اللّباب في علوم الكتاب - ج ١١

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١١

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥١٠

وقيل : (إِلَّا فِي ضَلالٍ) ؛ أي في ضياع لا منفعة فيه ؛ لأنّ الله لم يجبهم ، وإن دعوا الآلهة لم تستطع إجابتهم.

قوله تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآية في المراد بهذا السجود قولان :

أحدهما : السجود بوضع الجبهة على الأرض ، وعلى هذا القول ، ففيه وجهان :

أحدهما : أنّ اللفظ ، وإن كان عامّا إلا أنّ المراد المؤمنون ، فبعضهم يسجد لله طوعا بنشاط ، وبعضهم يسجد لله كرها لصعوبة ذلك عليه ، ويتحمل مشقّة العبادة.

وقيل : المراد بقوله : «طوعا» الملائكة ، والمؤمنون ، و «كرها» المنافقون ، والكافرون الذين أكرهوا على السجود بالسّيف.

والثاني : أنّ اللفظ عام.

فإن قيل : ليس المراد : (مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يسجد لله ؛ لأن الكفّار لا يسجدون.

فالجواب من وجهين :

الأول : أن المعنى أنه يجب على كلّ من في السموات ، والأرض أن يعترف بعبودية الله ، كما قال : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [الزمر : ٣٨].

والقول الثاني : أنّ السّجود عبارة عن الانقياد ، والخضوع ، وترك الامتناع ، وكلّ من في السموات ، والأرض ساجد لله بهذا المعنى ؛ لأنّ قدرته ، ومشيئته نافذة في الكل.

قوله : (طَوْعاً وَكَرْهاً) إمّا مفعول من أجله ، وإمّا حال ، أي : طائعين ، وكارهين وإمّا منصوب على المصدر المؤكد بفعل مضمر.

قوله : (وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) قرأ أبو مجلز (١) : والإيصال ، بالياء قبل الصّاد وخرّجها ابن جني (٢) على أنه مصدر «آصل» ، كضارب ، أي : دخل في الأصيل ، كأصبح أي : دخل في الصّباح ، و «ظلالهم» عطف على «من» ، و «بالغدوّ» متعلق ب «يسجد» والباء بمعنى «في» ، أي : في هذين الوقتين.

قال المفسرون : كل شخص سواء كان مؤمنا ، أو كافرا فإنّ ظله يسجد لله.

قال مجاهد : ظل المؤمن يسجد لله طوعا ، وهو طائع ، وظل الكافر يسجد لله كرها وهو كاره (٣).

وقال الزجاج : «جاء في التفسير أن الكافر (٤) يسجد لغير الله ، وظله يسجد لله».

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٣٠٦ ، والبحر المحيط ٥ / ٣٦٩ ، ٣٧٠ والدر المصون ٤ / ٢٣٦.

(٢) ينظر : المحتسب ١ / ٣٥٦.

(٣) سقط من : ب.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٣٦٦) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٠١٠) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٢).

٢٨١

وعند هذا قال ابن الأنباري : لا يبعد أن يخلق ـ تعالى ـ للظلال عقولا ، وأفهاما تسجد بها ، وتخشع كما جعل للجبال أفهاما حتى اشتغلت بتسبيح الله وظهر اسم التجلي فيها ، كما قال تعالى : (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا) [الأعراف : ١٤٣].

قال القشيري ـ رحمه‌الله ـ : «وفي هذا نظر ؛ لأن الجبل عين ، فيمكن أن يكون له عقل بشرط تقدير الحياة ، وأمّا الظلال ، فآثار وأعراض ، ولا يتصور تقدير الحياة لها».

وقيل : المراد من سجود الظلال [ميلانها](١) من جانب إلى جانب ، وطولها بسبب انحطاط الشمس ، وقصرها بسبب ارتفاع الشمس ، وهي منقادة [مستسلمة](٢) في طولها ، وقصرها وميلها من جانب إلى جانب ، وإنّما خص الغدو ، والآصال بالذّكر ؛ لأنّ الظلال إنما تعظم ، وتكثر في هذين الوقتين».

و «الآصال» جمع الأصل ، والأصل : جمع الأصيل ، وهو ما بين العصر إلى غروب الشمس.

وقيل : «ظلالهم» ، أي : أشخاصهم بالغدو ، والآصال بالبكر والعشايا.

قوله تعالى : (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (١٦) أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ (١٧) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ)(١٨)

قوله تعالى : (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآية لما بيّن أنّ كلّ من في السّموات ، والأرض ساجد لله بمعنى كونه خاضعا له ، عدل إلى الرّد على عبدة الأصنام فقال : (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ) ولمّا كان هذا الجواب يقرّ به المسئول ويعترف به ، ولا ينكره ، أمره ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يكون هو الذاكر لهذا الجواب تنبيها على أنهم لا ينكرونه ألبتّة.

قال القشيري : «ولا يبعد أن تكون الآية واردة فيمن لا يعترف بالصانع ، أي : سلهم عن خالق السموات والأرض ؛ فإنه يسهل تقرير الحجة عليهم ويقرب الأمر من الضرورة ،

__________________

(١) في أ : هيلها.

(٢) في أ : مسلسلة.

٢٨٢

فإن عجز الجماد ، وعجز كل مخلوق عن خالق السموات ، والأرض معلوم».

ولما بين الله أنّه هو الرب لكلّ الكائنات [قال له] : قل لهم على طريق الإلزام للحجة فلم اتخذتم من دونه أولياء ، وهي جمادات ، وهي لا تملك لأنفسها نفعا ، ولا ضرّا ، ولما كانت عاجزة عن تحصيل المنفعة [لأنفسها ، ودفع المضرة عن نفسها ، فلأن تكون عاجزة عن تحصيل المنفعة](١) لغيرها ، ودفع المضرة عن غيرها بطريق الأولى ، وإذا كانت عاجزة عن ذلك كانت عبادتها محض العبث ، والسّفه ، ولما ذكر هذه الحجة الظاهرة بين أنّ الجاهل بمثل هذه الحجة لا يساوي العالم بها.

فقال : (هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ) قرأ الأخوان (٢) ، وأبو بكر عن عاصم : «يستوي» بالياء من تحت ، والباقون بالتاء من فوق ، والوجهان واضحان باعتبار أن الفاعل مجازي التّأنيث ، فيجوز في فعله التذكير ، والتأنيث ، كنظائر له مرت.

وهذا مثل ضربه الله سبحانه وتعالى للكفّار.

قوله : «أم هل» هذه أم المنقطعة ، فتقدر ب «بل» ، والهمزة عند الجمهور ، وب «بل» وحدها عند بعضهم ، وقد تقدّم تحريره ، وهذه الآية قد يتقوى بها من يرى تقديرها ب «بل» فقط بوقوع : «هل» بعدها ، فلو قدّرناها ب «بل» والهمزة لزم اجتماع حرفي معنى ؛ فتقدرها ب «بل» وحدها ، و «لا» تقوية له ، فإن الهمزة قد جامعت : «هل» في اللفظ ، كقول الشاعر : [البسيط]

٣١٧٤ ـ ...........

أهل رأونا بوادي القفّ ذي الأكم (٣)

فأولى أن يجامعها تقديرا.

ولقائل أن يقول : لا نسلم أنّ : «هل» هذه استفهاميّة ، بل بمعنى : «قد» ، وإليه ذهب جماعة ، وإن لم تجامعها همزة ، كقوله تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) [الإنسان : ١] أي : قد أتى ، فههنا أولى ، والسماع قد ورد بوقوع : «هل» بعد : «أم» وبعدمه. فمن الأول هذه الآية ، ومن الثاني : ما بعدها من قوله «أم جعلوا». وقد جمع الشاعر بين الاستعمالين في قوله : [البسيط]

__________________

(١) سقط من : ب.

