اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٢٢

فصل

أصل الكنز في كلام العرب : الجمع ، وكل شيء جمع بعضه إلى بعض فهو مكنوز. واختلف علماء الصحابة في المراد بهذا الكنز المذموم ، فقال الأكثرون : هو المال الذي لم تؤد زكاته ، قال عمر بن الخطّاب : «ما أدّي زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين ، وكلّ ما لم تؤد زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرضين» (١). وقال ابن عبّاس في قوله : (وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) يريد : الذين لا يؤدّون زكاة أموالهم (٢). وروى أبو هريرة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من صاحب ذهب ولا فضّة لا يؤدّي منها حقّها إلّا إذا كان يوم القيامة صفّحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنّم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره كلّما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتّى يقضى بين العباد فيرى سبيله إمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار» (٣).

قال القاضي «تخصيص هذا المعنى بمنع الزّكاة لا سبيل إليه ، بل الواجب أن يقال :الكنز : هو المال الذي ما أخرج عنه ما وجب إخراجه ، ولا فرق بين الزكاة وبين ما يجب من الكفارات ، وبين ما يلزم من نفقة الحج أو الجمعة ، وبين ما يجب إخراجه في الديون والحقوق ، والإنفاق على الأهل والعيال ، وضمان المتلفات ، وأروش الجنايات ؛ فيجب دخول كل هذه الأقسام في هذا الوعيد».

وروي عن علي بن أبي طالب أنّه قال : كل مال زاد على أربعة آلاف درهم ؛ فهو كنز ، أدّيت منه الزكاة أو لم تؤدّ ، وما دونها نفقة (٤). وروي عن أبي ذرّ أنّه كان يقول : «من ترك بيضاء أو حمراء كوي بها يوم القيامة» (٥) وقيل : ما فضل عن الحاجة كنز ، لما روى أبو أمامة قال: «مات رجل من أهل الصفة فوجد في مئزره دينار ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كيّة ، ثم توفي آخر فوجد في مئزره ديناران ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كيتان» (٦). والقول الأول أصح ، لقوله عليه الصلاة والسّلام : «نعم المال الصّالح للرجل الصّالح» (٧) وقوله عليه

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٥٧ ـ ٣٥٨) وذكره البغوي (٢ / ٢٨٧).

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٨٧).

(٣) أخرجه مسلم (٢ / ٦٨٠) كتاب الزكاة : باب إثم مانع الزكاة (٢٤ / ٩٨٧) والبيهقي (٤ / ٨٢) والبغوي في «شرح السنة» (٣ / ٣١١).

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٨٨) وأخرجه الطبري (٦ / ٣٥٨).

(٥) انظر المصدر السابق وقد روي مرفوعا عن أبي ذر بلفظ : ما من رجل ترك صفراء ولا بيضاء إلّا كوي بها.

ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤٢٠) وعزاه إلى أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وابن مردويه وأخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٥٩).

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٥٩) وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠ / ٢٤٣) وقال : رواه أحمد بأسانيد ورجال بعضها رجال الصحيح غير شهر بن حوشب وقد وثق.

(٧) أخرجه أحمد (٤ / ١٩٧) والبخاري في «الأدب المفرد» (٢٩٩) من حديث عمرو بن العاص.

وذكره العجلوني في «كشف الخفاء» (٢ / ٢٤٢) وعزاه لأحمد وابن منيع عن عمرو بن العاص.

٨١

الصلاة والسّلام : «ما أدي زكاته فليس بكنز» (١) وروى مجاهد عن ابن عبّاس قال : لمّا نزلت هذه الآية كبر ذلك على المسلمين ، وقالوا : ما يستطيع أحد منّا أن يدع لولده شيئا ، فذكر ذلك عمر للرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «إنّ الله لم يفرض الزّكاة إلّا ليطيّب بها ما بقي من أموالكم» (٢) وسئل ابن عمر عن هذه الآية فقال : كان هذا قبل أن تنزل الزّكاة ، فلمّا نزلت جعلها الله طهرا للأموال (٣). وقال ابن عمر : «ما أبالي لو أنّ لي مثل أحد ذهبا أعلم عدده أزكيه ، وأعمل بطاعة الله عزوجل» (٤).

وكان في زمان الرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ جماعة مياسير كعثمان ، وعبد الرحمن بن عوف وكان عليه الصلاة والسّلام يعدّهم من أكابر المؤمنين ، وندب عليه الصلاة والسّلام إلى إخراج الثلث أو أقل في المرض ، ولو كان جمع المال محرما لكان عليه الصلاة والسّلام يأمر المريض بالتّصدق بكله ، بل كان يأمر الصحيح في حال صحته بذلك ، وقال عليه الصلاة والسّلام لسعد بن أبي وقاص : «إنّك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكفّفون النّاس» (٥).

فصل

اختلفوا في وجوب الزّكاة في الحليّ ، فقال مالك وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد : لا زكاة فيه. وهو قول الشافعي بالعراق ، ووقف فيه بعد ذلك بمصر ، وقال الثوريّ وأبو حنيفة والأوزاعي : فيه الزكاة.

فإن قيل : من لم يكنز ولم ينفق في سبيل الله وأنفق في المعاصي ، هل يكون حكمه في الوعيد حكم من كنز ولم ينفق في سبيل الله. قيل : إنّ ذلك أشدّ ، فإن من بذل ماله في المعاصي ، عصى من جهتين : بالإنفاق والتناول ، ك : شراء الخمر وشربها. بل من

__________________

(١) ذكره ابن أبي حاتم في «العلل» (١ / ٢٢٣) رقم (٦٤٧) من طريق أبي الزبير عن جابر مرفوعا.

وقال : قال أبو زرعة : والصحيح موقوف.

وله شاهد من حديث ابن عمر أخرجه البيهقي (٤ / ٨٢).

(٢) أخرجه أبو داود (١ / ٥٢٢) كتاب الزكاة : باب في حقّ المال حديث (١٦٦٤) والحاكم (١ / ٤٠٨) والبيهقي (٤ / ٨٣) من طريق مجاهد عن ابن عباس.

وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٨٨).

(٤) انظر المصدر السابق.

(٥) أخرجه مالك (٢ / ٧٦٣) كتاب الوصية : باب الوصية في الثلث (٤) والبخاري (٣ / ١٦٤) كتاب الجنائز : باب رثاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سعدا (١٢٩٥) ومسلم (٣ / ١٢٥٠) كتاب الوصية : باب الوصية بالثلث حديث (٥ / ١٦٢٨) وأحمد (١ / ١٧٩) والدارمي (٢ / ٤٠٧) والطيالسي (١ / ٢٨٢ ـ منحة) (١٤٣٣) وأبو داود (٢٨٦٤) والترمذي (٢١١٦) والنسائي (٦ / ٢٤١ ـ ٢٤٢) وابن ماجه (٢ / ٩٠٣) حديث (٢٧٠٨) من حديث سعد بن أبي وقاص.

٨٢

جهات إذا كانت المعصية ممّا تتعدّى كمن أعان على ظلم مسلم من قتله أو أخذ ماله.

فإن قيل : لم خصت هذه الأعضاء؟ فالجواب من وجوه :

أحدها : أنّ المقصود من كسب الأموال ، حصول فرح القلب ، فيظهر أثره في الوجه ، وحصول الشبع ينفتح بسببه الجنبان ، ولبس ثياب فاخرة يطرحونها على ظهورهم ، فلمّا طلبوا تزيين هذه الأعضاء الثلاثة ، حصل الكي على الجباه والجنوب والظهور.

وثانيها : أنّ هذه الأعضاء مجوفة وفي داخلها آلات ضعيفة يعظم تألّمها بسبب وصول أدنى أثر إليها ، بخلاف سائر الأعضاء.

وثالثها : قال أبو بكر الوراق : خصت هذه المواضع بالذكر ؛ لأنّ صاحب المال إذا رأى

الفقير قبض جبهته وإذا جلس الفقير بجنبه تباعد عنه وولّى ظهره.

