الأنوار الإلهية في المسائل العقائدية

آية الله الميرزا جواد التبريزي

الأنوار الإلهية في المسائل العقائدية

المؤلف:

آية الله الميرزا جواد التبريزي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات دار الصديقة الشهيدة عليها السلام
المطبعة: زيتون
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٢٠

والرسل ثم أنكر نبوة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ، لأنّ طاعة آخرنا كطاعة أوّلنا ، والمنكر لآخرنا كالمنكر لأوّلنا ، أما إن لولدي غيبة يرتاب فيها الناس إلَّا من عصمه الله» (١).

وروى الصدوق عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب عن الحسن بن محبوب عن علي بن رئاب عن أبي عبد الله (عليه السّلام) أنّه قال في قول الله عز وجل (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) (٢) ، فقال (عليه السّلام) : «الآيات هم الأئمّة ، والآية المنتظرة القائم فيومئذ لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل قيامه بالسيف وإن آمنت بمن تقدمه من آبائه (عليهم السّلام)» (٣).

في أنّه أشبه النّاس برسول الله ، وله اسمه وكنيته : ما رواه الصدوق في كمال الدين عن أبيه ومحمد بن الحسن ومحمد بن موسى المتوكل ، عن سعد بن عبد الله وعبد الله بن جعفر الحميري ومحمد بن يحيى العطار ، جميعاً عن أحمد بن محمد بن عيسى وإبراهيم بن هاشم وأحمد بن أبي عبد الله البرقي ومحمد بن الحسين بن أبي الخطاب ، جميعاً عن أبي علي الحسن بن محبوب السراد عن داود بن الحصين عن أبي بصير عن الصادق جعفر بن محمد (عليه السّلام) عن آبائه قال : «قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : المهدي من ولدي ؛ اسمه اسمي ، وكنيته كنيتي ، أشبه النّاس بي خلقاً وخُلقاً ، تكون له غيبة وحيرة حتى تضل الخلق عن أديانهم ، فعند ذلك يقبل كالشهاب الثاقب فيملؤها قسطاً وعدلًا كما ملئت ظلماً وجوراً» (٤).

في أنّ من الابتلاء للخلق في زمان غيبته أن يشك البعض في ولادته : ما رواه الشيخ الصدوق في كمال الدين عن أحمد بن محمد بن يحيى العطار عن سعد بن عبد الله

__________________

١) كمال الدين ص ٢٩١.

٢) سورة الانعام الآية ١٥٨.

٣) كمال الدين : ج ١ ، ص ٣٣٦.

٤) كمال الدين : ج ١ ، ص ٢٨٧.

٢١

عن أحمد بن محمد بن عيسى عن عثمان بن عيسى الكلابي عن خالد بن نجيح عن زرارة بن أعين ، قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السّلام) يقول : «إن للقائم غيبة قبل أن يقوم. قلت له : ولِمَ؟ قال : يخاف ، وأومأ بيده إلى بطنه ، ثم قال : يا زرارة هو المنتظر وهو الذي يشك الناس في ولادته ؛ منهم من يقول هو حمل ، ومنهم من يقول هو غائب ، ومنهم من يقول ما ولد ، ومنهم من يقول ولد قبل وفاة أبيه بسنتين ، غير أن الله تبارك وتعالى يحبّ أن يمتحن الشيعة ، فعند ذلك يرتاب المبطلون» (١).

ما ورد من النص على أنّه قد ولد ، وأنّه يحضر موسم الحج فيعاين الخلق ، وقد رآه من جملة من رآه نائبه الخاص (في الغيبة الصغرى) محمد بن عثمان العمري في الموسم متعلقاً بأستار الكعبة. وأهمية مثل هذا النص أنّه يؤكد ليس فقط ولادته بل اتصاله بالخلق ، وذلك أنّ قضية المهدي قضية اتفاقية بين المسلمين جميعاً لما ورد من النصوص المتواترة عن النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ، ولكن الخلاف بينهم هو في أنّه هل سيولد في آخر الزمان كما يدعي غير الشيعة؟ أو أنّه ولد وأن أباه هو الحسن بن علي العسكري وأنّه غائب عن الأنظار بعد ما نص عليه أبوه (عليه السّلام) ورآه خلَّص شيعته كما تقدّم في النص الدال على إمامته ، وأن له غيبتين : غيبة صغرى كان يمارس فيها توجيه العباد عن طريق سفرائه الأربعة الخاصين وغيبة كبرى ، وأنّه سيظهر عند ما يأذن الله له كما هو الحق وبه يقول شيعة أهل البيت (عليهم السّلام).

