أجاب ، أو يكون على بابه ، وضمن معنى الإيثار ، ولذلك تعدّى ب «على».

وقرأ الحسن (٧) : «يصدّون» بضم الياء من «أصدّ» ، و «أصدّ» منقول من «صدّ»

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٣٧.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٩٣.

(٣) في ب : الذم.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٣٧.

(٥) ينظر : الإملاء ٢ / ٦٥.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٩٣ ـ ٣٩٤.

(٧) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٣٨ ، والبحر المحيط ٥ / ٣٩٤ ، والدر المصون ٤ / ٢٥١.

٣٣٣

اللازم ، والمفعول محذوف ، أي : غيرهم أو أنفسهم ، ومنه قوله : [الطويل]

٣١٩١ ـ أناس أصدّوا النّاس بالسّيف عنهم

 ........... (١)

(وَيَبْغُونَها عِوَجاً) تقدم مثله [آل عمران : ٩٩].

قوله تعالى : (يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) فيه إضمار تقديره : يستحبّون الحياة الدنيا ، ويؤثرونها على الآخرة ؛ فجمع ـ تعالى ـ بين هذين الوصفين ليبين بذلك أن الاستحباب للدّنيا وحده لا يكون مذموما إلّا أن يضاف إليه إيثارها على الآخرة ، [وأما](٢) من أحبّها ليصل بها إلى منافع النّفس بثواب الآخرة ؛ فذلك لا يكون مذموما.

والنوع الثاني من أوصاف الكفار : قوله ـ عزوجل ـ (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي : يمنعوا النّاس من قبول دين الله.

والنوع الثالث من تلك الصفات قوله : (وَيَبْغُونَها عِوَجاً). واعلم أنّ الإضلال على مرتبتين :

الأولى : أن يسعى في صدّ الغير.

والثانية : أن يسعى في إلقاء الشّكوك ، والشبهات في المذهب الحق ، ويحاول تقبيح الحق بكل ما يقدر عليه من الحيل ، وهذا هو النهاية في الضلال ، والإضلال ، وإليه أشار بقوله : (وَيَبْغُونَها عِوَجاً).

قال الزمخشريّ (٣) : «الأصل في الكلام أن يقال : ويبغون لها عوجا ؛ فحذف الجار وأوصل الفعل».

وقيل : الهاء راجعة إلى الدّنيا معناه : يطلبون الدّنيا على طريق الميل عن الحق ، أي : بجهة الحرام.

ولما ذكر الله ـ تعالى ـ هذه المراتب قال في وصفهم : (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) وإنّما وصف الله ـ تعالى ـ هذا الضلال بالبعد لوجوه :

الأول : أنّ أقصى مراتب الضلال هو البعد عن الطريق الحقّ ، فإنّ شرط الضدين أن يكونا في غاية التّباعد كالسّواد ، والبياض.

الثاني : أن المراد بعد ردّهم عن الضّلال إلى الهدى.

الثالث : أن المراد بالضّلال : الهلاك ، والتقدير : أولئك في هلاك يطول عليهم فلا ينقطع ، وأراد بالبعد : امتداده وزوال انقطاعه.

قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى

__________________

(١) تقدم.

(٢) في ب : ولذا.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٣٨.

٣٣٤

بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ)(٨)

قوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) الآية لما ذكر في أوّل السورة : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) فكان هذا إنعاما من الله على الرسول من حيث إنّه فوض إليه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ هذا الأمر العظيم وإنعاما على الخلق حيث أرسل إليهم من خلصهم من ظلمات الكفر [إلى الرشد](١) ، وأرشدهم إلى نور الإيمان. ذكر في هذه الآية ما يجري مجرى تعهد النعمة ، والإحسان في الوجهين ؛ أمّا بالنسبة إلى الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ؛ فلأنه تعالى بين أنّ سائر الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام أجمعين ـ كانوا مبعوثين إلى قومهم خاصة ، وأنت يا محمد فمبعوث إلى عالم البشر ، فكان هذا الإنعام في حقك أفضل وأكمل ، وأما بالنسبة إلى عامة الخلق فهو أنه ـ تعالى ـ ما بعث رسولا إلى قوم إلا بلسانهم ليسهل عليهم فهم تلك الشريعة فهذا وجه النظم.