ورابعها : أنهم يكوون على الجهات الأربع ، أمّا من مقدمه فعلى الجبهة ، وأمّا من خلفه فعلى الظهر ، وأما من يمينه ويساره فعلى الجنبين.

قوله تعالى : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ)(٣٧)

قوله تعالى : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً) الآية.

«العدّة» مصدر بمعنى «العدد». و (عِنْدَ اللهِ) منصوب به ، أي : في حكمه. و (اثْنا عَشَرَ) خبر «إنّ» ، وقرأ (١) ميسرة عن حفص ، وهي قراءة أبي جعفر «اثنا عشر» بسكون العين مع ثبوت الألف قبلها ، واستكرهت من حيث الجمع بين ساكنين على غير حدّيهما ، كقولهم : «التقت حلقتا البطان» بإثبات الألف من «حلقتا». وقرأ طلحة بسكون الشين (٢) كأنه حمل «عشر» في المذكر على «عشرة» في المؤنث ، و «شهرا» نصب على التمييز ، وهو مؤكّد ؛ لأنه قد فهم ذلك من الأول ، فهو كقولك : عندي من الدّنانير عشرون دينارا. والجمع متغاير في قوله (عِدَّةَ الشُّهُورِ) وفي قوله تعالى : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ) [البقرة : ١٩٧] ؛ لأنّ هذا جمع كثرة ، وذاك جمع قلة.

__________________

(١) وهي قراءة ابن القعقاع وهبيرة أيضا.

ينظر : إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٩١ ، المحرر الوجيز ٣ / ٣٠ ، البحر المحيط ٥ / ٤٠ ـ ٤١ ، الدر المصون ٣ / ٤٦١.

(٢) ينظر السابق.

٨٣

قوله : (فِي كِتابِ اللهِ) يجوز أن يكون صفة ل : (اثْنا عَشَرَ) ، والتقدير : اثنا عشر شهرا مثبتة في كتاب الله. ثمّ لا يجوز أن يعنى بهذا الكتاب كتاب من الكتب ، لأنّه متعلق بقوله : (يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ) وأسماء الأعيان لا تتعلّق بالظروف ، فلا تقول : غلامك يوم الجمعة ، بل الكتاب ههنا مصدر والتقدير : إنّ عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله ، أي : في حكمه الواقع يوم خلق السموات والأرض.

ويجوز أن يكون بدلا من الظرف قبله ، وهذا لا يجوز ، أو ضعيف ، لأنّه يلزم منه أن يخبر عن الموصول قبل تمام صلته ، فإنّ هذا الجارّ متعلق به على سبيل البدلية ، وعلى تقدير صحة ذلك من جهة الصناعة ، فكيف يصحّ من جهة المعنى؟ ولا يجوز أن يكون (فِي كِتابِ اللهِ) متعلقا ب «عدّة» لئلّا يلزم الفصل بين المصدر ومعموله بخبره وقياس من جوّز إبداله من الظرف أن يجوّز هذا ، وقد صرّح بجوازه الحوفيّ.

قوله : (يَوْمَ خَلَقَ) يجوز فيه أن يتعلّق ب «كتاب» على أنّه يراد به المصدر ، لا الجثة ويجوز أن يتعلّق بالاستقرار في الجار والمجرور ، وهو (فِي كِتابِ اللهِ) ويكون الكتاب جثة لا مصدرا ، وجوّز الحوفيّ أن يكون متعلقا ب «عدّة» وهو مردود بما تقدّم ، ويجوز أن يتعلّق بفعل مقدر ، أي : كتب ذلك يوم خلق.

فصل

هذه الآية أيضا من شرح قبائح اليهود والنّصارى والمشركين ، وهو إقدامهم على تغيير أحكام الله تعالى ؛ لأنّه تعالى ، حكم في كل وقت بحكم خاص ، فإذا غيّروا تلك الأوقات بسبب النّسيء ، كان ذلك سعيا منهم في تغيير حكم السّنة بحسب أهوائهم وآرائهم فكان ذلك زيادة في كفرهم وجرأتهم. فإنّ السّنة عند العرب : عبارة عن اثني عشر شهرا قمرية ، ويدلّ عليه هذه الآية وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) [يونس : ٥] فجعل تقدير القمر بالمنازل دليلا على السنين ، وإنّما يصح ذلك إذا كانت السّنة معلقة بسير القمر ، وقال تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) [البقرة : ١٨٩] وعند سائر الطوائف : السّنة عبارة عن المدة التي تدور الشمس فيها دورة تامة من فصل إلى فصل ، فيكون الحج واقعا في الشتاء مرّة ، وفي الصيف أخرى ، فشقّ الأمر عليهم بهذا السّبب.

وأيضا إذا حضروا الحجّ حضروا للتجارة ، فربما كان ذلك الوقت غير موافق لحضور التجارات من الشمسية ، فلذلك بقي زمان الحج مختصا بوقت معين موافق لمصلحتهم ، وانتفعوا بتجاراتهم ومصالحهم ، فهذا النّسيء وإن كان سببا لحصول المصالح الدنيوية ، إلّا أنّه لزم منه تغيير حكم الله تعالى ، لمّا خصّ الحجّ بأشهر معلومة على التّعيين ، وكان بسبب ذلك النّسيء يقع في سائر الشّهور تغيير حكم الله تعالى وإبطال تكليفه ؛ فلهذا المعنى استوجبوا الذّمّ العظيم في هذه الآية. والمراد بالكتاب : حكمه

٨٤

وإيجابه. قال ابن عباس «إنه اللّوح المحفوظ» (١) وقيل : القرآن.

فصل

قال القرطبيّ (٢) : قوله تعالى : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ) وهي جمع شهر. فإذا قال الرجل لأخيه : لا أكلمك الشهور ، وحلف على ذلك فلا يكلمه حولا ، قاله بعض العلماء وقيل : لا يكلمه أبدا. قال ابن العربي : وأرى إن لم يكن له نيّة أن يقتضي ذلك ثلاثة أشهر ، لأنّه أقل الجمع الذي يقتضيه صيغة «فعول» في جمع «فعل».

قوله (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) هذه الجملة يجوز فيها ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون صفة ل : (اثْنا عَشَرَ).

الثاني : أن تكون حالا من الضمير في الاستقرار.

الثالث : أن تكون مستأنفة. والضمير في «منها» عائد على اثنا عشر شهرا ، لأنه أقرب مذكور ، على «الشّهور» والضمير في «فيهنّ» عائد على «الاثني عشر» أيضا. وقال الفرّاء (٣) ، وقتادة : يعود على الأربعة الحرم وهذا أحسن ، لوجهين :

أحدهما : أنه أقرب مذكور. والثاني : أنه قد تقرّر أنّ معاملة جمع القلة غير العاقل معاملة جمع الإناث أحسن من معاملة ضمير الواحدة ، والجمع الكثير بالعكس ، تقول الأجذاع انكسرن ، والجذوع انكسرت ، ويجوز العكس.

فصل

أجمعوا على أنّ هذه الأربعة ثلاثة منها سرد ، وهي : ذو القعدة ، وذو الحجة ، ومحرم ، وواحد فرد ، وهو : رجب ، ومعنى الحرم : أنّ المعصية فيها أشد عقابا ، والطّاعة فيها أشد ثوابا ، والعرب كانوا يعظّمونها حتّى لو لقي الرجل قاتل أبيه لم يتعرّض له.

فإن قيل : أجزاء الزمان متشابهة في الحقيقة ، فما السّبب في هذا التّمييز؟.

فالجواب : هذا المعنى غير مستبعد في الشّرائع ، فإنه ميّز البلد الحرام عن سائر البلاد بمزيد الحرمة ، وميّز يوم الجمعة عن سائر الأيام بمزيد الحرمة ، وميّز يوم عرفة عن سائر الأيام بعبادة مخصوصة ، وميز شهر رمضان عن سائر الشّهور بمزيد حرمة ، وميز بعض ساعات اليوم والليلة بوجوب الصلاة فيها ، وميز ليلة القدر عن سائر الليالي ، وميّز بعض الأشخاص بإعطاء الرّسالة ، فأي استبعاد في تخصيص بعض الشهور بمزيد الحرمة. وفيه فائدة أخرى وهي : أنّ الطباع مجبولة على الظلم والفساد ، وامتناعهم من هذه القبائح على الإطلاق شاقّ عليهم ، فخص تعالى بعض الأوقات وبعض الأماكن بمزيد التعظيم

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٨٩).