(٢) ينظر : الحجة ٥ / ١٥ وإعراب القراءات السبع ١ / ٣٢٧ ، ٣٢٨ وحجة القراءات ٣٧٢ ، ٣٧٣ والإتحاف ٢ / ١٦١ والمحرر الوجيز ٣ / ٣٠٦ والبحر المحيط ٥ / ٣٧٠ والدر المصون ٤ / ٢٢٧.

(٣) عجز بيت لزيد الخيل وصدره :

سائل فوارس يربوع بشدتنا

ينظر البيت في المقتضب ١ / ١٨٢ وابن الشجري ١ / ١٠٨ والخزانة ١١ / ٢٦١ والبحر ٥ / ١٣٧٠ وابن يعيش ٨ / ١٥٢ والهمع ٢ / ٧٢ والمغني ١ / ٣٥٢ والخصائص ٢ / ٢٦٣ والدرر ٢ / ٩٥ وروح المعاني ١٣ / ١٢٨ وشواهد المغني للبغدادي ٦ / ٦٧ والدر المصون ٤ / ٢٣٧.

٢٨٣

٣١٧٥ ـ هل ما علمت وما استودعت مكتوم

أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم

أم هل كثير بكى لم يقض عبرته

إثر الأحبّة يوم البين مشكوم (١)

فصل

قوله : (هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) كذلك لا يستوي المؤمن ، والكافر : (أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ) أي كما لا تستوي الظلمات والنور ، لا يستوي الكفر ، والإيمان.

قوله (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ) الجملة من قوله : «خلقوا» صفة ل : «شركاء» (فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) ، أي : اشتبه ما خلقوه بما خلقه الله ـ عزوجل ـ فلا يدرون ما خلق الله ، وما خلق آلهتهم.

والمعنى : أنّ هذه الأشياء الّتي زعموا أنها شركاء لله ليس لها خلق يشبه خلق الله حتّى يقولوأ : إنها تشارك الله في الخالقيّة ؛ فوجب أن تشاركه في الإلهيّة بل هؤلاء المشركون يعلمون بالضرورة أنّ هذه الأصنام لم يصدر عنها فعل ، ولا خلق ، ولا أثر ألبتة ، وإذا كان كذلك كان حكمهم بكونها شركاء لله في الإلهيّة محض السّفه ، والجهل.

فصل

قال ابن الخطيب (٢) : «زعمت المعتزلة أنّ العبد يخلق حركات ، وسكنات مثل الحركات ، والسكنات التي يخلقها الله ، وعلى هذا التقدير : فقد (جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ) والله ـ تعالى ـ إنّما ذكر هذه الآية في معرض الذّم ، والإنكار ؛ فدلت على أنّ العبد لا يخلق أفعال نفسه».

قال القاضي (٣) : «نحن وإن قلنا : إنّ العبد يخلق إلّا أنّا لا نطلق القول بأنه يخلق كخلق الله ؛ لأن أحدا ما يفعل كقدرة الله ، وإنما يفعل لجلب منفعة ، ودفع مضرة ، والله ـ تعالى ـ منزه عن ذلك ؛ فثبت أنّ بتقدير كون العبد خالقا إلا أنّه لا يكون خلقه كخلق الله ، وأيضا : فهذا الإلزام للمجبرة أيضا ؛ لأنّهم يقولون عين ما هو خلق الله ـ تعالى ـ فهو كسب للعبد ، وفعل له ، وهذا عين الشرك ؛ لأنّ الإله ، والعبد في ذلك الكسب كالشريكين اللذين لا مال لأحدهما إلا وللآخر فيه أيضا نصيب ، وهو أنه ـ تعالى ـ إنّما ذكر هذا الكلام عيبا للكفّار أن يقولوا : إنّ الله ـ تعالى ـ خلق هذا الكفر فينا ؛ فلم يذمنا ، ولم

__________________

(١) البيتان لعلقمة الفحل ينظر : ديوانه (١٧) والكتاب ٣ / ١٧٨ والهمع ٢ / ٢٣٣ وابن الشجري ٢ / ٣٣٤ والخزانة ١١ / ٢٨٦ والدرر ٢ / ١٧٧ وابن يعيش ٤ / ١٨ وروح المعاني ١٣ / ١٢٨ والمحتسب ٢ / ٢١٩ والمقتضب ٣ / ٢٩٠ والعمدة لابن رشيق ١ / ١٠٤ والبحر المحيط ٥ / ٣٧١ والمفضليات ٢٩٧ وأصول النحو ٢ / ٥٩ ، الأشباه والنظائر ٧ / ٤٩ ، اللمع (١٨٢) ، المقاصد النحوية ٤ / ٥٧٦ ، الاشتقاق ١٤٠ ، جواهر الأدب ، ١٨٩ ، رصف المباني ص ٩٤ ، الدر المصون ٤ / ٢٣٧.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٩ / ٢٦.

(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٩ / ٢٦.

٢٨٤

ينسبنا للجهل ، والتقصير ، مع أنه حصل فينا بغير فعلنا ، ولا باختيارنا».

والجواب عن الأول : هو أنّ لفظ الخلق عبارة عن الإخراج من العدم إلى الوجود ، أو عبارة عن التقديرين ، وعلى الوجهين : فبتقدير أن يكون العبد محدثا ، فإنه لا بد أن يكون حادثا ، أما قوله : والعبد وإن كان خالقا إلّا أنه ليس خلقه كخلق الله ـ تعالى ـ.

قلنا : الخلق عبارة عن الإيجاد والتكوين والإخراج من العدم إلى الوجود ، ومعلوم أنّ الحركة الواقعة بقدرة العبد لما كانت مثلا للحركة الواقعة بقدرة الله ـ تعالى ـ كان أحد المخلوقين مثلا للمخلوق الثاني ، وحينئذ يصحّ أن يقال : إنّ هذا الذي هو مخلوق للعبد مثل لما هو مخلوق لله ـ تعالى ـ ، ولا شك في حصول المخالفة في سائر الاعتبارات ، إلّا أنّ حصول المخالفة في سائر الوجوه لا يقدح في المماثلة من هذا الوجه ، وهذا القدر يكفي في الاستدلال.

وأما قوله : «هذا لازم على المجبرة حيث قالوا : إنّ فعل العبد مخلوق لله ـ تعالى ـ».

فنقول : هذا غير لازم ؛ لأنّ هذه الآية [دالة](١) على أنّه لا يجوز أن يكون العبد مثلا كخلق الله ـ تعالى ـ ونحن لا نثبت للعبد خلقا ألبتّة ، فكيف يلزمنا ذلك؟.

وأما قوله : «لو كان فعل العبد خلقا لله لما حسن ذمّ الكفّار على هذا المذهب».

قلنا : حاصله يرجع إلى أنّه لما حصل الوجود ، وجب أن يكون العبد مستقلا بالفعل وهو منقوض ؛ لأنّه ـ تعالى ـ ذمّ أبا لهب على كفره مع أنّه علم منه أنّه يموت على الكفر ، وخلاف المعلوم محال الوقوع.

قوله : (قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) وهذا يدلّ على أنّ فعل العبد مخلوق لله ـ تعالى ـ ؛ لأنّ فعل العبد شيء ، فوجب أن يكون خالقه هو الله ـ تعالى ـ وأيضا : فقوله : (وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) لا يقال فيه : إنه تعالى واحد في أي المعاني ، بل الواحد في الخالقية ؛ لأن المذكور السابق هو الخالقية ، فوجب أن يكون المراد هو الواحد في الخالقية ، القهار لكل ما سواه.