فقد روى الشيخ الصدوق في الفقيه بسند صحيح عن عبد الله بن جعفر الحميري أنّه قال : سألت محمد بن عثمان العمري (رضى الله عنه) ، فقلت له : رأيت صاحب هذا الأمر؟ قال : «نعم ، وآخر عهدي به عند بيت الله الحرام ، وهو يقول : اللَّهمّ أنجز لي ما وعدتني. قال محمد بن عثمان (رضي الله عنه وأرضاه) : ورأيته صلوات الله عليه متعلقاً بأستار الكعبة وهو

__________________

١) كمال الدين : ج ١ ، ص ٣٤٢.

٢٢

يقول : اللَّهمّ انتقم لي من أعدائك» (١).

الخاتمة

وفي الختام ينبغي ذكر ملاحظة مهمّة وهي :

أن الوضع العام الذي عاش فيه الأئمة (عليهم السّلام) خصوصاً بعد شهادة الإمام الحسين كان وضعاً ضاغطاً وعصيباً ، وقد حاول فيه الظالمون بكل جهدهم (أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ الله بِأَفْواهِهِمْ) فكانوا يتربصون بالأئمّة الدوائر ويبغونهم الغوائل للقضاء عليهم.

وكان هؤلاء الظالمون ، في العهدين الأموي والعباسي وإن لم يكونوا يقدمون على قتلهم جهراً وعلانية كانوا يحاولون ذلك غيلة ، وشاهد ذلك ما نجده من إقدامهم على دس السم للأئمة (عليهم السّلام) ، وهذه الظروف والأوضاع غير خافية على المتتبع لأحوالهم ، والعارف بتاريخهم ، ويكفي لمعرفة ذلك ، النظر إلى كيفية نص الإمام الصادق (عليه السّلام) على إمامة الكاظم في وصيته له ، حيث كان العباسيون ينتظرون أن يعيّن بنحو صريح الإمام بعده ليقتلوه ، فكان أن أوصى لخمسة ، فضيع عليهم هذه الفرصة ، ثم ما جرى على مولانا الكاظم (عليه السّلام) من سجنه ثمّ قتله ، وأيضاً ما جرى من التضييق والاضطهاد للإمام الهادي (عليه السّلام) ومن بعده ابنه الحسن العسكري (عليه السّلام) ، ومحاولتهم القبض على خليفته الإمام المهدي وقتله بزعمهم.

وهكذا ما عاشه الشيعة الكرام من ظروف القمع والتقية ، بحيث كانوا لا يسلمون على عقائدهم في وقت كان يسلم فيه الكفار في بلاد الإسلام على ما كانوا عليه من ضلالة ، ولا يسلم شيعة أهل البيت بما عندهم من الهدى! فكان الكشف في هذه الظروف عن أسماء الأئمة المعصومين ، خصوصاً من كان منهم في

__________________

١) الفقيه : ج ٢ ، ص ٣٠٦.

٢٣

الفترات اللاحقة ، وتناقل النصوص المصرّحة بإمامتهم بين الرواة أمراً في غاية الخطورة على الإمام وعلى شخص الناقل أيضاً.

ولكنّهم مع ذلك قد حفظوا لنا جزاهم الله خير الجزاء تلك النصوص وتناقلوها فيما بينهم بالرغم ممّا كان يكتنفها من المشاكل والضغوط حتى أوصلوها لنا ، بحيث تمّت بواسطتها الحجّة على من أنكر ، والاحتجاج بها والاستناد إليها لمن آمن. ولهذا فقد أصبحت هذه القضية من المسلَّمات العقائدية لدى شيعة أهل البيت ، والمتواترة إجمالًا ، بحيث إنّهم عرفوا حتى عند أعدائهم بتوليهم لهؤلاء الأئمّة الطاهرين ، وميّزوا بأنّهم (الاثنا عشرية) في إشارة إلى اعتقادهم بإمامة الأئمّة الاثني عشر. وصار الأمر عند الشيعة بحيث إنّ من كان لا يؤمن بأحدهم أو جعل غيره مكانه لا يعد من هذه الطائفة المحقة.

بل إنه كما ذكرنا سابقاً ارتبط ذكر أسمائهم (عليهم السّلام) بالصلاة وسجدة الشكر كما في صحيحة بن جندب عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السّلام) ، وهذا لعلَّه يراد منه أن يكون المؤمن ذاكراً لأئمّته في كل يوم ، وحتى لا تنسى هذه الصفوة الطاهرة ، أو يدّعي آخرون عدم وجود الدليل أو النص عليهم أو على بعضهم.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبّتنا على ولايتهم في الدنيا ، فلا ننجرف في تيارات الفتن والشكوك التي أخبرنا بها أئمتنا (عليهم السّلام) وبالذات في زمان الغيبة ، حيث يرتاب المبطلون ويثبت المؤمنون ، وأن ينفعنا بشفاعتهم في الآخرة إنّه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.

اللَّهمّ ما عرّفتنا من الحق فحمّلناه وما قصرنا عنه فبلَّغناه ، برحمتك يا أرحم الراحمين.

