اللّباب في علوم الكتاب - ج ١١

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١١

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥١٠

والتاء أن تسكن عينها ، نحو : قيمة وقيمات ، وديمة وديمات ، وكذلك «فعل» دون ياء إذا جمع حقه أن تسكن عينه ؛ قال امرؤ القيس : [الطويل]

٣١٢٢ ـ غشيت ديار الحيّ بالبكرات

فعارمة فبرقة العيرات (١)

قال الأعلم الشّنتمريّ : العيرات هنا موضع الأعيار ، وهي الحمر.

قال شهاب الدّين (٢) : «وفي عيرات» شذوذ آخر ، وهو جمعها بالألف ، والتّاء مع جمعها على أعيار أيضا جمع تكسير ، وقد نصّوا على ذلك ، قيل : ولذلك لحن المتنبي في قوله : [الطويل]

٣١٢٣ ـ إذا كان بعض النّاس سيفا لدولة

ففي النّاس بوقات لها وطبول (٣)

قالوا : فجمع : «بوقا» على : «بوقات» مع تكسيرهم له على : «أبواق».

وقال أبو الهيثم : «كلّ ما يسير عليه من الإبل ، والحمير ، والبغال فهو عير خلافا لقول من قال : العير : الإبل خاصّة».

فإن قيل : هل كان ذلك النداء بأمر يوسف عليه‌السلام ، أو ما كان بأمره؟ فإن كان بأمره فكيف يليق بالرّسول الحق من عند الله أن يتهمهم وينسبهم إلى السرقة كذبا وبهتانا؟ وإن لم يكن بأمره ، فهلا أظهر براءتهم عن تلك التّهمة؟.

فالجواب من وجوه :

الأول : ما تقدّم من أنّه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ أظهر لأخيه أنّه يوسف وقال : لا سبيل إلى حبسك هنا إلّا بهذه الحيلة ، فرضي أخوه بها ، ولم يتألم قلبه.

والثاني : أراد إنكم لسارقون يوسف من أبيه ، والمعاريض لا تكون إلا كذلك.

والثالث : أن [المؤذن](٤) إنما نادى مستفهما.

والرابع : ـ وهو الظاهر ـ أنّهم نادوا من عند أنفسهم ؛ لأنهم طلبوا السّقاية فلم يجدوها ، وما كان هناك غيرهم ، فغلب على ظنهم أنّهم هم الّذين أخذوها ، وليس في القرآن أنّهم نادوا عن أمر يوسف ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ.

وقيل : إنّهم لما كانوا باعوا يوسف استجاز أن يقال لهم هذا ، وأنّه عوقب على ذلك بأن قالوا : (فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ).

__________________

(١) ينظر البيت في ديوانه ٨١ والبحر ٥ / ٣٢٤ والهمع ١ / ١٤٥ والدرر ١ / ١٢٥ والدر المصون ٤ / ١٩٨.

(٢) ينظر : الدر المصون ٤ / ١٩٩.

(٣) ينظر البيت في ديوانه ٣ / ٢٢٩ والهمع ١ / ٢٣ والدرر ١ / ٨٥ والمحتسب ١ / ٢٩٥ والمقرب ١ / ٨١ والدر المصون ٤ / ١٩٩.

(٤) في ب : المنادي.

١٦١

وقيل : أراد أيتها العير حالكم حال السارق ، والمعنى : إن شيئا لغيركم صار عندكم ، من غير رضى الملك ، ولا علم له.

وقيل : إنّ ذلك كان حيلة لاجتماع شمله بأخيه ، وفصله عنهم إليه ، وهذا بناء على أنّ بنيامين لم يعلم بدسّ الصّاع في رحله ، ولا أخبره بنفسه.

وقيل : معنى الكلام : الاستفهام ، أي : أو إنكم لسارقون ، كقوله : (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَ) [الشعراء : ٢٢] والغرض ألا يعزى الكذب إلى يوسف.

فإن قيل : كيف رضي بنيامين بالقعود طوعا ، وفيه عقوق الأب بزيادة الحزن ، ووافقه على ذلك يوسف؟.

فالجواب : أنّ الحزن كان قد غلب على يعقوب بحيث لا يؤثّر فيه فقد بنيامين كل التأثير ، ألا تراه لما فقده قال : (يا أسفا على يوسف) ، ولم يعرج على بنيامين ولعلّ يوسف إنّما وافقه على القعود بوحي ، فلا اعتراض.

قوله : (وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ) هذه الجملة حالية من فاعل قالوا أي : قالوا ، وقد أقبلوا ، أي: في حال إقبالهم عليهم.

(ما ذا تَفْقِدُونَ) تقدم الكلام على هذه المسألة أوّل الكتاب.

وقرأ العامة : «تفقدون» بفتح حرف المضارعة ؛ لأن المستعمل منه «فقد» ثلاثيا وقرأ السلميّ (١) بضمة من أفقدتّه إذا وجدته مفقودا كأحمدته وأبخلته ، [إذا] وجدته محمودا وبخيلا.

وضعّف أبو حاتم هذه القراءة ، ووجهها ما تقدّم.

قوله : (نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ) «الصّواع : هو المكيال ، وهو السّقاية المتقدّمة سمّاه تارة كذا ، وتارة كذا».

وقال بعضهم : الصّواع اسم ، والسّقاية وصف ، كقولهم : كوز وسقاء ، فالكوز اسم والسّقاية : وصف.

وقيل : ذكّر ؛ لأنّه صاع ، وأنّث لأنّه سقاية (٢).

والصّواع والسّقاية : إناء له رأسان في وسطه مقبض ، كان الملك يشرب منه من الرّأس الواحدة ويكال الطّعام بالرّأس الآخر.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٩٠ والمحرر الوجيز ٣ / ٢٦٤ والبحر المحيط ٥ / ٣٢٦ والدر المصون ٤ / ١٩٩.

(٢) قال الفراء في المذكر والمؤنث في : الصاع : يؤنثه أهل الحجاز وأهل نجد يذكرونه ، وربّما أنثه بعض بني أسد ٩٦ ، وقال ابن جني في المذكر والمؤنث : الصاع : يذكر ويؤنث ٧٥ ، وينظر : المذكر والمؤنث لابن الأنباري ٣٥٦.

١٦٢

وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : كلّ شيء يشرب به فهو صواع (١) ؛ وأنشد : [الخفيف]

٣١٢٤ ـ نشرب الخمر بالصّواع جهارا

 ........... (٢)

قيل : إنما كان الطّعام بالصّواع مبالغة في إكرامهم.

وقال مجاهد ، وأبو صالح : الصّواع الطرجهالة بلغة حمير. وإنّما اتخذ هذا الإناء مكيلا لعزة ما يكال به في ذلك الوقت (٣). وفيه قراءات كلّها لغات في ذلك الحرف ، ويذكّر ، ويؤنّث فالعامة : «صواع» بزنة : «غراب» ، والعين مهملة ، وقرأ ابن (٤) جبير ، والحسن كذلك إلّا أنه بالغين المعجمة وقرأ يحيى بن يعمر كذلك ؛ إلا أنه حذف الألف ، وسكن الواو ، وقرأ زيد (٥) بن عليّ «صوغ» كذلك إلا أنه فتح الصّاد ، وجعله مصدرا ل : «صاغ» يصوغ. والقراءتان [قبله] مشتقان منه وهو واقع موقع مفعول. أي : مصوغ الملك.

وقرأ أبو حيوة وابن جبير (٦) والحسن ـ رضي الله عنهم ـ في رواية عنهما ـ «صواع» كالعامة إلا أنهم كسروا الفاء. وقرأ أبو هريرة (٧) ومجاهد ـ رضي الله عنهما ـ : «صاع» بزنة باب وألفه كألفه في كونها منقلبة عن واو مفتوحة وقرأ أبو رجاء (٨) : «صوع» بزنة «قوس».