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٨ / ٨٥.

(٣) ينظر : معاني القرآن للفراء ١ / ٤٣٥.

٨٥

والاحترام ، حتى إنّ الإنسان ربما امتنع في تلك الأزمنة ، وفي تلك الأمكنة عن فعل القبائح ، وذلك يوجب أنواعا من الفوائد.

أحدها : أنّ ترك القبائح في تلك الأوقات أمر مطلوب ؛ لأنه يقل القبائح.

وثانيها : أنّ تركها في تلك الأوقات ربما صار سببا لميل طبعه إلى الإعراض عنها مطلقا.

وثالثها : أنّه إذا أتى بالطّاعات فيها وأعرض عن المعاصي فيها ، فبعد انقضاء تلك الأوقات لو شرع في المعاصي صار شروعه فيها سببا لبطلان ما تحمله من العناء والمشقّة في أداء الطاعات في تلك الأوقات ، والظّاهر من حال العاقل أنّه لا يرضى بذلك فيصير ذلك سببا لاجتنابه عن المعاصي بالكلّية ، فهذا هو الحكمة في تخصيص بعض الأزمنة ، وبعض الأمكنة ، بمزيد التعظيم.

قوله (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي : الحساب المستقيم ، يقال : «الكيّس من دان نفسه» (١) أي : حاسبها ، وقال الحسن : (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) الذي لا يبدل ولا يغير (٢) ، «القيّم» ـ ههنا ـ بمعنى : القائم الدائم الذي لا يزول ، وهو الدّين الذي فطر النّاس عليه.

قوله (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) بفعل المعصية ، وترك الطّاعات ، قال ابن عبّاس : «المراد ، فلا تظلموا في الشهور الاثني عشر أنفسكم ، والمراد : منع الإنسان من الإقدام على الفساد في جميع العمر». وقال الأكثرون الضّمير في قوله «فيهنّ» عائد على الأربعة الحرم ، وقد تقدّم. وقيل : المراد ب «الظلم» النّسيء الذي كانوا يعملونه ، فينقلون الحجّ من الشهر الذي أمر الله بإقامته فيه إلى شهر آخر ، وقيل : المراد ب «الظّلم» ترك المقاتلة في هذه الأشهر.

قوله (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) نصب «كافّة» على الحال ، إمّا من الفاعل ، أو من المفعول ، وقد تقدّم أن «كافّة» لا يتصرّف فيها بغير النصب على الحال ، وأنّها لا تدخلها «أل» ؛ لأنها بمعنى قولك : قاموا جميعا ، وقاموا معا ، وأنّها لا تثنّى ، ولا تجمع ، وكذلك «كافة» الثانية ، ومعنى «كافة» أي : جميعا.

فصل

معنى الآية : قاتلوهم بأجمعكم مجتمعين على قتالهم ، كما أنّهم يقاتلونكم على هذه الصّفة ، أي : تعاونوا وتناصروا على ذلك ، ولا تتخاذلوا وكونوا عباد الله مجتمعين متوافقين في مقاتلة الأعداء.

__________________

(١) أخرجه أحمد (٤ / ١٢٤) والترمذي (٢٥٧٧) وابن ماجه (٤٢٦٠) والحاكم (١ / ٥٧ ـ ٤ / ٣٢٥) والطبراني في «الكبير» (٧١٤١ ، ٧١٤٣) وفي «الصغير» (٢ / ٣٦) من طريق أبي بكر بن أبي مريم عن ضمرة بن حبيب عن شداد بن أوس مرفوعا.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (١٦ / ٤٣) عن الحسن.

٨٦

وقال ابن عبّاس : «قاتلوهم بكليتهم ولا تحابوا بعضهم بترك القتال ، كما أنّهم يستحلّون قتال جميعكم» (١)(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) أي : مع أوليائه الذين يخشونه في أداء الطّاعات والاجتناب عن المحرمات.

واختلفوا في تحريم القتال في الأشهر الحرم ، فقيل : كان محرما ثم نسخ بقوله تعالى (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) أي : فيهن ، وفي غيرهن ، وهو قول قتادة ، وعطاء الخراساني ، والزهريّ وسفيان الثوري ، وقالوا : لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غزا هوازن بحنين ، وثقيفا بالطائف ، وحاصرهم في شوال وبعض ذي القعدة (٢). وقال آخرون : غير منسوخ. قال ابن جريج «حلف بالله عطاء بن أبي رباح أنّه ما يحلّ للنّاس أن يغزوا في الحرم ، ولا في الأشهر الحرم إلّا أن يقاتلوا فيها ، وما نسخت»(٣).

قوله (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) في «النّسيء» قولان :

أحدهما : أنّه مصدر على «فعيل» من : «أنسأ» ، أي : أخّر ، ك «النذير» من أنذر ، و «النكير» من أنكر ، وهذا ظاهر قول الزمخشري فإنّه قال : «النّسيء : تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر» ، وحينئذ. فالإخبار عنه بقوله «زيادة» واضح ، لا يحتاج إلى إضمار.

وقال الطبريّ : «النّسيء ـ بالهمز ـ معناه : الزيادة» ؛ لأنّه تأخير في المدة ، فيلزم منه الزيادة ، ومنه النّسيئة في البيع ، يقال : أنسأ الله أجله ، ونسأ في أجله أي أخّر وهو ممدود عند أكثر القراء.

الثاني : أنّه «فعيل» بمعنى «مفعول» من نسأه أي : أخّره ، فهو منسوء ، ثم حوّل «مفعول» إلى «فعيل» ، وإلى ذلك نحا أبو حاتم ، والجوهري ـ وهذا القول ردّه الفارسي فإنّه يكون المعنى : إنّما المؤخّر زيادة ، والمؤخّر الشهر ، ولا يكون الشهر زيادة في الكفر ، وأجيب عن هذا بأنّه على حذف مضاف إمّا من الأول ، أي : إنّما إنساء النّسيء زيادة في الكفر ، وإمّا من الثاني ، أي : إنما النسيء ذو زيادة. وقرأ الجمهور «النّسيء» بهمزة بعد الياء ، وقرأ ورش (٤) عن نافع «النسيّ» بإبدال الهمزة ياء وإدغام الياء فيها ، ورويت هذه عن أبي جعفر ، والزهري وحميد ، وذلك كما خفّفوا «برية» و «خطية».

وقرأ السلمي (٥) ، وطلحة ، والأشهب ، وشبل «النّسء» بإسكان السين. وقرأ

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٦٧ ـ ٣٦٨) عن ابن عباس وذكره الرازي في «تفسيره» (١٦ / ٤٢).

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٩٠).

(٣) انظر المصدر السابق.

(٤) ينظر : السبعة ص (٣١٤) ، الحجة للقراء السبعة ١ / ١٩١ ـ ١٩٤ ، حجة القراءات ص (٣١٨) ، إعراب القراءات ١ / ٢٤٧ ، النشر ٢ / ٢٧٩ ، إتحاف ٢ / ٩١.

(٥) ينظر : السبعة ص (٣١٤) ، الحجة ١ / ١٩١ ـ ١٩٤ ، إعراب القراءات ١ / ٢٤٧ ، النشر ٢ / ٢٧٩ ، إتحاف ٢ / ٩١.