٢٤

٢٥
٢٦

سماحة المرجع الديني آية الله العظمى الشيخ الميرزا جواد التبريزي (دام ظلَّه) ، إنّ مسألة جواز السهو على النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أو نفيه عنه من المسائل العقائدية المهمّة التي كثر البحث والجدل حولها من قديم الأيام ، والاختلاف فيها امتداد للاختلاف في المسألة الأعم ، أعني مسألة عصمة الأنبياء والأئمة (عليهم السّلام).

وفي هذا الزمان كثرت إثارة الشُّبه حول العقائد الإسلامية بأساليب مختلفة ، نرجو من سماحتكم التعرّض لهذه المسألة لإزالة الشبهة من أذهان الناس ودفع التوهّمات عن النظريات الإسلامية الصحيحة. والوقوف أمام التيارات المشبوهة لهو ممّا جرت عليه سيرة علماء الطائفة المحقّة من قديم الزمان ، وجزاكم الله خير الجزاء وجعلكم ذخراً للإسلام والمسلمين.

عصمة الأنبياء والأئمة (عليهم السلام)

الكلام في العصمة يقع من نواحي :

الأولى : العصمة عن ارتكاب الحرام أو ترك الواجب ، سواء كان التكليف الإلزامي متوجّهاً إلى عامة المكلفين أو لخصوص النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) والإمام (عليه السّلام).

الثانية : العصمة عن المكروهات.

الثالثة : العصمة عن السهو والخطأ.

٢٧

أمّا الناحية الثانية فلا نطيل فيها الكلام ، واللازم حصوله منها في النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) والإمام (عليه السّلام) هو ترك الاستمرار على المكروهات ولو كانت الاستدامة على مكروه واحد ، وذلك من أجل عدم وهنه في النفوس لكونه القدوة الحسنة في كل كمال والمثل الأعلى لكل جميل ، وأمّا الناحية الثالثة فسيأتي الكلام حولها مفصلًا فيما بعد ، وأمّا الناحية الأولى وكلامنا الآن حولها فهي ثابتة للأنبياء والأئمة (عليهم السّلام) باتفاق علماء الإمامية ، بل هي من ضروريات المذهب ، والكلام فيها من جهات :

الجهة الأُولى ؛ معنى العصمة :

إن معنى عصمتهم (عليهم السّلام) هو عدم صدور شيء من الحرام أو ترك الواجب منهم ، لعدم انقداح الميل والإرادة في أنفسهم الزكية إلى ذلك ، نظير ما يحصل لجلّ المؤمنين ، بل وغيرهم بالنسبة إلى بعض القبائح ككشف العورة أمام الملأ العام.

وثبوت العصمة لهم بهذا المعنى لا يستلزم سلب القدرة عنهم إزاء هذه الأُمور ، بمعنى عدم تمكَّنهم تكويناً من ارتكاب ذلك ، وإلَّا لما كانت عصمتهم فضيلة لهم تميّزهم عن سائر الناس.

ويشهد لذلك :

أوّلًا : إنّ عصمتهم بهذا المعنى ترفع التهمة عنهم وتقطع عذر من فرّ أو يريد الفرار عن طاعتهم.

ثانياً : الآيات المباركة كقوله تعالى (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (١) وغيرها مما سيأتي.

__________________

١) سورة البقرة الآية ١٢٤.

٢٨

الجهة الثانية ؛ إشكال وجواب :

الإشكال : انّه لو كانت العصمة بهذا المعنى تفضّلًا من الله سبحانه وتعالى على الأنبياء والرسل والأئمّة صلوات الله عليهم أجمعين ، أو كان تفضّله سبحانه وتعالى دخيلًا في حصولها لهم ، لما كان إعطاؤها لهم موجباً لعلوّ مرتبتهم وامتيازهم عن سائر البشر ، إذ لو أُعطيت لغيرهم لكانوا مثلهم أيضاً في هذه المزية.

ولو لم تكن تفضلًا من الله سبحانه ، فلما ذا اختصّت بالأنبياء والرسل والأئمة (عليهم السّلام)؟

الجواب : إن المرتبة العالية من الروح الإنسانية وإن كانت هذه المرتبة أمراً من الأُمور التشكيكة (١) أيضاً قد أُعطيت لهم من قبل الله سبحانه ، بحيث يمتاز خلقهم وأصل نشأتهم عن خلق سائر الناس ، وذلك بعد علم الله السابق على خلقهم بأنّهم أهل لهذه المرتبة العليا ، حيث كان اصطفاؤه لهم لعلمه سابقاً بأنّه لو لم يعطهم ذلك لكانوا ممتازين أيضاً عن سائر الناس مطلقاً ، أو بالإضافة إلى أهل زمانهم في الانقياد والطاعة والبعد عن المعصية ، على اختلاف درجاتهم ، لهذا خصهم بهذا التفضل كما هو مقتضى الحكمة الإلهية كرامةً ولطفاً لعباده المصطفين الأخيار ، ويفصح عن ذلك الاصطفاء جملة من الآيات والروايات ، كقوله سبحانه وتعالى

