اللّباب في علوم الكتاب - ج ١١

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١١

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥١٠

البيت ، فذهبت كذا وكذا ـ وقال آخرون : كانت مجتمعة عند بيت المقدس ، فقال لها : اذهبي كذا ، وكذا.

قال ابن الخطيب (١) : وهذا القول إنّما يتمّ إذا قلنا : الأرض مسطحة لا كرة وأصحاب هذا القول ، احتجوا عليه بقوله تعالى : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) [النازعات : ٣٠] وهو مشكل من وجهين :

الأول : أنّه ثبت بالدليل أنّ الأرض كرة ، فإن قالوا : قوله تعالى : مد الأرض ينافي كونها كرة.

قلنا : لا نسلم ؛ لأنّ الأرض جسم عظيم ، والكرة إذا كانت في غاية الكبر كان كل قطعة منها تشاهد كالسّطح ، والتّفاوت الحاصل بينه ، وبين السّطح ، لا يحصل إلّا في علم الله ـ تبارك وتعالى ـ إلا في قوله تعالى (وَالْجِبالَ أَوْتاداً) [النبأ : ٧] مع أن العالم من النّاس يستقرّون عليه ، فكذلك هنا.

والثاني : أنّ هذه الآية إنّما ذكرت ليستدلّ على وجود الصّانع ؛ والشرط فيه أن يكون ذلك أمرا مشاهدا معلوما ، حتى يصح الاستدلال به على وجود الصانع لأنّ الشيء إذا رأيت حجمه ، ومقداره ، صار ذلك الحجم ، وذلك المقدار عبرة ؛ فثبت أنّ قوله : (مَدَّ الْأَرْضَ) إشارة إلى أنه ـ تعالى ـ هو الذي جعل الأرض مختصة بمقدار معيّن لا يزيد ولا ينقص ، والدليل عليه أن كون الأرض أزيد مقدارا ممّا هو الآن ، وأنقص منه أمر جائز ممكن في نفسه ، فاختصاصه بذلك المقدار المعيّن لا بدّ وأن يكون بتخصيص مخصّص ، وتقدير مقدّر.

قوله : (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) وهي الجبال الثّوابت ، وقاعدة هذا الوصف لا تطّرد إلا في الإناث إلا أن المكسر مما لا يعقل يجري مجرى جمع الإناث ، وأيضا كثرة استعماله كالجوامد ، فجمع حائط حوائط ، وكاهل كواهل. وقيل : هو جمع راسية ، والهاء للمبالغة ، والرسوّ : الثبوت ، قال الشاعر : [الطويل]

٣١٦٤ ـ به خالدات ما يرمن وهامد

وأشعث أرسته الوليدة بالفهر (٢)

فصل

قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : كان أبو قبيس أوّل جبل وضع على وجه الأرض (٣).

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ١٩ / ٤.

(٢) البيت للأحوص ينظر : ديوانه ١٦٩ ومجاز القرآن ١ / ٣٢١ والبحر ٤ / ٣٥٥ واللسان (رسا) والطبري ١٦ / ٣٢٨ والدر المصون ٤ / ٢٢٥.

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٦) عن ابن عباس ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٨٢) عن عطاء وعزاه إلى ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم.

٢٤١

واعلم أنّ الاستدلال بوجود الجبال على وجود الصّانع القادر الحكيم من وجوه :

أولها : أنّ طبيعة الأرض واحدة ، فحصول الجبل في بعض جوانبها دون البعض لا بدّ وأن يكون بتخليق القادر العليم.

قالت الفلاسفة : الجبال إنّما تولّدت من البخارات ؛ لأنّ البخارات كانت في هذا الجانب من العالم ، وكان تتولد في البحر طينا لزجا ، ثم يقوى فيه تأثير الشمس ؛ فينقلب حجرا كما نشاهده ، ثمّ إنّ الماء كان يفور ويقلّ ؛ فلهذا السبب تولّدت هذه الجبال وإنما حصلت هذه الجبال في هذا الجانب من العالم : لأن في الدّهر الأقدم كان حضيض الشمس في جانب الشمال ، والشمس متى كانت في حضيضها كانت أقرب إلى الأرض ، فكان التسخين أقوى ، وشدّة السّخونة توجب انجذاب الرطوبات ، فحين كان الحضيض في جانب الشمال ، كان البخار في جانب الشمال ، ولما انتقل الأوج إلى جانب الشمال ، والحضيض إلى جانب الجنوب انتقلت البحار إلى جانب الجنوب فبقيت هذه الجبال في جانب الشمال. وهذا ضعيف من وجوه :

الأول : أنّ حصول الطّين في البحر أمر عام ، ووقوع الشّمس عليها أيضا أمر عامّ ، فلم حصل هذا الجبل في بعض الجوانب دون البعض؟.

الثاني : أنّا نشاهد بعض الجبال كأنّ تلك الأحجار موضوعة أقساما كأن البنّاء بناه من لبنات كثيرة موضوع بعضها فوق بعض ، ويبعد حصول مثل هذا التركيب من السّبب الذي ذكروه.

الثالث : أنّ أوج الشّمس الآن قريب من أوّل السّرطان ، فعلى هذا من أوّل الوقت الذي انتقل أوج الشمس إلى الجانب الشّمالي مضى قريبا من تسعة آلاف سنة ، وبهذا التقدير : أنّ الجبال في هذه المدّة الطويلة كانت في التفتت ، فوجب أن لا يبقى من الأحجار شيء ، لكن ليس الأمر كذلك ؛ فعلمنا أنّ السبب الذي ذكروه ضعيف.

الوجه الثاني من الاستدلال بأحوال الجبال على وجود الصّانع : ما يحصل فيها من المعادن ، ومواضع الجواهر النفيسة ، وما يحصل فيها من معادن الدخان ومعادن النفط ، والكبريت ، فتكون طبيعة الأرض واحدة ، وكون الجبل واحدا في الطّبع وكون تأثير الشمس واحدا في الكل يدلّ ظاهرا على أنّ الكلّ بتقدير قادر قاهر متعال عن مشابهة المحدثات.

الوجه الثالث من الاستدلال بأحوال الجبال : وذلك أنّ بسببها تتولد الأنهار على وجه الأرض ؛ لأنّ الحجر جسم صلب ، فإذا تصاعدت الأبخرة من قعر الأرض ، ووصلت إلى الجبال انحبست هناك ، فلا تزال تتكامل ، فيحصل بسبب الجبل مياه عظيمة ثمّ إنّها لكثرتها ، وقوتها تثقب ، وتخرج ، وتسيل على وجه الأرض ، فمنفعة الجبال في تولد الأنهار هو من هذا الوجه ، ولهذا السّبب ما ذكر الله الجبال إلّا وذكر بعدها الأنهار في

٢٤٢

أكثر الأمر كهذه الآية ، وقوله تعالى : (وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) [المرسلات : ٢٧].

فصل

قال القرطبي (١) : في هذه الآية ردّ على من زعم أنّ الأرض كالكرة لقوله : (مَدَّ الْأَرْضَ) ، ورد على من زعم أن الأرض تهوي أبدا بما عليها ، وزعم ابن الرّاونديّ : أنّ تحت الأرض جسما صاعدا كالرّيح الصعادة ، وهي منحدرة فاعتدل الهاوي ، والصعّادي في الجرم والقوة فتوافقا.