وقرأ عبد الله (٩) بن عون كذلك إلا أنه ضم الفاء فهذه ثمان قراءات متواترة وواحدة في الشاذ.

قوله (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) أي من الطعام ، (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ).

قال مجاهد : الزعيم هو المؤذن الذي أذن ، والزعيم : الكفيل (١٠).

قال الكلبيّ : الزّعيم : هو الكفيل بلسان أهل اليمن.

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٥٠) وعزاه إلى ابن أبي حاتم وابن الأنباري في «المصاحف».

(٢) تقدم.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٩ / ١٥٠).

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٦٤ والبحر المحيط ٥ / ٣٢٦ والدر المصون ٤ / ١٩٩.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٢٦ والدر المصون ٤ / ١٩٩.

(٦) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٦٤ والبحر المحيط ٥ / ٣٢٦ والدر المصون ٤ / ١٩٩.

(٧) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٦٤ والبحر المحيط ٥ / ٣٢٦ والدر المصون ٤ / ١٩٩.

(٨) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٦٤ والبحر المحيط ٥ / ٣٢٦ والدر المصون ٤ / ١٩٩.

(٩) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٦٤ ، والبحر المحيط ٥ / ٣٢٦ والدر المصون ٤ / ١٩٩.

(١٠) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٥٦) عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة.

وذكره الرازي في «تفسيره» (١٨ / ١٤٣).

١٦٣

روى أبو عبيدة عن الكسائيّ : زعمت به أزعم زعما وزعامة ، أي : تكفلت به.

وهذه الآية تدلّ على أنّ الكفالة كانت صحيحة في شرعهم ، وقد حكم بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : «الزّعيم غارم».

فإن قيل : هذه الكفالة شيء مجهول؟.

فالجواب : حمل البعير من الطّعام كان معلوما عندهم ، فصحت الكفالة به إلّا أن هذه الكفالة مال لرد السّرقة ، وهي كفالة بما لم يجب ؛ لأنّه لا يحلّ للسّارق أن يأخذ شيئا على ردّ السّرقة ، ولعلّ مثل هذه الكفالة كانت تصحّ عندهم.

فصل

قال القرطبيّ (١) : «تجوز الكفالة عن الرّجل ؛ لأنّ المؤذن هو الضّامن وهو غير يوسف ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ.

قال علماؤنا : إذا قال الرجل : تحمّلت ، أو [تكفلت](٢) أو ضمنت ، أو أنا حميل لك أو زعيم ، أو كفيل ، أو ضامن ، أو قبيل ، أو لك عندي ، أو علي ، أو إليّ ، أو قبلي ، فذلك كلّه [حمالة](٣) لازمة.

واختلفوا فيمن تكفل بالنفس ، أو بالوجه هل يلزمه ضمان المال؟.

فقال الشافعيّ ـ رضي الله عنه ـ في المشهور عنه ، وأحمد : من تكفّل بالنّفس لم يلزمه

الحقّ الذي على المطلوب إن مات.

وقال مالك ، والليث ، والأوزاعيّ : إذا تكفل بنفسه ، وعليه مال ، فإن لم يأت به غرم المال ، ويرجع به على المطلوب ، فإن اشترط ضمان نفسه ، أو وجهه ، وقال : لا أضمن المال ، فلا شيء عليه من المال».

فصل

واختلفوا فيما إذا تكفّل رجل عن رجل بمال ، هل للطالب أن يأخذ من شاء منهما؟.

فقال الأوزاعيّ ، والشافعيّ ، وأحمد ، وإسحاق : يأخذ من شاء منهما ، وهذا كان قول مالك ، ثمّ رجع عنه فقال : لا يأخذ من الكفيل إلّا أن يفلس الغريم ، أو يغيب ؛ لأنّ البداءة بالذي عليه الحق أولى إلّا أن يكون معدما ، فإنّه يأخذ من الحميل ؛ لأنه معذور في أخذه في هذه الحالة ، وهذا قول حسن ، والقياس : أنّ للرّجل مطالبة من شاء منهما.

__________________

(١) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ٩ / ١٥٢.

(٢) في ب : تكلفت.

(٣) في ب : كفالة.

١٦٤

وقال ابن أبي ليلى : إذا ضمن الرّجل عن صاحبه مالا ؛ تحوّل على الكفيل ، وبرىء الأصيل ، إلّا أن يشترط المكفول له عليهما أن يأخذ من أيهما شاء.

قوله «تالله» التاء حرف قسم ، وهي عند الجمهور بدل من واو القسم ولذلك لا تدخل إلّا على الجلالة المعظمة ، أو الرب مضافا للكعبة ، أو الرحمن في قول ضعيف ، ولو قلت : «تالرحمن» لم يجز ، وهي فرع الفرع. وهذا مذهب الجمهور.

وزعم السهيليّ : أنّها أصل بنفسها ، ويلازمها التّعجب غالبا كقوله : (تالله تفتأ تذكر يوسف).

وقال ابن عطيّة (١) : «والتّاء في «تالله» بدل من واو ، كما أبدلت في تراث ، وفي التّوراة ، وفي التخمة ، ولا تدخل التّاء في القسم ، إلّا في المكتوبة ، من بين أسماء الله ـ تعالى ـ وغير ذلك لا تقول تالرحمن ، وتا الرّحيم» انتهى وقد تقدّم أنّ السّهيليّ خالف في كونها بدلا من واو.

وأمّا قوله : «في التّوراة» يريد عند البصريين ، وزعم بعضهم أنّ التّاء فيها زائدة ، وأمّا قوله «إلا في المكتوبة» هذا هو المشهور ، وقد تقدّم دخولها على غير ذلك.

قوله : «ما جئنا» يجوز أن يكون معلقا للعلم ، ويجوز أن يضمن العلم نفسه معنى القسم فيجاب بما يجاب به القسم ، وقيل هذان القولان في قول الشاعر : [الكامل]

٣١٢٥ ـ ولقد علمت لتأتينّ منيّتي

إنّ المنايا لا تطيش سهامها (٢)

قوله (وَما كُنَّا سارِقِينَ) يحتمل أن يكون جوابا للقسم ، فيكونون قد أقسموا على شيئين: نفي الفساد ، ونفي السّرقة.

فصل

قال المفسرون : حلفوا على أمرين :

أحدهما : على أنهم ما جاءوا لأجل الفساد في الأرض ؛ لأنّه ظهر من أحوالهم وامتناعهم من التصرف في أموال النّاس بالكليّة لا بأكل ، ولا بإرسال في مزارع النّاس حتّى روي أنهم كانوا يسدون أفواه دوابهم لئلا يفسد زرع النّاس ، وكانوا مواظبين (٣) على أنواع الطّاعات.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٦٥.

(٢) البيت للبيد بن ربيعة ينظر : ديوانه ص ٣٠٨ وتخليص الشواهد ص ٤٥٣ وخزانة الأدب ٩ / ١٥٩ ـ ١٦١ والدرر ، ٢ / ٦٣ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٢٨ والكتاب ٣ / ١١٠ والمقاصد النحوية ٢ / ٤٠٥ وأوضح المسالك ٢ / ٦١ وشرح الأشموني ١ / ١٦١ وشرح شذور الذهب ص ٤٧١ وشرح قطر الندى ص ١٧٦ ومغني اللبيب ٢ / ٤٠١ والهمع ١ / ١٥٤ والدر المصون ٤ / ٢٠٠. وروي صدر البيت بلفظ صادفن منها غرة فأهبنها .....

(٣) في ب : ملازمين.

