اللّباب في علوم الكتاب - ج ١١

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١١

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥١٠

أتجوع وبيدك خزائن الأرض؟ فقال : أخاف إن شبعت نسيت الجياع ، وأمر يوسف طبّاخي الملك أن يجعلوا غذاءه نصف النهار ؛ وأراد بذلك أن يذوق الملك طعم الجوع ، ولا ينسى الجائعين ، ومن ثمّ جعل الملوك غذاءهم نصف النّهار.

وعمّ القحط البلاد حتّى أصاب أرض كنعان وبلاد الشام. ونزل بيعقوب ما نزل بالنّاس ؛ فأرسل بنيه إلى مصر ؛ للميرة ، وأمسك بنيامين أخا يوسف لأمه ، فذلك قوله تعالى : (وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ) وكانوا عشرة ، وكان منزلهم بالقريات من أرض فلسطين بغور الشام ، وكانوا أهل بادية ، وإبل ، وشاء ، فقال لهم يعقوب : بلغني أنّ بمصر ملكا صالحا يبيع الطعام فتجهّزوا ، واذهبوا ؛ لتشتروا منه الطعام ، فقدموا على مصر ، فدخلوا على يوسف ، فعرفهم يوسف.

قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ، ومجاهد : عرفهم بأول ما نظر إليهم ، وهم ما عرفوه ألبتة (١).

وقال الحسن : لم يعرفهم حتّى تعرّفوا إليه. وكان كلّ من وصل إلى بابه من البلاد ، وتفحّص عنهم ، وتعرّف أحوالهم ؛ ليعرف هل هم إخوته أم لا (٢) ، فلما وصل إخوة يوسف إلى باب داره تفحص عن أحوالهم فظهر له أنهم إخوته (٣) ، وأما كونهم ما عرفوه ؛ فلأنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ أمر حجّابه بأن يوقفوهم على البعد وما كان يتكلم معهم إلّا بالواسطة أيضا ، فمهابة الملك ، وشدة الحاجة ، توجب كثرة الخوف.

وأيضا : إنما رأوه بعد وفور اللّحية ، وتغير الزيّ والهيئة ؛ لأنّهم رأوه جالسا على سرير ، وعليه ثياب الحرير ، وفي عنقه طوق من ذهب ، وعلى رأسه تاج من ذهب ، وأيضا نسوا واقعة يوسف ؛ لطول المدّة ، ويقال : إنّ من وقت ما ألقوه في الجبّ إلى هذا الوقت أربعين سنة ، وكلّ واحد من هذه الأسباب يمنع حصول المعرفة لا سيّما عند اجتماعها.

قوله (وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ) العامة على فتح الجيم ، وقرىء (٤) بكسرها ، وهما لغتان ، فيما يحتاجه الإنسان من زاد ومتاع. ومنه : جهاز العروس ، وجهاز الميت.

قال الليث ـ رحمه‌الله ـ : جهّزت القوم تجهيزا : إذا تكلّفت لهم جهازهم للسّفر ، وقال : وسمعت أهل البصرة يقولون : الجهاز بالكسر.

قال الأزهريّ (٥) : «القراء كلّهم على فتح الجيم ، والكسر لغة ليست بجيدة».

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٤٣٤).

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) سقط من : ب.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣١٩ والدر المصون ٤ / ١٩٣.

(٥) ينظر : تهذيب اللغة ٦ / ٣٤.

١٤١

فصل

قال المفسرون : حمل لكلّ واحد منهم بعيرا ، أكرمهم بالنزول وأعطاهم ما احتاجوا إليه ؛ فذلك قوله تعالى : (وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) ولم يقل بأخيكم بالإضافة ؛ مبالغة في عدم تعرفه بهم.

ولذلك فرّقوا بين مررت بغلامك ، وبغلام لك.

فإنّ الأول يقتضي عرفانك بالغلام ، وأنّ بينك وبين مخاطبك نوع عهد.

والثاني لا يقتضي ذلك ، وقد تخبر عن المعرفة إخبار النكرة ، فتقول : قال رجل كذا ، وأنت تعرفه ؛ لصدق إطلاق النكرة على المعرفة.

واعلم أنّه لا بدّ من كلام سابق يكون سببا لعرفان يوسف ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ [وطلبه ل](١) أخيهم ، وذكروا فيه وجوها :

الأول ـ وهو أحسنها ـ : أنّ عادة يوسف ـ عليه‌السلام ـ مع الكلّ أن يعطي كل واحد حمل بعير ، وكان إخوته عشرة ؛ فأعطاهم عشرة أحمال ؛ فقالوا : إنّ لنا أبا شيخا كبيرا ، وأخا آخر بقي معه ، وذكروا أنّ أباهم ـ لأجل كبر سنّه ، وشدّة حزنه ـ لم يحضر ، وأنّ أخاهم بقي في خدمة أبيه ، فلما ذكروا ذلك قال يوسف : هذا يدلّ على أنّ حبّ أبيكم له أزيد من حبّه لكم ، وهذا شيء عجيب! لأنكم مع جمالكم ، وعقلكم ، وأدبكم ، إذا كانت محبة أبيكم لذلك الأخ أكثر من محبته لكم ، دل هذا على أن ذلك أعجوبة في العقل ، والفضل ، والأدب ، فائتوني به حتى أراه.

الثاني : لعلّهم لما ذكروا أباهم ، قال يوسف : فلم تركتموه وحيدا فريدا؟.

قالوا ما تركناه وحيدا (٢) بل بقي عنده واحد ، فقال لهم : ولم استخلصه لنفسه؟ لأجل نقص في جسده؟ فقالوا : لا بل لأجل أنه يحبّه أكثر من محبته (٣) لسائر الأولاد ، فقال : لما ذكرتم أن أباكم رجل عالم حكيم ، ثم إنه خصّه بمزيد المحبة ، وجب أن يكون زائدا عليكم في الفضل ، والكمال مع أنّي أراكم فضلاء علماء حكماء ؛ فاشتاقت نفسي إلى رؤية ذلك الأخ ؛ فائتوني به.

الثالث : قال المفسرون : ولما دخلوا عليه وكلّموه بالعبرانيّة ، قال لهم : من أنتم؟ وما أمركم؟ فإني أنكرت شأنكم؟.

قالوا : قوم من أرض الشام رعاة ، أصابنا الجهد ؛ فجئنا نمتار ، فقال : لعلكم جئتم عيونا تنظرون عورة بلادي ، قالوا : معاذ الله! ما نحن بجواسيس ؛ إنما نحن إخوة بنو أب

__________________

(١) في ب : عن حال.

(٢) سقط من : ب.

(٣) في ب : على.

١٤٢

واحد ، وهو شيخ صدّيق يقال له يعقوب نبيّ من أنبياء الله ـ تعالى ـ.

قال : كم أنتم؟ قالوا : كنّا اثني عشر ، هلك منّا واحد ، وبقي واحد مع الأب ؛ يتسلّى به عن ذلك الولد الذي هلك ، ونحن عشرة.

قال : فمن يعلم أنّ الذي تقولونه حق؟.

قالوا : أيّها الملك : إننّا ببلاد لا يعرفنا فيها أحد.

قال : فدعوا بعضكم عندي ؛ رهينة ، وائتوني بأخ لكم ، ليبلغ لكم رسالة أبيكم إن كنتم صادقين.

فعند هذا أقرعوا بينهم ؛ فأصابت القرعة شمعون ، وكان أحسنهم رأيا في يوسف ، فخلفوه عنده.

ثم إنه ـ تعالى ـ حكى عنه أنّه قال : (ألا ترون أني أوفي الكيل) ، أي : أوفّيه ، ولا أبخسه ، وأزيدكم حمل بعير ؛ لأجل أخيكم.

(وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) أي : خير المضيفين ؛ لأنه أحسن إنزالهم ، وأحسن ضيافتهم.