٨٧

مجاهد (١) والسلمي وطلحة أيضا «النّسوء» بزنة «فعول» بفتح الفاء ، وهو التأخير ، و «فعول» في المصادر قليل ، قد تقدّم منه ألفاظ في أوائل البقرة ، وتقدّم في البقرة اشتقاق هذه المادة ، وهو هنا عبارة عن تأخير بعض الشّهور عن بعض ؛ قال : [الوافر]

٢٧٨٠ ـ ألسنا النّاسئين على معدّ

شهور الحلّ نجعلها حراما (٢)

وقال آخر : [الكامل]

٢٧٨١ ـ نسئوا الشّهور بها وكانوا أهلها

من قبلكم والعزّ لم يتحوّل (٣)

قوله (يُضَلُّ بِهِ) قرأ الأخوان (٤) ، وحفص «يضلّ» مبنيا للمفعول وأبو عمرو في رواية ابن مقسم «يضلّ» مبنيا للفاعل ، وفيه ثلاثة أوجه :

أحدها : يضل الله به الذين كفروا.

والثاني : يضل الشيطان به الذين كفروا.

والثالث : يضل به الذين كفروا تابعيهم. والباقون مبنيا للفاعل ، والموصول فاعل به. وقرأ ابن مسعود والحسن (٥) ، ومجاهد ، وقتادة ويعقوب ، وعمرو بن ميمون «يضلّ» مبنيا للفاعل ، من «أضلّ» وفي الفاعل وجهان :

أحدهما : ضمير الباري تعالى ، أي : يضلّ الله الذين كفروا.

والثاني : أنّ الفاعل (الَّذِينَ كَفَرُوا) وعلى هذا فالمفعول محذوف ، أي يضل الذين كفروا أتباعهم.

وقرأ أبو (٦) رجاء «يضلّ» بفتح الياء والضّاد ، وهي من «ضللت» بكسر اللام ، «أضلّ» بفتحها ، والأصل : «أضلل» فنقلت فتحة اللام إلى الضّاد ، لأجل الإدغام ، وقرأ (٧) النّخعي ، والحسن في رواية محبوب «نضلّ» بضم نون العظمة ، و «الّذين» مفعول ، وهذه تقوّي أنّ الفاعل ضمير الله في قراءة ابن مسعود.

قوله : «يحلّونه» فيه وجهان :

أحدهما : أنّ الجملة تفسيرية للضلال.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٢ ، الدر المصون ٣ / ٤٦٢.

(٢) البيت لعمير بن قيس في أمالي القالي ١ / ١٤ التهذيب ١٣ / ٨٣ ، واللسان [نسا] الدر المصون ٣ / ٤٦٣ البحر المحيط ٥ / ٤٢ معجم الشعراء للمرزباني (٧٢).

(٣) البيت في أمالي القالي ١ / ٤١ المحرر الوجيز ٣ / ٤٧٨ البحر المحيط ٥ / ٤٢ الدر المصون ٣ / ٤٦٣.

(٤) ينظر : السبعة ص (٣١٤) ، الحجة ٤ / ١٩٤ ـ ١٩٥ ، إعراب القراءات ١ / ٢٤٨ ـ ٢٤٩ ، حجة القراءات ص (٣١٨ ـ ٣١٩) النشر ٢ / ٢٧٩ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٩١.

(٥) ينظر : السابق.

(٦) ينظر : السابق.

(٧) ينظر : إعراب القراءات ١ / ٢٤٨ ، إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٩١ ، الكشاف ٢ / ٢٧٠ ، البحر المحيط ٥ / ٤٢ ، الدر المصون ٣ / ٤٦٣.

٨٨

والثاني : أنها حالية. وقوله : «ليواطئوا» في هذه اللام وجهان :

أحدهما : أنها متعلقة ب «يحرّمونه» وهذا مقتضى مذهب البصريين فإنهم يعملون الثاني من المتنازعين.

والثاني : أنّها تتعلّق ب «يحلّونه» وهذا مقتضى مذهب الكوفيين ، فإنهم يعملون الأول ، لسبقه. وقول من قال : إنّها متعلقة بالفعلين معا ، فإنّما يعني من حيث المعنى ، لا اللفظ. وقرأ أبو جعفر (١) «ليواطيوا» بكسر الطّاء وضمّ الياء الصّريحة.

والصحيح أنه ينبغي أن يقرأ بضمّ الطاء وحذف الياء ؛ لأنّه لمّا أبدل الهمزة ياء استثقل الضمة عليها فحذفها ، فالتقى ساكنان ، فحذفت الياء ، وضمت الطاء ، لتجانس الواو والمواطأة: الموافقة والاجتماع ، يقال : تواطئوا على كذا ، أي : اجتمعوا عليه كأنّ كلّ واحد يطأ حيث يطأ الآخر ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً) [المزمل : ٦]. وسيأتي إن شاء الله تعالى.

وقرأ الزهريّ (٢) «ليواطيّوا» بتشديد الياء ، هكذا ترجموا قراءته ، وهي مشكلة ، فإن لم يرد به شدة بيان الياء ، وتخليصها من الهمز دون التضعيف ، فلا أعرف وجهها وهو كما قال.

قوله : «زيّن» الجمهور على «زيّن» ببنائه للمفعول ، والفاعل المحذوف هو الشيطان. وقرأ زيد (٣) بن علي «زيّن» ببنائه للفاعل ، وهو الشيطان أيضا ، و «سوء» مفعوله.

فصل

معنى النّسيء : هو تأخير تحريم شهر إلى شهر آخر ، وذلك أنّ العرب كانت تعتقد تعظيم الأشهر الحرم ، وكان ذلك ممّا تمسكت به من ملة إبراهيم ، وكانت معايشهم من الصيد والغارة فكان يشق عليهم الكف عن ذلك ثلاثة أشهر متوالية ، وربّما وقعت لهم حرب في الأشهر الحرم ، فيكرهون تأخير حربهم ، فنسئوا ، يعني : أخّروا تحريم ذلك الشّهر إلى شهر آخر ، وكانوا يؤخّرون تحريم المحرم إلى صفر ، فيحرمون صفر ، ويستحلّون المحرم فإذا احتاجوا إلى تأخير تحريم صفر أخّروه إلى ربيع الأوّل ؛ فكانوا يصنعون هكذا شهرا بعد شهر حتّى استدار التّحريم إلى السّنة كلها ، فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله ـ عزوجل ـ وذلك بعد دهر طويل ، فخطب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «ألا إنّ الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، السّنة

__________________

(١) وقرأ بها أيضا الأعمش.

ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٣ ، الدر المصون ٣ / ٤٦٣.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٣ ، الدر المصون ٣ / ٤٦٣ ، إتحاف ٢ / ٩١.

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٧٠ ، البحر المحيط ٥ / ٤٣ ، الدر المصون ٣ / ٤٦٤.

٨٩

اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان ...» الحديث. فأمرهم بالمحافظة لئلّا يتبدل في مستأنف الأيام.

واختلفوا في أوّل من نسأ النّسيء. فقال ابن عباس والضحّاك وقتادة ومجاهد (١) «أوّل من نسأ النسيء بنو مالك بن كنانة».

وقال الكلبيّ «أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة ، وكان يقوم على الناس بالموسم ، فإذا همّ الناس بالصدود ، قام فخطب ، فقال : لا مردّ لما قضيت ، أنا الذي لا أعاب ولا أجاب فيقول له المشركون : لبيك ، ثم يسألونه أن ينسأهم شهرا يغيرون فيه ، فيقول : إنّ صفر في هذا العام حرام فإذا قال ذلك حلوا الأوتار ، ونزعوا الأسنة والأزجة ، وإن قال حلال ، عقدوا الأوتار ، وشدوا الأزجة ، وأغاروا وكان من بعد نعيم رجل يقال له : جنادة بن عوف ، وهو الذي أدرك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢).

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم هو رجل من كنانة يقال له : القلمّس (٣). قال شاعرهم: [الوافر]

٢٧٨٢ ـ ومنّا ناسىء الشّهر القلمّس (٤)

وكانوا لا يفعلون ذلك إلّا في الحجّ إذا اجتمعت العرب في الموسم. وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس : «إنّ أول من سنّ النّسيء : عمرو بن لحيّ بن قمعة بن خندف» (٥).