وزعم آخرون : أن الأرض مركبة من جسمين.

أحدهما : منحدر ، والآخر : مصدع فاعتدلا ، فلذلك وقفت ، والذي عليه المسلمون ، وأهل الكتاب القول بوقوف الأرض ، وسكونها ، ومدّها ، وأنّ حركتها إنّما تكون في العادة بزلزلة تصيبها والله أعلم.

قوله : (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) يجوز فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يتعلق ب «جعل» [بعده](٢) ، أي : وجعل فيها زوجين اثنين من كلّ صنف من أصناف الثمرات ، وهو ظاهر.

والثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنّه حال من : «اثنين» ؛ لأنّه في الأصل صفة له.

الثالث : أن يتمّ الكلام على قوله : (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) فيتعلق ب «جعل» الأولى على أنه من باب عطف المفردات ، يعني عطف على معمول «جعل» الأولى تقديره : أنه جعل في الأرض كذا ، وكذا ومن كل الثمرات.

قال أبو البقاء (٣) : ويكون «جعل» الثاني مستأنفا ، و (يُغْشِي اللَّيْلَ) قدّم الكلام فيه ، وهو إمّا مستأنف ، وإمّا حال من فاعل الأفعال.

فصل

المعنى : ومن كلّ الثمرات جعل فيها زوجين ، أي : صنفين اثنين : أصفر ، وأحمر ، وحلوا ، وحامضا.

وهذا النوع الثالث في الاستدلال بعجائب خلقة النبات.

واعلم أن الحبّة إذا وقعت في الأرض ربت وكبرت ؛ فبسبب ذلك ينشقّ أعلاها وأسفلها ، فيخرج من الشق الأعلى الشجرة الصّاعدة ، ويخرج من الشق الأسفل العروق

__________________

(١) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ٩ / ١٨٤.

(٢) في ب : هذا.

(٣) ينظر : الإملاء ٢ / ٦٠.

٢٤٣

الغائصة في الأرض ، وهذا من العجائب ؛ لأنّ طبيعة تلك الحبّة واحدة وتأثير الطبائع ، والأفلاك ، والكواكب فيها واحد ، ثم إنه يخرج من الجانب الأعلى من تلك الحبّة جرم صاعد إلى الهواء ، ومن الجانب الأسفل جرم غائص في الأرض ، ومن المحال أن يتولّد من الطبيعة الواحدة طبيعتان متضادتان ، فعلمنا أنّ ذلك إنّما كان بتدبير المدبّر العليم الحكيم لا بسبب الطّبع ، والخاصة ، ثم إنّ الشجرة النّامية في تلك الجهة بعضها يكون خشبا ، وبعضها يكون نورا ، وبعضها يكون ثمرة ، ثم إن تلك الثمرة أيضا يحصل فيها أجسام مختلفة الطّبائع مثل الجوز ففيه أربعة أنواع من القشور ، فالقشرة الأعلى ، وتحته القشرة الخشبية ، وتحته القشرة المحيطة باللبّ ، وتحت تلك القشرة قشرة أخرى في غاية الرّقة تمتاز عمّا فوقها حال كون الجوز واللوز رطبا وأيضا : فقد يحصل في الثمرة الواحدة الطبائع المختلفة فالأترج قشره حارّ يابس ولحمه حارّ رطب ، وحامضه بارد يابس وبذره حار يابس ، وكذلك العنب قشره وعجمه باردان يابسان ولحمه وماؤه حارّان رطبان ؛ فثبت أنّ هذه الطّبائع المختلفة من الحبة الواحدة مع تساوي تأثيرات الطبائع ، وتأثيرات الأنجم ، والأفلاك ـ على زعم من يدعيه ـ لا بد وأن يكون بتدبير العليم القدير.

فإن قيل : الزّوجان لا بدّ وأن يكونا اثنين ، فما الفائدة في قوله : «زوجين اثنين»؟.

فالجواب : أنه ـ تعالى ـ أوّل ما خلق العالم ، وخلق فيه الأشجار ، خلق من كل نوع من الأنواع اثنين فقط ، فلو قال : «زوجين» لم يعلم أنّ المراد النوع ، أو الشخص فلما قال : «اثنين» علمنا أنه ـ تعالى ـ أوّل ما خلق من كل زوجين اثنين [لا أقل ولا أزيد ، والحاصل أن الناس فيهم الآن كثرة ، إلا أنهم ابتدءوا من زوجين اثنين](١) بالشّخص وهما : آدم وحواء ـ عليهما‌السلام ـ وكذلك القول في جميع الأشجار ، والزروع ، والله أعلم.

النوع الرابع : الاستدلال بأحوال الليل ، والنهار ، وإليه الإشارة بقوله : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) وقد سبق الكلام فيه فأغنى عن الإعادة.

ثم قال تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فيستدلون ، والتّفكر : تصرف القلب في طلب المعاني.

قوله : (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) العامة على رفع : «قطع» «وجنّات» إمّا على الابتداء ، وإما على الفاعلية بالجار قبله.

وقرىء «قطعا متجاورات» (٢) بالنصب ، وكذلك هي في بعض المصاحف على إضمار جعل. وقرأ الحسن (٣) : «وجنّات» بكسر التّاء وفيها أوجه :

__________________

(١) سقط من : ب.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٥١٣ والبحر المحيط ٥ / ٣٥٦ والدر المصون ٤ / ٢٢٥.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٩٣ والبحر المحيط ٥ / ٣٥٦ والدر المصون ٤ / ٢٢٥.

٢٤٤

أحدها : أنه جر عطفا على : «كلّ الثّمرات».

الثاني : أنه نصب نسقا على : «زوجين اثنين» قاله الزمخشري.

الثالث : أنه نصبه نسقا على : «رواسي».

الرابع : أنه نصبه بإضمار جعل ، وهو أولى لكثرة الفواصل في الأوجه قبله.

قال أبو البقاء (١) : «ولم يقرأ أحد منهم «وزرعا» بالنصب».

قوله : (وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص : بالرفع في الأربعة ، والباقون (٢) بالخفض ، فالرفع في «زرع ونخيل» للنسق على «قطع» وفي «صنوان» لكونه تابعا ل «نخيل» ، و «غير» لعطفه عليه.

وعاب أبو حيّان (٣) على ابن عطيّة قوله : «عطفا على : قطع». قال : وليست عبارة محررة ؛ لأنّ فيها ما ليس بعطف ، وهو «صنوان»».

قال شهاب الدين (٤) : «ومثل هذا [غير معيب](٥) ؛ لأنّه عطف محقق غاية ما فيه أنّ بعض ذلك تابع ، فلا يقدح في هذه العبارة ، والخفض مراعاة ل «أعناب»».

وقال ابن عطيّة (٦) : «عطفا على «أعناب» ، وعابها أبو حيان بما تقدّم وجوابه ما تقدّم.

وقد طعن قوم على هذه القراءة ، وقالوا : ليس الزّرع من الجنّات ، وروي ذلك عن أبي عمر.

وقد أجيب عن ذلك : بأنّ الجنّة احتوت على النّخيل ، والأعناب ، لقوله ـ تعالى ـ (جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً) [الكهف : ٣٢].

وقال أبو البقاء (٧) : «وقيل : المعنى ، ونبات زرع فعطفه على المعنى».