قال ابن الخطيب ـ رحمه‌الله ـ : «وهذا الكلام يضعّف ما نقل عن المفسرين بأنّه اتّهمهم ، ونسبهم إلى أنّهم جواسيس ، ولم يشافههم بذلك الكلام فلا يليق به أن يقول لهم : (ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين) ، وأيضا : بعيد من يوسف ـ مع كونه ـ صديقا ـ أن يقول لهم : أنتم جواسيس وعيون ، مع أنه يعرف براءتهم عن هذه التّهمة ؛ لأن البهتان لا يليق بحال الصديق.

ثم قال (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي) ، أي : ليس لكم عندي طعام أكيله لكم ، (وَلا تَقْرَبُونِ) أي : لا تقربوا داري وبلادي ، وكانوا في نهاية الحاجة إلى الطعام ، وما يمكنهم تحصيله إلّا من عنده ، فإذا منعهم من الحضور ، كان ذلك نهاية التّخويف.

قوله (وَلا تَقْرَبُونِ) يحتمل أن تكون «لا» ناهية ؛ فيكون (تَقْرَبُونِ) مجزوما ، ويحتمل أن تكون لا النافية ، وفيها وجهان :

أحدهما : أن يكون داخلا في حيز الجزاء معطوفا عليه ، فيكون أيضا مجزوما على ما تقدم.

والثاني : أنه نفي مستقل غير معطوف على جزاء الشرط ، وهو خبر في معنى النّهي ؛ كقوله : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ) [البقرة : ١٩٢].

فصل

لما سمعوا هذا الكلام من يوسف ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ (قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ) ، أي : نطلبه ، ونجتهد في أن يرسله معنا ، (وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) ما أمرتنا به ، والغرض من التّكرير ؛ التأكيد.

١٤٣

وقيل : (وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) أي : كل ما في وسعنا من هذا الباب.

قوله تعالى : (وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (٦٤)

قوله تعالى : لفتينه قرأ الأخوان ، وحفص : «لفتيانه» ، والباقون (١) : «لفتيته» قال أبو عليّ الفارسيّ (٢) ـ رحمه‌الله ـ : «والفتيان جمع كثرة ، والفتية : جمع قلّة ، فالتكثير بالنسبة إلى المأمورين ، والقلة بالنسبة إلى المتناولين ، وفتى : يجمع على فتيان ، وفتية ، وقد تقدّم هل فعلة في الجموع اسم جمع ، أو جمع تكسير ، ومثله «أخ» ؛ فإنه جمع على إخوة وإخوان ؛ وهما لغتان ؛ مثل الصّبيان والصّبية».

فصل

اتفق الأكثرون على أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أمر بوضع تلك البضاعة ـ وهي ثمن طعامهم ، في رحالهم بحيث لا يعرفون ذلك.

وقيل : إنّهم كانوا عارفين به.

وهو ضعيف ؛ لقوله : (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).

وذكر في السبب الذي لأجله أمر يوسف بوضع بضاعتهم في رحالهم وجوها :

أولها : أنّهم إذا فتحوا المتاع ، فوجدوا بضاعتهم فيه ؛ علموا أنّ ذلك كرم من يوسف ؛ فيبعثهم ذلك على العود إليه.

وثانيها : خاف ألّا يكون عندهم غيره ؛ لأنّه زمان قحط.

وثالثها : رأى أنّ أخذ ثمن الطّعام من أبيه ، وإخوته ـ مع شدة حاجتهم إلى الطعام ـ لؤم.

ورابعها : قال الفراء ـ رحمه‌الله ـ : إنّهم متى شاهدوا بضاعتهم في رحالهم ؛ فيحسبوا أنّ ذلك وقع سهوا ، وهم أنبياء وأولاد أنبياء ؛ فيحملهم ذلك على رد البضاعة ؛ نفيا للغلط ولا يستحلّون إمساكها.

وخامسها : أراد أن يحسن إليهم على وجه لا يلحقهم منه عتب ، ولا منّة.

__________________

(١) ينظر : الحجة ٤ / ٤٣٠ وإعراب القراءات السبع ١ / ٣١٢ وحجة القراءات ٣٦١ والإتحاف ٢ / ١٥٠ والمحرر الوجيز ٣ / ٢٥٩ والبحر المحيط ٥ / ٣٢٠ والدر المصون ٤ / ١٩٣.

(٢) ينظر : الحجة ٤ / ٤٣٠.

١٤٤

وسادسها : قال الكلبيّ : تخوّف ألّا يكون عند أبيه من الورق ما يرجعون به مرة أخرى(١).

وسابعها : أنّ مقصوده أن يعرفوا أنّه لم يطلب أخاهم ؛ لأجل الإيذاء والظلم ؛ وإلا لطلب زيادة في الثّمن.

وثامنها : أن يعرف أباه أنه أكرمهم ، وطلبهم بعد الإكرام ؛ فلا يثقل على أبيه إرسال أخيه.

وتاسعها : أراد أن يكون ذلك المال معونة لهم على شدّة الزمن وكان يخاف اللصوص من قطع الطّريق ، فوضع الدّراهم في رحالهم ؛ حتى تبقى مخفية إلى أن يصلوا إلى أبيهم.

وعاشرها : أنه قابل مبالغتهم في الإساءة مبالغة في الإحسان إليهم.

وقوله : (يَرْجِعُونَ) يحتمل أن يكون متعدّيا ، وحذف مفعوله ، أي : يرجعون البضاعة ؛ لأنه عرف من دينهم ذلك ، وأن يكون قاصرا بمعنى يرجعون إلينا.

قوله تعالى : (فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) فيه قولان :

أحدهما : أنّهم لما طلبوا الطعام لأبيهم وللأخ الباقي عند أبيهم ، منعوا منه.

والثاني : أنه منع الكيل في المستقبل ، وهو قول يوسف : (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ) ، قال الحسن ـ رحمه‌الله ـ : معناه : يمنع منّا الكيل إن لم نحمل أخانا معنا ، وهذا أولى ؛ لأنه لم يمنعهم الكيل ؛ بل اكتال لهم ، وجهّزهم ، ويدلّ على ذلك قوله تعالى : (فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ) ، والمراد بالكيل : الطعام ؛ لأنه يكال.

قوله «نكتل» قرأ الأخوان (٢) : بالياء من تحت ، أي : يكيل أخونا.

والباقون بالنون ، أي : نكيل نحن ، وهو الطعام ، وهو مجزوم على جواب الأمر.

ويحكى أنّه جرى بحضرة المتوكّل ، أو وزيره ابن الزّيات : بين المازنيّ ، وابن السّكيت مسألة ، وهي : ما وزن «نكتل»؟ فقال يعقوب : نفتل ، فسخر به المازني وقال : إنّما وزنها نفتعل (٣).

قال شهاب الدّين (٤) ـ رحمه‌الله ـ : «وهذا ليس بخطأ ؛ لأنّ التّصريفيين نصّوا على أنّه إذا كان في الكلمة حذف أو قلب حذفت في الزنة ، وقلبت ، فتقول في وزن : قمت ،

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٤٣٥) ، والرازي (١٨ / ١٣٤).

(٢) ينظر : السبعة ٣٤٩ ، ٣٥٠ والحجة ٤ / ٤٣٢ وإعراب القراءات السبع ١ / ٣١٣ وحجة القراءات ٣٦١ والإتحاف ٢ / ١٥٠ والمحرر الوجيز ٣ / ٢٥٩ والبحر المحيط ٥ / ٣٢٠ والدر المصون ٤ / ١٩٤.

(٣) ينظر : هذه القصة في اللسان (كيل) ، وروح المعاني ١٣ / ١١.

(٤) ينظر : الدر المصون ٤ / ١٩٤.