فصل

زعم جهم أن الله ـ تعالى ـ لا يقع عليه اسم الشيء.

قال ابن الخطيب (٢) : «وهذا الخلاف ليس إلا في اللفظ ، وهو أن اسم الشيء هل يقع عليه أم لا؟ فزعم قوم أنه لا يقع ، وجوّزه قوم».

واحتج المانعون : بأنه لو كان شيئا لوجب أن يكون خالقا لنفسه ، لقوله تعالى : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الزمر : ٦٢] وذلك محال ؛ فثبت أنه لا يقع عليه اسم الشيء ، ولا يقال : إنّ هذا عام دخله التخصيص ؛ لأنّ العام المخصوص إنّما يحسن إذا كان

__________________

(١) في أ : تدل.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ١٩ / ٢٧.

٢٨٥

المخصوص أقل من الباقي ، وأحسن منه ، كما يقال : أكلت هذه الرّمّانة مع أنّه سقطت حبات ما أكلها ، وههنا ذات الله أعلى الموجودات ، وأشرفها ، فكيف يمكن ذكر اللفظ العام الذي يتناوله مع كون الحكم مخصوصا في حقّه.

واستدلّوا أيضا بقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] والمعنى : ليس مثل مثله شيء ، ومعلوم أن كل حقيقة [فإنها] مثل مثل نفسها ، فالباري ـ تعالى ـ مثل مثل نفسه مع أنه ـ تعالى ـ نصّ على أنّ مثل مثله ليس بشيء ، فهذا تنصيص على أنه تعالى غير مسمى باسم الشيء.

واستدلّوا أيضا بقوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) [الأعراف : ١٨٠] قالوا : دلّت على أنه لا يجوز أن يدعى الله إلا بالأسماء الحسنى ، ولفظ الشيء يتناول أحد الموجودات ، فلا يكون هذا اللفظ مشعرا بمعنى حسن ؛ فوجب ألّا يجوز دعاء الله بهذا اللفظ.

وتمسك من جوّز إطلاق هذه التسمية عليه بقوله تعالى : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) [الأنعام : ١٩].

وأجاب الأولون : بأنّ هذا سؤال متروك الجواب ، وقوله : (قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) مبتدأ مستقل بنفسه لا تعلق له بما قبله.

فصل

تمسّك المعتزلة بهذه الآية في أنّه ـ تعالى ـ عالم لذاته لا بالعلم وقادر لذاته لا بالقدرة ، وقالوا : لأنه لو حصل لله ـ تعالى ـ علم ، وقدرة وحياة لكانت هذه الصفات إمّا أن تحصل بخلق الله ـ تعالى ـ أو لا تحصل بخلق الله والأول باطل ، وإلا لزم التسلسل ، والثاني باطل ؛ لأنّ قول الله تعالى : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الزمر : ٦٢] يتناول الذات ، والصفات حكمنا بدخول التخصيص في ذات الله ـ تعالى ـ فوجب أن يبقى على عمومه في سائر الأشياء ، والقرآن ليس هو الله ؛ فوجب أن يكون مخلوقا لدخوله في هذا العموم. والجواب أن يقال : أقصى ما في الباب أنّ الصّيغة عامة ؛ لأن تخصيصها في حق صفات الله ـ تعالى ـ بالدلائل العقليّة.

قوله تعالى : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) الآية لما شبّه المؤمن والكافر ، والإيمان ، والكفر بالأعمى ، والبصير ، والظلمات ، والنور ، ضرب للإيمان ، والكفر مثلا آخر فقال : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) «أنزل» يعني الله : (مِنَ السَّماءِ ماءً) يعني المطر «فسالت» من ذلك الماء: (أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) أي : في الصغر ، والكبر (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ) الذي حدث من ذلك الماء : (زَبَداً رابِياً) الزّبد : الخبث الذي يظهر على وجه الماء وكذلك على وجه القدر «رابيا» أي : عاليا مرتفعا فوق الماء ، فالماء الصّافي الباقي هو الحق ، والذاهب الزائل الذي يتعلق بالأشجار ، وجوانب الأودية هو الباطل.

٢٨٦

وقيل : هذا مثل القرآن : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) وهو القرآن ، والأودية : قلوب العباد ، يريد : ينزل القرآن ، فيحتمل منه القلوب على قدر اليقين ، والعقل والشك وكما أنّ الماء يعلوه زبد ، والأجساد يخالطها خبث ، ثمّ إنّ ذلك الزبد ، والخبث يذهب ، ويضيع ، ويبقى جوهر الماء ، وجوهر الأجساد السبعة ، كذلك ههنا بيانات القرآن يختلط بها شكوك وشبهات ، ثمّ إنها تزول بالآخرة وتضيع ويبقى العلم والدين والحكمة في العاقبة كذلك ههنا.

قوله : «أودية» جمع واد ، وجمع فاعل على أفعلة ، قال أبو البقاء (١) : «شاذّ ، ولم نسمعه في غير هذا الحرف. ووجهه : أنّ فاعلا قد جاء بمعنى فعيل ، وكما جاء فعيل وأفعلة كجريب وأجربة كذلك فاعل».

قال شهاب الدين (٢) : «قد سمع فاعلة ، وأفعلة في حرفين آخرين :

أحدهما : قولهم جائر وأجورة.

والثاني : ناج وأنجية».

وقال الفارسي : «أودية : جمع واد ولا نعلم فاعلا جمع على أفعلة» ، قال : «ويشبه أن يكون ذلك لتعاقب فاعل ، وفعيل على الشيء الواحد ، كعالم وعليم ، وشاهد وشهيد ، وناصر ونصير ، ووزن فاعل يجمع على أفعال كصاحب وأصحاب ، وطائر وأطيار ، [ووزن](٣) فعيل يجمع على أفعلة كجريب ، وأجربة ، ثم لما حصلت المناسبة المذكورة بين فاعل ، وفعيل لا جرم يجمع الفاعل جمع الفعيل ، فيقال : واد وأودية ، ويجمع الفعيل على جمع الفاعل فيقال : يتيم وأيتام ، وشريف وأشراف».

وقال غيره : نظير واد ، وأودية : ناد ، وأندية للمجالس وسمي واديا : لخروجه وسيلانه ، والوادي على هذا اسم للماء السّائل.

وقال أبو علي : «سالت أودية» فيه توسع ، أي : يسال ماؤها فحذف ، ومعنى «بقدرها» أي : بقدر مياهها ؛ لأنّ الأودية ما سالت بقدر نفسها».

قوله : «بقدرها» فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعلق ب «سالت».

والثاني : أنّه متعلق بمحذوف ؛ لأنه صفة للأودية.

وقرأ العامة بفتح الدال ، وزيد بن عليّ ، والأشهب العقيلي ، وأبو عمرو في رواية بسكونها ، وقد تقدّم في البقرة.

قال الواحدي رحمه‌الله : «القدر والقدر : مبلغ الشّيء ، يقال : كم قدر هذه الدّراهم

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ٦٣.

(٢) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٣٧.

(٣) في أ : وجمع.

٢٨٧

وقدرها ومقدارها؟ أي : كم بلغ في القدر وما يكون مساويا لها في الوزن فهو قدرها».

والمعنى : بقدرها من الماء فإن صغر الوادي قل الماء ، وإن اتّسع الوادي كثر الماء.