قال شهاب الدين (٨) : «ولا أدري ما هذا الجواب ؛ لأنّ الذي يمنع أن يكون الجنة من الزّرع يمنع أن يكون من نبات الزّرع ، وأي فرق». والصنوان : جمع صنو كقنوان جمع قنو ، وقد تقدّم تحقيق هذا التّنبيه في الأنعام.

و «الصّنو» : الفرع يجمعه وفرعا آخر أصل واحد ، وأصله المثل ، وفي الحديث : «عمّ

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ٦١.

(٢) ينظر : الحجة ٥ / ٥ ، ٦ وإعراب القراءات السبع ١ / ٣٢٠ وحجة القراءات ٣٦٩ والإتحاف ٢ / ١٦٠ والمحرر الوجيز ٣ / ٢٩٣ والبحر المحيط ٥ / ٣٥٦ والدر المصون ٤ / ٢٢٥.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٥٦.

(٤) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٢٦.

(٥) في ب : غريب.

(٦) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٩٣.

(٧) ينظر : الإملاء ٢ / ٦١.

(٨) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٢٦.

٢٤٥

الرّجل صنو أبيه» ، أي : أو لأنهما يجمعهما أصل واحد والعامة على كسر الصاد.

وقرأ السلميّ (١) ، وابن مصرف ، وزيد بن عليّ : بضمها ، وهي لغة قيس ، وتميم كذئب ، وذؤبان.

وقرأ الحسن ، وقتادة (٢) : بفتحها ، وهو اسم جمع لا جمع تكسير ؛ لأنه ليس من أبنية «فعلان» ، ونظير «صنوان» بالفتح «السّعدان» هذا جمعه في الكثرة ، وأمّا في القلّة ، فيجمع على «أصناء» ك «جمل ، وأجمال».

قوله : (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ) قرأ ابن عامر ، وعاصم «يسقى» بالياء من تحت أي يسقى بما ذكرنا ، والباقون بالتاء من فوق مراعاة للفظ ما تقدّم ، وللتأنيث في قوله «وجنّات» ، ولقوله : «بعضها».

قوله «ونفضّل» قرأه بالياء من تحت مبنيّا للفاعل (٣) : الأخوان ، والباقون بنون العظمة ، ويحيى (٤) بن يعمر ، وأبو حيوة : «يفضّل» بالياء مبنيّا للمفعول و «بعضها» رفعا.

وقال أبو حاتم : وجدته كذلك في مصحف يحيى بن يعمر ، وهو أوّل من نقط المصاحف ، وتقدّم [الخلاف](٥) في الأكل في البقرة.

وفي «الأكل» وجهان :

أظهرهما : أنّه ظرف [ل «نفضّل»](٦).

والثاني : أنه حال من «بعضها» ، أي : نفضّل بعضها مأكولا ، أي : وفيه الأكل ، قاله أبو البقاء.

وفيه بعد من جهة المعنى ، والصناعة.

فصل

قوله : (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) قال الأصمّ : أرض قريبة من أرض أخرى واحدة طيبة ، وأخرى سبخة ، وأخرى رملة ، وأخرى حصباء وحصى ، وأخرى تكون حمراء ، وأخرى تكون سوداء.

وبالجملة : فاختلاف بقاع الأرض في الارتفاع ، والانخفاض ، والطبع ، والخاصية أمر معلوم.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٥١٣ والمحرر الوجيز ٣ / ٢٩٤ والبحر المحيط ٥ / ٣٥٧ والدر المصون ٤ / ٢٢٦.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٩٤ والبحر المحيط ٥ / ٣٥٧ والدر المصون ٤ / ٢٢٦.

(٣) ينظر : الحجة ٥ / ١٠ وإعراب القراءات السبع ١ / ٣٢٢ وحجة القراءات ٣٧٠ والإتحاف ٢ / ١٦٠ والمحرر الوجيز ٣ / ٢٩٤ والبحر المحيط ٥ / ٣٥٧ والدر المصون ٤ / ٢٢٦.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٩٤ وقرأ بها أيضا الحلبي عن عبد الوارث ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٥٧ والدر المصون ٤ / ٢٢٦.

(٥) في ب : الكلام.

(٦) في أ : للتفضيل.

٢٤٦

«وجنّات» بساتين : (مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ) تقدّم الكلام على الصنو ، والصنوان ، وهي النخلات يجمعهن أصل واحد ، «وغير صنوان» هي النّخلة المنفردة بأصلها.

قال المفسرون : الصنوان : المجتمع ، وغير الصنوان متفرق ، ولا فرق في الصنوان ، والقنوان بين التثنية والجمع إلّا في الإعراب ، وذلك أنّ النّون في التثنية مكسورة غير منونة وفي الجمع منونة.

(يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ) والماء : جسم رقيق مائع به حياة كلّ نام.

(وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) في الثّمر ، والطّعم ، جاء في الحديث : «ونفضّل بعضها على بعض في الأكل» قال : «الفارسي والدقل والحلو والحامض».

قال مجاهد : كمثل بني آدم صالحهم وخبيثهم وأبوهم واحد (١).

وحكى الواحديّ عن الزجاج : أنّ الأكل : الثّمر الذي يؤكل ، وحكى عن غيره أنّ الأكل: المهيّأ للأكل.

قال ابن الخطيب (٢) : «وهذا أولى ؛ لقوله تعالى في صفة الجنة : (أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها) [الرعد : ٣٥] : وهو عامّ في جميع المطعومات».

قال الحسن : هذا مثل ضربه لقلوب بني آدم ، كانت الأرض طينة واحدة في يد الرحمن ، فسطحها ؛ فصارت قطعا متجاورات ، فينزل عليها الماء من السّماء فتخرج هذه زهرتها ، وشجرتها ، ونباتها ، وثمرها ، وتخرج هذه سبخها وملحها وخبيثها ، وكلّ يسقى بماء واحد ، كذلك النّاس خلقوا من آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ فتنزل عليهم من السّماء تذكرة ، فترق قلوب قوم ، فتخشع ، وتقسو قلوب قوم فتلهو (٣).

قال الحسن : والله ما جالس القرآن أحد ، إلّا قام من عنده بزيادة ، أو نقصان ، قال الله تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) [الإسراء : ٨٢] (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي ذكر : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(٤).

فصل

قال ابن الخطيب (٥) : المقصود من هذه الآية : إقامة الدّلالة على أنه لا يجوز أن يكون حدوث الحوادث في هذا العالم لأجل الاتصالات الفلكية والحركات الكوكبية من وجهين :

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٧) وأخرجه الطبري (٧ / ٣٣٧).

(٢) ينظر : الفخر الرازي ١٩ / ٧ ـ ٨.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٣٣٦) وذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٧).

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٧) عن الحسن.

(٥) ينظر : الفخر الرازي ١٩ / ٦.

٢٤٧

الأول : أنه جعل الأرض قطعا مختلفة في الماهيّة والطبيعة ، وهي مع ذلك متجاورة ، فبعضها سبخة ، وبعضها طيّبة ، وبعضها صلبة وبعضها حجرية ، وبعضها رملية ، وتأثير الشمس ، وتأثير الكواكب في تلك القطع على السّويّة ؛ فدلّ ذلك على أن اختلافها في صفاتها بتقدير العليم القدير.