١٤٥

وبعت : فعت ، وفعت ، ووزن «عدة» «علة» ، وإن شئت أتيت بالأصل ؛ فعلى هذا لا خطأ في قوله : وزن «نكتل» : نفتل ؛ لأنه اعتبر اللفظ ، لا الأصل ، ورأيت في بعض الكتب أنّ وزنها : «نفعل» بالعين ، وهذا خطأ محض ، على أنّ الظاهر من أمر يعقوب أنه لم يتقن هذا ، ولو أتقنه لقال : وزنه على الأصل كذا ، وعلى اللفظ كذا ، ولذلك أنحى عليه المازنيّ ، فلم يرد عليه بشيء».

ثم قال سبحانه وتعالى : (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) ضمنوا كونهم حافظين له ، فلما قالوا ذلك ، قال يعقوب ـ عليه‌السلام ـ (هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ) ، والمعنى : أنكم ذكرتم مثل هذا الكلام في يوسف ، وضمنتم لي حفظه حيث قلتم : (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) وهاهنا ذكرتم هذا اللفظ بعينه ، فهل يكون هاهنا إلا ما كان هناك ، فكما لا يحصل الأمان هناك لا يحصل هنا.

قوله : (إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ) منصوب على نعت مصدر محذوف ، أو على الحال منه أي : إلّا ائتمانا كائتمانه لكم على أخيه ، شبه ائتمانه لهم على هذا بائتمانه لهم على ذلك ، و «من قبل» متعلق ب «أمنتكم».

قال : (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً) ، قرأ الأخوان (١) ، وحفص «حافظا» وفيه وجهان :

أظهرهما : أنه تمييز ؛ كقوله : هو خيرهم رجلا ، ولله درّه فارسا.

قال أبو البقاء (٢) : «ومثل هذا يجوز إضافته» وقد قرأ بذلك الأعمش (٣) : فالله خير حافظ» والله ـ تعالى ـ متّصف بأن حفظه يزيد على حفظ غيره ؛ كقولك : هو أفضل عالم.

والثاني : أنه حال ذكر ذلك الزمخشريّ وأبو البقاء ، وغيرهما.

قال أبو حيّان (٤) : وقد نقله عن الزمخشري وحده : «وليس بجيّد ؛ لأنّ فيه تقييد خير بهذه الحال».

قال شهاب الدّين (٥) : «ولا محذور ، فإنّ هذه الحال لازمة ؛ لأنّها مؤكدة لا مبنية وليس هذا بأول حال وردت لازمة».

وقرأ الباقون «حفظا» ولم يجيزوا فيها غير التّمييز ؛ لأنّهم لو جعلوها حالا ، لكانت من صفة ما يصدق عليه «خير» ولا يصدق ذلك على ما يصدق عليه «خير» ؛ لأن الحفظ معنى من المعاني.

__________________

(١) ينظر : السبعة ٣٥٠ والحجة ٤٣٨ ، ٤٣٩ وإعراب القراءات السبع ١ / ٣١٤ وحجة القراءات ٣٦٢ والإتحاف ٢ / ١٥٠ والمحرر الوجيز ٣ / ٢٦٠ والبحر المحيط ٥ / ٣٢٠ والدر المصون ٤ / ١٩٤ ، ١٩٥.

(٢) ينظر : الإملاء ٢ / ٥٥.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٨٦ والبحر المحيط ٥ / ٣٢٠ والدر المصون ٤ / ١٩٤.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٢٠.

(٥) ينظر : الدر المصون ٤ / ١٩٥.

١٤٦

ومن يتأول : «زيد عدل» على المبالغة أو على حذف مضاف ، أو على وقوع المصدر موقع الوصف يجيز في «حفظا» أيضا الحاليّة بالتأويلات المذكورة ، وفيه تعسّف.

وقرأ أبو (١) هريرة : «خير الحافظين ، وأرحم الرّاحمين» قيل : معناه : وثقت بكم في حفظ يوسف ، فكان ما كان ، والآن أتوكّل على الله في حفظ بنيامين.

فإن قيل : لم بعثه معهم وقد شاهد ما شاهد؟.

فالجواب من وجوه :

الأول : أنهم كبروا ، ومالوا إلى الخير والصّلاح.

والثاني : أنّه كان يشاهد أنّه ليس بينهم وبين بنيامين من الحسد ، والحقد مثل ما كان بينهم وبين يوسف ـ عليه‌السلام ـ.

والثالث : أن ضرورة القحط أحوجته إلى ذلك.

والرابع : لعلّه ـ تعالى ـ أوحى إليه ، وضمن له حفظه ، وإيصاله إليه ، فإن قيل : هل يدلّ قوله : (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً) على أنّه أذن في ذهاب بنيامين في ذلك الوقت.

فقال الأكثرون : يدلّ عليه. وقال آخرون : لا يدل عليه ، وفيه وجهان :

الأول : أنّ التقدير : أنّه لو أذن في خروجه معهم ، لكان في حفظ الله ـ تعالى ـ لا في حفظهم.

الثاني : لما ذكر يوسف ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ قال : (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً) أي: ليوسف ؛ لأنه كان يعلم أنه حيّ.

قوله تعالى : (وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦) وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ)(٦٧)

قوله تعالى : (وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ) الآية ، المتاع : ما يصلح لأن يستمتع به ، وهو عامّ في كلّ ما يستمتع به ، والمراد به ههنا : الطعام الذي حملوه ، ويجوز أن يراد به أوعية الطعام ، (وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ) ، ثمن البضاعة.

(رُدَّتْ إِلَيْهِمْ) ؛ قرأ الأكثرون بضمّ الراء ، وقرأ علقمة ويحيى (٢) ، والأعمش :

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٨٦ والبحر المحيط ٥ / ٣٢٠.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٦٠ والبحر المحيط ٥ / ٣٢١ والدر المصون ٤ / ١٩٥.

١٤٧

«ردّت» بكسر الرّاء ، على نقل حركة الدّال المدغمة إلى الراء بعد توهّم خلوها من حركتها ، وهي لغة بني ضبّة.

على أنّ قطربا حكى عن العرب : نقل حركة العين إلى الفاء في الصحيح (١) ؛ فيقولون : ضرب زيد ، بمعنى : ضرب زيد ، وقد تقدم ذلك في قوله (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا) [الأنعام : ٢٨] في الأنعام.

قوله «ما نبغي» في «ما» هذه وجهان :

أظهرهما : أنها استفهامية ، فهي مفعول مقدم ، واجب التقديم ؛ لأن لها صدر الكلام ، أي : أيّ شيء نبغي ، أعطانا الطعام على أحسن الوجوه ، فأي شيء نبغي وراء ذلك.

والثاني : أن تكون نافية ولها معنيان :

أحدهما : قال الزجاج ـ رحمه‌الله ـ : ما بقي لنا ما نطلب ، أي : بلغ الإكرام إلى غاية ، ما نبغي وراءها شيئا آخر. وقيل : المعنى أنّه ردّ بضاعتنا إلينا ، فنحن لا نبغي عند رجوعنا إليه بضاعة أخرى ، فإنّ هذه التي معنا كافية لنا.

والثاني : ما نبغي ، من البغي ، أي : ما افترينا ، ولا كذبنا على هذا الملك في إكرامه وإحسانه.

قال الزمخشريّ : «ما نبغي في القول ، وما نتزيّد فيما وصفنا لك من إحسان الملك».

وأثبت القراء هذه الياء في «نبغي» وصلا ووقفا ، ولم يجعلوها من الزّوائد ، بخلاف التي في الكهف ، في قوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ) ، والفرق أنّ «ما» ـ هناك ـ موصولة ، فحذف عائدها ، والحذف يؤنس بالحذف.

وهذه عبارة مستفيضة عند أهل هذه الصناعة ؛ يقولون : التغيير يؤنس بالتغيير ، بخلافها هنا ، فإنها : إما استفهامية ، وإما نافية ، ولا حذف على القولين حتى يؤنس بالحذف.