١٦٥

والثاني : أنهم ما كانوا سارقين ، وقد حصل لهم فيه شاهد قاطع ، وهو أنهم لما وجدوا بضاعتهم في رحالهم حملوها من بلادهم إلى مصر ، ولم يستحلّوا أخذها والسارق لا يفعل ذلك ألبتّة ، فلمّا بينوا براءتهم من تلك التهمة قال أصحاب يوسف صلوات الله عليه : (فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ) فأجابوه ، (قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ) قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : كانوا يستعبدون في ذلك الزمان كلّ سارق بسرقته ، فلذلك قالوا : (جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ) أي : فالسّارق جزاؤه ، أي : فيسلم السّارق إلى المسروق منه ، وكان ذلك سنة آل يعقوب في حكم السّارق ، وكان حكم ملك مصر أن يضرب السّارق ، ويغرمه ضعفي قيمة المسروق ، فأراد يوسف أن يحبس أخاه عنده فردّ الحكم إليهم ؛ ليتمكن من حبسه عنده على حكمهم (١).

قوله تعالى : (جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ) فيه أربعة أوجه :

أحدها : أن يكون «جزاؤه» مبتدأ ، والضمير للسّارق ، و «من» شرطيّة أو موصولة مبتدأ ثان ، والفاء جواب الشّرط ، أو مزيدة في خبر الموصول (٢) لشبهه بالشّرط و «من» وما في حيزها على وجهيها خبر المبتدأ الأوّل ، قاله ابن عطيّة ، وهو مردود ؛ لعدم رابط بين المبتدأ ، وبين الجملة الواقعة خبرا عنه ، هكذا ردّه أبو حيّان عليه.

وليس بظاهر ؛ لأنّه يجاب عنه بأن هذه المسألة من باب إقامة الظاهر مقام المضمر ويتّضح هذا بتقدير الزمخشري ـ رحمه‌الله ـ فإنّه قال : «ويجوز أن يكون «جزاؤه» مبتدأ ، والجملة الشرطية كما هي خبره ، وعلى إقامة الظّاهر فيها مقام المضمر ، والأصل : جزاؤه من وجد في رحله فهو هو ، فوضع الجزاء موضع «هو» كما تقول لصاحبك : من أخو زيد؟ فيقول لك : من يقعد إلى جنبه فهو هو يرجع الضمير الأول إلى : «من» ، والثاني إلى الأخ ، فتقول : «فهو أخوه» مقيما الظاهر مقام المضمر».

وأبو حيان جعل هذا المحكيّ عن الزّمخشري وجها ثانيا بعد الأوّل ، ولم يعتقد أنه هو بعينه ، ولا أنه جواب عما ردّ به على ابن عطيّة.

ثمّ قال : «وضع الظّاهر موضع المضمر (٣) للرّبط ، إنّما هو فصيح في مواضع التفخيم والتّهويل ، وغير فصيح فيما سوى ذلك ، نحو : زيد قام زيد ، وينزه عنه القرآن.

قال سيبويه : «لو قلت : كان زيد منطلقا زيد» لم يكن حدّ الكلام وكان ههنا ضعيفا ، ولم يكن كقولك : ما زيد منطلقا هو ؛ لأنك قد استغنيت عن إظهاره ، وإنّما ينبغي لك أن تضمره» (٤).

قال شهاب الدّين (٥) : ومذهب الأخفش أنّه جائز مطلقا ، وعليه بنى الزمخشريّ ،

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٨ / ١٤٤).

(٢) في ب : المصول.

(٣) في ب : الضمير.

(٤) في ب : تظمره.

(٥) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٠١.

١٦٦

وقد جوّز أبو البقاء (١) ما توهم أنّه جواب عن ذلك فقال :

والوجه الثالث : أن يكون «جزاؤه» مبتدأ ، و «من وجد» مبتدأ ثان ، و «هو» مبتدأ ثالث ، و «جزاؤه» خبر الثالث ، والعائد على المبتدأ الأول الهاء الأخيرة وعلى الثاني «هو» انتهى.

وهذا الذي ذكره أبو البقاء لا يصح ؛ إذ يصير التقدير : فالذي وجد في رحله جزاؤه الجزاء ؛ لأنّه جعل «هو» عبارة عن المبتدأ الثاني ، وهو : (مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ) وجعل الهاء الأخيرة ، وهي التي في : «جزاؤه» الأخير عائدة على : «جزاؤه» الأوّل ، فصار التقدير كما ذكرنا.

الوجه الثاني من الأوجه المتقدمة : أن يكون : «جزاؤه» مبتدأ ، والهاء تعود على المسروق ، و (مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ) خبره ، و «من» بمعنى الذي ، والتقدير : جزاء الصّواع الذي وجد في رحله.

ولذلك كانت شريعتهم يسترق السّارق ؛ فلذلك استفتوا في جزائه ، وقوله : (فَهُوَ جَزاؤُهُ) تقدير للحكم ، أي فأخذ السّارق نفسه هو جزاؤه لا غير ، كقولك : حقّ زيد أن يكسى ، ويطعم ، وينعم عليه ، فذلك حقّه ، أي : فهو حقه لتقرّر ما ذكرته من استحقاقه ويلزمه ما قاله الزمخشريّ (٢).

ولما ذكر أبو البقاء هذا الوجه قال : والتقدير : استعباد من وجد في رحله وقوله : (فَهُوَ جَزاؤُهُ) مبتدأ ، وخبر مؤكد لمعنى الأولد ، ولما ذكر أبو حيّان هذا الوجه ناقلا له عن الزمخشريّ ، قال : «وقال معناه ابن عطيّة إلّا أنّه جعل القول الواحد قولين ، قال : ويصحّ أن يكون «من» خبرا على أن المعنى : جزاء السّارق من وجد في رحله ، ويكون قوله : (فَهُوَ جَزاؤُهُ) زيادة بيان وتأكيد ، ثم قال : ويحتمل أن يكون التقدير : جزاؤه استرقاق من وجد في رحله ، ثم يؤكد بقوله : (فَهُوَ جَزاؤُهُ) ، وهذا القول هو الذي قبله غير أنّه أبرز المضاف المحذوف في قوله : استرقاق من وجد في رحله ، وفيما قبله لا بدّ من تقديره ؛ لأنّ الذّات لا تكون خبرا عن المصدر ، فالتّقدير في القول قبله : جزاؤه أخذ من وجد في رحله أو استرقاقه ، هذا لا بدّ منه على هذا الإعراب.

وهذا ظاهره ، أنه جعل المقول الواحد قولين.

الوجه الثالث من الأوجه المتقدمة : أن يكون : «جزاؤه» خبر مبتدأ محذوف أي : المسئول عنه جزاؤه ، ثمّ أفتوا بقولهم : (مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ) كما تقول : من يستفتي في جزاء صيد المحرم جزاء صيد المحرم ، ثمّ يقول : (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) [المائدة : ٩٥] قاله الزمخشري.

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ٥٦.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٩١.

١٦٧

قال أبو حيّان (١) : «وهو متكلف ، إذ تصير الجملة من قوله «المسئول عنه جزاؤه» على هذا التقدير ، ليس فيه كبير فائدة ، إذ قد علم من قوله : (فَما جَزاؤُهُ) أي الشيء المسئول عنه جزاء سرقته ، فأيّ فائدة في نطقهم بذلك ، وكذلك القول في المثال الثّاني الذي مثل به من قول المستفتي».

قال شهاب الدّين (٢) : «قوله : «ليس فيه كبيرة فائدة» ممنوع ، بل فيه فائدة الإضمار المذكور في علم البيان ، وفي القرآن أمثال ذلك».

الوجه الرابع : أن يكون «جزاؤه» مبتدأ ، وخبره محذوف ، تقديره : جزاؤه عندنا كجزائه عندكم ، والهاء تعود على السّارق ، أو على المسروق ، وفي الكلام المتقدّم دليل عليهما ، ويكون قوله : (مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ) على ما تقدّم في الوجه الذي قبله وبهذا الوجه بدأ أبو البقاء ـ رحمه‌الله ـ ولم يذكره الشّيخ.