و «احتمل» بمعنى حمل فافتعل بمعنى المجرّد ، وإنّما نكّر الأودية ، وعرف السيل ؛ لأنّ المطر ينزل في البقاع على المناوبة ، فيسيل بعض أودية الأرض دون بعض ، وعرف السيل ؛ لأنه قد فهم من الفعل قبله ، وهو قوله : «فسالت» ، وهو لو نكّر لكان نكرة ، فلمّا أعيد أعيد بلفظ التّعريف نحو : «رأيت رجلا فأكرمت الرّجل».

والزّبد : وضر الغليان وخبثه ؛ قال النابغة : [البسيط]

٣١٧٦ ـ فما الفرات إذا هبّ الرّياح له

ترمي غواربه العبرين بالزّبد (١)

وقيل : هو ما يحمله السّيل من غثاء ونحوه ، وما يرمى به ضفّتاه من الحباب ، وقيل : هو ما يطرحه الوادي إذا [سال](٢) ماؤه ، وارتفعت أمواجه ، وهي عبارات متقاربة. والزّبد : المستخرج من اللّبن. قيل : هو مشتقّ من هذه لمشابهته إيّاه في اللون ، ويقال : زبدته زبدا ، أي : أعطيته مالا كالزّبد يضرب به المثل في الكثرة ، وفي الحديث : «غفرت ذنوبه ، ولو كانت مثل زبد البحر» (٣).

وقوله تعالى : «رابيا» قال الزجاج : «طافيا عاليا فوق الماء».

وقال غيره : زائدا بسبب انتفاخه ، يقال : ربا يربو إذا زاد.

قوله (وَمِمَّا يُوقِدُونَ) هذا الجار خبر مقدم ، و «زبد» مبتدأ ، و «مثله» صفة المبتدأ ، والتقدير : ومن الجواهر التي هي كالنّحاس ، والذهب ، والفضة زبد ، أي : خبث مثله ، أي : «مثل زبد الماء».

و «من» في قوله : (وَمِمَّا يُوقِدُونَ) تحتمل وجهين :

[أحدهما](٤) : أن تكون لابتداء الغاية ، أي : ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء.

والثاني : أنّها للتبعيض بمعنى : وبعض زبد ، هذا مثل آخر.

فالأول : ضرب المثل بالزّبد الحاصل من المثال ، ووجه المماثلة : أنّ كلّا منهما ناشىء من الأكدار.

وقرأ الأخوان ، وحفص : «يوقدون» بالياء من تحت ، أي : النّاس ، والباقون (٥) بالتاء من فوق على الخطاب ، و «عليه» متعلق ب : «توقدون».

__________________

(١) ينظر البيت في ديوانه (١٦) وشرح القصائد العشر (٥٣١) وروح المعاني ٣ / ١٣٠ وشرح المعلقات السبع للزوزني ٢٠٠ والبحر المحيط ٥ / ٣٥٢ والدر المصون ٤ / ٢٣٨.

(٢) في أ : حاسر.

(٣) تقدم.

(٤) في ب : أبعدهما.

(٥) ينظر : الحجة ٥ / ١٦ وإعراب القراءات السبع ١ / ٣٢٨ وحجة القراءات ٣٧٣ والإتحاف ٢ / ١٦٢ والمحرر الوجيز ٣ / ٣٠٨ والبحر المحيط ٥ / ٣٧٢ والدر المصون ٣ / ٣٢٨.

٢٨٨

وأمّا «في النّار» ففيه وجهان :

أحدهما : أنّه متعلق ب «توقدون» وهو قول الفارسي (١) ، والحوفي ، وأبي البقاء (٢).

والثاني : أنه متعلق بمحذوف ، أي : كائنا ، أو ثابتا ، قاله مكيّ ، وغيره ومنعوا تعلّقه ب «يوقدون» ؛ لأنهم زعموا أنّه لا يوقد على الشّيء إلا وهو في النّار ، وتعليق حرف الجر ب «توقدون» يقتضي تخصيص حال من حال أخرى ، وهذا غير لازم.

قال أبو علي رحمه‌الله تعالى : وقد يوقد على الشّيء ، وإن لم يكن في النّار ، كقوله تعالى : (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ) [القصص : ٢٨] فالطين لم يكن [فيها](٣) ، وإنّما يصيبه لهبها ، وأيضا : فقد يكون ذلك على سبيل التّوكيد ، كقوله تعالى : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨]. والمراد بالحلية : الذهب ، والفضة ، والمتاع : كل ما يتمتع به.

قوله «ابتغاء حلية» فيه وجهان :

أظهرهما : أنه مفعول من أجله.

والثاني : أنه مصدر في موضع الحال ، أي : مبتغين حلية ، و «حلية» مفعول [في] المعنى ، «أو متاع» نسق على «حلية».

فالحلية : ما تتزين به. والمتاع : ما يقضون به حوائجهم كالمساحي من الحديد ونحوها.

قوله : «جفاء» حال ، والجفاء : قال ابن الأنباري : المتفرق ، يقال : جفأت الرّيح السّحاب ، أي : قطعته وفرقته ، وقال الفراء : الجفاء : الرّمي ، والاطراح.

يقال : جفا الوادي ، أي : غثاءه يجفوه جفاء ، إذا رماه ، والجفاء اسم للمجتمع منه [المنضمّ](٤) بعضه إلى بعض ، ويقال : جفأت القدر بزبدها تجفأ ، وجفاء السّيل : زبده ، وأجفأ وأجفل وباللام قرأ رؤبة بن العجاج.

قال أبو حاتم : لا يقرأ بقراءة رؤبة ؛ لأنّه كان يأكل الفأر ، يعني أنه أعرابي جاف وقد تقدم ثناء الزمخشري عليه أوّل البقرة ، وذكروا فصاحته ، وقد وجّهوا قراءته بأنها من أجفأت الرّيح الغيم ، أي : فرقته قطعا ، فهي في المعنى كقراءة العامة بالهمزة.

وفي همزة «جفأ» وجهان :

أظهرهما : أنها أصل لثبوتها في تصاريف هذه المادة.

والثاني : أنه بدل من واو ، وكأنه مختار أبي البقاء.

وفيه نظر ؛ لأن مادة «جفا يجفو» لا يليق معناها ، والأصل : عدم الاشتراك.

فصل

المعنى : أنّ الباقي الصّافي من هذه الجواهر مثل الحق ، والزّبد الذي لا ينتفع به

__________________

(١) ينظر : الحجة ٥ / ١٦.

(٢) ينظر : الإملاء ٢ / ٦٣.

(٣) في أ : في النار.

(٤) في أ : المنتظم.

٢٨٩

مثل الباطل ، فأمّا الزّبد الذي علا السيل والفلز ، فيذهب جفاء ، أي : ضائعا باطلا ، والجفاء ، ما رمى به الوادي من الزّبد ، والقدر إلى جنباته.

والمعنى : أنّ الباطل ، وإن علا في وقت فإنه يضمحلّ ، ويبقى الحق ظاهرا لا يشوبه شيء من الشّبهات.

قوله : (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ) الكاف في محل نصب ، أي : مثل ذلك الضّرب يضرب.

قيل : إنّما تمّ الكلام عند قوله : (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) ثم استأنف الكلام بقوله تعالى : (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى) ومحله الرفع بالابتداء ، و «للذين» خبره ، وتقديره: لهم الخصلة الحسنى ، أو الحالة الحسنى.

وقيل : متصل بما قبله ، والتقدير : كأنه الذي يبقى ، وهو مثل المستجيب ، والذي يذهب جفاء مثل الذي لا يستجيب ، ثمّ بين الوجه في كونه مثلا ، أي : لمن يستجيب «الحسنى» وهي الجنّة ، ولمن لا يستجيب الحسرة والعقوبة.