وقرأ عبد الله (٢) ، وأبو حيوة ، وروتها عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما تبغي» بالخطاب و «ما» تحتمل الوجهين ـ أيضا ـ في هذه القراءة ، والجملة من قوله : «هذه بضاعتنا» يحتمل أن تكون مفسرة لقولهم «ما نبغي» وأن تكون مستأنفة.

قوله «ونمير» معطوفة على الجملة الاسمية ، وإذا كانت «ما» نافية جاز أن تعطف على «نبغي» فيكون عطف جملة فعلية على مثلها.

__________________

(١) في ب : الفصيح.

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٨٦ والمحرر الوجيز ٣ / ٢٦٠ والبحر المحيط ٥ / ٣٢١ والدر المصون ٤ / ١٩٥.

١٤٨

وقرأت عائشة (١) ، وأبو عبد الرحمن ـ رضي الله عنهما ـ «ونمير» من أماره إذا جعل له الميرة ، يقال : ماره يميره ، وأماره يميره ، والميرة : جلب الخير ؛ قال : [الوافر]

٣١١٨ ـ بعثتك مائرا فمكثت حولا

متى يأتي غياثك من تغيث (٢)

والبعير لغة يقع على الذكر خاصة ، وأطلقه بعضهم على الناقة أيضا (٣) وجعله نظير «إنسان» ويجوز كسر بائه إتباعا لعينه ، ويجمع في القلّة على أبعرة ، وفي الكثرة على بعران.

والمعنى : ونزداد كيل بعير بسبب حضور أخينا ؛ لأنه كان يكيل لكل رجل حمل بعير.

ثم قال : (ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) قال مقاتل ـ رحمه‌الله ـ : ذلك كيل يسير على هذا الرجل المحسن ، وحرصه على البذل (٤) ، وهو اختيار الزجاج.

وقيل : (ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) ، أي قصير المدة ليس سبيل مثله أن تطول مدته بسبب الحبس والتّأخير. وقيل : ذلك الذي يدفع إلينا بدون أخينا شيئا يسيرا قليلا ، لا يكفينا وأهلنا ؛ فابعث أخانا معنا ؛ لكي يكثر ما نأخذه.

وقال مجاهد : البعير ههنا الحمار (٥) ، (كَيْلَ بَعِيرٍ) أي : حمل حمار ، وهي لغة ، يقال للحمير بعير ، وهم كانوا أصحاب حمر ، والأول أصحّ ؛ بأنه البعير المعروف.

قوله تعالى : (قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) الآية.

الموثق : مصدر بمعنى الثقة ، ومعناه : العهد الذي يوثق به ، فهو مصدر بمعنى المفعول ، يقول : لن أرسله معكم حتى تعطوني عهدا يوثق به.

وقوله (مِنَ اللهِ) أي : عهدا موثوقا به ؛ بسبب تأكد الشهادة من الله ، أو بسبب القسم بالله عليه.

والموثق : العهد المؤكّد بالقسم ، وقيل : المؤكّد بإشهاد الله على نفسه.

قوله (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ) هذا جواب للقسم المضمر في قوله «موثقا» ؛ لأنّ معناه حتى تحلفوا لي لتأتنني به.

قوله (إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) في هذا الاستثناء أوجه :

أحدها : أنه منقطع ، قاله أبو البقاء. يعني فيكون تقدير الكلام : لكن إذا أحيط بكم

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٦٠ والبحر المحيط ٥ / ٣٢١ والدر المصون ٤ / ١٩٥.

(٢) البيت لعائشة بنت سعد كما في اللسان (غوث) وقبل للعامري ينظر : الصحاح ١ / ٢٨٩ والتهذيب والطبري ١٦ / ١٦٢ والقرطبي ٩ / ٢٢٤ والبحر المحيط ٥ / ٣١٣ والدر المصون ٤ / ١٩٥.

(٣) سقط من : ب.

(٤) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٨ / ١٣٦).

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٤٧) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٤٨) وزاد نسبته إلى أبي عبيد وابن المنذر.

١٤٩

خرجتم من عتبي ، وغضبي عليكم إن لم تأتوني به ؛ لوضوح عذركم.

والثاني : أنه متصل ، وهو استثناء من المفعول له العام. قال الزمخشريّ : «فإن قلت : أخبرني عن حقيقة هذا الاستثناء ، ففيه إشكال؟ قلت : (أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) مفعول له ، والكلام المثبت ، الذي هو قوله (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ) في معنى النّفي ، معناه : لا تمتنعون من الإتيان به ؛ إلا للإحاطة بكم ، أو لا تمتنعون منه لعلة واحدة وهي (أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) فهو استثناء من أعمّ العامّ في المفعول له ، والاستثناء من أعم العام لا يكون إلا في النفي وحده ؛ فلا بدّ من تأويله بالنّفي ، ونظيره في الإثبات المتأول بالنفي بمعنى النفي قولهم : أقسمت بالله لما فعلت وإلّا فعلت بزيد يريد ما أطلب منك إلّا الفعل». ولوضوح هذا الوجه لم يذكره غيره.

الثالث : أنه مستثنى من أعمّ العام في الأحوال. قال أبو البقاء : تقديره : لتأتنّني به على كلّ حال ، إلا في حال الإحاطة بكم.

قال شهاب الدّين (١) : «قد نصّوا على أنّ الناصبة للفعل ، لا تقع موقع الحال وإن كانت مؤولة بمصدر ، يجوز أن تقع موقع الحال ؛ لأنهم لم يغتفروا في المؤول ما يغتفرونه في الصّريح ، فيجيزون : جئتك ركضا ، ولا يجيزون : جئتك أن أركض وإن كان في تأويله».

الرابع : أنّه مستثنى من أعمّ العامّ في الأزمان ، والتقدير : لتأتنّني به في كل وقت إلا في وقت الإحاطة بكم ، وقد تقدم [البقرة : ٢٥٨] الخلاف في هذه المسألة ، وأنّ أبا الفتح أجاز ذلك كما يجوزه في المصدر الصريح ، فكما تقول : «آتيك صياح الدّيك» يجوز أن تقول : آتيك أن يصيح الدّيك ، وجعل (٢) من ذلك قول تأبّط شرّا : [الطويل]

٣١١٩ ـ وقالوا لها : لا تنكحيه فإنّه

لأوّل نصل أن يلاقي مجمعا (٣)

وقول أبي ذؤيب الهذليّ : [الطويل]

٣١٢٠ ـ وتالله ما إن شهلة أمّ واحد

بأوجد منّي أن يهان صغيرها (٤)

قال : تقديره : وقت ملاقاته الجمع ، ووقت إهانة صغيرها.

قال أبو حيّان (٥) : «فعلى ما قاله يجوز تخريج الآية ، ويبقى (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ) على ظاهره من الإثبات».

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٤ / ١٩٦.

(٢) في ب : وجعلوا.

(٣) ينظر البيت في ديوانه ص ١١٢ والهمع ١ / ٢٣٩ والدرر ١ / ٣٠٠ وشرح ديوان الحماسة ٢ / ٤٩١ والبحر المحيط ٥ / ٣٢٢ والحماسة لأبي تمام ١٠ / ١٨٩ والدر المصون ٤ / ١٩٧.

(٤) نسب البيت لساعدة بن جؤية ينظر : ديوان الهذليين ٢ / ٢١٤ والمغني ١ / ٣٠٥ وشواهد المغني ٥ / ٢٤٤ والبحر المحيط ٥ / ٣٢٢ والدر اللقيط ٥ / ٣٢٥ والألوسي ١٣ / ١٤ والدر المصون ٤ / ١٩٧.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٢٢.

١٥٠

قال شهاب الدّين (١) ـ رحمه‌الله ـ : «الظّاهر من هذا أنه استثناء مفرغ ، ومتى كان مفرغا وجب تأويله بالنفي».