قوله : (إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) يجوز أن يكون حالا ، أي : إلّا [متكلما](٢) بلغة قومه.

قال القرطبي (٣) : «وحّد اللسان ، وإن أضافه إلى القوم ؛ لأن المراد به اللغة فهو اسم جنس يقع على القليل ، والكثير».

وقرأ العامة : «بلسان» بزنة كتاب ، أي : بلغة قومه. وقرأ أبو (٤) الجوزاء وأبو السمال وأبو عمران الجوني : بكسر اللام وسكون السين ، وفيه قولان :

أحدهما : أنّهما بمعنى واحد ، كالرّيش والرّياش.

والثاني : أنّ اللسان يطلق على العضو المعروف وعلى اللغة ، وأمّا اللّسن فخاص باللغة ، ذكره ابن عطيّة ، وصاحب اللّوامح.

وقرأ أبو رجاء ، وأبو المتوكل (٥) ، والجحدريّ : بضم اللام والسين ، وهو جمع

__________________

(١) زيادة من ب.

(٢) في أ : مكلما.

(٣) ينظر الجامع لأحكام القرآن ٩ / ٢٢٣.

(٤) ينظر المحرر الوجيز ٣ / ٣٢٣ والبحر المحيط ٥ / ٣٩٤ والدر المصون ٤ / ٢٥١.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٩٤ والدر المصون ٤ / ٢٥١.

٣٣٥

لسان ككتاب وكتب ، وقرىء بسكون السين (١) فقط ، وهو تخفيف للقراءة قبله ، نحو «رسل في رسل» ، و «كتب» في «كتب» ، والهاء في «قومه» الظاهر عودها على «رسول» المذكور وعن الضحاك أنّها تعود على محمد ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وغلطوه في ذلك إذ يصير المعنى: إنّ التوراة وغيرها أنزلت بلسان العرب ليبين لهم النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ التوراة.

فصل

احتجّ بعضهم بهذه الآية على أنّ اللّغات اصطلاحية ، فقال : لأنّ التوقيف لجميع الرسل لا يكون إلّا بلغة قوم ، وذلك يقتضي تقدّم حصول اللغات على إرسال الرسل ، وإذا كان كذلك ؛ امتنع حصول تلك اللغات بالتوقيف ؛ فوجب حصولها بالاصطلاح.

ومعنى الآية : وما أرسلنا من رسول إلّا بلغة قومه.

فإن قيل : هذه الآية تدلّ على أنّ النبي المصطفى ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ إنّما بعث للعرب خاصة ، فكيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وبعثت إلى النّاس عامّة».

فالجواب : بعث إلى العرب بلسانهم والناس تبع لهم ، ثم بعث الرّسل إلى الأطراف يدعوهم إلى الله ـ تعالى ـ ويترجمون لهم بألسنتهم.

وقيل : المراد من قومه أهل بلدته ، وليس المراد من قومه أهل دعوته بدليل عموم الدعوة في قوله : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) وإلى الجنّ أيضا ؛ لأن التّحدي ثابت لهم في قوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ) [الإسراء : ٨٨].

قال القرطبي (٢) : «ولا حجة للعجم ، وغيرهم في هذه الآية ؛ لأنّ كل من ترجم له ما جاء به النبي ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ترجمة يفهمها لزمته الحجة وقد قال الله ـ عزوجل ـ (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) ، وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «أرسل كلّ نبي إلى أمّته بلسانها وأرسلني الله إلى كلّ أحمر وأسود من خلقه».

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يسمع بي أحد من هذه الأمّة يهوديّ ، ولا نصرانيّ ثمّ لم يؤمن بالّذي أرسلت به إلّا كان من أصحاب النّار» وخرجه مسلم ـ رحمه‌الله (٣) ـ.

فصل

زعمت طائفة من اليهود يقال لهم : [العيسوية](٤) أنّ محمدا رسول الله ولكن إلى

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٩٤ والدر المصون ٤ / ٢٥١.

(٢) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ٩ / ٢٢٣.

(٣) تقدم تخريجه.

(٤) في أ : اليعقوبية.