قوله : (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) محل الكاف نصب إمّا على أنّها نعت لمصدر محذوف ، إمّا حال من ضميره ، أي : مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي الظالمين أي : إذا سرق استرق.

قيل : هذا من بقيّة كلام إخوة يوسف صلوات الله وسلامه عليه.

وقيل : إنهم لما قالوا : (جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ) قال أصحاب يوسف : (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) ما ليس لهم فعله من سرقة مال الغير ، فعند ذلك قال لهم المؤذن : لا بدّ من تفتيش أوعيتكم ، فانصرف بهم إلى يوسف.

قوله تعالى : (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦) قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ)(٧٧)

(فَبَدَأَ) يوسف : (بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ) لإزالة التّهمة.

قرأ العامة : «وعاء» بكسر الواو. وقرأ الحسن (٣) بضمها ، وهي لغة نقلت عن نافع أيضا ، وقرأ (٤) سعيد بن جبير : «من إعاء أخيه» بإبدال الواو همزة وهي لغة هذيليّة ،

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٢٧.

(٢) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٠١.

(٣) ينظر : الإتحاف ٢ / ١٥١ والكشاف ٢ / ٤٩١ والمحرر الوجيز ٣ / ٢٦٥ والبحر المحيط ٥ / ٣٢٨ والدر المصون ٤ / ٢٠٢.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٩١ والمحرر الوجيز ٣ / ٢٦٥ والبحر المحيط ٥ / ٣٢٨ والدر المصون ٤ / ٢٠٢.

١٦٨

يبدلون من الواو المكسورة ، أوّل الكلمة همزة ، فيقولون : إشاح وإسادة ، وإعاء في «وشاح ، ووسادة ، ووعاء» وقد تقدّم ذلك في الجلالة المعظمة أول الكتاب.

والأوعية : جمع وعاء. وهو كلّ ما إذا وضع فيه أحاط به.

قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَخْرَجَها) في الضمير المنصوب قولان :

أحدهما : أنّه عائد على الصّواع ؛ لأنّ فيه التّذكير ، والتّأنيث ، كما تقدّم.

وقيل : لأنه حمل على معنى السقاية. قال أبو عبيد : قولك : «الصّواع» يؤنّث من حيث هو سقاية ، ويذكّر من حيث هو صواع.

قالوا : وكأنّ أبا عبيد لم يحفظ في الصواع التّأنيث.

وقال الزمخشريّ (١) : «قالوا رجع بالتّأنيث على السّقاية» ثم قال : «ولعلّ يوسف كان يسمّيه سقاية ، وعبيدة صواعا ، فقد وقع فيما يتّصل به من الكلام سقاية ، وفيما يتّصل بهم منه صواعا».

وهذا الأخير أحسن.

والثاني : أنّ الضمير عائد على السّرقة.

وفيه نظر ؛ لأنّ السرقة لا تستخرج إلا بمجاز.

فصل

قال قتادة : ذكر لنا أنه كان لا يفتح متاعا ، ولا ينظر في وعاء إلّا استغفر الله ـ تعالى ـ تائبا ممّا قذفهم به ، حتى إذا لم يبق إلّا رحل بنيامين قال : ما أظنّ هذا أخذه ، فقال إخوته : والله لا يترك حتّى ينظر في رحله ، فإنه أطيب لنفسك ، ولأنفسنا ، فلما فتحوا متاعه استخرجوه منه ؛ فنكس إخوته رءوسهم من الحياء وقالوا : إنّ هذه الواقعة عجيبة ، إنّ راحيل ولدت ولدين لصين ، وأقبلوا على بنيامين ، وقالوا : أيش (٢) الذي صنعت ، فضحتنا ، وسوّدت وجوهنا ، يا بني راحيل لا يزال لنا منكم بلاء [حتى أخذت هذا الصواع ، فقال بنيامين : بل بنو راحيل لا يزال لهم منكم بلاء](٣) ذهبتم بأخي ، ثم أهلكتموه في البريّة ، ثم تقولون لي هذا الكلام ، قالوا له : كيف خرج الصّواع من رحلك؟ فقال : وضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع البضاعة في رحالكم ، قالوا : فأخذ بنيامين رقيقا (٤).

قوله : (كَذلِكَ كِدْنا) الكلام في : (كَذلِكَ كِدْنا) [٧٥] كالكلام فيما كان قبلها أي : مثل ذلك الكيد العظيم ، أي : كما فعلوا في الابتداء بيوسف من الكيد فعلنا بهم ، وقد قال يعقوب ليوسف ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ (فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) [يوسف : ٥] ، فكدنا ليوسف في أمرهم.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٩١.

(٢) في ب : بئس.

(٣) سقط من : ب.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٥٩).

١٦٩

فالمراد من هذا الكيد : هو أنّه ـ تعالى ـ ألقى في قلب إخوته : أن احكموا بأنّ جزاء السّارق هو أن يسترقّ ، لا جرم لما ظهر الصّواع في رحله ؛ حكموا عليه بالاسترقاق ؛ وصار ذلك سببا لتمكّن يوسف ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ من إمساك أخيه عند نفسه.

واعلم أنّ الكيد يشعر بالحيلة ، والخديعة ، وذلك في حق الله ـ تعالى ـ محال إلا أنّه قد تقدم أصل معتبر في هذا الباب ، وهو أنّ أمثال هذه الألفاظ في حق الله تعالى ـ تحمل على نهايات الأغراض ، لا على بداياتها ، وتقرّر ذلك عند قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي) [البقرة : ٢٦] فالكيد : السّعي في الحيلة ، والخديعة ، ونهايته اشتغال الإنسان من حيث لا يشعر في أمر مكروه ، ولا سبيل له إلى دفعه ، فالكيد في حقّ الله محمول على هذا المعنى.

وقيل : المراد بالكيد ههنا : أنّ إخوة يوسف سعوا في إبطال أمره ، والله نصره وقوّاه ، وأعلى أمره.

قال القرطبي : قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : «كدنا» معناه : صنعنا (١). وقال القتبيّ : دبّرنا. وقال ابن الأنباري : أردنا ؛ قال الشاعر : [الكامل]

٣١٢٦ ـ كادت وكدت وتلك خير إرادة

لو عاد من عهد الصّبا ما قد مضى (٢)

قوله : (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ) تفسير للكيد ، وبيان له ، وذلك أنه كان في زمان ملك مصر أن يغرّم السّارق مثلي ما أخذ لا أنه يستعبد.

فصل

قال القرطبيّ : «في الآية دليل على جواز التّوصل إلى الأغراض بالحيل (٣) إذا لم تخالف شريعة ، ولا هدمت أصلا خلافا لأبي حنيفة ـ رضي الله عنه ـ في تجويز الحيل وإن خالفت الأصول ، وخرمت التحليل ، وأجمعوا على أنّ للرّجل التّصرف في ماله قبل حلول الحول بالبيع ، والهبة إذا لم ينو الفرار من الزّكاة ، وأجمعوا على أنّه إذا حال الحول ، وأظلّ السّاعي أنه لا يحلّ له التّحيل ، ولا النّقصان ولا أن يفرق بين مجتمع ولا أن يجمع بين متفرق».

فصل

قال ابن العربيّ : قال بعض الشّافعية : في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) دليل على وجه الحيلة إلى المباح ، واستخراج الحقوق ، وهذا وهم عظيم ، وقوله

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي (٩ / ١٥٤).

(٢) ينظر البيت في معاني الأخفش ٢ / ٣٧١ والمحتسب ٢ / ٣١ ، ٤٨ واللسان والتاج (كيد) وأمالي المرتضى ١ / ٣٣١ وشرح اللمع ١٣٧ وأضداد ابن الأنباري ٩٧ والقرطبي ٥ / ٢٨٥ والألوسي ١٣ / ٢٩ وروي

البيت بلفظ ......