ومنع ابن الأنباري ذلك في «أن» وفي «ما» أيضا ، قال : «فيجوز أن تقول : خروجنا صياح الدّيك ، ولا يجوز : خروجنا أن يصيح الدّيك ، أو ما يصيح الديك. فاغتفر في الصريح ما لم يغتفر في المؤوّل ، وهذا قياس ما تقدم في منع وقوع أن وما في حيّزها موقع الحال ، ولك أن تفرق بينهما بأنّ الحال تلزم التنكير ، و «أن» وما في حيزها نصّوا على أنها في رتبة المضمر في التعريف ، وذلك يغني عن وقوعها موقع الحال ، بخلاف الظّرف ، فإنه لا يشترط تنكيره ، فلا يمتنع وقوع «أن» وما في حيزها موقعه».

فصل

قال الواحديّ : للمفسرين في الإحاطة قولان :

الأول : معناه الهلاك. قال مجاهد : إلّا أن تموتوا كلكم فيكون ذلك عذرا عندي ، والعرب تقول : أحيط بفلان إذا قرب هلاكه (٢).

قال الزمخشري (٣) : قال تعالى : (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) [الكهف : ٤٢] أي أصابه ما أهلكه ، وقال تعالى : (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) [يونس : ٢٢] ، وأصله ؛ أنّ من أحاط به العدوّ ، وانسدت عليه مسالك النجاة ، ودنا هلاكه ؛ فقد أحيط به.

والثاني : قال قتادة : ومعناه إلّا أن تصيروا مغلوبين مقهورين ، لا تقدرون على الرجوع (٤).

(فلماءاتوه موثقهم) ، أي : أعطوه عهدهم. قال يعقوب ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ (اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) أي : شهيد بمعنى شاهد.

وقيل : حافظا ، أي : أنه موكل إليه هذا العهد فإن وفيتم به ، جازاكم خير الجزاء ، وإن غدرتم به ، كافأكم بأعظم العقوبات.

قوله تعالى : (وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ) الآية ، وذلك أنه كان يخاف عليهم العين ؛ لأنّهم كانوا أعطوا جمالا ، وقوة ، وامتداد قامة ، وكانوا ولد رجل واحد ، فأمرهم أن يتفرّقوا في دخولها ؛ لئلا يصابوا بالعين ، فإن العين حقّ ، ويدل عليه وجوه :

الأول : روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه كان يعوّذ الحسن فيقول : «أعوذ بكلمات الله التّامة من كلّ شيطان وهامّة ، ومن كلّ عين لامّة» (٥).

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٤ / ١٩٧.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٤٨).

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٨٧.

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٤٣٦).

(٥) أخرجه البخاري (٦ / ٤٧٠) في كتاب الأنبياء باب قول الله تعالى واتخذ الله إبراهيم خليلا (٣٣٧١) وابن ماجه (٣٥٢٥) وعبد الرزاق في المصنف (٩٢٦٠) وأبو نعيم في الحلية ٤ / ٢٢٩ ، ٢ / ٤٥.

١٥١

ويقول : هكذا كان يعوذ إبراهيم إسماعيل وإسحاق ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

وروي عن عبادة بن الصّامت رضي الله عنه قال : دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أوّل النّهار فرأيته شديد الوجع ، ثمّ عدت إليه آخر النّهار فوجدته معافى ، فقال : «إنّ جبريل ـ عليه الصلاة والسلام ـ أتاني فرقاني ، فقال : بسم الله أرقيك من كلّ شيء يؤذيك ، ومن كلّ عين وحاسد الله يشفيك (١) ، قال ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فأفقت».

وأتي بابني جعفر ـ رضي الله عنه ـ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكانوا غلمانا بيضا ، فقيل : يا رسول الله «إنّ العين تسرع إليهما ، أفأسترقي لهما من العين ، فقال ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ : نعم» (٢).

ودخل رسول الله بيت أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ وعندها صبيّ يشتكي فقالوا يا رسول الله : أصابته العين ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا تسترقون له من العين».

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «العين حقّ ولو كان شيء يسبق القدر لسبقت العين القدر» (٣).

وجاء في الأثر : «إن العين تدخل الرّجل القبر والجمل القدر» (٤).

وقالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ : «كان يأمر العائن أن يتوضّأ ، ثمّ يغتسل منه المعين الذي أصيب بالعين» (٥).

والذين أثبتوا العين قالوا : إنه يبدو من العين أجزاء ، فتتصل بالشيء المستحسن ؛ فتؤثّر ، وتسري فيه ، كما يؤثر السّم النار ، والنصوص النبوية نطقت به ، والتجارب من الزمن القديم ساعدت عليه.

وروى الزمخشري في كتاب «ربيع الأبرار» ، قال الجاحظ : علماء الفرس ، والهند ، وأطباء اليونانيين ، ودهاة العرب ، وأهل التجربة من نازلة الأمصار ، وحذّاق المتكلمين ،

__________________

(١) أخرجه مسلم (٤ / ١٧١٨) في السلام : باب الطب والمرضى والرقى (٤٠ / ٢١٨٦) وأخرجه أحمد (٢ / ٤٤٦ ، ٦ / ٣٣٢) وابن حبان ذكره الهيثمي في الموارد (١٤١٧) والطحاوي في معاني الآثار ٤ / ٣٢٩ ، والحاكم في المستدرك (٢ / ٥٤١ ، ٣ / ٣٩٣) وذكره الهيثمي في المجمع ٥ / ١١٤ وعبد الرزاق في المصنف (١٩٧٧٩) وابن سعد (٢ / ٢ / ١٦).

(٢) أخرجه الترمذي (٤ / ٣٩٥) في الطب باب ما جاء في الرقية (١٠٥٩) وأخرجه ابن ماجه (٢ / ١١٦٠) ، في الطب : باب من استرقى من العين (٣٥١٠) وأحمد في المسند ٦ / ٤٣٨.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١ / ١٧٢) وابن السني في «عمل اليوم والليلة» (٥٦٤).

وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد (٥ / ١١٥) وقال رواه الطبراني في الأوسط عن شيخه سهل بن مودود ولم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح.

(٤) أخرجه ابن عدي (٥ / ١٨٣١) وأبو نعيم (٧ / ٩٠) والخطيب (٩ / ٢٤٤) والقضاعي في «مسند الشهاب» (١٠٥٧ ، ١٠٥٨) عن جابر مرفوعا.

(٥) أخرجه أبو داود (٤ / ٩) في كتاب الطب : باب ما جاء في العين (٣٨٨٠).

١٥٢

يكرهون الأكل بين يدي السّباع ؛ يخافون عيونها ؛ لما فيها من النّهم ، والشّره ، ولما ينحلّ عند ذلك من أجوافها من البخار الرّديء ، وينفصل من عيونها إذا خالط الإنسان نقصه وأفسده ، وكانوا يكرهون قيام الخدم بالباب والأشربة على رءوسهم مخافة العين ، وكانوا يأمرون بإشباعهم قبل أن يأكلوا ، وكانوا يقولون في الكلب والسّنور : إمّا أن يطرد ، وإمّا أن يشغل بما يطرح له ، قال : ونظيره : أن الرجل يضرب الحية بعصا ؛ فيموت الضارب ؛ لأنّ السّمّ فصل من الحية ، فسرى فيه حتى داخله ، ويديم الإنسان النظر إلى العين المحمرة ؛ فيعتري عينه حمرة.

وعن الأصمعيّ ـ رحمه‌الله ـ : أنّ عيونا كان يقول : إذا رأيت (١) الشّيء يعجبني ، وجدت حرارة تخرج من عيني.

وعنه : كان عندنا عيّانان ، فمرّ أحدهما بحوض من حجارة ، فقال : بالله ، ما رأيت كاليوم مثله ، فانصدع فلقتين ، فصبّ ، فمرّ عليه فقال : رأيتك تقل ما خزرت أهلك فيك ، فتطاير أربعا.