٣٣٦

العرب خاصة ، وتمسكوا بهذه الآية من وجهين :

الأول : أنّ القرآن لما نزل بلغة العرب لم يعرف كونه معجزة بسبب ما فيه من الفصاحة إلا العرب ، فلا يكون القرآن حجة إلّا على العرب ، ومن لم يكن عربيّا لم يكن القرآن حجة عليه ؛ لأنه ليس بمعجزة في حقه لعدم علمه بفصاحته.

الثاني : قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) ، ولسانه لسان العرب فدلّ على أنّه ليس له قوم سوى العرب.

والجواب ما تقدّم في السّؤال قبله.

قوله : «فيضلّ» استئناف إخبار ، ولا يجوز نصبه عطفا على ما قبله ؛ لأنّ المعطوف كالمعطوف عليه في المعنى ، والرسل أرسلت للبيان لا [للإضلال].

قال الزجاج : «لو قرىء بنصبه على أنّ اللّام لام العاقبة جاز».

قوله (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) تمسّك أهل السّنّة بهذه الآية على أنّ الهداية ، والضلال من الله ـ سبحانه وتعالى جل ذكره ـ.

قالوا : وممّا يؤكد هذا المعنى أن أبا بكر ، وعمر ـ رضوان الله عنهما ـ وعن الصّحابة أجمعين ـ أقبلا في جماعة من الناس ، وقد ارتفعت أصواتهما ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما هذا؟ فقال بعضهم يا رسول الله : يقول أبو بكر : الحسنات من الله ، والسيئات من أنفسنا ويقول عمر : كلاهما من الله ، وتبع بعضهم أبا بكر ، وتبع بعضهم عمر ، فتعرف الرسول ما قاله أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ وأعرض عنه حتى عرف في وجهه ، ثم أقبل على عمر ـ رضي الله عنه ـ فتعرف ما قاله ، وعرف السرور في وجهه ، فقال ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ : «أقضي بينكما كما قضى إسرافيل بين جبريل وميكائيل ـ صلوات الله وسلامه عليهما ـ فقال جبريل مثل مقالتك يا عمر ، وقال ميكائيل مثل مقالتك يا أبا بكر ، فقضاء إسرافيل ـ صلوات الله عليه ـ أن القدر كله خيره وشره من الله ـ تعالى ـ وهذا قضائي بينكما».

قالت المعتزلة : لا يمكن إجراء هذه الآية على ظاهرها لوجوه :

الأول : أنه ـ تبارك وتعالى ـ قال : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) أي : ليبين لهم التكاليف بلسانهم فيكون إدراكهم لذلك التبيان أسهل ووقوفهم على الغرض أكمل وهذا الكلام إنّما يصحّ إذا كان مقصود الله ـ تعالى ـ من إرسال الرّسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ حصول الإيمان للمكلفين ، فلو كان مقصوده الإضلال ، وخلق الكفر فيهم لم يكن ذلك الكلام ملائما لهذا المقصود.

والثاني : أنّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ إذا قال لهم : إنّ الله يخلق الكفر والإضلال فيكم ، فلهم أن يقولوا : فما لنبوتك فائدة ، وما المقصود من إرسالك؟ وهل يمكننا أن

٣٣٧

نزيل كفرا خلقه الله فينا؟ وحينئذ تبطل دعوة النبوة ، وتفسد بعثة الرسل.

الثالث : إذا كان الكفر حاصلا بتخليق الله ـ تعالى ـ ومشيئته ، فيجب أن يكون الرضا به واجبا ؛ لأن الرّضا بقضاء الله واجب ، وذلك لا يقوله عاقل.

الرابع : أنّ مقدمة الآية ، وهي قوله ـ جل ذكره ـ (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) يدلّ على العدل ، وأيضا مؤخر الآية يدلّ عليه وهو قوله ـ جلّ ذكره ـ (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فكيف يكون حكيما من كان خالقا للكفر والقبائح ؛ فثبت بهذه الوجوه أنّه لا يمكن جعل قوله : (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) دليل على خلق الكفر في العبد ، فوجب المصير إلى التأويل وهو من وجوه :

الأول : المراد من الإضلال هو الحكم بكونه ضالّا كما يقال : فلان يكفّر فلانا ويضله أي: يحكم بكونه كافر ضالا.

والثاني : أنّ الإضلال عبارة عن الذهاب بهم عن طريق الجنّة إلى النّار.