__________________

١) المراد من الأمر التشكيكي أو الأمر المشكّك هو الكلي المتفاوتة أفراده في صدق مفهومه عليها ، كالبياض مثلاً ، فإنّه مفهوم كلي ينطبق على بياض الثلج وبياض القرطاس ولكن بياض الثلج أشدّ من بياض القرطاس مع أنّ كليهما بياض ، ويقابله الكلي المتواطئ فإنه المتواقفة أفراده فيه كالإنسان بالنسبة إلى أفراده فإنّهم متساوون في الانسانية من غيره ، نعم ربّما يختلفون في صفات أخرى كالطول واللون والقوة .... وغير ذلك.

فالمرتبة العالية من الانسانية ذات مراتب ودرجات متفاوتة ، فلهذا كانت أمراً مشكّكا ، فربّما ينال بعضهم الدرجة العليا منها وآخر ينال الوسطى وهكذا ...

٢٩

١ ـ (إِنَّ الله اصْطَفى آدَمَ ونُوحاً وآلَ إِبْراهِيمَ وآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) (١).

٢ ـ (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّه وسَلامٌ عَلى عِبادِه الَّذِينَ اصْطَفى) (٢).

٣ ـ (وإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيارِ. واذْكُرْ إِسْماعِيلَ والْيَسَعَ وذَا الْكِفْلِ وكُلٌّ مِنَ الأَخْيارِ) (٣).

٤ ـ (ولَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ) (٤).

إلى غير ذلك مما يقطع على المتأمّل المنصف الطريق إلى إنكار عصمة الأنبياء والرسل والأئمة (عليهم السّلام) ولا يترك له سبيلًا إلى ذلك.

الجهة الثالثة ؛ رأى أهل السنة في العصمة :

ذهب المخالفون إلى عدم اعتبار العصمة في الأنبياء (عليهم السّلام) اعتماداً على ما استظهروه من بعض الآيات الشريفة ، وجملة من الروايات المنقولة بطرقهم ، ومن تلك الآيات :

١ ـ قوله تعالى حكاية عن آدم (وعَصى آدَمُ رَبَّه) (٥).

٢ ـ وقوله حكاية عن يونس النبي (عليه السّلام) (وذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْه) (٦).

__________________

١) سورة آل عمران الآية ٣٣.

٢) سورة النمل الآية ٥٩.

٣) سورة ص الآيتان ٤٧ ـ ٤٨.

٤) سورة الدخان الآية ٣٣.

٥) سورة طه الآية ١٢١.

٦) سورة الأنبياء الآية ٨٧.

٣٠

٣ ـ وقوله في قضية يوسف (عليه السّلام) مع امرأة العزيز (وهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّه) (١).

٤ ـ أمره سبحانه وتعالى النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بالاستغفار ، وغير ذلك.

الجواب عنه :

ورأيهم هذا باطل ، وما استظهروه من الدلالة لا ينهض على ما ذكروه ، والجواب عن ذلك بنحو إجمالي يتوزع بحسب الآيات ، فأمّا ما كان من أمر الاستغفار فنقول :

إن استغفار المؤمن لربّه يقع في مقامين :

الأول : مثل ما يحصل للمؤمن إذا طلب منه فعل شيء يعلم بأن الله سبحانه قد حرّمه ولا يرضى بفعله والقيام به ، فيقول المؤمن لمن طلب منه : أستغفر الله ، أو أعوذ با لله.

الثاني : أن يرتكب الفعل المطلوب منه ثمّ يندم على ما صدر منه فيقول تائباً : أستغفر الله.

والاستغفار في المقام الأوّل يدلّ على علو مرتبة المطلوب منه ونزاهته ، ومنه قول يوسف (عليه السّلام) (مَعاذَ الله إِنَّه رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) (٢).

مضافاً إلى أنّ ما ورد من توجيه الأمر بالاستغفار إلى النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) هو من قبيل (إياك أعني واسمعي يا جارة) كما سيأتي التعرّض إلى ذلك ، فلم يكن هو المراد بذلك الطلب.

وأما ما ورد في قصة يوسف (عليه السّلام) (وهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّه) ، فيتوقف

__________________

١) سورة يوسف : الآية ٢٤.

٢) سورة يوسف : الآية ٢٣.