ثم قال : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) تقدّم الكلام عليه. (يُحِلُّونَهُ عاماً) يعني : النّسيء (وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا) أي : يوافقوا. (عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ) أي : إنهم لم يحلوا شهرا من الحرام إلّا حرّموا مكانه شهرا من الحلال ، ولم يحرّموا شهرا من الحلال إلّا أحلّوا مكانه شهرا من الحرام ، لئلّا يكون الحرام أكثر من أربعة أشهر ، فتكون الموافقة في العدد.

(زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ) قال ابن عبّاس : زين لهم الشيطان (٦) : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ).

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٩١) عن ابن عباس والضحاك وقتادة ومجاهد.

وأخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٧٠) عن أبي وائل وقتادة.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٩١) عن الكلبي.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٧١) وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٩١) عن ابن زيد.

(٤) ينظر : القرطبي ٨ / ٨٩ ، والبغوي ٢ / ٢٩١ ، ولباب التأويل ٢ / ٣٠٤.

(٥) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٩١ من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس.

(٦) انظر المصدر السابق وذكره أيضا الرازي في «التفسير الكبير» (١٦ / ٤٧).

٩٠

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٤٠)

قوله تعالى (١) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ) الآية. لمّا ذكر فضائح الكفار عاد إلى التّرغيب في مقاتلتهم.

قال ابن عبّاس : نزلت هذه الآية في غزوة تبوك ، وذلك لأنّه عليه الصلاة والسّلام لمّا رجع من الطائف أقام بالمدينة أمر بجهاد الرّوم وكان ذلك الوقت زمان شدة الحر ، حين طابت ثمار المدينة ، واستعظم النّاس غزو الرّوم وهابوه ، وكان ذلك في حر شديد ، وسفر بعيد ، ومفاوز ، وعدو كثير ، وذلك حين طابت ثمار المدينة ، وظلالها فأمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم ، فشقّ عليهم الخروج ، وتثاقلوا ، فنزلت هذه الآية (٢).

ومعنى : (إِذا قِيلَ لَكُمُ) أي : قال لكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «انفروا» اخرجوا ، واسم القوم الذين يخرجون النفير.

قوله : «اثّاقلتم» أصله «تثاقلتم» فلمّا أريد الإدغام سكنت الثّاء فاجتلبت همزة الوصل كما تقدّم في (فَادَّارَأْتُمْ) [البقرة : ٧٢] ، والأصل : «تدارأتم». وقرأ (٣) الأعمش «تثاقلتم» بهذا الأصل و «ما» في قوله : (ما لَكُمْ) استفهامية ، وفيها معنى الإنكار.

وقيل : فاعله المحذوف هو الرسول ، و «اثّاقلتم» ماضي اللّفظ ، مضارع المعنى ، أي : تتثاقلون ، وهو في موضع الحال ، وهو عامل في الظّرف ، أي : ما لكم متثاقلين وقت القول.

وقال أبو البقاء (٤) : «اثّاقلتم : ماض بمعنى المضارع أي : ما لكم تتثاقلون ، وهو في

__________________

(١) ثبت في أ :

تم الجزء بحمد الله وعونه وتوفيقه ، ويليه الجزء الأخير من أوّل يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله ... سورة براءة وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٩٢) والرازي في «التفسير الكبير» (١٦ / ٤٨).

(٣) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٧١ ، المحرر الوجيز ٣ / ٣٤ ، البحر المحيط ٥ / ٤٣ ، الدر المصون ٣ / ٤٦٤.

(٤) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ٢ / ١٥.

٩١

موضع نصب ، أي : أيّ شيء لكم في التّقاقل ، أو في موضع جر على رأي الخليل. وقيل : هو في موضع حال».

قال أبو حيان : وهذا ليس بجيد ؛ لأنه يلزم منه حذف «أن» لأنه لا ينسبك مصدر إلّا من حرف مصدري والفعل وحذف «أن» في هذا قليل جدا ، أو ضرورة. وإذا كان التقدير في التثاقل ، فلا يمكن عمله في «إذا» لأنّ معمول المصدر الموصول لا يتقدّم عليه ، فيكون النّاصب ل «إذا» والمتعلّق به في التثاقل ما تعلّق به «لكم» الواقع خبرا ل «ما» وقرىء (١) «أثّاقلتم» بالاستفهام الذي معناه الإنكار ، وحينئذ لا يجوز أن يعمل في «إذا» ؛ لأنّ ما بعد حرف الاستفهام لا يعمل فيما قبله ، فيكون العامل في هذا الظّرف إمّا الاستقرار المقدّر في «لكم» أو مضمر مدلول عليه باللّفظ ، والتقدير : ما تصنعون إذا قيل لكم ، وإليه نحا الزمخشري.

والظّاهر أن يقدّر : ما لكم تتثاقلون إذا قيل لكم ، ليكون مدلولا عليه من حيث اللفظ والمعنى.

وقوله : (إِلَى الْأَرْضِ) ضمّن اثّاقلتم معنى الميل والإخلاء ، فعدي ب «إلى» والمعنى : تباطأتم إلى الأرض ، أي : لزمتم أرضكم ومساكنكم ، وملتم إلى الدنيا وشهواتها ، وكرهتم مشاق الجهاد ومتاعبه ، ونظيره قوله (أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ) [الأعراف : ١٧٦] قال المفسّرون : معناه : اثاقلتم إلى نعيم الأرض ، وإلى الإقامة وبالأرض.

[قوله (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا) أي : بخفض الدنيا ودعتها. وقوله : (إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ) جناس لفظي](٢) ، وكذا قوله : (اصْبِرُوا وَصابِرُوا) [آل عمران : ٢٠٠] ، وقوله: (أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) [هود : ٤٨] وقوله : (يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) [يوسف : ٤] ، وقوله : (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ) [النمل : ٤٤] ، وقوله : (أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) [فصلت : ٥١] ، وقوله : (عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ) [الدخان : ٣٢] وقوله (مالِكَ الْمُلْكِ) [آل عمران : ٢٦].

قوله (مِنَ الْآخِرَةِ) تظاهرت أقوال المعربين ، والمفسرين على أنّ «من» بمعنى «بدل» كقوله (لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً) ، أي : بدلكم ؛ ومثلة قول الآخر : [الرجز]

٢٧٨٣ ـ جارية لم تأكل المرقّقا

ولم تذق من البقول الفستقا (٣)

وقول الآخر : [الطويل]

٢٧٨٤ ـ فليت لنا من ماء زمزم شربة

مبرّدة باتت على طهيان (٤)

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٧١ ، البحر المحيط ٤٤١٥ ، الدر المصون ٣ / ٤٦٤.

(٢) سقط في أ.

(٣) تقدم.

(٤) البيت ليعلى بن الأحول في شرح ديوان الحماسة ١ / ٣٠٠ التهذيب [طها] البحر المحيط ٥ / ٤٤ القرطبي ٨ / ٤١، اللسان [طها] الدر المصون ٣ / ٤٦٥.

٩٢

إلّا أنّ أكثر النّحويين لم يثبتوا لها هذا المعنى ، ويتأوّلون ما أوهم ذلك ، والتقدير هنا : اعتصمتم من الآخرة راضين بالحياة الدّنيا ، وكذلك باقيها.

وقال أبو البقاء (١) : (مِنَ الْآخِرَةِ) في موضع الحال ، أي : بدلا من الآخرة. فقدّر المتعلّق كونا خاصا ، ويجوز أن يكون أراد تفسير المعنى. ثم قال : (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي : لذاتها. وقوله (فِي الْآخِرَةِ) متعلق بمحذوف من حيث المعنى ، تقديره : فما متاع الحياة الدنيا محسوبا في الآخرة ف «محسوبا» حال من «متاع».

وقال الحوفي : إنّه متعلق ب «قليل» ، وهو خبر المبتدأ قال : «وجاز أن يتقدّم الظّرف على عامله المقترن ب «إلّا» ؛ لأنّ الظروف تعمل فيها روائح الأفعال ، ولو قلت : ما زيد عمرا إلّا يضرب ، لم يجز».