الثاني : أنّ القطعة الواحدة من الأرض تسقى بماء واحد ، ويكون تأثير الشمس فيها [متساويا](١) ، ثمّ إنّ تلك الثمار تجيء مختلفة في اللّون ، والطّعم ، والطّبيعة ، والخاصية ؛ حتى أنّك قد تأخذ عنقودا واحدا من العنب ، فتكون جميع حبّاته ناضجة حلوة إلّا حبة واحدة منه ، فإنها تبقى حامضة يابسة ، ونحن نعلم بالضرورة أن نسبة الطبائع والأفلاك إلى الكل على السوية ، بل نقول ههنا ما هو أعجب منه ، وهو أنّه يوجد في بعض أنواع الورد ما يكون أحد وجهيه في غاية الحمرة ، والوجه الثاني في غاية السّواد ، مع أنّ ذلك الورد يكون في غاية الرقة والنّعومة ، ويستحيل أن يقال : وصل تأثير الشمس إلى أحد طرفيه دون الثاني ، وهذا يدلّ دلالة [قطعية](٢) على أنّ الكل بتقدير الفاعل المختار لا بسبب الاتّصالات الفلكيّة ، وهذا هو المراد بقوله تعالى : (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) ، ولهذا قال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).

فصل

قال القرطبي (٣) : هذه الآية تدلّ على بطلان القول بالطبع ، إذ لو كان ذلك بالماء ، والتراب ، والفاعل له الطبيعة ؛ لما وقع الاختلاف.

وذهب الكفرة ـ لعنهم الله ـ إلى أنّ كلّ حادث يحدث من نفسه لا من صانع وادعوا ذلك في الثّمار الخارجة من الأشجار ، وأقرّوا بحدوثها ، وأنكروا الأعراض ، وقالت فرقة بحصول الثّمار لا من صانع ، وأثبتوا للأعراض فاعلا.

والدّليل على أنّ الحادث لا بد له من محدث : أنّه يحدث في وقت ، ويحدث ما هو من جنسه في وقت آخر ، فلو كان حدوثه في وقته لاختصاصه به ؛ لوجب أن يحدث في وقته كل ما هو من جنسه ، وإذا بطل اختصاصه بوقته صح أنّ اختصاصه لأجل مخصص خصصه به ، لو لا تخصيصه إيّاه لم يكن حدوثه في وقته أولى من حدوثه قبل ذلك أو بعده.

قوله تعالى : (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها

__________________

(١) في أ : متشابها.

(٢) في أ : قاطعة.

(٣) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ٩ / ١٨٥.

٢٤٨

خالِدُونَ (٥) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ)(٧)

قوله : (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) الآية لما ذكر الدّليل على معرفة المبدأ ذكر بعده ما يدلّ على المعاد.

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : «إن تعجب من تكذيبهم إيّاك بعد ما حكموا عليك بأنّك من الصّادقين ، فهذا عجب» (١).

وقيل : إن تعجب يا محمّد من عبادتهم ما لا يملك لهم ضرّا ، ولا نفعا بعد ما عرفوا الدلائل الدّالة على التوحيد ، فهذا عجب.

وقيل : تقدير الكلام : وإن تعجب يا محمد صلوات الله عليه فقد تعجبت في موضع العجب ، لأنهم لما اعترفوا بأنه ـ تعالى ـ مدبّر السموات ، والأرضين ، وخالق الخلق أجمعين ، وأنّه هو الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ، وأنّه الذي سخر الشّمس ، والقمر على وفق مصالح العباد ، وهو الذي أظهر في العالم أنواع العجائب ، والغرائب ، فمن كانت قدرته وافية بهذه الأشياء العظيمة ، كيف لا تكون وافية بإعادة الإنسان بعد موته ؛ لأنّ القادر على الأقوى يكون قادرا على الأضعف بطريق الأولى ، وهذا تقرير موضع التّعجّب.

قوله : (فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) يجوز فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه خبر مقدم ، و «قولهم» مبتدأ مؤخّر ، ولا بد من حذف [صفة](٢) لتتمّ الفائدة ، أي : فعجب أي عجب ، أو غريب ، ونحوه.

الثاني : أنه مبتدأ ، وسوّغ الابتداء ما ذكر من الوصف المقدر ، ولا يضر حينئذ كون خبره معرفه ، هذا كما أعرب سيبويه : كم مالك وخير من أقصد رجلا خير منه أبوه مبتدأين لمسوغ الابتداء بهما ، وخبرهما معرفة ، قاله أبو حيّان (٣).

وللنزاع فيه مجال ؛ على أنّ هناك علّة لا تتأتى هنا ، وهي : أنّ الذي حمل سيبويه (٤) على ذلك في المسألتين أن أكثر ما تقع موقع «كم» ، وخبر «ما» هو مبتدأ ؛ فلذلك حكم عليهما بحكم الغالب بخلاف ما نحن فيه.

الثالث : أنّ «عجب» مبتدأ بمعنى معجب ، و «قولهم» فاعل به ، قاله أبو البقاء (٥).

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٩ / ٨) عن ابن عباس.

(٢) في ب : الصفة.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٥٨.

(٤) ينظر : الكتاب ١ / ٢٢٩ ـ ٢٣٠.

(٥) ينظر : الإملاء ٢ / ٦١.

٢٤٩

ورد عليه أبو حيّان (١) : بأنهم نصّوا على أنّ «فعلا وفعلة وفعلا» ينوب عن «مفعول» في المعنى ، ولا يعمل عمله ، فلا تقول : مررت برجل [ذبح](٢) كبشه ولا غرف ماءه ولا قبض ماله ، وأيضا فإنّ الصفات لا تعمل إلّا إذا اعتمدت على أشياء مخصوصة وليس منها هنا شيء.

والعجب : تغير النّفس برؤية المستبعد في العادة.

وقال القرطبيّ (٣) : العجب تغير النفس بما يخفى أسبابه.

قوله تعالى : (أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) يجوز في هذه الجملة الاستفهامية وجهان :

أظهرهما : أنّها منصوبة المحل لحكايتها بالقول.

والثاني : أنّها ، وما في حيزها في محل رفع بدلا من : «قولهم» وبه بدأ الزمخشريّ وعلى هذا فقولهم بمعنى مقولهم ويكون بدل كلّ من كلّ ؛ لأنّ هذا هو نفس «قولهم» ، و «إذا» هنا ظرف محض ، وليس فيها معنى الشّرط ، والعامل فيها مقدر يفسره (لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) تقديره : أئذا كنّا ترابا نبعث ، أو نحشر ، ولا يعمل فيها : (خَلْقٍ جَدِيدٍ) ؛ لأن ما بعد «إذا» لا يعمل فيما قبلها ، ولا يعمل فيها «كنّا» لإضافتها إليها.

واختلف القراء في هذا الاستفهام المكرر اختلافا منتشرا ، وهو في أحد عشر موضعا في تسع سور من القرآن ولا بد من تعيينها ، [وبيان] مراتب القرّاء فيها ، فإن ضبطها عسر ليسهل ذلك بعون الله ـ تعالى ـ.

فأولها : ما في هذه السورة.

والثاني ، والثالث : الإسراء وهما : (أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) [الإسراء : ٤٩] موضعان.

الرابع في المؤمنون : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) [المؤمنون : ٨٢].