وسمع آخر صوت بول من وراء جدار فقال : إنّك تراني كثير الشّخب جيّد البول ، قالوا : هذا آتيك ، قال : وانقطاع ظهراه ، فقيل : لا بأس فقال : لا يبول بعدها أبدا ، فما بال حتّى مات.

وسمع صوت شخب بقرة فأعجبه ، فقال : أيتهنّ هذه ، فواروا بأخرى عنها ؛ فهلكتا جميعا ، المورى بها ، والمورى عنها.

والمنقولات في هذا كثيرة ؛ فثبت أنّ الإصابة بالعين حقّ ، لا يمكن إنكاره.

قال القرطبيّ (٢) : وإذا كان هذا معنى الآية ؛ فيكون فيها دليل على التّحرّز من العين ، وواجب على كل مسلم إذا أعجبه شيء أن يبرك ، فإنه إذا دعا بالبركة صرف المحذور لا محالة ، ألا ترى لقوله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ : «ألا برّكت» فدلّ على أنّ العين لا تضرّ ، ولا تعدو إذا برّك العائن ، وأنها إنّما تعدو ؛ إذا لم يبرك ، والتّبريك أن يقول : «تبارك الله أحسن الخالقين ، اللهمّ بارك فيه» ، وإذا أصاب العائن بعينه ؛ فإنّه يؤمر بالاغتسال ، ويجبر على ذلك إن أبى ؛ لأنّ الأمر للوجوب ، لا سيّما هنا ، فإنّه يخاف على المعين الهلاك ، ولا ينبغي لأحد أن يمنع أخاه ما ينتفع به ، ولا يضره هو ، ولا سيما إذا كان بسببه ، وكان الجاني عليه.

قال القرطبيّ (٣) : «من عرف بالإصابة بالعين منع من مداخلة النّاس دفعا للضّرورة».

وقال بعض العلماء : يأمره الإمام بلزوم بيته ، وإن كان فقيرا رزقه ما يقوم به ، ويكفّ أذاه عن الناس.

__________________

(١) في ب : وجدت.

(٢) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ٩ / ١٤٨.

(٣) ينظر : المصدر السابق.

١٥٣

وقيل : ينفى. والّذي ورد في الحديث أنّه لم ينف العائن ، ولا أمره بلزوم بيته ولا حبسه ، بل قالوا : يكون الرّجل الصّالح عائنا ، وأنه لا يقدح فيه ، ولا يفسّق به ومن قال : يحبس ، ويؤمر بلزوم بيته ؛ فذلك للاحتياط ، ودفع ضرره.

قال الجبائيّ : إنّ أبناء يعقوب اشتهروا ، وتحدّث النّاس بهم ، وبحسنهم ، وكمالهم فقال : (لا تَدْخُلُوا) تلك المدينة (مِنْ بابٍ واحِدٍ) على ما أنتم عليه من العدد ، والهيئة ، ولم يأمن

عليهم حسد النّاس ، أو قال : لم يأمن عليهم أن يخافهم الملك على ملكه ، فيحبسهم.

وهذا وجه محتمل لا إنكار فيه إلّا أنّ القول الأوّل أولى ؛ لأنّه لا امتناع فيه بحسب العقل ، والعرف كما بيّنا ، والمتقدّمون من المفسرين أطبقوا عليه ، فوجب المصير إليه.

ونقل عن الحسن أنه قال : خاف عليهم العين ، فقال : (لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ) ثمّ رجع إلى علمه ، فقال : (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) ، وعرف أن العين ليست بشيء (١).

وكان قتادة يفسّر الآية بإصابة العين ، ويقول : ليس في قوله : (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) إبطال له ؛ لأن العين ، وإن صحّ ، فالله قادر على دفع أثره (٢).

وقال النّخعيّ : كان عالما بأنّ ملك مصر هو ولده يوسف إلّا أنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ ما أذن له في إظهار ذلك ، فلمّا بعث أولاده إليه ، وقال : (لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ) ، وكان غرضه أن يصل بنيامين إلى يوسف في وقت الخلوة ، وقوله : (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) فالإنسان مأمور بأن يراعي الأسباب المعتبرة في هذا العالم ، ومأمور بأن يجزم بأنّه لا يصل إليه إلّا ما قدره الله ـ تعالى ـ وأنّ الحذر لا ينجي من القدر ، فإنّ الإنسان مأمور بالحذر عن الأشياء المهلكة ، والأغذية الضّارة ، وبالسّعي في تحصيل المنافع ، ودفع المضار بقدر الإمكان ، ثمّ مع ذلك ينبغي أن يكون جازما بأنّه لا يصل إليه إلّا ما قدره الله ولا يحصل في الوجود إلّا ما أراد الله ، فقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ (لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ) إشارة إلى رعاية الأسباب المعتبرة في هذا العالم ، وقوله : (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) إشارة إلى عدم الالتفات إلى الأسباب وإلى الالتفات إلى التّوحيد المحض ، والبراءة عن كلّ شيء سوى الله ـ تعالى (٣).

فإن قيل : كيف السّبيل إلى الجمع بين هذين القولين (٤)؟.

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٨ / ١٣٩).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٤٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٤٨) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٣) ينظر : تفسير الرازي (١٨ / ١٣٩).

(٤) في ب : العقلين.

١٥٤

فالجواب : أنّ هذا السّؤال غير مختصّ به ، فإنه لا نزاع في أنّه لا بدّ من إقامة الطّاعات والاحتراز من السّيئات ، مع أنّا نعتقد أنّ السّعيد من سعد في بطن أمه ، والشّقي من شقي في بطن أمّه ، فكذ هاهنا.

وأيضا : نأكل ، ونشرب ، ونحترز عن السموم ، وعن الدّخول في النّار ، مع أنّ الموت والحياة لا يحصلان إلا بتقدير الله ـ سبحانه وتعالى ـ ، فكذا ههنا ، فظهر أنّ السؤال ليس مختصّا بهذا المقام ، بل هو بحث عن سرّ مسألة الخير ، والشرّ.

والحقّ أن العبد يجب عليه أن يسعى بأقصى الجهد ، والقدرة ، وبعد السّعي البليغ ، يعلم أنّ كل ما يدخل في الوجود لا بدّ وأن يكون بمشيئة الله ـ عزوجل ـ وسابق حكمه ، وحكمته.

ثمّ إنّه ـ تعالى ـ أكّد هذا المعنى ، فقال : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) ، وهذا من أدلّ الدّلائل على صحّة القول بالقضاء ، والقدر ؛ لأنّ الحكم عبارة عن الإلزام والمنع ومنه سميت حكمة الدّابّة بهذا الاسم ؛ لأنّها تمنع الدّابّة من الحركات الفاسدة والحكم إنّما يسمى حكما ؛ لأنه يرجح أحد طرفي الممكن على الآخر ، بحيث يصير الطّرف «الآخر» (١) ممتنع الحصول ، فبيّن ـ تعالى ـ أنّ الحكم ليس إلّا لله ، وذلك يدلّ على أنّ جميع الممكنات ترجع إلى قضائه ، وقدرته ، ومشيئته ، وحكمه إمّا بواسطة ، أو بغير واسطة ، ولذلك فوّض يعقوب أمره إلى الله ـ تعالى ـ.

ثم قال : (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) اعتمدت : (وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) ، والمعنى : أنّه لمّا ثبت أنّ الكلّ من الله ـ تعالى ـ ثبت أنّه لا يتوكل إلّا على الله سبحانه وتعالى.