٣١

الجواب على معرفة المراد من برهان ربّه الذي رآه ، فنقول : هو يقينه (عليه السّلام) وإيمانه بربّه الذي أحسن مثواه ، وهو متّصف به قبل الابتلاء بالواقعة ، ولهذا قال لها (مَعاذَ الله إِنَّه رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) ، فليس المراد من هذه الجملة أنّه مال إلى الفعل وانقدح في نفسه ارتكابه ثمّ زال ميله إليه. وهذا نظير ما في قوله سبحانه وتعالى حكاية عن أم موسى (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِه لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (١) ، حيث إنّ الربط على قلبها كان سابقاً على ذلك فكان مانعاً عن الإبداء والميل إليه ، ونظير قوله سبحانه أيضاً (ولَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا) (٢).

وأمّا حكاية النبي يونس (عليه السّلام) فنقول : إنّ الذي أعطيت له مرتبة العصمة لا يليق به أن يباشر عملًا يحبه من غير أن ينتظر فيه أمر ربه ، وعند ما نطبّق ذلك على واقعة النبي يونس (عليه السّلام) نلاحظ أنّ الله سبحانه لم يأمره بالبقاء مع القوم في الوقت الموعود ، ولكن خروجه لم يكن مناسباً منه ، ويعبر عن ذلك بترك الأولى ، وابتلاؤه بعد الخروج واستغاثته ونداؤه في الظلمات كان تداركاً لما صدر منه ، فإنّ حسنات الأبرار سيئات المقربين ، فلم يكن ذلك الابتلاء وتلك الاستغاثة بسبب صدور المعصية منه.

وأما التعبير عن ذهابه بقوله سبحانه (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْه) فهو من قبيل بيان لسان الحال وأن فعله فعل من يظن ذلك.

وأمّا قضية النهي الموجه لآدم (عليه السّلام) عن القرب من الشجرة وقوله سبحانه (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ) (٣) فيمكن أن يجاب عنه بأحد وجهين :

الوجه الأوّل : إن آدم (عليه السّلام) حين توجّه النهي إليه كان مع امرأته يعيشان وحدهما في الجنة ، فلم يكن نبياً ولم يكن مرسلًا لقومه بعد.

__________________

١) سورة القصص : الآية ١٠.

٢) سورة الاسراء : الآية ٧٤.

٣) سورة البقرة : الآية ٣٦.

٣٢

كما روي عن الإمام الرضا (عليه السّلام) في المجلس الحواري الذي عقده المأمون لاجتماع الإمام (عليه السّلام) بأصحاب الفكر من جميع الديانات ، فأسكتهم الإمام (عليه السّلام) جميعاً ، وإليك مقطع الشاهد من الرواية :

«.. فلم يقم أحد إلَّا وقد ألزم حجّته كأنّه قد أُلقم حجراً ، فقام إليه علي بن محمد بن الجهم ، فقال له : يا بن رسول الله ، أتقول بعصمة الأنبياء؟

قال : بلى.

قال : فما تعمل في قوله الله عز وجل (وعَصى آدَمُ رَبَّه) ..؟

فقال مولانا الرضا (عليه السّلام) : ويحك يا علي! اتق الله ولا تنسب إلى أنبياء الله الفواحش ، ولا تتأول كتاب الله برأيك ، فإن الله عز وجل يقول (وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَه إِلَّا الله والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (١) ؛ أما قوله عز وجل في آدم (عليه السّلام) (وعَصى آدَمُ رَبَّه فَغَوى) ، فإن الله عز وجل خلق آدم حجة في أرضه وخليفته في بلاده ، لم يخلقه للجنة ، وكانت المعصية من آدم في الجنة لا في الأرض لتتم مقادير أمر الله عز وجل ، فلما أُهبط إلى الأرض وجعل حجة وخليفة عصم بقوله عز وجل (إِنَّ الله اصْطَفى آدَمَ ونُوحاً وآلَ إِبْراهِيمَ وآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) ..» (٢).

ولعل قائلًا يقول : إن هذا الالتزام مخالف للدليل العقلي الدال على عصمة الأنبياء (عليهم السّلام) جميعهم من أول أمرهم.

فنقول له : إن ملاك عصمة الأنبياء هو أن لا يقع الناس في الشك من أمرهم ، إذ لو كان النّبي يفعل المعاصي في مبدأ أمره بمرأى ومسمع من قومه لما كان لأمره ونهيه تأثير في نفوسهم ، ولحصل لهم الشك في دعوته ، فتبطل الحكمة من نبوته ، وهذا المحذور غير جار على آدم (عليه السّلام) في الجنة ؛ لعدم الموضوع حينئذ.

__________________

١) سورة آل عمران : الآية ٧.

٢) البحار : ج ١١ ، ص ٧٢ ، نقلاً عن الأمالي للصدوق.

٣٣

فالذي نريد أن نقوله في هذا الوجه هو : أنّ آدم (عليه السّلام) لما هبط إلى الأرض كان معصوماً ولم تصدر منه مخالفة لله سبحانه وهو على ظهرها أبداً.