الخامس في النمل : (أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) [النمل : ٦٧].

السادس في العنكبوت : (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ) [العنكبوت : ٢٨ ، ٢٩].

السابع في «الم» السجدة : (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) [السجدة : ١٠].

الثامن ، والتاسع في الصافات موضعان [الصافات : ١٦].

العاشر : في الواقعة : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) [الواقعة : ٤٧].

الحادي عشر في النازعات : (أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) [النازعات : ١٠ ، ١١].

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٥٨.

(٢) في ب : باع.

(٣) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ٩ / ١٨٧.

٢٥٠

فهذه هي المواضع المختلف فيها ، وأمّا ضبط الخلاف فيها بالنّسبة إلى القراء ففيه طريقان :

أحدهما : بالنّسبة إلى ذكر القرّاء.

والثاني : بالنسبة إلى ذكر السّور.

فاعلم أنّ هذه المواضع تنقسم قسمين : قسم منها سبعة مواضع لها حكم واحد ، وقسم منها أربعة مواضع ، لكلّ منها حكم على حدته.

أمّا القسم الأوّل فمنه في هذه السورة ، والثاني ، والثالث في : «سبحان» والرابع : في «المؤمنون» ، والخامس : في «الم» السجدة ، والسادس ، والسابع : في الصافات وحكمها : أنّ نافعا ، والكسائي يستفهمان في الأول ، ويخبران في الثاني ، وأن ابن عامر يخبر في الأول ، ويستفهم في الثاني ، والباقين يستفهمون في الأول والثاني.

وأما القسم الثاني ، فأوله ما في سورة النمل ، وحكمه : أن نافعا يخبر في الأول ، ويستفهم في الثاني ، وأن ابن عامر والكسائي بعكسه ، وأن الباقين يستفهمون فيهما.

الثاني : ما في العنكبوت ، وحكمه : أن نافعا ، وابن كثير ، وابن عامر ، وحفصا يخبرون في الأول ، ويستفهمون في الثاني ، والباقون ، يستفهمون فيهما.

الثالث : ما في سورة الواقعة ، وحكمه : أن نافعا ، والكسائي يستفهمان في الأول ، ويخبران في الثاني ، والباقون يستفهمون فيهما.

الرابع : ما في سورة النازعات ، وحكمه : أن نافعا وابن عامر والكسائي يستفهمون في الأول ، ويخبرون في الثاني ، والباقين يستفهمون فيهما.

وأما الطريق الآخر بالنسبة إلى القراء (١) ؛ فإنهم فيها على أربع مراتب :

الأولى : أن نافعا قرأ بالاستفهام في الأول ، وبالخبر في الثاني ، إلا في النمل والعنكبوت فإنه عكس.

المرتبة الثانية : أنّ ابن كثير ، وحفصا قرآ بالاستفهام في الأول والثاني إلا الأول من العنكبوت فقرآه بالخبر.

المرتبة الثالثة : أنّ ابن عامر قرأ بالخبر في الأوّل ، والاستفهام في الثّاني إلا في النمل ، والواقعة ، والنازعات ، فقرأ في النمل ، والنازعات بالاستفهام في الأول ، وبالخبر في الثاني ، وفي الواقعة بالاستفهام فيهما.

المرتبة الرابعة : الباقون وهم : أبو عمرو ، وحمزة ، وأبو بكر ـ رضي الله عنهم

__________________

(١) ينظر : اختلاف السبعة في هذه القراءة في الحجة ٤ / ١٠ ، ١١ وإعراب القراءات السبع ١ / ٣٢٣ وحجة القراءات ٣٧٠ ، ٣٧١ والإتحاف ٢ / ١٦٠ ، ١٦١ والمحرر الوجيز ٣ / ٢٩٥ والدر المصون ٤ / ٢٢٨.

٢٥١

أجمعين ـ قرءوا بالاستفهام في الأول ، والثاني ، ولم يخالف أحد منهم أصله.

قال شهاب الدين (١) : «وإنما ذكرت هذين الطريقين لعسرهما ، وصعوبة استخراجهما من كتب القراءات.

فأمّا وجه قراءة من استفهم في الأوّل ، والثاني ؛ فقصد المبالغة في الإنكار ، فأتى به في الجملة الأولى ، وأعاده في الثانية تأكيدا له ، ووجه من أتى به مرة واحدة : حصول المقصود به ؛ لأنّ كل جملة مرتبطة بالأخرى ، فإذا أنكر في إحداهما حصل الإنكار في الأخرى ، وأمّا من خالف أصله في شيء من ذلك ، فلاتباع الأثر».

فصل

هذا الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعناه : أنّك تعجب من إنكارهم النّشأة الأخرى مع إقرارهم بابتداء الخلق ، فعجب أمرهم ، وكان المشركون ينكرون البعث مع إقرارهم بابتداء الخلق من الله ـ عزوجل ـ وقد تقرّر في القلوب أنّ الإعادة أهون من الابتداء ، فهذا موضع العجب.

ثم قال : (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) وهذا يدلّ على أنّ من أنكر البعث والقيامة فهو كافر ، وإنما لزم من إنكار البعث الكفر بالله تعالى ؛ لأنّ إنكار البعث لا يتمّ إلا بإنكار القدرة ، والعلم ، والصدق ، أما إنكار القدرة فكقوله : الله غير قادر على الإعادة ، وأما إنكار العلم فكقوله : الله غير عالم بالجزئيات ، فلا يمكنه تمييز المطيع عن العاصي ، وأمّا إنكار الصّدق فكقولهم : إنّه أخبر عنه ، ولكنه لا يفعل ؛ لأنّ الكذب جائز عليه ، وكل ذلك كفر بالله ـ تعالى ـ.

ثم قال : (وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) قال الأصمّ : المراد بالأغلال : كفرهم وذلهم ، وانقيادهم للأصنام ، ونظيره قوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً) [يس : ٨٠] ؛ وقال الشاعر : [البسيط]

٣١٦٥ ـ ...........

لهم عن الرّشد أغلال وأقياد (٢)

ويقال للرّجل : هذا غلّ في عنقك للعمل الرّديء ، معناه : أنّه [ملازم](٣) لك ، وأنت مجازى عليه بالعذاب.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٢٨.

(٢) عجز بيت وصدره : كيف الرشاد وقد خلفت في نفر. ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٥٩ والألوسي ١٣ / ١٠٥ والرازي ١٩ / ١٠ والكشاف ٢ / ٥١٣.

وروي صدره :

ضلوا وإن سبيل الغيّ مقصدهم

(٣) في أ : لازم.

٢٥٢

قال القاضي (١) : هذا ، وإن كان محتملا ؛ لكن حمل اللفظ على الحقيقة أولى.

قال ابن الخطيب (٢) : «أقول على نصرة الأصم ، بأن ظاهر الآية يقتضي حصول الأغلال في أعناقهم في الحال ، وذلك غير حاصل ، فإنهم يحملون هذا اللفظ على أنّه سيحصل هذا المعنى ، ونحن نحمله على أنه حاصل في الحال ، والمراد بالأغلال ما ذكره ، فكلّ واحد منا تارك للحقيقة من بعض الوجوه ، فلم كان قولكم أقوى؟».

وقيل : المعنى : أنّه ـ تعالى ـ يجعل الأغلال في أعناقهم يوم القيامة ، ويدلّ عليه قوله تعالى : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) [غافر : ٧١] إلى قوله : (ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) [غافر : ٧٢].