لو عاد من لهو الصبا ما مضى.

وروي أيضا .....

لو كان من لها الصبا ما مضى.

(٣) وللخصاف من الحنفية مؤلف في الحيل.

١٧٠

تعالى : (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) [يوسف : ٢١] قيل فيه : لمّا مكّنا ليوسف ملك نفسه عن امرأة العزيز مكّنّا له ملك الأرض عند العزيز ، وهذا لا يشبه ما ذكروه.

قال الشفعوي : ومثله قوله : (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) [ص : ٤٤] هذا ليس حيلة ، إنما هو حمل [اليمين](١) على الألفاظ ، أو على المقاصد.

قوله : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه استثناء منقطع تقديره : ولكن بمشيئة الله أخذه في دين غير دين الملك ، وهو دين آل يعقوب أنّ الاسترقاق جزاء للسّارق.

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ : «في دين الملك» أي في سلطانه (٢).

(إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أي : أنّ يوسف لم يتمكن من حبس أخيه في حكم الملك لو لا ما كدنا له بلطفنا ، حتى وجد السبيل إلى ذلك ، وهو ما جرى على [ألسنة](٣) الإخوة أنّ جزاء السارق الاسترقاق فحصل مراد يوسف بمشيئة الله.

والثاني : أنّه مفرغ من الأحوال العامّة ، والتقدير : ما كان ليأخذه في كلّ حال إلا في حال التباسه بمشيئة الله ـ عزوجل ـ أي : إذنه في ذلك.

وكلام ابن عطيّة محتمل فإنه قال والاستثناء حكاية حال ، والتقدير : إلّا أن يشاء الله ما وقع من هذه الحيلة.

قوله (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) تقدّم القراءتان فيها في الأنعام [الأنعام : ٨٣].

وقرأ (٤) يعقوب بالياء من تحت «يرفع» ، و «يشاء» والفاعل الله ـ تعالى ـ.

وقرأ عيسى (٥) البصري «نرفع» بالنون «درجات» منونة ، و «يشاء» بالياء.

قال صاحب اللّوامح : «وهذه قراءة مرغوب عنها تلاوة ، وجملة ، وإن لم يمكن إنكارها».

قال شهاب الدّين (٦) ـ رحمه‌الله ـ : «وتوجيهها : أنّه التفت في قوله «يشاء» من التّكلّم إلى الغيبة ، والمراد واحد».

قوله : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) قرأ عبد الله بن مسعود (٧) : (وفوق كل ذي عالم). وفيها ثلاثة أوجه :

__________________

(١) في ب : المضمر.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٦١) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٥١ ـ ٥٢) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٣) في ب : لسان.

(٤) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٠٢.

(٥) ينظر : السابق.

(٦) ينظر : الدر المصون ٤ / ٣٠٢.

(٧) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٦٦ والبحر المحيط ٥ / ٣٢٨ والدر المصون ٤ / ٢٠٣.

١٧١

أحدها : أن يكون «عالم» هنا مصدرا ، قالوا : مثل الباطل فإنّه مصدر فهي كالقراءة المشهورة.

الثاني : أنّ ثمّ مضافا محذوفا ، تقديره : وفوق كل ذي مسمى عالم ؛ كقوله : [الطويل]

٣١٢٧ ـ إلى الحول ثمّ اسم السّلام عليكما (١)

أي : مسمّى السّلام.

الثالث : أنّ «ذو» زائدة ؛ كقول الكميت : [الطويل]

٣١٢٨ ـ ..... ذوي آل النّبيّ ...

 ........... (٢)

فصل

قوله : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) بالعلم كما رفعنا درجة يوسف على إخوته والمعنى : أنه خصّه بأنواع العلوم.

وهذه الآية تدلّ على أنّ العلم أشرف المقامات ، وأعلى الدّرجات لأنه تعالى لما هدى يوسف إلى هذه الحيلة مدحه لأجل ذلك فقال : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ)(٣).

ثم قال : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ) عالم إلى أن ينتهي العلم إلى الله ـ عزوجل ـ فالله فوق كلّ عالم (٤).

والمعنى : أنّ إخوة يوسف كانوا علماء فضلاء ، إلّا أنّ يوسف كان زائدا عليهم في العلم.

واحتجّ المعتزلة بهذه الآية على أنّه ـ تعالى ـ عالم لذاته ؛ لأنّه لو كان عالما بالعلم ، لكان ذا علم ، ولو كان كذلك لحصل فوقه عليم تمسكا بهذه الآية.

قال ابن الخطيب (٥) : «وهذا باطل ؛ لأن أصحابنا قالوا : دلّت سائر الآيات على إثبات العلم لله ـ تعالى ـ وهو قوله : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) [لقمان : ٣٤] (أَنْزَلَ

__________________

(١) تقدم.

(٢) جزء من صدر بيت والبيت بتمامه :

إليكم ذوي آل النبي تطلعت

نوازع من قلبي ظماء وألبب

ينظر : الخصائص ٣ / ٢٧ واللسان (لبب) وابن يعيش ١ / ١٤٥ والمحتسب ١ / ٣٤٧ والخزانة ٢ / ٢٥٠ ، ٤ / ٣٠٧ والدر المصون ٤ / ٢٠٣.

(٣) سقط من : ب.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٦٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٥٢) وزاد نسبته إلى الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والبيهقي في «الأسماء والصفات».

(٥) ينظر : الفخر الرازي ٨٨ / ١٤٦.

١٧٢

بِعِلْمِهِ) [النساء : ١٦٦] ، (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) [البقرة : ٢٥٥] ، (وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) [فاطر : ١١] وإذا وقع التّعارض ، فنحن نحمل الآية التي تمسّك بها الخصم على واقعة يوسف وإخوته ، غاية ما في الباب أنه يوجب تخصيص عموم إلا أنّه لا بد من المصير إليه ؛ لأن العالم مشتقّ من العلم ، والمشتقّ منه مفرد ، وحصول المركب بدون حصول المفرد محال في بديهة العقل ، فكان التّرجيح من جانبنا».

قوله (فَقَدْ سَرَقَ) الجمهور على «سرق» مخففا مبنيّا للفاعل ، وقرأ (١) أحمد بن جبير الأنطاكيّ ، وابن أبي شريح عن الكسائيّ ، والوليد بن حسان عن يعقوب في آخرين : «سرّق» مشددا مبنيّا للمفعول أي : نسب إلى السرقة ؛ لأنّه ورد في التّفسير : أنّ عمته ربته ، فأخذه أبوه منها ؛ فشدت في وسطه منطقة كانوا يتوارثونها من إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه ففتشوا فوجدوها تحت ثيابه ، فقالت : هو لي ، فأخذته كما في شريعتهم ، ومن هنا تعلم يوسف وضع السّقاية في رحل أخيه ، كما فعلت به عمّته ، وهذه القراءة منطبقة على هذا.

وقال سعيد بن جبير : كان لجدّه أبي أمه صنم يعبده ، فأخذه سرا ، وكسره وألقاه في الطّريق (٢).

وقال مجاهد : أخذ بيضة من البيت فأعطاها سائلا (٣). وقيل : دجاجة وقال وهب ـ رحمه‌الله ـ : كان يخبىء الطّعام من المائدة للفقراء فقالوا للملك : إنّ هذا ليس بغريب منه ، فإنّ أخاه الّذي هلك كان أيضا سارقا ، أي إنّا لسنا على طريقته ، ولا على سيرته ، وهو وأخوه مختصان بهذه الطّريقة ؛ لأنهما من أم أخرى (٤).