وفيه وجه آخر : وهو أنّ التقدير : كذلك يضرب الله الأمثال للذين استجابوا لربهم الحسنى ، أي : الاستجابة الحسنى.

واعلم أنه تعالى ذكر هاهنا أحوال السعداء ، وأحوال الأشقياء ، أما أحوال السعداء ، فهي قوله جل ذكره : (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى) ، أي : أنّ الذين أجابوه إلى ما دعاهم إليه من التوحيد ، والتزام الشرائع ، فلهم الحسنى.

قال ابن عبّاس : «الحسنى» الجنّة (١).

وأمّا أحوال الأشقياء ، فهي قوله ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ) ، أي لبذلوا ذلك يوم القيامة افتداء من النار.

قوله (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا) فيه وجهان :

أحدهما : أنّه متعلق ب «يضرب» ، وبه بدأ الزمخشري قال : «أي : كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين الذين استجابوا ؛ وللكافرين الذين لم يستجيبوا ، و «الحسنى» صفة لمصدر «استجابوا» ، أي : استجابوا الاستجابة الحسنى ، وقوله (لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ) كلام مبتدأ في ذكر ما أعدّ لغير المستجيبين».

قال أبو حيان (٢) : «والتفسير الأول أولى» يعني به أن «للّذين» خبر مقدم و «الحسنى» مبتدأ مؤخّر كما سيأتي.

إيضاحه قال : «لأن فيه ضرب الأمثال غير مقيد بمثل هذين ، والله ـ تعالى ـ قد

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٩ / ٣٠) وأخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٣٧٣) عن قتادة مثله وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ١٠٥) عنه وزاد نسبته إلى أبي الشيخ.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٧٣.

٢٩٠

ضرب أمثالا كثيرة في هذين وفي غيرهما ؛ ولأنّ فيه ذكر ثواب المستجيبين بخلاف قول الزمخشري ، فكما ذكر ما لغير المستجيبين من العقاب ذكر ما للمستجيبين من الثواب ؛ ولأن تقديره : الاستجابة الحسنى مشعر بتقييد الاستجابة ومقابلها ليس نفي الاستجابة مطلقا ، إنما مقابلها نفي الاستجابة الحسنى ، والله ـ سبحانه وتعالى ـ قد نفى الاستجابة مطلقا ، ولأنه على قوله يكون قوله : (لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) كلاما مفلتا ممّا قبله ، أو كالمفلت ، إذ يصير المعنى : كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين ، والكافرين لو أنّ لهم ما في الأرض ، فلو كان التركيب بحذف رابط «لو» بما قبلها زال التفلت ، وأيضا : فتوهم الاشتراك في الضمير ، وإن كان تخصيص ذلك بالكافرين معلوما».

قال شهاب الدين (١) : «قوله : «لأن فيه ضرب الأمثال غير مقيّد» ليس في قول الزمخشري ما يقتضي التّقييد ، وقوله : لأن فيه ذكر ثواب المستجيبين إلى آخر ما ذكره الزمخشري أيضا. على أن يؤخذ من فحواه ثوابهم ، وقوله : «والله تعالى نفى الاستجابة مطلقا» ممنوع ، بل نفى تلك الاستجابة الأولى لا يقال : فثبتت لنا استجابة غير حسنى ؛ لأنّ هذه الصفة لا مفهوم لها ، إذ الواقع أنّ الاستجابة لله لا تكون إلا حسنى.

وقوله : «يصير مفلتا» كيف يكون ـ مع قول الزمخشريّ مبتدأ ـ في ذكر ما أعدّ لهم ، وقوله «وأيضا فيتوهّم الاشتراك» كيف يتوهّم هذا بوجه من الوجوه؟ وكيف يقول ذلك مع قوله : وإن كان تخصيص ذلك بالكافرين معلوما؟ فإذا علم كيف يتوهّم؟».

والوجه الثاني : أن يكون «للّذين» خبرا مقدما ، والمبتدأ «الحسنى» ، و (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا) مبتدأ ، وخبره الجملة الامتناعيّة بعده.

وإنّما خصّ بضرب الأمثال الذين استجابوا لانتفاعهم دون غيرهم ومفعول «افتدوا» محذوف ، تقديره : لافتدوا به أنفسهم ، أي : جعلوه فداء أنفسهم من العذاب ، والهاء في «به» عائدة إلى : «ما» في قوله : «ما في الأرض».

ثم قال : (أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ).

[قال الزجاج : وذلك لأن كفرهم أحبط أعمالهم.

وقال إبراهيم النخعي ـ رضي الله عنه ـ : سوء الحساب](٢) أن يحاسب الرجل بذنبه كله ، ولا يغفر له منه شيء «ومأواهم» في الآخرة : (جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) والفراش ، أي : بئس ما مهد لهم.

قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٣٨.

(٢) سقط من : ب.

٢٩١

يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)(٢٤)

قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُ) الآية قد تقدّم تقرير القولين في «أفلم» ، وهو نظير «أفمن» ، ومذهب الزمخشريّ فيه بعد هنا.

والمعنى : أنّ العالم بالشّيء كالبصير ، والجاهل به كالأعمى ، وليس أحدهما كالآخر ؛ لأن الأعمى إذا مشى من غير قائد ، فربّما وقع في المهالك ، أو أفسد ما كان في طريقه من الأمتعة النافعة ، وأمّا البصير ، فإنه يكون آمنا [الهلاك](١) ، والإهلاك.

قيل : نزلت في حمزة ، وأبي جهل ، وقيل : في أبي عمّار ، وأبي جهل ، فالأوّل حمزة ، أو عمّار ، والثاني : أبو جهل ، وهو الأعمى ، أي : لا يستوي من يبصر الحق ويتبعه ، ومن لا يبصره ، ولا يتبعه. (إِنَّما يَتَذَكَّرُ) يتعظ (أُولُوا الْأَلْبابِ) ذوو العقول.

(الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ) بما أمرهم به ، وفرضه عليهم ، ولا يخالفونه. ويجوز أن يكون قوله : (الَّذِينَ يُوفُونَ) صفة ل «أولي الألباب» ، ويجوز أن يكون صفة لقوله ـ عزوجل ـ : (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُ).

وقيل : (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ) مبتدأ : و (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) خبره لقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) أولئك لهم اللعنة. وهذه الآية من أوّلها إلى آخرها جملة واحدة شرطيّة ، وشرطها مشتمل على قيود.

القيد الأول قوله : (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ) قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : يريد الذين عاهدهم حين كانوا في صلب آدم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ : (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى)(٢) [الأعراف : ٣٢] وقيل : المراد ب «عهد الله» كل أمر قام الدليل على صحّته.

والقيد الثاني : قوله سبحانه : (وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) ، وهذا قريب من الوفاء بالعهد ؛ فإن الوفاء بالعهد قريب من عدم نقض الميثاق ؛ فهما متلازمان.

وقيل : الميثاق ما وثقه المكلف على نفسه من الطاعات كالنذر ، والوفاء بالعهد ما كلف العبد به ابتداء.

وقيل : الوفاء بالعهد : عهد الربوبيّة ، والعبودية ، والمراد بالميثاق : المواثيق المذكورة في التوراة والإنجيل وسائر الكتب الإلهية على وجوب الإيمان بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ظهوره.

__________________

(١) في ب : المهالك.

(٢) ذكر الرازي في «تفسيره» (١٩ / ٣٢).

٢٩٢

وقيل : المراد من الوفاء بالعهد : أن لا يغدر فيه ، قال عليه أفضل الصلاة والسلام : «من عاهد الله فغدر كان فيه خصلة من النّفاق» (١).