ثم قال : (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) والمراد منه التّهديد بالعذاب المخلد المؤبّد ، وذلك يدلّ على أنّ العذاب المؤبّد ليس إلا للكفّار ؛ لأن قولهم : (هُمْ فِيها خالِدُونَ) يدلّ على أنّهم هم الموصوفون بالخلود لا غيرهم فدل على أنّ أهل الكبائر لا يخلدون في النّار.

فإن قيل : العجب هو الذي لا يعرف بسبب ، وذلك في حق الله ـ تعالى ـ محال ، فكيف قال : «فعجب قولهم»؟.

فالجواب : المعنى : فعجب عنك.

فإن قيل : قرأ بعضهم : «بل عجبت» بإضافة العجب إلى نفسه.

فالجواب : أنّا قد بيّنا أنّ مثل هذه الألفاظ يجب تنزيهها عن مبادىء الأعراض ويجب حملها على نهايات الأعراض ونهاية التعجب أن الإنسان إذا تعجّب من الشيء أنكره ، فكان التعجب في حقّ الله ـ تعالى ـ محمولا على الإنكار.

قوله تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) واعلم أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يهددهم تارة بعذاب القيامة ، وتارة بعذاب الدنيا ، والقوم كلّما هددهم بعذاب القيامة ، أنكروا القيامة ، والبعث ، والنشر كما تقدّم في الآية الأولى ، وكلما هددهم بعذاب الدنيا استعجلوه ، وذلك أنّ مشركي مكّة كانوا يطلبون العقوبة بدلا من العافية استهزاء منهم يقولون : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال : ٣٢].

قوله «قبل الحسنة» فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعلق بالاستعجال ظرفا له.

والثاني : أنه متعلق بمحذوف على أنّه حال مقدرة من السيئة ، قاله أبو البقاء. قوله «وقد خلت» يجوز أن تكون حالا وهو الظاهر ، ويجوز أن تكون مستأنفة.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ١٩ / ٨.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ١٩ / ٨ ـ ٩.

٢٥٣

والعامة على فتح الميم ، وضم المثلثة الواحدة مثله ، ك «سمرة ، وسمرات» و «صدقة وصدقات» وهي العقوبة الفاضحة.

قال ابن عباس : «العقوبات المتأصلات كمثلات قطع الأذن ، والأنف ، ونحوهما».

سمّيت بذلك لما بين العقاب ، والمعاقب عليه من المماثلة ، كقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠] ، ولأخذها من المثال بمعنى القصاص.

يقال : أمثلت الرّجل من صاحبه ، وأقصصته بمعنى واحد ، أو لأخذها من ضرب المثل لعظم شأنها.

وقرأ (١) ابن مصرف «المثلات» بفتح الميم ، وسكون الثاء ، وقيل : وهي لغة الحجاز في مثلة.

وقرأ ابن وثاب (٢) : بضم الميم ، وسكون الثاء ، وهي لغة تميم.

وقرأ الأعمش ، ومجاهد (٣) بفتحهما ، وعيسى بن عمرو ، وأبو بكر في رواية (٤) بضمهما.

فأما الضم ، والإسكان : فيجوز أن يكون أصلا بنفسه لغة ، وأن يكون مخففا في قراءة من ضمهما ، وأما ضمهما فيحتمل أيضا أن يكون أصلا بنفسه لغة ، وأن يكون اتباعا من قراءة الضم ، والإسكان نحو «العشر في العشر» وقد عرف ما فيه.

قال ابن الأنباري : «المثلة : العقوبة المبينة في المعاقب شيئا ، وهو تغيير تبقى الصورة معه قبيحة ، وهو من قولهم : مثل فلان بفلان : إذا قبح صورته إمّا بقطع أنفه ، أو أذنه ، أو سمل عينيه ، أو بقر بطنه ؛ فهذا هو الأصل ، ثم يقال للعار الباقي والخزي الدائم اللازم مثلة».

وقال الواحدي (٥) : «وأصل هذا الحرف من المثل الذي هو الشبه ، ولما كان الأصل أن يكون العقاب مشابها للمعاقب عليه ، ومماثلا له سمي بهذا الاسم».

والمعنى : يستعجلونك بالعذاب الذي لم نعاجلهم به ، وقد علموا ما نزل من عقوباتنا بالأمم الخالية ، أفلا يعتبرون بها.

ثم قال (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) وهذا يدلّ على أنه ـ سبحانه وتعالى ـ قد يعفو عن صاحب الكبيرة قبل التوبة ، لأن قوله : (لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) ، أي :

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٩٦ والبحر المحيط ٥ / ٣٥٩ والدر المصون ٤ / ٢٢٨.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٩١ والبحر المحيط ٥ / ٣٥٩ والدر المصون ٤ / ٢٢٨.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٩٦ والبحر المحيط ٥ / ٣٥٩ والدر المصون ٤ / ٢٢٨.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٩٦ والبحر المحيط ٥ / ٣٥٩ والدر المصون ٤ / ٢٢٩.

(٥) ينظر : الفخر الرازي ١٩ / ١٠.

٢٥٤

حال اشتغالهم بالظلم كما يقال : رأيت الأمير على أكله ، أي حال اشتغاله بالأكل ، وهذا يقتضي كونه تعالى غافرا للناس حال اشتغالهم بالظلم ، ومعلوم أنّ حال اشتغال الإنسان بالظلم لا يكون تائبا ؛ فدلّ هذا على أنه ـ تعالى ـ قد يغفر الذّنوب قبل الاشتغال بالتوبة ، وترك العمل بهذا الدليل في حق الكفر ؛ فوجب أن يبقى معمولا به في حق غير الكفرة ، وهو المطلوب.

ويقال : إنّه ـ تعالى ـ لم يقتصر على قوله : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) بل عطف عليه قوله : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) ؛ فوجب أن يحمل الأول على أصحاب الكبائر ، ويحمل الثاني على الكفّار.

قال المفسرون : «لذو مغفرة» لذو تجاوز عن المشركين إذا آمنوا وعن المذنبين إذا تابوا.

وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما : أرجى آية في القرآن هذه الآية : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) إذا أصرّوا على الكفر (١).

وروى حمّاد بن سلمة عن عليّ بن زيد عن سعيد بن المسيب رحمه‌الله تعالى قال : لما نزلت : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو لا عفو الله ورحمته وتجاوزه لما هنأ أحدا عيش ولو لا عقابه ووعيده وعذابه لاتّكل كلّ أحد»(٢).

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد : لذو مغفرة لأهل الصّغائر لأجل أنّ عقوبتهم مكفرة ، ثم نقول : لم لا يجوز أن يكون المراد إنّ ربك لذو مغفرة إذا تابوا ، وأنه ـ تعالى ـ إنّما لا يعجل العقاب إمهالا لهم في الإتيان بالتّوبة ، فإن تابوا فهو ذو مغفرة لهم ، ويكون المراد من هذه المغفرة [تأخير العقاب] إلى الآخرة ، بل نقول : يجب حمل اللفظ عليه ؛ لأنّ القوم طلبوا تعجيل العذاب ، فيجب أن تحمل المغفرة على تأخير العذاب حتى ينطبق الجواب على السّؤال.