فصل

الدّليل على أنّ متاع الدّنيا في الآخرة قليل ، أنّ لذات الدّنيا خسيسة في أنفسها ومشوبة بالآفات والبليات ، ومنقطعة عن قريب لا محالة ، ومنافع الآخرة شريفة عالية خالصة عن كل الآفات ، ودائمة أبدية سرمدية ، وذلك يوجب القطع بأنّ متاع الدّنيا في جنب متاع الآخرة قليل حقير.

قوله : (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً).

في الآخرة ، وقيل : هو احتباس المطر عنهم في الدنيا.

قال القرطبيّ (٢) : «هذا شرط ، فلذلك حذفت منه النّون. والجواب «يعذّبكم» و (يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) وهذا تهديد ووعيد لتارك النّفير». (وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) خيرا منكم وأطوع.

قال ابن عبّاس : «هم التابعون» (٣).

وقال سعيد بن جبير : «هم أبناء فارس» (٤) وقيل : هم أهل اليمن. (وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً) بترككم النفير.

قال الحسن «الكناية راجعة إلى الله تعالى ، أي : لا تضروا الله» (٥) ، وقال غيره تعود إلى الرسول ؛ لأنّ الله عصمه من الناس ، ولا يخذله إن تثاقلتم عنه. (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

__________________

(١) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ٢ / ١٥.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٨ / ٩١.

(٣) ذكره الرازي في «التفسير الكبير» (١٦ / ٥٠).

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٩٢) وانظر أيضا المصدر السابق.

(٥) انظر المصدر السابق.

٩٣

قال الحسن وعكرمة : هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً)(١) [التوبة : ١٢٢] وقال المحقّقون : الصحيح أنّ هذه الآية خطاب لمن استنفرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم ينفروا ، وعلى هذا فلا نسخ.

قوله : (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ). هذا الشرط جوابه محذوف ، لدلالة قوله : (فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ) عليه ، والتقدير : إلّا تنصروه فسينصره. وذكر الزمخشريّ فيه وجهين :

أحدهما : ما تقدّم. والثاني : قال «إنه أوجب له النّصرة ، وجعله منصورا في ذلك الوقت ، فلن يخذل من بعده». قال أبو حيّان : «وهذا لا يظهر منه جواب الشّرط ؛ لأنّ إيجاب النصرة له أمر سبق ، والماضي لا يترتّب على المستقبل والذي يظهر الوجه الأول». وهذا إعلام من الله أنّه المتكفل بنصر رسوله ، وإعزاز دينه ، أعانوه ، أو لم يعينوه ، وأنه قد نصره عند قلة الأولياء ، وكثرة الأعداء ، فكيف به اليوم وهو في كثرة من العدد والعدد.

وقوله : (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : أنهم جعلوه كالمضطر إلى الخروج من مكّة ، حين مكروا به وأرادوا تثبيته ، وهمّوا بقتله.

قوله (ثانِيَ اثْنَيْنِ) منصوب على الحال من مفعول «أخرجه» وقد تقدّم معنى الإضافة في نحو هذا التّركيب عند قوله : «ثالث ثلاثة».

وقرأت (٢) جماعة (ثانِيَ اثْنَيْنِ) بسكون الياء. قال أبو الفتح : «حكاها أبو عمرو».

ووجهها أنّ يكون سكّن الياء تشبيها لها بالألف وبعضهم يخصّه بالضرورة ، والمعنى : هو أحد الاثنين ، والاثنان أحدهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والآخر أبو بكر الصديق.

قوله : (إِذْ هُما فِي الْغارِ) «إذ» بدل من «إذ» الأولى ، والعامل فيها (فَقَدْ نَصَرَهُ). وقال أبو البقاء (٣) : «من منع أن يكون العامل في البدل هو العامل في المبدل منه ، قدّر عاملا آخر ، أي : نصره إذ هما في الغار». و «الغار» بيت يكون في الجبل ، وهو هنا بيت في جبل ثور بمكّة ، ويجمع على «غيران» ، ومثله : «تاج وتيجان» ، و «قاع وقيعان» ، والغار أيضا : نبت طيب الريح ، والغار أيضا : الجماعة والغاران : البطن ، والفرج. وألف «الغار» عن واو.

قوله : (إِذْ يَقُولُ) بدل ثان من «إذ» الأولى. وقال أبو البقاء : أي : إذ هما في الغار، و (إِذْ يَقُولُ) ظرفان ل (ثانِيَ اثْنَيْنِ).

فصل

عن ابن عمر أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأبي بكر : «أنت صاحبي في الغار وصاحبي

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٧٣ ـ ٣٧٤) عن عكرمة والحسن وذكره الرازي في «تفسيره» (١٦ / ٥٠).

(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٧٢ ، المحرر الوجيز ٣ / ٣٥ ، البحر المحيط ٥ / ٤٥ ، الدر المصون ٣ / ٤٦٥.

(٣) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ٢ / ١٥.

٩٤

على الحوض» (١). قال الحسين بن الفضل «من قال إنّ أبا بكر لم يكن صاحب رسول الله فهو كافر ؛ لإنكاره نص القرآن ، وفي سائر الصحابة إذا أنكر يكون مبتدعا لا كافرا» (٢).

فإن قيل : إنّ الله تعالى وصف الكافر بكونه صاحبا للمؤمن في قوله : (قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ) [الكهف : ٣٧].

فالجواب : أنّ هناك وإن وصفه بكونه صاحبا إلّا أنّه أردفه بما يدلّ على الإهانة والإذلال وهو قوله : «أكفرت»؟ أمّا ههنا فبعد أن وصفه بكونه صاحبا ذكر بعده ما يدل على الإجلال والتعظيم وهو قوله : (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) فأيّ مناسبة بين البابين؟.

روي أنّ قريشا لمّا بيّتوا على قتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر أول الليل إلى الغار ، وأمر عليّا أن يضطجع على فراشه ، ليمنعهم السواد من طلبه ، جعل أبو بكر يمشي ساعة بين يديه ، وساعة خلفه ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما لك يا أبا بكر؟ فقال : أذكر الطلب ؛ فأمشي خلفك ، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك ؛ فلما انتهيا إلى الغار دخل أبو بكر أولا ، يلتمس ما في الغار ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ما لك؟ فقال بأبي أنت وأمّي ، الغيران مأوى السّباع والهوام ، فإن كان فيه شيء كان بي لا بك وكان في الغار حجر ، فوضع عقبه عليه ، لئلا يخرج ما يؤذي الرسول ، فلما طلب المشركون الأثر وقربوا ، بكى أبو بكر خوفا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال عليه الصلاة والسّلام «لا تحزن إنّ الله معنا» فقال أبو بكر : إنّ الله لمعنا ، فقال الرسول «نعم» فجعل يمسح الدموع عن خدّه ، ولم يكن حزن أبي بكر جبنا منه ، وإنّما كان إشفاقا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال : إن أقتل فأنا رجل واحد ، وإن قتلت هلكت الأمة.

وروي أنّ الله تعالى بعث حمامتين فباضتا في أسفل باب الغار ، والعنكبوت نسجت عليه وقال رسول الله «اللهمّ أعم أبصارهم» فجعلوا يترددون حول الغار ولا يرون أحدا.

فصل

دلّت هذه الآية على فضيلة أبي بكر رضي الله عنه من وجوه :

أحدها : أنّه عليه الصلاة والسّلام لمّا ذهب إلى الغار كان خائفا من الكفار أن يقتلوه ، فلو لا أنه عليه الصلاة والسّلام كان قاطعا بأنّ أبا بكر من المؤمنين المحقين الصادقين الصّديقين ، وإلا لما أصحبه نفسه في ذلك ؛ لأنه لو جوز أن يكون باطنه بخلاف

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٥ / ٥٧٢) كتاب المناقب : باب في مناقب أبي بكر وعمر حديث (٣٦٧٠) والطبراني (١١ / ٤٠٠) والبغوي في شرح السنة (٧ / ١٨١) من طريق كثير النواء عن جميع بن عمير عن ابن عمر وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤٣٣) وعزاه إلى ابن شاهين والدار قطني وابن مردويه وابن عساكر.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٩٣).