قوله : «فأسرّها» قال بعضهم : الضّمير المنصوب مفسّر لسياق الكلام ، أي : فأسرّ الحزازة التي حصلت له من قولهم : (فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ) ؛ كقوله : [الطويل]

٣١٢٩ ـ أماويّ ما يغني الثّراء عن الفتى

إذا حشرجت يوما وضاق بها الصّدر (٥)

فالضمير في «حشرجت» يعود على النّفس ، كذا ذكره أبو حيّان.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٢٩ ، والدر المصون ٤ / ٢٠٣.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٦٥) عن سعيد بن جبير وذكر السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٥٤) عن ابن عباس مرفوعا وعزاه إلى ابن مردويه.

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٤٤١).

(٤) ينظر : المصدر السابق.

(٥) البيت لحاتم الطائي. ينظر : ديوانه ص ١٩٩ والأغاني ١٧ / ٢٩٥ وجمهرة اللغة ص ١٣٤ ، ١١٣٣ وخزانة الأدب ١٤ ، والدرر ١ / ٢١٥ والشعر والشعراء ١ / ٢٥٢ واللسان (حشرج) والهمع ١ / ٦٥ وأمالي الشجري ١ / ٥٩ وتأويل المشكل (٢٢٧) والعمدة ٢ / ٢٦٣ والطبري ١٣ / ٢ والدر المصون ٤ / ٢٠٣.

وروي : لعمرك ما يغني ... إذا حشرجت نفس ....

١٧٣

وقد جعل بعضهم البيت ممّا فسر فيه الضمير بذكر ما هو كلّ لصاحب الضّمير ، فلا يكون ممّا فسّر فيه بالسّياق.

وقال الزمخشريّ (١) إضمار على شريطة التّفسير ، يفسره «أنتم شرّ مكانا» وإنّما أنّث ؛ لأن قوله : (شَرٌّ مَكاناً) جملة ، أو كلمة على تسميتهم الطّائفة من الكلام كلمة ، كأنّه قيل : فأسر الجملة ، أو الكلمة التي هي قوله : (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) قال : لأن قوله : (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) بدل من : «أسرّها».

قال شهاب الدّين (٢) : وهذا عند من يبدل الظاهر من المضمر في غير المرفوع ؛ نحو ضربته زيدا ، والصحيح وقوعه ؛ كقوله : [الرجز]

٣١٣٠ ـ فلا تلمه أن يخاف البائسا (٣)

وقرأ عبد الله (٤) وابن أبي عبلة : «فأسرّه» بالتّذكير قال الزمخشريّ «يريد القول ، أو الكلام».

قال أبو البقاء (٥) : «الضمير يعود إلى نسبتهم إيّاه إلى السّرقة ، وقد دلّ عليه الكلام».

وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، وتقديره : قال في نفسه : (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً). وأسرّها أي هذه الكلمة.

قال شهاب الدين (٦) : ومثل هذا ينبغي ألّا يقال ، فإنّ القرآن ينزّه عنه و «مكانا» تمييز ، أي : منزلة من غيركم ، والمعنى : أنتم شرّ منزلا عند الله ممن رميتموه بالسّرقة في صنيعكم بيوسف ؛ لأنه لم يكن من يوسف سرقة حقيقة ، وخيانتكم حقيقة.

وقد طعن الفارسيّ رحمه‌الله على كلام الزمخشريّ من وجهين :

الأول : قال : الإضمار على شريطة التفسير يكون على ضربين :

أحدهما : أن يفسّر بمفرد ، كقولنا : نعم رجلا زيد ، ففي : «نعم» ضمير فاعلها و «رجلا» تفسير لذلك الفاعل المضمر.

والآخر : أن يفسر بجملة ، وأصل هذا يقع به الابتداء ، كقوله : (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٩٣.

(٢) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٠٤.

(٣) البيت للعجاج وصدره :

فأصبحت بقرقرى كوانسا

ينظر : الكتاب ١ / ٢٥٥ ، المغني ٥٩٣ ، والدرر ١ / ٤٥ ، الهمع ١ / ٦٦ ، ورصف المباني ٦٨٩ ، والدر المصون ٤ / ٢٠٤ ويروى : فلا تلمه أن ينام البائسا.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٩٣ والمحرر الوجيز ٣ / ٢٦٧ والبحر المحيط ٥ / ٣٢٩ والدر المصون ٤ / ٢٠٤.

(٥) ينظر : الإملا ٢ / ٥٧.

(٦) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٠٤.

١٧٤

أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الأنبياء] ، و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) [الإخلاص : ١] والمعنى : القصّة شاخصة أبصار الذين كفروا والأمر : الله أحد ، ثمّ إنّ العوامل الداخلة على المبتدأ والخبر تدخل عليه أيضا ، كقوله (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً) [طه : ٧٤] (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ) [الحج : ٤٦].

وإذا عرفت هذا فنقول : نفس المضمر على شريطة التّفسير في كلا الجملتين متّصل بالجملة التي فيها الإضمار ، ولا يكون خارجا عن تلك الجملة ، ولا مباينا لها ، وههنا التفسير منفصل عن الجملة الّتي حصل فيها الإضمار ؛ فوجب ألّا يحسن.

والثاني : أنّه ـ تعالى ـ قال : (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) وذلك يدل على أنه ذكر ذلك الكلام ، ولو قلنا : إنّه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ أضمر هذا الكلام لكان قوله : (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) كذبا.

قال ابن الخطيب (١) : «وهذا الطّعن ضعيف من وجوه :

الأول : لا يلزم من حسن القسمين الأولين قبح قسم ثالث.

وأما الثاني : فلأنا نحمل ذلك على أنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ قال ذلك على سبيل الخفية ، وبهذا [التقسيم](٢) سقط السّؤال.

والوجه الثاني : وهو أنّ الضمير في قوله : «فأسرّها» عائد إلى الإجابة ، كأنّهم لما قالوا : (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) أسرّ يوسف عليه‌السلام إجابتهم في نفسه في ذلك الوقت ، ولم يبدها لهم في تلك الحالة إلى وقت ثان ، ويجوز أن يكون إضمارا للمقالة ، والمعنى : أسرّ يوسف مقالتهم ، والمراد من المقالة متعلق تلك المقالة ؛ كما يراد بالخلق والمخلوق ، وبالعلم المعلوم ، يعني : أسرّ يوسف كيفية تلك السّرقة ، ولم يبين لهم أنها كيف وقعت ، وأنه ليس فيها ما يوجب الطّعن».

روي عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : عوقب يوسف ثلاث مرّات : لأجل همّه بها ؛ فعوقب بالحبس ، وبقوله : (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) ؛ عوقب بالحبس الطّويل ، وبقوله : (إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) ؛ عوقب بقوله : (فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ).

ثم قال : (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) ، أي : أنتم شرّ منزلة عند الله ، بما أقدمتم عليه من ظلم أخيكم ، وعقوق أبيكم ؛ فأخذتم أخاكم ، وطرحتموه في الجبّ ، ثم قلت لأبيكم : (يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) وأنتم كاذبون ، ثم بعتموه بعشرين درهما ، ثمّ بعد المدّة الطويلة ، والزّمان المديد ، ما زال الحقد والغضب عن قلوبكم ؛ فرميتموه بالسّرقة ، (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) ، أي : إن سرقة يوسف كانت (٣) لله رضا ؛ فلا توجب عود الذمّ ، واللّوم إليه (٤).

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ١٨ / ١٤٧.

(٢) في ب : التفسير.

(٣) سقط من : ب.

(٤) تقدم.

١٧٥

قوله تعالى : (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨) قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ) (٧٩)

قوله تعالى : (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً) الآية.