ثم يقال : لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله : (لَذُو مَغْفِرَةٍ) إمهالهم بالتّوبة ، ولا يعجل بالعقوبة ، فإن تابوا ، فهو ذو مغفرة ، وإن لم يتوبوا ؛ فهو شديد العقاب؟.

فالجواب عن الأوّل : أن تأخير العذاب (٣) لا يسمى مغفرة ، وإلّا لوجب أن يقال :

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٩ / ١٨٧).

(٢) ذكره الحافظ العراقي في «تخريج الإحياء» (٤ / ١٤٧) وعزاه إلى ابن أبي حاتم والثعلبي من طريق علي بن زيد عن سعيد بن المسيب.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٨٦) عن ابن عباس وعزاه إلى الطبري.

(٣) في أ : العقاب.

٢٥٥

إنّ الكفار كلهم مغفور لهم ؛ لأنّ الله ـ تعالى ـ أخّر عقابهم إلى الآخرة.

وعن الثاني : أنّ الله تمدّح بهذا ، والتّمدّح إنما يحصل بالتفضيل ، أما أداء الواجب ، فلا تمدح فيه ، وعندكم يجب غفران الصغائر.

وعن الثالث : أن ظاهر الآية يقتضي حصول المغفرة ؛ فسقطت الأسئلة.

قوله : (عَلى ظُلْمِهِمْ) حال من «النّاس» والعامل فيها ، قال أبو البقاء «مغفرة» يعني : أنه هو العامل في صاحبها.

قوله تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) الآية لما بين ـ تعالى ـ أنّهم طعنوا في النبوة بسبب طعنهم في الحشر والنشر ثم طعنوا في النبوّة أيضا بسبب طعنهم في صحّة ما ينذرهم به من نزول العذاب ، بين أيضا أنهم طعنوا في نبوّته ، وطلبوا منه المعجزة.

والسّبب في كونهم أنكروا كون القرآن معجزة : أنهم قالوا هذا كتاب مثل سائر الكتب ، وإتيان الإنسان بتصنيف معين لا يكون معجزا ، وإنّما يكون المعجز مثل معجزات موسى.

واعلم أنّ من الناس من زعم أنّه لم يظهر معجزة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم سوى القرآن ، قالوا : لأن هذا الكلام إنّما يصحّ إذا طعنوا في كون القرآن معجزا ولم يظهر معجزا غيره ؛ لأنه لو ظهر معجز غيره لم يحسن أن يقال : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) وهذا يدلّ على أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ما كان له معجزة سوى القرآن.

والجواب عنه من وجهين :

الأول : لعلّ المراد منه طلب معجزات سوى المعجزات التي شاهدوها من حنين الجزع ، ونبع الماء من بين أصابعه ، وإشباع الخلق الكثير الطعام القليل ؛ فطلبوا منه معجزات قاهرة غير هذه ، مثل : فلق البحر لموسى ، وقلب العصا ثعبانا.

فإن قيل : فما السبب في أنّ الله منعهم ، وما أعطاهم؟.

فالجواب : أن الله ـ تعالى ـ لما أظهر المعجزة الواحدة ، فقد تمّ الغرض ، فيكون طلب الثاني تحكما ، وظهور القرآن معجزة ، فما كان مع ذلك حاجة إلى معجزات أخر.

وأيضا : فلعلّه ـ تعالى ـ علم أنّهم يصرّون على العناد بعد ظهور المعجزة الملتمسة وكونهم يصيرون حينئذ يستوجبون عذاب الاستئصال ، فلهذا السبب ما أعطاهم مطلوبهم ، وقد بين الله ـ تعالى ـ ذلك بقوله : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) [الأنفال : ٢٣] فبيّن أنّه لم يعطهم مطلوبهم ، لعلمه أنّهم لا ينتفعون به.

وأيضا : ففتح هذا الباب يفضي إلى ما لا نهاية له ، وهو أنّه كلّما أتى بمعجزة جاء آخر ، وطلب معجزة أخرى ، وذلك يوجب سقوط دعوة الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وهو باطل.

٢٥٦

والوجه الثاني : لعلّ الكفار قالوا ذلك قبل مشاهدة سائر المعجزات.

ثم قال : «إنّما أنت منذر» مخوف.

قوله : (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنّ هذا الكلام مستأنف مستقل من مبتدأ ، وخبر.

والثاني : أنّ «لكلّ قوم» متعلق ب «هاد» ، و «هاد» نسق على «منذر» ، أي : إنّما أنت منذر وهاد لكل قوم ، وفي هذا الوجه الفصل بين حرف العطف ، والمعطوف بالجار وفيه خلاف تقدم.

ولما ذكر أبو حيان (١) هذا الوجه ، لم يذكر هذا الإشكال ، ومن عادته ذكره ردّا به على الزمخشري.

الثالث : أنّ «هاد» خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : إنّما أنت منذر ، وهو لكلّ قوم هاد ، ف «لكلّ» متعلق به أيضا.

ووقف ابن كثير (٢) على «هاد» [الرعد : ٣٣] [الزمر : ٢٣ ، ٣٦] و «واق» حيث وقعا ، وعلى «وال» هنا و «باق» [النحل : ٩٦] [الرعد : ٣٤ ـ ٣٧] في النحل بإثبات الياء ، وحذفها الباقون.

ونقل ابن مجاهد عنه : أنه يقف بالياء في جميع الياءات. ونقل عن ورش : أنّه خير في الوقف بين الياء ، وحذفها.

والباب : هو كل منقوص منون غير منصرف ، واتفق القراء على التوحيد في «هاد».

فصل

إذا جعلنا (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) كلاما مستأنفا ، فالمعنى : أنّ الله ـ تعالى ـ خصّ كلّ قوم بنبيّ ، ومعجزة تلائمهم ، فلمّا كان الغالب في زمن موسى ـ عليه‌السلام ـ السحر ؛ جعل معجزته ما هو أقرب إلى طريقهم ، ولما كان الغالب في زمن عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ الطب ، جعل معجزته ما كان من تلك الطريقة ، وهي إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه ، والأبرص ، ولما كان الغالب في زمان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الفصاحة ، والبلاغة جعل معجزته ما كان لائقا بذلك الزمان ، وهو فصاحة القرآن ، فلمّا لم يؤمنوا بهذه المعجزة مع أنّها أليق بطبائعهم ، فبأن لا يؤمنون بباقي المعجزات أولى ، هذا تقرير القاضي ، وبه ينتظم الكلام.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٦٠.

(٢) ينظر : السبعة ٣٦٠ والحجة ٥ / ٢٣ وإعراب القراءات السبع ١ / ٣٣٢ ، ٣٣٣ وحجة القراءات ٣٧٥ والإتحاف ٢ / ١٦١ والبحر المحيط ٥ / ٣٦٠ والدر المصون ٤ / ٢٢٩.

٢٥٧

وقيل : المعنى أنهم إذا جحدوا كون القرآن معجزة لا تضيق قلبك بسببه ، و (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ) ، أي ما عليك إلا الإنذار ، وأما الهدآية فليست إليك ، فإن : (لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) قادر على هدايتهم.

والمعنى : أنّ الهداية من الله.

فصل

قيل : المنذر ، والهادي شيء واحد ، والتقدير : إنّما أنت منذر (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) منذر على حدة ، ومعجزة كل واحد غير معجزة الآخر.