والثالث : أنّه يقال : إنه تعالى لما ترك الضّال على ضلاله ، ولم يتعرض له فكأنه أضله والمهتدي أنّه بالألطاف صار كأنه هداه.

قال الزمخشري (١) : «المراد بالإضلال التخلية ، ومنع الإلطاف وبالهداية : اللّطف ، والتّوفيق».

قال ابن الخطيب (٢) ـ رحمه‌الله ـ : «والجواب قوله ـ عزوجل ـ (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) لا يليق به أن يضلهم.

قلنا : قال الفراء : إذا ذكر فعل ، وبعده فعل آخر ، فإن كان الفعل الثّاني مشاكلا للأول نسقه عليه ، وإن لم يكن مشاكله ، استأنفه ورفعه ، نظيره : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ) [التوبة : ٣٢] وفي موضع رفع لا يجوز إلا ذلك ؛ لأنّه لا يحسن أن يقال : يريدون أن يأبى الله ، فلما لم يمكن وضع الثاني في موضع الأول بطل العطف.

ونظيره أيضا قوله : (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ) [الحج : ٥] ومن ذلك قولهم : «أردت أن أزورك فمنعني المطر» بالرفع غير منسوق على ما قبله كما ذكرناه ؛ ومثله قول الشاعر : [الرجز]

٣١٩٢ ـ يريد أن يعربه فيعجمه (٣)

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٣٩.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ١٩ / ٦٤.

(٣) البيت للحطيئة الديوان (١١١) ينظر : معاني الفراء ٢ / ٦٨ ، الرازي ١٩ / ٨٣ ، إعراب النحاس ٣ / ٣٦٤ ، الكتاب ١ / ٤٣٠ ، الخزانة شاهد (١٤٩) ، المقتضب ٢ / ٣٣ ، العقد الفريد ٢ / ٤٨٠ ، الأغاني ٢ / ٥٧ ، العمدة ١ / ٧٤ ، المغني (١٦٨) ، الهمع ٢ / ١٣١ ، الدرر ٢ / ١٧١ ، اللسان (عجم) ، ملحقات ديوان رؤبة (١٨٦) ، شرح شواهد المغني ٤ / ٩٥ ، الدر المصون ٣ / ٢٥٣. ـ

٣٣٨

وإذا عرفت هذا فنقول : ههنا قال الله تعالى : (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) ثمّ قال : (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) ذكر : «فيضلّ» بالرفع فدلّ على أنّه مذكور على سبيل الاستئناف وأنه غير معطوف على ما قبله ، وتقديره من حيث المعنى كأنّه قال ـ عزوجل ـ : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليكون بيانه لهم الشرائع بلسانهم الذي ألفوه واعتادوه ، ثم قال : ومع أنّ الأمر كذلك فإنّه ـ تعالى ـ يضلّ من يشاء ، ويهدي من يشاء ، والغرض منه : التنبيه على أن تقوية البيان لا توجب حصول الهداية ، وإنما كان الأمر كذلك ؛ لأنّ الهداية ، والضلال لا يحصلان إلّا من الله ـ تعالى ـ.

وأما قولهم : لو كان الضلال حاصلا بخلق الله ـ تعالى ـ لكان للكافر أن يقول : ما الفائدة في نبوتك ودعوتك؟ فالخصم يسلّم أن هذه الآيات إخبار عن كونه ضالّا فيقول له الكافر : لما أخبر إلهك عن كوني كافرا فإن آمنت صار إلهك كاذبا ، وهل أقدر على جعل علمه جهلا؟ وإذا لم أقدر عليه ، فكيف يأمرني بهذا الإيمان؟ فالسؤال وارد عليه.

وأما قولهم ثالثا : يلزم أن يكون الرضا بالكفر واجبا ؛ لأنّ الرّضا بقضاء الله واجب قلنا : ويلزم أيضا على مذهبك أن يكون السعي في تكذيب الله وفي تجهيله واجبا ؛ لأنّه ـ تعالى ـ لما أخبر عن كفره ، وعلم كفره ، فإزالته الكفر عنه قلب علمه جهلا ، وخبره الصدق كذبا ، وما لا يتمّ الواجب إلا به فهو واجب ؛ فيلزمك على مذهبك ، وهذا أشد استحالة ممّا ألزمته علينا.