القيد الثالث : قوله تعالى (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ).

قيل : أراد به الإيمان بجميع الكتب والرسل ، و : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [البقرة : ٢٨٥].

وقال الأكثرون : المراد صلة الرّحم.

فإن قيل : الوفاء بالعهد ، وترك نقض الميثاق اشتمل على وجوب الإتيان بجميع المأمورات ، والاحتراز عن كل المنهيات. فما الفائدة في ذكر هذه القيود بعدهما؟

فالجواب من وجهين :

[الأول](٢) : ذكر ذلك لئلا يظنّ ظانّ أنّ ذلك ، فيما بينه ، وبين ربه ، فلا جرم أفرد ما بينه ، وبين العباد ، بالذكر.

والثاني : أنه تأكيد ، وفي [تفسير](٣) هذه الصّلة وجوه :

أحدها : صلة الرّحم ، قال ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ حاكيا عن ربّه ـ عزوجل ـ أنا الرّحمن ، وهي الرّحم شققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطها [قطعته](٤) قال تعالى : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) [محمد : ٢٢].

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاثة يأتين يوم القيامة لها ذلق : تأتي الرّحم تقول : أي ربّ قطعت ، والأمانة تقول : أي ربّ تركت ، والنّعمة تقول : أي ربّ كفرت» (٥).

وثانيها : المراد صلة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومؤازرته ونصرته في الجهاد.

وثالثا : رعاية جميع الحقوق الواجبة للعباد ، فيدخل فيه صلة الرّحم ، وأخوة الإيمان قال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات : ١٠] ويدخل في هذه الصلة أيضا إمدادهم بالخيرات ، ودفع الآفات بقدر الإمكان ، وعيادة المرضى ، وشهود الجنائز ، وإفشاء السلام والتبسم في وجوههم ، وكف الأذى عنهم ، ويدخل فيه كل حيوان حتى الهرة ، والدجاجة.

القيد الرابع : قوله : «ويخشون ربّهم» معناه : أنّ العبد ، وإن قام بكلّ ما جاء عليه

__________________

(١) هو جزء من حديث أربع من كن فيه كان منافقا خالصا.

وأخرجه البخاري (١ / ١١١) كتاب الإيمان : باب علامة المنافق (٣٤) وفي (٥ / ١٢٨) كتاب المظالم : باب إذا خاصم فاجر (٢٤٥٩) وفي ٦ / ٣٢٢ كتاب الجزية : باب إثم من عاهد ثم غدر (٣١٧٨) ومسلم ١ / ٧٨ كتاب الإيمان (١٠٦ / ٥٨).

(٢) في ب : أحدهما.

(٣) في ب : نفس.

(٤) في أ : بتته.

(٥) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٩ / ٣٣).

٢٩٣

من تعظيم الله ، والشفقة على خلق الله إلا أنه لا بد وأن تكون الخشية من الله ـ عزوجل ـ والخوف منه مستويان.

والفرق بين الخشية ، والخوف : أنّ الخشية أن تخشى وقوع خلل إمّا بزيادة ، أو نقص فيما يأتي به ، والخوف : هو مخافة الهيبة والجلال.

القيد الخامس : قوله ـ عزوجل ـ : (وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ).

وهذا القيد هو المخافة من سوء الحساب ، وهو خوف الجلال ، والعظمة ، والمهابة ، وإلا لزم التكرار.

القيد السادس : قوله تعالى : (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ).

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : «على أمر الله» (١). وقال عطاء : «على المصائب» (٢). وقيل : على الشّهوات.

واعلم أنّ العبد قد يصبر لوجوه :

إما أن يصبر ليقال : ما أصبره ، وما أشد قوته على تحمل النّوائب.

وإما أن يصبر لئلا يعاب على الجزع.

وإما أن يصبر لئلا تحصل شماتة الأعداء ، وإما أن يصبر لعلمه أنّ الجزع لا فائدة فيه.

فإذا كان أتى بالصّبر لأحد هذه الوجوه ، لم يكن داخلا في كمال النفس ، أمّا إذا صبر على البلاء لعلمه أن البلاء قسمة القاسم الحكيم العلام المنزه عن العبث ، والباطل ، والسّفه وأنّ تلك القسمة مشتملة على حكمة بالغة ، ومصلحة راجحة ، ورضي بذلك ؛ لأنّه لا اعتراض على المالك في تصرّفه في ملكه ، فهذا هو الذي يصدق عليه أنه صبر ابتغاء وجه ربه ؛ لأنه صبر لمجرّد طلب رضوان الله.

القيد السابع : قوله تعالى : (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) واعلم أنّ الصّلاة ، والزّكاة ، وإن كانتا داخلتين في الجملة الأولى ، إلّا أنه ـ تعالى ـ أفردهما بالذّكر تنبيها على كونهما أشرف سائر العبادات ، ولا يمتنع دخول النّوافل فيه أيضا.

القيد الثامن : قوله تعالى : (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) قال الحسن ـ رضي الله عنه ـ : المراد الزكاة المفروضة فإن لم يتّهم بتركها أدّاها سرّا ، وإن اتهم بتركها فالأولى أداؤها في العلانية (٣). وقيل : السرّ : ما يؤديه بنفسه ، والعلانية : ما يؤديه إلى الإمام.

وقيل : العلانية : الزكاة ، والسر : صدقة التّطوع.

القيد التاسع : قوله تعالى : (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) قيل : إذا أتوا المعصية ، درءوها ، أو دفعوها بالحسنة.

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٦).

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٩ / ٣٥).

٢٩٤

قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : «يدفعون بالصّالح من العمل السيّىء من العمل ، وهو معنى قوله تعالى (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ)(١) [هود : ١٤].

وقال ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لمعاذ بن جبل ـ رضي الله عنه : «إذا عملت سيّئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها ، السّرّ بالسّرّ ، والعلانية بالعلانية» (٢).

وقيل : لا تقابلوا الشّر بالشّر ، بل قابلوا الشّر بالخير ، كما قال تعالى : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) [الفرقان : ٧٢] (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) [الفرقان : ٦٣] قال الحسن : إذا حرموا أعطوا ، وإذا ظلموا عفوا ، وإذا قطعوا وصلوا (٣).

قال عبد الله بن المبارك ـ رضي الله عنه ـ : «فهذه ثمان خلال مشيرة إلى ثمانية أبواب الجنّة» (٤).

واعلم أنّ هذه القيود هي القيود المذكورة في الشّرط ، وأمّا القيود المذكورة في الجزاء ، فهي قوله تعالى : (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) ، أي : عاقبة الدار ، وهي الجنّة.

قال الواحديّ : «العقبى كالعاقبة ، ويجوز أن يكون مصدرا كالشّورى والقربى والرّجعى ، وقد يجيء مثل هذا أيضا على «فعلى» كالنّجوى والدّعوى وعلى «فعلى» كالذّكرى والضّيزى ، ويجوز أن يكون اسما وهو هاهنا مصدر مضاف إلى الفاعل ، والمعنى : أولئك لهم أن تعقب أحوالهم الدار التي هي الجنة».

قوله «أولئك» مبتدأ ، و «عقبى الدّار» يجوز أن يكون مبتدأ خبره الجار قبله والجملة خبر «أولئك» ، ويجوز أن يكون «لهم» خبر «أولئك» و «عقبى» فاعل بالاستقرار. قوله : «جنات عدن» يجوز أن يكون (٥) بدلا من «عقبى» وأن يكون بيانا ، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر ، وأن يكون مبتدأ خبره «يدخلونها».