قوله تعالى : (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(٦٨)

قوله تعالى : (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ) الآية في جواب «لمّا» هذه ثلاثة أوجه :

أظهرها (٢) : أنّه الجملة المنفيّة من قوله : (ما كانَ يُغْنِي) ، وفيه حجّة لمن يدّعي كون [لمّا] حرفا لا ظرفا ، إذ لو كانت ظرفا لعمل فيها جوابها ، إذ لا يصلح للعمل سواه لكن ما بعد: «ما» النّافية لا يعمل فيما قبلها ، لا يجوز حين قام أبوك ما قام أخوك ، مع جواز : لمّا قام أخوك ما قام أبوك.

والثاني : أنّ جوابها محذوف ، فقدّره أبو البقاء ـ رحمه‌الله ـ : امتثلوا وقضوا حاجته ، وإليه نحا ابن عطيّة أيضا.

__________________

(١) في ب : الأول.

(٢) في أ : أحدها.

١٥٥

وهو تعسّف ؛ لأنّ في الكلام ما هو جواب صريح كما تقدّم.

والثالث : أنّ الجواب هو قوله : «آوى» قال أبو البقاء (١) : «وهو جواب : «لمّا» الأولى ، والثانية ، كقولك : لمّا [جئتك] ، ولمّا كلّمتك أجبتني ، وحسّن ذلك أن دخولهم على يوسف ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ تعقب دخولهم من الأبواب. يعني أنّ «آوى» جواب الأولى ، والثانية ، وهو واضح.

فصل

قال المفسرون : لمّا قال يعقوب ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ : (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) صدّق الله يعقوب فيما قاله ، أي : وما كان ذلك التّفريق يغني من الله من شيء.

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : ذلك التّفريق ما كان يرد من قضاء الله تعالى ولا أمرا قدره الله تعالى (٢). وقال الزجاج : لو قدر أن يصيبهم لأصابهم ، وهم متفرّقون كما يصيبهم ، [وهم مجتمعون].

وقال ابن الأنباري : لو سبق في علم الله تعالى أنّ العين تهلكهم عند الاجتماع ؛ لكان تفرقهم كاجتماعهم ، وهذه كلمات متقاربة وحاصلها : أنّ الحذر لا يدفع القدر.

وقوله : «من شيء» يحتمل النّصب بالمفعولية ، والرفع بالفاعلية.

أمّا الأول فهو كقولك : ما رأيت من أحد ، والتقدير : ما رأيت أحدا ، كذا ههنا ، وتقدير الآية : أن تفرقهم ما كان يغني من قضاء الله شيئا.

وأما الثّاني فكقولك : ما جاءني من أحد وتقديره : ما جاءني أحد ، فيكون التقدير هنا : ما كان يغني عنهم من الله شيء مع قضائه.

قوله : «إلّا حاجة» فيه وجهان :

أحدهما : أنه استثناء منقطع ، وتقديره : ولكن حاجة في نفس يعقوب قضاها ، ولم يذكر الزمخشريّ غيره.

والثاني : أنه مفعول من أجله ، ولم يذكر أبو البقاء غيره ، ويكون التقدير : ما كان يغني عنهم بشيء من الأشياء إلّا لأجل حاجة كانت في نفس يعقوب عليه‌السلام ، وفاعل : «يغني» ضمير التفرق المدلول عليه من الكلام المتقدّم.

وفيما أجازه أبو البقاء ـ رحمه‌الله تعالى ـ نظر من حيث المعنى لا يخفى على متأمّله. و «قضاها» صفة ل : «حاجة».

فصل

قال بعض المفسرين : من تلك الحاجة : خوفه عليهم من إصابة العين وقيل : خوفه عليهم من حسد أهل مصر ، وقيل : خوفه عليهم من أن يصيبهم ملك مصر بسوء.

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ٥٥.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٤٣٨).

١٥٦

ثم قال : (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ) قال الواحدي : «ما» مصدريّة ، والهاء عائدة إلى يعقوب ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ أي : وإنّ يعقوب لذو علم من أجل تعليمنا إيّاه ، ويمكن أن تكون بمعنى الذي ، والهاء عائدة إليها أي : وإنه لذو علم للشيء الذي علمناه ، يعني : أنّا لما علمناه شيئا حصل له العلم بذلك الشيء.

والمراد بالعلم : الحفظ ، أي : وإنه لذو حفظ لما علمناه. وقيل : المراد بالعلم : العمل ، أي: وإنه لذو عمل بفوائد ما علمناه.

ثم قال : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) مثل ما علم يعقوب ، لأنهم لم يسلكوا طريق إصابة العلم.

وقيل : لا يعلمون أنّ يعقوب بهذه الصّفة.

وقال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : لا يعلم المشركون ما ألهم الله [أولياءه (١)](٢).

فالمراد ب : «أكثر النّاس» المشركون.

قوله تعالى : (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)(٦٩)

قوله تعالى : (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ) قالوا : هذا أخونا الذي أمرتنا أن نأتيك به قد جئنا به ، فأكرمهم ، وأحسن إليهم ، وأجلس كل اثنين على مائدة ، فبقي بنيامين وحده ، فقال : لو كان أخي يوسف حيّا لأجلسني معه فقال يوسف : بقي أخوكم وحيدا ؛ فأجلسه معه على مائدته ؛ فجعل يؤاكله فلما كان اللّيل أمر لهم بمثل ذلك ؛ فأمر أن ينزل كل اثنين منهم بيتا ، وقال : هذا لا ثاني له آخذه معي ، فآواه إليه ، فلمّا خلا به قال : ما اسمك؟ قال : بنيامين قال : وما بنيامين؟ قال : ابن المثكل. وذلك أنّه لما ولد ؛ هلكت أمّه ، قال : وما اسم أمك ، قال راحيل بنت لاوي ، فلمّا رأى تأسّفه على أخ له هلك ، فقال له أتحبّ أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال : ومن يجد أخا مثلك ، ولكنّك لم يلدك يعقوب ولا راحيل ، فبكى يوسف ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ، وسار إليه [وعانقه](٣).

و : (قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ) قال وهب : لم يرد أنه أخوه من النّسب ، وإنّما أراد به : إني أقوم لك مقام أخيك في الإيناس ، لئلا تستوحش بالانفراد.

والصحيح : ما عليه سائر المفسّرين من أنّه أراد تعريف النّسب ؛ لأنّ ذلك أقوى في إزالة الوحشة ، وحصول الأنس ، والأصل في الكلام الحقيقة.

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٤٣٨).

(٢) سقط من : ب.

(٣) في أ : واعتنقه.

١٥٧

(فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) قال أهل اللغة : تبتئس : تفتعل من البؤس وهو الضّرر والشّدة ، والابتئاس : اجتلاب الحزن والبؤس.

وقوله : (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) من إقامتهم على حسدنا ، والحرص على انصراف وجه أبينا عنّا.

وقال ابن إسحاق وغيره : «أخبره بأنّه أخوه حقيقة ، واستكتمه ، وقال له : لا تبالي بكلّ ما تراه من المكروه في تحيلي في أخذك منهم».

وعلى هذا التّأويل يحتمل أن يشير بقوله : (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) إلى ما يعمله فتيان يوسف من أمر السّقاية ، ونحو ذلك.

وقيل : إنّ يوسف ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ما بقي في قلبه شيء من العداوة وصار صافيا لإخوته ؛ فأراد أن يجعل قلب أخيه صافيا معهم أيضا ، فقال : (فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي : لا تلتفت إلى صنيعهم فيما تقدّم.

وقيل : إنما فعلوا بيوسف ما فعلوا حسدا لإقبال الأب عليه ، وتخصيصه بمزيد الإكرام فخاف بنيامين أن يحسدوه ، بسبب تخصيص الملك له بالإكرام ، فآمنه منهم ، وقال : لا تلتفت إلى ذلك ، فإنّ الله قد جمع بيني وبينك.