٩٥

ظاهره ، لخافه أن يدل أعداءه عليه ، أو لخافه أن يقدم هو على قتله ، فلمّا استخلصه لنفسه في تلك الحالة ، دلّ على أنّه عليه الصّلاة والسّلام كان قاطعا بأنّ باطنه على وفق ظاهره.

وثانيها : أن الهجرة كانت بإذن الله ، وكان في خدمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جماعة من المخلصين ، وكانوا في النسب إلى شجرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أقرب من أبي بكر ، فلو لا أنّ الله تعالى أمره بأن يستصحب أبا بكر في هذه الواقعة الصعبة ، وإلّا لكان الظاهر ألّا يخصه بهذه الصّحبة وتخصيص الله إيّاه بهذا التشريف يدلّ على علو منصبه في الدّين.

وثالثها : أنّ كل من سوى أبي بكر فارقوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أمّا أبو بكر فما فارق رسول الله كغيره ، ولا تخلّف عنه كغيره ، بل صبر على مؤانسته ، وملازمته ، وخدمته عند الخوف الشّديد الذي لم يبق معه أحد ، وذلك يوجب الفضل العظيم.

ورابعها : أنّه تعالى سمّاه : (ثانِيَ اثْنَيْنِ) فجعله ثاني محمّد ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ حال كونهما في الغار ، والعلماء أثبتوا أنه كان ثاني محمد ـ عليه الصلاة والسّلام ـ في أكثر المناصب الدينية ، فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا أرسل إلى الخلق وعرض الإسلام على أبي بكر فآمن ؛ وذهب وعرض الإسلام على طلحة ، والزبير ، وعثمان ، وجماعة من كبار الصحابة فآمن الكلّ على يده ، ثم إنه جاء بهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أيام قلائل ، فكان هو ـ رضي الله عنه ـ (ثانِيَ اثْنَيْنِ) في الدّعوة إلى الله تعالى ، وكلّما وقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة ، كان أبو بكر يقف في خدمته ، فكان (ثانِيَ اثْنَيْنِ) في المواقف كلّها ، وكلما صلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقف خلفه ، وكلّما جلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان (ثانِيَ اثْنَيْنِ) في مجلسه ، ولمّا مرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قام مقامه في الإمامة ، فكان (ثانِيَ اثْنَيْنِ) ولمّا مات دفن بجنبه ، فكان (ثانِيَ اثْنَيْنِ) هناك.

وطعن بعض الحمقى من الروافض في هذا الوجه وقال : كونه ثاني اثنين للرسول لا يكون أعظم من كون الله رابعا لكل ثلاثة في قوله تعالى : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) [المجادلة : ٧] الآية. ثم إن هذا الحكم عام في حق المؤمن والكافر ، فلمّا لم يكن هذا المعنى من الله دالّا على فضيلة الإنسان فلأن لا يدل من النبي عليه الصلاة والسّلام على فضيلة الإنسان أولى؟.

والجواب : أنّ هذا تعسف بارد ؛ لأنّ المراد هناك كونه تعالى مع الكل بالعلم والتدبير ، وكونه مطلقا على ضمير كل أحد ، أمّا هنا فالمراد بقوله تعالى : (ثانِيَ اثْنَيْنِ) تخصيصه بهذه الصّفة في معرض التعظيم.

قوله : (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) فالضمير في «عليه» يعود على أبي بكر ؛ لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان عليه السكينة دائما ، وقد تقدّم القول في السكينة. والضمير في «أيّده» للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو إشارة إلى قصّة بدر ، وهو معطوف على قوله (فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ). وقرأ (١)

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٣٦ ، البحر المحيط ٥ / ٧٤٦ الدر المصون ٣ / ٤٦٦.

٩٦

مجاهد (وَأَيَّدَهُ) بالتّخفيف. و (لَمْ تَرَوْها) صفة ل «جنود».

قوله : (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى) كلمتهم : الشرك وهي السفلى إلى يوم القيامة ، (وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا) إلى يوم القيامة. قال ابن عبّاس «هي قول : لا إله إلّا الله»(١).

وقيل : كلمة الذين كفروا ما قدروا في أنفسهم من الكيدية ، وكلمة الله : وعده أنه ناصره.

والجمهور على رفع «كلمة» على الابتداء ، و «هي» يجوز أن تكون مبتدأ ثانيا ، و «العليا» خبرها ، والجملة خبر الأوّل. ويجوز أن تكن «هي» فصلا ، و «العليا» الخبر. وقرأ يعقوب (٢)(وَكَلِمَةُ اللهِ) بالنّصب ، نسقا على مفعولي «جعل» أي : وجعل كلمة الله هي العليا.

قال أبو البقاء (٣) : وهو ضعيف ، لثلاثة أوجه :

أحدها : وضع الظّاهر موضع المضمر ، إذ الوجه أن يقول : وكلمته.

الثاني : أنّ فيه دلالة أنّ كلمة الله كانت سفلى ، فصارت عليا ، وليس كذلك.

الثالث : أنّ توكيد مثل ذلك ب «هي» بعيد ، إذ القياس أن يكون «إياها».

قال شهاب الدّين (٤) : أما الأول فلا ضعف فيه ؛ لأنّ القرآن ملآن من هذا النّوع ، وهو من أحسن ما يكون ؛ لأنّ فيه تعظيما وتفخيما.

وأمّا الثاني فلا يلزم ما ذكر ، وهو أن يكون الشّيء المصيّر على الضد الخاص ، بل يدلّ التّصيير على انتقال ذلك الشيء المصيّر عن صفة ما إلى هذه الصفة.

وأمّا الثالث ف «هي» ليست تأكيدا ألبتة ، إنما هي ضمير فصل على حالها ، وكيف يكون تأكيدا ، وقد نصّ النحويون على أنّ المضمر لا يؤكد المظهر؟.

ثم قال : (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي : قاهر غالب «حكيم» لا يفعل إلّا الصّواب.

قوله تعالى : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١) لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٤٢) عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ)(٤٣)

قوله تعالى : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) الآية.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٧٦) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤٣٩) وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في «الأسماء والصفات».

(٢) وقرأ بها أيضا الحسن بن أبي الحسن. قال الأعمش : ورأيت في مصحف أنس بن مالك المنسوب إلى أبيّ بن كعب : «وجعل كلمته هي العليا».

ينظر : الكشاف ٢ / ٢٧٢ ، المحرر الوجيز ٣ / ٣٦ ، البحر المحيط ٥ / ٤٦ ، الدر المصون ٣ / ٤٦٦.

(٣) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ٢ / ١٥.

(٤) ينظر : الدر المصون ٣ / ٤٤٦.

٩٧

لمّا توعد من لا ينفر مع الرسول ، أتبعه بهذا الأمر الجزم ، فقال : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) نصبهما على الحال من فاعل «انفروا». قال الحسن ، والضحاك ، ومجاهد ، وقتادة وعكرمة : «شبانا وشيوخا» (١). وعن ابن عباس : نشاطا وغير نشاط (٢). وقال عطية العوفي : ركبانا ومشاة (٣). وقال أبو صالح : «خفافا من المال ، أي : فقراء و «ثقالا» أي : أغنياء» (٤). وقال ابن زيد «الثقيل : الذي له الضيعة ، والخفيف : الذي لا ضيعة له» (٥). وقيل : «خفافا» من السلاح أي : مقلين منه ، و «ثقالا» مستكثرين منه. وقال مرة الهمداني : صحاحا ومراضا.

وقال يمان بن رباب «عزابا ومتأهلين» ، وقيل غير ذلك. والصحيح أنّ الكلّ داخل فيه ؛

لأنّ الوصف المذكور وصف كلّي ؛ فيدخل فيه كل هذه الجزئيات ، فقد روى ابن أم مكتوم أنه قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أعليّ أنّ أنفر؟ قال : «ما أنت إلّا خفيف أو ثقيل». فرجع إلى أهله ولبس سلاحه ، ووقف بين يديه ؛ فنزل قوله : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ).