وقرأ النخعي (٦) : «جنّة» بالإفراد ، وتقدم الخلاف في (يَدْخُلُونَها) [الرعد : ١٣] والجملة من «يدخلونها» تحتمل الاستئناف أو الحالية المقدرة.

قوله «ومن صلح» يجوز أن يكون مرفوعا عطفا على الواو ، وأغنى الفصل بالمفعول عن التأكيد بالضمير المنفصل ، وأن يكون منصوبا على المفعول معه ، وهو مرجوح.

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٩ / ٢٠٤).

(٢) له شاهد من حديث أبي ذر.

أخرجه أحمد (٥ / ١٦٩) وأبو نعيم في «الحلية» (٤ / ٢١٧ ـ ٢١٨) وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠ / ٨٤) وقال : رواه أحمد ورجاله ثقات إلّا أن شمر بن عطية حدث به عن أشياخه عن أبي ذر ولم يسم أحدا منهم.

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ١٦).

(٤) ينظر : المصدر السابق.

(٥) سقط في ب.

(٦) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٣١٠ والبحر المحيط ٥ / ٣٧٧ والدر المصون ٣ / ٢٣٩.

٢٩٥

وقرأ ابن (١) أبي عبلة «صلح» بضم اللام ، وهي لغة مرجوحة.

قوله (مِنْ آبائِهِمْ) في محل الحال من «من صلح» و «من» لبيان الجنس.

وقرأ عيسى (٢) الثقفي : «ذرّيتهم» بالتوحيد.

فصل

قوله تعالى (جَنَّاتُ عَدْنٍ) هو القيد الثاني ، وقد تقدم الكلام في (جَنَّاتُ عَدْنٍ) عند قوله (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) [التوبة : ٧٢].

والقيد الثالث : هو قوله (وَمَنْ صَلَحَ) قال ابن عباس : يريد من صدق بما صدقوا به وإن لم يعمل مثل أعمالهم (٣).

وقال الزجاج : «بين ـ تعالى ـ أن الأنساب لا تنفع إذا لم يحصل معها أعمال صالحة» ، بل الآباء والأزواج والذريات لا يدخلون الجنة إلا بالأعمال الصالحة.

قال الواحدي : «والصحيح ما قاله ابن عباس ؛ لأن الله ـ تعالى ـ جعل من ثواب المطيع سروره بحضور أهله في الجنة ، وذلك يدل على أنهم يدخلونها كرامة للمطيع الآتي بالأعمال الصالحة ، ولو دخلوها بأعمالهم الصالحة لم يكن في ذلك كرامة للمطيع ، فلا فائدة في الوعد به ، إذ كل من كان صالحا في عمله فهو يدخل الجنة».

قال ابن الخطيب (٤) : «وهذه الحجة ضعيفة ؛ لأن المقصود بشارة المطيع بكل ما يزيده سرورا وبهجة ، فإذا بشر الله المكلف أنه إذا دخل الجنة يجد أباه وأولاده ، فلا شك يعظم سروره بذلك وهذا الذي قاله وإن كان فيه مزيد سرور ، لكنه إذا علم أنهم إنما دخلوا الجنة إكراما له كان سروره أعظم وبهجته أتم».

قوله «وأزواجهم» ليس فيه ما يدل على التمييز بين زوجة وزوجة ، ولعل الأولى من مات عنها أو ماتت عنه ، قاله ابن الخطيب.

وفيه نظر ؛ لأنه لو مات عنها فتزوجت بعده غيره لم تكن من أزواجه ، بل الأولى أن يقال: إن من ماتت في عصمته فقط.

والقيد الرابع : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ) [قيل : من أبواب الجنة ، وقيل : من أبواب القصور ، وقال الأصم : من كل باب](٥) من أبواب البر كباب الصلاة وباب الزكاة وباب الصبر ، يقولون : نعم ما أعقكبم الله بهذه الدار.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٢٧ والبحر المحيط ٤ / ٣٧٧ والدر المصون ٣ / ٢٣٩.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٧٧ والدر المصون ٤ / ٢٣٩.

(٣) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٩ / ٣٦).

(٤) ينظر : الفخر الرازي ١٩ / ٣٦.

(٥) سقط من ب.

٢٩٦

فصل

تمسّك بعضهم بهذه الآية على أن الملك أفضل من البشر فقال : إنه ـ سبحانه ـ ختم مراتب سعادات البشر بدخول الملائكة عليهم على سبيل التحية والإكرام والتعظيم والسلام ، فكانوا أجل مرتبة من البشر لما كان دخولهم عليهم موجبا علو درجتهم وشرف مراتبهم ، ألا ترى أن من عاد من سفره أو مرضه فعاده الأمير والوزير والقاضي والمفتي فتعظم درجته عند سائر الناس فكذا هاهنا.

قوله (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) الآية قال الزجاج : «ههنا محذوف تقديره والملائكة يدخلون عليهم من كل باب ويقولون : سلام عليكم ، فأضمر القول ههنا ؛ لأن في الكلام دليلا عليه والجملة محكية بقول مضمر والقول المضمر حال من فاعل «يدخلون» أي يدخلون قائلين. قوله «بما صبرتم» متعلق بما تعلق به «عليكم».

قال ابن الخطيب (١) : متعلق بمحذوف ، أي : أن هذه الكرامات التي ترونها إنما حصلت بصبركم و «ما» مصدرية ، أي : سبب صبركم ، ولا يتعلق ب «سلام» ، لأنه لا يفصل بين المصدر ومعموله بالخبر قاله أبو البقاء.

وقال الزمخشري (٢) : «ويجوز أن يتعلق ب «سلام» أي : نسلم عليكم ونكرمكم بصبركم».

ولما نقله عنه أبو حيان لم يعترض عليه بشيء. والظاهر أنه لا يعترض عليه بما تقدم لأن ذلك في المصدر المؤول بحرف مصدري وفعل هذا المصدر ليس من ذلك ، والباء إما سببية كما تقدم ، وإما بمعنى بدل أي : بدل صبركم ، أي : بما احتملتم مشاق الصبر.

وقيل : «بما صبرتم» خبر مبتدأ مضمر ، أي : هذا [الثواب](٣) الجزيل بما صبرتم.

وقرأ الجمهور : «فنعم» بكسر النون وسكون العين ، وابن يعمر (٤) بالفتح والكسر وقد تقدم أنها الأصل ؛ كقوله : [الرمل]

٣١٧٧ ـ ...........

نعم السّاعون في الأمر الشّطر (٥)

وابن وثاب بالفتح (٦) والسكون ، وهي تخفيف الأصل ، ولغة تميم تسكين عين فعل مطلقا والمخصوص بالمدح محذوف ، أي : الجنة.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ١٩ / ٣٧.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٢٧.

(٣) في ب : الصبر.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٧٧ ، والدر المصون ٤ / ٢٤٠.

(٥) البيت لطرفة بن العبد البكري. ينظر : الخصائص ٢ / ٤٠٨ ، الإنصاف ١ / ١٢٢ ، خزانة الأدب ٤ / ١٠١ ، لسان العرب (نعم) ، البحر المحيط ٥ / ٣٧٧ ، الدر المصون ٤ / ٢٤٠.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٧٨ والدر المصون ٤ / ٢٤٠.

٢٩٧

يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (٢٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ)(٢٩)

قوله (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ) مبتدأ ، والجملة من قوله (أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ) خبره ، والكلام في «اللعنة» تقدم في (عُقْبَى الدَّارِ).