اعلم : أنهم لمّا قالوا : (إن سرق فقد سرق أخ له من قبل) ، أحبّوا موافقته ، والعدول إلى طريق الشّفاعة ، وأنهم ، وإن كانوا قد اعترفوا بأن حكم الله في السارق أن يستعبد ، إلّا أنّ العفو وأخذ الفداء كان أيضا جائزا ؛ فقالوا : (يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً) ، في السنّ ، ويجوز أن يكون في القدر ، والدّين ؛ لأن قولهم : «شيخا» يعلم منه كبر سنه ، وإنّما ذكروا ذلك ؛ لأنّ كونه ابنا لرجل كبير القدر يوجب العفو [والصفح](١).

قوله : «مكانه» فيه وجهان :

أظهرهما : أنّ «مكانه» : نصب [على الظرف](٢) ، والعامل فيه : «خذ».

والثاني : أن ضمّن «خذ» معنى : «اجعل» ، فيكون : «مكانه» في محلّ المفعول الثاني.

وقال الزمخشريّ (٣) : «فخذ بدله على جهة الاسترهان ؛ حتّى نردّ الفداء إليك ، أو الاستعباد».

ثم قالوا : (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) ، لو فعلت ذلك.

وقيل : من المحسنين إلينا في توفية الكيل ، وحسن الضّيافة ، وردّ البضاعة.

وقيل : من المحسنين في أفعالك ، وقيل : لما اشتدّ القحط على القوم ، ولم يجدوا ما يشترون به من الطّعام ، وكانوا يبيعون أنفسهم ، فصار ذلك (٤) سببا لصيرورة أكثر أهل مصر عبيدا له ، ثم إنه أعتق الكلّ قالوا : (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) إلى عامة النّاس بالإعتاق ، فكن محسنا أيضا إلى هذا الإنسان بالإعتاق من هذه المحنة.

فقال يوسف : (مَعاذَ اللهِ) أي أعوذ بالله معاذا (أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ) أي أعوذ بالله أن نأخذ بريئا بمذنب.

قال الزجاج : «موضع «أن» نصب ، والمعنى : أعوذ بالله من أخذ أحد بغيره ، فلمّا سقطت كلمة : «من» تعدّى الفعل».

وقوله : (إِنَّا إِذاً) حرف جواب وجزاء ، تقدّم الكلام [النساء : ٦٧ ـ البقرة : ١٤] على أحكامها.

والمعنى : لقد تعدّيت ، وظلمت ، إن أخذت بريئا بجرم صدر من غيره ، فقال :

__________________

(١) في ب : والصلح.

(٢) سقط من : ب.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٩٣.

(٤) في ب : لذلك.

١٧٦

(مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ) ولم يقل : «من سرق» تحرّزا من الكذب.

فإن قيل : هذه الواقعة من أوّلها إلى آخرها ، تزوير وكذب ، فكيف يجوز ليوسف مع رسالته الإقدام على التّزوير ، وإيذاء النّاس من غير ذنب لا سيّما ويعلم أنّه إذا حبس أخاه عنده بهذه التّهمة فإنه يعظم حزن أبيه ، ويشتدّ غمّه ، فكيف يليق بالرسول المعصوم المبالغة في التّزوير إلى هذا الحدّ؟!.

فالجواب : لعلّه ـ تعالى ـ أمره بذلك تشديدا للمحنة على يعقوب ، ونهاه عن العفو والصّفح ، وأخذ البدل ، كما أمر ـ تعالى ـ صاحب موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ بقتل من لو بقي لطغى وكفر.

قوله تعالى : (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ)(٨٢)

قوله : (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا) «استفعل» هنا بمعنى «فعل» المجرّد يقال : يئس ، واستيأس [بمعنى] نحو «عجب واستعجب ، وسخر ، واستسخر.

وقال الزمخشري (١) : وزيادة التّاء والسّين في المبالغة نحو ما مرّ في : «استعصم» وقرأ البزيّ عن ابن كثير (٢) بخلاف عنه : «استيأيسوا» بألف بعد التاء ثم ياء وكذلك في هذه السورة : (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ) [يوسف : ٨٧] إنّه لا ييأس (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) ، وفي الرعد : (أَفَلَمْ يَيْأَسِ) [الرعد : ٣١] الخلاف واحد.

فأمّا قراءة العامة : فهي الأصل ، إذ يقال : يئس ، فالفاء ياء ، والعين همزة وفيه [لغة](٣) أخرى ، وهي القلب [الرعد : ٣١] بتقديم العين على الفاء ، فيقال : أيس ، ويدلّ على ذلك شيئان :

أحدهما : المصدر الذي هو اليأس.

والثاني : أنّه لو لم يكن مقلوبا للزم قلب الياء ألفا ، لتحركها ، وانفتاح ما قبلها ، ولكن منع من ذلك كون الياء في موضع لا تعلّ فيه ما وقعت موقعه ، وقراءة ابن كثير من هذا ، ولما قلب الكلمة أبدل من الهمزة ألفا لسكونها بعد فتحة ، إذ صارت كهمزة رأس ، وكأس ، وإن لم يكن من أصله قلب الهمزة السّاكنة حرف علّة وهذا كما تقدّم أنه يقرأ

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٩٤.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٦٩ والبحر المحيط ٥ / ٣٣٠ والدر المصون ٤ / ٢٠٤.

(٣) في ب : لغات.

١٧٧

«القرآن» بالألف ، وأنّه يحتمل أن يكون نقل حركة الهمزة ، وإن لم يكن من أصله النقل.

قال أبو شامة بعد أن ذكر هذه الكلمات الخمس الّتي وقع فيها الخلاف «وكذلك رسمت في المصحف ، يعني كما قرأها البزيّ يعني بالألف مكان الياء ، وبياء مكان الهمزة».

وقال أبو عبد الله : واختلفت هذه الكلمات في الرّسم ، فرسم : «يأيس» ، «ولا تأيسوا» بألف ، ورسم الباقي بغير ألف.

قال شهاب الدين (١) : «وهذا هو الصّواب ، وكأنّه غفلة من أبي شامة».

ومعنى الآية : «فلمّا أيسوا من يوسف أن يجيبهم إلى ما سألوا».

وقال أبو عبيدة : «استيأسوا» : استيقنوا أنّ الأخ لا يرد إليهم.

قوله : (خَلَصُوا نَجِيًّا) قال الواحديّ : يقال : خلص الشّيء يخلص خلوصا إذا انفصل من غيره ، ثم فيه وجهان :

أحدهما : قال الزجاج ، خلصوا : أي : انفردوا ، وليس معهم أخوهم.

وقال الباقون : تميزوا عن الأجانب ، وهذا هو الأظهر ، أي : خلا بعضهم ببعض يتناجون ويتشاورون (٢) لا يخالطهم غيرهم.

وأمّا قوله : «نجيّا» حال من فاعل : «خلصوا» أي : اعتزلوا في هذه الحال وإنّما أفردت الحال ، وصاحبها جمع ، إمّا لأن النّجيّ فعيل بمعنى مفاعل كالعشير والخليط بمعنى المخالط والمعاشر ، كقوله (وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) [مريم : ٥٢] أي : مناجيا وهذا في الاستعمال يفرد مطلقا ، يقال : هم خليطك وعشيرتك ، أي : مخالطوك ومعاشروك وإما لأنّه صفة على فعيل بمنزلة صديق ، وبابه يوحد ، لأنه بزنة المصادر كالصّهيل ، والوجيب والذّميل ، وإمّا لأنه مصدر بمعنى التّناجي كما قيل : النّجوى بمعناه ، قال تعالى : (وَإِذْ هُمْ نَجْوى) [الإسراء : ٤٧] ، وحينئذ يكون فيه التّأويلات المذكورات في : «رجل عدل» وبابه ، ويجمع على «أنجية» ، وكان من حقّه إذا جعل وصفا أن يجمع على «أفعلاء» ، ك «غنيّ ، وأغنياء» و «شقيّ ، وأشقياء» ؛ ومن مجيئه على «أنجية» قول الشاعر : [الرجز]

٣١٣١ ـ إنّي إذا ما القوم كانوا أنجيه

واضطرب القوم اضطراب الأرشيه

هناك أوصيني ولا توصي بيه (٣)

وقول لبيد : [الكامل]

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٠٥.