وأمّا قولهم رابعا : إن مقدمة الآية ، وهو قوله تعالى : (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) يدلّ على صحّة الاعتزال.

فنقول : قد ذكرنا أن قوله : (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) يدلّ على صحّة مذهب أهل السنة.

وأما قولهم خامسا : إنّه ـ تعالى ـ وصف نفسه في آخر الآية بكونه حكيما ، وذلك ينافي كونه ـ تعالى ـ خالقا للكفر مريدا له ، فنقول : وصف نفسه بكونه عزيزا ، والعزيز : هو الغالب القاهر ، فلو أراد الإيمان من الكافر مع أنه لا يحصل ، وأراد عدم الكفر منهم ، وقد حصل لما بقي عزيزا غالبا ؛ فثبت أن الوجوه التي ذكروها ضعيفة ، وقد تقدّم البحث في هذه المسألة في البقرة عند قوله ـ جل ذكره ـ : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) [البقرة : ٢٦].

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى

__________________

ـ وقبله :

الشعر صعب وطويل سلمه

إذا ارتقى له الذي لا يعلمه

زلت به إلى الحضيض قدمه

والشعر لا يسطيعه من يظلمه

والشاهد فيه : رفع «فيعجمه» على القطع ، والتقدير : فإذا هو يعجمه ، ولا يجوز نصبه على العطف ؛ لا ختلال المعنى ، فهو لا يريد إعجامه.

٣٣٩

النُّورِ) الآية لما بين أنّه إنّما أرسل محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليخرجهم من الظّلمات إلى النّور ، وذكر كمال نعمة الله عليه وعلى قومه بذلك الإرسال أتبع ذلك بشرح بعثة سائر الرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ إلى أقوامهم ليكون ذلك تصبيرا للرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ على أذى قومه فقال : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) قال الأصم : آيات موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهي العصا ، واليد ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، وفلق البحر ، وانفجار العيون من الحجر ، وإظلال الجبل ، وإنزال المن والسلوى.

وقال الجبائي آياته : دلائله وكتبه المنزلة عليه ، فقال في صفة محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) وقال في حق موسى ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [إبراهيم : ٥] والمقصود من بعثة سائر الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ واحد وهو أن يسعوا في إخراج الخلق من الضّلالات إلى نور الهدايات.

قوله «أن أخرج» يجوز أن تكون «أن» مصدرية ، أي : بأن أخرج والباء في «بآياتنا» للحال ، وهذه للتعدية ، ويجوز أن تكون مفسرة للرسالة بمعنى أي ، ويكون المعنى : أي : أخرج قومك من الظلمات ، أي : قلنا له : أخرج قومك كقوله (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا) [ص : ٦]. وقيل : بل هي زائدة ، وهو غلط.

قوله : «وذكّرهم» يجوز أن يكون منسوقا على : «أخرج» فيكون من التفسير ، ويجوز أن لا يكون منسوقا ؛ فيكون مستأنفا.

و «أيّام» عبارة عن نعمه تعالى ؛ كقوله : [الوافر]

٣١٩٣ ـ وأيّام لنا غرّ طوال

عصينا الملك فيها أن ندينا (١)

أو نقمه ؛ كقوله : [الطويل]

٣١٩٤ ـ وأيّامنا مشهورة في عدوّنا

 ........... (٢)

ووجهه : أن العرب تتجوز فتسند الحدث إلى الزمان ، مجازا أو تضيفه إليها كقولهم : نهار صائم ، وليل قائم ، و (مَكْرُ اللَّيْلِ) [سبأ : ٣٣].

قال الواحديّ : «أيّام جمع يوم ، واليوم هو مقدار المدّة من طلوع الشّمس إلى غروبها ، وكان في الأصل : أيوام ، فاجتمعت الياء ، والواو ، وسبقت إحداهما بالسّكون فقلبت الواو ياء ، وأدغمت إحداهما في الأخرى فقلبت ياء».

__________________

(١) تقدم.

(٢) البيت لعبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي ، وهو صدر بيت عجزه : ولها غرر معلومة وحجول. ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٩٥ ، حاشية الشهاب ٥ / ٢٥٢ ، روح المعاني ١٣ / ١٨٨ ، الدر المصون ٤ / ٢٥٢.

٣٤٠