الوجه الثاني : إن النهي الموجه لآدم (عليه السّلام) في قوله تبارك وتعالى (ولا تَقْرَبا هذِه الشَّجَرَةَ) (١) نهي إرشادي (٢) لا تكليف فيه ، فلا يراد منه إلَّا أولوية اجتناب القرب من الشجرة ، ويترتّب على عدم الاجتناب الخروج من الجنّة ، وليس مفاد النهي على هذا التفسير الحرمة المولوية الشرعية المستلزمة للجزاء الأُخروي لكي يكون الإقدام على الفعل ذنباً يخلّ بالعصمة.

وأمّا التعبير ب (عصى) فالمراد من العصيان مخالفة الأمر المنطبق على الأمر الإرشادي ، ولهذا يقولون : أمرت فلاناً بكذا وكذا من الخير فعصى وخالف ، والحال أن الأمر دلالة على الخير وإرشاد إليه ، ولم يكن ما أمره به واجباً تكليفياً على المأمور بحيث يستحق العقوبة على تركه.

نفي السهو عن النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلم)

وردت عدة من الروايات دلت على وقوع النوم من النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عن صلاة الفجر في السفر وأنّه قضاها هو وأصحابه بعد ما طلعت عليهم الشمس وفاتهم وقت الأداء. كما أنّ هناك روايات أُخرى رويت من الطرفين الخاصة والعامة دلت على حصول السهو من النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ، وقد تمسك بها أبناء العامة لإثبات ذلك ، ما هو رأيكم الشريف في هذه المسألة؟

__________________

١) سورة البقرة ، الآية ٣٥.

٢) النهي في خطابات الشارع ربّما يكون نهياً مولوياً فيحمل حكماً بالحرمة أو بالكراهة ، ويعبّر عن الثاني بالنهي التنزيهي أيضاً ، وهذا النحو من النهي هو المقصود غالباً من النواهي الشرعية. وربّما يكون النهي إرشادياَ لا يحمل حكماً فيراد منه الارشاد إلى عدم وجود المصلحة في الفعل المنهي عنه ، وربّما يدرك العقل ذلك بدون وجود النهي ، فلهذا يقال عنه : إرشاد إلى حكم العقل.

٣٤

في هذه الروايات إشكال وإن نقل بعضها بسند معتبر ، والذي تفيده بعض القرائن والخصوصيات أنّها وردت عن الأئمّة على نحو التقية ، وبهذه الروايات وأمثالها يعرف مقدار الابتلاء الذي ابتلي به أئمتنا (عليهم السّلام) ، والظروف الصعبة التي مرت عليهم (عليهم السّلام).

ويقع البحث في مقامين :

المقام الأول : في سهو النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).

المقام الثاني : في نوم النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عن الصلاة.

أما المقام الأول :

فالبحث فيه من جهات :

الجهة الأولى ؛ في ذكر بعض الروايات الدالة على السهو :

١ ـ الشيخ الطوسي ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسن بن علي بن فضال ، عن أبي جميلة ، عن زيد الشحام قال : «سألته عن رجل صلى العصر ست ركعات ، أو خمس ركعات ، قال : إن استيقن أنّه صلى خمساً أو ستاً فليعد إلى أن قال : وإن هو استيقن أنّه صلى ركعتين أو ثلاثاً ثم انصرف فتكلم فلا يعلم أنّه لم يتم الصلاة فإنّما عليه أن يتم الصلاة ما بقي منها ، فإن نبي الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) صلَّى بالناس ركعتين ثم نسي حتى انصرف ، فقال له ذو الشمالين : يا رسول الله ، أحدث في الصلاة شيء؟ فقال : أيّها الناس ، أصدق ذو الشمالين؟ فقالوا : نعم ، لم تصل إلَّا ركعتين. فأقام فأتم ما بقي من صلاته» (١).

فنسبت الرواية النسيان إلى النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) : «ثم نسي حتى انصرف» ، ثم بعد حصول الكلام وانتهاء الحوار القصير بين النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ومن تكلم معه من أصحابه أتم

__________________

١) الوسائل : ج ٥ ، الباب ٣ من أبواب الخلل في الصلاة ، الحديث ١٧.

٣٥

صلاته من حيث نساها. والرواية ضعيفة بأبي جميلة المفضل بن صالح (١).

٢ ـ بإسناده الشيخ عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن علي بن النعمان ، عن سعيد الأعرج ، قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه السّلام) يقول : صلَّى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ثمّ سلَّم في ركعتين ، فسأله من خلفه : يا رسول الله ، حدث في الصلاة شيء؟ فقال : وما ذلك؟ قال : إنما صليت ركعتين ، فقال : أكذلك يا ذا اليدين (٢)؟ وكان يدعى ذو الشمالين ، فقال : نعم. فبنى على صلاته فأتمّ الصلاة أربعاً ، إلى أن قال : وسجد سجدتين لمكان الكلام» (٣). وهذه الرواية صحيحة من ناحية السند.