ولما ذكر صفة السعداء وما يترتب عليها من الأحوال الشريفة ، ذكر صفة الأشقياء وما يترتب عليها من الأحوال المخزية ، وأتبع الوعد بالوعيد فقال عزوجل (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) وقد تقدم أن عهد الله ما ألزم عباده مما يجب الوفاء به وهذا في الكفار ، والمراد من نقض العهد : ألا ينظر في الأدلة وحينئذ لا يكون العمل بموجبها أو ينظر ويعلم صحتها ثم يعاند فلا يعمل بعمله أو ينظر في الشبهة فيعتقد خلاف الحق ، والمراد من قوله : «من بعد ميثاقه» أن وثق الله تلك الأدلة وأحكامها.

فإن قيل : العهد لا يكون إلا مع الميثاق ، فما فائدة اشتراطه بقوله (مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ)؟.

فالجواب : لا يمتنع أن يكون المراد بالعهد هو ما كلف العبد به والمراد بالميثاق الأدلة ؛ لأنه ـ تعالى ـ قد يؤكد [العهد](١) بدلائل أخر سواء كانت تلك المؤكدات دلائل عقلية أو سمعية.

ثم قال (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) فيدخل فيه قطع كل ما أوجب الله وصله مثل : أن يؤمنوا ببعض الأنبياء ويكفرون ببعض ، ويقطعون وصل الرسول بالموالاة والمعاونة ، ووصل المؤمنين ووصل الأرحام وسائر ما تقدم.

ثم قال : (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) إما بالدعاء إلى غير دين الله وإما بالظلم كما في النفوس والأموال وتخريب البلاد ثم قال : (أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ) وهي الإبعاد من خيري الدنيا والآخرة (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) وهي جهنم.

قوله (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) الآية لما حكى عن ناقضي العهد في التوحيد والنبوة بأنهم ملعونون ومعذبون في الآخرة فكأنه قيل : لو كانوا أعداء الله لما أنعم عليهم في الدنيا؟ فأجاب الله ـ تعالى ـ عنه بهذه الآية وهو أنه ـ تعالى ـ يبسط الرزق على البعض ، وبسط الرزق لا تعلق له بالكفر والإيمان ، فقد يوجد الكافر موسعا عليه دون المؤمن ، والدنيا دار امتحان.

__________________

(١) في ب : الأدلة.

٢٩٨

قال الواحدي : «ومعنى القدر في اللغة : قطع الشيء على مساواة غيره من غير زيادة ولا نقصان».

وقال المفسرون في معنى «يقدر» ههنا : يضيق ، لقوله (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) [الطلاق : ٧] ومعناه : أنه يعطيه بقدر كفايته لا يفضل عنه شيء.

وقرأ زيد (١) بن علي : «ويقدر» بضم العين.

قوله «وفرحوا» هذا استئناف إخبار. وقيل : بل هو عطف على صلة «الذين» قبل.

وفيه نظر ؛ من حيث الفصل بين أبعاض الصلة بالخبر ، وأيضا : فإن هذا ماض وما قبله مستقبل ولا يدعى التوافق في الزمان إلا أن يقال : المقصود استمرارهم بذلك أو أن الماضي متى وقع صلة صلح [للماضي](٢) والاستقبال. قوله «في الآخرة» ، أي في جنب الآخرة.

«إلّا متاع» وهذا الجار في موضع الحال تقديره : وما الحياة القريبة الكائنة في جنب الآخرة إلا متاع ولا يجوز تعلقه بالحياة ولا بالدنيا لأنهما لا يقعان إلا في الآخرة.

ومعنى الآية : أن [مشركي](٣) مكة أشروا وبطروا ، والفرح : لذة في القلب بنيل المشتهى وفيه دليل على أن الفرح بالدنيا حرام محال (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) أي قليل ذاهب.

قوله : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) الآية اعلم أن كفار مكة قالوا : يا محمد إن كنت رسولا فأتنا بآية ومعجزة مثل معجزات موسى وعيسى ـ عليهما الصلاة والسلام ـ فأجابهم الله بقوله (قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ).

وبيان كيفية هذا الجواب من وجوه :

أحدها : كأنه يقول : إن الله أنزل عليه آيات ظاهرة ومعجزات قاهرة ، لكن [الإضلال](٤) والهداية من الله فأضلهم عن تلك الآيات وهدى إليها آخرين ، فلا فائدة في تكثير الآيات والمعجزات.

وثانيها : أنه كلام يجري مجرى التعجب من قولهم ، وذلك لأن الآيات الباهرة المتكاثرة التي ظهرت على رسول الله ـ عليه أفضل الصلاة والسلام ـ كانت أكثر من أن تصير مشتبهة على العاقل فلما طلبوا بعدها آيات أخر كان في موضع التعجب والاستنكار ، فكأنه قيل لهم : ما أعظم عنادكم (إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) من كان على صنيعكم من التصميم على الكفر فلا سبيل إلى هدايتكم وإن نزلت كل آية ، «ويهدي» من كان على خلاف صنيعكم.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٧٩ والدر المصون ٤ / ٢٤٠.

(٢) في أ : للمضي.

(٣) في ب : أهل.

(٤) في أ : الضلال.

٢٩٩

وثالثها : لما طلبوا سائر الآيات والمعجزات فكأنه قال لهم : لا فائدة في ظهور الآيات والمعجزات ، فإن الإضلال والهداية من الله ـ تعالى ـ فلو حصلت الآيات الكثيرة ولم تحصل الهداية من الله فإنه لم يحصل الانتفاع بها.

ورابعها : قال الجبائي : المعنى : أنه يضل من يشاء عن رحمته وثوابه عقوبة له على كفره فلستم ممن يجيبه الله ـ تعالى ـ إلى ما يسأل لاستحقاقكم الإضلال عن الثواب (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) ، أي : يهدي إلى جنته من [تاب](١) وآمن ، قال : وهذا يبين أن الهدى هو الثواب من حيث إنه عقبه بقوله : «من أناب» ، أي : من تاب.

والهدى الذي يفعله بالمؤمن هو الثواب ؛ لأنه يستحقه على إيمانه وذلك يدل على أنه ـ تعالى ـ إنما يضل عن الثواب بالعقاب لا عن الدين بالكفر على ما ذهب إليه من خالفنا هذا تمام كلام الجبائي.

والضمير في «إليه» عائد على الله ، أي : إلى دينه وشرعه. وقيل على الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ. وقيل : على القرآن.

قوله (الَّذِينَ آمَنُوا) يجوز فيه خمسة أوجه :

أحدها : أن يكون مبتدأ خبره الموصول الثاني وما بينهما اعتراض.

الثاني : أنه بدل من «من أناب».

والثالث : أنه عطف بيان له.

الرابع : أنه خبر مبتدأ مضمر.

الخامس : أنه منصوب بإضمار فعل.

فصل

قال ابن عباس رضي الله عنهما : إذا سمعوا القرآن خشعت قلوبهم واطمأنت (٢).

فإن قيل : أليس قال في سورة الأنفال (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) [الأنفال : ٢] والوجل ضد الاطمئنان ، فكيف وصفهم هنا بالاطمئنان؟.

فالجواب من وجوه :

أحدها : أنهم إذا ذكروا العقوبات ولم يأمنوا أن [يقربوا](٣) المعاصي فهناك الوجل وإذا ذكروا ما وعد الله به من الثواب والرحمة سكنت قلوبهم ، فإن أحد الأمرين لا ينافي الآخر ؛ لأن الوجل هو بذكر العقاب والطمأنينة بذكر الثواب.

وثانيها : أن المراد أن بكون القرآن معجزا يوجب حصول الطمأنينة لهم في كون

__________________

(١) في أ : أناب.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٩ / ٣٩).

(٣) في أ : يتوبوا عن.

٣٠٠