وروى الكلبيّ عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ أنّ إخوة يوسف عليه‌السلام : كانوا يعيّرون يوسف ، وأخاه بسبب أنّ جدهما أبا أمّهما كان يعبد الأصنام ، فإنّ أمّ يوسف أمرت يوسف بسرقة جونة كانت لأبيها ، فيها أصنام رجاء أن يترك عبادتها ، إذا فقدها ، فقال له : (فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي : من التّعيير لنا بما كان عليه جدّنا. والله أعلم (١).

قوله تعالى : (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ (٧١) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (٧٣) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ)(٧٥)

قوله تعالى : (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ).

تقدّم الكلام في الجهاز. وأمّا قوله : (جَعَلَ السِّقايَةَ) فالعامة على : «جعل» بلا واو قبلها ، وقرأ عبد (٢) الله «وجعل» وهي تحتمل وجهين :

أحدهما : أن الجواب محذوف.

__________________

(١) ذكره الرازي في تفسيره (١٨ / ١٤٣).

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٩٠ والمحرر الوجيز ٣ / ٢٦٣ والبحر المحيط ٥ / ٣٢٦ والدر المصون ٤ / ١٩٧.

١٥٨

والثاني : أنّ الواو مزيدة في الجواب على رأي الكوفيين ، والأخفش.

قال أبو حيّان (١) : وقرأ عبد الله فيما نقل عنه الزمخشري (وجعل السقاية في رحل أخيه) : أمهلهم حتّى انطلقوا. (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) ، وفي نقل ابن عطيّة : «وجعل» بزيادة واو في : «جعل» دون الزيادة التي زادها الزمخشريّ ، بعد قوله : (فِي رَحْلِ أَخِيهِ) فاحتمل أن تكون الواو زائدة على مذهب الكوفيّين ، واحتمل أن يكون جواب : «لمّا» محذوفا تقديره : فقدها حافظها كما قيل : إنّما أوحي إلى يوسف بأن يجعل السّقاية فقط ، ثمّ إنّ صاحبها فقدها فنادى برأيه فيما ظهر له ، ورجّحه الطبريّ ، وتفتيش الأوعية يردّ هذا القول.

قال شهاب الدّين (٢) : «لم ينقل الزمخشريّ هذه الزّيادة كلها قراءة عن عبد الله ، إنّما جعل [الزّيادة](٣) المذكورة بعد قوله : (رَحْلِ أَخِيهِ) تقدير جواب من عنده ، وهذا نصّه :

قال الزمخشريّ (٤) : «وقرأ ابن مسعود : وجعل السّقاية» على حذف جواب «لمّا» كأنه قيل : فلمّا جهزهم بجهازهم ، وجعل السّقاية في رحل أخيه ؛ أمهلهم حتى انطلقوا ، ثمّ أذّن مؤذّن» فهذا من الزمخشريّ إنما هو تقدير لا تلاوة منقولة عن عبد الله ، ولعلّه وقع للشّيخ نسخة سقيمة».

فصل

قال الزمخشريّ (٥) : «السّقاية : مشربة يسقى بها وهي الصواع».

قيل : كان يسقى بها الملك ، ثمّ جعلت صاعا يكال به ، وقيل : كانت الدّوابّ تسقى بها ، ويكال بها أيضا ، وقيل : كانت من فضّة ، وقيل : كانت من ذهب ، وقيل : كانت مرصّعة بالجواهر.

والأولى أن يقال : كان ذلك الإناء شيئا له قيمة ، أمّا إلى هذا الحدّ الذي ذكروه فلا.

فصل

روي أنّ يوسف ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ قال لأخيه : لا تعلمهم شيئا ممّا أعلمتك ، ثمّ أوفى يوسف لإخوته الكيل ، وحمل لكلّ واحد بعيرا ، ولبنيامين بعير باسمه ، ثمّ أمر بسقاية الملك ، فجعلت في رحل بنيامين.

قال السديّ ـ رحمه‌الله ـ : لما قال له يوسف : (إِنِّي أَنَا أَخُوكَ) قال بنيامين : فأنا لا أفارقك ، فقال له يوسف : قد علمت اغتمام والدي بي ، وإذا أجلستك ، ازداد غمه ولا يمكنني هذا إلّا بعد أن أشهرك بأمر فظيع ، وأنسبك إلى ما لا يحمد (٦) ، قال : لا أبالي

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٣٢٦.

(٢) ينظر : الدر المصون ٤ / ١٩٨.

(٣) في أ : الرواية.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٩٠.

(٥) ينظر : الكشاف ٢ / ٤٨٩.

(٦) في أ : يحل.

١٥٩

فافعل ما بدا لك ؛ فإني لا أفارقك ، قال : فإنّي أدس (١) صاعي في رحلك ، ثمّ أنادي عليك بالسّرقة ليتهيأ لي ردّك بعد تسريحك ، قال : فافعل.

فعند ذلك جعل السّقاية في طعام أخيه بنيامين ، إمّا بنفسه بحيث لم يطّلع عليه أحد ، أو أمر أحدا من بعض خواصه بذلك ، ثمّ ارتحلوا ، وأمهلهم يوسف حتّى نزلوا منزلا.

وقيل : حتّى خرجوا من العمارة ، ثمّ بعث خلفهم من استوقفهم ، وحبسهم (٢).

(ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) نادى مناد : (أَيَّتُهَا الْعِيرُ) ، وهي القافلة التي فيها الأحمال ، يقال: أذّن ، أي : أعلم.

وفي الفرق بين «أذّن» ، و «آذن» وجهان :

قال ابن الأنباريّ : «أذن بمعنى أعلم إعلاما بعد إعلام ، لأنّ «فعّل» يوجب تكرير الفعل ، قال : ويجوز أن يكون إعلاما واحدا ، من قبل أنّ العرب يجعل فعّل بمعنى أفعل ، في كثير من المواضع».

وقال سيبويه : الفرق بين أذنت وآذنت معناه : أعلمت ، لا فرق بينهما والتّأذين معناه : النّداء ، والتّصويت بالإعلام.

(أَيَّتُهَا الْعِيرُ) منادى حذف منه حرف النّداء ، والعير مؤنث ، ولذلك أنث أي المتوصل بها إلى ندائه ، والعير فيها قولان :

أحدهما : أنها في الأصل جماعة الإبل ، سمّيت بذلك ؛ لأنها تعير ، أي : تذهب وتجيء به.

والثاني : أنّها في الأصل قافلة الحمير ؛ كأنها جمع عير ، والعير : الحمار ؛ قال الشاعر : [البسيط]

٣١٢١ ـ ولا يقيم على ضيم يراد به

إلّا الأذلان عير الحيّ والوتد (٣)

وأصل «عير» «عير» ، بضم العين ، ثمّ فعل به ما فعل ب «بيض» ، والأصل [بيض] بضم الأول ، ثم أطلق العير على كلّ قافلة حمير كنّ أو غيرها ، وعلى كلّ فتقدير نسبة النداء إليها على سبيل المجاز ؛ لأنّ المنادى في الحقيقة أهلها ، ونظره الزمخشريّ بقوله : «يا خيل الله اركبي» ولو التفت لقال : «اركبوا». ويجوز أن يعبر عن أهلها بها للمجاورة ، فلا يكون من مجاز الحذف ، بل من مجاز العلاقة ، وتجمعه العرب قاطبة على «عيرات» بفتح الياء ، وهذا ممّا اتّفق على شذوذه ؛ لأن فعلة المعتلة العين حقها في جمعها بالألف

__________________

(١) في ب : أدبر.

(٢) ينظر : تفسير البغوي ٢ / ٤٣٨.

(٣) البيت للمتلمس ينظر : ديوانه (٢٠٨) والشعر والشعراء ١ / ١٧٩ وعيون الأخبار ١ / ٢٩٢ والكامل في التاريخ ٢ / ١٣٥ وتاريخ الطبري ٣ / ٢٠٩ والدر المصون ٤ / ١٩٨.

١٦٠