الجهة الثانية ؛ رأي الصدوق في سهو النبي (صلَّى الله عليه وآله) :

وفيه نقاط :

النقطة الأولى ؛ تفصيله بين السهو في الأحكام والسهو في غيرها :

للشيخ الصدوق (قدّس سرّه) وشيخه محمد بن الحسن بن الوليد (رحمه الله) كلام حول سهو

__________________

١) قال عنه ابن الغضائري : المفضل بن صالح أبو جميلة الأسدي النحاس ، مولاهم ، ضعيف كذاب يضع الحديث. حدثنا أحمد بن عبدالواحد قال : حدثنا علي بن محمد بن الزبير قال : حدثنا علي بن الحسن بن فضال قال : سمعت معاوية بن حكيم يقول : سمعت أبا جميلة يقول : أنا وضعت رسالة معاوية إلى محمد بن أبي بكر. (مجمع الرجال : ج ٦ ، ص ١٢٢). وقال النجاشي في ترجمة جابر بن يزيد الجعفي : روى عنه جماعة غمز فيهم وضعفوا ، منهم : عمرو بن شمر ، والمفضل بن صالح. (راجع معجم رجال الحديث : ج ١٨ ، ص ٢٨٧).

٢) كان يسمّى ذا اليدين أو ذا الشمالين لأنّ يده كانت كبيرة جداً وخارجة عن المتعارف.

٣) هكذا في الوسائل : ج ٥ ، باب ٣ من ابواب الخلل في الصلاة ، الحديث ١٦ ، وباقي الرواية كما في التهذيب ج ٢ ، ص ٣٤٥ ، الحديث ١٤٣٣. وهو ـ بعد كلمة أربعاً ، : وقال إنّ الله عزّ وجلّ هو الذي أنساه رحمة للاُمة ، ألا ترى لو أنّ رجلاً صنع هذا لعيّر وقيل ما تقبل صلاتك ، فمن دخل عليه اليوم ذلك قال : قد سنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وصارت اُسوة ، وسجد سجدتين ... وإنّما نقلناه لما سيأتي من الاشارة إلى الرواية لاحقاً ممّا قد يوهم ورود الاشكال على ما في كلمات الاُستاذ بدون الاطلاع على باقي الرواية.

٣٦

النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ، فإن الصدوق بعد أن نقل روايات نوم النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عن الصلاة في كتابه (من لا يحضره الفقيه) قال : إنّ الروايات الكثيرة والمعتبرة قد دلَّت على سهو النّبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ولا مناص من الالتزام بذلك لما فيها من الصحيح والموثق ، فإذا بنينا على ردها وطرحها فيجب أن نطرح سائر الأخبار أيضاً ، وهذا ما يوجب إبطال الدين والشريعة ، إلَّا أنّه كشيخه المذكور ذهب إلى التفصيل بين السهو في الأحكام والسهو في غيرها ، فقال به في غير الأحكام استناداً إلى مثل هذه الروايات ، ورده في الأحكام لورود الإشكال على القول بسهوه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فيها وهو لزوم نقض الغرض.

الوجه في التفصيل :

بيان الإشكال : أنّه لو قيل بسهو النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في الأحكام لأمكن أن ينزل الوحي على النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بأمر ثم يشتبه عليه ويبلغه للناس بخلاف ما أنزل إليه ، ويلزم من ذلك نقض غرض المولى سبحانه وتعالى من إرسال الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لهداية البشر.

وبعبارة أُخرى : إنّ إيقاع النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أو الإمام (عليه السّلام) في السهو خلاف الحكمة من جعل النبوة والإمامة.

وأما إذا قيل بسهو النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في غير الأحكام فلا يرد هذا الإشكال ، أي لا يكون السهو فيها نقضاً للغرض ولا مخالفاً للحكمة من النبوّة والإمامة.

فالسهو إذن ممكن في غير الأحكام ؛ لوجود مصلحة تقتضي أن يوقعه الله سبحانه وتعالى في السهو.

النقطة الثانية ؛ في بيان المصلحة المدعاة :

والمصلحة المشار إليها هي : أنّ الحكمة الإلهية اقتضت أن يستولي النوم على النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فلم ينهض من نومه إلَّا بعد طلوع الشمس والشمس وذهاب وقت صلاة الفجر ، فصلاها قضاء مع أصحابه. ووجه الحكمة أمران هما

٣٧

الأول : أن يعرف الناس أن النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بشر مثلهم ، وأنّه ينام كما ينام الناس ويجلس كما يجلسون ، ولا يرد في ذهنهم احتمال أنه الرب ، تعالى الله عن ذلك فإنّه الذي لا تأخذه سنة ولا نوم.