وقيل : المنذر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والهادي : هو الله ـ تعالى ـ قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، والضحاك (١).

وقال عكرمة : الهادي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : أنت منذر ، وأنت هاد لكل قوم ، أي : داع(٢). قوله تعالى : (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ)(١١)

قوله تعالى : (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) الآية في النّظم وجوه :

أحدها : أنّ الكفار لما طلبوا آيات أخر غير ما أتى به الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ بين أنّه ـ تعالى ـ عالم بجميع المعلومات ، فلو علم من حالهم أنهم إنما طلبوا الآية الأخرى للاسترشاد ، وطلب البيان أظهرها ، وما منعهم ، لكنه ـ تعالى ـ عالم أنهم لم يقولوا ذلك إلا لمحض العناد ؛ فلذلك منعهم ، ونظيره قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) [يونس : ٢٠] ، وقوله : (إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) [العنكبوت : ٥٠].

وثانيها : أنه ـ تعالى ـ لما قال : (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) في إنكار البعث بسبب أنّ أجزاء أبدان الحيوانات تتفرّق ، وتختلط بعضها ببعض ، ولا يتميّز ، فبين الله ـ تعالى ـ أنه

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٣٤٢) عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والضحاك.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٨٦) عن ابن عباس وسعيد بن جبير وزاد نسبته إلى ابن مردويه عن ابن عباس وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير.

وذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٨) عن سعيد بن جبير.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٣٤٢) وذكره البغوي في «تفسيره» (٣ / ٨).

٢٥٨

إنما لم يتميز في حق من لا يكون عالما بجميع المعلومات فأمّا من : «يعلم ما تحمل كلّ أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكلّ شيء عنده بمقدار» كيف لا يميزها؟.

وثالثها : أنّه متصل بقوله : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ).

والمعنى : أنه ـ تعالى ـ عالم بجميع المعلومات ، فهو إنّما ينزل العذاب بحسب ما يعلم كونه مصلحة فيه.

قوله (اللهُ يَعْلَمُ) يجوز في الجلالة وجهان :

أحدهما : أنّها خبر مبتدأ مضمر ، أي : هو الله ، وهذا على قول من فسّر «هاد» بأنه هو الله [تعالى ، فكان هذه الجملة تفسير له ، وهذا [ما] عنى الزمخشري بقوله : وأن يكون المعنى : هو الله](١) تفسيرا ل «هاد» على الوجه الأخير ، ثم ابتدأ فقال : «يعلم».

والثاني : أنّ الجلالة مبتدأ «ويعلم» خبرها ، وهو كلام مستأنف مستقلّ.

قال أبو حيّان (٢) ، «و «يعلم» هاهنا متعدية إلى واحد ؛ لأنّه لا يراد هنا النسبة إنّما المراد تعلق العلم بالمفردات».

قال شهاب الدين (٣) ـ رحمه‌الله ـ : «وإذا كانت كذلك ، كانت غير فائتة» وقد تقدّم أنه لا ينبغي أنه يجوز نسبة هذا إلى الله ـ عزوجل ـ وتقدم تحقيقه في الأنفال فالتفت إليه.

قوله : «ما تحمل» «ما» تحتمل ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون موصولة اسمية ، والعائد محذوف ، أي : ما تحمله.

والثاني : أن تكون مصدرية ، فلا عائد.

والثالث : أن تكون استفهامية ، وفي محلها وجهان :

أحدهما : أنها في محلّ رفع بالابتداء ، و «تحمل» خبره ، والجملة معلقة للعلم.

والثاني : أنها في محلّ نصب ب «تحمل» قاله أبو البقاء (٤).

وهو أولى ؛ لأنّه لا يحتاج إلى حذف عائد لا سيّما عند البصريين ؛ فإنهم لا يجيزون زيدا ضربت.

ولم يذكر أبو حيان غير هذا ، ولم يتعرض لهذا الاعتراض.

و «ما» في قوله : (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ) محتملة للأوجه المتقدّمة و «غاض ، وزاد» سمع تعدّيهما ، ولزومهما ، ولك أن تدّعي حذف العائد على القول بتعديهما ، وأن تجعلها مصدريّة على القول بمصدريتهما.

فصل

إذا كانت «ما» موصولة فالمعنى : أنه تعالى ـ يعلم ما تحمل كل أنثى من الولد أهو

__________________

(١) سقط من : ب.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٦١.

(٣) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٢٩.

(٤) ينظر : الإملاء ٢ / ٦٢.

٢٥٩

ذكر ، أم أنثى ، وتامّ ، أم ناقص ، وحسن ، أم قبيح ، وطويل ، أم قصير أو غير ذلك من الأحوال.

وقوله سبحانه : (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ) الغيض : النقصان سواء كان لازما ، أو متعديا فيقال : غاض الماء وغضته أنا ، ومنه قوله تعالى : (وَغِيضَ الْماءُ) [هود : ٤٤] والمعنى : ما تغيضه الأرحام إلّا أنه حذف الرّافع.

و «ما تزداد» ، أي تأخذه زيادة ، تقول : أخذت منه حقي ، وازددت منه كذا ، ومنه قوله تعالى : (وَازْدَادُوا تِسْعاً) [الكهف : ٢٥].

ثم اختلفوا فيما تفيضه الرحم ، وما تزداده على وجوه :

الأول : عدد الولد فإنّ الرّحم قد يشتمل على واحد ، وعلى اثنين ، وثلاثة ، وأربعة.

يروى أن شريكا كان رابع أربعة في بطن أمه.

الثاني : عند الولادة قد تكون زائدة ، وقد تكون ناقصة.

الثالث : [مدة ولادته](١) قد يكون تسعة أشهر [فأزيد](٢) إلى سنتين عند أبي حنيفة ـ رحمه‌الله ـ وإلى أربع عند الشافعي ـ رضي الله عنه ـ ، وإلى خمس عند مالك ـ رضي الله عنه ـ.

قيل : إنّ الضحاك ولد لسنتين ، وهرم بن حيان بقي في بطن أمّه أربع سنين ، ولذلك سمي هرما.

الرابع : الدم ؛ فإنه تارة يقلّ ، وتارة يكثر.

الخامس : ما ينقص بالسّقط من غير أن يتم ، وما يزداد بالتّمام.

السادس : ما ينقص بظهور دم الحيض ؛ لأنّه إذا سال الدّم في وقت الحمل ضعف الولد ، ونقص بمقدار ذلك النقصان ، وتزداد أيام الحمل ، لتصير هذه الزيادة جابرة لذلك النّقصان.

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ : «كلّما سال الحيض في وقت الحمل يوما ، زاد في مدّة الحمل يوما ، ليحصل الجبر ، ويعتدل الأمر» (٣).

وهذا يدلّ على أنّ الحامل تحيض ، وهو مذهب مالك ، وأحد قولي الشّافعي لقول ابن عباس في تأويل هذه الآية : إنّه حيض الحبالى ، وهو قول عائشة ـ رضي الله عنها ـ وأنها كانت تفتي النّساء الحوامل إذا حضن أن يتركن الصّلاة.

__________________

(١) في ب : بعد الولادة.

(٢) في ب : فأكثر.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٣٤٤ ـ ٣٤٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٨٨) عن عكرمة وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

٢٦٠