(٢) في ب : بتشاورات.

(٣) الأبيات لسحيم بن وثيل اليربوعي. ينظر : اللسان والصحاح : «نجا» ، أساس البلاغة ٤٤٨ ، جمهرة اللغة ص ٢٣٥ ، ٨٠٩ ، خزانة الأدب ١٠ / ٢٤٧ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٦٥٦ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٩١٤ ، المغني ٢ / ٥٨٥ ، وأمالي ابن الشجري ٢ / ٢٥ ، وروح المعاني ١٣ / ٣٥ ومعاني الزجاج ٣ / ١٢٤ والبحر المحيط ٥ / ٣٣١ والدر المصون ٤ / ٢٠٥.

١٧٨

٣١٣٢ ـ وشهدت أنجية الأفاقة عاليا

كعبي وأرداف الملوك شهود (١)

وجمعه كذلك يقوي كونه جامدا ، إذ يصير كرغيف ، وأرغفة.

وقال البغويّ : النّجي يصلح للجماعة ، كما قال ههنا ، وللواحد كما قال : (وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) [مريم : ٥٢] وإنما جاز للواحد والجمع ؛ لأنه مصدر جعل نعتا كالعدل ، ومثله : النّجوى يكون اسما ، ومصدرا ، قال تعالى (وَإِذْ هُمْ نَجْوى) [الإسراء : ٤٧] أي : متناجين ، وقال ـ جل ذكره ـ (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ) [المجادلة : ٧] وقال في المصدر (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ) [المجادلة : ١٠].

قال ابن الخطيب : «وأحسن الوجوه أن يقال : إنّهم تمحّضوا تناجيا ؛ ونّ من كمل حصول أمر من الأمور فيه وصف بأنّه صار غير ذلك الشّيء فلما أخذوا في التّناجي على غاية الجدّ ؛ صاروا كأنهم في أنفسهم صاروا نفس التّناجي في الحقيقة».

«قال كبيرهم» في العقل ، والعلم لا في السنّ ، وهو «يهوذا» ، قاله ابن عباس ، والكلبي (٢).

وقال مجاهد : شمعون ، وكانت له الرّئاسة على إخوته (٣).

وقال قتادة ، والسديّ ، والضحاك : وهو روبيل ، وكان أكبرهم في السنّ ، وهو الذي نهاهم عن قتل يوسف ـ عليه‌السلام ـ (٤).

(أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً) : عهدا : (مِنَ اللهِ) ، وأيضا : نحن متّهمون بواقعة يوسف.

قوله (وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ) في هذه الآية وجوه ستة :

أظهرها : أنّ «ما» مزيدة فيتعلّق الظّرف بالفعل بعدها ، والتقدير : ومن قبل هذا فرّطتم ، أي : قصّرتم في حقّ يوسف ، وشأنه ، وزيادة «ما» كثيرة ، وبه بدأ الزمخشري وغيره.

الثاني : أن تكون «ما» مصدرية في محلّ رفع بالابتداء ، والخبر الظّرف المتقدم قال الزمخشريّ (٥) : على أنّ محل المصدر الرّفع بالابتداء ، والخبر الظرف وهو «من قبل» ،

__________________

(١) ينظر البيت في : ديوانه (٤٧) ، والمحرر ٩ / ٣٥٣ ، وروح المعاني ١٣ / ٣٥ ، ومجاز القرآن ١ / ٣١٥ ، والتهذيب واللسان «أفق» ، والطبري ١٦ / ٢٠٤ ، البحر المحيط ٥ / ٣٣١ ، والدر المصون ٤ / ٢٠٥.

(٢) ذكره البغوي (٢ / ٤٤٢).

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٦٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٥٤ ـ ٥٥) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٧٠) عن قتادة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٥٥) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٥) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٩٤.

١٧٩

والمعنى : وقع من قبل تفريطكم في يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ـ وإلى هذا نحا ابن عطيّة أيضا فإنّه قال : ولا يجوز أن يكون قوله : «من قبل» متعلقا ب : «ما فرّطتم» ، وأنّ «ما» تكون على هذا مصدرية ، والتقدير : ومن قبل تفريطكم في يوسف واقع ، أو مستقرّ ، وبهذا المقدر يتعلق قوله : «من قبل».

قال أبو حيّان (١) : «هذا وقول الزمخشريّ راجعان إلى معنى واحد ، وهو أن «ما فرّطتم» يقدّر بمصدر مرفوع بالابتداء ، و : «من قبل» في موضع الخبر وذهلا عن قاعدة عربيّة ، وحقّ لهما أن يذهلا ـ وهي أنّ هذه الظروف التي هي غايات إذا بنيت لا تقع أخبارا للمبتدأ جرّت ، أو لم تجرّ ، تقول : يوم السّبت مبارك والسّفر بعده ، ولا تقول : والسّفر بعد و «عمرو زيد خلفه» ولا يجوز : عمرو وزيد خلف ، وعلى ما ذكراه يكون : «تفريطكم» مبتدأ ، و «من قبل» خبر وهو مبنيّ وذلك لا يجوز ، وهو مقرر في علم العربيّة».

قال شهاب الدّين (٢) : «قوله : «وحقّ لهما أن يذهلا» تحامل على هذين الرجلين ، وموضعهما من العلم معروف ، وأمّا قوله : «إنّ الظرف المقطوع لا يقع خبرا» ، فمسلّم ، قالوا : لأنّه لا يفيد ، وما لا يفيد ، لا يقع خبرا ، ولذا لا يقع صفة ، ولا صلة ، ولا حالا والآية الكريمة من هذا القبيل لو قلت : «جاء الذي قبل» أو «مررت برجل قبل» لم يجز لما ذكرت.

ولقائل أن يقول : إنّما امتنع ذلك ؛ لعدم الفائدة ، وعدم الفائدة لعدم العلم بالمضاف إليه المحذوف ، فينبغي إذا كان المضاف إليه معلوما مدلولا عليه أن يقع ذلك الظّرف المضاف إلى ذلك المحذوف خبرا ، وصفة ، وصلة ، وحالا ، والآية الكريمة من هذا القبيل ، أعني ممّا علم فيه المضاف إليه كما مرّ تقريره».

ثمّ هذا الرّد الذي ردّ به أبو حيّان سبقه إليه أبو البقاء ، فقال : «وهذا ضعيف ؛ لأن «قبل» إذا وقعت خبرا أو صلة لا تقطع عن الإضافة لئلا تبقى ناقصة».

الثالث : أنها مصدرية أيضا ، في محل رفع بالابتداء ، والخبر هو قوله «في يوسف» أي : وتفريطكم كائن ، أو مستقر في يوسف ، وإلى هذا ذهب الفارسي كأنه استشعر أن الظرف المقطوع لا يقع خبرا ؛ فعدل إلى هذا ، وفيه نظر ؛ لأنّ السّياق ، والمعنى يجريان إلى تعلق : «في يوسف» ب «فرّطتم» ، فالقول بما قاله الفارسي يؤدّي إلى تهيئة العامل [للعمل](٣) ، وقطعه عنه.

الرابع : أنّها مصدرية أيضا ، ولكن محلها النّصب على أنّها منسوقة على : «أنّ أباكم قد أخذ» أي : ألم تعلموا أخذ أبيكم الميثاق ، وتفريطكم في يوسف.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٣١.

(٢) ينظر : الدر المصون ٤ / ٢٠٦.

(٣) في ب : الأول.

١٨٠