وقال مجاهد : «إنّ أبا أيّوب شهد بدرا مع الرسول ، ولم يتخلف عن الغزوات مع المسلمين ، ويقول : قال الله تعالى : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) فلا أجدني إلّا خفيفا أو ثقيلا» (٦). وعن صفوان بن عمرو قال : كنت واليا على حمص ، فلقيت شيخا قد سقط حاجباه ، من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو ، فقلت : يا عم أنت معذور عند الله ، فرفع حاجبيه وقال : يا ابن أخي استنفرنا الله خفافا وثقالا ، إلا إنّ من أحبّه ابتلاه. وعن الزهري : خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل له : إنّك عليل صاحب ضرر ، فقال : استنفر الله الخفيف والثقيل ، فإن عجزت عن الجهاد كثرت السواد وحفظت المتاع. وقيل للمقداد بن الأسود وهو يريد الغزو أنت معذور ، فقال : أنزل الله علينا في سورة براءة : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً)(٧) [التوبة : ٤١] والقائلون بهذا القول يقولون : إنّ هذه الآية نسخت بقوله : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) [النور : ٦١] وبقوله : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ) وقال عطاء

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٧٦ ـ ٣٧٧) عن الحسن والضحاك وعكرمة ومجاهد ومقاتل وأبي طلحة.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤٤٠) عن عكرمة وعزاه إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر.

وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٩٦) عن الحسن والضحاك وقتادة ومجاهد وعكرمة.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٧٧ ـ ٣٧٨) عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤٤٠) وعزاه إلى ابن أبي حاتم.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٧٨) وذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٩٦).

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٩٦).

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦ / ٣٧٨) وذكره البغوي (٢ / ٢٩٦).

(٦) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٤٤٠) وعزاه إلى ابن سعد والحاكم عن ابن سيرين.

(٧) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٩٦ ـ ٢٩٧) عن الزهري.

٩٨

الخراساني نسخت بقوله (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) [التوبة : ١٢٢].

ولقائل أن يقول : اتفقوا على أن هذه الآيات نزلت في غزوة تبوك ، واتفقوا على أنّه عليه الصّلاة والسّلام خلف النساء وخلف من الرجال أقواما ، فدلّ ذلك على أنّ هذا الوجوب ليس على الأعيان ، بل من فروض الكفايات ، فمن أمره الرسول بالخروج ، لزمه خفافا وثقالا ، ومن أمره بأن يبقى ترك النفير. وحينئذ لا حاجة إلى التزام النسخ. وأيضا فقوله : (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ) [التوبة : ٤٢] دليل على أنّ قوله : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) إنّما يتناول من كان قادرا متمكنا ، إذ لو لم تكن الاستطاعة معتبرة في ذلك التكليف ، لما أمكنهم جعل عدم الاستطاعة عذرا في التخلف ، فدلّ على عدم النسخ فيها.

قوله : (وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ).

فيه قولان :

الأول : أنّها تدلّ على أنّ الجهاد يجب على من له المال والنفس ، ومن لم يكن له ذلك ، لم يجب عليه الجهاد.

والثاني : أنّ الجهاد بالنفس يجب إذا انفرد وقوي ، ويجب بالمال إذا ضعف عن الجهاد بنفسه ؛ فيلزمه أن ينيب من يغزو عنه بنفقة من عنده ، وذهب إلى هذا كثير من العلماء.

ثم قال : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

فإن قيل : كيف يصح أن يقال : الجهاد خير من القعود عنه ، ولا خير في القعود؟.

فالجواب : من وجهين :

الأول : أنّ لفظ «خير» يستعمل في شيئين :

أحدهما : بمعنى : هذا خير من الآخر. والثاني : أنه خير في نفسه ، كقوله تعالى (إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) [القصص : ٢٤].

وقوله : (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) [العاديات : ٨] ، وعلى هذا سقط السّؤال.

والثاني : سلمنا أنّ المراد كونه خيرا من غيره ، إلا أن التقدير : أن ما يستفاد من نعيم الآخرة بالجهاد خير ممّا يستفيده القاعد عنه من الرّاحة والتنعم بها ، ولذلك قال تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

قوله : (لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً) الآية.

لمّا بالغ في ترغيبهم في الجهاد ، وأمرهم بالنّفير ، عاد إلى تقرير كونهم متثاقلين ، بقوله : (لَوْ كانَ عَرَضاً) اسم «كان» ضمير يعود على ما دل عليه السّياق ، أي : لو كان ما دعوتهم إليه.

والعرض : ما عرض لك من منافع الدّنيا ، والمراد هنا : غنيمة قريبة المتناول ،

٩٩

(وَسَفَراً قاصِداً) أي : سهلا قريبا ههنا. «لاتّبعوك» لخرجوا معك. ومثل بالقاصد ، لأنّ المتوسط ، بين الإفراط والتفريط ، يقال له : مقتصد. قال تعالى : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) [فاطر : ٣٢] ومعنى القاصد : ذو قصد ، كقولهم : لابن ، وتامر ، ورابح (وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ). قرأ عيسى بن (١) عمر ، والأعرج «بعدت» بكسر العين. وقرأ عيسى(٢) «الشّقّة» بكسر الشين أيضا قال أبو حاتم : هما لغة تميم.

والشّقّة : الأرض التي يشقّ ركوبها ، اشتقاقا من المشقّة.

وقال الليث ، وابن فارس : هي الأرض البعيدة المسير ، اشتقاقا من الشّق ، أو من المشقّة ، والمعنى : بعدت عليهم المسافة وهذه الآية نزلت في المنافقين الذين تخلّفوا عن غزوة تبوك.

قوله : (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ) الجارّ متعلق ب «سيحلفون».

وقال الزمخشريّ «بالله» متعلق ب : «سيحلفون» ، أو هو من جملة كلامهم ، والقول مراد في الوجهين ، أي : سيحلفون ، يعني : المتخلّفين عند رجوعك معتذرين يقولون : بالله لو استطعنا أو سيحلفون بالله يقولون : لو استطعنا.

وقوله : «لخرجنا» سدّ مسدّ جواب القسم ، و «لو» جميعا.

قال أبو حيان (٣) : قوله : «لخرجنا» سدّ مسدّ جواب القسم ، و «لو» جميعا ؛ ليس بجيد ، بل للنحويين في هذا مذهبان :

أحدهما : أنّ «لخرجنا» جواب القسم وجواب «لو» محذوف ، على قاعدة اجتماع القسم والشّرط ، إذا تقدّم القسم على الشّرط ، وهذا اختيار ابن عصفور. والآخر : أنّ «لخرجنا» جواب «لو» و «لو» وجوابها جواب القسم ، وهذا اختيار ابن مالك. أمّا أنّ «لخرجنا» سد مسدّهما فلا أعلم أحدا ذهب إلى ذلك ، ويحتمل أن يتأول كلامه على أنّه لمّا حذف جواب «لو» ودلّ عليه جواب القسم جعل كأنّه سدّ مسدّ جواب القسم ، وجواب «لو».

وقرأ الأعمش (٤) ، وزيد بن عليّ «لو استطعنا» بضم الواو ، كأنّهما فرّا من الكسرة على الواو وإن كان الأصل ، وشبّها واو «لو» بواو الضّمير ، كما شبّهوا واو الضّمير بواو «لو» حيث كسروها ، نحو : (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ) [البقرة : ١٦] ، لالتقاء الساكنين. وقرأ الحسن(٥): اشتروا الضللة ، و «لو استطعنا» بفتح الواو تخفيفا.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٧ ، الدر المصون ٣ / ٤٦٦.

(٢) ينظر : السابق.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٧.

(٤) ينظر : الكشاف ٢ / ٢٧٣ ، المحرر الوجيز ٣ / ٣٨ ، البحر المحيط ٥ / ٤٧ ، الدر المصون ٣ / ٤٦٧.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٧ ، الدر المصون ٣ / ٤٦٧.

١٠٠