الثاني : أن لا يعيب الناس بعضهم على بعض ، فإن المؤمنين تحصل عندهم نفرة من الرجل الذي ينام عن الصلاة في وقتها حتى تفوته ويقضيها فيما بعد ، ويعيبونه على ذلك ويعيّرونه به ، لهذا اقتضت الحكمة الإلهية أن يستولي النوم على الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في هذه الواقعة ، وهو مع أصحابه ، فصلى الصبح قضاءً حتى لا تحدث سنة سيئة بين الناس ، ولا ينفر المسلمون بعضهم من البعض الآخر بهذا السبب ، لأن النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) نفسه قد أُصيب بهذه الحالة.

النقطة الثالثة ؛ تفصيله بين سهو النبي (صلَّى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) وسهو سائر الناس :

وقال الصدوق أيضاً : إن السهو في النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) من الله سبحانه ، وأما النسيان في سائر الناس فإنّما هو من الشيطان ، واستدلّ على قوله الأخير هذا بقوله تعالى (إِنَّه لَيْسَ لَه سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. إِنَّما سُلْطانُه عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَه والَّذِينَ هُمْ بِه مُشْرِكُونَ) (١).

النقطة الرابعة ؛ كلامه في ذي الشمالين :

أشار الصدوق (رحمه الله) إلى إشكال أورده الخاصة على خبر ذي الشمالين وهو : أن الراوي عن ذي الشمالين هو أبو هريرة ، وذو الشمالين قتل في وقعة بدر الواقعة في السنة الثانية للهجرة ، مع أنّ أبا هريرة لم يسلم إلَّا في السنة السابعة للهجرة ، فلا يمكن أن ينقل عنه في زمان كفره ، مضافاً إلى أنّ الرجل مجهول ، فالحديث غير صحيح.

__________________

١) سورة النحل : الآيتان ٩٩ ـ ١٠٠.

٣٨

وأجاب العامة : بأنّ ذا اليدين اسم لشخصين أحدهما الذي قتل في السنة الثانية للهجرة ، وأمّا الذي يروي عنه أبو هريرة فهو رجل آخر وقد عاش إلى ما بعد حياة الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وبقي إلى زمان معاوية ، حتى قيل إنه قتل في صفين.

وقال الصدوق في ذلك : قال البعض ويقصد به جماعة من الطرفين : إن هذه الأخبار مردودة لكون الرجل المذكور مجهولًا وغير معروف.

فأجاب عن ذلك في كتابه (من لا يحضره الفقيه) : إن من يقول بهذا الكلام كذاب ، فإنّ الرجل معروف وقد روى عنه المؤالف والمخالف ..

ثم قال (رحمه الله) : إن من ينكر سهو النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) هم الغلاة والمفوضة الذين قالوا : إن الله سبحانه قد فوض الأمر إلى نبيه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) والأئمة (عليهم السّلام).

ومن كلام الصدوق هذا يعلم مقدار ما استولى عليه من الغضب ، ممّا يدل على أن المسألة كانت مثار جدل كبير في ذلك الوقت حتى إنّه أثير بما كان يصدر من كلام حولها.

ونقل عن شيخه في المقام : إن محمد بن الحسن بن الوليد يقول : إن القول بنفي السهو عن النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) مطلقاً أول درجة من درجات الغلو (١).

__________________

١) قال عنه ابن الغضائري

٣٩

وما نقله عن ابن الوليد كلام خطير جدّاً حتى إن الشيخ المفيد قد علق عليه بقوله : إن ابن الوليد مقصر في ذلك ، كما أن قول الصدوق : إن القول بنفي السهو عن النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قول الغلاة والمفوضة هو بنفسه غلو (١).

__________________

١) عبارة الشيخ المفيد كما نقلها صاحب البحار : ج ١٧ ، «وقال الشيخ المفيد نوّر اللّٰه ضريحه فيما وصل إلينا من شرحه على عقائد الصدوق (رضى اللّٰه عنه) : فأمّا نص أبي جعفر (رحمه اللّٰه) بالغلو على من نسب مشايخ القميين وعلمائهم إلى التقصير ، فليس نسبة هؤلاء القوم إلى التقصير علامة على غلو الناس إذن ، وفي جملة المشار إليهم بالشيخوخة والعلم من كان مقصراً ، وإنّما يجب الحكم بالغلو على من نسب المحقّقين إلى التقصير ، سواء كانوا من أهل قم أو غيرها من البلاد ، وسائر الناس. وقد سمعنا حكاية ظاهرة عن أبي جعفر محمد بن الحسن بن الوليد (رحمه اللّٰه) لم نجد لها دافعاً في التقصير ، وهي ما حكي عنه أنه قال : أوّل درجة في الغلو نفي السهو عن النبي (صلّى اللّٰه عليه وآله وسلّم) والإمام (عليه السّلام) ، فإنّ‌ صحت هذه الحكاية عنه فهو مقصّر ، مع أنّه من علماء القميين ومشيختهم».

٤٠